الفصل الثالث
الاتجاه العلمي عند اسپينوزا
كان ديكارت عالمًا ورياضيًّا بقدر ما كان فيلسوفًا، ولكنه رغم كشوفه الأصيلة الهامة
في
هذه الميادين كان، في اتجاهه الفلسفي العام، أبعد عن الروح العلمية الأصيلة من اسپينوزا،
وإن لم يكن هذا الأخير قد ترك لنا كشفًا واحدًا هامًّا في ميدان العلم بمعناه الدقيق؛
فديكارت كان لا يزال يقيد تفكيره الفلسفي بكثير من قيود العصور الوسطى، وكان يؤمن — أو
هكذا
على الأقل كتب — بأن كل تفسير فلسفي للأشياء ينبغي أن يرتد آخِر الأمر إلى نوع من الإيمان
بقدرة فوق الطبيعية هي وحدها التي تضمن للذهن ثقته بنفسه وبما يعرفه، وتعصمه من الشك
مهما
كان طاغيًا. أما اسپينوزا فقد تخلَّص تمامًا من هذه الآثار الباقية من روح العصور الوسطى،
وكان يؤمن بأن قدرة العقل البشري غير محدودة، وبذلك أزال كل عقبة ممكنة تحُول دون اقتحام
العقل لجميع ميادين المعرفة.
ومع ذلك فإن عددًا لا يُستهان به من المفسرين يضع للنزعة العلمية عند اسپينوزا، بدوره،
حدودًا، ويؤكد أنها اقترنت لديه بنزعة صوفية لا تقل عنها قوة. ويلخص «ألكسندر» هذا الاتجاه
بقوله إن المتصوف، في شخص اسپينوزا، قد امتزج برجل العلم امتزاجًا وثيقًا،
١ وتعليل مثل هذه الثنائية في فهم فلسفة اسپينوزا أمر يسير إلى أبعد حد في ضوء
تفسيرنا الخاص لمنهجه؛ ذلك لأنه، كما قلنا، يتعمد استخدام المصطلح التقليدي المدرسي الذي
توجد له، في أذهان الشراح، أقوى الارتباطات
اللاهوتية والصوفية، ولكن هذه المصطلحات تتخذ عنده معاني ثورية تتفق كلها مع الروح العلمية
بأدق معانيها، وتسبق المفاهيم السائدة في عصره إلى مدى بعيد؛ ومن هنا كان من الطبيعي
أن نجد
هذا الازدواج في تفسير موقف اسپينوزا من العلم؛ فإذا تأملت «شكل» كتاباته، كان لزامًا
عليك
أن تقول بوجود نزعات لاهوتية وصوفية قوية لديه، وإذا حاولت أن تستخلص، من هنا ومن هناك،
المعاني الحقيقية، غير الظاهرة بوضوح، لهذه الألفاظ، اتضح لك اتجاهه العلمي الدقيق بجلاء.
وسنجد في كل فصول هذا البحث أن تلك الثنائية في تفسيره — أعني ثنائية التفسير المحافظ
والتفسير المتحرر — قائمة على الدوام، كما سنجد أن أفضل وسيلة للتغلب عليها هي تلك التي
حددناها من خلال فهمنا الخاص لدلالة منهجه.
وقد عبَّر «سليڨان» عن هذه الثنائية الممكنة في فهم اسپينوزا تعبيرًا واضحًا، فقال:
«… إنَّ جميع التناقضات الممتنعة البادية في تفكير اسپينوزا إنَّما هي تعبيرات
كثيرة عن تناقض واحد له سبب واحد؛ فاسپينوزا مادي ومثالي، ومؤمن بالطبيعة وبما فوق الطبيعة
naturalist and supernaturalist
في آنٍ واحد. وسبب هذا الاتجاه المزدوج لديه لا يعدو أن يكون ذلك الطابع الموزع
لذهنه، الذي كانت تجتذبه النظرة الدينية التقليدية إلى الإنسان وإلى الله، وهي
النظرة التي ورثها من مجموعة كبيرة من الأسلاف اليونانيين والرومان واليهود
والمسيحيين، وتجتذبه في الآن نفسه، وبقوة متساوية، المذاهب الطبيعية والميكانيكية
كمذهبَي ديمقريطس وهبز.»
٢
ويواصل «سليڨان» كلامه فيقول:
«إنَّ موقف اسپينوزا يختلف بين المثالية أو المادية تبعًا لفهمك للجوهر الواحد، وهو
الله،
من خلال الفكر أو من خلال المادة، وتبعًا لردك الامتداد إلى الفكر أو الفكر إلى الامتداد
…»
٣ وفي موضعٍ آخر يعرض هذه الثنائية بتشبيه طريف قائلًا: «من الممكن تشبيه فلسفة
اسپينوزا بشكل وأرضية، على طريقة الجشطلت، وليكن شكلًا مؤلفًا من مكعبات بيضاء ثم سوداء
متراصة كل لون فيها إلى جوار الآخر، بحيث يبدو تارة أن إحدى مجموعتَي المكعبات هي البارزة
وأن الأخرى هي الأرضية أو القاعدة، ثم ينقلب الشكل فجأة إلى عكس ذلك. هذه هي الحال في
اسپينوزا.»
٤ وهكذا كنا نجد كلًّا من الفريقين يؤكد انتساب اسپينوزا إليه بنفس القوة؛
فالمثاليون والرومانتيكيون، مثل هيجل ونوڨالس، لا يتصورون فلسفة اسپينوزا دون تفسيراتها
اللاهوتية أو الصوفية، والماديون، مثل «لامتري
La Mettrie»، ودولباخ
D’Holbach، بل مثل
إنجلز
Engels، وپليخانوف
Plekhanov، يؤكدون أن اسپينوزا قد استبق فلسفاتهم المادية وكان من روادها
العظام.
والأمر المؤكَّد، الذي سنعمل على إثباته في هذا الفصل، هو أن اسپينوزا كان، قبل كل
شيء،
متشبعًا بالروح العلمية إلى أقصى حد، وأنَّ مذهبه بعيد كل البعد عن الاتجاهات اللاهوتية
والصوفية التي نُسبت إليه. فإذا فسرت المادية بأنها هي تأكيد الحتمية وقانونية الطبيعة
والقضاء على الغائية وجميع التفسيرات الغيبية، فلا جدال، عندنا، في أن اسپينوزا كان ماديًّا
بهذا المعنى. أما إذا نظرت إلى المادية على أنها هي التفسير الآلي أو الميكانيكي للظواهر،
فلا شك في أن اسپينوزا يكون قد تجاوز تلك النظرة إلى الأمور بكثير؛ لأنَّه لم يقل أبدًا
إنَّ المادة جامدة آلية صلبة، بل لم يُخصِّص أي جزء من كتبه للبحث عن الطبيعة النهائية
للمادة التي يتكون منها العالم، ولكن الحقيقة المؤكدة، من وراء كل تفسير لاسم هذا المذهب
الفلسفي أو ذاك، هي أن اسپينوزا قد تشبَّع بالروح العلمية في نظرته الفلسفية إلى العالم،
وأنه لم يقبل مهادنةً أو حلولًا وسطى في أي موضع بحث فيه مدى قدرة العقل على فهم العالم
وتفسير ظواهره.
وسوف يتسلسل بحثنا في هذا الفصل على الوجه الآتي:
فالقائلون بوجود عناصر صوفية غير علمية في نظرة اسپينوزا العامة إلى العالم يرتكزون
على
أسس معينة من أهمها:
(أ) رأيه في المعرفة الحدسية. (ب) ونظرته
الواحدية الشاملة إلى العالم؛ ولذا سنبحث كلًّا من هذين الموضوعين على حدة، لنُثبت استحالة
تفسير آراء اسپينوزا فيهما تفسيرًا صوفيًّا. وبعد ذلك ننتقل إلى الأدلة الإيجابية على
موقفه
العلمي السليم، الذي يتضح من خلال رأيه في (ﺟ) العلاقة بين النفس والجسم و(د) فكرة سيادة
الضرورة. وينتهي الفصل بملاحظات على موقفه من العلم بوجه عام.
(١) فكرة الحقيقة والمعرفة الحدسية
لا بُدَّ للإجابة على السؤال عما إذا كانت نظرية المعرفة عند اسپينوزا تنطوي على
عناصر صوفية أو مضادة للنزعة العقلية، من أن تستعرض بعض آرائه الرئيسية في المعرفة، ولا
سيما
تلك التي يُعتقد بوجود مثل هذه العناصر فيها، بشيء من التفصيل.
«فكرة الحقيقة، والأفكار الكافية»: ليست الفكرة idea
عند اسپينوزا كيانًا مجردًا يطابق موضوعًا أو يتفق معه أو يصدق عليه، وإنما «هي ذاتها
ذلك الموضوع»، من وجهة نظر الفكر، فليس ثمة فكرة وموضوع، وإنما هناك حقيقة واحدة، يُنظر
إليها من ناحية فتكون فكرة، ومن ناحية أخرى فتكون موضوعًا.
هذا الرأي القائل إن الفكرة وموضوعها حقيقة واحدة، هو أساس نظرية الحقيقة عند
اسپينوزا، وهي النظرية التي لا تجعل التطابق بين الفكرة وموضوعها معيارًا للحقيقة،
وإنما تؤكد أن معيار حقيقة الفكرة كامن في الفكرة الصحيحة ذاتها، وأن الفكرة صحيحة بقدر
ما تكون كافية.
٥
فما هي هذه الفكرة «الكافية»
adequate idea؟ يعرفها
اسپينوزا بقوله: «أعني بالفكرة الكافية فكرةً إذا ما نظر إليها في ذاتها، دون إضافة إلى
الموضوع، كانت لها كل خصائص الفكرة الصحيحة أو مميزاتها الباطنة.»
٦ وهكذا فإن أهم ما يؤكده اسپينوزا هنا هو استبعاد مفهوم «المطابقة» أو
«المعيار الخارجي» للفكرة الصحيحة؛ لأنه لا يوجد «توازٍ» بين الأفكار والأشياء، وإنما
الأفكار هي ذاتها الأشياء منظورًا إليها من خلال الذهن، ويعبِّر اسپينوزا عن هذا الرأي
تعبيرًا أوضح فيقول: «لا يجهل أحد لديه فكرة صحيحة، أن الفكرة الصحيحة تنطوي على أقصى
قدر من اليقين؛ إذ إن وجود فكرة صحيحة لديك، ليس إلا تعبيرًا آخر عن معرفتك للشيء بصورة
كاملة أو بأفضل صورة ممكنة. والحق أنه ليس في وسع أحد أن ينكر ذلك، ما لم يعتقد أن
الفكرة شيء جامد، كالصورة في إطار، وليست حالًا من أحوال التفكير؛ أعني عملية الفهم
ذاتها، وإني لأسأل: من ذا الذي يعلم أنه يفهم شيئًا ما لم يكن قد فهمه بالفعل؟ وبعبارة
أخرى: من ذا الذي يعلم أنه موقن بشيء ما، ما لم يكن قد أيقن بذلك الشيء بالفعل؟»
٧
ويبدو أن اسپينوزا يرد هنا على أولئك الذين قد يعترضون عليه بأن معيار «كفاية» الفكرة
خداع؛ لأن المشكلة أصلًا هي أن بعض الأفكار تبدو منطوية على كل الخصائص الكامنة للفكرة
الصحيحة دون أن تكون بالفعل كذلك، وبذلك يكاد يبدو أنه يضع معيارًا نفسانيًّا باطنًا
أشبه بوضوح الأفكار وتميزها عند ديكارت. على أن الواضح من قول اسپينوزا بأن الأفكار هي
ذاتها الموضوعات، هو أن الفكرة الكافية عنده هي ذاتها تعبير آخر عن موضوع كافٍ، أو على
الأصح مكتفٍ بذاته، لا يعتمد على غيره، بحيث تعكس الفكرة، في مجالها الخاص، استقلال
الوجه الذي تعبِّر عنه من الواقع.
ومن الطبيعي أنه إذا كانت الفكرة الصحيحة على هذا النحو من الإيجابية، وإذا كانت
هي
ذاتها وجهًا من أوجه الوجود في واقعيته؛ فلا بد أن تكون الفكرة الباطلة سلبًا أو عدمًا
فحسب، وألا ينطوي الخطأ على أي عنصر إيجابي. وهكذا يقول اسپينوزا: «ليس في الأفكار شيء
إيجابي يجعلها تسمى باطلة.»
٨ فالبطلان لا يعبِّر عن أية صفة فعلية، وإنما هو انعدام الإيجاب أو الافتقار
إليه: «فالبطلان هو انعدام المعرفة، الذي تنطوي عليه الأفكار غير الكافية، أو الجزئية،
أو المختلطة.»
٩ ومثل هذا الرأي في طبيعة الخطأ يتفق تمامًا مع رأيه في طبيعة الفكرة
الصحيحة من حيث إنها هي التعبير المباشر عن إيجابية الوجود.
(١-١) أنواع المعرفة
وعلى أساس التدرج بين البطلان والحقيقة، يظهر تقسيم اسپينوزا المشهور لأنواع
المعرفة إلى ثلاثة:
- (أ)
النوع الأول: وينقسم إلى معرفة نكوِّنها عن الأشياء الخاصة بواسطة
حواسنا، وتتمثل لنا فيها الأشياء جزئية مختلطة لا ترتيب فيها — ثم إلى
معرفة سماعية تؤدي بنا إلى تكوين فكرة عن الأشياء مشابهة لما نتخيله
عنها فحسب.
- (ب)
والنوع الثاني: وهو ينشأ «من وجود أفكار لدينا مشتركة بين جميع
الناس، وأفكار كافية عن خصائص الأشياء. وهذه أسميها «بالعقل».»
