الفصل الأول
حياة اسپينوزا ومؤلفاته
من الأهداف التي برَّرَت، في نظر اسپينوزا، اتِّباع المنهج الهندسي في التفكير، تغليب
الطريقة «اللاشخصية» في الكتابة؛ فهو يريد أن يكتب كما لو لم يكن لشخصيته الفردية أية
أهمية
بالنسبة إلى الحقائق الموضوعية الواضحة التي كان يعرضها. وهكذا يبدو أن اسپينوزا، باتباعه
هذا المنهج، كان يدعونا إلى تجاهُل تفاصيل حياته عند الكتابة عنه، وإلى عرض أفكاره بنفس
الطريقة اللاشخصية التي عرضها هو ذاته بها — أعني عرضها بوصفها أفكارًا خالصة لا أهمية
لشخصية كاتبها أو للظروف الخاصة التي عاش فيها. كما أن من التعليلات التي يمكن أن نُفسر
بها
ظهور معظم كتبه بغير اسمه الحقيقي، أو دون اسمٍ على الإطلاق، أنه كان يودُّ من قارئه
أن
يتأمل أفكاره خالصةً دون أن يشغل نفسه بشخصية الكاتب أو عصره.
ولكن إذا كان اسپينوزا قد استهدف ذلك بحق، فهل يجوز للباحث أن يُلبي رغبته هذه؟ أليست
في
حياته الاجتماعية والفردية معالم عديدة تفسِّر الكثير من أفكاره وتُلقِي ضوءًا على غوامضها؟
لقد كان اسپينوزا، بحقٍّ، متفاعلًا مع مجتمعه بحيث تأثَّر تفكيره بأحداث هذا المجتمع،
وتمشَّى مع ظروف عصره إلى حدٍّ بعيد، وبحيث كسرت تعاليمه نطاق الموضوعية الصلبة التي
حاول
اسپينوزا أن يُغلفها بها عن طريق المنهج الهندسي.
ولا تقتصر الصعوبات التي تعترض التفسير التاريخي لفلسفة اسپينوزا على تعارُض ذلك
التفسير
مع منهج اسپينوزا فحسب، بل إنها تمتد إلى محتوى فلسفته ذاتها. وقد لاحظ «كاسيرر» ذلك،
مؤكِّدًا أن مذهب اسپينوزا يبدو في صورةٍ تعلو على التاريخ ولا تحتاج إلا إلى ذاتها،
وأنه
يتحدث دائمًا عن «العقل» بمعناه المطلق، وينظر إلى الأمور من «وجهها الأزلي»، ولا يُلقي
بالًا إلى التغير والتطور، ويصف كل ما هو تاريخي أو زماني بأنه من صنع الخيال،
١ ومع كل ذلك فقد كان هذا المحتوى الفكري الذي عدَّه صاحبه «غير تاريخي» مرتبطًا
كل الارتباط بعصره، ولا غناء عن بحث هذا الارتباط في أية دراسة لتلك الأفكار.
والعقبة الكبرى التي تعترض الباحث في حياة اسپينوزا، أن مصادر هذه الحياة غامضة إلى
حد
بعيد. وأهم المصادر التقليدية المعروفة هي: تاريخ حياته كما كتبه الطبيب لوكاس (أو لوقا)
Lucas وتاريخ حياته كما كتبه القس «كوليروس
Colerus» واسمه الحقيقي
Köhler، ثم نبذة عن حياته في مقال بعنوان «اسپينوزا» في
«القاموس التاريخي النقدي» الذي وضعه الفيلسوف الفرنسي «بيل
Bayle»، وهذه النصوص كلها أُورِدت وحُقِّقت في ذلك الكتاب القيم الذي وضعه
فرويدنتال
Jakob Freuadenthal عن حياة اسپينوزا، وجمع
فيه وثائق غاية في الأهمية تتعلق بحياة اسپينوزا وأسرته ومؤلفاته ورأي المعاصرين واللاحقين
فيه،
٢ وقد كتب «لوكاس» مدافعًا عن اسپينوزا بحماسة، ولكن روايته كان فيها الكثير من
الخطأ، ويغلب عليها الأسلوب الإنشائي والمبالغات الانفعالية الساذجة، وهكذا حاول أن يرسم
لاسپينوزا صورةً تتفق مع نظرته الرومانتيكية إليه. أما «كوليروس» فكان ينتقد اسپينوزا
بشدة،
وكان أسلوبه أدق وأكثر واقعية، ولكن روايته بدورها لم تكن تخلو من الأخطاء، كما أنها
أغفلت
جوانب عديدة هامة في حياة اسپينوزا.
والأمر الذي تفتقر إليه هذه الكتابات كلها هو أنها لم تُكتب عن معرفةٍ شخصيةٍ مباشرة
باسپينوزا ذاته، وإنما كُتِبت بعد وفاته واستمدت من مصادر بعضها ثانوي الأهمية. وهنا
يحق
للباحث أن يتساءل: لماذا لم يقم أحد أصدقاء اسپينوزا المقرَّبين بكتابة تاريخٍ مفصَّل
لحياته، وخاصةً عندما كانوا بصدد نشر مؤلَّفاته المختلفة؟ إن الرد الوحيد الممكن في نظرنا،
على هذا السؤال الذي أثاره بعض من كتبوا عن اسپينوزا،
٣ هو أن هؤلاء الأصدقاء قد رغبوا في إحاطة بعض وقائع حياة اسپينوزا بنطاقٍ من
الغموض، مثلما فرض هو ذاته نطاقًا من السِّرِّية على تعاليمه في هذه المؤلفات المختلفة،
وليس من المستبعد أن يكون ذلك الامتناع من جانبهم تلبيةً لرغبةٍ منه.
•••
كانت هولندا، في الفترة التي وُلِد فيها اسپينوزا، تمر بتحولات اجتماعية هامة؛ ففي
أثناء
حياة اسپينوزا، استقلَّت المقاطعات السبع في الأراضي الواطئة عن الحكم الإسباني الغاشم،
وتحولَّت بسرعة إلى دولة تجارية من الطراز الأوَّل، وهو الطَّابع الذي كان قد بدأ يظهر
فيها
بوضوح حتى قبل ذلك الاستقلال؛ ففي سنة ١٦٠٢م أُسِّست شركة الهند الشرقية التي كانت أشبه
بدولة داخل الدولة، كما تكوَّنت في ١٦٢١م شركة الهند الغربية على أُسُس مماثلة، وحققت
هذه
الشركات للبلاد إمبراطوريةً واسعة الأطراف، ما زالت آثارها باقيةً حتى اليوم، غير أن
تحرُّر
هولندا من النظام الإقطاعي الذي كان سائدًا في العصور الوسطى وأوائل العصور الحديثة قد
اقترن بنهضةٍ علميةٍ وفكريةٍ لا يمكن إنكارها؛ فالأمر الذي لا شكَّ فيه — والذي شهد به
اسپينوزا نفسه — أن بلاده كانت، بالقياس إلى غيرها من البلدان في ذلك العصر، تُشجِّع
التسامح الديني وحرية الفكر، وإن يكن ذلك التحرر الفكري نسبيًّا فحسب. وأدى ذلك إلى نهضة
علمية وفنية وفلسفية كبيرة؛ ففي ميدان العلوم، تمت في هولندا كشوفٌ هامة في الطبيعة والفلك
والميكانيكا، وكان من معاصري اسپينوزا العالم الطبيعي المشهور «هيجنز Huygens» والعالم البيولوجي الكبير «ليڨنهويك Leuuwenhock». أما في ميدان الفن فقد اشتهرت المدرسة الهولندية في الرسم
وعلى رأسها «رمبرانت» الذي رسم لوحةً مشهورةً لاسپينوزا. وفي ميدان الفلسفة، كانت هولندا
هي
البلد الذي آوى ديكارت حين هاجر من فرنسا، كما كان الفكر الحر، الخارج على التقاليد
السياسية والدينية، أمرًا مألوفًا، وإن كان المفكرون المتحررون لقوا، رغم ذلك، نصيبهم
من
الاضطهاد.
