الله أو الطبيعة
(١) مقدمة
(١-١) موقع الفكرة في فلسفة اسپينوزا
يبحث أوَّل باب من الأبواب الخمسة في كتاب اسپينوزا الرئيسي، «الأخلاق»، موضوع «الله». وهو يؤكد في الباب الثاني، الذي يتحدث فيه عن طبيعة الذهن البشري، أنه يعالج هذا الموضوع الأخير من حيث علاقته بنظرته العامة إلى الماهية الإلهية. ومثل هذا التأكيد موجود ضمنًا في كل الأبواب الأخرى للكتاب. وهكذا يبدو أن اسپينوزا يبدأ بأهم موضوع في نظره، وهو البحث في الماهية الإلهية، على أساس أن آراءه في هذا الموضوع هي التي ستحدد معالم الحلول التي يأتي بها لكل المشكلات الأخرى التي سيبحثها فيما بعدُ.
ومع ذلك فمن الممكن القول، من وجهة نظر أخرى، إن فكرة الله؛ إذ يتسع نطاقها إلى هذا الحد، «تتلاشى» في هذه العناصر الأخرى لفلسفة اسپينوزا، بحيث يصبح إيضاح هذه العناصر الأخرى لفلسفته هو الهدف الأساسي، ولا تكون فكرة الله إلا تعبيرًا عن الماهية الجامعة لهذه العناصر، وهي الماهية التي لا توجد مستقلة عن موضوعها. ويزداد هذا الرأي قوة إذا نُظِر إلى فلسفة اسپينوزا بأسرها من خلال معادلته الأساسية: الله = الطبيعة. فهذه المعادلة، إذا ما فهمت دلالتها على حقيقتها، تجعل البحث في اللاهوت غير ذي موضوع، ما دام البحث في الطبيعة ذاتها، سواء في مجموعها وفي تفاصيلها، يستنفد بذاته كل أطراف المعرفة. وفي هذه الحالة تغدو فكرة الله عنصرًا يمكن حذفه من فلسفة اسپينوزا، على أساس أنها مجرد مصطلح من مصطلحات العصور الوسطى التي اعتاد اسپينوزا أن يعبِّر بها عن أفكاره المغايرة تمام المغايرة لكل الفلسفات المدرسة.
فإذا صح هذا الفهم الأخير، فكيف نوفق بينه وبين ذلك الاهتمام الذي أبداه اسپينوزا ذاته بالفكرة؟ من الممكن أن يقال إن ذلك الاهتمام، الذي جعله يعطي للفكرة موقع الصدارة في مذهبه، إنما يدل بطريقة غير مباشرة على أن تغيير نظرتنا إلى هذه الفكرة هو، في رأيه، أساس حلنا لجميع المشكلات الفلسفية الأخرى؛ أي إنَّه يرى أنَّ الفارق بين النظرة الأسطورية والنظرة العلمية إلى الكون هو الذي يتحكم في جميع تفسيراتنا للمشاكل الفلسفية وحلولنا لها. وبعبارة أخرى، فإنَّ الإنكار التام للتفسير اللاهوتي لفلسفة اسپينوزا لا يتعارض، بدوره، مع إعطاء فكرة الله أهمية رئيسية في فلسفته؛ إذ إن الحديث عن هذه الفكرة سيغدو عندئذٍ وسيلةً لعرض آرائه العلمية الجديدة في الكون أو الطبيعة، وهي الآراء التي كانت تُمثِّل بالفعل نظرة انقلابية بالنسبة إلى جميع الفلسفات السابقة عليه.
(١-٢) دلالة فكرة الله في لغة اسپينوزا
منذ عصر اسپينوزا نفسه، ظهر الخلاف الذي لا يزال قائمًا إلى اليوم، حول الدلالة الحقيقية لفكرة الله عنده، واتخذ ذلك الخلاف نفس الشكل الذي لا يزال يتخذه إلى اليوم — وهو شكل التضاد الكامل بين رأيين، يؤكد أحدهما أن اسپينوزا كان يعني كل وصف قال به لفكرة الله، وأن الفكرة تحتل لديه، بالتالي، موقعًا أساسيًّا، وأن آراءه، تبعًا لذلك، لا تتعارض تعارضًا أساسيًّا مع التراث الديني بمعناه العام، ويؤكد الآخر أن لغة اسپينوزا الظاهرية ينبغي ألا تُفهم فهمًا حرفيًّا، وأن البحث عن معانيها الخفية كفيلٌ بأن يكشف عن أشد أنواع الإلحاد من وراء تعبيراته البريئة المظهر.
ويقول «كوليروس» بعكس هذه الآراء تمامًا؛ فكتاب «الأخلاق» يبدأ في رأيه أولًا بداية رائعة: «ومن ذا الذي يشك، حين يقرأ هذه البداية البديعة، في أن فيلسوفًا مسيحيًّا هو الذي يتحدث؟» ولكن عندما يختبر المرء ما يقوله اسپينوزا عن الله اختبارًا دقيقًا، «يجد أن إلهه ليس إلا شبحًا، وإلهًا خياليًّا، هو أبعد ما يكون عن الله … فهو يستبيح لنفسه استخدام اسم الله وفهمه بمعنًى لم يعرفه أحد من المسيحيين حتى اليوم.» وهكذا يفسِّر كوليروس إله اسپينوزا بأنه «ليس سوى الطبيعة — التي هي لا متناهية حقًّا، ولكنها جسمية ومادية — منظورًا إليها في كلِّيَّتها وبجميع أحوالها»؛ ولهذا كله لم يجد كوليروس مفرًّا من أن يصف مذهب اسپينوزا، آخر الأمر، بأنه «أفجر إلحاد عرفه العالم.»
هذا الازدواج والتضاد في تفسير فكرة الله عند اسپينوزا — وبالتَّالي في تفسير الاتجاه العام لفلسفته — أمر طبيعي؛ ذلك لأنَّه حين يصبح الله علة كامنة أو حالة في العالم، يغدو من الطبيعي أن تتشعب التفسيرات في اتجاهين مُتضادين: اتجاه يذهب إلى أنَّه صبغ الطبيعة والكون بالصبغة الإلهية، واتجاه آخر لا يستخلص من ذلك سوى أن اسپينوزا قد أنكر فكرة العلة الأولى، وفكرة الخلق، ووجود علاقة مزدوجة بين الله والطبيعة؛ وبالتالي أنكر كل موجود يعلو على الطبيعة.
هذان الاتجاهان ممكنان «نظريًّا» على الدوام. ومن المُحال أن يتمكن الباحث من المفاضلة بينهما طالما كان يفسِّر فلسفة اسپينوزا تفسيرًا حرفيًّا. ومع ذلك، فهناك في رأينا وسائل للمفاضلة بين هذين التفسيرين. وهذه الوسائل تؤدي حتمًا إلى إنكار التفسير اللاهوتي، وتأكيد التفسير «الطبيعي» للفكرة.
-
(أ)
إحدى هذه الوسائل هي ربط الفكرة بالسياق العام لحياة اسپينوزا ومذهبه، فحين تُختَبر الفكرة في سياق حياته، التي كانت حافلة بمظاهر الثورة على التقاليد ولا سيما الدينية منها، والتي كان من وقائعها الحاسمة طرده من الطائفة اليهودية وعدم اعتناقه أي مذهب آخر بعد ذلك؛ عندئذٍ يبدو التفسير «الطبيعي» مرجحًا على التفسير اللاهوتي إلى حدٍّ بعيد.
ويزداد هذا الترجيح قوةً إذا ما نظر إلى الفكرة في ضوء بقية أوجه مذهب اسپينوزا، بل إن هذه الأوجه تكاد تفقد كل معنًى لها إذا فهمت فكرة الله عنده فهمًا لاهوتيًّا؛ فلماذا، مثلًا، اعترض اسپينوزا على فكرة حرية الإرادة؟ ولماذا سعى إلى القضاء على ثنائية النفس والجسم، مؤكدًا أنهما وجهان لحقيقة واحدة؟ ولماذا أكد الحتمية وسيادة العلية، وحمل بقوة على كل تفسير للظواهر من خلال فكرة العرضية أو الاتفاق؟ ولماذا كرس كل هذه الجهود لمحاربة فكرة الغائية؟ إن كل وجه من هذه الأوجه في مذهبه لا يكون مفهومًا على الإطلاق إلا في ضوء تغليب فكرة الطبيعة في المعادلة المشهورة: الله = الطبيعة. وإذا كانت نصوص اسپينوزا وأسلوبه المباشر يؤديان في كثير من الأحيان إلى بث الحيرة في نفس القارئ، ويدفع الكثير من الشُّراح إلى الإتيان بتفسير صوفي أو روحي لفكرة الله عنده، فعلى هؤلاء أن يذكروا دائمًا أن هذه الفكرة ترتبط بسياق عام ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، وأن هذا السياق يتضمن مجموعة كاملة من الآراء التي تؤدي كلها — سواء شاء المرء أو لم يشأ — إلى استبعاد العناصر الروحية وتأكيد الفهم الحتمي الدقيق للعالم. ولا جدال في أن الاحتكام إلى هذا السياق كلما تعذرت المفاضلة بين التفسيرات يؤدي إلى وضع حد لكل شك على الفور.
-
(ب)
والوسيلة الثانية هي النظر إلى الفكرة من خلال التفسير الذي قدمناه للمنهج الهندسي، وهو التفسير الذي أكدنا فيه التجاء اسپينوزا إلى طريقة استخدام المصطلح المدرسي واللاهوتي التقليدي بمعانٍ جديدة كل الجِدة، وقلنا بوجوب البحث من وراء الألفاظ البريئة عن معانيها الثورية العميقة الكامنة. وبتطبيق هذا المنهج على المشكلة التي نحن بصددها، تغدو فكرة الألوهية هي المحور الذي تدور حوله عملية التعبير الحذر عند اسپينوزا، ويكون أقوى مظاهر الحذر عنده هو تكرار لفظ «الله» في فلسفته إلى الحد الذي يوحي للقارئ الساذج بأن الفكرة، بكل ارتباطاتها المقصودة تكون مختلفة كل الاختلاف عن هذه الدلالة الظاهرة.
•••
ورغم أن نسبة القائلين بالتفسير الحرفي لفكرة الله عند اسپينوزا هي الغالبة إلى حدٍّ بعيد، فإن التفسير الذي نقول به ها هنا ليس منعدم الصلة تمامًا بالاتجاه العام في تفسير اسپينوزا؛ فهناك بالفعل شُرَّاح آخرون قد وجَّهوا أنظار قرائهم إلى احتمال وجود تفسير آخر مضاد تمامًا لحرفية الألفاظ في فلسفة اسپينوزا. وكل ما في الأمر هو أن هؤلاء الشُّراح قد اقتصروا في تفسيراتهم على أوجه محدودة من فلسفته، ولم يستطع أحد منهم أن يمضي في تفسيره هذا إلى النهاية، وكانوا دائمًا، في مرحلة أو في أخرى، يقولون بوجود أوجه معينة في هذه الفلسفة لا تتمشى مع هذا التفسير، ويجدون فيها ظواهر يستحيل، في نظرهم، إخضاعها لهذا النمط العام، والبحث الحالي — فيما أعلم — هو الوحيد الذي يضع منذ البداية فرض التفسير «عكس الحرفي» لفلسفة اسپينوزا، ويحاول المُضي فيه إلى النهاية.
-
(أ)
من هؤلاء المفكرين الذين قالوا بوجود معانٍ أخرى مضادة من وراء استخدام اسپينوزا المتكرر للفظ «الله»، «باركر Barker»؛ ففي مقاله المشهور «ملاحظات على الباب الثاني من «الأخلاق» لاسپينوزا» يقول: «من المؤسف (وربما كان، مع ذلك، من المحتم) أن اسپينوزا قد استخدام لفظ Deus على النحو الذي استخدمه عليه، ولكن الأدعى من ذلك إلى الأسف أن يرضى مترجموه وشُراحه بسوء استخدامه للكلمة، فيلجئوا إلى المرادف المألوف لها في لغتنا؛ ذلك لأن ما يدل عليه لفظ Deus عند اسپينوزا ليس هو «الله» في استخدامه اللغوي المعتاد. ولن آخذ على عاتقي أن أقرِّر إن كان اسپينوزا ذاته قد استطاع استخدام اللفظ اللاتيني دون أن يتأثر على أي نحو بارتباطاته المعتادة. ولكني أعتقد أن من العسير إلى حدٍّ بعيد على القارئ الذي ينطق لغةً حديثة٧ (حتى لو كان يستخدم نصًّا لاتينيًّا)، أن يتجنب التأثير، بل التضليل، الذي تؤدي إليه الارتباطات المعتادة لكلمة «الله»،٨ ولهذا السبب يحرص «باركر» على تجنُّب لفظ Deus اللاتيني أو لفظ «الله God» قدر المستطاع، ويستبدل به لفظ «الطبيعة Natura» في صيغته اللاتينية وبحرف كبير في البداية؛ لكي يعبِّر عن المعاني الحقيقية التي لم تكن في ذهن اسپينوزا عندما استخدم لفظ Deus.»
مثل هذا الفهم لمعنى لفظ «الله» عند اسپينوزا دقيق إلى حدٍّ بعيد، ومع ذلك فنحن نأخذ على المؤلف — رغم اقترابه من الصواب — أمورًا منها:
أنه لم يدرك الدلالة الحقيقية لاستخدام اسپينوزا هذا اللفظ، وهي أنه «تعمَّد» هذا الاستخدام؛ فالأمر لم يكن أمرًا «يؤسَف له»، ولم يكن هناك «سوء استخدام»، وكأن المسألة هي لفظ أسيء اختيار موضعه، وإنما كانت — كما قلنا من قبلُ — تنفيذًا لخطة متعمدة دفعته إليها ظروف العصر الذي كان يعيش فيه. وهكذا لم يحاول المؤلف أن يجيب على السؤال الهام الآتي: لماذا استخدم اسپينوزا التعبيرات الدينية الصريحة، طالما أن هذا رأيه الحقيقي عن الله؟
كذلك لا يجزم المؤلف إن كان اسپينوزا قد تأثر بالارتباطات المألوفة لكلمة «الله» أم لا — مع أن من الممكن القطع في هذه المسألة برأي حاسم، ينتهي إليه المرء حتمًا إذا تأمَّل السياق العام لفلسفته، الذي خلا تمامًا من جميع العناصر الغائية والتشبيهية والمتعالية. أما كون القارئ العادي معرَّضًا للوقوع في خطأ فهم اللفظ بارتباطاته الدينية المألوفة، فذلك أمر مقصود ولا شك؛ إذ إن اسپينوزا كان بالفعل يخشى ثورة هذا «القارئ العادي» لو أطلعه على أفكاره مباشرةً وكان يتعمد تجنُّب استفزازه، في الوقت الذي أعطى فيه القارئ اليقظ مفاتيح لأفكاره الحقيقية. ومع ذلك فإن معظم مفسري اسپينوزا كانوا، للأسف الشديد، من فئة «القراء العاديين» هذه؛ والدليل على ذلك ما نلمسه جميعًا من انتشار هائل للتفسيرات الصوفية واللاهوتية لآرائه.
-
(ب)
ويتخيل «ولفسون» في الجزء الأول من كتابه «فلسفة اسپينوزا» حديثًا خياليًّا يخاطب فيه اسپينوزا خصومه الخياليين من فلاسفة العصور الوسطى فيقول إنه سيستخدم كلمة «الجوهر» — الشائعة في العصور الوسطى — في معانٍ تجمع كل الصفات التي كان هؤلاء الخصوم يَعْزونها إلى كلمة «الله»، ويقول لهم: «ولمَّا كنت غير معتادٍ على التنازع على الأسماء وحدها، فسوف أستبقي لفظكم الخاص، وهو لفظ «الجوهر»، بوصفه بديلًا فلسفيًّا عن لفظ «الله» المليء بالتقوى، وسوف أكشف بتعبيراتكم ذاتها، عن فهم جديد لطبيعة الله وعلاقته بالعالم.» وبعد أن يتم تحديد هذا الفهم الجديد من خلال لفظ «الجوهر»، يواصل اسپينوزا كلامه المتخيَّل قائلًا: «هكذا، وصفت الجوهر، كما أقول به، بجميع الأوصاف التي تستخدمونها في تعريفكم الشكلي لله، والآن … سوف أجمع بين لفظَي الله والجوهر وأقول: الله، أو الجوهر المؤلَّف من صفات لا متناهية تعبِّر كلٌّ منها عن ماهية أزلية لا متناهية، موجود بالضرورة (القضية ١١)، وبعد أن أوضحت الآن ما أعنيه بلفظ الله، فإن لم أعُد أخشى أن يُساء فهمي؛ ولذلك فسوف أُسقط لفظ الجوهر من الآن فصاعدًا، واستخدم بدلًا منه لفظ الله.»٩
ومن الواضح أن ولفسون يعترف، من خلال ما يقوله هنا على لسان اسپينوزا، بوجود عملية «إخفاء» أساسية تعمَّد فيها اسپينوزا أن يصوغ معانيه الجديدة في قوالب مدرسية تقليدية، وحرص على أن يوضح أولًا المعاني الجديدة التي يستخدم بها كلمة «الله» قبل أن يدخلها في كتاباته، وهذا كله اتجاه سليم في فهم اسپينوزا، ولكن المؤسف أن ولفسون نفسه، كما سنرى في مواضع متعددة، لم يتمسك به دائمًا، وطالما انزلقت إلى كتاباته المعاني والارتباطات التقليدية للألفاظ الحرفية، بحيث كان في كثير من الأحيان يقع فيما حذر القارئ منه.
-
(جـ)
ويرى «ليوشتراوس» أن استخدام اسپينوزا للفظ «الله» في مستهل كتابه الرئيس يُخفي، ولا يكشف، نقطة بدايته الحقيقية؛ أي إنه عرض آراءه في «الأخلاق» بطريقة «تركيبية»، وأخفى «التحليل» الذي لا بُدَّ قد سبق هذا التركيب. ومعنى ذلك أن اسپينوزا قد «أخفى الاستدلال الكامل، الفلسفي والاجتماعي أو السياسي، المؤدي إلى تلك التعريفات التي يروع لها القارئ، وفي الوقت ذاته هدأ القارئ عندما يفتح ذلك الكتاب. فإذا كان صحيحًا أن إله اسپينوزا لفظ مهدئ an appeasing term،١٠ فإنه يتعين على المرء عندئذٍ أن يعيد كتابة «الأخلاق» بأسرها، دون أن يستخدم هذا اللفظ؛ أي بالبدء من المبادئ الإلحادية الخفية لدى اسپينوزا.»١١
-
(د)
وإذا كان ليوشتراوس قد افترض إمكان إعادة كتابة «الأخلاق» مع حذف لفظ «الله» الذي يعدُّه لفظًا أُدخِل على الكتاب لتهدئة مشاعر القارئ أو عدم استفزازها بالمعاني الثورية التي تضمَّنها الكتاب، فإن هناك رواية قديمة انتشرت بعد وفاة اسپينوزا بزمن غير طويل، مؤدَّاها أن كتاب «الأخلاق» وُضع أصلًا دون أن يأتي فيه لفظ «الله» وأن هذا اللفظ أُدخِل فيما بعدُ تحوطًا وحذرًا. وهكذا فإن هذه الرواية تفترض بالفعل حدوث ما دعا إليه «ليوشتراوس»، وتذكر أن ذلك ما قام به اسپينوزا نفسه في بادئ الأمر ونظرًا إلى ما لهذه الرواية من دلالة هامة، فسوف نذكرها هنا بنصها:١٢
لقد بلغني من شخصٍ جديرٍ بالثقة، نقل إليَّ هذه الرواية كتابةً بخط يده، أن اسپينوزا قد ألَّف كتابه المزعوم «الأخلاق» مبرهنًا عليها «هندسيًّا» باللغة الفلمنكية، وأنه أعطاه إلى طبيب يُدْعى لويس ماير ليترجمه إلى اللاتينية، وأن كلمة «الله» لم تكن موجودة فيه قط، ولم تكن توجد إلا كلمة «الطبيعة»، التي زعم أنها أزلية.