- (جـ)
والنوع الثالث: وهو الحدس، «ينتقل من فكرة كافية عن الماهية المطلقة
لبعض صفات الله إلى المعرفة الكافية لماهية الأشياء.»
١٠
ويعرض اسپينوزا في «إصلاح العقل» أنواع المعرفة هذه على نحوٍ مختلف إلى حد ما،
فيقسمها إلى أربعة أقسام:
- (١)
معرفة سماعية تُختار اعتباطًا.
- (٢)
معرفة مستمدة من التجربة الغامضة التي لم يختبرها العقل، والتي تقبل
لمجرد عدم وجود ما يناقضها في العقل.
- (٣)
المعرفة الناشئة من الاستدلال على ماهية شيء، من ماهية شيء آخر، ولكن
ليس بطريقة كافية. وهذه المعرفة تتمثل في الاستدلال من المعلول على
العلة، أو من قضية عامة على دوام وجود صفة ما.
- (٤)
المعرفة الكافية للشيء عن طريق ماهيته وحدها، أو سببه القريب.
١١
ومع ذلك فالتقسيم الثلاثي الأول هو الأكثر شيوعًا في كتابات اسپينوزا؛ إذ إنه في
معظم كتاباته يدمج النوعين الأولين في التقسيم الرباعي ليكوِّن منهما نوعًا
واحدًا.
وعلى أساس هذا التقسيم المشهور لأنواع المعرفة عُد اسپينوزا فيلسوفًا ذا نزعة
صوفية، إذ وجد كثير من شراحه في النوع الثالث من المعرفة، وهو المعرفة الحدسية،
مجالًا واسعًا للتفسيرات الصوفية فأكد «رويس» أن الطابع الصوفي أساسي في فلسفة
اسپينوزا، على الرغم مما يوحي به منهجه الرياضي أو الهندسي من معقولية لا تعرف
الانفعالية إليها سبيلًا،
١٢ ورأى «ڨندلبنت» أنَّ نظرية اسپينوزا في المعرفة الحدسية تسير في طريق
الصوفية؛ إذ إنَّ هذه النَّظرية عنده هي الفهم المباشر لظهور كل الأشياء منطقيًّا
من الله، فتلك معرفة تعلو على الإدراك الحسي والنشاط العقلي، وترقى إلى مرتبة
تأمُّل موضوعها «من منظور الخلود».
١٣
ومع ذلك ففي رأينا أنَّ من أكبر الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها الباحث في فلسفة
اسپينوزا أن يرى في فكرته عن المعرفة الحدسيَّة أو النَّوع الثَّالث من المعرفة
مظهرًا لاتجاه إلى تجاوز العقل واقتحام ذلك الميدان فوق العقلي الذي لا تكون له من
نتيجة إلا التصوف.
ذلك لأنَّ النَّوع الثَّالث من المعرفة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنوع الثاني؛ أي
إن المعرفة الحدسية ترتبط بالعقلية وتنشأ منها،
١٤ بحيث تبدو في واقع الأمر تكملة وتتويجًا لها. ولا يمل اسپينوزا من
تأكيد ارتباط هذه المعرفة بالعقل؛ إذ يقول مثلًا: «إنَّ النَّوع الثَّالث من
المعرفة يعتمد على العقل بوصفه علَّته الشكلية، بقدر ما يكون العقل ذاته أزليًّا.»
١٥ هذا الحديث عن العقل، وتأكيد أهميته بالنسبة إلى المعرفة الحدسية
ذاتها، ليس حديث متصوف على الإطلاق. وإذا كان قد وصف العقل في هذه الحالة بأنه
أزلي، فذلك لا يُغيِّر من طبيعة الأمر شيئًا؛ ذلك لأن المعرفة الحدسية؛ أي النوع
الثالث، هي معرفة «عن طريق العقل» لتلك الحقائق الأزلية التي تتكشف لنا في أعلى
مراحل تأمُّلنا الفلسفي. وأهم هذه الحقائق الأولية هي الوحدة الشاملة للطبيعة،
وخضوعها كلها لنُظم وقوانين واحدة. وعندما يصل إنسان إلى هذه الحقيقة الأزلية،
تتملكه انفعالات إيجابية طاغية كالسرور الناجم عن الشعور بالمشاركة مع الطبيعة
بأسرها. وهكذا يظهر الانفعال في اللحظة التي تصل فيها المعقولية إلى قمَّتها،
ويترابط هذان العنصران اللذان يتنافران في كل فلسفة أخرى ترابطًا تامًّا في فكرة
«الحب العقلي لله
Amor Dei intellectualis»
الذي لا يعدو، في ضوء فلسفة اسپينوزا، أن يكون تعبيرًا عن مشاركة العقل في الطبيعة
في مجموعها وشعوره بوحدته التي لا تنفصم معها حين يدرك ما فيها من قانونيةٍ
ومعقوليةٍ ونظامٍ لا ثغرة فيه.
١٦
ولا يتنافى هذا التفسير على الإطلاق مع قول اسپينوزا: إنَّ النَّوع الثَّالث من
المعرفة يتعلق بأشياء فردية — تمييزًا له من النوع الثاني الذي يتعلق بأشياء عامة
أو كلية؛
١٧ ذلك لأنَّ السياق في هذه الحالة هو سياق الاستدلال من الأشياء الجزئية
على الماهية الكلية للأشياء، أو على الطبيعة الإلهية. وبهذا يكون المقصود من القول
إن النوع الثالث من المعرفة يتعلق بالأشياء الفردية هو أنها نوع من الحدس الذي نصل
به إلى الماهية الكلية للأشياء عن طريق فهم طبيعة شيء خاص يشارك في هذه الماهية
الكلية ويوضحها بوصفه وجهًا أو مظهرًا لها، فإذا فهم الإنسان طبيعة ذهنه — وهو
بالقياس إلى الطبيعة في مجموعها شيء فردي جزئي — ففي وسعه أن يفهم ماهية الطبيعة
بأسرها، أو الماهية الإلهية، عن طريق إدراكه لاعتماد ماهية الذهن على ماهية
الطبيعة. ومثل هذه المعرفة الناشئة عن إدراك الاعتماد التام للماهية الجزئية على
الماهية الكلية، تتغلغل في الذهن مباشرة، وتغدو حدسًا مباشرًا يختلف عن المعرفة
الاستدلالية التي تُستمد من قضايا عامة، وإن يكن في وسع هذا النوع الأخير (أي النوع
الثاني من المعرفة) أن يوصل بطريقته الخاصة إلى النتيجة ذاتها.
وإذن فأوصاف اسپينوزا للمعرفة الحدسية لا تنطوي على أي إقلال من شأن العقل،
وإنَّما هي، إن شئت، تعبير عن طريقة أخرى من طرق استخدام العقل، تختلف عن الطَّريقة
الاستدلالية، وربما كانت هي التعبير عن أبهر إدراك وتبصُّر يصل إليه العقل حين يعلم
أنه يعكس في داخله قوانين الطبيعة في مجموعها، وأن فهمه لذاته يزيد من فهمه للنظام
الكلي للأشياء، مثلما أن إدراك انتظام الأشياء في مجموعها هو ذاته توسيع لنطاق
العقل ولآفاته. ومهما بدا حديث اسپينوزا عن هذا النوع من المعرفة موحيًا باتجاهات
صوفية، ولا سيما حين يقرنه بالحديث عن المعرفة الحدسية لله فإنه في معظم الأحوال
يتناول هذا الموضوع في سياقٍ لا يكفُّ فيه عن تأكيد أن العقل هو أشرف ما لدى
الإنسان، وأن فهم الأشياء هو أسمى غاياته،
١٨ ومن المحال أن تكون الصوفية (بمعنى تجاوز حدود العقل الذي يعد عاجزًا
عن تحصيل أرقى أنواع المعرفة) من صفات ذلك الفيلسوف الذي تحفل كتاباته كلها بتمجيد
العقل، والذي لم يقبل — كما سنرى فيما بعدُ — أي تفسير مخالف للعقل حتى في مجال
الإيمان ذاته. وإني لأعتقد أنَّه، إذا كانت لدى اسپينوزا أية نزعة صوفية، فما هي
إلا صوفية الروح العلمية، التي لا تقوم على رفض العقل أو حتى على تجاوزه، وإنما
تظهر من خلال العقل ذاته حين يمارس قدرته على الفهم إلى أقصى مداها، ويرى نفسه
مقتربًا من تحقيق هدفه الأسمى في فهم الأشياء. وما أظن أن في العلم، مهما بلغ
نهوضه، حقيقة أعظم من إدراك القانونية والنظام في الطبيعة، أو هدفًا أسمى من إشعار
الذهن بتلك المتعة الرفيعة التي تتملكه كلما أدرك أنه، في نظامه وقانونيته، ليس إلا
انعكاس للطبيعة بأسرها.
•••
وكما أن إعلاء شأن المعرفة الحدسية عند اسپينوزا لم يكن ناشئًا عن وجود نزعة
صوفية لديه، فكذلك لم يكن إقلاله من شأن المعرفة الحسية ناشئًا عن وجود مثل هذه
النزعة لديه؛ فالإقلال من شأن المعرفة الحسية يرتبط في الفلسفة عادةً بإنكار وجود
العالم الخارجي. وهذه الفكرة الأخيرة تفتح مجالًا لجميع النزعات اللاعقلية أو فوق
العقلية أو الشكاكة، على أحسن الفروض. أما في حالة اسپينوزا، فلم يظهر أي أثر لهذه
الاتجاهات، وكانت فلسفته في المعرفة خالية تمامًا من جميع أعراض المثالية.
فمن المؤكد أنَّ اسپينوزا لم يكن يشك في وجود العالم الخارجي على الإطلاق، بل لم
يُثر هذه المسألة أصلًا (وهذا في رأينا من أوضح مظاهر الطابع الصحيح — أو بالأحرى
«الصحي»، لتفكيره)؛ فإقلاله من أهمية الحواس لم يكن يعني سوى أن دورها في تكوين
محتوى الذهن البشري من المعرفة، ولا سيما المعرفة العلمية، أقل أهمية من دور العقل.
أما وظيفتها الأصلية المألوفة في إدراك العالم الخارجي بما فيه من أشياء، فتظل
قائمة لا تُمس.
ولقد كان استبعاد اسپينوزا، منذ البداية، لمشكلة وجود العالم، واعترافه بهذا
الوجود دون مناقشة، هو الذي جعل كانْت يسميه «توكيديًّا»
dogmatic؛ ويعني بذلك أنه كان يعترف، بطريقة «غير نقدية»،
بإمكان معرفة العالم الخارجي معرفة كافية.
١٩ ونستطيع أن نقول إنَّ هذا الاعتراف المباشر بالعالم الخارجي هو الذي
يميزه أيضًا عن ديكارت؛ فقد كانت نقطة بداية ديكارت هي يقينية الفكر ووجود الأنا
المفكر. أما نقطة بداية اسپينوزا فهي وجود الطبيعة في مجموعها. وعلى حين خلقت هذه
البداية لديكارت صعوبات لا حد لها فيما يتعلق بإثبات وجود العالم الخارجي ثم إيضاح
العلاقة بين الفكر، وهو نقطة البداية المؤكدة، وبين الامتداد، فإن اسپينوزا قد
تخلَّص من كل هذه الإشكالات، ولم يساوره أي شك — منهجي أو غير منهجي — في وجود
العالم، بل بدأ بذلك الوجود كاملًا بكل أوجهه، ولم تكن العلاقة بين الفكر والامتداد
في رأيه إلا علاقة بين طريقتين في النظر إلى موضوع واحد.
ومن المؤكد أنَّ اسپينوزا كان يعد التفكير في مشكلة وجود العالم أو عدم وجود
تفكيرًا عقيمًا لا جدوى منه. وهذا هو المغزى الوحيد لقضيته القائلة إن «الوجود
ينتمي إلى طبيعة الجوهر»
٢٠ ثم وصفه هذه القضية فيما بعدُ بأنها حقيقة عامة من نافلة القول
truism.
٢١ ومثل هذا الإلحاح والإصرار على أن وجود الجوهر أمر بديهي، وعلى أنه
فكرة سابقة لكل مناقشة وجدل، بل ولكل شك، يعني، إذا ما فسرنا الجوهر على أنه مجموع
الوجود، أنَّه لم يكن يؤمن بمشكلات المعرفة المتعلقة بوجود العالم، أو بأنَّه، على
حد تعبير «چويكم»: «لا يفرق بين ما هو موجود وما هو معروف.»
٢٢
مثل هذا الاعتراف بوجود العالم، أو على الأصح رفض إمكانية الشك فيه أو إنكاره منذ
البداية، قد يبدو في نظر أصحاب النزعات المثالية دليلًا على «توكيدية» اسپينوزا، أو
افتقارًا منه إلى الروح النقدية، بينما هو في نظر خصومهم أقوى دليل على سلامة
التفكير الفلسفي عنده، ولكن مهما كان حكم المرء عليه في هذا الصدد، فلا شك في رأينا
في أن «النزعة الصوفية» ليست ضمن التفسيرات الممكنة لموقفه هذا، وإنما يتعارض هذا
الموقف تمامًا مع التشكيك الصوفي في وجود العالم، ومع كل النزعات الذاتية والمثالية
التي تمهد الطريق للتصوف. ويثبت تحليل موقف اسپينوزا في هذه الحالة أيضًا استحالة
القول بوجود مثل هذه النزعات اللاعقلية لديه.
(٢) الواحدية العلمية
كانت فكرة «وحدة الوجود» التي فُسرت بها فلسفة اسپينوزا تفتن أصحاب النزعات الشعرية
والصوفية واللاهوتية على الدوام. فهنا يجمع الفيلسوف كل أطراف الكون في وحدة واحدة، لا
تفرقة فيها بين الإله وبين الطبيعة إلا من حيث إن هذا هو الوجه «الطابع» للطبيعة وذاك
هو وجهها «المطبوع» وكم من الشعراء تغنوا بهذا الفيلسوف «المنتشي بالله» الذي أشاعت
فلسفته، في رأيهم، الطابع الإلهي في الوجود بأسره وفي كل تفاصيله!