•••
في هذا الجو الاجتماعي والعلمي وُلِد اسپينوزا في أمستردام، في ٢٤ نوفمبر ١٦٣٢م.
وقد
سُمِّيَ عند ولادته «باروخ Baruch» (وترجمتها اللاتينية
Benedictus)، وكانت أسرة اسپينوزا من الأُسَر الإسبانية
اليهودية المهاجرة، من فئةٍ تُسمَّى «المارانو Marranos»
وهم يهود إسبانيا الذين اضطروا، تحت ضغط الحكام، إلى إخفاء دينهم الحقيقي واعتناق
الكاثوليكية مؤقتًا، ثم عادوا إلى كشف حقيقتهم عندما سنحت لهم فرصة الهجرة. وكان أبو
اسپينوزا «ميخائيل» تاجرًا ميسور الحال، لديه شركة تجارية، لا بأس بها، كما كانت له مكانة
مرموقة في الجالية اليهودية المشهورة بأمستردام.
وقد تلقى اسپينوزا تعليمه في المدرسة التَّلمودية المحليَّة بأمستردام؛ إذ ألحقه
بها أهله
لكي تتوثق ارتباطاته بطائفته اليهودية بتعلُّم لغتها العبرية وتراثها. ومما لا شكَّ فيه
أن
هذا العمل لم يُحقق إلا نتيجة عكسية؛ إذ إن الطابع اللاهوتي المحافظ لتعليمه في هذه المدرسة
قد دفعه إلى الثورة عليه، فضلًا عن أن أهله قد اضطروا إلى البحث عن معلمين آخرين له،
لكي
يدرس لغات العلم الحديث، ولا سيما اللاتينية، وكان أشهر هؤلاء المعلمين ڨان دن إنده Van den
Ende الذي كان معلمًا وطبيبًا
في أمستردام، وبلغ حظًّا كبيرًا من الشهرة، حتى إن أكبر أُسَر أمستردام كانت تعهد إليه
بتعليم أبنائها، ويذكر «كوليروس» في ترجمته لحياة اسپينوزا أن هذا الأستاذ كان يُلقن
تلاميذه، إلى جانب اللاتينية، شيئًا آخر هو تعليمات الإلحاد. وربما كان ذلك حكمًا مبالغًا
فيه، غير أن الأمر الذي لا شكَّ فيه هو أنه كان من النفوس الثائرة على التقاليد، وأن
اسپينوزا تأثَّر بثورته هذه منذ صباه.
ولم تكن الطائفة اليهودية في أمستردام تخلو من أمثلةٍ لمفكرين ثاروا على رجعية التراث
الديني المحافظ، الذي فرضه ربَّانِيُّو هذه الطائفة عليهم، بل لقد كانت هذه الطائفة تتناقل
أنباء شخصيات مشهورة عُرفت بثورتها على الجمود والتعصب الديني في ذلك العصر. ومن أشهر
هذه
الشخصيات أورييل داكتوستا Uriel Da Costa الذي كان ينتمي
إلى الجيل السابق على اسپينوزا، وقد وقف في وجه رجال الدين المحافظين في طائفته، وكان
هو
الذي بدأ بحركة تفسير الكتب المسيحية واليهودية المقدسة تفسيرًا تاريخيًّا، وأنكر خلود
النفس. ولا شكَّ في أن كتب اسپينوزا قد مضت إلى أبعد من ذلك بكثير، ولكن لا بُدَّ أن
اسپينوزا كان في ثورته بادئًا من حيث انتهت شخصية «داكوستا» المتحررة التي سبقته بجيلٍ
واحد.
فماذا كان موقف الطائفة اليهودية في أمستردام من مفكر متحرر مثل داكوستا؟ لقد طردته
مرتين
في مجمعها، ولقي نتيجة ذلك الطرد ألوانًا شتى من الاحتقار والمذلة؛ فكان اليهود يبصقون
في
وجهه ويُلقون على بيته القاذورات والجيف. واحتمل الرجل ذلك كله سبع سنوات كاملة، كان
قد
استسلم خلالها مرةً لأعدائه، وطلب الغفران، ولكن حملات الكراهية والتعذيب استمرت رغم
ذلك،
حتى لم تعد أعصابه تحتمل، فأعلن توبته وطلب المغفرة للمرة الثانية، ولكن السلطات الدينية
اليهودية لم تكتفِ بذلك، وإنما طلبت إليه أن يعترف أمام جمعٍ غفيرٍ بذنوبه وخطاياه، ففعل،
ثم جُلد أمام هذا الحشد تسعًا وثلاثين جلدةً تتخللها قراءات تستنزل اللعنات عليه، وأخيرًا
طُلب إليه أن يركع أمام باب المعبد، فمرَّ الجمع من فوقه إمعانًا في إذلاله.
وكان ذلك أكثر مما تحتمله أعصاب الرجل، فعاد إلى داره وهو في أشد حالات النقمة والسخط،
وكتب رسالة سجَّل فيها كل ما مر به، ثم أطلق على نفسه النار فمات لساعته. وكان اسپينوزا
في
ذلك الحين في سن الثامنة.
ومن العجيب أن الكتَّاب اليهود يتفننون في اختلاق المبررات لهذا الاضطهاد الشنيع
للفكر
الحر؛ ﻓ «براون
Browne» مثلًا يقول: إن هؤلاء اليهود
المهاجرين، من بعد كل ما عانَوه في مواطنهم الأصلية من اضطهادٍ على يد الإسبان والبرتغال
على الأخص، كانوا حريصين على ألا يقبلوا في صفوفهم أي انشقاق، وكانوا يرون أن كلَّ مَن
ليس
معهم فهو عليهم؛ ومن هنا لم يتسامحوا عند ظهور أي خروج على مبادئهم.
٤ وهذا تبرير غريب حقًّا؛ فالمفروض أن الطائفة التي تعاني الاضطهاد تأخذ على
عاتقها أن تضع حدًّا لهذا الاضطهاد، وتبدأ في ذلك بنفسها على الأقل، فتفتح صدرها رحبًا
للانتقادات الموجهة إليها — ومع ذلك، ألم يتكرر هذا المنطق المعكوس في عصرنا الحديث،
حين
أوقع اليهود نفس ألوان الاضطهاد التي ذاقوها في الحكم النازي على الأبرياء من عرب
فلسطين؟!
وعلى أية حال، فمن الواضح أن تقاليد الطائفة اليهودية في أمستردام كانت من التزمُّت
والجمود إلى حدٍّ أثار غضبة كلِّ مَن اتسم بنزعة تحررية من أبنائها، لا سيما والجو الخارجي
في الدولة الهولندية كان يشجع، إلى حدٍّ ما، على الانطلاق وحرية الفكر. وهكذا تكررت القصة
مع اسپينوزا نفسه، وإن لم تكن اتخذت نفس هذه الصورة العنيفة الدامية في نهايتها.