وقد حذره الطبيب من أن ذلك سيجر عليه مشاكل ضخمة؛ إذ سيقال إنه ينكر وجود إله، وأنه يستبدل به الطبيعة، وهي لفظ أَلْيق بالمخلوق منه بالخالق. فوافق اسپينوزا على هذا التغيير، وظهر الكتاب على النحو الذي نصحه به ماير. وفي وسع المرء أن يدرك بسهولة، عند قراءة ذلك الكتاب، أن لفظ الله ليس إلا لفظًا وهميًّا، إن جاز هذا التعبير، يستخدمه لتضليل القارئ.
هذه الرواية باطلة دون شك، وذلك على الأقل في الجزء الذي جاء فيه أن الكتاب قد «تُرجم» إلى اللاتينية؛ إذ إن اسپينوزا قد ألَّفه باللاتينية مباشرةً دون شك، ومع ذلك فإن صحة الرواية أو بُطلانها ليس هو المهم في الأمر، وإنما المهم هو أن معاصري اسپينوزا، أو الأجيال التالية له مباشرةً، قد فهمت المقصد الحقيقي لاسپينوزا أفضل مما فهمه كثير من الكتَّاب المحدَثين؛ فالرواية ذات دلالة رمزية على الاتجاه الحقيقي لفكر اسپينوزا. ومن الصعب أن نتصور أن اسپينوزا قد «أضاف» لفظ «الله» فيما بعدُ بناءً على نصح أو تحذير قُدم إليه، ولكن الدلالة الهامة للرواية هي أن من الممكن حذف لفظ «الله» من كتاب اسپينوزا الرئيسي والاستعاضة عنه بلفظ «الطبيعة» (وهو أمر لا يخالف تعاليم اسپينوزا ذاته، بل هو استجابة مباشرة لمعادلته المشهورة: الله = الطبيعة)، دون أن يستتبع ذلك أي تناقض؛ أي إن من الممكن، بعبارة أخرى: تفسير فلسفة اسپينوزا تفسيرًا متسقًا (بل «أكثر» اتساقًا، في الواقع، من معظم التفسيرات الشائعة)، إذا جُعلت الفكرة الرئيسية فيه هي فكرة الطبيعة، لا فكرة الله، فإذا كان هذا هو مغزى تلك الرواية، فإن القائلين بها (حتى لو كانوا قد اختلقوها) قد فهموا اسپينوزا على نحوٍ أفضل من فهم معظم الكتاب المعاصرين له.
وإنه لمن الأمور التي تدعو إلى الدهشة حقًّا أن يكون فهم معاصري اسپينوزا، على بساطتهم العقلية، أفضل كثيرًا من فهم الكتَّاب الحاليين له، رغم كل ما يتميزون به من علم أغزر وتجارب أعمق. ويعلل «ليوشتروس» ذلك بأنه راجع إلى أن ظاهرة التخفي في التعبير عن الآراء exotericism، وأسباب هذا التخفي، كادت أن تصبح منسية تمامًا،١٣ وهذا تعليل عميق؛ إذ إن المرء إذا كان منتميًا إلى مجتمع يكون من الضروري فيه إخفاء الآراء المخالفة للتقاليد الدينية أو الاجتماعية أو السياسية السائدة، يغدو أقدر على كشف المعاني الخفية من وراء التعبيرات المستترة للآخرين؛ فالمجتمع الذي عاش ظاهرة الصراع الفكري والتخفي والاضطهاد، أقدر على قراءة ما بين السطور من ذلك الذي نسي هذه الظاهرة وتخلص منها. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك تعليلًا آخر، هو أنَّ تديُّن نقَّاد اسپينوزا من معاصريه كان تديُّنًا مباشرًا لا يعرف التواءً ولا تحويرًا؛ فالمتدين كان متعصبًا لعقيدته بصورتها الحرفية، وكان يدرك بسليقته كل ما لا يتنافى مع هذه الصورة الحرفية ولا يتردد في نقده. أما مفكرو اليوم، ولا سيما ذوو النزعات الدينية منهم، فإنهم قد اعتادوا الأساليب الملتوية المطاطة في التفسير، وهي الأساليب التي تتيح لهم تأويل أي نص يتعارض مع حرفية العقيدة على نحوٍ كفيل بتقريبه، بأكثر الطرق تصنعًا، من فهمهم الخاص للدين. بل إن فهمهم هذا ذاته قد وُسِّع وحُوِّر بحيث يمكنه أن يتفق مع أي مذهب هو في نظر المنطق السليم مضاد للعقائد في صورتها الأصلية. وهذا ما جعل المحدَثين يجدون دائمًا في فلسفة اسپينوزا ما يتفق مع العقائد الشائعة، بعد تأويلهم لتلك الفلسفة وتحويرهم لهذه العقائد. وفي هذا، دون شك، إساءة لفهم اسپينوزا من وجهة نظر التفسير الموضوعي السليم.
إن مشكلة تفسير فكرة الله عند اسپينوزا هي، في رأينا، مشكلة المفاضلة بين الألفاظ والمعاني. فلغة اسپينوزا تبدو نقية ورعة متمشية مع كل التقاليد الدينية الشائعة في عصره. ولكن معانيه تسير في طريق مخالف لذلك كل الاختلاف؛ إذ تهدم الأفكار الأساسية التي يرتكز عليها ذلك التراث الديني الشائع. وهنا يكون على المرء أن يفاضل بين أخذ الألفاظ بمعانيها الحرفية، فيكون عليه حتمًا أن يصف اسپينوزا بالتناقض، وبين مراعاة المعاني الأصيلة في فلسفته، والتخلي عن حرفية الألفاظ وتطويعها لما تقتضيه هذه المعاني، وعندئذٍ يزول كل تناقض، وتبدو فلسفته متسقة من بدايتها إلى نهايتها.
وإذن فقد كان اسپينوزا يربط ربطًا واعيًا بين الخلاف حول فكرة الله وبين نظرة الناس إلى علاقة الألفاظ بمعانيها. ونستطيع أن نقول إنَّه عندما وضع منهجه الهندسي، واستخدم ما أسميناه من قبلُ بطريقة «المعادلات» في التعبير عن معانيه الحقيقية، كان يقوم باختبار لقدرة العقول على متابعة المعاني الجديدة التي غُلِّفت في ألفاظ مألوفة لها في أذهان الناس ارتباطات انفعالية قوية، أو قدرتها على فهم فلسفته ذات الاتجاه العلمي الواضح من وراء القوالب المدرسية أو اللاهوتية التي صيغت بها، ولكن الذي حدث هو أن مجرد الاحتفاظ باللفظ التقليدي قد دفع معظم الأذهان إلى الاحتفاظ بالمعاني التقليدية كلها، أو على الأقل، إلى الرجوع إليها من آنٍ لآخر بطريقة لا شعورية، مخالفة في هذا كله تعاليم مؤلفها نفسه.
والواقع أننا لو شئنا أن نلتزم الدقة الكاملة لقلنا إنه لا جدوى من إثارة مشكلة اعتراف اسپينوزا بفكرة الله أو عدم اعترافه بها؛ ذلك لأن مجرد إثارة هذه المشكلة يعني تركيز الاهتمام في «اللفظ» ذاته، وهو في الواقع مظهرٌ لمدى سيطرة الألفاظ على الأذهان بحيث تطغى على المحتوى العقلي الذي تشير إليه؛ فالمشكلة، إذا ما شئنا أن نعبِّر عنها بدقة، لا تصاغ على النحو الآتي: هل اعترف اسپينوزا بفكرة الله أم لم يعترف؟ وإنما ينبغي أن تصاغ على هذا النحو: هل تتفق صفات المبدأ الأساسي للظواهر في فلسفة اسپينوزا، مع الصفات التقليدية اللاهوتية لفكرة الله أم لا تتفق؟ فإذا اتضح أن الإجابة على هذا السؤال إنما تكون بالنفي، فعندئذٍ لا يكون ثمة جدوى من الجدل حول «الاسم» الذي أطلقه اسپينوزا على هذا المبدأ الأساسي، إذ لن تعود لهذا الاسم أية دلالة فلسفية حقيقية طالما أن طبيعة مدلوله ذاتها قد اختلفت، وتصبح الدلالة الوحيدة له اجتماعية، مرتبطة بحياة اسپينوزا ذاته وظروف عصره.
ورغم أن الارتباطات الرأسمالية لكلمة «الديمقراطية» أقدم عهدًا وأكثر شيوعًا في العصر الحديث، فإن ذلك لا يمنع المؤمن بالاشتراكية من الدفاع أيضًا عن «الديمقراطية»، وذلك بعد أن يجعل مضمونها مطابقًا لتعريفه الخاص لها. وبهذا يكون قد قبِل «اللفظ»، ولكن بمعنى جديد تمامًا. فهل يجوز، لمجرد كونه قَبِل هذا اللفظ، أن نقول: إنَّه قد اقترب من المؤمن بالرأسمالية؟ إن الواجب في هذه الحالة، بالطبع، هو أن نغضَّ النظر تمامًا عن الهوية بين الألفاظ، ونبحث عن المعاني الحقيقية من ورائها، وألَّا يمنعنا تشابُه ألفاظ الفريقين من القول بأن موقفيهما متضادان تمامًا، وكما أن من العبث أن يقال إن الاشتراكي قد اقترب من الرأسمالي لأن كليهما يدعو إلى «الديمقراطية»، فمن العبث أيضًا أن يقال: إنَّ اسپينوزا قد اقترب من وجهة النظر اللاهوتية أو المدرسية لمجرد كونه قد ردد كلمة «الله» مثلهم. فلا بد، في الحالتين، من غضِّ النظر عن اللفظ وتركيز الاهتمام على الحقيقة الكامنة من ورائه، وتحديد المواقع الحقيقية لكل طرف على أساس معانيه، لا ألفاظه.
ومع ذلك فإن المشكلة عند اسپينوزا تزداد تعقدًا؛ لأنَّه لم يقتصر على استخدام لفظ «الله» بمعانٍ جديدة فحسب، وإنما كان حريصًا كل الحرص على الاحتفاظ بمجموعة كاملة من التعبيرات التقليدية، مثل «إطاعة الأوامر الإلهية»، و«الحب الإلهي»، و«تقوى الله» … إلخ. وذلك كله يزيد من احتمال وقوع القارئ في خطأ التفسير المضاد لمعانيه الحقيقية، وهو بلا شك يعلل وجود هذا العدد الهائل من التفسيرات غير الدقيقة لفلسفته. وبعبارة أخرى: فاسپينوزا لم يقتصر على استخدام الألفاظ التقليدية بمعانٍ جديدة فحسب، بل إنه يحاول دائمًا أن يستخدم هذه الألفاظ في تركيبات توحي بأنها ما زالت محتفظة بمدلولاتها القديمة؛ وهدفه من ذلك هو أن يثبت أن المعاني الجديدة كفيلة بتحقيق جميع الأغراض التي كانت تُستخدم من أجلها المعاني القديمة، رغم تمشِّي الأولى مع النزعة العلمية واستبعادها للخرافة.
وهنا يغدو المجهود الذي ينبغي أن يبذل في تفسيره مجهودًا مضاعفًا: هو إثبات أن المعنى الجديد للفظ متسق حتى من خلال عشرات التركيبات والتعبيرات التي توحي بعكس ذلك، والتي يميل القارئ بطبيعته إلى تفسيرها بالطريقة التقليدية، وكشف المغزى الحقيقي لحرصه المتعمد على أن يظهر كما لو لم يكن مخالفًا للتراث.
(٢) الصفات الإلهية وفكرة الطبيعة
كانت فكرة «الله أو الطبيعة» هي الفكرة الأقوى ظهورًا في فلسفة اسپينوزا. وقد وجد هذا التعبير تفسيرات مُتعددة، رغم وضوحه الظاهر، وقيل: إنَّ الهوية التي يضعها اسپينوزا بين الله وبين الطبيعة ليست كاملة، بل إنَّ الكثيرين من الشراح، رغم اعترافهم بالمبدأ الرئيسي القائل: إنَّ اسپينوزا يقرن دائمًا بين الله وبين الطبيعة وبين الجوهر، قد تجاهلوا هذا المبدأ في كثير من الأحيان، وكانت تنزلق في كتاباتهم، عن وعيٍ أو دون وعي، كثير من المعاني التقليدية لفكرة الله، وهي نفس المعاني التي كرَّس اسپينوزا ذهنه لانتقادها.
وينبغي أن تكون نقطة البداية في بحثنا لهذا الموضوع هي تحديد المقصود على وجه الدقة من تلك المعادلة التي جمع فيها اسپينوزا بين الله والطبيعة، وذلك ببحث الصفات التي نسبها اسپينوزا إلى فكرة الله، ومقارنتها من جهة بالصفات التي يعزوها التراث الديني إلى هذه الفكرة، ومن جهة أخرى بالصفات التي يمكن أن تُعزى إلى الطبيعة. وعلى أساس هذا البحث المقارن نستطيع أن نجيب على السؤال: هل كان المقصود من فكرة الله عند اسپينوزا هو النظام الكلي للأشياء، أو الطبيعة في مجموعها، أم أن المقصود منها شيء يزيد على الطبيعة؟
ولهذا البحث في الصفات الإلهية، ومدى انطباقها — أو عدم انطباقها — على مفهوم الطبيعة أهميته القصوى في تفسير فلسفة اسپينوزا؛ ذلك لأن الكثير من المفسرين يتحدثون عن إله اسپينوزا كما لو كان هو ذاته الإله التقليدي، وكل ما في الأمر أن صفات معينة قد تغيرت فيه، دون أن يطرأ على الدلالة العامة للفكرة أي تغير. وسوف تمر بنا خلال هذا الفصل أمثلة متعددة لهذه الطريقة في تفسير اسپينوزا، وهي في اعتقادنا دليل حاسم على أن اسپينوزا فيلسوف لم يفهم بعد فهمًا كاملًا.
•••
هنا تكون الطبيعة الطابعة هي النظام الشامل للأشياء، من حيث إنه ذو وجود ضروري، ولا يمكن أن يتصور بغيره لأن شيئًا لا يخرج عنه، كما أن العِلِّية فيه باطنة؛ أي لا يتحكم فيه شيء خارج عنه. أما الطبيعة المطبوعة فهي الأوجه الجزئية أو المكونات الموجودة في العالم من حيث هي تعبير جزئي عن «الصفات» الشاملة للجوهر: ومن أمثلتها الأجسام الفردية، التي هي أوجه لصفة «الجسمية» الشاملة في الجوهر، وهي أوجه لا تفهم قوانينها بذاتها، بل ينبغي دائمًا ربطها بالكامل الشامل الذي تنتمي إليه.
والمشكلة الحقيقية — إذا كانت الطبيعة في مجموعها تتصف بالأوصاف الإلهية التقليدية — هي أن نحدد نوع الأوصاف التي يعزوها اسپينوزا عادةً إلى فكرة الله، لنقرر مدى اتفاقها مع فكرة الطبيعة، وسوف نجد أن البحث في هذه الأوصاف ينقسم إلى موضوعات ثلاثة:
(٢-١) استبقاء الأوصاف المشتركة بين الفكرتين
في التعريف السادس من مجموعة التعريفات التي يستهل بها اسپينوزا كتاب الأخلاق، يعرف الله بأنه «كائن لا متناهٍ لصفةٍ مطلَقة؛ أي إنه جوهر ينطوي على صفات لا متناهية، تعبِّر كلٌّ منها عن ماهية أزلية لا متناهية.»
وينبغي أن نلاحظ هنا، أولًا، الدلالة البالغة لنفس فكرة وضع تعريف لله ضمن التعريفات الأولى في كتابه. فمن المشكوك فيه إلى حدٍّ بعيد أن يكون هناك أي فيلسوف آخر قد استهل كتابًا رئيسيًّا له بعبارات منها؛ أعني بالله كذا وكذا … ذلك لأن اللفظ في نظر الفلاسفة التقليديين مفهوم بذاته، لا يحتاج إلى تعريف (إلا إذا جاء ذلك التعريف وسط البحث لإثبات نقطة معينة فحسب). أما إدراج لفظ «الله» ضمن مجموعة أخرى من الألفاظ التي يراد تنبيه القارئ إلى معانيها الجديدة، فهذا أمر لا نلمسه إلا لدى اسپينوزا، وهو عنده يعني أن ينبه القارئ تنبيهًا صريحًا إلى أن تلك الفكرة ليست تلك التي ألِفها واعتادها طوال حياته. وفي محاولة التعريف الاستهلالي هذه خروج تام على المألوف في عالم الفلسفة واللاهوت حتى ذلك العصر؛ لأن المفروض أن معنى كلمة الله «يفرض ذاته» على المفكر، وليس المفكر هو الذي يحدد هذا المعنى بقوله: «أعني»؛ فهنا تصبح الفكرة أداة في يد الفيلسوف لإثبات مواقف معينة، وليست فكرة تفرض نفسها على العقل البشري وتأتي معها بمعانيها دون أن يملك هذا العقل تغييرها أو التحكم فيها.
فما هي الأوصاف التي تستخلص من هذا التعريف؟ إنها هي الشمول واللانهائية المطلقة، أي مجموع الوجود بما فيه من صفات لا نهائية، كل صفة منها تعبير عن وجه لا نهائي، مكتفٍ بذاته، من الأوجه التي يمكن أن يفهم بها الوجود.
وهكذا يحدد اسپينوزا لفكرة الله، في تعريفاته الأساسية، الأوصاف الآتية: الوجود الضروري، واللانهائية، والأزلية، والشمول، كل هذه الأوصاف لا تتعارض على الإطلاق مع مفهوم «الطبيعة من حيث هي مبدأ خلاق» أو «الطبيعة بوصفها النظام الكلي الشامل للعالم». ولقد رأيناه من قبل يصف الطبيعة بأنها موجودة بالضرورة. أما كونها لا نهائية وشاملة لكل ما هو موجود، وأزلية (في قوانينها التي لا تتبدل)، فهذا أمر يقرُّه أي تفكير سليم.
(٢-٢) إضافة أوصاف لا تنطبق إلا على فكرة الطبيعة
والوصف الذي يخطر على الذهن توًّا، في هذا الصدد، هو وصف «الامتداد»، الذي كان في رأي اسپينوزا من أوصاف الله، شأنه تمامًا شأن وصف «الفكر».
وكما قلنا من قبلُ في صدد تعريف الجوهر وصفاته، فمن الخطأ أن يقال: إنَّ اسپينوزا يقول بوجود صفات مختلفة تتميز بها فكرة الله — أو الجوهر الشامل — بحيث تفسر كل صفة منها جانبًا معينًا في الفكرة، فأبعد الأمور عما يقصده اسپينوزا هو أن الله، بوصفه جوهرًا، «تُحمل عليه» صفات معينة، كالفكر والامتداد، وإنما كان هدفه الحقيقي هو أن يؤكد أن كلًّا من هذه الصفات «هي ذاتها» الجوهر منظورًا إليه من الوجه الذي تمثله هذه الصفة. وكل صفة تستغرق الجوهر «كله»، وتمثله تمثيلًا كاملًا بطريقتها الخاصة؛ وعلى ذلك فحين يقول اسپينوزا إن الله ممتد يعني أن من الممكن النظر إلى فكرة الله من وجه الامتداد بحيث يكون هذا الوجه شاملًا لكل جوانب الفكرة، مثلما أن الوجه الفكري يمكنه بدوره أن يشمل كل جوانبها من ناحيته الخاصة.
•••
هذه بعض النصوص التي توضح وجهة نظر اسپينوزا من فكرة «مادية الله»، ولا جدال في أن وصف الله بالمادية، أو بالامتداد، يخالف تمامًا كل تراث فلسفي وديني سابق عليه، فصفة المادية صفة جديدة كل الجِدة، أضافها اسپينوزا إلى فكرة الله، واعترف هو ذاته بأنه كان فيها مخالفًا لكلِّ مَن سبقوه.