بل إن مجرد القول بالواحدية، دون وجهها الإلهي، يلائم هذا النوع من التفكير إلى حدٍّ
بعيد. فجمع الوجود كله في وحدة واحدة هو على الدوام من الخصائص المميزة لأصحاب النزعات
الصوفية في التفكير، وهم الذين لا يحفلون بالجزئيات وتفصيلاتها، وينفد صبرهم من أي بحث
متأنٍّ في مجال ضيق من مجالات الوجود. وهكذا أخذ هيجل يكيل الثناء لاسپينوزا على نزوعه
إلى رفض ما هو جزئي وتركيز الاهتمام على الوجود في مجموعه فحسب، فقال: «ينبغي أن يبدأ
الفكر باتخاذ وجهة نظر المذهب الاسپينوزي؛ فاتباع تعاليم اسپينوزا هو نقطة البداية
الأساسية في كل فلسفة … وعندما يبدأ المرء في التفلسف، ينبغي أن يكون أول ما تفعله
الروح هو أن تغوص في أثير هذا الجوهر الواحد، الذي يتلاشى فيه كل ما كان الإنسان يعده
صحيحًّا، فهذا الإنكار لكل ما هو جزئي، وهو الإنكار الذي لا بُدَّ أن كل فيلسوف قد وصل
إليه، هو تحرر العقل وأساسه المطلق.»
٢٣
وتستهوي فكرة «تأمُّل الطبيعة في مجموعها» هذه مفسرًا آخر، فيصف بسببها موقف اسپينوزا
من العالم بأنه «مزيج من الدين والعلم، تحقق عن طريق التوحيد بين الله والطبيعة، وعبَّر
عنه هذا التوحيد ذاته؛ فهو قد تناول القوالب الكبرى اللاهوت؛ أي الله، والحب، والخلاص،
وصب فيها مادة مستمدة من الدراسات العينية في الفيزياء وعلم النفس.»
٢٤
ولكن هل هذه هي الدلالة الوحيدة، أو الدلالة الحقيقية، لواحدية اسپينوزا؟ لا جدال
في
أن لهذا المذهب دلالات أخرى أعمق وأكثر انطباقًا على الروح الحقيقية لفلسفة
اسپينوزا.
فمن الممكن، كما قال «فوير»، أن يُفسر مذهب وحدة الوجود عند اسپينوزا على أنه كان
ثورة على المذاهب الدينية الأرستقراطية — ولا سيما الكلڨينية — التي كانت تجعل الخلاص
من نصيب فئة محظوظة اختارها الله سلفًا. وهكذا عمل اسپينوزا، كما فعل غيره من أصحاب
المذاهب التقدمية والثورية في عصره، على إشاعة الروح الإلهية في الوجود كله لكي يصبح
للكل نصيب من الروح الإلهية،
٢٥ أو على الأقل لمحو الفوارق في علاقة الموجودات الجزئية بالله.
ولكن التفسير الأرجح، في رأينا، هو أن هذه الوحدة، كما فهمها اسپينوزا، تؤدي إلى
القضاء على فكرة انفصال الألوهية وعلوها، وتقضي بالتالي على ما يرتبط بالفكرة السابقة
من تأكيد للغائية. فعن طريق مذهب اسپينوزا، الذي كان في الواقع مذهبًا «واحديًا monist» أكثر منه مذهب «وحدة وجود pantheistic»، تُؤكد الحتمية الكاملة في العالم،
وتُشيع فيه فكرة الضرورة، وتركز جهود الإنسان في معرفة العالم الطبيعي نفسه بعد أن يتضح
له أن هذا العالم هو كل ما في الوجود.
والحقُّ أن من الظواهر الغريبة حقًّا في تفسير فلسفة اسپينوزا أن نرى معظم الشُّراح
ينسبون إليه نزعات صوفية أو لاهوتية لمجرد كونه قد تحدَّث عن «الحكمة الشاملة» وجعل
لفلسفته موضوعات كلية لا جزئية. ومثل هؤلاء الشُّراح يفسِّرون على هذا النحو كل مذهب
له
مثل هذا الطابع الشامل، وكأن هناك ارتباطًا ضروريًّا بين التفكير ذي الطابع العام
الشامل وبين النزعات الصوفية أو اللاهوتية. ويغفل هؤلاء الشُّراح حقيقة لا شكَّ فيها،
هي أن كثيرًا من العلماء والفلاسفة من ذوي «الحكمة الشاملة» لم يكونوا يفكرون من خلال
مقدمات صوفية أو دينية؛ فهم يغفلون دعوة «كونت» إلى إقامة عقيدة البشرية على أساس العلم
وحده، ويغفلون أحكام «نيتشه» الشاملة على الإنسان وحضارته من خلال فلسفة لا مكان فيها
للتصوف بمعناه الديني، ويغفلون كل الاتجاهات الأدبية «التنبؤية» التي قامت على أساس
نزعات طبيعية خالصة.
وإذا كان من الخطأ في ميدان التفكير الفلسفي والأدبي أن يربط المرء بين النظرة
الشاملة إلى الكون وبين الاتجاهات الصوفية أو الدينية ربطًا ضروريًّا، فإن هذا الخطأ
يغدو أعظم في ميدان التفكير العلمي؛ فالعالم يؤمن، في مجاله الخاص، بنوع من «الواحدية»،
وذلك حين يبني تفكيره على أساس الضرورة في الكون، ووجود علة لكل ظاهرة، ووحدة الطبيعة
واطرادها، وسريان قوانين واحدة عليها. هذه كلها مقدمات ضرورية للروح العلمية، مهما كان
اتجاهها التالي، ومن المحال أن يُحكم على العالم مقدمًا بأنه خرج عن نطاق المعقولية
الشاملة لمجرد وجود هذه النزعات التعميمية الشاملة لديه. وفضلًا عن ذلك فكثيرًا ما يشعر
العالم بنوع من الحماسة الفياضة والسرور الطاغي والحب الشامل للطبيعة كلَّما اتسع نطاق
نظرياته وأدرك انطباقها على مجالات أوسع في التجربة ولنُضف إلى ذلك تلك الأخلاق
الإنسانية الرفيعة التي يضعها كثير من الباحثين المتعمقين لأنفسهم، والتي تزداد نقاء
كلما تعمَّق العالم في بحثه وازدادت حكمته توغلًا في الطبيعة، حتى لتصل إلى حد التفاني
التام في سبيل اكتساب المعرفة وربما التضحية بالنفس من أجلها، ولكن هل يعني ذلك أن هذه
الاتجاهات ترتبط لديهم بالروح الدينية بالضرورة؟ ربما جاز أن يطلق المرء على هذه
الاتجاهات اسم «الصوفية العلمية»، ولكن هذه تختلف تمامًا عن الصوفية المنبثقة من الدين
والتي تستهدف غايات فوق الطبيعة. وإنه لغريب حقًّا أن يشارع مؤرخو الفلسفة إلى وصف كل
اتجاه تتمثل فيه مثل هذه النظرة الشاملة إلى الكون، أو مثل هذا النظام الشخصي والأخلاق
الذاتية الرفيعة التي يفرضها الباحث على ذاته، بأنه يعبِّر عن ميل صوفي (بالمعنى فوق
الطبيعي) أو ديني لدى الباحث، مع أن هذه النزعات قد تظهر في إطار يختلف عن ذلك تمامًا،
ولا يُعترف فيه إلا بالطبيعة وقوانينها الضرورية. وليس من الصحيح أن يُنظر إلى مجال
التصوف بمعناه الديني على أنه هو وحده الذي يحتكر كل نظرة انفعالية شاملة إلى الطبيعة
أو إلى الإنسان أو إلى التاريخ؛ لأن الانفعال المستمد من التبصر فيما هو كلي أو عام من
حق الجميع، وهو بلا جدال حق يمارسه أصحاب الاتجاهات العلمية الدقيقة، ممن لا يتعدى
إيمانهم النطاق الطبيعي الدقيق. وفي اعتقادنا أن «واحدية» اسپينوزا، وما يبدو فيها من
صوفية، لم تكن إلا من هذا النوع، ولم تستمد إلا من إدراكه للضرورة الشاملة المتحكمة في
الكون، والتي تستبعد القول بأي كائن يعلو على الطبيعة أو غاية تتجاوز نطاقها.
(٣) العلاقة بين الذهن والجسم
يُعد رأي اسپينوزا في العلاقة بين الذهن والجسم من أوضح المظاهر الإيجابية للروح
العلمية في تفكيره؛ إذ إنه كان مختلفًا كل الاختلاف عن الاتجاهات السابقة للرأي في هذه
المسألة، وظل خارجًا عن المألوف في تاريخ الفلسفة حتى بعد أجيال عديدة من ظهوره. ولقد
كان النقد الأساسي الذي وجَّهه إلى النظريات السابقة في هذا الموضوع، ولا سيما نظرية
ديكارت الثنائية القاطعة، هو ما كانت تتسم به من طابع غير علمي؛ فهو يحمل بشدة، في
أسلوب ساخر، على تلك الهوة العميقة التي وضعها ديكارت بين الجسم والنفس، ويزداد سخرية
من هذه النظرية حين تحاول عبور هذه الهوة عن طريق فكرة واضحة التفاهة كفكرة الغدة
الصنوبرية، ويُعرب عن دهشته من أن يقول بمثل هذه الآراء فيلسوف اتخذ من الوضوح والتميز
معيارًا لتفكيره، ومن نقد الصفات الخفية شرطًا ضروريًّا لمنهجه.
٢٦
وأساس الحل الذي يأتي به اسپينوزا لمشكلة العلاقة بين الذهن والجسم هو رأيه الذي سبق
أن عرضناه في «صفات الجوهر»؛ فكلٌّ من الصفتين: الفكر والامتداد، ينتظم الكون بأسره،
وكل شيء فيه لا على أساس تقسيم الكون إلى مجالين منفصلين تشغل كلٌّ من هاتين الصفتين
واحدًا منه، وإنما على أساس أن الكون وكل شيء فيه يحمل الصفتين معًا في آن واحد، بحيث
تكون هذه الصفة هي الجوهر ذاته، أو مكوناته، منظورًا إليه من إحدى وجهتَي نظر
ممكنتين.
ونستطيع أن نعد حل اسپينوزا لمشكلة الذهن والجسم في الإنسان نقلًا مباشرًا لهذه
الفكرة من مجال الكون بأسره إلى مجال الإنسان؛ إذ إن الذهن لا يعدو أن يكون صفة الفكر
كما تتمثل في الإنسان، والجسم صفة الامتداد فيه. أما الإنسان ذاته فيمكن أن يعد ذهنًا
كله وجسمًا كله، تبعًا لوجهة نظرنا إليه. ويعبِّر اسپينوزا عن هذه الفكرة بوضوح فيقول:
«… إن الذهن والجسم شيء واحد، يُنظر إليه في الحالة الأولى من خلال صفة الفكر وفي
الحالة الثانية من خلال صفة الامتداد؛ وبناءً على ذلك فإن ترتيب الأشياء وتسلسلها يكون
واحدًا، سواء نظرنا إلى الطبيعة من خلال إحدى الصفتين أو من خلال الأخرى.»
٢٧
ولقد رأينا في صدد الحديث عن علاقة الفكرة بموضوعها عند اسپينوزا، أنه لا يعد هذه
العلاقة اتصالًا بين طرفين متغايرين، وإنما الفكرة عنده هي ذاتها الموضوع، وليس لها
كيان بذاتها؛ فهي الموضوع منظورًا إليه من خلال صفة الفكر. وفي ضوء هذا الفهم للعلاقة
بين الفكرة وموضوعها نستطيع أن نفهم تشبيه اسپينوزا للعلاقة بين الذهن والجسم بعلاقة
الفكرة بموضوعها: «فموضوع الفكرة التي تؤلِّف الذهن البشري هو الجسم، أو هو بعبارة
أخرى: لا يعدو أن يكون حالًا من أحوال الامتداد موجودًا بالفعل.»
٢٨
ورغم وضوح أفكار اسپينوزا في هذه المشكلة إذا ما نظر إليها في ضوء العناصر العامة
لفلسفته؛ فقد أسيء فهم مقصده الحقيقي في كثير من الأحيان، مثال ذلك أن ولفسون يصف رأي
اسپينوزا القائل إن «الذهن فكرة الجسم» بأنه «لا يعدو أن يكون طريقة جديدة للتعبير عن
تعريف أرسطو للنفس بأنها صورة الجسم.»
٢٩ ورغم أن رأي أرسطو قد يكون أقرب الآراء التقليدية إلى ما قصده اسپينوزا،
فما زال من الصحيح مع ذلك أن الصورة عنده، رغم استحالة انفصالها عن المادة، أعلى منها
مرتبةً بالفكر على الأقل. هذا فضلًا عن إمكان وجود مادة مطلقة في أدنى درجات سُلَّم
الوجود عنده، وصورة مطلقة في أعلى هذه الدرجات. أما عند اسپينوزا، فلا يمكن أن تكون بين
هذين الوجهين للحقيقة الواحدة مفاضلة؛ لأن كل شيء قابل لأن يُنظر إليه من خلال أحدهما
أو الآخر.
ويرى «داربون» أن اسپينوزا يقول «بالتوازي» بين الذهن والجسم، وأن هذه هي طريقته
في
إثبات اتحاد الذهن بالجسم،
٣٠ وتعبير «التوازي» هذا من التعبيرات المألوفة في وصف نظرية اسپينوزا هذه،
ولكنه تعبير غير دقيق؛ لأنَّ التوازي يقوم بين شيئين مختلفين متميزين يحتل كلٌّ منهما
مجاله الخاص، بينما العلاقة بين الذهن والجسم عند اسپينوزا هي، كما رأينا، علاقة وجهَي
حقيقة واحدة.