فقد أدت هذه المؤثرات جميعًا، إلى خروجه عن نطاق العزلة القاطعة التي كانت الطائفة
اليهودية في أمستردام تفرضها على أفرادها، وإلى ثورة اسپينوزا على تلك الطائفة وخروجه
عليها. واتخذت هذه الثورة أولًا شكل مناقشات متحررة جريئة، بدأت منذ أيام الدراسة ذاتها،
ثم
تحولت إلى عدم اكتراث بالطقوس والشعائر اللانهائية العدد التي يتبعها المجتمع اليهودي.
وأخذت علامات الثورة والتحدي تزداد ظهورًا بالتدريج، إلى أن اتخذت شكلًا لا يمكن كهنة
اليهود السكوت عليه، فقرروا طرده من الطائفة اليهودية.
٥ وإذا صح ما يقوله «كوليروس»، فإن شيوخ هذه الطائفة قد عرضوا عليه مرارًا أن
يرجع عن «مروقه»، ولكنه لم يُلْقِ بالًا إليهم، وذهب بهم الأمر إلى حد عرض رشوة عليه،
في
صورة معاشٍ يتقاضاه بانتظام، على أن يترك دينهم وشأنه، ويبتعد بأفكاره الخطيرة عنه، ولكن
اسپينوزا رفض هذا العرض «لأنه لم يكن منافقًا، ولم يكن يبحث إلا عن الحقيقة». ويقال أيضًا
أن الطائفة قد استخدمت سلاحًا آخر هو التهديد؛ فقد طُعن اسپينوزا ذات مرةٍ بسكين لم يصل
إلا
إلى ملابسه. وكان من الطبيعي بعد هذا كله أن يُطرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية، ويُفرض
عليه «الحرام» وهو في الرابعة والعشرين من عمره (سنة ١٦٥٦م).
وكان من الواضح بعد ذلك أن أمستردام لم تعد مكانًا مأمونًا لاسپينوزا. وهكذا انتقل
إلى
عدة أماكن ريفية هادئة، أو بلدان صغيرة، ليتفرغ للكتابة ويبتعد في الوقت ذاته عن الجو
المحفوف بالخطر في أمستردام. ومن هذه البلاد «رينسبورج Rhynsborg»، ولاهاي.
في هذه الفترة التي ابتعد فيها اسپينوزا بنفسه عن مخاطر الحياة وسط مجتمع مُعادٍ له
في
أمستردام، كان يُرزق من حرفة صناعة العدسات البصرية وصقلها، وهي صناعة أجادها إلى حدٍّ
بعيد، بدليل أن كبار علماء عصره كانوا يتعاملون معه فيما يحتاجون إليه منها.
وقد ذكر «كوليروس» أن احتراف اسپينوزا لصناعة العدسات كان إخلاصًا منه للتقاليد اليهودية
القديمة، التي تحثُّ اليهود على تعلُّم حرفة يعيشون منها، إلى جانب معرفته للشرع الديني؛
إذ
إن هذه المهنة تُجنِّب الإنسان الشر وتقوِّم سلوكه. وهكذا فإن اسپينوزا، تبعًا لهذا الرأي،
لم ينسَ هذه النصيحة حتى بعد انفصاله عن مجتمع اليهود. ويؤيد هذا التعليل «براون»، ويضيف
إليه أمثلة متعددة لبعضٍ من كبار المفكرين اليهود كانوا صناعًا يدويين،
٦ ولكن «فوير
Feuer» يعترض بقوة على هذا
التعليل، فيثبت أن عددًا قليلًا من يهود أمستردام هم الذين كانوا يشتغلون بحرفة يدوية،
وأن
القيم السائدة بين هذه الطائفة كانت هي القيم التجارية، ويضيف إلى ذلك قوله: «إن اسپينوزا
لم يبحث عن حرفة يدوية يرتزق منها عندما كان التأثير اليهودي أقوى ما يكون عليه، وإنما
أصبح
صانعًا عندما ترك الأعمال التجارية وكنيس أمستردام.»
٧
وإذن فالتعليل الصحيح لاحتراف اسپينوزا مهنة صقل العدسات وارتزاقه منها هو رغبته
المتعمَّدة في التخلي عن القيم التجارية السائدة بين الطائفة اليهودية التي انفصل عنها.
ومن
المؤكد أن ذلك القرار لم يكن هينًا بالنسبة إليه؛ إذ إنه على عكس ما قيل عنه وقتًا ما،
لم
يكن فقيرًا معدمًا، بل كانت لأسرته أعمالها التجارية الناجحة. والواقع أن البحث الحديث
الذي
أخذ يجلو ببطء شديد غوامض حياة اسپينوزا، يتجه إلى القضاء تدريجيًّا على أسطورة فقر
اسپينوزا هذه؛ فقد انضم اسپينوزا منذ صباه إلى أبيه في إدارة أعماله، وعندما توفي أبوه،
أصبح مديرًا لهذه الأعمال، وبذلك اكتمل اندماجه في عالم الاقتصاد وأخذه بالقيم التجارية
في
عصره.
ويكاد يكون من المؤكد أن اسپينوزا قد أدرك، في وقت نضوجه الفكري، أن من المُحال عليه
أن
يجمع بين هذه القيم التجارية وبين المُثُل الفكرية التي تزايدت سيطرتها على ذهنه بالتدريج،
فقد كان عليه أن يختار بين أمرين: إما أن يجعل كسب المال غايةً لحياته، أو أن يقمع في
نفسه
الرغبة في كسب المال حتى يستطيع التفرُّغ لرسالته الفكرية. وبعد تفكير لا بُدَّ أنه كان
طويلًا، انتهى إلى إيثار الثقافة الروحية على المال، فتخلى عن الأعمال التجارية التي
ورثها
عن أبيه.
وتشهد بداية كتابه في «إصلاح العقل» بحدوث هذا التحول بكل وضوح؛ فهو لا ينكر أنه كان
مهتمًّا بالمال في أوائل حياته، ولكنه يؤكد أنه قد انصرف عن هذا الاتجاه حالما أدرك خطره
على حياته الفكرية: «فقد بدا لأول وهلة أنه ليس من الحكمة أن يتنازل المرء عما هو في
متناول
يده من أجل شيء لم يكن عندئذٍ موثوقًا به؛ إذ كنت أستطيع إدراك الفوائد التي تُجنى من
الجاه
والثروة، وكنت أعلم أنني سأضطر إلى التخلي عن السعي وراء هذه الغايات إذا ما أردت أن
أكرس
حياتي جديًّا للبحث وراء شيء مختلف جديد.» وفي القاعدة المؤقتة الثالثة من تلك القواعد
التي
وضعها لحياته، يذكر أنه قد زهد في المال بحيث لا يريد أن يحتفظ منه إلا بما يلزم لحفظ
الحياة والصحة.
وهنا ينبغي أن نفرِّق بين زهد اسپينوزا هذا
وبين أنواعٍ أخرى من الزهد؛ فهناك فلاسفة يزهدون لأنهم طبيعة حالهم محرومون، غير أن
اسپينوزا كان يملك كل الوسائل التي تكفُل له ثراءً هائلًا، ومع ذلك تركها بمحض إرادته.