ففي أي مذهب يجعل الله حقيقة مستقلة عن الطبيعة، يمكن أن يعد الله ممتدًا؟ يكفي أن يستعرض المرء في ذهنه الصفات التي ترتبط بفكرة «الله» ليجد أن من المستحيل التوفيق بين أي معنًى مألوف لهذه الفكرة وبين فكرة كون الله ممتدًا. فصفة الامتداد ناشزة تمامًا وسط الصفات الأخرى التي تنسبها المذاهب الدينية والفلسفية عادةً إلى فكرة الله، وهي وحدها كفيلة، إذا ما تمسكنا بها، بأن تجعل كثيرًا من الصفات المألوفة مستحيلة؛ فكيف يكون الله خيرًا، مثلًا، إذا كان ممتدًا؟ وعلى العكس من ذلك، فإن صفة الامتداد متسقة تمامًا مع معنى «النظام الكلي للأشياء» أو «الطبيعة في مجموعها»: ولا يمكن أن يوجد أي تناقض عندما يُدرج الامتداد ضمن الصفات الأخرى لمجموع الطبيعة. وقد يقال إن صفة الفكر في هذه الحالة، هي التي تغدو متنافرة مع بقية أوصاف الطبيعة، ولكن هذا غير صحيح، فظاهرة الفكر موجودة في الطبيعة، تتمثل في نوع واحد من أنواعها على الأقل، هو الإنسان؛ أي إننا إذا تأملنا جميع العناصر التي تكشف عنها الطبيعة في مجموعها، فسنجد حتمًا أن الفكر واحد من هذه العناصر؛ وبذلك لا نكون قد خرجنا على الإطلاق على مفهوم الطبيعة كما نألفه إذا قلنا إن الطبيعة تتصف بالفكر مثلما تتصف بالامتداد. أما في حالة فكرة الله، فمن المؤكد أن مفهوم الامتداد يتعارض مع كل معانيها المألوفة. أما إذا حاولنا أن نتخلص من هذه الصعوبة بإدخال تعديل أساسي في مفهوم فكرة الله بحيث يتمشى مع إمكان الاتصاف بالامتداد، فلا جدال في أن المفهوم الناتج بعد هذا التعديل سيكون شيئًا جديدًا كل الجدة، لا يكاد يتصل بين المفهوم السائد في شيء، بل يصبح فكرة جديدة مختلفة تمامًا عن الفكرة التي تنصرف إليها أذهاننا كلما قيل لفظ «الله» أمامها — فكرة يكون لفظ «مجموع الطبيعة» هو في واقع الأمر أصلح الألفاظ للانطباق عليها. ولنذكر هنا مرة أخرى ما رددناه مرارًا من قبلُ، من أن الأمر الذي ينبغي أن نهتم به ليس هو الألفاظ؛ أعني ليس الصورة الكلامية للفظ «الله»، وإنما المعاني الكامنة من وراء اللفظ، بحيث إنه إذا طرأ على هذه المعاني تغيير حاسم، واستبقى اللفظ ذاته في صورته الكلامية فحسب، فليس لنا أن ندع هذه الصورة الكلامية تؤثر فينا بارتباطاتها القديمة، وإنما الواجب — لكي يكون التحليل دقيقًا — أن نتخلى عن كل هذه الارتباطات ونتأمل المعاني الجديدة في ضوئها الخاص.
ومع ذلك فإن الكثيرين من شُرَّاح اسپينوزا لا يودُّون أن يعترفوا بأن المساواة التامة بين ما يقصده اسپينوزا من فكرة الله وبين فكرة الطبيعة في مجموعها هي أمر يحتمه — ويكشف حقيقته — القول بأن الامتداد من صفات الله. وهكذا تراهم يفسِّرون هذا القول الأخير على أنحاء تترك مجالًا للتفرقة التي لا يريدون التخلي عنها، في تفسيرهم لفلسفة اسپينوزا، بين فكرتَي الله والطبيعة.
وأخيرًا، فهناك دليل آخر له في رأينا أهمية كبيرة في إثبات التفسير الذي نقول به، أعني تفسير فكرة مادية الله بأنها تعبير واضح عن المعنى الحقيقي لفكرة الله عند اسپينوزا، وهو معنى «النظام الكلي للأشياء» فحسب، ذلك الدليل مستمد من حملة اسپينوزا العنيفة على كل نظرة إلى الألوهية تكون «تشبيهية بالإنسان»، وهي الحملة التي تحدثنا عنها من قبلُ في صدد الكلام عن موقع القيم في الكون، وسوف نتناولها بعد قليل بمزيد من البحث في صدد الكلام عن الأوصاف التي ينفيها اسپينوزا عن فكرة الله؛ ذلك لأننا إذا احتفظنا بأي ظل من المفهوم المألوف لفكرة الله، وهو مفهوم «مشخص» بطبيعته، ثم أضفنا إلى ذلك المفهوم صفة المادية، فعندئذٍ يكون اسپينوزا قد وقع في أسوأ أنواع التشبيه بالإنسان إذ يكون قد تصوَّر إلهًا مشخصًا وماديًّا في آن واحد، وبذلك يكون قد وقع في أخطاء أسوأ كثيرًا من تلك التي أخذها على خصومه من لاهوتيي العصور الوسطى؛ أعني أخطاء الرجوع إلى آلهة العقائد البدائية والأساطير!
(٢-٣) حذف أوصاف تتعارض مع فكرة الطبيعة
والفئة الثالثة من الأوصاف التي عزاها اسپينوزا إلى فكرة الله هي أوصاف تُعزى عادةً إلى هذه الفكرة، في المفهوم التقليدي لها، ولكن اسپينوزا يستبعدها وينتقدها. وليس من قبيل المصادفة أن هذه الأوصاف التي استبعدت كلها لا تصلح للانطباق على فكرة الطبيعة. فلهذا الاستبعاد دلالة لا شكَّ فيها، هي أن اسپينوزا حيثما كان يجد تعارضًا بين المفهوم التقليدي لفكرة الله وبين فكرة الطبيعة، كان يعدل هذا المفهوم بحيث يزول كل تعارض. والتعليل الوحيد لذلك هو، بطبيعة الحال، حرصه على تأكيد الهوية التامة بين الفكرتين.
-
(١)
«العرضية وحرية الإرادة»: كانت فكرة حرية الإرادة، بمعنى التحرر التام للمشيئة من جميع القيود والقوانين، من الأوصاف المألوفة التي كان اللاهوتيون يعزونها دائمًا إلى فكرة الله. وقد انتقد اسپينوزا هذا القول بحرية الإرادة — مفهومة بهذا المعنى — وانتفد معها فكرة العرضية التي ترتبط بها وتنتج عنها، وأكد فكرة الضرورة التي تسري على جميع المجالات، حتى المجال الإلهي، ثم أثبت بعد ذلك أن هذا هو الفهم الوحيد المتسق لفكرة الله، وأن كل فهم مبني على الآراء التي انتقدها متناقض مع نفسه حتمًا.
ولو شئنا الدقة اللفظية لقلنا إن اسپينوزا يعترف بالحرية الإلهية، ولكن هذه الحرية عنده لا تعني القدرة على الفعل وعدم الفعل، وإنما هي الحرية المعبرة عن الطبيعة الإلهية الضرورية،٢٨ فهو ينكر الفكرة القائلة إن الله يستطيع ألا يفعل ما يفعل، وهي الفكرة التي تكون الفهم الشائع للحرية الإلهية، ويؤكد أن المشيئة، إذا ما فُهمت بهذا المعنى، لا يمكن أن تكون من صفات الفعل الإلهي،٢٩ فالحرية الإلهية كما يفهمها هي أن الله يفعل حسب قوانينه الخاصة، ولا يوجد ما هو خارج عنه ليرغمه، وبالتالي فليس ثمة قوة تدفعه إلى تغيير مسلكه، أو على الأصح، تغيير القوانين التي تسير لعيها طبيعته، وبهذا المعنى الحتمي لفكرة الحرية؛ أي بمعنى الفعل حسب القوانين الذاتية دون إرغام خارجي، يكون الله وحده هو العلة الحرة،٣٠ إذ إن كل ما عداه يتأثر بعوامل خارجية، بينما هذا التأثر لا يسري عليه. والخلاصة أن الحرية الإلهية ترتبط بفكرة الصرورة أوثق الارتباط؛ فهي حرية «الطبيعة»؛ أي الحرية الناجمة عن اتباع القوانين الذاتية، ولكنها تنفصل تمامًا عن فكرة الإرادة أو المشيئة الخارجة على كل قانون؛ إذ إن مثل هذا الخروج، إذا فُهم على حقيقته، لا يكون حرية في الواقع، وإنما يكون خضوعًا لعوامل خارجية هي التي تحض على مخالفة القوانين الأصلية، ومثل هذا الخضوع بعيد كل البُعد عن الطبيعة الإلهية.ويؤكد اسپينوزا أن القول بأن الله متسق دائمًا مع نفسه، وأنه ظلَّ يمارس دائمًا نفس النوع من النشاط طوال الأزل، فيه مزيد من الإعلام للقدرة الإلهية، وإن فكرة الأزلية ذاتها لتحتم القول بضرورة الفعل الإلهي، [فالخصوم ذاتهم يعترفون] بأن جميع الأوامر الإلهية قد صدق الله عليها ذاته منذ الأزل … ولكن ليس في الأزل معانٍ مثل متى، أو قبل، أو بعد؛ وعلى ذلك فإن الكمال الإلهي وحده يستتبع ألا يأمر الله أبدًا، أو يكون قد أمر، بأي شيء سوى ما هو موجود، وأن الله لم يوجد قبل أوامره، ولا يمكن أن يوجد دونها.»٣١والواقع أن فكرة المشيئة، أو القدرة على الفعل تبعًا للقوانين الضرورية وعدم الفعل تبعًا لهذه القوانين، إنما هي، كما يؤكد اسپينوزا تشبيه للطبيعة الإلهية بطبيعة الناس، ولا سيما الملوك؛ أي إن الطبيعة الإلهية تُتصور في هذه الحالة على مثال طبيعة الملوك المستبدين، الذين لا يسلكون إلا اعتباطًا، ولا يلتزمون بقانون،٣٢ ولكن من المحال، في رأي اسپينوزا، أن يبدأ المرء في فهم الطبيعة الإلهية إلا إذا حرص بكل دقة على أن يتجنب الخلط بين القدرة الإلهية وبين القدرة البشرية وحق الملوك٣٣ «فالكائن الأزلي اللامتناهي، الذي نسميه بالله أو الطبيعة، يفعل بنفس الضرورة التي يوجد بها … والسبب أو العلة التي يوجد من أجلها الله أو الطبيعة، والسبب الذي من أجله يفعل، هو سبب واحد.»٣٤ أما فكرة العرضية، التي يعتقد عادةً أن فيها إعلاء للطبيعة الإلهية أو توسيعًا لنطاق قدرتها، فإن مصدرها الوحيد هو الجهل، «فالشيء لا يمكن أن يُسمَّى عرضيًّا إلا بالنسبة إلى نقص معرفتنا.»٣٥ وإذا اكتمل علمنا، فإن الضرورة هي التي تغدو سائدة؛ إذ إن الأشياء، إذا ما نُظر إليها في ضوء المعرفة الكاملة بها، تكون إما ضرورية أو مستحيلة. وهي لا تبدو عرضية إلا نتيجةً لجهلنا بالأسباب. وهكذا كان دفاع اسپينوزا عن فكرة الضرورة، حتى في مجال الفعل الإلهي، هو في واقع الأمر دفاع عن قابلية الأشياء للمعرفة، وليس أدل على ذلك من قوله: «إن من الواجب رفض فكرة حرية المشيئة الإلهية، لا لأنها عقيمة فحسب، بل لأنها أيضًا عقبة كأْداء في طريق المعرفة.»٣٦هذه النصوص من أوضح نصوص اسپينوزا دلالة، وليس من الصعب الاستدلال على المعاني الحقيقية الكامنة من ورائها؛ إذ إن القشرة اللاهوتية التي غلفت بها هذه النصوص رقيقة هشة إلى أبعد حد، وهي تكشف بشكل مباشر عن الاتجاه العلمي الواضح المتضمن فيها.
ذلك لأن مجرد إدخال فكرة الضرورة في مجال اللاهوت هو في ذاته ثورة على كل ما كان يقال في هذا المجال؛ إذ إن اللاهوتيين كانوا يرون في فهمهم الخاص لفكرة الله وسيلة لإيجاد مخرج من فكرة الضرورة وحتمية القانون الطبيعي، ولإظهار العالم بصور ينقاد فيها لنوع من الأوامر الاعتباطية الشبيهة بأوامر حاكم لا يعترف بقانون؛ فالهدف الواضح لاسپينوزا هو تأكيد فكرة الضرورة وسيادة القانون في جميع أرجاء الكون، ومع ذلك فهو يعبِّر عن هذه الفكرة، على طريقته المعهودة، بالقول إن فكرة الضرورة أليق بالكمال الإلهي من فكرة الحرية العشوائية التي تتمثل في تحدي القانون أو تغييره عمدًا، ويكون المعنى المقصود بالفعل من ذلك هو أن صفة الضرورة أصلح للانطباق على العالم الذي يسير بقوانين ثابتة، منها على التصور اللاهوتي لكائن مشخص عالٍ على الطبيعة ذي مشيئة حرة. وبعبارة أخرى: فإن الفهم العِلِّيَّ للعالم يحتِّم استبعاد فكرة الخروج العشوائي على القانون والنظام المطرد من مجال تلك الحقيقة التي نتخذها حدًّا نهائيًّا لجميع تفسيراتنا وأفكارنا، فماذا يكون الدور الحقيقي لفكرة الله، عندئذٍ، خارج القوانين الطبيعية الضرورية، التي يصفها اسپينوزا بأنها «أزلية»؛ أي لم تبدأ في الوجود ولن تتبدل أو تبطل أبدًا؟ من المؤكد أن اسپينوزا لم يجعل لهذه الفكرة أي دور يخرج عن الدور الذي تقوم به فاعلية الطبيعة ذاتها، ولا يجد المرء مفرًّا كلما أمعن النظر في هذا الموضوع، من القول إن الفكرة عنده إضافة لفظية لا داعي لها، ومن الممكن أن تستقيم فلسفته تمامًا بدونها، وهو يكاد يعبِّر مباشرة عن قصده الحقيقي حين يقول «يعتقد البعض أن الله علة حرة؛ لأنه في اعتقادهم يستطيع ألا يُحدث الأشياء التي قلنا إنها تتلو من طبيعته؛ أي الأشياء الواقعة في نطاق قدرته، أو يجعلها غير واجبة الحدوث منه، ولكن هذا أشبه بقولهم أن الله كان يستطيع أن يجعل طبيعة المثلث لا تحتم أن يكون مجموع زواياه الداخلة قائمتين، أو أن معلولًا معينًا لا ينتج من علته، وهو قول ممتنع.»٣٧ وإذا عبرنا عن فكرة اسپينوزا هذه من خلال المصطلح الحديث، لقلنا إن العلاقة بين الله وبين الأشياء تُعد عندئذٍ علاقة «تحليلية» والضرورة فيها هي نفس الضرورة التحليلية التي تربط بين المثلث ومجموع زواياه الداخلة. ومثل هذا النوع من العلاقة يستبعد أية علِّية خارجية أو عالية، وهو بلا شك ينطبق كل الانطباق على العلاقة التي تربط الأشياء الجزئية بمجموع العالم من حيث هو ينطوي على كل ما يمكن تصوره من الإمكانيات. -
(٢)
«الخيرية»: الوصف بالخيرية من أكثر الأوصاف الإلهية شيوعًا في كل مذهب يقول بأي نوع من الانفصال بين الله والطبيعة؛ إذ يكون الخير عندئذٍ هو الغاية التي يستهدفها الله في توجيهه للعالم. ولقد رأينا من قبلُ كيف انتقد اسپينوزا فكرة تأكيد وجود القيم — كالخير أو الجمال — على مستوى الضرورة الكونية. ولما كان مجال البحث هنا على نفس ذلك المستوى، فإنه يطبق نقده هذا على فكرة الخيرية الإلهية لينفيها بدورها.
ومن الواضح أنَّ نفي هذه الصفة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنفي صفة العرضية والمشيئة الحرة، التي عرضنا لها من قبلُ، فسيادة الضرورة في الطبيعة تعني عدم وجود غايات. والقول إن الخير غاية إلهية، معناه في رأي اسپينوزا أنَّ هناك قوة خارجية تتحكم في الأفعال الإلهية. وهذا لا يختلف كثيرًا عن القول بالمشيئة الحرة. وإنما الصورة التي يكوِّنها اسپينوزا هي صورة فعل محض لا تغيير فيه، ولا غائية يخضع لها. وهو يرد على من يقولون إن الفعل الإلهي يستهدف دائمًا تحقيق ما هو خير بقوله إنهم يفترضون شيئًا ما خارجًا عن الله يستهدفه الله، بوصفه أنموذجًا أو غاية محدودة، في أفعاله،٣٨ وهو محال نتيجةً لما أثبته مرارًا من أن فكرة الله شاملة لكل شيء. والواقع أن صفة الخير هذه صفة مستمدة من المجال البشري، ولا يمكن تصوُّرها بدون الإنسان. أما الكائن الشامل لكل شيء فلا ينبغي تصوره من خلال مثل هذه الأوصاف؛٣٩ ذلك لأن الكائن الشامل لا يُنظر إليه إلا من خلال العقل، ولا تنطبق عليه إلا القوانين الضرورية. وحيث يسود العقل وتسري الضرورة المطلقة لا يكون للخير — أو للشر — أي مجال. وإنما الخير والشر ينطبقان على مجال الآمال والمخاوف والقيم البشرية فحسب. فليس في الطبيعة، من حيث هي ضرورية، خير ولا شر، وليس للحادث إذا ما نُظر إليه من حيث علاقاته الضرورية بمجموع حوادث الكون أية صلة بقيمة من هذه القيم؛ ذلك لأنه «لو كان البشر قد وُلدوا أحرارًا، لما كونوا أية فكرة عن الخير والشر.»٤٠ وفي برهان اسپينوزا على هذه القضية ذاتها يقول: «أعني بالحر من لا يقوده إلا عقله؛ ومن ثم فإن من وُلد حرًّا، وظل حرًّا، لا تكون لديه إلا أفكار كافية adequate؛ وعلى ذلك … فليست لديه فكرة عن الشر، وبالتالي (طالما أن الخير والشر متضايفان) عن الخير.»ولنتأمل جيدًا دلالة فكرة تضايف الخير والشر؛ فالشر، كما يؤكد اسپينوزا، هو سلب وعدم، وليس صفة لها وجود أو كيان، ومن المحال أن يكون في طبيعة الأشياء ذاتها شر، ولكن حيث لا يوجد الشر لا يوجد الخير أيضًا. والحادث الواحد يمكن أن يفسَّر على أي نحو نشاء، طالما أننا ننظر إليه من منظورنا البشري، ومن حيث هو حادث جزئي منعزل عن التيار العام للضرورة الطبيعية، إن الزلزال ذاته، الذي لا نكاد نتصوره إلا كارثة فادحة، وهو بالفعل كذلك في نظر معظم الناس، قد يكون سببًا في إنعاش صناعة البناء أثناء فترة التعمير التالية. وقد تذكره كثير من النفوس بالخير لأنه قضى على منافس أو جلب ميراثًا قبل الأوان أما إذا نظرت إلى الأمور في ذاتها، وتأمَّلت الزلزال وسط سلسلة الحوادث الطبيعية السابقة عليه واللاحقة له، فلن يكون إلا حادثًا ضروريًّا كان ينبغي أن يقع على هذا النحو، ولا يجوز لك، طالما أنك تتحدث من منظور الضرورة، أن تحكم عليه بأنه خير أو شر.
فإذا كان الخير والشر متضايفَين في الإنسان، ألا يكون معنى ذلك أنهما متضايفان في الله؟ وإذا كان الإنسان الحر لا يعرف الخير، أليس معنى ذلك بالأحرى أن فكرة الخير لا شأن لها بالطبيعة الإلهية أيضًا؟ إن اسپينوزا يكاد هنا يذكِّر رجال اللاهوت بحقيقةٍ طالما غابت عن أذهانهم؛ فهؤلاء لم يكن لهم من هدف، من قديم الزمان، إلا إثبات أن الشر لا يمكن أن ينتج عن الطبيعة الإلهية، وإنما هو حكم على الظواهر من خلال منظورنا البشري المحدود، ولا شأن لله ذاته بالشر. وهذا صحيح كل الصحة، ولكن النتيجة الخطيرة التي فاتتهم في هذا كله هي أنك حين تنفي الشر عن الإرادة الإلهية تنفي عنها الخير أيضًا. فكما أنك لا تستطيع أن تفهم لفظ «ابن» دون لفظ «أب»، فكذلك لا يمكن فهم الخير دون الشر. والفكرتان معًا متضايفتان، إن وُجدت إحداهما فلا بد أن توجد الأخرى وإن غابت واحدة غابت معها الثانية. والنتيجة الحتمية الوحيدة للمحاولات اللاهوتية لإثبات أن الشر معنًى يوجد في المنظور البشري وحده، هي أنها تؤدي إلى استبعاد كل القيم (التي هي حقًّا بشرية آخر الأمر) عن الطبيعة الإلهية. أما أن تستبعد وتستبقي المتضايف معها، فذلك تناقض لا شكَّ فيه.