ولكن الخطأ الأكبر، في رأينا، هو أن تُفهم فكرة اسپينوزا فهمًا مثاليًّا، فتفسر
دلالتها بأنها هي صبغ ما يجري في الجسم بصبغة ذهنية أو روحية. ومثل هذا التفسير يظهر
لدى «سو
Saw»، التي تفسر قول اسپينوزا إن نظام الأفكار
وترابطها هو ذاته نظام الأشياء وترابطها (وهو القول الذي يعد رأيه في الجسم والذهن
تطبيقًا جزئيًّا له) بأنه يعني أن «الواقع هو الترابط المنتظم للأفكار»
٣١ — وهو تفسير إذا نقل إلى مجال العلاقة بين النفس والجسم لكان معناه رد ما
يحدث في الجسم إلى العنصر الذهني.
هذا التفسير باطل تمامًا لعدة أسباب:
- (أ)
فاسپينوزا قد بدأ، في عبارته السابقة، بالكلام عن نظام الأفكار، وردَّه
إلى نظام الأشياء؛ أي إنه فسَّر الأول بالثاني، والترتيب هنا غاية في
الأهمية؛ لأنه لو كان قد قال: إن النظام والارتباط بين الأشياء هو ذاته
النظام والارتباط بين الأفكار، لكان المعنى في هذه الحالة مختلفًا كل
الاختلاف، ومؤيدًا للتفسير المثالي.
- (ب)
والسبب الثاني هو أنَّ اسپينوزا، رغم تأكيده أن مجال الأفكار والأشياء
واحد، قد أبدى ميولًا مادية واضحة، وظهر ذلك بكل وضوح عندما طبق رأيه العام
في العلاقة بين الفكر والامتداد على مشكلة الجسم والذهن، وسنتناول هذه
النقطة الآن بالتفصيل لأهميتها الكبيرة، ولما تلقيه من ضوء على الاتجاهات
الحقيقية لفلسفة اسپينوزا.
فقد رأينا اسپينوزا يحرص على أن يعدَّ الجسم موضوعًا للفكرة التي يكونها الذهن
البشري؛ وعلى ذلك فالذهن لا يمكن أن يفهم إلا إذا فُهم موضوعه؛ أي الجسم. ويبدو أن
اسپينوزا قد شعر أن الذهن وحده هو الذي كان يحظى على الدوام باهتمام الفلاسفة، وأن
الجسم وقدراته كان موضوعًا للتجاهل والاحتقار من جانب الفلاسفة، والدليل على ذلك قوله:
«إن أحدًا لم يوضح حتى الآن حدود قوى الجسم؛ أي إن التجربة لم تكشف لأحد بعد عما يستطيع
الجسم أداءه بقوانين الطبيعة وحدها، بقدر ما يُنظر إلى الطبيعة أنها ممتدة. فلم يكتسب
أحد حتى الآن من المعرفة الدقيقة بتركيب الجسم ما يمكنه من تفسير جميع وظائفه، كما أنني
لست بحاجة إلى أن أشير هنا إلى ما يلاحظ في الحيوانات الدنيا من أفعال عديدة تفوق حكمة
البشر بكثير، وإلى أن المصابين بمرض السير أثناء النوم يقومون أثناء نومهم بأفعال كثيرة
لا يجرءون على القيام بها وهم أيقاظ، فهذه الأمثلة تكفي لإثبات أن الجسم يستطيع بقوانين
طبيعته الخاصة وحدها أن يقوم بأفعال كثيرة يحار لها العقل. وفضلًا عن ذلك فلا أحد يعرف
كيف، أو بأي الوسائل، يقوم الذهن بتحريك الجسم، ولا عدد درجات الحركة التي يستطيع الذهن
أن يبعثها فيه، أو مدى السرعة التي يمكنه تحريكه بها. وهكذا فإن الناس عندما يقولون:
إنَّ أصل هذا الفعل الجسمي هو الذهن الذي يسيطر على الجسم، إنما يستخدمون ألفاظًا لا
معنى لها، أو يعترفون بألفاظ ملتوية بأنهم يجهلون سبب الفعل الذي يتحدثون عنه دون أن
تتملكهم لذلك دهشة.»
٣٢ وهكذا حرص اسپينوزا على أن يتخلص من هذا الأسلوب الساذج في معالجة الأمور،
وقرر أن يكمل النقص في معلومات الفلاسفة عن طريق محاولة إيضاح طبيعة الذهن ذاته من خلال
موضوعه الذي هو الجسم. وقد بلغ اهتمامه بهذا الموضوع حدًّا يجعل التفسير المادي لفلسفته
أمرًا غير بعيد الاحتمال — وإلا فكيف يفسِّر المرء كون الحديث عن «الجسم» يحتل الجزء
الأكبر من الباب الثاني من «الأخلاق» وهو الباب الذي كان يبحث، حسب عنوانه، في «أصل
الذهن وطبيعته»؟
في ملحوظة القضية ١٣ من الباب الثاني من «الأخلاق»، يحدد اسپينوزا معالم اتجاهه —
الذي كان جديدًا كل الجِدة بالنسبة إلى ما سبقه في تاريخ الفلسفة — بأنه محاولة فهم
طبيعة الذهن البشري من خلال الجسم «فبقدر تفوُّق أي جسم على غيره في ملائمته لأداء
أفعال عديدة أو تلقِّي انطباعات متعددة في وقت واحد، يكون الذهن الذي يتخذ من ذلك الجسم
موضوعًا له، أقدر من غيره على تكوين عدة إدراكات في آنٍ واحد» …
وتلي ذلك مجموعة من القضايا التي تتضمن كلها تمجيدًا للجسم وإظهارًا لأهميته في إيضاح
طبيعة القدرات الذهنية للإنسان. وهكذا يقول: «إن الذهن البشري قادر على إدراك عدد كبير
من الأشياء، ويكون أقدر على ذلك بقدر ما يتمكن جسمه من تلقِّي عدد أكبر من الانطباعات.»
٣٣ ثم يأتي بعدة قضايا تتضمن تفسيرًا ماديًّا لقدرات الذهن التي تتم دائمًا من
خلال الجسم — ومنها تفسير مادي للذاكرة
٣٤ يستبق به اسپينوزا فكرة تداعي المعاني عند هيوم، فيقول: «إذا ما تأثر الجسم
البشري ذات مرة بجسمين أو أكثر في آنٍ واحد، فإن ذهنه عندما يتخيل أيًّا منهما فيما
بعدُ، يتذكر الآخر بدوره على التوِّ.»
٣٥ وفي ملحوظة القضية ذاتها يقول: «والآن ندرك بوضوح ما هي الذاكرة؛ فما هي
إلا ترابط معين للأفكار يتعلق بطبيعة الأشياء الخارجة على الجسم البشري، وهو ترابط ينشأ
في الذهن وفقًا لنظام وترابط الأحوال التي تطرأ على الجسم البشري.» بل إن معرفة الذهن
لذاته لا تتم إلا من خلال ما يدركه الذهن من الأفكار الخاصة بتغيرات الجسم.
٣٦
ومع ذلك فمن الضروري أن نحذر تفسير هذه الأفكار عند اسپينوزا بأنَّها تعني أن للجسم
تأثيرًا مباشرًا في الذهن؛ فهذا أبعد ما يكون عما يقصده. إن كل ما يقوله هو أن قدرات
الذهن تفسر من خلال قدرات جسمه؛ أي إنَّ الحقيقة الواحدة، التي هي الإنسان، تكون ذا
ذهن
أوسع قدرة إذا كان جسمها، الذي هو الوجه الآخر للحقيقة نفسها، أقدر على تكوين
الانطباعات والاتصال بالعالم المحيط به. ولكنه في الوقت ذاته يحذر بشدة من فهم هذه
الآراء على أنها تشير إلى تأثير لأحد الوجهين في الآخر، فيقول: «لا الجسم يستطيع أن
يدفع الذهن إلى التفكير، ولا الذهن يستطيع أن يدفع الجسم إلى الحركة أو السكون أو أية
حالة تختلف عن هاتين، إن وجدت.»
٣٧ وفي ملحوظة القضية نفسها يحدد موقفه من هذه المسألة بوضوح فيقول: إن
التغيرات التي تحدث في الجسم؛ أي حركات الجسم وسكناته، تحدث لأسباب جسمية فحسب، وليس
للذهن دور فيها، ويدافع اسپينوزا دفاعًا طويلًا عن فكرة استحالة تأثير الإرادة الواعية
في الأفعال الجسمية، على أساس أننا — كما قلنا من قبلُ — لا ندرك تمامًا مدى قدرة
الجسم؛ ولذلك ينبغي أن نكفَّ عن الإهابة بأسباب خفية (كالإرادة) لتفسير ما نجهله، ومن
الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إثارة مسألة حرية الإرادة، التي سنتحدث عنها فيما بعدُ حديثًا
مفصلًا، ولكن لا مفر هنا من اقتباس رأيه بقدر ما يتصل بموضوع النفس والجسم، «… فالناس
يظنون أنفسهم أحرارًا، لمجرد كونهم واعين بأفعالهم، وغير واعين بالأسباب المتحكمة في
هذه الأفعال … وهذه الاعتبارات كلها تُثبت بوضوح أن الأوامر الذهنية تقترن دائمًا
برغبات جسمية، أو أنهما على الأصح شيء واحد، نسميه أمرًا عندما ننظر إليه ونفسره من
خلال صفة الفكر، ونسميه تحددًا عندما نتأمله من خلال صفة الامتداد، ونستنبطه من قوانين
الحركة والسكون.»
٣٨
وفي رأيي أن فكرة اسپينوزا عن ازدياد قدرة الذهن — وبالتالي قدرة الكائن الحي بأسره
—
كلما ازدادت الانطباعات الواقعة على جسمه وكلما ازداد اتصاله بالأجسام الأخرى في العالم
المحيط به. هذه الفكرة تعبِّر عن مبدأ علمي وجد أقوى تأكيد له في نظرية التطور في القرن
التاسع عشر. فمن اليسير جدًّا الانتقال من فكرته هذه إلى المبدأ التطوري القائل ببقاء
الأنواع الأقدر على «التكيف» مع العالم المحيط بها. والمذهبان معًا مذهب اسپينوزا
ونظرية التطور — يؤكدان أهمية تعامل الجسم مع العالم الخارجي في ارتقاء الحياة، ويكاد
اسپينوزا ذاته يقول: إنَّ الحيوان يحتل مكانة عالية في سلم الأحياء إذا كان أقدر من
غيره على الاتصال بالعالم والتعامل معه على شتى الأنحاء؛ أي كلما ازدادت «حكمة جسمه»
وكمال تركيبه.
٣٩ أما المعترضون على ذلك، فإنه يرد عليهم ردًّا علميًّا صرفًا، فيقول: هل
اكتملت دراستكم للجسم حتى تعترضوا؟
فإذا ما أردنا وصفًا للصورة العامة لعلاقة المجال الجسمي بالمجال الذهني فلن نجد أفضل
مما كتبه في رسالته رقم ٣٢، حين قال: «… إنَّ جميع أجسام الطبيعة … محاطة بأجسام أخرى
تتحكم في وجودها وحركتها على نحو دقيق محدد، على حين تظل كمية الحركة والسكون ثابتة في
جميع الأجسام، أي في الكون بأسره. ونتيجةً لذلك فإن كل جسم، بقدر ما يكون خاضعًا
لقوانين معينة، ينبغي أن يعد جزءًا من الكون بأسره، وأن يتفق ويتلاءم مع هذا الكل،
ويرتبط ببقية الأجزاء …
وهكذا نرى على أي نحو، ولأي سبب، أعد جسم الإنسان جزءًا من هذه الطبيعة. أما الذهن
البشري فإني أعتقد أنه بدوره جزء من هذه الطبيعة؛ فأنا أرى أن في الطبيعة قوة فكرية لا
متناهية. وهذه القوة تنطوي في ذاتها موضوعيًّا — بقدر ما هي لا متناهية — على الطبيعة
بأسرها؛ ومن ثم فإن لأفكار هذه القوة نفس نطاق الطبيعة التي لا تكون هذه الأفكار،
بالطبع، إلا التعبير الفكري عنها.
وإني لأرى كذلك أن الذهن البشري إنما هو هذه القوة ذاتها، لا من حيث هي لا متناهية
تدرك الطبيعة بأسرها، وإنما من حيث هي متناهية لا تدرك إلا الجسم البشري؛ ولذا أرى أن
الذهن البشري جزء من الذهن اللامتناهي.»
وهنا تعود مرة أخرى فكرة صفتَي الفكر والامتداد اللتين تنتظمان كل شيء، وتمثلان وجهين
لشيء أو جوهر واحد. وتظهر في هذا نتيجة جديدة لنظرية «الصفتين» هذه؛ فطالما أن الكون
كله، وكل شيء فيه، هو فكر وامتداد معًا، فمن المحال الكلام عن مادة جامدة، مثلما يستحيل
الكلام عن روح بلا جسد. وهكذا يمكن، من وجهة نظر معينة، أن يقال إن ذهننا جزء من
«ذهنية» كلية أو فكر شامل، هو الجزء الذي يرتبط بالجسم ويتقيد بحدوده. ويسري مثل هذا
الوصف على كل شيء، بحيث يستحيل القول: إنَّ الجماد جسم فحسب. وهكذا يظهر لدى اسپينوزا
ما يمكن أن يعد مذهبًا يقول «بشمول النفس panpsychism»
أو «بحيوية المادة hylozoism».