وهناك أيضًا زهد ناجم عن إنكارٍ للماديات وعزوف عن المتع وعن نظرة سوداوية إلى كلِّ ما
هو
بهيج في الحياة، ولكن اسپينوزا لم يكن من أصحاب هذا الاتجاه على الإطلاق؛ فهو لم يحتقر
العالم المادي ولم يترفع عن متع الحياة، بل لقد سوَّى بين العالم المادي وبين العالم
الروحي
تمامًا، أو على الأصح محا التفرقة بينهما، ودعا صراحةً في الكثير من كتاباته إلى الإقبال
إيجابيًّا على متع الحياة. فلا بد إذن أن زهده كان راجعًا إلى نظرةٍ معينة في العلاقة
بين
اتخاذ المال غايةً وبين السعي إلى الكمال العقلي، وهي علاقة كانت في رأيه تنافرًا تامًّا؛
فزهده في هذه الحالة كان أشبه بزهد العلماء لإغراقهم في بحوثهم، غير مقترن بأية نظرة
سلبية
إلى الأوجه الأخرى لحياة الإنسان.
وأخيرًا، فإن كثيرًا من المفكرين يدعون إلى
الزهد في المال بألسنتهم ويتهافتون عليه بأفعالهم. أما اسپينوزا فقد طبَّق ذلك على حياته
بالفعل، وبطريقة تدعو إلى الإعجاب؛ فبعد وفاة أبيه، حاولت شقيقتاه سلْبَه حقه في الميراث،
فاحتكم إلى القضاء، الذي حكم لصالحه، وبعد صدور الحكم فاجأ الجميع بتنازله عن نصيبه في
الميراث — إلا سريرًا متينًا وستارة، كما يقول كوليروس. وهناك احتمال قوي في أن يكون
تنازله
هذا عن الميراث تعبيرًا منه عن عدم إيمانه بفكرة وراثة المال ذاتها؛ فحرص، قبل تنازله،
على
أن يُثبت حقه شرعيًّا، ثم تنازل بعد ذلك، متعمدًا أن يُثبت عدم اهتمامه بالقانون أو الشريعة
القائمة، وأن يؤكد أنه تنازل إيمانًا منه بالمبدأ ذاته، رغم كون القانون مؤيِّدًا له،
ويقال
أيضًا إن صديقه «سيمون
ديڨريس Simon de
Vries» — وكان ميسور الحال، قد عرض عليه، حين اقتربت منيَّته دون أن يكون
له وريث، أن يجعله وريثًا لكل ماله، فرفض هذا العرض، ولم يقبل — بعد إلحاح شديد — إلا
معاشًا ضئيلًا، نقصه هو ذاته فيما بعدُ بمحض إرادته.
•••
فالصورة الأولى التي ينبغي أن تُمحى، ونحن بصدد البحث في حياة اسپينوزا، هي صورة الفيلسوف
المعدَم أو الزاهد كراهيةً في الحياة. والصورة الثانية التي ينبغي إزالتها، هي صورة المفكر
المنعزل المتباعد عن أحداث عصره.
فقد كان اسپينوزا مندمجًا في شئون عصره كل
الاندماج؛ إذ اتصل بكل الجمعيات الفكرية والدينية ذات الآراء المتحررة، وكان له دورٌ
فعَّال
فيها، بل كانت آراؤه وكتاباته تُعَد من أقوى الدعامات التي ارتكزت عليها هذه الجمعيات،
وهو
ثانيًا قدا تصل بمجموعةٍ كبيرة من رجال عصره المرموقين في ميادين الفكر والعلم والسياسة.
وأخيرًا؛ فقد كانت له شهرته الكبيرة في هذه الأوساط، وكان أثناء حياته شخصيةً هامةً يسعى
إلى لقائها كثير من مريدي الثقافة في كافة أنحاء البلاد الأوربية.
أما عن الطوائف الفكرية والدينية التي اتصل بها اسپينوزا وساهم فيها بدور فعال، فأولها
هي
طائفة «المجمعيين أو المحفليين
Collegiants» وكان مركزها
بلدة «رينسبرج» حيث اعتكف اسپينوزا بعد رحيله عن أمستردام، ويرجع اسم هذه الطائفة إلى
أنها
كانت تُطلِق على كل مجموعة منها اسم «المجمع أو المحفل
Collegia» بدلًا من أن تسميها «كنيسة». وقد عملت هذه
الطائفة على التخفيف من غلواء الكلڨينية، ولا سيما في فكرة «الجبر». وقد ظهرت حركتها
سنة
١٦١٩م عندما أعلن الأخوان «فان در كوده
Van der Kodde»
أنهما ليسا بحاجةٍ إلى رجال دينٍ أو لاهوت لمعرفة الله؛ إذ إن الروح الإلهية كامنة في
الجميع، ولكل نفسٍ الحقُّ في فهمها والتحدث عنها.
٨
ومثل هذا يقال عن الطائفة «المينونية Monnonites»، وهي
طائفة تُنسَب إلى «سيمون مينو Simon
Menno»،
الذي قام في بوهيميا في أواخر القرن السادس عشر يدعو إلى الحرية الدينية، ويقاوم تأثير
الكلڨينية واللوثرية. وكان صاحب هذه الدعوى يؤمِن بعدم جدوى العقائد الثابتة والطقوس
والمظاهر الخارجية للعبادة، وإنما كان الأهم في نظره هو طهارة القلب كما تتمثل في فعل
الخير
وحب الجار والتسامح. وكان أفراد هذه الطائفة يرفضون استخدام أي لون من ألوان العنف في
نشر
مبادئها، ويحملون دون أي تحفُّظٍ على الحروب؛ فحرَّموا حمل السلاح، وذهب بعضهم إلى حد
الامتناع عن الاضطلاع بالمسئوليات والالتزامات العامة حتى لا يضطروا إلى إراقة الدماء
في
الحرب.
هذه الطوائف كانت ذات رسالات فكرية وعلمية وسياسية إلى جانب رسالاتها الدينية. بل
إنا
نستطيع أن نقول إن الوجه الديني في نشاطها كان أقلَّ الأوجه أهميةً، والذي كان يحدث دائمًا
في تلك الفترة من تاريخ الحضارة هو أن الخلافات الفكرية والثقافية كانت تتخذ دائمًا مظهرًا
دينيًّا سطحيًّا، وكان أصحاب المذاهب السياسية والفكرية المتحررة يدعون إلى آرائهم الجديدة
عن طريق إنشاء طائفة أو جماعة دينية جديدة تتولى الدفاع عن مواقفها أو مهاجمة خصومها
في
إطار مظهرٍ ديني. ولم يكن النشاط الذي تمارسه تلك الجمعيات عندئذٍ يختلف كثيرًا عن نشاط
الجماعات الثورية السياسية الحالية، وكل ما في الأمر أن الأفكار المتحررة كانت عندئذٍ
مضطرةً إلى التعبير عن نفسها من خلال مواقف دينية معينة. وهكذا كان اسپينوزا بانضمامه
إلى
تلك الجمعيات يمارس في الوقت ذاته نشاطًا سياسيًّا وثقافيًّا ذا طابع ثوري، ويشارك في
حركة
النقد الضخمة التي زعزعت فيما بعدُ أسس المجتمع الغربي في جميع الميادين.