-
(٣)
«العِلِّية الخالقة»: ينفي اسپينوزا عن فكرة الله أي وصف له صلة بفكرة العِلِّية الخالقة، ففكرة الخلق ذاتها هي في نظره تشبيه للقوى الإلهية بقوى الإنسان حين «يُحدث» شيئًا أو يكون علة له.٤١ فالطبيعة عنده ليست في حاجة إلى علة، بل إن اسپينوزا يحاول أن ينزع عن أذهان الناس ميلهم المأثور إلى تطبيق العِلِّية على كل شيء، حتى على الكون في مجموعه؛ فهو يؤكد أن العِلِّية لا تنطبق إلا على الأشياء الجزئية، ولكنها لا تنطبق على الجوهر، أو الطبيعة في مجموعها، ومن العبث أن نبحث عن علة للجوهر مثلما نبحث عادةً عن علل للأشياء الجزئية، فهو هنا يدعو إلى التوقف عن البحث عن علة للطبيعة بأسرها، ويحاول تعويد الأذهان على قبول فكرة الطبيعة الموجودة منذ الأزل، غير الناتجة عن علة.٤٢ ولو تحقق له هذا العرض، لزال بذلك أقوى سبب يؤدي بالناس إلى افتراض موجود خارج عن الطبيعة عالٍ عليها، يكون علة لها؛ فالعلِّية داخل المجموع علِّية باطنة. وهذا هو ما يعنيه اسپينوزا بفكرته القائلة إن الجوهر «علة ذاته Causa sui» — وهي فكرة سنعرض لها فيما بعدُ بمزيد من التفصيل. وبعبارة أخرى: فليس لك أن تلتمس للطبيعة في مجموعها علة؛ لأنَّ هذه الطَّبيعة أزلية لا تستطيع أن تقول إنَّها لم تكن في أي وقت موجودة ثم وُجدت.أما الأشياء الجزئية فتعليها يرجع إلى أشياء أخرى جزئية مثلها، ويعبِّر اسپينوزا عن تلك الفكرة بالأسلوب المدرسي المحافظ الذي اتخذه لكتاباته، فيقول «إن علة الفكرة الفردية هي فكرة فردية أخرى، أو الله لا من حيث إنه لا متناهٍ، بل من حيث هو متأثر بفكرة شيء فردي آخر يكون الله علة له، ويكون علة لهذا الأخير من حيث هو متأثر بفكرة شيء فردي ثالث. وهكذا إلى ما لا نهاية٤٣ وفي هذه الحالة تكون الأشياء الفردية هي علة بعضها البعض، وكلما حاولنا التوقف عند العِلِّية الإلهية محاولين أن نهتدي إليها خالصة، وجدناها بالفعل متأثرة بفكرة شيء فردي آخر، ويظل هذا التأثر ساريًا إلى ما لا نهاية. وبعبارة أخرى: فإذا جاز لنا أن نتحدث عن فاعلية إلهية في الأشياء الجزئية. فلا بد أن يكون ذلك من خلال أشياء جزئية أخرى. وهذا يؤدي في الواقع إلى الاستغناء تمامًا عن العِلِّية الإلهية والاكتفاء بتأثير الأشياء الفردية بعضها في البعض.
-
(٤)
«التشخيص والتشبيه بالإنسان»: ليس هذا وصفًا جديدًا من الأوصاف التي يستبعدها اسپينوزا من فهمه لفكرة الله، وإنما هو في رأيه خلاصة كل الأوهام والأفكار الباطلة التي لصقت بأذهان الناس عن هذه الفكرة، وهو منشأ كل الأخطاء التي ارتكبها رجال اللاهوت. فأصل البلاء كله، والعلة الأصلية لكل ما دار بأذهان الناس من أوهام في هذا الصدد، هو كما أكد اسپينوزا في تذييل الباب الأول من الأخلاق، نزوع الناس إلى تشبيه الله بالإنسان، أو تصوره على مثال الإنسان؛ فهو أصل الاعتقاد بالمشيئة الحرة؛ إذ يجد الناس في حكامهم، ولا سيما المستبدين منهم، نزوعًا إلى السلوك بلا قاعدة ولا قانون، وإلى التصرف في كل شيء حسبما يشاءون، فيصورون آلهتهم على هذا النحو ذاته. وحين يحكم الإنسان على بعض الظواهر بأنها خير لأنها أفادته هو ذاته على نحو ما، يتصور أن الطبيعة في مجموعها تستهدف مثل هذا الخير، وأنها تسير في طريق أريد منه أن يخدم الإنسان دون سواه. وحين يمارس الإنسان فاعليته على أشياء معينة، ويحدث باستخدام المادة الطبيعية، أشياء لم يكن لها وجود، يتصور أن الكون كله قد حدث أو خُلق بعد أن لم يكن له وجود، وأنه يحتاج إلى فاعل مثلما يحتاج نتاج الإنسان إلى صانع. وهكذا ترتد كل الأخطاء العقلية التي يقع فيها الناس في هذا الصدد، إلى خطأ واحد أصيل، هو وصف الأشياء على مثال صورة الإنسان، وتفسيرها وفقًا لغايات الإنسان وأغراضه الخاصة.
ويسخر اسپينوزا من هذا الاتجاه إلى التشبيه بالإنسان في الرسالة رقم ٥٤ فيقول: «في اعتقادي أن المثلث لو وُهب ملكة الكلام، لقال إن الله مثلث في المحل الأول، ولو وهبت الدائرة هذه الملكة لقالت إن طبيعة الله دائرية قبل كل شيء، وكذلك يقول أي كائن إن الله يتصف بصفاته هو، ويجعل الله شبيهًا به، بينما تُعد كل طريقة أخرى في الوجود قبيحة في نظره.»
والنظرة الصحيحة إلى العالم هي تلك النظرة التي خلت تمامًا من كل إشارة إلى العلل الغائية؛ فالظواهر لا تحدث «لكي» تحقق غرضًا ما (هو دائمًا غرض بشري في نظر الإنسان)، والطبيعة لا تستهدف إرضاء الإنسان، كما أنها في الوقت ذاته لا تتعمد إغضابه، وإنما هي تسير في مجراها الضروري، الذي يستطيع كل كائن أن يفسِّره على هواه، ولكنه من وجهة نظر العقل لا يقبل تفسيرًا إلا من خلال فكرة الضرورة فحسب. «إن الطبيعة لا تسلك مستهدفة غاية ما؛ إذ إن الكائن الأولي اللامتناهي، الذي نسميه الله أو الطبيعة، يسلك بنفس الضرورة التي يوجد بها … وليس لوجوده ولفعله أصل ولا غاية … وعلى ذلك فالعلة التي تسمى غائية ليست إلا الرغبة البشرية بقدر ما تعد أصلًا أو علة لأي شيء.»٤٤أما تذييل الباب الأول من «الأخلاق»، الذي أشرنا إليه من قبلُ، فإنه يتضمن صفحات تعد من أقوى وأعنف الانتقادات التي وُجهت إلى فكرة العلل الغائية وإلى كل محاولة لتشبيه الآلهة بالإنسان. ولا بد أن تسيطر على ذهن من يقرأ هذا التذييل بإمعان فكرة لا مفر منها، هي أن كاتب هذا الكلام، ولا سيما في العصر الذي عاش فيه اسپينوزا، لا يمكن أن يكون في قرارة نفسه معترفًا بأي إله سائد في عصره، أو بأي إله مشخص، ينظر إليه على أنه قوة منفصلة عن العالم أو مسيطرة عليه (ولست أدري هل يتبقى من الفكرة بعد ذلك شيء؟) ففي هذا التحليل التشريحي الصارم لأوهام الناس وأخطائهم الشائعة، وهي أوهام وأخطاء لم تسلم منها، في واقع الأمر، كل المذاهب الدينية والفلسفية السائدة في عصر اسپينوزا والعصور السابقة عليه، يستحيل أن يكون هناك مكان لما يعلو على الطبيعة، أو ينفصل عنها على أي نحو، ولا يمكن أن تكون هناك حقيقة سوى الطبيعة الشاملة أو النظام الكلي للأشياء. ويكفي هذا التذييل وحده لإقناع الذهن بأن كل تفسير لاسپينوزا من خلال أي مفهوم لاهوتي تقليدي، لا بُدَّ أن يتنافر تنافرًا شديدًا مع الروح التحليلية الصارمة التي تسود هذا التذييل.
ونستطيع أن نقول إنَّ اسپينوزا حين انتقد النظرة التشبيهية إلى فكرة الله، لم يكن ينتقد فقط أولئك الذين يصورون الآلهة بصورة إنسانية مباشرة، ويجعلون لها جسمًا ويدَينِ، ويتخيلونها غاضبة غيورة منتقمة. فمعنى التشبيه الذي يحمل عليه يتسع إلى أبعد من ذلك بكثير، ويمتد إلى ميادين عديدة ينزلق فيها الذهن إلى فكرة التشبيه دون أن يشعر. وكما قلنا من قبلُ، فنسبة أية قيمة بشرية، كالخير، إلى فكرة الله، فيها تشبيه بالإنسان وغائية ينبغي ألا تسري على نظام الكون في مجموعه؛ لأنَّ الكون لم يُصنع من أجل الإنسان، ولا من أجل أي كائن، ولا في سبيل أية غاية من تلك الغايات التي نضعها، نحن البشر، لحياتنا، وبنفس هذا المنطق يمكن القول إن أي نوع من التفاهم أو الاتصال أو التقارب بين المبدأ الإلهي وبين الإنسان فيه تشبيه. وهكذا يحتم تفكير اسپينوزا على المرء، إذا شاء أن يكون متسقًا مع نفسه، أن يصف كل ما يتصل بالمجال الإلهي بأنه لا شأن له بالإنسان (لا بمعنى أنه مضاد للإنسان، أو يتعمد عدم الاكتراث به، وإنما بمعنى أن الضرورة السائدة فيه لا تستهدف إرضاء الإنسان ولا إغضابه، بل تسير في طريقها الحتمي فحسب)، فمجال القوانين الإلهية لا صلة لها بغاياتنا، بل إن أمانينا وقيمنا تنحصر في عالمنا الجزئي الخاص، ولا يكون لها معنًى إلا في داخله، ولا تعني شيئًا إلا في ذلك المجال، «فالتعقل، والإرادة، إذا كانت تؤلف الماهية الإلهية، ينبغي أن تكون بعيدة عن التعقل والإرادة لدى البشر بُعدَ القطب عن القطب، بل لا يكون بين الاثنين من عنصر مشترك، في الواقع، إلا الاسم، ولا يكون بين الاثنين من مطابقة إلا ما يوجد بين مجرَّة «الكلب» السماوية وبين الكلب الذي هو حيوان ينبح.»٤٥ولست أدري بأي معنًى يمكن أن تُفهم فكرة الألوهية في هذا السياق، غير معنى النظام الكلي للأشياء أو الطبيعة في مجموعها. وليحاول أي شخص أن يتخيل ماذا يتبقى من المفهوم التقليدي لهذه الفكرة بعد حذف كل هذه الأوصاف، وليذكر بعد ذلك أن اسپينوزا طالما وضع كلمتَي الله والطبيعة على أنهما تشيران إلى حقيقة واحدة، ثم ليتساءل: أليس هذا واضح الدلالة على أن لفظ Deus كان عنده لفظًا زائدًا؛ أي مجرد لفظ كلامي صوتي؟ ألم تكن كل المعاني التي تعزى إلى هذا اللفظ عادةً غائبة تمامًا عن ذهنه؟ ألا تنطبق أوصافه كلها، بكل اتساق، على مفهوم الطبيعة أو مجموع الكون؟ وما قيمة ترديد الاسم على الدوام، إذا كانت الحقيقة التي يدل عليها هذا الاسم هي حقيقة لا يعني المنظور البشري بكل ما فيه أي شيء بالنسبة إليها؟ إن كل ما كان يعنيه البشر عندما تصوروا لأنفسهم آلهة منذ أقدم العصور، هو أن يجدوا في الكون قوة تفهمهم وتتصل بهم على نحو، وتقدر أمانيهم على الأقل، إن لم تكن تحققها بالفعل، فإذا نفى مفكر هذا الاتصال، وانتقد بشدة أي تشبيه للآلهة بالإنسان، فماذا يكون قد تبقى لدى هذا المفكر من الأوصاف التي ظل البشر يعزونها دائمًا إلى الآلهة، بل ماذا يكون «المبرر» للقول بإله عندئذٍ؟ ألا تكون الفكرة، بأوصافها هذه، منطبقة على الطبيعة وحدها فحسب؟
(٣) دلالة إخفاق براهين وجود الله عند اسپينوزا
لم يستخدم اسپينوزا، في محاولاته لإيجاد براهين عقلية على وجود الله، برهان العِلِّية في صورته المألوفة؛ إذ إن هذا البرهان يفترض الرجوع في سلسلة العلل حتى يستنفد العالم كله، وبعد ذلك يؤدي بنا مَيلنا الطبيعي إلى البحث عن علة لكل شيء، إلى افتراض وجود كائن آخر تقف به هذه السلسلة عند حد، ولا بد أن يكون هذا الكائن، عندئذٍ، عاليًا على العالم يمارس علِّيته دون أن يكون هو ذاته منتميًا إليه على أي نحو.
ويبدو أن اسپينوزا قد طبق مبدأ الاقتصاد في الفكر على مسألة العِلِّية الكونية هذه، فأدى به ذلك التطبيق إلى الوقوف، في سلسلة التعليلات، عند العالم في مجموعه؛ ذلك لأن افتراض كائن آخر «بعد» العالم للتخلص من مشكلة العِلِّية داخل هذا العالم، سيؤدي حتمًا إلى ظهور نفس المشكلات التي حاولنا، بافتراضنا له، أن نتخلص منها؛ إذ إنَّنا لو كنا لا نستطيع الكف عن ترديد السؤال: ما سبب كذا؟ فسيكون من المحتم علينا أن نظل نوجه هذا السؤال في صدد أي كائن نفترضه، سواء أكان داخلًا في نطاق العالم أم عاليًا عليه. ومع ذلك فالذي يحدث هو أننا نُقنع أنفسنا بضرورة الوقوف في سلسلة العلل عند حد معين. وهكذا نفترض كائنًا عاليًا على العالم يكون وسيلةً لإيقاف هذه السلسلة عند حد، ولكن إذا كان من المحتم أن نقف عند حد، وإذا لم يكن أمامنا مفرٌّ من أن نكبت، عند نقطة معينة، رغبتنا الطبيعية في البحث عن سبب لكل شيء، فلم لا تكون هذه النقطة التي نتوقف عندها هي الكون في مجموعه؟ إن مبدأ الاقتصاد في الفكر يوفر علينا — طالما أن مشكلة التوقف فجأة في سلسلة العلل ستظهر على أي حال — أن نفترض أي كيان خارج عن الطبيعة لنحل به مشكلة العِلِّية فيها، ويقنعنا بالتوقف عند حد الطبيعة ذاتها. وهكذا يتناول اسپينوزا جميع الأوصاف التي كانت تعزى عادةً إلى العلة فوق الطبيعية، وينسبها إلى آخر حلقة سابقة عليها سلسلة التعليلات؛ أعني آخر حلقة يمكن أن يتصورها العقل بوضوح دون أن يكون مرتكزًا على فروض غيبية. وكانت مهمة اسپينوزا — كما حددها لنفسه — هي أن يُثبت أن ما ينطبق على هذه العلة فوق الطبيعية يمكن أن ينطبق أيضًا على العالم أو الطبيعة في مجموعها، وأننا لا نخسر في هذه الحالة الثانية شيئًا، بل إن الأوصاف التقليدية كلها يمكن أن تنطبق على مجموع الطبيعة باتساق يختفي فيه ذلك التناقض الذي تتسم به كلما نُسبت إلى حقيقة تتجاوز الطبيعة.
على هذا النحو يبدو أن اسپينوزا قد فكر عندما استبعد كل حجة تتعلق بالعلِّية فوق الطبيعية. وكان النوع الوحيد الذي تصوَّره من العِلِّية هو العِلِّية الكامنة في الطبيعة؛ أعني علِّية النظام الكلي للأشياء، الذي لا بُدَّ أن يكون أساسًا لكل ما يحدث داخله من الظواهر، بل وأساسًا لذاته بمعنًى ما.
وسواء أكان هذا التفسير أو ذاك هو الصحيح، فإن المسألة الأهم هي أن كليهما يشير — بطريق مباشر أو غير مباشر — إلى ضرورة الابتعاد عن الفهم الحرفي للفكرة إذا أردنا من هذه الفكرة أن تكون مثمرة؛ فالقول: إنَّ المعنى الوحيد المعقول لفكرة «علة ذاته» هو أنها «اللامعلول»؛ يعني أن فكرة اسپينوزا تخفق إذا فُهمت من خلال المصطلح والتفكير المدرسي، وكذلك الحال في تفسير الفكرة من خلال وحدة القوة والفعل في الحقيقة الواحدة، ولا يجد المرء عندئذٍ مفرا من القول إن استخدام الاصطلاح المدرسي التقليدي كان مصطنعًا؛ فالمأزق لذي تنتهي إليه الحجج والتعبيرات المدرسية يؤدي إلى البحث عن تفسير مقنع من وراء الثوب اللفظي الذي تسري عليه كل هذه الانتقادات. وفي هذه الحالة لا يكون أمامنا مفر من أن نفسر فكرة «علة ذاته» عند اسپينوزا على هذا النحو: إذا كان هناك شيء هو علة ذاته؛ أي لم ينتج عن علة خارج ذاته، فهذا الشيء هو مجموع الطبيعة، الذي لا يمكن تصوُّره إلا موجودًا، وفي الطبيعة تكون العِلِّية داخلية بحق؛ فهذا المجموع الكلي للأشياء ينطوي في ذاته على كل ما يمكن أن يطرأ على الأشياء من تغيرات، وفي قوانينه الأزلية توجد بالقوة بذور كل تغيُّر أو حادث ممكن في العالم وهو ذاته قديم لا يمكن أن يكون من صنع حقيقة خارجة عنه.
ومن الطبيعي أن يوجه إلى هذا التفسير السؤال الآتي: ولماذا لا يمكن تصوُّر مجموع الطبيعة إلا موجودًا؟ أليست هناك مشكلة فلسفية كاملة اسمها مشكلة إثبات وجود العالم؟ والرد على هذا السؤال هو أن هذه المشكلة، التي كانت قائمة لدى الكثيرين من الفلاسفة، ولا سيما المثاليين منهم، لم تكن من المشاكل المعترَف بها أصلًا في فلسفة اسپينوزا، فوجود العالم عنده لم يكن موضوع تساؤل، وكتاباته كلها لا تتضمن حرفًا واحدًا ينم عن الشك في أن هذا العالم قد لا يكون موجودًا، أو يهيب بحقائق أخرى (كحقيقة «الصدق الإلهي» عند ديكارت) ليستمد منها الثقة بوجود العالم، فإذا كان تأكيد وجود العالم هو نقطة البداية الأولى للتفلسف، كما أوضحها اسپينوزا في السطر الأول من كتاب «الأخلاق» فإن اسپينوزا يمكن أن يعد «توكيديًّا» أو «دجماطيقيًّا» بحق في هذا الميدان. ومع ذلك فإن فلسفته ربما كانت أقوى محاولة جادة بُذلت لإثبات أن «التوكيدية» في هذا الميدان أسلم وأقرب إلى الفهم العلمي الدقيق لطبيعة الكون من الاتجاهات النقدية المؤدية إلى الشك أو اللاأدرية أو الإنكار المطلق لحقيقة العالم، وفي اعتقادي أن اسپينوزا سوف يُفهم فهمًا أفضل، ويُقدَّر أكثر مما قُدِّر حتى الآن، في اليوم الذي تكفُّ فيه الفلسفة ذاتها عن التساؤل الممل، والعقيم، عما إذا كان العالم موجودًا أو غير موجود، وتعد فيه هذا الوجود — كما فعل اسپينوزا — نقطة بداية واضحة بذاتها، لا مشكلة تضيع طاقة الفكر في محاولة إيجاد «الحلول» لها.