ولقد علل «فوير» هذا الوجه من أوجه تفكير اسپينوزا بأنه راجع إلى تأثره بكشف «العالم
الأصغر» بواسطة المجهر، حين اتضح — في أبحاث كان لعلماء عصره فضل كبير فيها — أن الحياة
كامنة في أدق المخلوقات التي كان يُظن أنها عدمت الحياة.
٤٠ ولكن هذا التعليل غير كافٍ؛ إذ إن اسپينوزا لم يكتفِ بتوسيع نطاق الحياة أو
نسبتها إلى بعض جوانب العالم التي لم تكن تُنسب إليها الحياة من قبلُ. وإنما كان للفكرة
لديه وظيفة «منطقية» قبل كل شيء؛ فهي وسيلته إلى القضاء على الثنائية القاطعة بين الفكر
والمادة، وهي مظهر لعبوره الحاسم للهوة بين عالم الامتداد وعالم الفكر. وإذا كان قد
وُجد من المفكرين السابقين من يقولون بشيوع الحياة، أو «الروح» في أغلب الأحيان، في
الكون، فإن غرض هؤلاء المفكرين كان يختلف تمامًا عن غرض اسپينوزا؛ فقد كان هؤلاء يرمون
إلى تأكيد سيادة الوجه الروحي في الكون، وربما إلى إثبات وجود «روح مطلقة» تتخلله. أما
هو فقد استخدم، على نحو بارع، فكرة شيوع الفكر في كل جوانب الكون — إلى جانب شيوع
الامتداد في نفس هذه الجوانب — لا لكي يدعم الرأي القائل بالروح المطلقة، بل ليقضي
تمامًا على إمكان ظهور هذا الرأي.
ولقد وُجد من الشُّراح من انتقدوا كثيرًا من آراء اسپينوزا التفصيلية في علاقة الذهن
بالجسم، ومن نبهوا إلى صعوبات جمة في فهم المعنى الحقيقي لقوله إن «الذهن فكرة الجسم».
٤١ وربما كان لمثل هذه الانتقادات ما يبررها، ولا سيما إذا توغلت في المقارنة
بين القضايا والبراهين، وحاسبته بدقة على كل لفظ يقوله في كل موضع، غير أني أعتقد أن
نظرية اسپينوزا تظل رغم ذلك مساهمةً مفيدة في حل مشكلة الذهن والجسم؛ فهو من الناحية
السلبية يقضي على التصور الشائع لهما على أنهما جوهران متميزان، وهو التصور الذي يجر
وراءه كل الأخطاء اللاهوتية والميتافيزيقية التي حفلت بها كتابات الفلاسفة، وبذلك يكون
قد أسدى إلى حضارة الإنسان خدمة كبرى إذا أثبت إمكان قيام نظرية لا تأخذ بفكرة الجوهرين
المستقلَّين: الجسمي والروحي. أما من الناحية الإيجابية، فإن اسپينوزا كان يخوض هنا
مجالًا شديد العمق والتعقيد، ومن الطبيعي أن تكون صعوبة التعبير، بالنسبة إلى من يريد
بحث هذه المسألة دون افتراض كيانات خفية، أشق كثيرًا مما هي لدى أولئك الذين يسهل عليهم
التخلص من كل صعوبة بإرجاعها إلى «الروح»، وأعتقد أنه ليس من الصعب — رغم ذلك كله — أن
يفهم المرء تفسير اسپينوزا لعلاقة الذهن والجسم بالقول إنهما وجهتا نظر مختلفتان لحقيقة
واحدة. ولا بد للمرء آخر الأمر من الرجوع إلى هذا التفسير، أو ما يشبهه، إذا شاء فهمًا
لهذه المشكلة لا تتخلله عناصر غير علمية؛ فالحل الذي أتى به اسپينوزا، رغم كل صعوباته
اللفظية أو الشكلية، يبدو أقرب الحلول إلى الروح العلمية الصحيحة. أما الحل الصحيح،
فإنه، كما قال اسپينوزا، يتوقف أولًا على معرفة الجسم وقدراته، وها نحن أولاء، في النصف
الثاني من القرن العشرين، لم نكد نبدأ بعدُ استطلاع هذا الميدان الحافل، ميدان معرفة
قدرات جسم الإنسان، ولا سيما قدرات «المخ»، والتحكم فيها. ومما لا شكَّ فيه أن كثيرًا
من غوامض العلاقة بين الذهن والجسم ستحل كلما تقدمت الكشوف في هذا الميدان الشاق،
ولكنا، على أية حال، كلما اكتشفنا جديدًا، سنظل دائمًا مدينين بالفضل لاسپينوزا لأنه
حذَّرنا من كل الحلول الهينة التي نتخلص فيها من صعوباتنا بافتراض كيانات خفية نعترف
بأننا لا نعلم عنها شيئًا، ومن كل الأحكام المتسرعة التي نصدرها جزافًا عن العلاقة بين
الذهن والجسم دون أن نكون قد تعمقنا أسرار عالم الجسم وعرفنا قدراته.
(٤) فكرة الضرورة
لقد كان القول بسيادة الضرورة، وما زال، من أهم الصفات التي تميِّز الروح العلمية،
وليس معنى ذلك أن هذه الروح تفترض وجود قوة «تُرغم» الظواهر على السير في طريق معينة،
بل إن كل ما تفترضه هو أن مجرى هذه الظواهر، إذا ما نُظر إليه في ذاته دون إقحام لأية
علل خارجية فيه، يكون منتظمًا خاضعًا لقوانين مستمدة منه ومعبرة عنه، وأن الظواهر
الفردية لا تحدث خبط عشواء، بل ينبغي أن تكون لها علة تفسرها، وأنه حتى في الحالات التي
لا يستطيع فيها العلم أن يحدد هذه العلة؛ لأن تطوره لم يصل إلى ذلك بعدُ، ينبغي «من حيث
المبدأ» أن نعترف بضرورة وجود هذه العلة، وبضرورة وجود القانون الذي يحكم العلاقة بين
الظواهر وعللها. ولقد ظهرت فلسفة اسپينوزا في المرحلة الأولى للعلم الحديث، وهي المرحلة
التي كان فيها مبدأ الضرورة، بوصفه مثلًا أعلى تسعى إليه كل معرفة بشرية، لا يزال
بعيدًا كل البعد عن التحقق — بل إنه لا يزال كذلك حتى الآن في مجالات غير قليلة، رغم
مل
ما أحرزناه من تقدم، ولكن عدم تحققه لا يعني عدم صحته. والقول بأننا لا نعرف من قوانين
الكون إلا قدرًا ضئيلًا إلى أبعد حد، لا يبرر على الإطلاق إنكار فكرة الضرورة، بوصفها
هدفًا يسعى إليه العلم؛ ففي كل تقدُّم علمي جديد، وفي كل فهم للمزيد من أسرار الكون،
نزداد اقترابًا من تحقيق المثل الأعلى للضرورة الكونية الشاملة، وإن كنا نعلم أننا سنظل
دائمًا بعيدين عن تحقيقه كاملًا، فقصور إدراكنا للقوانين الكونية الشاملة، لا يعني
تكذيب «المبدأ» القائل إن الأشياء تخضع لضرورة شاملة لو عرفنا قوانينها الكاملة لاكتمل
علمنا بالكون.
مثل هذه النظرة إلى العالم وما فيه من ظواهر طبيعية، كانت، على بساطتها، من أصعب
الأعمال التي حققها الفكر البشري؛ فقد ظل المفكرون على الدوام يضعون العقبات في وجه هذه
الضرورة الكونية المتحكمة، التي لم يكن فيها إرضاء لنزعة الإنسان إلى أن يرى صورته،
وآماله وأحلامه ومخاوفه، منطبعة على الكون. وهكذا حرص كثير من المفكرين، طوال تاريخ
الفكر الفلسفي، على أن يتركوا وسط هذه الضرورة الطبيعية ثغرات يجدون فيه مجالًا لطبع
الصورة البشرية على الكون. ولا نستطيع أن نقول إنَّ هذا الميل إلى الخلاص من موضوعية
الضرورة قد زال حتى في يومنا هذا.
وإذا كان القول بسيادة القانونية والضرورة في الطبيعة أمرًا صعبًا، فإن القول
بسيادتهما في مجال «الإنسان» أصعب كثيرًا؛ فقد اعتاد الإنسان أن يستثني نفسه من التيار
العام للظواهر الطبيعية، وأن يعد نفسه «سيدًا» لها، يفرض عليها قوانين لا يخضع هو ذاته
لها. وكان ينظر إلى عدم الخضوع هذا على أنه أكبر مظاهر علوِّ مكانته وارتفاع شأنه في
الكون. وكان لا بُدَّ له من نظام عقلي شديد لكي يقتنع بالمبدأ العام القائل إنه قد لا
يكون إلا جزءًا من الطبيعة، يسري عليه، في ميوله وانفعالاته، كل ما يسري عليها، وأن ما
يتوهمه في نفسه أفعالًا إرادية حرة لا ضابط لها ولا قانون، هي في حقيقة الأمر، لو عُرفت
الأسباب، أفعال ضرورية لا تختلف عن أي سلوك آخر لسائر مظاهر الطبيعة. ورغم كل ما أحرزه
الإنسان في مجال السيطرة على العالم الطبيعي من تقدُّم، فما زالت فكرة «القانونية» في
مجاله الخاص تلقى أشد مقاومة، ولا يستطيع أحد أن يقول إنها، حتى الآن، قد أصبحت هي
الغالبة.
ومع ذلك، فرغم أن فكرة سيادة الضرورة والقانونية في الطبيعة، وفي الإنسان على الأخص،
ما زالت تلقي في أذهان كثيرة مقاومة شديدة؛ ففي وسع مؤرخ الفلسفة أن يقول بكل اطمئنان
إن اسپينوزا كان مؤمنًا بهذه الفكرة إيمانًا مطلقًا، وأنه فعل الكثير لنشرها في وقت
كانت فيه الفكرة المضادة؛ فكرة العشوائية، والاتفاق، و«الحرية»، والغائية، هي المسيطرة
على الأذهان، وهي التي تُعد — بما تؤدي إليه من فتح المجال واسعًا لكل النزعات الصوفية
غير العلمية — دليلًا على الامتياز العقلي، أو على الأقل دليلًا على المزيد من التقوى
والورع، وهما صفتان لم يكن المفكر في ذلك العصر يسلم لو اتُّهِم بالافتقار إليهما. فعند
اسپينوزا تظهر في هذا المجال نزعة علمية لا شكَّ فيها، تقاس بأشد النزعات العلمية قوة
حتى في عصرنا هذا.
(٤-١) الضرورة في الكون وفي الإنسان
يعرض اسپينوزا مشكلة الضرورة والحتمية في «الرسالة القصيرة»، من خلال المصطلح
السائد في العصور الوسطى، على النحو الآتي: هل يستطيع الله أن يفعل غير ما فعل؟
ويرد على هذا السؤال، بنفس لغة المدرسين، فيقول إنه ليس من الكمال الإلهي أن يفعل
الله غير ما فعل، وأنه حتى لو أحدث تغييرًا فيما ظل يسير عليه لما كان هذا دليلًا
على المزيد من القدرة … وينتهي من ذلك إلى أن الله كان لا بُدَّ أن يفعل ما فعل،
وإلى أن الحرية الاعتباطية ليست على الإطلاق من الصفات الإلهية، ويؤكد ضرورة أحداث
الطبيعة نافيًا عنها كل القيم العرضية.
٤٢
هذا مثال واضح للأفكار العلمية الخالصة التي يعرضها اسپينوزا بلغة المدرسين؛
فالسؤال: هل كان الله يستطيع أن يفعل غير ما فعل؟ ليس إلا تعبيرًا — من خلال لغة
العصور الوسطى — عن السؤال: هل تسود الضرورة أو العرضية في الطبيعة؟ ولا جدال في أن
اسپينوزا ينتهي إلى الدفاع عن سيادة الضرورة بكل ما يملك من تحمُّس، ولكنه يصوغ هذا
الدفاع، أيضًا، في لغة مدرسية، فيقول إن الله لم يكن يشرف بفعل أي شيء غير ما فعل.
وبهذه الألفاظ الظاهرة البراءة يعبِّر اسپينوزا عن المبدأ الاسپينوزي الذي يرتكز
عليه العلم، وهو أن كل شيء يسير تبعًا لنظام أو قانون لا تغيير فيه، ويسد الطريق،
في الوقت ذاته، على فكرة المشيئة الإلهية الاعتباطية بكل ما لها من نتائج لاهوتية
متعددة.
وفي كتاب «الأخلاق» يتحدث اسپينوزا بمزيد من التفصيل عن مبدأ سيادة الضرورة في
الكون، فيصف هذا المبدأ أولًا بأنه ينتمي إلى طبيعة العقل البشري، أو أنه هو
الطريقة التي ينبغي أن ينظر بها العقل البشري (إذا أُحسِن استخدامه بالطبع) إلى
الأشياء، قائلًا: «ليس من طبيعة العقل أن ينظر إلى الأشياء على أنها عرضية، وإنما
على أنها ضرورية.»
٤٣ ولنلاحظ أن النتيجة الثانية لهذه القضية تقول: «إن من طبيعة العقل أن
ينظر إلى الأشياء من منظور الأزلية
sub quodam aeternitatis
specie» وبذلك يكون نظر العقل إلى الأشياء من منظور الأزلية
مرتبطًا بتحكم الضرورة، وتُنفى عن فكرة «الأزلية» في هذا الصدد كل ارتباطاتها
الدينية، وتصبح تعبيرًا عن ذلك الوجه الدائم للأشياء، الذي تكتسبه لمجرد كونها
خاضعة لقانون ضروري يستبعد كل عنصر عرضي فيها. ويلخص اسپينوزا موقفه في قضية نستطيع
أن نسميها «قضية الضرورة المطلقة» فيقول: «لا شيء في الكون عرَضيٌّ، بل كل شيء
يتحدد وجوده، ويسلك، على نحو معين وفقًا لضرورة الطبيعة الإلهية.»