ولقد كانت حلقة أصدقاء اسپينوزا في هذه
الجمعيات تضم نخبةً من رجال عصره النابهين المتحررين (ومن الجدير بالذكر أنها لم تكن
تضم
صديقًا يهوديًّا واحدًا!) ومن هؤلاء الأصدقاء: لودڨيج (أو لويس) ماير
Lodewijk Meyer، وكان طبيبًا مولعًا بالآداب،
وپيتر بالنج Pieter Balling وكان ينتمي إلى الطائفة
المينونية، ويتميز بآرائه المتحررة، «وچارج چلِّس
Jarig Jelles» وقد ترجم بعض مؤلفات اسپينوزا إلى الهولندية، و«سيمون دي فريس Simon de Vries» الذي كان من أخلص أصدقائه والمعجبين
به. وكانت حلقةٌ من تلاميذ اسپينوزا تجتمع لمناقشة المسائل الهامة في أمستردام، وعلى
رأسها
سيمون دي فريس هذا، ثم يتصلون به في مقرِّه ليُجَلِّيَ لهم بعض الغوامض التي استعصت عليهم.
وقد شرح سيمون هذا نظام هذه الحلقة بالتفصيل في إحدى رسائله إلى اسپينوزا (الرسالة رقم
٨
عام ١٦٦٣م).
على أن مكانة اسپينوزا العلمية لم تقتصر على تلاميذه المباشرين وأصدقائه الشخصيين
فحسب،
وإنما ذاعت شهرته بين كثير من كبار رجال عصره، سواء في هولندا وفي خارجها؛ فقد تقرَّب
إليه
كثير من الحكام؛ إذ يقال إن الأمير الفرنسي «كونديه
Condé»
قد أبدى رغبته في مقابلته ومناقشته في مسائل علمية وأراد أن يراه في «أوترخت» أثناء قيادته
للقوات الفرنسية الزاحفة على هولندا. وقد اختلفت الروايات في هذه المقابلة وهل تمت أم
لم
تتم، والأرجح أنها لم تتم. ولكن اتهام اسپينوزا بها قد عرَّضه لكثير من الأخطار في بلاده؛
إذ إنه اتُّهِم بالاتصال بالأعداء، كذلك تختلف الآراء في صلته بالحاكم الهولندي المشهور
«يان دي ڨت
Jan de Witt»: فقال البعض إنه كان صديقًا
شخصيًّا لذلك الحاكم، وأكدوا أن النزعات التحررية لدى ڨت، الذي طرد أسرة أورانج من الحكم
سنة ١٦٥٠م وكان أقوى خصوم المذهب الكالڨيني والتعصب الديني بوجه عام، كانت تتلاءم مع
دعوة
اسپينوزا إلى حرية الفكر وفصل الدين عن الدولة. كما قيل إن دي ڨت كان يسترشد بآراء اسپينوزا
في الحكم، وذهب البعض إلى حد القول إن «البحث اللاهوتي السياسي» كان محاولةً من اسپينوزا
لإيجاد تبرير فلسفي لنظام الحكم الجمهوري المستنير الذي يرأسه دي ڨت. هذا فضلًا عن أن
دي ڨت
ذاته كان ذا عقليةٍ علميةٍ دقيقة، وكانت له دراساته الواسعة في الرياضيات والطبيعيات،
فضلًا
عن إلمامه الكبير بالشئون المالية والسياسية والاجتماعية. كذلك قيل إن اسپينوزا كان وثيق
الصلة بعمدة أمستردام «هوده
Hudde» الذي كان في الوقت ذاته
من ألمع الشخصيات ثقافةً في أمستردام، وكان عالمًا رياضيًّا بارزًا، ومع ذلك فإن باحثة
في
اسپينوزا، هي «مادلين فرانسيس
Madeleine Francès» تشك في
هذه الصداقات المزعومة بين اسپينوزا وهؤلاء الحكام، وترى أنه إذا كانت قد جرت اتصالات
بينه
وبينهم، فلم يكن ذلك راجعًا إلى اشتراكه معهم في الآراء، أو إلى كونهم قد أرادوا تطبيق
تعاليمه على سياستهم في الحكم، وربما كانت هذه الاتصالات قد جرت في موضوعاتٍ متفرقة
ولأسبابٍ متباينة لا علاقة لها بالاتفاق التام في الأفكار السياسية والفلسفية.
٩
ولكن إذا كانت هذه شواهدَ مشكوكًا فيها، فإن هناك شواهد أخرى مؤكدة على علوِّ مكانة
اسپينوزا في الأوساط العلمية لا في بلاده فحسب، بل في أوروبا بأسرها؛ فقد عرض عليه أمير
بافاريا أستاذية الفلسفة في جامعة هيدلبرج، وورد هذا العرض في الرسالة رقم ٤٧ التي كتبها
«فابريتيوس Fabritius» مدير هذه الجامعة إلى
اسپينوزا، والتي ذكر فيها أن الأمير من أكثر الناس تقديرًا للأذهان الرفيعة، وأضاف: «وسيكون
لك أكبر قدر من حرية التفلسف وهي الحرية التي يعتقد الأمير أنك لن تسيء استخدامها في
تعكير
صفو الدين المعترف به رسميًّا.» وفي ذلك بطبيعة الحال تلميح إلى معرفة الأمير بما قيل
عن
مروق اسپينوزا، وابتهالٌ إليه في الوقت ذاته ألا يتحرر أكثر مما ينبغي عندما يشغل هذا
المنصب. وقد رفض اسپينوزا هذا العرض رفضًا مهذَّبًا، قال فيه: «إنني لم أكن ميالًا إلى
التعليم العلني العام … ومن جهة أخرى فلست أدري ما هي الحدود التي ينبغي أن تنحصر فيها
حريتي في التفلسف حتى لا يقال عني إنني عكرت صفو الدين السائد؛ فالمنازعات الدينية لا
تصدر
عن حماسةٍ للدين بقدر ما تصدر عن انفعالات متعددة أو حب للمخالفة يحرف الكلام عن معناه
الأصلي ويدينه، حتى لو كان هذا الكلام تعبيرًا عن تفكير سليم. وهذا أمر جربته في حياتي
المنعزلة الخاصة، فما بالك بي إذا ما سموت إلى هذا المقام الرفيع!»
ويقدم «سيجون
Segond» سببًا معقولًا لرفض اسپينوزا هذا
العرض؛ فقد سبق أن أهدى ديكارت إلى إحدى شقيقات أمير باڨاريا هذا نفسه كتاب مبادئ الفلسفة
في عام ١٦٤٤م؛ وعلى ذلك فمن المحتمل أن تكون «الفلسفة» التي قصد الأمير أن يدرِّسها
اسپينوزا بحرِّية، ودون إخلال بالدين الشائع، هي الفلسفة الموجودة في كتاب اسپينوزا «مبادئ
الفلسفة الديكارتية». ومما لا شكَّ فيه أن الأمير لو كان يقصد كتاب «البحث اللاهوتي
السياسي» لما قال إن اسپينوزا يستطيع أن يقوم بتدريس الفلسفة دون إخلال بالدين الشائع؛
لأن
هذا الكتاب الأخير كفيل بإحداث ثورة في الأوساط الدينية مهما كان الوجه الذي يُنظر إليه
منه؛ وعلى ذلك، فمن المحتمل أن الأمير، تمشِّيًا مع إعجاب أسرته كلها بديكارت، وتقديرًا
منه
لطريقة عرض اسپينوزا لفلسفة ديكارت في كتاب «مبادئ الفلسفة الديكارتية»، قد طلب إلى
اسپينوزا أن يكون شارحًا لديكارت، وأن يمارس حريته في هذه الحدود، فكان من الطبيعي أن
يرفض
اسپينوزا هذا العرض.