•••
وتختلف قيمة البراهين المفصلة التي ساقها اسپينوزا لإثبات وجود الله تبعًا للتفسير العام لتفكيره؛ فإذا فُهمت كتاباته بمعانيها الحرفية وضمنها كتاباته الكثيرة التي يرد فيها لفظ «الله»، كان من الضروري عندئذٍ أخذ هذه البراهين مأخذ الجد، ومحاسبته عليها حسابًا دقيقًا، سواء من حيث الخطأ وعدم الاتساق. أما إذا نُظر إلى هذه الكتابات — كما فعلنا في هذا البحث — على أنها تنطوي على معانٍ لا تكشف عنها لغته المدرسية اللاهوتية مباشرةً، وإنما تُستمد بعد مقارنة لمختلف أفكاره ومواقفه الرئيسية من فلسفة عصره وحضارته، فعندئذٍ تفقد هذه البراهين قيمتها إلى حدٍّ بعيد، وتغدو مجرد تكملة شكلية لبناء لفظي لم يكن صاحبه يعوِّل عليه كثيرًا، وفي هذه الحالة الأخيرة لا يكون المرء مضطرًّا إلى محاسبته على أخطائه أو عدم اتساقه عند عرضه لهذه البراهين، بل إن هذه الأخطاء تُعَد في واقع الأمر أدلة أخرى غير مباشرة على أن هذه البراهين لم تكن موضوعًا لاهتمامه الكامل؛ لأنها هي ذاتها كانت تتعلق بفكرة لها عنده قيمة لفظية فحسب.
وعلى أساس فهمنا الخاص لفلسفة اسپينوزا ومنهجه، لن نتناول من هذه البراهين إلا جانبها السلبي؛ أعني دلالة إخفاقها على ضآلة أهميتها في نظر اسپينوزا؛ ففي البرهان الثاني الذي يقدمه اسپينوزا في النظرية من الباب الأول للأخلاق، يقول: «إنَّ الشيء الذي لا يوجد سبب أو علة تمنع من وجوده، لا بُدَّ أن يوجد بالضرورة.» وهذه حجة باطلة؛ إذ لا شيء يمنع من وجود «السمك الماسي» مثلًا، ومع ذلك فهو غير موجود، ولو فُرض أنَّه اكتُشف يومًا، فلن يقول أحد: إنَّ وجوده ضروري، وأنَّ مجرد عدم وجود ما يمنع من وجوده يجعل ذلك الوجود ضروريًّا. وفي هذا البرهان، وكذلك في البرهان التالي مباشرةً المبني على أساس أن «عدم القدرة على الوجود عجز»، وبالتالي أنَّ الله بوصفه كاملًا، لا بُدَّ أن يكون موجودًا — خلط بين مجال الوجود ومجال الوجوب، وهو خلط كانت فلسفة اسپينوزا بأسرها محاولةً كبرى لتخليص الأذهان منه، لا سيما وهو الذي عرف كمال الشيء (أو قيمته) بأنه مجرد واقعيته.
وهذه نقطة جديرة بالانتباه حقًّا؛ فمن الاعتراضات المعروفة والمُسلم بها على كلِّ مَن استخدموا الحجة الأنتولوجية في البرهنة على وجود الله، أنهم يخلطون بين مجال الواقع أو الوجود ومجال القيم أو الوجوب. إنهم يتصورون أن مجرد وجود فكرة في الذهن تتصف بجميع صفات الكمال، وكون الوجود الحقيقي كمالًا بدوره، يعني أن هذه الفكرة لا بُدَّ أن تتصف أيضًا — ضمن كمالاتها — بالوجود الحقيقي. فأقل ما يقال عنهم هو أنهم يفترضون وجود كمال دوني شامل، أو يصبغون المبدأ الأول للكون بصفات الكمال المُطلق — نفس ذلك الكمال الذي نفهمه، نحن البشر، ولكن على أقصى نطاق يمكن تصوُّره، فكيف نوفِّق بين استخدام اسپينوزا لهذه الحجة، وبين تأكيده أنه لا كمال للشيء إلا واقعيته، وأن الكون في شموله لا يتصف إلا بالضرورة، وأنه يستبعد تمامًا كل وصفٍ من أوصافنا التقويمية؟ من المؤكد أن هذا البرهان لو أُخِذ، في فلسفة اسپينوزا، مأخذ الجد، فإنه يهدم فلسفته كلها من أساسها؛ إذ لا يعود هناك مبرر، عندئذٍ، للحملة على الغائية، أو على التشبيه بالإنسان، أو لتأكيد فكرة الضرورة. وهكذا يكون على المرء عندئذٍ إما أن يؤكد وجود تناقض أساسي في فلسفة اسپينوزا، أو أن يحاول تفسير التجاء اسپينوزا إلى البرهان الأنتولوجي على أنه جزء من بنائه الفلسفي الشكلي فحسب، وليس جزءًا من المعاني الحقيقية التي تتضمنها فلسفته.
ورغم ما أدخله «چويكم» في تفسيره هذا من تعبيرات مثالية فسر بها اسپينوزا من خلال مذاهب لم تظهر بعده إلا بزمان طويل، مثل «مجموع التجربة» أو «نسقها الكامل»، وهي تعبيرات تتمشى مع اتجاه «چويكم» العام في التفكير، فإن له مع ذلك فضل التنبيه إلى ضرورة الربط بين التفسير الممكن لطبيعة براهين اسپينوزا وبين المعنى الحقيقي المقصود من كلمة «الله»، ثم الإشارة إلى أن التفسير المتسق الوحيد هو ذلك الذي تعني تلك الكلمة فيه «مجموع الواقع»، بحيث تصبح الدلالة الحقيقية للبرهان هي أن افتراض أبسط وجود في هذا العالم يحتم التسليم بوجود «الواقع» أو الطبيعة في مجموعها.
وإذن ففي البراهين التي قدمها اسپينوزا لإثبات وجود الله، تتضح مرة أخرى تلك الحقيقة التي تكشَّفت لنا من قبلُ مرارًا، وهي أن العبارات التي تحدث فيها اسپينوزا عن «الله» تظل متناقضة تناقضًا أساسيًّا مع نفسها ومع سائر أوجه فلسفته طالما فهمت هذه الكلمة بمعناها الحرفي، ولكن هذا التناقض يزول، ويغدو كل شيء واضحًا جليًّا، إذا استبدل بهذا الفهم الحرفي فهم آخر يصبح فيه اللفظ معادلًا «لمجموع الطبيعة». وهنا أيضًا يمكن أن يقال إن هدف اسپينوزا هو أن يُثبت أن ما قاله الفلاسفة واللاهوتيون من قبلُ عن فكرة «الله»، يمكن أن ينطبق، بمزيد من الاتساق، على فكرة المجموع الكلي للأشياء.
أما أولئك الذين يأخذون هذه البراهين، بصورتها الحرفية، مأخذ الجد، ويُرهقون أنفسهم في البحث عن صلات أو ارتباطات أو خلافات بينها وبين نظائرها لدى مختلف الفلاسفة المَدْرَسِيِّين، فليس لنا عليهم إلا رد واحد، هو: تأمَّلوا جيدًا جميع أطراف فلسفة اسپينوزا، ولا سيما الأوصاف التي عزاها، بطريقته الخاصة، إلى فكرة الله، وقولوا لنا بعد ذلك: على أي شيء كان اسپينوزا يريد بالفعل أن يبرهن؟ إن مقارنة اسپينوزا بالفلاسفة المَدْرَسِيِّين مهما تضمنت من شواهد على علم الشارح وسعة اطلاعه — تكشف في واقع الأمر عن سذاجة في العقل لا حد لها؛ فقد كان هؤلاء المدرسيون الوسيطيون يريدون فعلًا البرهنة على وجود كائن عالٍ على العالم، يتصف بالخير ويوجه العالم نحوه، بحيث يكون مسار العالم ذاته غائيًّا ومستهدفًا قيمًا بشرية، وتلك كلها معانٍ رفضها اسپينوزا رفضًا قاطعًا صريحًا، فإذا جاء بعد هذا الرفض القاطع الصريح واستخدم نفس حججهم، فلا مفرَّ للمرء عندئذٍ من أحد أمرين: أن يقول إن اسپينوزا بلغ من التناقض حد البلاهة التي لا تليق بفيلسوف، أو أن يستخلص لبراهينه الأنتولوجية دلالة مختلفة كل الاختلاف عن كل دلالاتها السابقة، ترتبط بمجموع فلسفته وتتمشى مع اتجاهها العام، ومن المؤسف أن أكبر شُرَّاح اسپينوزا قد وقعوا في الخطأ الأول، ولم يعْبَئوا حتى بأن يسألوا أنفسهم عن محتوى تلك الحقيقة التي يفترض أن اسپينوزا يستخدم من أجل إثباتها هذه البراهين الموروثة عن العصور الوسطى، مع أنهم لو قارنوا بين محتوى تلك الحقيقة عنده ومحتواها عند اللاهوتيين لأدركوا على التوِّ أن استخدام كل هذه الحجج التقليدية إما أن يكون منطبقًا على النظام الكلي للأشياء، أو لا يكون له، عدا ذلك، أي مكان في السياق العام لفلسفة اسپينوزا.
(٤) نطاق فكرتَي الله والطبيعة
كانت النتيجة الواضحة التي أدى إليها بحثنا للأوصاف التي نسبها اسپينوزا إلى فكرة الله، وكذلك الأوصاف التي نفاها عنها، وتلك التي أدخلها على الفكرة مخالفًا بذلك كل تراث سابق — هي أن التفسير المتسق لفكرة الله عنده هو ذلك الذي يجعلها في هوية مع مجموع الطبيعة أو النظام الكلي للأشياء. كذلك أدى البحث في براهين وجود الله عنده إلى نتيجة مماثلة؛ فإخفاق هذه البراهين ليس، في رأينا، راجعًا إلى تهاون عقلي أو تناقض منطقي في تفكيره، وإنما هو راجع إلى أن الموضوع الذي كان يبرهن عليه مختلف كل الاختلاف عن ذلك الموضوع الذي سعى الفلاسفة المدرسيون إلى البرهنة عليه، بحيث يكون اسپينوزا متناقضًا مع نفسه بالضرورة إذا فسرت كلمة «الله» عنده بمعناها الحرفي، ولكنه يكون متسقًا تمام الاتساق إذا ما نُظر إلى هذه البراهين على أنها محاولة منه لكي يُثبت — بلغة لاهوتية تقليدية — أن وجود الطبيعة ضروري قديم وأن مجرد تصوُّرها يستتبع حتمًا القول بوجودها، وأنها هي ما لا تتصور ماهيته إلا موجودة.
والنتيجة التي ينبغي أن يخلص إليها المرء من هذا كله هي أن اسپينوزا لم يتخلَّ عن نزعته التحليلية الدقيقة في هذا المجال بدوره، وأنه حرص كل الحرص على أن يستبعد كل فكرة عن كائن عالٍ على الطبيعة أو متحكم فيها وهو منفصل عنها، أو موجِّه لها نحو غاية تُفهم على مثال غايات الإنسان؛ فكل فكرة لدينا عن مثل هذا الكائن ينبغي أن تردَّ إلى مجموع الطبيعة ذاتها، من حيث إنها الحد النهائي الذي يُفهم من خلاله كل تفكير وكل وجود.
ومع ذلك فمن الممكن أن يجد المرء لدى اسپينوزا ذاته قرائن مباشرة على أن فكرة الله لا تخرج عنده عن مجال الطبيعة، وأنه حين قال «لله أو الطبيعة» لم يكن يعني حقيقتين وإنما حقيقة واحدة (وهو أمر أدركه كثير من الشُّرَّاح)، وأن من الواجب — بالتالي — أن يدرك قارئ اسپينوزا أنه في كل موضع يتحدث فيه عن «الله»، يقصد بالفعل مجموع الطبيعة أو النظام الضروري للأشياء (وهو أمر يعترف به كثير من شراحه في الموضع الخاص به من شروحهم، ولكن معظمهم يغفلونه في بقية المواضع)، وسنعرض فيما يلي بعض هذه القرائن المباشرة:
(٤-١) هوية مجالَي الله والطبيعة
-
(١)
في أهم القضايا التي تعبِّر عن فلسفة مادية خالصة في كتاب «الأخلاق»، وهي القضايا من ١٠ إلى ٢٠ من الباب الثاني، لا يرد ذكر للفظ «الله» في نص القضايا ذاتها، ولكن اللفظ يستخدم دائمًا في براهين هذه القضايا. وهذه القضايا تأتي مباشرة بعد القضية التاسعة، التي ورد فيها هذا اللفظ لآخر مرة قبل هذه المجموعة، ونص القضية ٩ هو «إن الله يكون علة لفكرة شيء فردي موجود بالفعل، لا من حيث إنه لا متناهٍ، بل بقدر ما يكون متأثرًا بفكرة أخرى لشيء موجود بالفعل، يكون هو علته، بقدر ما يكون متأثرًا بفكرة ثالثة. وهكذا إلى ما لا نهاية» في هذه القضية يقول اسپينوزا صراحة: إن من الممكن التحدث عن الله على أنه «متأثر» بفكرة شيء متناهٍ — فأي إله هذا الذي «يتأثر» بفكرة شيء جزئي؟ من المؤكد أن لهذه القضية دلالة مباشرة على أن المقصود هنا هو المقارنة بين «الطبيعة» من حيث وجهها اللامتناهي من ناحية، وبين «الطبيعة» من حيث وجهها المتناهي الذي يكون فيه للأشياء الجزئية تأثيرها؛ ففي هذا الوجه المتناهي تكون الأشياء الجزئية، بالفعل، هي التي يؤثِّر بعضها في البعض، ويكون من الممكن حذف الحد المتوسط بينها، فبدلًا من أن يقول اسپينوزا مباشرة إن الجسم المادي لا يتأثر إلا بجسم مادي، يقول إن الله هو علة الجسم المادي عن طريق تأثره بجسم مادي آخر يكون لله علته عن طريق تأثره بجسم ثالث … إلخ. وهكذا تكون مهمة فكرة الله هنا «توسطية» فحسب، ويكون من الممكن في الواقع حذفها تمامًا والاقتصار على تأثير الأجسام، الأول والثاني والثالث، بعضها في البعض. وبعد أن أوضح اسپينوزا في هذه القضية معانيه التي لا يكون فيها لفكرة الله بالفعل أي دور حقيقي، ينتقل بعد ذلك إلى تفسير مادي صرف للعلاقة بين الذهن والجسم، وللقوى الذهنية والجسمية، ولا يرد في هذه المجموعة من ذكر لكلمة «الله» إلا في البراهين فحسب، وليس من الصعب أن يدرك المرء أن «براهين» القضايا في كتاب «الأخلاق» هي أكثر الأجزاء تكلفًا، وهي التي يقوم عليها البناء المصطنَع في المنهج الهندسي، ووظيفتها الحقيقية هي تبرير قضاياه على نحو تبدو فيه ضرورية لا تترك مجالًا للاعتراض، بحيث لا يملك من لا تروقه القضية ذاتها — من الوجهة الأيديولوجية — إلا أنه يسلم بها طالما أن البرهان عليها يتسم بالضرورة الهندسية. وهكذا يدل اقتصار ظهور فكرة «الله» على البراهين في هذه القضايا المتطرفة في ماديتها على أن الفكرة تقوم بنفس مهمة «التوسط» التي ضربنا لها مثلًا من قبلُ؛ وهو توسط يخفف كثيرًا من تأثير توالي الأفكار المادية بعضها وراء البعض، ويكوِّن «حاجزًا» يقلل من وقع هذه الأفكار.
-
(٢)
في «البحث اللاهوتي السياسي» تعرف فكرة «الأوامر الإلهية» بأنها لا تخرج عن كونها تعبيرًا عن الضرورة الكامنة في قوانين الطبيعة٥٦ وهذا التعرف في ذاته دليل وصريح، على أن فكرة الله عند اسپينوزا لا تؤدي وظيفة ما؛ إذ إن هذه القوانين الطبيعية تسير في مجراها الضروري، وسواء نُسبت إليها صفة أخرى هي أنها «أوامر إلهية» أم اكتفيت بفكرتها هي ذاتها فحسب، فلن يتغير في الأمر شيء.
وبعد ذلك، فلنقارن بين هذا التعريف «للأوامر الإلهية» بأنها تعني القوانين الضرورية للأشياء (وهو تعريف يردده اسپينوزا كثيرًا في مواضع مختلفة من كتبه)، وبين حديث آخر عن الأوامر الإلهية ورد في ختام الباب الثاني من الأخلاق؛ فهو هنا يتحدث عن بعض المزايا الأخلاقية والسلوكية لفكرته القائلة بعدم وجود إرادة حرة، ويقول إن أولى هذه المزايا هي «أنها تعلِّمنا ألا نسلك إلا وفقًا للأوامر الإلهية، وأن نشارك في الطبيعة الإلهية، ونكون أقدر على ذلك كلما ازداد كمال أفعالنا وازددنا فهمًا لله.»
هذه النتيجة الأخلاقية، المتعلقة بإطاعة الأوامر الإلهية والمشاركة في الطبيعة الإلهية، قد استُخلصت من مجموعة من القضايا عرض فيها اسپينوزا مذهبًا حتميًّا بحتًا، هو إنكار حرية الإرادة. فإذا فهمت فكرة الله هنا بمعناها الحرفي، فسوف يتعارض ذلك أولًا مع تعريفه «الطبيعي» السابق للأوامر الإلهية. وسوف يكون فيه ثانيًا، فصْمٌ للارتباط المنطقي الطبيعي بين إنكار حرية الإرادة وبين النظرة العلمية الوضعية إلى الأشياء، وللارتباط العكسي بين النظرة اللاهوتية وبين الإيمان بحرية الإرادة؛ وكأن اسپينوزا قد استخدم مقدمة علمية (تؤلِّف، في الواقع، الجزء الأكبر من الباب الثاني بأسره) في استخلاص نتيجةٍ لاهوتية فوق الطبيعية! وثالثًا سيكون اسپينوزا عندئذٍ واقعًا في نفس خطأ التشبيه الذي طالما حذرنا منه اسپينوزا: وهو خطأ تشبيه الآلهة بالحكام؛ إذ إنه سينظر إلى الله هنا على أنه «يأمر»، ونحن «نطيع».
هذا المثل غاية في الوضوح من حيث دلالته على التناقض الساذج الذي يقع فيه المفسرون الحرفيون لاسپينوزا، وعلى أن هذه الفكرة ذات المظهر اللاهوتي إذا ما فسرت بمعناها الذي حدده لها اسپينوزا في موضعٍ آخر، تغدو متسقة تمامًا مع المجرى العام لفلسفته؛ فإطاعة الأوامر الإلهية، ومعرفة الله، وفهم الله وخدمته … إلخ، كل هذه تعبيرات عن إدراك قوانين الطبيعة وفهم المجرى العام للحوادث ومسايرته … إلخ.
ومع ذلك فإنَّ اسپينوزا لم يصرح مباشرة، في هذا الموضع من الباب الثاني من «الأخلاق»، بالمعنى الذي يقصده من لفظ «الأوامر الإلهية»، ولست أشك أبدًا في أن أي قارئ لا يُجري المقارنة اللازمة، سيفهم هذا اللفظ، وكذلك لفظ «معرفة الله» و«المشاركة في الله» و«البركة»، وغيرها من الألفاظ الواردة في هذه الصفحات الأخيرة من الباب، بمعانيها الحرفية ذات الارتباطات اللاهوتية، بل إن كثيرًا من شُرَّاح اسپينوزا يفهمون منها هذه المعاني بالفعل.