٤٤ ولنذكر هنا، في صدد العبارة الأخيرة، ربطه بين «الطبيعة الإلهية» وبين
«الضرورة»، وتأكيده، الذي أشرنا إليه من قبلُ، أن الضرورة تسري على الأفعال الإلهية
ذاتها، وبذلك يكون المعنى الحقيقي للعبارة هو في واقع الأمر «وفقًا للضرورة
الكونية» أو «وفقًا لقوانين الطبيعة».
أما الأشياء الفردية فيقول عنها: إنَّ «كل شيء فردي، متناهٍ، متحدد في وجوده، لا
يوجد أو يتحدد فعله إلا بعلَّة أخرى هي بدورها متناهية وذات وجود متحدد. وهذه
بدورها تتحدد بشيء متناهٍ متحدد. وهكذا إلى ما لا نهاية.»
٤٥ ومعنى ذلك أنه لا توجد قوى خارجية تتحكم في الأشياء الموجودة في هذا
العالم، وأن ظواهر الطبيعة ينبغي أن تفسر بقواها الخاصة فقط، وأن من الواجب البحث
عن علة طبيعية فقط — لا أي نوع آخر من العلل — لكل ما في الكون.
ومن طبيعة الجسم الفردي أنه يحتفظ بطبيعته إذا تغيرت حركته وظلت مع ذلك محتفظة
بمقدارها العام، أو إذا عرضت حركة جديدة فيه كل حركة قديمة زالت، أو إذا كان مركبًا
وحلَّت فيه أجسام فردية محلَّ أجسام أخرى زالت، وكانت لها نفس طبيعتها. وعلى أساس
هذه الفكرة الميكانيكية الخالصة، فكرة الأجسام الفردية التي تظل محتفظة بطبيعتها
العامة رغم اختلاف حركاتها الداخلية، يفسِّر اسپينوزا الكون كله تفسيرًا مماثلًا،
ويرسم له صورة ميكانيكية تسودها القانونية المطلقة، فيقول: «نستطيع أن نرى، مما
سبق، كيف أن الفرد المركب يمكن أن يتأثر على أنحاء شتى، ويظل مع ذلك محتفظًا
بطبيعته. ولقد ظللنا حتى الآن نبحث في الفرد المؤلَّف من أجسام لا يتميز بعضها عن
الآخر إلا في الحركة والسكون، والسرعة والبطء؛ أي من أبسط أنواع الأجسام. أما إذا
تصورنا فردًا آخر مؤلَّفًا من عدة أفراد لهم طبائع متباينة، فسنجد أن عدد التأثرات
التي يمكن أن تحلَّ عليه دون أن يفقد طبيعته يتضاعف كثيرًا … فإذا ما تصورنا نوعًا
ثالثًا من الأفراد، يتألف من أفراد من هذا النوع الثاني، فسنجد أنه يمكن أن يتأثر
على أنحاء أعظم كثيرًا من هذه، دون أن تتغير حقيقته، ومن السهل أن نمضي على هذا
النحو إلى ما لا نهاية، ونتصور الطبيعة بأسرها على أنها فرد واحد، تتغير أجزاؤه؛ أي
جميع الأجسام، على أنحاء لا متناهية، دون أن يطرأ أي تغيير على الفرد في مجموعه.»
٤٦
•••
أما على المستوى الإنساني،
٤٧ فإن نفس فكرة الضرورة هي السائدة؛ ذلك لأن الحرية التي تُنسب إلى
الإرادة البشرية ليست، في واقع الأمر، إلا جهلًا بالأسباب. والواقع أن كل ما هو
جزئي؛ أي كل ما يرتبط في وجوده بغيره، ويستمد منه عناصر ضرورية لهذا الوجود، هو
بحكم هذا الارتباط ذاته فاقد لحريته، «فالشيء يكون حرًّا
libera إذا وُجد بضرورة طبيعته فحسب، وإذا تحدد فعله بذاته فحسب،
ومن جهة أخرى يكون الشيء ضروريًّا، أو على الأصح مرغمًا
coacta، إذا تحكَّم شيء خارج عنه في وجوده أو فعله على نحو ثابت محدد.»
٤٨
ولنلاحظ، في صدد النص السابق، أن استدراكه الذي استبدل فيه كلمة «مرغم» بكلمة
«ضروري» كان استدراكًا لا بُدَّ منه، بل كان ينبغي عليه حذف كلمة «الضروري» تمامًا
من سياق الجزء الثاني من التعريف؛ ذلك لأن اسپينوزا هو الذي أكد مرارًا الفارق بين
«الضرورة» و«القهر»، وربط، من جهة أخرى، بين الضرورة والحرية؛ فالضرورة في رأيه
تحدد باطن، أما القهر فهو خضوع لقوة خارجية. ومن الممكن، بهذا المعنى، أن يكون
الشيء ناتجًا عن الضرورة والحرية في آنٍ واحد: «فرغبة المرء في أن يحيا ويحب … إلخ،
ليست نتيجةً لقهر، ولكنها مع ذلك ضرورية.»
٤٩ وبعبارة أخرى: فاسبپينوزا لا يفهم الحرية إلا من حيث هي مرتبطة بمثل
هذه الضرورة الذاتية. أما الحرية الأخرى، حرية الإرادة، وحرية الاختيار على غير
أساس، فهي التي يرفضها اسپينوزا تمامًا.
وعلى أساس هذه التفرقة بين معنيَي كلمة «الحرية» نستطيع أن نفسِّر ظاهرةً قد تبعث
في نفس القارئ، لأول وهلة، قدرًا غير قليل من الدهشة؛ ذلك لأن اسپينوزا لا يملُّ من
تكرار القول بأن فكرة الحرية واهمة، وأنها مظهر خدَّاع لا وجود له. ولكنه في نفس
الكتاب الذي يؤكد فيه هذه الفكرة بكل قوة — أعني كتاب «الأخلاق» — يؤكد أن هدفه هو
عرض أخلاق «الإنسان الحر» ويكرس الباب الأخير منها للحديث عن حرية الإنسان. فكيف
إذن نوفق بين هذين المظهرين في فلسفته؟ لا شكَّ في أن الحرية، كما عناها اسپينوزا
في «الباب الخامس»، هي تلك الحرية الناجمة عن التحكم الذاتي، كما رأينا في تعريفه
السابق؛ ففي هذا الباب يتحدث اسپينوزا عن الطريق الذي يسير فيه العقل حين يكتشف
الضرورة الكامنة في الكون، فيحرر ذاته عن طريق فهم طبيعته وعلاقته بالعالم فهمًا
كاملًا. مثل هذا التحرر الناجم عن إدراك الإنسان لموقعه الحقيقي في الكون، قد
يُسمَّى من جهة «ضرورة»؛ لأن فكرة الضرورة هي التي تغدو الفكرة المسيطرة على نظرته
إلى نفسه وإلى الأشياء عندئذٍ، ولكنه يمكن أن يسمَّى أيضا «حرية» لأن الحقيقة تحرر
الإنسان؛ ومن هنا كشف عنوان الباب عن سبب هذه الحرية، وهو العقل؛ إذ كان موضوع
البحث فيه هو: «في قوة العقل أو حرية الإنسان».
(٤-٢) الحملة على الغائية
ترتبط الحملة على الغائية بتأكيد
فكرة الضرورة ارتباطًا وثيقًا: ذلك لأن العامل الأساسي الذي حال دون تأكيد فكرة
الضرورة في كل العصور هو رغبة الإنسان في تأمُّل الطبيعة وفقًا لغاياته الخاصة؛ فهو
يترك الطبيعة فيها للصدفة والاتفاق حتى يجد فيها مجالًا لتأكيد الغايات المتفقة مع
طبيعته وأمانيه، وحتى يستطيع أن يقول إن ظواهر الطبيعة «تهدف» إلى غايات شبيهة
بغاياته الخاصة؛ ومن هنا كان نفي الغائية، في واقع الأمر، وجهًا آخر من أوجه تأكيد
اسپينوزا لفكرة الضرورة.
وتتضمن مقدمة الباب الرابع من «الأخلاق» عرضًا دقيقًا لحملة اسپينوزا على
الغائية، كتب بأسلوب مسترسل تشيع الروح العلمية الصحيحة في كل كلمة فيه: «فالطبيعة
لا تعمل مستهدفة غايةً ما؛ ذلك لأن الكائن الأزلي اللامتناهي، الذي نسميه الله أو
الطبيعة، يسلك وفقًا لنفس الضرورة التي يوجد بها … أي إن السبب أو العلة التي تجعل
الله أو الطبيعة موجودًا، والسبب الذي يجعله يسلك، هو سبب واحد … وليس لوجوده وفعله
أصل ولا غاية؛ ومن ثم فإن العلة التي تسمى غائية ليست إلا الرغبة البشرية، بقدر ما
تعد أصلًا أو علة لأي شيء.» وبعبارة أخرى: فإن نفس القوانين التي تستخلص من السير
الفعلي للطبيعة، هي ذاتها ما يُسمَّى بقوانين المسلك الإلهي، ومن المحال أن تستهدف
الطبيعة أية غاية، بل إن مسارها كله ضروري، ومستمد من ضرورة وجودها فحسب.
ويؤكد اسپينوزا في تذييل الباب الأول من «الأخلاق» أن أخطاء الناس وتغرضاتهم ترتد
كلها إلى خطأ واحد أساسي: «فالناس في عمومهم يظنون أنَّ كل الأشياء الطبيعية تسلك،
مثلهم، مستهدفة غايةً ما، بل إنهم يوقنون بأن الله ذاته يدبِّر كل شيء مستهدفًا
غاية معينة؛ إذ يقولون إن الله خلق كل شيء من أجل الإنسان، ولكنه خلق الإنسان
ليتلقى منه عبادته.» ويعلل اسپينوزا هذا الاعتقاد بالغائية بأنه راجع إلى اعتياد
الإنسان استخدام الأشياء الطبيعية «وسائل» لتحقيق غاياته. ولما كان الإنسان يصنع
كثيرًا من هذه الأشياء بيديه؛ فقد اعتقد أن في الطبيعة صانعًا أو عدة صناع
٥٠ مهمتهم تشكيل الطبيعة وفقًا لما يُرضي الإنسان. ومن جهة أخرى؛ فقد
اعتقدوا أن ما تسببه الطبيعة من كوارث ونكبات، سببه غضب الآلهة على الناس لانعدام
تقواهم، رغم ما يرونه بأعينهم من أن هذه الكوارث تصيب التقيَّ وغير التقيِّ معًا،
وحتى لو تنبَّه أحدهم إلى ذلك، فإنه يؤثِر أن يقول إن ذلك راجع إلى حكمة لدى الآلهة
تتجاوز نطاق فهمه، ويفضل أن يحكم على عقله بالعجز بدلًا من أن يراجع تفسيره منذ
البداية. ويؤكد اسپينوزا أن القول بأن الله يسلك وفقًا لغاية ما، إنما هو حكم على
الله بالحرمان من أشياء يرغب في تحقيقها. وهو يفسِّر التجاء الناس إلى التفسير
الغائي بجهل الأسباب: «إذ إنهم يعلمون أن الجهل ما إن يختفي، حتى تزول تلك الدهشة
التي هي وسيلتهم الوحيدة إلى الدفاع عن آرائهم وحفظ سلطتهم. وهكذا يختار الناس من
الصفات ما يلائم أمزجتهم أو يوافق خيالهم، وينسبونها إلى الأشياء ذاتها، لاعتقادهم
بأن هذه الأشياء إنما صنعت من أجلهم.»
والحقُّ أن تذييل الباب الأول من الأخلاق، الذي أوردنا هنا قليلًا من حججه، هو من
أروع الصفحات التي كتبها ذهن متحرر تمامًا من الأوهام وصل بتفلسفه إلى قمة الروح
العلمية النقية من كل شائبة. وأشك جدًّا في أن كثيرًا من المفكرين المعاصرين، حتى
المشتغلين بالشئون العلمية منهم، يمكنهم الوصول إلى هذه المرتبة الرفيعة في تأمُّل
الطبيعة على نحو خلا تمامًا من كل الأوهام الغائية التي طالما أفسدت تفكير البشر.
وإني لأُذكِّي هذا التذييل ليكون قراءة إجبارية لكلِّ من يُزمع اتخاذ البحث العلمي
— بأية صورة من صوره — ميدانًا للعمل. والأمر الذي يدعو إلى الإعجاب حقًّا أن يتملك
هذا اليقين العلمي ذهنًا في القرن السابع عشر، الذي كان التفكير العلمي فيه ما يزال
مختلطًا بكثير من شوائب العصور الوسطى، حتى لنجد بين كبار فلاسفته، ممن مارسوا
البحث العلمي ممارسة حقيقية، مثل ديكارت وليبنتس، مَن تحفُل كتاباتهم بآثار النزعة
الغائية اللاعلمية، وإنا لنتفق تمامًا مع حكم «سيڨك» القائل: «إن اسپينوزا من أكبر
أعداء نظرية الغائية. وهو لم يكتفِ بإنكارها كما فعل الكثيرون غيره. بل لقد عمل على
إثبات استحالتها إيجابيًّا، وعلى إيضاح أصولها التاريخية والنفسية، وعرض نظرية ترمي
إلى الحلول محلها.»
٥١ فإذا كان إنكار الغائية وحده يعدُّ من أقوى مظاهر الروح العلمية
السليمة، فلا جدال في أن محاولة تفسيرها نفسيًّا وتاريخيًّا تعد مساهمة أعظم في دعم
هذه الروح العلمية، وهي مساهمة تدعو إلى الاستغراب حقًّا بالنسبة إلى العصر الذي
عاش فيه اسپينوزا.