١٠
والأمر المؤكد، على أية حال، هو أن هذا الرفض يقدم إلينا مثلًا آخر لعزوف اسپينوزا
عن فرص
قد يتمناها الكثيرون غيره، إذا ما شعر بأن فيها أقل تهديد لحريته في البحث والتفكير.
وقد سعى كثير من علماء العصر إلى الاتصال باسپينوزا وتبادل الأفكار معه، نذكر منهم
على
سبيل المثال: العالم الطبيعي هيجنز Christian Huygens
و«هنري أولدنبرج Henry Oldenburg»، الذي كان أمين سر
الجمعية الملكية في لندن وقت إنشائها حديثًا، والذي اتصل باسپينوزا في مراسلات عديدة
على
فترات زمنية مختلفة، وعن طريق هذا الأخير اتصل اسپينوزا بالعالم الإنجليزي المشهور
«روبرت بويل Robert Boyle» وناقش نظرياته وتجاربه
العلمية، وبالإضافة إلى هذا كله، كان ليبنتس من أكثر الناس حرصًا على الاتصال باسپينوزا
والإفادة منه فكريًّا، وإن يكن قد بذل كل جهده لإخفاء هذا الاتصال، والأمر المؤكد أن
كلًّا
من الرجلين قد أُعجب بالآخر عقليًّا، ولكنه حرص على أن يلتزم جانب الحذر منه؛ فاسپينوزا
كان
يؤمن بضرورة التحري بكل دقة عن ليبنتس قبل تقديم مؤلفاته إليه. وقد أكد ذلك أكثر من مرة
لتلميذه «تشيرنهاوس Tschirnhaus» (الذي كان واسطة بينه
وبين ليبنتس) وطلب إليه أن يدرس شخصية ليبنتس دراسة أدق قبل أن يُطلعه على مؤلفاته، وأبدى
شكَّه في المهمة التي سافر ليبنتس من أجلها إلى فرنسا «في الوقت الذي كان فيه مستشارًا
في
فرانكفورت».
أما ليبنتس فقد تراسل، من ناحيته، مع اسپينوزا مرات عديدة بتوسط تشيرنهاوس، ثم تعرَّف
إليه مباشرةً في إحدى سفراته لهولندا، وناقشه طويلًا في آرائه الفلسفية، وسجَّل محادثاته
معه، واستعار مخطوطًا لمؤلفاته غير المنشورة، ويتفق كثير من الباحثين في فلسفة ليبنتس
على
أن دينه لاسپينوزا كان أعظم كثيرًا مما اعترف به — ولكن أسباب عدم الاعتراف هذا معروفة؛
إذ
كان اسپينوزا شخصية ثار حولها كثير من الجدل وحامت حولها الشبهات، وعُرف بآرائه المتطرفة
في
تحررها في ميدان الدين والسياسة. أما ليبنتس فكان بطبيعته طموحًا نهازًا للفرص ولم يكن
يقبل
أن يمسَّه أي سوء لاتصاله بمثل هذا الثائر. وهكذا حرص قدر طاقته على أن يمحو من كتاباته
المنشورة كل أثر لاتصاله باسپينوزا، فيما عد بعض الانتقادات الشديدة التي لا يمكن أن
تجلب
إليه ظلًّا من الشك. وقد بلغ الحرص بليبنتس حدًّا أخفى معه عن كثير ممن كان يراسلهم،
ومنهم
المنطقي «أرنولد
Arnauld» مجرد كونه يعرف اسم مؤلف «البحث
اللاهوتي السياسي»، الذي هاجمته الأوساط الدينية هجومًا عنيفًا اشترك فيه بعض أساتذة
ليبنتس نفسه،
١١ ثم طلب من صديقٍ مشترك لهما، وهو «شولر
Schuller»، أن يعمل على عدم إظهار اسمه في مؤلفات اسپينوزا المختلفة، وعلى أن
يحذف هذا الاسم قدر استطاعته من الرسائل.
•••
والأمر الذي حرصنا على أن نؤكده في هذا كله هو أن اسپينوزا، لم يكن في حياته ذلك الزاهد
في الحياة عن إنكار أو كراهية لها، كما أنه لم يكن ذلك المفكر المنعزل الغارق في تأملاته
بين جدران أربعة، بل كان محبًّا للحياة، حريصًا على المشاركة في شئون مجتمعه والتفاعل
الإيجابي بها، ولم يكن في ذلك بالطبع ما يتنافى مع رغبته في التفرغ لعمله العلمي بالاعتزال
عن الناس من آنٍ لآخر فترات طويلة.
وفي إحدى فترات عزلته هذه، اشتد عليه المرض الذي كان يعانيه فترةً طويلة، وهو علة
في
الرئة ربما كانت سرطانًا أو التهابًا حادًّا، يرجح أن سببه هو استنشاقه المستمر لغبار
زجاج
العدسات التي كان يصقلها، ثم حلت نهايته فجأة، وبهدوء تام، يوم الأحد ٢١ فبراير سنة
١٦٧٧م.
(١) مؤلفات اسپينوزا
نشر اسپينوزا أثناء حياته كتابين فقط، ولم يصدر باسمه سوى واحد منهما فقط، هو
«مبادئ الفلسفة
الديكارتية» Renati Descartes Principia Philosophiae، وملحقه الصادر بعنوان «أفكار ميتافيزيقية Cogitata Metaphysica». وقد نشر هذا الكتاب
في أمستردام عام ١٦٦٣م، وقدم له صديق اسپينوزا، الطبيب لودڨيك ماير وهذا الكتاب يُمثِّل
عرضًا لفلسفة ديكارت بالمنهج الهندسي المفضل لدى اسپينوزا ورغم أن شخصية اسپينوزا ذاته
لا تظهر بوضوح في هذا الكتاب، فإن المرء يستطيع أن يلمحها هنا وهناك في أفكار منفصلة،
ولا سيما في ملحق الكتاب.
أما الكتاب الثاني فهو «البحث
اللاهوتي السياسي» Tractatus Theologico-Politicus، ورغم أن هذا الكتاب قد نشر في أمستردام عام ١٦٧٠م،
فإن اسپينوزا بالَغ في الاحتياط إذ نشره غفلًا من اسمه، وكتب على الغلاف أنه طُبع في
هامبورج، والكتاب يتضمن بحثًا مفصلًا لموضوع حرية الفكر، ولا سيما في الموضوعات
الدينية، ويهدف إلى تأكيد ضرورة فصل الدين عن الدولة، ويحمل بشدة على كل حكم سياسي
يدَّعي أنه يستمد سلطته من مصدر إلهي. وهكذا كانت موضوعات الكتاب — التي سنتناولها فيما
بعدُ بالتفصيل — شائكة إلى حد يبرر تمامًا حذر اسپينوزا عندما أراد إخفاء اسمه، وإن تكن
شخصيته قد عرفت بعد مضيِّ وقت غير طويل.