والواقع أن هذه الظاهرة، التي تتمثل بكل وضوح في هذا النص، تستحق من باحثي اسپينوزا تفكيرًا عميقًا في دلالتها؛ ذلك لأن الجزء الأكبر ممن كتبوا عن اسپينوزا يستبعدون تمامًا — كما ذكرنا في الفصل الخاص بالمنهج — أن يكون قد كتب بلغتين: لغة ظاهرة ولغة حقيقية، أو أن يكون قد تعمَّد «خداع» القارئ. وقد قدمنا من قبلُ ردًّا كافيًا على فكرة «الخداع» هذه، أما أنَّ اسپينوزا قد كتب بلغتين، فذلك أمرٌ يظهر في مثل هذا المثل بوضوح لا يقبل جدلًا؛ ففي الباب الثاني من «الأخلاق» يتخذ اسپينوزا موقفًا علميًّا صارمًا ينظر فيه إلى كثير من الأفكار التي سلَّم بها معظم الفلاسفة — بل بعض العلماء — (مثل فكرة جوهرية النفس وحرية الإرادة) على أنها أساطير مخرفة، وفي نفس هذا الباب يحذرنا اسپينوزا — كما فعل مرارًا في مواضع مختلفة — من تشبيه الله بالإنسان، وبالحكام والملوك خاصةً، ثم يختم الباب بملحوظة يرمي فيها إلى تأكيد مزايا رأيه في إنكار حرية الإرادة، ويؤكد فكرة الضرورة بين الأشياء — ومع هذا كله يتحدث عن وجود «أوامر إلهية»، وهو تعبير له ارتباطات لاهوتية قوية يعرفها اسپينوزا جيدًا، ويدرك حتمًا أنها ستؤثر في ذهن القارئ. فهل ينكر أحد بعد ذلك أن اسپينوزا كان يتحدث، في هذا الموضع على الأقل، بلغة مزدوجة؟ وإذا سلَّمنا بذلك، بالنسبة إلى هذا الموضع، فلمَ لا نسلِّم به أيضًا بالنسبة إلى الأجزاء الأخرى من كتاب «الأخلاق»، ولا سيما النصف الثاني من الباب الأخير؟٥٧ إنني لا أستطيع أن أفسِّر هذه الظاهرة إلا بأنها:- أولًا: سخرية من القارئ الساذج، الذي ستظل لكلمة «الله» ومركَّباتها هنا ارتباطاتها التقليدية في ذهنه.
- ثانيًا: تنبيه القارئ الفطن تنبيهًا واضحًا؛ فهو في هذا الموضع يكاد يقول: إنك تدرك طبعًا أن من المستحيل أن أكون قد ناقضت نفسي بهذه الشدة وبهذه السرعة. فلا بد أن لي قصدًا آخر، وإذا كنت قد طلبت منك، منذ قليل، ألا تصوِّر الله بصورة البشر، ثم استخدمت في هذا الموضع تعبير «الأوامر الإلهية». فلا بد أنني أقصد هنا من تعبيرات: الأوامر الإلهية وطاعة الله وخدمته، أمورا مختلفة تمامًا تحلُّ فيها التعبيرات السابقة تعبيرات أخرى هي: القوانين الطبيعية وفهمها ومسايرتها والرضاء بها … إلخ؛ ولكني مضطر إلى استخدام التعبيرات الأولى حتى أُسكِت ألسنة الناقدين، وأنا واثق من أنك ستفهم، حينما تجد تناقضًا صارخًا كهذا، مقصدي الحقيقي على التوِّ!
ففي حالة كهذه، إذن، تظهر بكل وضوح المشكلة الحقيقية في طريقة كتابة اسپينوزا، وهي أنه لم يأتِ في كتاباته بأفكار جديدة خارجة عن التراث فحسب، بل كان حريصًا كل الحرص على أن يستخدم نفس اللغة والتعبيرات القديمة؛ أعني كان حريصًا على أن يظهر كما لو لم يكن يخالف المعاني القديمة والتراث السائد. ونستطيع أن نقول إنَّ طريقته هذه في الكتابة، إذا كانت ترمي إلى إبعاد أنظار العامة عن الاتجاه الحقيقي لتفكيره، فإنها في الوقت ذاته اختبار عسير يؤدي إلى تمييز «الصبية من الرجال» من بين قرائه!
-
(٣)
وفي الرسالة رقم ٥٤ يقول اسپينوزا في صدد الحديث عن اتصاف الواقع بالضرورة المطلقة التي لا شأن لها بأحكامنا الخاصة: «وهكذا فإن الأشياء إذا ما نُظر إليها في ذاتها، أو في علاقتها بالله، لا تكون جميلة ولا قبيحة.» فالتعبير المُستخدم هنا يُعترف فيه صراحةً بأن النظر إلى الأشياء في علاقتها بالله «مرادف» للنظر إلى الأشياء في ذاتها، أو بعبارة أخرى: للنظر إلى الأشياء في سياقها الضروري العام وسط الظواهر الطبيعية الأخرى (لا بالنسبة إلى ذهن الإنسان فحسب). وهنا اعتراف صريح من اسپينوزا بأنه يستخدم لغتين، إحداهما لاهوتية والأخرى علمية.
-
(٤)
وقُرب نهاية تذييل الباب الأول من «الأخلاق»، يردُّ اسپينوزا على المعترضين الذين يقولون: لو كانت كل الأشياء تتلو من الضرورة الإلهية، فلمَ لم يخلق الله الناس بحيث لا يسترشدون إلا بحكم العقل؟ فيقول في ردِّه «إن هذا راجع إلى أن الله لم يكن يفتقر إلى المادة التي يخلق منها كل الأشياء، من أرفعها كمالًا إلى أحطها، أو، إذا شئت أن أتحدث بمزيد من الدقة، فإن قوانين الطبيعة ذاتها كانت كثيرة إلى الحد الذي يكفي لإنتاج كل ما يمكن أن يتصوره ذهن لا نهائي …»
هذا النص الصغير، ومعه النص السابق، أوجِّه إليه، بكل إخلاص، أنظار أولئك الذين يستنكرون — بشهامة — أن يكون اسپينوزا قد تحدَّث بلغتين؛ فهو هنا يذكر، في صراحة تُغني المرء عن بذل أي جهد ذهني لفهم معناه الحقيقي، أن لديه طريقتين للكلام: طريقة يحدِّث بها الناس على قدر عقولهم، هي تلك التي يستخدم فيها التعبيرات اللاهوتية، وطريقة أخرى يستخدم فيها «تعبير الضرورة الطبيعية»، وإذا كان اسپينوزا في النص السابق قد جعل التعبيرين اللاهوتي والعلمي مترادفين، فإنه في النص الأخير يُصدِر تأكيدًا غاية في الأهمية، وهو أن التعبير لعلمي هو «الأدق»، ولعل في هذا النص دليلًا مباشرًا كافيًا على الاتجاه الحقيقي لميول اسپينوزا، في معرض المفاضلة بين لغتيه، أو بين «الوجهين الصوفي والعلمي» اللذين يمكن أن تُفهم بهما فلسفته، على حد تعبير الشُّراح الآخرين الذين حيَّرتهم مشكلة المفاضلة بينهما.
(٤-٢) إنكار الشُّراح لهوية المجالين
كان من المفيد، في رأينا، أن نبدأ بتقديم هذه الأدلة القاطعة على المعنى الحقيقي الذي استخدم فيه اسپينوزا جميع التعبيرات التي ترِد فيها كلمة «الله»؛ فمثل هذه البداية تساعد كثيرًا على تبيُّن أوجه الخطأ لدى الكتاب الذين حاولوا أن يوجدوا فاصلًا بين فكرتَي الله والطبيعة عنده.
وهؤلاء الكتاب ينقسمون إلى فئتين؛ فئة تستبقي المعنى التقليدي لفكرة الله، وفئة أخرى تعترف بأن هذا المعنى قد تغيَّر عند اسپينوزا، ولكنها تظل تسعى إلى إيجاد فارق بين فكرتَي الله والطبيعة في فلسفته، وسوف نتناول الآن مثلة لهاتين الفئتين على التوالي.
وفي اعتقادي أن مجرد استخدام الشُّراح للفظ «الله»، دون إلحاقه دائمًا بالمعاني الحقيقية المقصودة من ورائه، هو خطأ أساسي في طريقة عرض فلسفة اسپينوزا، وهو خطأ نكاد نصادفه في كل ما أُلف عنه من الكتب؛ فاسپينوزا ذاته كان يستخدم اللفظ، دون أن يوضح معناه دائمًا؛ لأنه لم يكن يستطيع في ذلك العصر أن يعبِّر عن معانيه بطريقة أصرح من هذه، ولكن ليس لمن يكتب عن اسپينوزا في عصرنا الحالي أيُّ عذر في أن يظل يستخدم اللفظ دون أن يُلحقه بمعانيه الحقيقية، إذ إن ضرورة «الحذر» تنتفي عندئذٍ، فضلًا عن أن الفهم الحقيقي لمعاني اسپينوزا لا يستقيم أبدًا طالما أن الكلمة تُذكر دون تعليق أو شرح. إن المشكلة ها هنا نفسية في المحل الأول؛ فلهذه الكلمة، فوق كل ما عداها من ألفاظ اللغة، ارتباطات نفسية لا بُدَّ أن تطرأ على ذهن كل من يقرؤها، وليس من الدقة العلمية في شيء أن يظل الشارح يُردد كلمة «الله» وهو يعلم جيدًا أنها ستبعث حتمًا في ذهن قرائه معاني تقليدية لا مفرَّ منها، وأنها ستنقله إلى مجال من مجالات المعنى مختلف تمامًا عن ذلك الذي كان في ذهن اسپينوزا عندما أوضح أفكاره التي ورد فيها هذا اللفظ.
•••
- (أ) يقول «هاليت Hallett»: «إن الله من وجهة نظر الأصل genetically سابق على العالم، أما من وجهة النظر الأنتولوجية فهما يُمثِّلان الهوية الجامعة بين اللامتناهي على نحو غير متحدد، والمتحدد على نحو لا متناهٍ، وبهذا المعنى الدقيق يتحدث اسپينوزا عن «الله أو الطبيعة» — إذ إنه، رغم أن الله بالمعنى الدقيق تمامًا هو طبيعة طابعة، فإن هوية الطبيعة الطابعة مع الطبيعة المطبوعة تؤكد صحة التعبير السابق، ومع ذلك لا ينبغي بالطبع أن يُخلط بين الطبيعة المطبوعة وعالم المدة الزمنية المألوف في التجربة العادية — أي «النظام المألوف للطبيعة»، الذي يتصف بالكثرة والتعقد والانقسام — وإنما هي التركيب الأزلي للكون بأسره، الذي هو لا نهائي واحد لا ينقسم، والذي لا يكون عالم المدة الزمنية إلا عدمًا privation له. وهكذا تنهار الاعتراضات الشائعة على التوحيد بين الله والطبيعة؛ إذ إن عالم المدة الزمنية، بما فيه من نقائص عديدة، ليس في نظر اسپينوزا إلهيًّا بالضرورة …»٦٠
ورغم أن المؤلف يدافع في هذا النص عن هوية الله والطبيعة، فإنه يؤكد أن هذه الهوية تقوم في ظل فهم خاص للطبيعة، تكون فيه الطبيعة المطبوعة ذاتها مخالفة لعالم التجربة العادية، الذي هو في الواقع «عدم» لها؛ وبذلك يستبقي المؤلف لفكرة الله نوعًا من الترفع على عالم المدة الزمنية هذا؛ ومع ذلك فمن المشكوك فيه إلى حدٍّ بعيد أن يكون هذا العالم الأخير، في نظر اسپينوزا، متصفًا بأي نوع من «النقص»، كما قال المؤلف؛ إذ إن النقص أمر ينتمي إلى المنظور البشري وليس صفة تنتمي إلى طبيعة الأشياء. كما أن المرء إذا وصف الطبيعة المطبوعة بالأزلية والوحدة واللانهائية، فماذا يتبقى بعد ذلك للطبيعة الطابعة؟ إن المؤلف، كما هو واضح، يكاد يقول هنا بثلاث حقائق متميزة: الطبيعة الطابعة، والطبيعة المطبوعة (وهذه الأخيرة يمكن أن تصبح في هوية مع الأولى لأنها أزلية مثلها) ثم عالم المدة الزمنية أو التجربة المألوفة، وهو على مستوًى أدنى من المستوى السابق، ولا أظن أن نصوص اسپينوزا تؤيد المؤلف في هذا التقسيم الثلاثي؛ إذ إن اسپينوزا تحدَّث فقط عن حقيقتين ثم أكد هويتهما، وهو لم يميز بينهما من وجهة نظر «الأصل»، كما أنه لم يقل بوجود «نقص» بالمعنى المطلق، يمكن أن يعزى إلى العالم بأي معنى من معانيه، وإنما أُقحمت هذه الأفكار في تفسير المؤلف لاسپينوزا لكي يكون فيها إرضاء إلى الميل التقليدي إلى وصف عالم التجربة المألوفة بأنه «ناقص»، ومعتمد — من وجهة نظر «الأصل» — على فكرة الله.
- (ب) وحين يعرض «ولفسون» لمشكلة، وجود أو عدم وجود انفصال بين الله والعالم عند اسپينوزا، يؤكد أن نصوص اسپينوزا ذاتها لا تُلقي ضوءًا على هذه المسألة لأن فيها ما يؤيد الانفصال وفيها ما ينكره،٦١ ومع ذلك يستخدم ولفسون المنهج التاريخي محاولًا الاهتداء عن طريقه إلى حل للمشكلة، فيقول إن العلاقة بين الله وعالم الأشياء كعلاقة الكل بمجموع أجزائه عند أرسطو، فهي ليست علاقة هوية تامة، بل إن للكل نوعًا من «الوجود التصوري»؛ وعلى ذلك تكون هناك تفرقة تصورية Conceptual بين الله ومجموع أحواله.٦٢ ويدرك ولفسون الاعتراض الذي سيوجَّه إليه حتمًا في هذا الصدد، وهو أن الله يغدو عندئذٍ «كائنًا عقليًّا ens ratlonis»، ثم يرد على هذا الاعتراض على نحوٍ غاية في التكلف والاصطناع، فيقول إن الله «كائن عقلي» بمعنى أن العقل «يكتشف» وجوده الحقيقي. أما في الواقع فإن الله «كائن حقيقي ens reale».٦٣
والحقُّ أنني قرأت مليًّا هذه الصفحات التي بحث فيها ولفسون مشكلة إمكان أو عدم إمكان وجود تمييز بين الله والعالم؛ إذ إن هذه المشكلة حاسمة في رأيي، ولكني لم أجد في هذه الصفحات — على التخصيص — ما يُرضي الذهن المدقِّق على الإطلاق، بل إن ولفسون يسوق رده على الاعتراض الذي أشرنا إليه أخيرًا، مستندًا إلى رأيه الخاص، ولا يدعمه بأية أسانيد قوية من كتابات اسپينوزا ذاتها، وكان من الواضح في نظري أن هذه الصفحات، التي تناولت مشكلة أساسية في فلسفة اسپينوزا، كانت بالفعل، من حيث مدى حججها ومنطقها، أضعف صفحات الكتاب كله، بحيث لا يملك القارئ إلا أن يشعر بأنه تهرَّب هنا من المشكلة أو حاول أن يتخلص منها بسرعة، وبأنه لم يصل إلى دليل معقول أو حجة مقنعة تُثبِت فكرة تميُّز الله عن العالم.
- (جـ) ويعترف «ألكييه» — في مجموعة محاضرات ألقاها في السربون عام ١٩٥٩م — بأن إله اسپينوزا هو الطبيعة وجوهره جوهر العالم، ويؤكد أن ذلك ليس موضوع مناقشة. ثم يقول: «ومع ذلك فلا يمكن لهذا السبب أن يُنظر إلى تفكير اسپينوزا على أنه نوع من المذهب الطبيعي naturalisme، يقضي، إن جاز هذا التعبير، على البُعد الديني بكل ما فيه من أمل وحب وسمو. فلست أعتقد أن هذا التفسير صحيح. بل يبدو لي، على العكس من ذلك، أن هدف اسپينوزا في كل هذا هو أن يُثبِت أنه، حتى في العالم الرياضي الذي هو عالمه، وكذلك عالم عصره والعلم الجديد، يمكن، بل يجب، إنقاذ الدين، أو على الأقل كل ما هو إيجابي فيه — بحيث إن إله اسپينوزا يستحق في رأيي بالفعل اسم الإله. وفيه من أوجه عدة، بل من أوجه هائلة العدد، صفات الإله التقليدي، أو على أية حال، إله ديكارت وإله اللاهوتيين.»٦٤ورغم أن هذا الرأي في عمومه أوسع أفقًا من كثير من الآراء الأخرى لمفسري اسپينوزا، فإنه مبنيٌّ على مقدمة يؤكدها الكثيرون ممن عالجوا هذا الموضوع، هي في رأيي مقدمة باطلة. تلك هي المقدمة القائلة إن أي مذهب طبيعي naturalisme لا مكان فيه لصفات «الأمل والحب والسمو» وأنه لا يمكن أن يكون لهذه الصفات مجال إلا في مذهبٍ يقترب من المذاهب الدينية التقليدية — هذه المقدمة باطلة تمامًا، وتتضمن في ذاتها قدرًا كبيرًا من الخلط الذي أدى إلى تلك المحاولات المتباينة للتقريب بين إله اسپينوزا وإله اللاهوتيين؛ فالصفات السابقة هي بالفعل من صفات «البُعد الديني» — على حد تعبير المؤلف — ولكنها ليست من صفاته الأساسية التي ترتبط به وحده، ومن الممكن أن توجد في مذهب لا يعترف بهذا «البُعد الديني» أصلًا. وليس صحيحًا على الإطلاق أن أي مذهب يترك مجالًا لهذه الصفات ينبغي أن يكون دينيًّا بالمعنى التقليدي، كما أنه ليس صحيحًا أن هذه الصفات لا تتصور إلا في إطار ديني تقليدي.
والواقع أن الطرفين اللذين حتَّم علينا المؤلف أن نختار بينهما ليس بينهما استبعاد متبادل على الإطلاق؛ فهو يتصور أن على المرء إما أن يقول بنزعة طبيعية تستبعد الألوهية تمامًا، أو أن يجعل للأمل والحب مجالًا. وهذا الرأي شائع بين من كتبوا عن اسپينوزا إلى حد يدعو إلى الدهشة؛ فحتى أولئك الذين يعترفون تمامًا بأن إلهه يعني الطبيعة، يؤكدون أنه عاد إلى الإله التقليدي، بمعنًى من المعاني، حين جعل في فلسفته مجالًا لمشاعر كهذه، وهم في ذلك يريدون أن يجعلوا هذه المشاعر احتكارًا للمذاهب اللاهوتية التقليدية فحسب، وكأن من المحال أن تظهر هذه المشاعر في مذهبٍ طبيعيٍّ صارم، على أن الأمر لا يلزم أن يكون كذلك على الإطلاق؛ فمن قال إن صاحب التفكير العلمي الصارم، الذي يستبعد تمامًا أي مبدأ فوق الطبيعة، محرَّم عليه أن يشعر بالأمل والحب والسمو ويتغنى بهذه المشاعر؟ وإذا كان المبدأ الأقصى للتفسير، عند مفكر ما، يقف عند حد الطبيعة، فما الذي يمنعه من أن يحس نحو هذه الطبيعة في مجموعها بالحب والتمجيد والتبجيل؟ هل هذا محرم عليه، أو هل هناك في طبيعة الأشياء ما يحول دونه؟ وهل نقول: إنَّ مثل هذا المفكر قد تخلَّى عن نزعته الطبيعية، أو تجاوزها ودخل في مجال «البُعد الديني» لمجرد كونه قد جعل لهذه المشاعر مجالًا في تفكيره؟ لست أعتقد أن هذا جائز على الإطلاق، وإنما أعتقد أن تصوير المشكلة على أنها اختيار لا مفر منه بين المذهب الطبيعي وبين مشاعر الأمل والحب … إلخ؛ هذا التصوير باطل تمامًا، وبالتالي لا ينبغي أن يقال عن المفكر إنه قد تخلَّى عن مذهبه الطبيعي، وعاد إلى القوالب الفكرية التقليدية، لمجرد كونه قد جعل لمثل هذه المشاعر مكانًا في فلسفته.