ويقدم اسپينوزا تفسيرًا لسلوك الأحياء — ومنها الإنسان ذاته — خلا تمامًا من كل
نوع من الغائية. ويقوم هذا التفسير على نزوع conatus الكائنات كلها إلى حفظ وجودها، وهو نزوع طبيعي بحت، لا شأن
له بأية غاية. وهو يصف نزوع الكائنات إلى الاستمرار في الوجود بأنه ماهيتها
الفعلية، ويعقب على هذه الملاحظات العامة بقوله: «إن هذا النزوع، عندما يتعلق
بالذهن وحده، يُسمَّى بالإرادة، وعندما يتعلق بالذهن والجسم مقترنَين يُسمَّى
بالميل الاشتهائي Appetitus وما هو في الواقع إلا
ماهية الإنسان، التي تتلو منها بالضرورة كل النتائج الرامية إلى حفظه والتي يتحتم
على الإنسان بالتالي أداؤها.
… والرغبة هي الميل الاشتهائي مصحوبًا بالإدراك الواعي له. وهكذا فمن الواضح مما
قلناه أننا لا نسعى على الإطلاق إلى أي شيء أو نتمناه أو نتوق إليه أو نرغبه؛ لأننا
نعتقد أنه شيء طيب، بل إننا على العكس من ذلك نراه شيئًا طيبًا لأننا نسعى إليه أو
نتوق إليه أو نرغبه.»
٥٢ مثل هذا التفسير — الذي طالما نوَّه عنه الباحثون باستباقه لبعض
النظريات الحديثة في علم النفس، مثل نظرية چيمس-لانجه في علاقة الانفعالات بأسبابها
— كان انقلابيًّا بالنسبة إلى عصر اسپينوزا، وهو، وإن يكن قائمًا على أساس نظري
بحت، محاولة لها قيمتها الكبرى لاستبعاد كل العناصر الغائية من مجال السلوك البشري،
ولإيجاد مبدأ واحد طبيعي صرف — بل قد يُعد ميكانيكيًّا من وجهة نظر معينة — هو مبدأ
نزوع الكائن إلى حفظ وجوده أو الاستمرار في وجوده، وعن طريق هذا المبدأ، الذي لا
يداخله أي عنصر غائي أو تقويمي، ينتقل اسپينوزا تدريجيًّا إلى تفسير كل أوجه السلوك
البشري على نحو لا تكون فيه إلا مظاهر لاتجاه مطرد، لا ينطوي على أي تباين كيفي،
يسعى فيه الإنسان، كسائر الكائنات الحية، إلى حفظ وجوده وإبقائه مستمرًّا، ولا تكون
الغايات الظاهرة للسلوك إلا تعبيرًا معقدًا، غير دقيق، عن هذا النزوع
الأصلي.
•••
ولا شك أن القضاء على الغائية في سبيل تأكيد فكرة الضرورة، يرتبط حتمًا بفلسفة
خاصة في القيم تنكر كل ما لهذه القيم من طابع أنتولوجي أو وجود واقعي، وتتضح معالم
هذه الفلسفة عند اسپينوزا في عبارته الموجزة: «الواقع والكمال عندي لفظان مترادفان.»
٥٣ ولا جدال في أن الطرف الثابت في هذا الترادف، عند اسپينوزا، هو الواقع،
والطرف الذي يرد إلى الآخر هو الكمال، فليس لهذه العبارة أية صلة بالنظريات التي
تجعل الكمال صفة من صفات الواقع أو تضفي على الكمال دلالة أنتولوجية، بل إنها، على
العكس من ذلك، ترمي إلى تأكيد أن ما نسميه كمالًا أو نقصًا إنما يرجع إلى نظرتنا
الخاصة إلى الأمور، وأن الأشياء لا تحمل من الصفات إلا ما هو واقعي فيها، وكل ما
عدا ذلك من صنعنا نحن.
ويعبِّر اسپينوزا عن هذه الفكرة تعبيرًا أوضح في مقدمة الباب الرابع من الأخلاق،
فيقول: «ليس الكمال والنقص إلا طريقتين في التفكير، أو فكرتين، نكوِّنهما عن طريق
مقارنة أفراد النوع الواحد بعضهم ببعض؛ وعلى ذلك … فأنا أعني بالواقعية والكمال
شيئًا واحدًا … فبقدر ما … نجد أن بعض [الأفراد] لديها من الوجود أو الواقعية أكثر
مما لدى غيرها، نقول، إلى هذا الحد، إن بعضها أكمل من بعضها الآخر، وكذلك فبقدر ما
ننسب إليها أي شيء ينطوي على السلب — كالحد، والنهاية، والاختلال … إلخ — نسميها،
إلى هذا الحد، ناقصة؛ لأنها لا تؤثر في ذهننا بقدر ما تؤثر الأشياء التي نسميها
كاملة، لا لأن فيها أي نقص كامن، أو لأن الطبيعة قد أخطأت؛ ذلك لأن طبيعة الشيء لا
تنطوي إلا على ما يتلو من ضرورة طبيعة علته الفاعلة، وكل ما يتلو من ضرورة طبيعة
علته الفاعلة يحدث بالضرورة.» والمقصود هنا بما يتلو من ضرورة العلة الفاعلة الشيء،
الصفات الواقعية أو الفعلية لهذا الشيء، والتي هي وحدها المنتمية إلى ماهيته أو
طبيعته. أما كل ما عدا ذلك من صفات فهو من صنعنا.
ولا شك أن القارئ يدرك أن المعنى الحقيقي لكلمتَي: الكمال والنقص هنا، في ضوء
المصطلح الفلسفي الحديث، هو فكرة «القيم». فالذي يعنيه اسپينوزا هو أن كل ما يتصوره
الإنسان من قيم إنما هو من صنع الإنسان ذاته، وأن الأشياء في ذاتها ليست كاملة أو
ناقصة، جميلة أو قبيحة، طيبة أو رديئة، وإنما هي واقعية تحدث كما تحدث. وتلك فكرة
قد تبدو بديهية واضحة في نظر الكثيرين، غير أن تأمُّل نماذج الفكر البشري في مختلف
عصوره يثبت أنها كانت أبعد ما تكون عن الوضوح في أذهان عدد لا يستهان به من كبار
الفلاسفة بل والعلماء، والدليل على ذلك هو إقحام الأفكار الغائية في تفسير الظواهر
الطبيعية، وهو أمر لم تتخلص منه علوم كثيرة حتى يومنا هذا (كعلم البيولوجيا
مثلًا).
ولو شئنا أن نتحدث عن تفسير لظهور القيم، عند اسپينوزا، لقلنا إن هذا التفسير
إنما هو ضيق حدود الذهن الإنساني، وعدم قدرته على استيعاب الطبيعة بأطرافها
اللامتناهية. وهكذا يحد الإنسان نظرته إلى الطبيعة بمجال معين يتأمله من خلال
أمانيه ورغباته الخاصة، ويفسِّره على أساسها، بينما لو كان قادرًا على إدراك مجموع
العلاقات اللانهائية المتشابكة في الطبيعة لاختفت هذه القيم التي صنعها تمامًا،
ولظهر كل شيء على حقيقته جزءًا من نسق هائل لا نهائي التعقيد في الكون. «فحدود
الطبيعة ليست هي قوانين العقل البشري، الذي لا يفعل شيئًا سوى السعي إلى تحقيق
الصالح الحقيقي للجنس البشري وحفظه، وإنما هي قوانين أخرى لا نهائية، تتعلق بالنظام
اللانهائي للطبيعة الكونية، التي لا يكون الإنسان إلا ذرة منها، وتبعًا لضرورة هذا
النظام وحدها يتحدد وجود كل الكائنات الفردية وسلوكها على نحو ثابت؛ وعلى ذلك فكلما
بدا لنا شيء في الطبيعة عجيبًا أو ممتنعًا أو شرًّا، فما ذلك إلا لأن معرفتنا
بالأشياء جزئية، ولأننا في أغلب الأحيان جاهلون بنظام الطبيعة من حيث هي كلٌّ
وإحكامها، ولأننا نريد أن يسير كل شيء وفقًا لما يمليه عقلنا، مع أن ما يراه عقلنا
شرًّا ليس في الواقع شرًّا فيما يتعلق بنظام الطبيعة الكونية وقوانينها، وإنما فيما
يتعلق بقوانين طبيعتنا نحن وحدها، مأخوذة على حدة.»
٥٤
وطالما أننا بصدد الكلام عن نظرية اسپينوزا في القيم. فمن المفيد أن نتحدث عن
آرائه في بعض القيم التفصيلية، ولكن لما كان البحث في الخير والشر داخلًا في باب
الأخلاق التي سنعالجها في فصل آخر، والبحث في الحقيقة والبطلان داخلًا في مجال
المنهج ونظرية المعرفة، وهما موضوعان سبق لنا معالجتهما، فلا بأس في هذا المقام من
أن نقول كلمة عن القيم الجمالية، وهو موضوع قلَّما تعرَّض له شُرَّاح
اسپينوزا.
كان اسپينوزا، في المواضع القليلة التي تعرَّض فيها للقيم الجمالية والفنية، يقوم
بتشريح هذه القيم وتحليلها من وجهة نظر العالم والفيلسوف لا من وجهة نظر الفنان؛
فهو يبحث في أصلها، وموقعها في العالم الواقعي، وعلاقتها بحياة الإنسان، ولا يبحث
في الدلالة الجمالية الخالصة لهذه القيم؛ أي إنه، بالاختصار، ينظر إلى الفن من
الخارج، لا من الداخل. وتتضح نظرته العلمية إلى طبيعة الجمال في قوله في الرسالة
رقم ٥٤: «إن الجمال ليس صفة في الشيء موضوع البحث بقدر ما هو أثر في ذلك الذي
يتأمله، ولو كانت قدرتنا على الإبصار أقوى أو أضعف، ومزاجنا مختلفًا، لبدت لنا
الأشياء الجميلة قبيحة، والقبيحة جميلة. ولا بد أنَّ أَجْمل الأيدي تبدو شنيعة إذا
ما نظرنا إليها بالمجهر. ومن الأشياء ما يبدو جميلًا عن بُعد، حتى إذا ما اقتربنا
منه ظهر قبحه. وهكذا فإن الأشياء إذا ما نظر إليها في ذاتها أو في علاقتها بالله،
لا تكون جميلة ولا قبيحة. وعلى من يزعم أن الله خلق العالم ليكون جميلًا، أن يعترف
ضرورة بأن الله قد صنع العالم من أجل رغبة الإنسان وعيونه، أو بأنه صنع رغبة
الإنسان وعيونه من أجل العالم.»
وحين يحاول تعليل أصل الجمال والقبح علميًّا، يذكر أننا نحكم بالجمال على ما
يلائمنا نحن فحسب، بغضِّ النظر تمامًا عن طبيعته الواقعية فيقول: «… إذا كانت
الحركة التي توصلها الأشياء إلى أعصابنا نافعة للصحة، سميت الأشياء المسببة لها
جميلة، وإذا بعثت الأشياء حركة مضادة سميت قبيحة …
وكل ما يؤثر في آذاننا يقال إنه يسبب ضوضاء أو صوتًا أو انسجامًا. وفي هذه الحالة
الأخيرة، كان من الناس من بلغ بهم الهوس حد القول إن الله ذاته يطرب للانسجام. ولم
يعدم العالم فالفلاسفة أقنعوا أنفسهم بأن حركة الأجرام السماوية تبعث الانسجام —
وهي أمثلة تكفي للدلالة على أن كل شخص يحكم على الأشياء وفقًا لحالة ذهنه، أو على
الأصح يتوهم خطأ أن صور خياله تنطبع على الأشياء ذاتها.»
٥٥
مثل هذه النصوص، وغيرها، قد دعت بعض الشُّراح إلى أن يصدروا عليه أحكامًا من
النوع الذي أشار إليه «هامشاير»، حين أورد ملاحظة قال فيها «پولوك
Pollock» إنه برغم ما يتضمنه كتاب «الأخلاق» من
دراسة دقيقة لقوى الإنسان وانفعالاته فإن اسپينوزا لم يتحدث عن الفن إلا عرضًا.
ويبدو أنه لم يعلق أهمية على التجربة الجمالية في مذهبه في السعادة البشرية، ثم علل
ذلك بأنه مظهر لانعزاله العام عن المؤثرات اليونانية ومؤثرات البحر المتوسط
(وبالتالي لتأثير حضارة العهد القديم فيه).
٥٦
هذا الحكم في نظرنا، وإن كان صحيحًا
في ظاهره، لا ينصف اسپينوزا على الإطلاق؛ ذلك لأن من الواجب التفرقة دائمًا بين من
يتحدث عن الفن بوصفه عالمًا أو فيلسوفًا نظريًّا، وبين من يتحدث عنه بوصفه فنانًا
أو متذوقًا للفن. ولا جدال في أن اسپينوزا قد تحدَّث من وجهة النظر الأولى فقط، ولم
يتعرض لوجهة النظر الثانية أبدًا، وعلى ذلك لا يصح الحكم عليه بالاستهانة بالتجربة
الجمالية؛ فهدف اسپينوزا الدائم كان نقد الاتجاهات المشبهة بالإنسان؛ أي وصف
الأشياء ذاتها من خلال ما يمر بخيال الإنسان، ومن هذه الزاوية فقط كان حكمه على قيم
الجمال والقبح؛ فكل ما يريد أن يقوله هو أنك إذا نظرت إلى الأشياء من وجهة نظر
الأزل، أو من حيث هي أجزاء من الطبيعة الشاملة، أو في علاقتها بالله (وهي كلها
تعبيرات مختلفة عن معنى واحد في نظره)، فمن الواجب ألا تعدَّها جميلة أو قبيحة؛ لأن
هذه صفات تضفيها أنت على الأشياء؛ فالجمال والقبح، وبقية القيم، تنتمي إلى مجال
وجهة النظر البشرية وحدها. وهذا ليس معناه إنكار هذه القيم، وإنما الأمر الذي لا
يملُّ ترديده هو ألا نخلط بين مجال تفسير الأمور من وجهة نظر الطبيعة الضرورية
للأشياء، وبين مجال نظرتنا الإنسانية إليها من خلال خيالنا وأمانينا ومشاعرنا؛ ففي
المجال الأول ينبغي أن نكون موضوعيين تمامًا، ونتجرد من كل ما له صلة بمنظورنا
البشري البحت. أما المجال الثاني فهو الذي تظهر على مستواه مشكلة الفن.