وبعد وفاة اسپينوزا، نشر تلاميذه وأصدقاؤه سنة ١٦٧٧م مجموعة من مؤلفاته بعنوان
«المؤلفات المخلفة
Opera posthuma» وذكر اسم
المؤلف بحروفه الأولى فقط
B. D. S.، وكان ذلك المجلد
يحوي المؤلفات الآتية:
- (١)
«الأخلاق،
مبرهنًا عليها بالطريقة الهندسية Ethica ordine geometrico demonstrata»، وهذا الكتاب يمكن أن
يُقال إنه عاصر اسپينوزا خلال الجزء الأكبر من حياته الناضجة؛ فمنذ وقت
مبكر، قد يكون عام ١٦٦٣م أو ١٦٦٥م، أخذ اسپينوزا يرسل نظريات أو قضايا منه
إلى أصدقائه طالبًا إليهم التعليق عليها، وكان اسپينوزا يعد الكتاب للنشر
عام ١٦٧٥م، كما يُفهم من رسالته رقم ٦٨، غير أن السخط الذي أحدثه «البحث
اللاهوتي السياسي» في الأوساط الدينية داخل بلاده وخارجها جعله يحجم عن نشر
الكتاب، واستمر خلال العامين الأخيرين يصقل المخطوط ويهذبه حتى وفاته.
والكتاب مؤلَّف من خمسة أجزاء؛ في الله، وفي طبيعة العقل وأصله، وفي طبيعة
الانفعالات وأصلها، وفي عبودية الإنسان أو قوة الانفعالات، وفي حرية
الإنسان أو قوة العقل. وهو يتخذ شكل نظريات أو قضايا هندسية يُعرض نصها في
البداية، ثم يقدم البرهان عليها. وقد تسبقها تعريفات وبديهيات أو تليها
نتائج ولكن في الكتاب، بالإضافة إلى ذلك، بضع أجزاء كتبت بأسلوب مسترسل غير
هندسي. وهذه الأجزاء تعد من أروع صفحات الكتاب من حيث الجرأة والتحرر
الفكري.
- (٢)
«البحث السياسي Tractatus Politicus»،
وهو كتاب لم يُتم اسپينوزا إلا جزءًا ضئيلًا منه، ومن المؤكد أن أبعاده
الأصلية كانت كبيرة، كما يتضح من الخطة التي عرضها اسپينوزا لتأليفه ذلك
الكتاب في الرسالة رقم ٨٤، بل إن اسپينوزا لم يكن قد راجع الأجزاء التي
ألَّفها بدقة، بل ترك الكثير منها غامضًا، ولكن المؤكد أن اسپينوزا كان في
هذا الكتاب أكثر تحفظًا مما كان في بحثه اللاهوتي السياسي السابق؛ إذ إن
استرداد أسرة أورانج للحكم، وقضاءها على عهد «دي ڨيت» الجمهوري، قد جعل
الجو في البلاد أقل ملاءمةً لآرائه المتحررة مما كان من قبلُ بكثير.
- (٣)
«إصلاح
العقل
De intellectus emendatione»، وهو بدوره بحث حالت وفاة اسپينوزا دون إكماله،
وإن يكن «داربون
Darbon» يؤكد أن كل ما
كان يمكن أن يحويه هذا الكتاب من أفكار قد ذُكر كله، وبدقةٍ كاملة، في كتاب
الأخلاق، ويحذر من الاعتقاد بأن كتاب «إصلاح العقل» لو كان قد أكمل لألقى
ضوءً جديدًا على فلسفة اسپينوزا، أو كشف عن نواحٍ مجهولة فيها،
١٢ وكثيرًا ما شبه هذا الكتاب «بالمقال في المنهج» عند ديكارت إذ
إن «إصلاح العقل» بدوره بحث في المنهج، ولكن ينبغي أن يذكر المرء أن المنهج
الذي سعى اسپينوزا إلى عرضه في هذا الكتاب كان يستهدف غاية أخلاقية. أما
عند ديكارت فالاهتمام الأكبر ينصب على المعرفة النظرية — وإن يكن كتاب
اسپينوزا قد تضمن أيضًا أبحاثًا في المعرفة، مثلما تضمن «المقال في المنهج»
أبحاثًا في الأخلاق.
- (٤)
الرسائل
Epistolae، وقد نشرت في هذه
الطبعة الأصلية ٧٤ رسالة متبادلة بين اسپينوزا ومراسليه، ثم أضيفت إليها
رسائل أخرى كشفت فيما بعدُ، فأصبح مجموعها ٨٦. ورغم ما لوحظ على اسپينوزا،
من أنه كان مفكرًا ضنينًا يتحفظ مع مرسليه ويحذرهم، ولا يكشف لهم عن كل ما
في سريرته، بل يجد لذة في حفظ المسافة بينه وبينهم
١٣ — رغم هذا كله فللرسائل فائدتها الكبرى من حيث إنها تكشف، ولو
بطريقٍ غير مباشر، عن بعض الجوانب الشخصية في حياة اسپينوزا، وهي الجوانب
التي كان يحرص على إخفائها قدر استطاعته، فضلًا عن أنه كان يعرض فيها
آراءه، في بعض الأحيان، بطريقة أكثر استرسالًا وتبسطًا مما يعرضها به في
مؤلفاته الأخرى. وقد تبودلت هذه الرسائل بين اسپينوزا وبين فئات مختلفة من
الكُتاب، منهم أصدقاؤه الذين كانوا أكثر فهمًا له، ومنهم المراسلون الذين
لا تربطه بهم صلة فكرية أو شخصية متينة، وهؤلاء كان يلتزم الحذر معهم على
الدوام، ويحاول الكتابة إليهم على قدر أفهامهم.
- (٥)
رسالة في النَّحو العبري، وهي بطبيعة الحال ليست لها أهمية
فلسفية.
وبالإضافة إلى هذه المؤلفات تُنسب إلى اسپينوزا كتابات أخرى، منها رسالة قصيرة عن
«قوس قزح»، تدل على اهتمامه بالشئون العلمية ومحاولته أن يُشارك فيها، وأخيرًا فقد عُثر
خلال القرن التاسع عشر على مخطوط لكتاب يتناول نفس موضوعات كتاب «الأخلاق»، ولكنه
يعرضها بطريقة غير هندسية، وهو بلا شك أقدم عهدًا من الأخلاق. وقد أُلف بالهولندية،
وعنوانه «بحث موجز في الله وفي الإنسان وسعادته» وقد اختلف في هذا الكتاب؛ إذ اعتقد
البعض أنه مشروع سابق لكتاب «الأخلاق»، ورجَّح الآخرون أنه كتاب مستقل قائم بذاته، وما
زال من المؤلفين من يَشُكون في نسبة هذا الكتاب إلى اسپينوزا، مثال ذلك أن هاليت
Hallett ما زال، عام ١٩٥٧م، يظن أن الكتاب قد يكون من
تأليف أحد تلاميذ اسپينوزا المقرَّبين إليه، وأنه وُضع لشرح تعاليم اسپينوزا لحلقة
التلاميذ التي كانت تجتمع بانتظام لدراسة أفكاره.
١٤
طبعات كتب اسپينوزا وترجماتها
كانت أهم الطبعات في القرن التاسع عشر هي طبعة «ڨان
فلوتن Van Vloten» و«لاند Land»، في لاهاي، سنة
١٨٨٢م و١٨٨٣م، في ثلاثة مجلدات. أما الطبعة التي تُعَد كاملة في الوقت الحالي فهي طبعة
«كارل جبهارت Carl Gebhardt»، في هيدلبرج، سنة
١٩٢٣م، وهي في أربعة مجلدات.