(٥) فكرة الأزلية والحب الإلهي
(٥-١) مشكلة «تناقض» اسپينوزا
يؤدي بنا الموضوع الذي عالجناه في القسم السابق إلى بحث مشكلة الجزء الأخير من كتاب «الأخلاق»، الذي أكد فيه اسپينوزا فكرتَي الأزلية والحب الإلهي إلى حد جعل معظم مفسريه يقولون — قياسًا على طريقة التفكير التي عُرضت في القسم السابق — إن اسپينوزا، الذي كان فيلسوفًا ذا نزعات مادية واضحة في بقية الكتاب، قد تناقض مع نفسه في النصف الثاني من الباب الأخير من «الأخلاق» تناقضًا أساسيًّا. ومهمتنا في هذا الجزء هي أن نحلل طبيعة هذا «التناقض» المزعوم، ونبحث فيما إذا كان التفسير الوحيد الممكن لهذا الجزء الأخير من كتابه هو التفسير المؤدي إلى القول بتناقض الفيلسوف، أم أن من الممكن إيجاد تفسير لا يكون فيه لهذا التناقض مجال.
هذا القول بوجود تناقض بين الجزء الأخير من «الأخلاق» وبين بقية أجزاء الكتاب يُمثِّل، في رأينا، أوضح دليل على إخفاق التفسير الحرفي لفكرة «الله» عند اسپينوزا، بل هو قمة هذا الإخفاق؛ فالقول بالتناقض هنا إنما هو إعلان صريح عن عجز هذه التفسيرات الحرفية، وهو عجز يتمثل أوضح ما يكون في صدد تلك القضايا لشائكة التي ختم بها اسپينوزا كتاب الأخلاق. وهكذا يكون علينا أن نختار بين أحد أمرين: إما أن نخرج بفكرة الله عند اسپينوزا عن معانيها الحرفية نهائيًّا، أو أن نعترف بقصور التفسير وإخفاقه، كما يتمثل في القول بوجود «تناقض» أساسي لدى اسپينوزا.
- (١) يرى «أويكن R. Eucken» أن كتاب «الأخلاق» يسير على نهج المذهب الطبيعي Naturalismus، بل المادي، طوال الوقت، إلا في النهاية، حين يصل إلى مرحلة تأكيد عظمة الإنسان وتحرُّره؛ فهنا تعود الروحية إلى الظهور. وهكذا يخفق اسپينوزا تبعًا لهذا الرأي، في تأكيد الواحدية Monismus، وتعود ثنائية المادية والروحية إلى الظهور بوضوح.٦٥ ومعنى ذلك أن كتاب «الأخلاق» ينطوي على تناقض داخلي شديد بين نهايته وبين الاتجاه الغالب عليه في جميع أجزائه الأخرى.
- (٢)
- (٣) ويشير «بروشار» أيضًا إلى وجود تعارضٍ أساسي بين الجزء الأخير من كتاب «الأخلاق» وبين بقية كتابات اسپينوزا. وفي رأيه أن هذا الجزء الأخير قد يكون هو الجزء الأساسي في الكتاب، بحيث إن اسپينوزا — في رأيه — يُعد القارئ لنتائج غير متوقعة في النهاية. «فالكتاب يبدأ بمذهب جديد تمامًا، وينتهي بنظر مستمدة من الفلسفة القديمة.» ولو نظرنا إلى الاسپينوزية في هذا الضوء، لوجدناها تبدو أشبه ببناء عتيق جدًّا أضيف إليه مدخل حديث جدًّا،٦٨ ولست أدري ما هي الحكمة في تمهيد اسپينوزا ذهن القارئ لنتائج غير متوقعة، ولماذا لم يجعل هذه النتائج متوقعة؟ أكان ذلك مجرد حرص منه على استفزاز الآخرين وإثارة مشاعرهم بوضع مقدمات مخالفة لمبادئهم الأساسية، من أجل الانتهاء إلى نتائج يسلِّمون جميعًا بها؟ أليس جديرًا بشارع اسپينوزا أن يجرب — على الأقل — تفسير هذه النتائج في ضوء مقدماتها، بدلًا من أن يفترض، على أساس شكلها اللفظي، أنها مناقضة لهذه المقدمات؟
- (٤) ويرى «داربون» Darbon أن فكرة الحب الإلهي للبشر، كما تُعرض في الصفحات الأخيرة من كتاب «الأخلاق»، تتعارض مع بقية محتويات الكتاب المتعلقة بطبيعة الله. وهو يستبعد على التوِّ أن يكون اسپينوزا قد تعمَّد حشر هذه الفكرة الخارجة عن سياق فلسفته العامة لكي ييسر نشر الكتاب أو ليُسكت ألسنة النقاد، وإنما يرى أن اسپينوزا قد بدأ كتابه بالحديث عن إله لا يريد ولا ينفعل ولا يشعر بعاطفة؛ إله فلسفي لا يرضي شعور الإنسان الديني على الإطلاق، ولكنه تدارك نفسه في الصفحات الأخيرة من الكتاب، «ويبدو في هذه اللحظة الأخيرة أن اسپينوزا يأسف لأنه لم يستطع، في هذه النقطة الأساسية، أن يرضي الشعور الديني، وشعوره الديني الخاص بالتأكيد. وهكذا يحاول في النهاية أن يحوِّل الله إلى الحب ولكن المحاولة تأتي متأخرة، ويتعارض معها … كيان المذهب كله.»٦٩
- (٥) ويؤكد «ريڨو Rivaud» غموض نصوص اسپينوزا في الجزء الأخير من كتاب «الأخلاق»، ويتحدث، في هذا الصدد، عن وجود تيارين مختلفين لدى اسپينوزا: تيار متحرر تأثر فيه إلى حدٍّ ما بالفكر اليهودي في العصور الوسطى، وبالفكر الإسلامي من خلاله، وهو تيار يؤدي به إلى واقعية دقيقة، وتيار آخر صوفي مضاد، يؤدي به إلى فكرة الحب الإلهي.٧٠
- (٦) وتنتقد «روت سو Ruth L. Saw» اسپينوزا لأنه يتحدث في أول كتاب الأخلاق عن الله بوصفه مساويًا للجوهر، ويتحدث في آخره عن الله بلغة أخرى تختلف عن لغة «الله = الجوهر» هذه. وهي ترى أن خلطه هذا بين مستويين مختلفين للغة يوقعه فيما لا يكفُّ عن تحذيرنا منه،٧١ ومع ذلك فهي تعود إلى الدفاع عن هذا الجمع بين اللغتين، مؤكِّدة خلال ذلك أن الله عند اسپينوزا كان إلهًا «مشخصًا»، وأن اسپينوزا قد جمع بين هاتين اللغتين لكي يوفق بين نزعاته العلمية وعقيدته اليهودية الموروثة، فتقول: «لقد استحدث اسپينوزا الصفات التي ينبغي أن يملكها الإله ليكون ذا فعالية في العالم المادي، ولكن كان في ذهنه الشخص الذي يلائمه هذا الوصف؛ إذ ينتهي الأمر بالجوهر اللامتناهي إلى أن يكون شخصًا، وموضعًا يصلح للحب والتفاني والتقديس، وعندما يصل اسپينوزا إلى آخر «الأخلاق»، يدع لغته تصبح ملائمة لوصف مثل هذا الشخص، وأعتقد أن تلك عملية مشروعة؛ إذ إن اسپينوزا، الذي كان في ذهنه شخص عرفه أجداده عن طريق الوحي، وإن يكن قد رفض طريقتهم في الحديث عن هذا الشخص، قد استخلص من فكرة الكائن المتصف بهذه الأوصاف أنها لا تلائم إلا هذا الشخص. وعندما وصل إلى هذه المرحلة، ترك نفسه يتحدث كأن الكائن الذي استخلص أوصافه هو الشخص الذي كان يعرفه.»٧٢ وليس المهم في هذا السياق هو قول المؤلفة أن فكرة الله عند اسپينوزا «مشخصة» (وهو قول شديد البطلان)، أو أنه استمد الفكرة من أجداده — من اليهود — (وهو لا يقل عن الأول بطلانًا)، وإنما المهم أنها تعترف بوجود فارق بين الأوصاف الأخيرة والأوصاف السابقة عليها في كتاب «الأخلاق»، وأن هذه الأخيرة هي التي تنطبق على فكرة الإله المشخص.
- (٧) ورغم أن «پولوك Pollock» لا يقول بتناقض بين الجزء الأخير من الأخلاق وبين بقية فلسفة اسپينوزا، فإنه يؤكد وجود اختلاف كبير، مفاجئ، بين لغة هذا الجزء واللغة التي درج اسپينوزا على استخدامها في الكتاب، فيقول: «من الأمور الجديرة بالملاحظة أن الصبغة اللاهوتية لفلسفة اسپينوزا تضعف بالتدريج كلما مضينا قُدمًا في كتاب «الأخلاق». وفي البابين الثالث والرابع تزداد كلمة «الله Deus» اقترابًا بالتدريج من أن تكون مرادفة للطبيعة natura. ومع ذلك، ففي اللحظة التي يبدأ فيها المرء في الاعتقاد بأن القناع اللفظي قد خُلع تمامًا، نصل إلى الحب العقلي لله في الباب الخامس. وهنا يتبين أن الله، على أية حال، لم يُردَّ إلى الطبيعة، وإنما رُفِعت الطبيعة إلى مرتبة الله. فاسپينوزا يبدأ وينتهي بألفاظ لاهوتية.»٧٣ وهكذا يعترف المؤلف بأن هذا الجزء الأخير هو وحده الذي يحول دون تأكيد ترادف لفظَي الله والطبيعة، ويسلِّم بوجود اختلاف حاسم، في الاتجاه الفكري ذاته، بين هذا الجزء وبقية أجزاء فلسفة اسپينوزا. وهذا هو الذي دعاه إلى أن يحاول تفسير هذا الاختلاف عن طريق التقدم، بحذر شديد، بالفرض القائل إن هذا الجزء الأخير نوع من «البحث التكميلي»، إذا قبلناه كان ذلك خيرًا، وإذا لم نقبله فلن يتأثر بقية الكتاب. وربما كان للمرء أن يقول إن هذه السلسلة من القضايا كانت في الواقع «تفكيرًا لاحقًا afterthought».٧٤
ولن نرد على هذا الاقتراح الأخير الآن، بل يكفي للرد عليه في هذا المقام أن نحيل القارئ إلى ما سيؤكده «سليڨان» في النص المقبل وولفسون في النص الأخير من أن اتجاه اسپينوزا في هذا الجزء كان هو الغاية الحقيقية لفلسفته، وللهدف الذي يؤدي إليه الكتاب بأسره.
- (٨) ويرى «سليڨان» أن القسم الأخير من الباب الخامس في «الأخلاق» لا يُفهم إلا إذا كان اسپينوزا يؤمن بنوع من خلود الذهن، بحيث يكون الخلاص الذي تحدَّث عنه ها هنا هو الغاية النهائية التي يتجه إليها كتاب الأخلاق بأسره. ثم يقول: «إن كل اعتقاد مخالف ينطوي على افتراض أن اسپينوزا يكتب عن هذه المسائل وهو يُظهر غير ما يُبطن، وأنه لم يكن يعني ما كان يقوله، ويكتب لأغراض مغايرة فحسب. ومثل هذه النظرة البرجماتية إلى ألفاظ اسپينوزا بعيدة عن مزاجه العقلي ونزاهته الذهنية إلى حد أنها لا تكاد تصدق.»٧٥ وهكذا يخلص من ذلك إلى القول بأن اسپينوزا كان يؤمن حقيقة بأزلية العقل البشري، وإن كان يعترف باستحالة التوفيق بين أزلية العقل وبين آرائه الأخرى في علاقة النفس بالجسم.٧٦
- (٩) ويرى «فوير Feuer» أن فكرة الحب الإلهي متناقضة مع بقية عناصر فلسفة اسپينوزا، وينظر إلى انتهاء اسپينوزا إلى هذه الفكرة على أنه مظهر لاستسلامه نتيجةً لتحطم آماله الثورية على صحرة الواقع في الفترة الأخيرة من حياته «فالحب العقلي لله هو الملاذ الأخير للمُصلح السياسي المهزوم.»٧٧ وبعبارة أخرى: ففي الفترة التي كانت حياة اسپينوزا فيها عامرة بالأمل والثورة، كان يقول بالحتمية والضرورة وببقية أفكاره العلمية الصارمة. أما عندما دهمه اليأس؛ فقد لاذ بالتصوف، وإذا شئنا ردًّا على مثل هذا الفرض، فليس لنا إلا أن نتساءل: هل تخلَّى اسپينوزا عن معقوليته ومنطقيته وتفسيره الحتمي والعلمي للظواهر العلمية عند نهاية حياته؟
والرد على ذلك هو النفي القاطع؛ إذ إن نظرته كانت تزداد دقة وصرامة بمضي الوقت، بل إن نفس الجزء «الصوفي» في كتاب الأخلاق تتخلله نظريات وملاحظات مادية وحتمية لا تخطئها العين.
- (١٠) والمثل الأخير هو «ولفسون»، الذي يعلِّق على فكرة اسپينوزا الواردة في الجزء الأخير من كتاب الأخلاق، والقائلة أن حب الله هو الشفاء الأعظم للنفس، فيقول: «لا يبدو أن هذا الدواء الأسمى … يَعِد الناس في الحياة الحاضر بشيء يزيد على هذه الثقة بالإله التقليدي. ويبدو أن من الغريب حقًّا أن ترسو سفينته، بعد كل معاركه مع الأحبار والفلاسفة المَدْرَسِيِّين، وبعد كل أبحاثه عن فلسفة جديدة، إلى تلك الأرض الصوفية القديمة ذاتها؛ أعني اللوذ بالله، ولكن ربما لم يكن اسپينوزا يرمي إلى أن يَعِد الناس بأكثر من ذلك … فالهدف الذي شرع يعمل له منذ البداية هو أن يُثبِت حقائق معيَّنة عن طبيعة الله، وأن ينكر عليه بعض العناصر التشخيصية التي أضفاها عليه اللاهوتيون، حتى أعمقهم نظرًا، وأن يبيِّن أن مثل هذا الإله، حتى بعد نزع الطابع التشخيصي عنه، يظل مع ذلك قوةً تعمل لخير حياة الإنسان.»٧٨ وهكذا ينضم ولفسون إلى مجموعة القائلين بأن اسپينوزا قد عاد في هذا الجزء إلى المفهوم التقليدي، بل الصوفي، لفكرة الله، ويؤكد وجود تناقض مع اتجاهات اسپينوزا السابقة في الكتاب عن طريق إبداء دهشته مما سبق أن أثاره اسپينوزا من الخلافات والمشاكل مع السابقين، وهي دهشة يكون لها ما يبررها تمامًا إذا كان هدف اسپينوزا بالفعل هو العودة إلى صوفية الالتجاء إلى الله. ومن الغريب حقًّا أن باحثًا فلسفيًّا مثل «ولفسون» يتحدث بكل وضوح عن رفض اسپينوزا للصفات التشخيصية لفكرة الله، ولتشبيهه بالإنسان، ثم يتحدث في نفس المكان عن كون إله اسپينوزا «ملاذًا» للإنسان، وكونه موضوعًا للحب وللثقة، وكونه دواءً لعلل النفس، بل يصف الله عنده بأنه «الواهب الأعظم، والمنعم الأكبر، وصخرة خلاصنا، وملاذنا في الملمَّات …»٧٩ فماذا تكون هذه الصفات، إن لم تكن صفات تشخيصية وتشبيهية؟ إننا لا نعصم اسپينوزا من تهمة عدم الاتساق، فأعظم المفكرين مهدَّدون على الدوام بها، ولكن هل يُعقل أن يكون قد تناقض مع نفسه إلى هذا الحد؟ وهل يمكن أن يكون الفيلسوف الذي حذَّر الناس على الدوام من تشبيه الآلهة بالإنسان، ومن الاعتقاد بغائية الحوادث الطبيعية، والذي أكد الحتمية وقضى على أي وجود مطلق للقيم في عالم الواقع — هل يمكن أن يكون حقًّا قد قصد هذه الأفكار بمعناها هذا؟
في هذه النماذج السابقة لآراء شُرَّاح اسپينوزا، رأينا كيف يؤدي البحث في النصف الثاني من الباب الخامس من «الأخلاق» إلى إثارة مشكلة تناقض اسپينوزا بكل وضوح. والواقع أن هذا الجزء تحدَّث بالفعل عن الأزلية، وعن الحب الإلهي، وعن الخلاص و«البركة»، وسعادة الإنسان، واستخدم لغة لا تختلف على الإطلاق عن لغة جميع المذاهب اللاهوتية التقليدية. وهكذا كان شُرَّاح اسپينوزا يجدون على الدوام صعوبةً في فهم هذه اللغة التقليدية بأي معنًى سوى معناها الحرفي؛ إذ إنها تضم مجموعة من أقوى الألفاظ والتعبيرات ارتباطًا بالمعاني الدينية التقليدية. ومع ذلك كان من الواضح في نظرهم، أو في نظر معظمهم على الأقل، أن أفكار اسپينوزا في هذا الجزء لو كانت تقليدية كذلك بالفعل، لتناقضت تمامًا مع أفكاره في بقية أجزاء الكتاب، وكذلك في كتاباته الأخرى. وهكذا يضطرون إلى التسليم — كما رأينا في الأمثلة السابقة — بوجود تناقض أساسي في فلسفة اسپينوزا، يتمثل في علاقة هذا الجزء الأخير ببقية أجزاء فلسفته.
وكما قلنا من قبلُ، فنحن لا ننزه اسپينوزا عن الوقوع في التناقض، ومع ذلك فقد أمضى اسپينوزا في تأليف كتاب الأخلاق خمس عشرة سنة، كان يصقل خلالها قضاياه وحججه على الدوام، فهل يعقل أن تناقضًا صارخًا كهذا قد فاته؟ إن هذه الحقيقة وحدها كفيلة بأن تجعلنا نرفض وجود تناقض في هذه الحالة على التخصيص؛ إذ إن هذا ليس تناقضًا بسيطًا، وإنما هو تناقض في أول الأسس التي قامت عليها فلسفته، ولو سلمنا به لجعلنا اسپينوزا أضعف الفلاسفة منطقًا؛ إذ إن الآخرين كانوا على الأقل يتناقضون حين يتسرب الخطأ إلى استدلالاتهم دون وعي منهم. أما هنا فالتناقض يغدو واعيًا ومتعمدًا ومتعلقًا بالأسس الأولى للمذهب نفسه.
وفي اعتقادي أن القول بتناقض اسپينوزا ليس إلا اعترافًا صريحًا بإخفاق كل تفسير لفلسفته لا يقوم على المنهج الذي أشرنا إليه، وهو منهج القول إن اسپينوزا كان يتحدث بلغة المدرسين واللاهوتيين متعمدًا حتى يخفف من وقع معانيه الثورية العلمية الدقيقة، التي لا تمتُّ إلى المجال اللاهوتي بصلة. وقد أحجم جميع من كتبوا عن اسپينوزا — تقريبًا — عن هذا الفرض، ومن المؤكد أن القليلين جدًّا منهم، إذا كانوا قد أشاروا إليه، فإنهم لم يعرفوا كيف يسيرون فيه من البداية إلى النهاية. والسبب الرئيسي في ذلك هو اعتقادهم بأن في هذا الفرض اتهامًا لاسپينوزا بالغش والخداع، ونيلًا من نزاهته العقلية وأمانته الخلقية. وقد سبق لنا أن أوضحنا (في الفصل الخاص بالمنهج) أن طريقة اسپينوزا هذه في الكتابة لم تكن ترجع إلى أي ضعف أخلاقي لديه، وأنه ليس ثمة ارتباط على الإطلاق (ولا سيما في عصر اسپينوزا) بين الكتابة الحذرة وبين الرغبة المتعمدة في الخداع، وأن اسپينوزا قد أرضى ضميره تمامًا إذ اعطى قارئه كل التنبيهات الكفيلة بإرشاده إلى معانيه الحقيقية، بحيث إنه إذا لم يصل الناس إلى هذه المعاني لم يكن الذنب في ذلك ذنب الفيلسوف نفسه، وإنما ذنب قرائه. ولسنا هنا نتهم شُرَّاح اسپينوزا بالقصور العقلي، ولكن هناك عوامل مختلفة تضافرت في جعلهم يحجمون عن مثل هذا التفسير؛ منها إقحام الكثيرين منهم لمشاعرهم الدينية القوية في تفسير اسپينوزا؛ مما أدى إلى فرض معانٍ تقليدية عليه قسرًا، ومنها رغبة المفسرين اليهود، وهم كثيرون، في ترك مجال تنفذ منه المؤثرات اليهودية إلى فلسفته؛ إذ إن هذه الفلسفة لو فُسِّرت تفسيرًا علميًّا خالصًا فسوف توصد أبوابها في وجه المؤثرات اليهودية إلى الأبد، ومنها ذلك النفور — الناتج عن دوافع أخلاقية نبيلة، ولكنها غير منطبقة على هذا المجال — من القول بأن اسپينوزا تعمَّد أن يُظهر غير ما يُبطن.