وبعبارة أخرى: فلسنا نرى على الإطلاق أيَّ تعارض بين إنكار اسپينوزا للوجود
الواقعي للقيم الجمالية، وبين اعترافه بهذه لقيم ذاتها في مجال التجربة الفنية
النابعة من المشاعر والخيال، وهل يحول تحليل العالم الطبيعي للأصوات الموسيقية إلى
مجرد أرقام تعبِّر عن الذبذبات ودراسته لطبيعة الصوت دراسة نظرية جافة، دون
استمتاعه بهذه الموسيقى إذا ترك معمله ودخل قاعة العزف؟ وهلا يستطيع الفنان دائمًا
أن يقول: صحيح أن الانسجام بين هذه الأصوات ليس صدًى لانسجام كوني ضروري، ولكنه مع
ذلك يطربني؟
إنني أكاد أجزم بأن كل ما قاله
اسپينوزا عن الجمال، في صدد نقد الغائية وتأكيد سيادة الضرورة، لم يكن ذا صلة بحكمه
على الفن من حيث هو تجربة إنسانية على الإطلاق. ومن المؤكد أن معركته من أجل إرساء
دعائم التفكير العلمي كانت أهم في نظره من أية غاية أخرى. وقد يستطيع المرء، قياسًا
على نظريات أخرى له، أن يتكهن باتجاه نظرية الفن لديه لو كان قد اتجه بتفكيره إلى
هذا الميدان؛ فآراء اسپينوزا العامة في الانفعالات توحي بنظرية نفعية في الفن؛ إذ
كان دائمًا يؤثِر الانفعال الذي يبعث السرور على ذلك الذي يبعث الألم، ويدعو
الإنسان إلى الشعور بالبهجة وطرح الصور الأليمة الحزينة من حياته، ويؤكد دائمًا
معنى السعادة والفرح في حياة الإنسان. ولا جدال في أن هذه الآراء العامة لو طُبِّقت
على مجال الفن فستؤدي إلى إخضاع ما هو جميل لما هو نافع للإنسان أو باعث للسعادة
فيه، أو ما هو عنصر إيجابي في دفع حياة الإنسان إلى الأمام — وهذه كلها من القضايا
التي يقول بها أصحاب النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية في الفن.
٥٧
أما القول بأن اسپينوزا لم يكن يحفل بالتجربة الفنية على الإطلاق فليس في رأينا
صحيحًا. ومن القرائن التي تكذبه أن اسپينوزا كان مهتمًّا بالتصوير. وقد اتصل بفنان
هولندا الأعظم «رمبرانت» ورسم له هذا الأخير لوحة مشهورة ما زالت هي التي تصَّدَّر
كثيرًا من الكتب المؤلفة عنه، وفضلًا عن ذلك فقد عُرف عنه أنه كان يرسم في أوقات
فراغه صورًا مختلفة، منها صور لبعض أصدقائه، ومنها صورة رسمها لنفسه بملابس الثائر
الإيطالي الشهير «مازانيلو
Masanillo»،
٥٨ ومن المعروف أن ميدان التصوير كان هو المجال الأكبر للفن في ذلك العصر،
ولم تبدأ الموسيقى تحتل المركز الأهم بين الفنون إلا في القرن التالي.
وأخيرًا، فهناك في رأيي دليل آخر
واضح على أن كل ما كتبه اسپينوزا عن موقع القيم الجمالية في الكون لا ينبغي أن
يعدَّ تعبيرًا عن إنكاره لموقع هذه القيم في مجال التجربة البشرية؛ ذلك لأن
اسپينوزا كان دائمًا يتحدث عن القيم الأخلاقية، كالخير والشر، في نفس الموضع الذي
يتحدث فيه عن القيم الجمالية، وكان يقرن كل هذه القيم معًا ويصدر عليها نفس الحكم.
ومع ذلك فمن المعروف أن هدف اسپينوزا النَّهائي كان أخلاقيًّا قبل كل شيء، وأنه
كرَّس كتابه الأكبر لغاية أخلاقية، وأن حياته ذاتها كانت تطبيقًا رائعًا متسقًا
لأرفع المبادئ الأخلاقية، وإذن فلم يكن تأكيده خلو الطبيعة في مجموعها من أية غائية
أخلاقية كالخير، حائلًا دون إيمانه بالأخلاق — على المستوى الإنساني — وممارسته لها
بكل إخلاص. ومثل هذا يمكن أن يصدق، بالتأكيد، على كل القيم الأخرى ومنها القيم
الجمالية بطبيعة الحال.
(٥) اسپينوزا والعلم
من المحال أن يقارن المرء شهرة اسپينوزا في الميدان العلمي — بمعناه الدقيق — بشهرة
ديكارت أو ليبنتس، أو حتى كانت؛ فلم يساهم اسپينوزا بنصيب ملموس في أي علم من علوم
عصره، وكانت شهرته من بدايتها إلى نهايتها، ترجع إلى كونه فيلسوفًا نظريًّا، لا
عالمًا.
ومع ذلك فق كان لدى اسپينوزا «اهتمام» غير قليل بالعلم التجريبي في عصره: ونستطيع
أن
نقول: إنَّ اشتغاله في صقل العدسات، وشهرته بوصفه صانعًا ماهرًا لعدسات المجاهر
والمناظير المقربة، كان أمرًا له دلالته الرمزية القوية؛ فقد كانت العدسات في عصره هي
الأداة الكبرى لفتح آفاق علمية جديدة: آفاق العالم الأصغر في البيولوجيا، وهو العلم
الذي بدأت فتوحه تتوالى في عصر اسپينوزا، وعلى يد علماء من نفس البلد الذي عاش فيه.
كذلك أحرز علم الفلك تقدمًا انقلابيًّا هائلًا كانت أداته الرئيسية هي المناظير
الفلكية، وأخيرًا؛ فقد تقدمت الأبحاث في ميدان علم الفيزياء تقدمًا ضخمًا في عصره، ولا
سيما في فرع البصريات، وكان ذلك بدوره ميدانًا ساهمت فيه العدسات الضوئية بنصيبها، فإذا
لم يكن اسپينوزا قد ساهم مباشرة في تقدُّم علوم عصره، فإنه لم يكن متفرجًا غير مكترث
بأية حال، بل كان يتابعها بكل شغف واهتمام.
ويستطيع القارئ أن يجد في الرسائل الأولى التي يتبادلها اسپينوزا مع العالم الإنجليزي
«أولدنبرج» مناقشات طويلة بينهما عن أبحاث العالم «روبرت بويل
Robert Boyle» وكتبه وتجاربه. وقد ناقش اسپينوزا هذه التجارب
بالتفصيل، ورغم أنه لم يأتِ في مناقشته بجديد؛ فقد بدا اهتمامه بالعلم التجريبي فيها
واضحًا كل الوضوح. وكما قال «ماكيون»: «ليس ثمة شك في اهتمام اسپينوزا الواعي بالتقدم
العلمي لعصره.»
٥٩ ومع ذلك يذكر هذا المؤلف أن اهتمام اسپينوزا بالعلم قد حد منه تفسيره الخاص
للطبيعة ودور التجريب المحدود في كشفها؛ إذ إن الفهم الحقيقي للطبيعة إنما يكون عن طريق
العقل لا التجربة.
وفي رأينا أن اسپينوزا إذا لم يكن قد ساهم في علوم عصره، فذلك يرجع فقط إلى أنه اختار
ميدانًا آخر لنشاطه العقلي، ولا يرجع إلى كونه قد فضل العقل على التجربة؛ فهو بالفعل
قد
آثر التأمل العقلي، ولكن في الميدان الذي يجوز فيه هذا التأمل، ويفضل على التجريب، وهو
ميدان التفلسف النظري. وليس في نصوص اسپينوزا كلها ما يدل على أنه كان يحط من شأن
المنهج التجريبي في الميدان الخاص الذي يطبق فيه هذا المنهج. وقد آثر اسپينوزا لنفسه
—
بمحض اختياره — أن يكون فيلسوفًا نظريًّا، لا عالمًا، ولكنه عبَّر بكل وضوح عن احترامه
للعلم إذ حاول في فلسفته النظرية أن يستخلص المقدمات الضرورية العامة للروح العلمية،
مثل نفي العلل الغائية، واستبعاد التفكير الأسطوري الخرافي التشبيهي بالإنسان، والإيمان
بالحتمية وبالارتباط العِلِّيِّ للظواهر، ودافع عن هذه
المبادئ — التي لا يقوم دونها علم صحيح — ضد
جميع القوى اللاعقلية الجبارة التي كانت لا تزال لها السيطرة في عصره؛ وعلى هذا الأساس
يمكن أن تعد فلسفته مقدمة للروح العلمية بوجه عام، ومدخلًا إلى كل تفكير يريد أن يُسمي
نفسه علميًّا.
ومن جهة أخرى، فإذا كان اسپينوزا لم يساهم في علوم عصره بجديد؛ فقد ساهم في علم النفس
وفي الأخلاق التجريبية حتى قيل عنه: «إن أصالة اسپينوزا ترجع إلى أنه كان أول من طبَّق
مذهب قوانين الصيرورة على العقل مثلما تطبَّق على الجسم … وفضلًا عن ذلك فقد كان أول
مفكر من المحدَثين طبَّق قانون «القصور الذاتي» الذي وضعه جاليليو على علم النفس
والأخلاق عندما أكد أن كل صورة من صور الحياة تسعى إلى الاستمرار في الوجود إلى أجل غير
محدود. وفي رأينا أن فكرة أولوية النزوع إلى حفظ الذات كانت تُمثِّل انفصالًا تامًّا
عن
نظرية المَدْرَسِيِّين الذين قالوا إن جميع الأنواع الطبيعية موجهة إلى غايات محددة أو
علل غائية وأن الطبيعة البشرية إنما جُعلت من أجل غاية عالية ما … وقد استبق اسپينوزا
بنظريته في الانفعالات نظرية «چيمس لانجه» فضلًا عن نظرية التحليل النفسي عند فرويد.»
٦٠
ومن جهة أخرى فقد كانت الدراسات التاريخية التي قام بها للأناجيل في «البحث اللاهوتي
السياسي» — كما سنرى فيما بعدُ — استباقًا عبقريًّا للبحوث التاريخية المقارنة التي لم
يبدأ ظهورها في هذا الميدان إلا منذ القرن التاسع عشر، ومن الممكن أن يعد بحقٍّ رائدًا
لعلم التحليل التاريخي للأناجيل، في عصر لم تكن مجرد فكرة التفسير التاريخي للظواهر
الاجتماعية تخطر فيه على بال أحد — فما بالك إذا كانت تلك الظواهر ذات طابع
ديني؟
•••
ولكن أعظم ما ساهم به اسپينوزا من أجل العلم هو، في رأينا، فلسفته النظرية ذاتها
—
تلك الفلسفة التي كانت تقوم في جميع نواحيها على المعقولية التامة، وتستبعد كل
التفسيرات الغيبية، وتدعو بلا ملل إلى القضاء على آثار الجهالة والتخلف العقلي، وتجعل
من الكون نظامًا ضروريًّا واحدًا قابلًا للفهم. وعلى أساس هذه النظرية العلمية الدقيقة
إلى الكون حاز اسپينوزا على إعجاب عدد ضخم من أكبر العلماء، ولا سيما أينشتين الذي كان
يؤكد دائمًا إعجابه بنظرته الحتمية إلى الواقع وإخضاعه العالم لقوانين دقيقة، فضلًا عن
تحليله العلمي للسلوك البشري ذاته؛
٦١ ولذا فإن أفضل خاتمة لهذا الفصل، في رأينا، هي اقتباس بعض العبارات العميقة
التي أبدى بها أينشتين تقديره الواضح لروح اسپينوزا العلمية: «رغم أنَّ اسپينوزا عاش
قبل عصرنا بثلاثمائة عام، فإن الموقف الروحي الذي كان عليه أن يتعامل معه يشبه الموقف
الروحي الحالي إلى حدٍّ بعيد. ولم يكن مرد ذلك فقط إلى أنه كان مقتنعًا كل الاقتناع
بالترابط العِلِّيِّ لجميع الظواهر، في وقت لم تكن فيه الجهود التي بُذلت لبلوغ معرفة
بالعلاقة العِلِّية للظواهر الطبيعية قد أحرزت فيه إلا نجاحًا ضئيلًا. ولقد امتد اقتناع
اسپينوزا لا إلى الطبيعة الجامدة فحسب، بل إلى المشاعر والأفعال البشرية أيضًا. ولم يكن
لديه شك في أن فكرتنا القائلة إن لدينا إرادة حرة (أي مستقلة عن العِلِّية) كانت خداعًا
ناتجًا عن جهلنا بالأسباب المتحكمة فينا، ولقد وجد في دراسة هذه العلاقة العِلِّية
دواءً شافيًا من الخوف والحقد والمرارة، هو الدواء الوحيد الذي يمكن أن يلجأ إليه إنسان
روحي بحق. وأثبت تبريره لهذا الاقتناع، لا بصياغته الواضحة الدقيقة لأفكاره فحسب، بل
بسلوكه المثالي الرائع في حياته أيضًا.»
٦٢