أما الترجمات الإنجليزية فمنها ترجمة كتابَيِ الأخلاق Ethics وإصلاح العقل The Correction
of Understanding في
مكتبة Everyman، وقام بها «بويل A. Boyle لندن ١٩١٠م»، وهي ترجمة تفتقر إلى الدقة في كثير من
الأحيان.
وهناك أيضًا ترجمة «ولف A. Wolf» للبحث الموجز في
الله وفي الإنسان وسعادته. وقد صدرت في لندن (سنة ١٩١٠م) بعنوان
Spinoza’s Short Treatise on God, Man and his
Wellbeing، وترجمة لرسائل
اسپينوزا The
Correspondance of Spinoza (لندن ١٩١٠م).
وأخيرًا، توجد ترجمة جيدة لا تُعوزها الدقة، هي ترجمة «إلويس R. H. M. Elwes» للمؤلفات الرئيسية لاسپينوزا. وقد صدرت
بعنوان The Chief Works of Spinoza، (نيويورك، مكتبة
دوڨر (Dover Publications 1951)) وتحتوي هذه الترجمة
على مجلدين: الأول، ويشمل البحث اللاهوتي السياسي، ثم البحث السياسي، والثاني هو إصلاح
العقل، ثم الأخلاق، ثم عدد كبير من الرسائل.
أما في الفرنسية، فهناك ترجمة أپون Charles Appuhn
(باريس سنة ١٩٠٧م–١٩٣٤م)، والترجمة الحديثة التي اشترك فيها رولان كايوا Roland Caillois ومادلين فرانسيس Madeleine Francès وروبير مزراحي Robert Misrahi، والتي أصدرتها في سنة ١٩٥٤م دار
«جاليمار» في سلسلة Bibliothèque de la Pléade بعنوان
Spinoza Oeuvres complètes، وفي في مجلد واحد من
١٦٠٠ صفحة.
•••
وقد راعينا في الترجمات التي اخترنا الإشارة إليها في هذا الكتاب، الجودة وسهولة
حصول
القارئ على نسخ منها. وهذه الشروط تتوافر في ترجمة إلويس Elwes الإنجليزية؛ لذلك كانت هي التي أشرنا إليها … «صدد البحث
اللاهوتي السياسي»، و«البحث السياسي» و«إصلاح العقل» أما في بقية مؤلفات اسپينوزا —
ومنها ما هو غير موجود في هذه الترجمة الإنجليزية — فقد كانت إشاراتنا إلى الترجمة
الفرنسية الحديثة التي صدرت عن دار «جاليمار Gallmard».
(٢) تطور تفكير اسپينوزا
ينبغي، قبل أن نختم هذا الفصل، أن نبحث بإيجاز فيما إذا كان تفكير اسپينوزا قد مر
بمراحل متميزة في تطوره، أم أن هذا التطور كان تعميقًا لفكره المتسق فحسب.
ففي رأي «فوير
Feuer» أن تفكير اسپينوزا قد مر بثلاث
مراحل يمكن أن تعد متميزة: الأولى هي مرحلة الشباب التي اشترك فيها في جمعيات كانت
دينية رسميًّا، ولكن كانت لها في ذلك الحين رسالة سياسية واجتماعية ثورية لا شكَّ فيها،
وعندما اقترب من سن الثلاثين، أخذ على هذه الجمعيات، ولا سيما «المينونية» عُزلتها
وسلبيتها، فبدأ يشترك علميًّا في سياسة بلاده، واحتل مكانه بين المدافعين عن النظام
الجمهوري، وانتقل إلى لاهاي، وألَّف كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» ليدافع عن النظام
الجمهوري السائد، وبعد حوادث عام ١٦٧٢م، التي قُتل فيها الأخوان «دي ڨيت»، وهُزم فيها
النظام الجمهوري وعادت ملكية أسرة أورانج، أصبح يميل إلى التشاؤم، وضعفت ثقته
بالديمقراطية واتجه تفكيره إلى محاولة إيجاد مكان للإنسان الحر في ظل أي نوع من أنواع
الحكم.
١٥
وعلى العكس من ذلك يشير «ماكيون
Mkeon» إلى صعوبة
القول بتطور تاريخي لتفكير اسپينوزا: إذ إن اسپينوزا كان يراجع مؤلفاته ويعدِّلها
مرارًا وعلى فترات زمنية طويلة، حتى كان الواحد منها يمتد سنوات طويلة في مرحلة الإعداد
والتنقيح وحدها. كما أن تواريخ هذه المؤلفات تتداخل إلى حد يستحيل معه نسبة كلٍّ منها
إلى فترة معينة. وهكذا يستنتج أن تطوره قد اتخذ شكل تعميق لأفكاره السابقة وليس إنكارًا
لها، وأنه كان في كل مرحلة جديدة يسير في نفس الاتجاه الأساسي، وإن يكن تفكيره يتخذ
صورة مختلفة في كل حالة.
١٦
وهذا الرأي الأخير هو في رأينا الأصح؛ فرأي «فوير»، حتى لو صح، له نطاق محدود؛ إذ
إنه
لا يتعلق إلا بتطور التفكير السياسي لاسپينوزا. ورغم أن اهتمام «فوير» بالظروف السياسية
والاجتماعية والاقتصادية في تفكير اسپينوزا اهتمام مشكور؛ لأن الكثيرين غيره من الكُتاب
قد أهملوها إلى حدٍّ مؤسف، فما زال تفكيره النظري والأخلاقي لا يجد مكانًا في هذا
الإطار الذي وضعه لتطوره الفكري، كما يلاحظ أن المرحلة الأولى، التي يتحدث عنها فوير،
لم يظهر فيها إنتاج مميز لها، وبالتالي لا نستطيع أن نحكم على تفكير اسپينوزا فيها على
نحوٍّ واضح.
ومن جهة أخرى؛ فقد لاحظنا من قبلُ أن تأليف كتاب «الأخلاق» قد عاصر حياة اسپينوزا
الفكرية الناضجة كلها تقريبًا، ولو تأملنا مجموعة رسائله لوجدنا في أول رسالة يكتبها
اسپينوزا نفسه (الرسالة رقم ٢ ردًّا على أولدنبرج) تعريفات للجوهر والله والصفة attribute والحال mode
تتفق مع آخر ما قاله اسپينوزا في هذه الموضوعات، ولوجدناه يتحدث فيها عن تدوين أفكاره
بطريقة هندسية، وعن إرسالها إلى أولدنبرج ليفحصها، وكان ذلك منذ عام ١٧٦١م. فمن العسير
في هذه الحالة التحدث عن تطورٍ فكريٍّ بمعنى وجود مراحل متميزة في تفكيره. ومن الطبيعي
أن نظرته السياسية إلى عصره قد تطورت بتطور الأحداث السياسية ذاتها، وفي هذا كان «فوير»
محقًّا دون شك، غير أن موقفه الفلسفي العام، من حيث منهج التفكير واتجاهه إلى التحرر
الذهني وتمجيده للإنسان ومعقوليته الكاملة ونزعاته العلمية الواضحة، كل هذه الصفات
الرئيسية كانت ملازمة له من البداية إلى النهاية.