كل هذا أدى إلى تكوين صورة مشوهة لإله اسپينوزا، ظهر فيها تارةً متفقًا تمامًا مع فكرة الطبيعة، ومتمشيًا مع الحتمية والقانونية الكونية، وماديًّا، ومستبعدًا كل صفات مشبهة بالإنسان، وتارةً أخرى «ملاذًا» و«ملجأ»، وموضوعًا للحب، ومصدرًا للخلاص، ولا سبيل إلى رفع هذا التناقض المؤسف إلا إذا خطا المفسِّرون الخطوة الجريئة الضرورية، والتي يقتضيها البحث الدقيق لجميع أطراف فلسفة اسپينوزا، وقالوا إن فكرة الله عنده «لفظ» يرمي إلى تهدئة الخواطر (ومن الغريب أن هذا هو تعبير ولفسون — نفس ولفسون الذي جعل من اسپينوزا في نهاية الأمر صوفيًّا بالمعنى التقليدي!) ثم مضوا في فلسفته بأسرها على هذا الأساس؛ بحيث إنهم في كل مرة يصادفون لفظ «الإله» يستبدلون به لفظ «الطبيعة»، أو «الضرورة الكونية» أو «النظام الكلي للأشياء» أو «مجموع ما يوجد» — تبعًا للسياق، ويقيني أن عملية الاستبدال هذه (أو عملية فك الرموز في المنهج الرياضي) إذا أُجريت بطريقة يقظة متسقة، واقترنت باستبدال مماثل لكل الألفاظ والتعبيرات التي نبهنا هو ذاته، في موضعٍ أو آخر، إلى معناها الحقيقي في فلسفته، فإنها ستؤدي إلى تفسيرٍ تامِّ الاتساق لهذه الفلسفة.
وكما أننا طبقنا من قبلُ منهج استبدال المعاني الجديدة بالألفاظ القديمة في أجزاء أخرى لفلسفة اسپينوزا، فسوف نطبِّقه الآن على أكثر أجزائها صعوبة؛ أعني القسم الأخير من كتاب «الأخلاق»، الذي أثار مشكلة التناقض منذ البداية.
(٥-٢) فكرة الأزلية
وليس من الضروري أن يكون الذهن قادرًا على كشف جميع قوانين الأشياء حتى يُقال عنه إنه ينظر إليها من منظور الأزل. كما أنه ليس من الضروري أن تظل القوانين التي يكشفها صحيحة على الدوام حتى تنطبق على الذهن صفة «الأزلية» هذه؛ فالأزلية في الواقع «اتجاه» أو «موقف» قبل كل شيء. إنها الاتجاه إلى تأمُّل الأشياء من منظور شامل لا يتأثر بالتغييرات الجزئية، والاتجاه إلى المعرفة والتفسير العقلي. فإذا تمكَّن الذهن من أن يصل إلى ذلك «الحدس» الذي يجعله يدرك قانونية العالم وضرورة الظواهر الطبيعية، ويستبعد كل تفسيراته التشبيهية من مجال الفهم العلمي للظواهر، فعندئذٍ يكون ذلك الحدس ذاته — الذي أسماه اسپينوزا بالمعرفة من النوع الثالث — هو أوضح مظاهر الأزلية في ذهنه، بغضِّ النظر عن المحتوى الفعلي لمعرفة ذلك الذهن. فلا يهم إن كان الذهن يعيش في عصر نيوتن، ويتقيد بقيود العلم المعروفة في هذه المرحلة، أو يعيش في عصر أينشتين، ويوسِّع آفاقه بالقدر الذي امتدت إليه المعرفة خلال ثلاثة قرون؛ وإنما يكون الذهن «أزليًّا» إذا أقبل على دراسة الكون وهو يدرك أن هذا الكون قابل لأن يعرف، وأنه يخضع لقوانين ضرورية — بغضِّ النظر عن درجة كشفه لهذه القوانين — وأنَّ مجراه ليس عشوائيًّا وليس خاضعًا لمشيئة لا ضابط لها.
•••
- (أ)
فهو أولًا يودُّ أن يؤكد بطلان المعنى الشائع للخلود، وهو الخلود الذي يجمع بين أمرين يستحيل في نظره الجمع بينهما: بقاء الروح بلا جسم، ثم دوامها إلى ما بعد الحياة الحاضرة، وتذكُّرها لأمور حدثت في هذه الحياة؛ ففي رأي اسپينوزا أن الكلام عن «عالم آخر»، يفترض أنه يلي هذا العالم زمنيًّا، وكذلك الكلام عن الخلود بمعنى البقاء في الزمان إلى أجلٍ غير محدد، وأخيرًا الكلام عن تذكُّر الروح لهذه الحياة الحاضرة في حياة مقبلة — هذا كله يفترض مقدمًا وجود جسم؛ إذ إن التذكر يستحيل بلا جسم، والبقاء الممتد في الزمان يفترض الجسم مقدمًا. وهو يشرح هذه الفكرة بمزيد من الوضوح في ملحوظة القضية ٣٤ من هذا الباب فيقول: «إذن تأملنا الآراء الشائعة للناس، وجدناهم يشعرون فعلًا بأزلية أذهانهم، غير أنهم يخلطون بين الأزلية وبين البقاء الزمني، ويَعْزونها إلى الخيال أو الذاكرة التي يعتقدون أنها تظل باقية بعد الموت»؛ وعلى ذلك فليست الأزلية عند اسپينوزا، كما أوضح «برنشڨك»، «شيئًا يضاف إلى الفرد من الخارج، أو هبةً يتلقاها ساعة الموت أو يوم الحساب بوصفها ثوابًا على خير أداه من قبلُ، وإنما هي حقيقة باطنة في الوجود، ومتداخلة فيه، تتبدَّى في شعور حالي وتجربة عميقة.»
- (ب)
وعلى ذلك فإن اسپينوزا إذا كان قد أشار قبل ذلك إلى أنه قد أتم الحديث عن الحياة الحاضرة، فإنه لا يمكن أن يكون قد قصد من ذلك أن يتكلم عن حياة أخرى بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة. وهذا بالفعل ما يتعمد أن ينبهنا إليه في القضية السابقة؛ إذ يشير إلى استحالة هذا المعنى التقليدي، وبالتالي إلى أن الأزلية التي سيتحدث عنها، «والحياة الأخرى» كما يعنيها، هي حياة داخل هذه الحياة؛ أعني حياة الذهن الذي يدرك الماهيات الأزلية للأشياء من وراء وجودها الجزئي المتحدد.
وإن جميع القضايا التي تحدَّث فيها اسپينوزا عن فكرة الأزلية لتعبِّر عن أحد هذين الوجهين لرأيه في المشكلة؛ فهي إما تنتقد الرأي الشائع في الأزلية — أو على الأصح في الخلود — أو توضح المعنى الخاص الذي فهم به فكرة الأزلية، وتربط هذا المعنى بالأوجه الأخرى لفلسفته، ومن الملاحظ أن القضايا التي تعبِّر عن الوجه الأول — أي الوجه الناقد — ليست كلها متسلسلة، وإنما تتداخل مع القضايا المعبرة عن رأيه الخاص في الأزلية. وهذا التداخل يؤدي وظيفة هامة بالنسبة إلى منهج اسپينوزا في الكتابة: ذلك لأنه كلما مضى في تقديم رأيه الخاص في الأزلية، كان من الطبيعي أن يعود ذهن القارئ تدريجيًّا إلى المعاني التقليدية للفظ. وهكذا يحرص اسپينوزا على أن يأتي من آنٍ لآخر بقضية ناقدة لهذه المعاني التقليدية كلما بدا أن ذهن القارئ معرَّض للرجوع إليها، حتى يذكره دوامًا بالمستوى الجديد الذي يتحدث منه.
وعلى ذلك فإذا قال اسپينوزا في القضية الثانية والعشرين «إن العقل البشري لا يفنى نهائيًّا مع الجسم، وإنما يتبقى منه شيء أزلي» — إذا قال ذلك؛ فهو أولًا يقصد الجسم بمعناه المتحدد زمانيًّا ومكانيًّا، ويكون المقصود أن العقل؛ إذ يكوِّن أفكارًا عن ماهيات الأشياء — ومنها ماهية الجسم ذاته — تتجاوز نطاق وجودها الفعلي الجزئي، وبالتالي تتجاوز نطاق الوجود الفعلي الجزئي لجسمه هو ذاته، يمكن أن يعد بهذا المعنى أزليًّا بالنسبة إلى الجسم. ومع ذلك فليس لهذا البقاء الأزلي أية صلة بالاستمرار الزمني المعروف؛ لأن اسپينوزا، كما رأينا، قد استبعد كل هذه المعاني التقليدية منذ البداية.
وقبل أن أترك الحديث عن فكرة الأزلية أود أن أُشير إلى ظاهرة لم يتنبه إليها أولئك القائلون «بتناقض» اسپينوزا؛ فهو في براهينه على هذه المجموعة من القضايا يردُّنا على الدوام إلى القضايا المادية الصريحة التي عرضها في الباب الثاني من كتاب «الأخلاق». وإنه ليكون من الغريب حقًّا، إذا كانت لهجة اسپينوزا قد تغيرت فجأة في الجزء الأخير بالحديث عن معانٍ من بينها الأزلية، أن يلجأ للبرهنة على قضاياه في هذا الجزء إلى القضايا الواردة في أشد الأبواب السابقة مادية، ومن المؤكد أن مجرد استبقائه لقضايا الباب الثاني واعتماده عليها في براهينه على قضايا هذا الجزء، هو في ذاته دليل على أن المجرى الفكري متصل من أول الكتاب إلى آخره، وعلى أن من الواجب البحث عن تفسير آخر متسق لأفكاره ذات المظهر الصوفي في الجزء الأخير من الكتاب؛ لأنه كتب هذا الجزء وفي ذهنه أشد الأجزاء السابقة تعارضًا مع كل نزعة صوفية أو لاهوتية.
(٥-٣) فكرة الحب العقلي لله
هذا النص، الذي أردت أن أبدأ به بحثي لهذا الموضوع المعقَّد، يصلح مدخلًا سليمًا إلى تفسير معنى القضايا التي تحدَّث فيها اسپينوزا عن هذا الموضوع؛ فهو يتحدث هنا، في موضع واحد، عن ضرورة النظر إلى الله بمعزل عن صفات البشر، وفي الوقت ذاته عن كون الحب الإلهي أنفس ما لدى البشر. ولو فهمت هذه العبارة الأخيرة بأي معنى حرفي، لكان في وسع قارئه أن يعترض عليه توًّا بأن معنى الحب بشري بدوره، وبأننا لا نستطيع أن نحب إلا كائنًا نتصوره على مثالنا على نحو ما. وهكذا يكون اسپينوزا قد تناقض مع نفسه تناقضًا صارخًا في موضع واحد كهذا؛ إذ إنه يعود في آخر النص، وبعد الحديث عن حبنا لله، إلى تحذيرنا من تشبيه الله بالشر. والمسلك الوحيد الممكن إزاء نص كهذا هو أن نلتمس تفسيرًا غير التفسير الحرفي أو التقليدي لفكرة الحب الإلهي. وهكذا تبدأ محاولة البحث عن معانٍ أخرى وراء المعاني التقليدية الظاهرية للقضايا التي تعالج هذه الفكرة.
ولا بد للوصول إلى هذه المعاني الأخرى الخفية من إيضاح معنى بعض الأفكار والتعبيرات الرئيسية التي يستخدمها اسپينوزا في هذا السياق، مثل: معرفة الذهن لله، وعلاقة الذهن البشري بالذهن الإلهي.
ولكي يؤكد اسپينوزا هذه التفرقة قال: «ليس لله انفعالات، كما أنه لا يتأثر بعواطف اللذة ولا الألم قط.» والنتيجة الهامة التي يستخلصها من هذه القضية هي: «إذا شئنا الدقة؛ فالواجب أن نقول: إنَّ الله لا يحب ولا يكره أحدًا.» ولكنه في القضية التالية (١٨) يقول: «لا يستطيع أحد أن يكره الله.» ثم يقول في القضية التي تليها (١٩): «من يحب الله لا يسعى إلى أن يبادله الله الحب.»
ففي القضية الأولى يؤكد اسپينوزا استحالة انطباق الحب، بالمعنى الانفعالي، على الله. وإذا كان سيعود فيما بعدُ فيتحدث عن نوع من الحب الإلهي للإنسان، فإن هذا الحب ينبغي أن يُفهم بمعنًى غير المعنى الانفعالي الذي يتحدث عنه في هذه القضية. ومع ذلك فهو في هذه المجموعة من النصوص يجعل علاقة الحب بين الله وبين الإنسان «لا تماثلية»، فيقول إنه إذا كان الله، بالمعنى الدقيق، لا يحب أحدًا ولا يكرهه، فمن الواجب أن يظل حب الإنسان لله قائمًا حتى مع استحالة كونه متبادلًا.
فكيف فُهمت هذه النصوص؟
-
(أ)
لقد فهمها «ألكييه Alquié» مثلًا على أنها نوع من العلاء بالعقيدة التقليدية: فاسپينوزا حين قال إن حبنا لله ليس معناه أن ننتظر حبًّا مقابلًا من جانب الله، كان يقصد تنقية هذا الحب من مظهر الأنانية التي تجعلنا نتوقع المبادلة في كل حب نشعر به، بحيث ننتظر أن يُردَّ هذا الحب إلينا آخر الأمر،٨٨ وهكذا أراد أن يطهر العقيدة من هذه الاتجاهات، وبذلك يكون هذا الحب الإلهي، الذي لا ينتظر المرء فيه مبادلة، أنقى من كل المظاهر التقليدية. وتبعًا لهذا التفسير يتخذ الحب الإلهي عند اسپينوزا نفس الطابع التقليدي، وإن يكن مشوبًا بمحاولة للإصلاح والتطهير، ولا شك أن ذلك الفهم يفترض أن المقصود هنا هو الحب الانفعالي، الذي يوجه إلى إله ذي صبغة مشخصة، وهي معانٍ مضادة تمامًا لكل ما يقصده اسپينوزا نفسه.
-
(ب)
ويعلل «فوير Feuer» فكرة الحب الإلهي تعليلًا سيكولوجيًّا، فيقول إن تعلق اسپينوزا بهذه الفكرة ربما كان حنينًا لا شعوريًّا من طفل فقد حب أمه التي ماتت وهو في السادسة، كما يقترح تفسيرًا لفكرة الحب الإلهي غير المتبادل، فيقول إن هذه الفكرة قد تكون محاولة لا شعورية منه للتكيف مع طفولته في ظل أب صارم لا يبدي نحوه حبًّا،٨٩ ومن الواضح في رأينا، أنه ليس لأحدٍ أن يفكر في خوض ميدان التعليلات السيكولوجية إلا إذا تأكد قبل ذلك من المعنى الحقيقي لما يعلله، ومع ذلك فإن «فوير» قد افترض مقدمًا أن فكرة الحب الإلهي لها نفس معناها الحرفي التقليدي، وعللها على هذا الأساس. أما إذا تزعزع هذا المعنى التقليدي فإن كل هذه المحاولات السيكولوجية تنهار من أساسها.
-
(جـ)
أما ولفسون فيقول: إنَّ إله اسپينوزا مشخص بالمعنى الذي يكون فيه الإنسان متجهًا إليه بالحب، ولكنه غير مشخص (وبالتالي مختلف عن الإله التقليدي) من حيث إنَّه لا يسلك تجاه الإنسان نفس هذا السلوك،٩٠ ومعنى ذلك أن ولفسون يتصور إله اسپينوزا على أنه «مشخص جزئيًّا»، أو من ناحية تطلُّع الإنسان إليه، مع أن اسپينوزا عندما انتقد فكرة التشخيص لم ينتقد منها وجهًا واحدًا بعينه، بل انتقد جميع مظاهرها على الإطلاق.
هذه أمثلة للتخبط الذي يقع فيه كلُّ مَن يريد الاحتفاظ بأية صلة، ولو كانت طفيفة، بين إله اسپينوزا وبين الإله التقليدي. وفي هذه الحالة أيضًا تتضح فائدة التفسير الرمزي، أو غير المباشر، لفكرة الله عند اسپينوزا؛ فإذا فُهمت فكرة الله على أنها تعني عنده النظام الضروري للكون، أو مجموع ما يعرف، فإن الحب الإنساني لله يغدو، عندئذٍ، نوعًا من حب الكون، أو تعبيرًا عن سعي الإنسان الدائم إلى بلوغ المثل الأعلى للمعرفة. وتبعًا لهذا التفسير، يكون من السهل إلى حدٍّ بعيد فهم الطبيعة غير المتبادلة لهذا الحب؛ فكون الإنسان لا ينتظر من الله حبًّا متبادلًا، معناه أنه يقبل هذا النظام الضروري للكون، أو هذا المصير، وإن يكن النظام الضروري ذاته لا يستهدف غاية بشرية، ولا يسعى إلى إرضاء الإنسان، بل لا يكترث به ويقف منه موقفًا «سويًّا»، لا لشيء إلا لأنه ضروري. ومعناه — إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية المعرفة — أن الإنسان، في الوقت الذي يظل فيه ساعيًا إلى بلوغ المثل الأعلى للمعرفة طوال حياته، لا يمكنه أن يبلغ هذا المثل الأعلى على الإطلاق، بل يظل في سعيه على الدوام، دون أن يحقق هدفه الكامل من المعرفة؛ أي دون أن تلبي المعرفة الشاملة مطالب ذهنه الطموح، وفي ظل هذا التفسير يغدو من أيسر الأمور أن ندرك كيف يكون الحب الإلهي «عقليًّا»؛ إذ إن علاقة المعرفة، أو الفهم أو الاتصال بالطبيعة الضرورية للأشياء، هي علاقة عقلية قبل كل شيء.
على أن رأي اسپينوزا في الحب الإلهي لا يقف عند هذا الحد؛ فإذا كان قد أكد، عندما تحدَّث بالمعنى الدقيق، أن الله لا يحب البشر، أو على الأصح أن البشر ينبغي ألا ينتظروا من الله حبًّا مبادلًا لهم، فإنه يعود فيقول إن من الممكن التحدث، بمعنًى آخر، عن وجود حب إلهي للإنسان، وتفكيره في هذا الصدد يتسلسل على هذا النحو.
فهو في القضية السادسة والثلاثين (من الباب الخامس نفسه) يقول: «إن حب الذهن لله عقليًّا، هو نفسه ذلك الحب الذي يحب به الله ذاته، لا من حيث هو لا متناهٍ، بل من حيث إن من الممكن تفسيره عن طريق ماهية الذهن البشري، منظورًا إليه في صورة الأزلية. وبعبارة أخرى: فإن الحب العقلي الذي يبديه الذهن لله هو جزء من الحب اللامتناهي الذي يحب به الله ذاته.»
وفي نتيجة هذه القضية يقول: «ويترتب على ذلك أن الله، بقدر، ما يحب نفسه، يحب الإنسان، وبالتالي، أن حب الله للناس، وحب الذهن لله عقليًّا، هما شيء واحد.»
والآن، جرِّب أن تفسر فكرة «الله» في هذه النصوص تفسيرًا تقليديًّا، وسوف تجد مذهب اسپينوزا بأسره ينهار، ويشيع فيه التناقض بين النظرة الطبيعية المادية الصارمة والنظرة الصوفية الحالمة، ويصبح النص الواحد من هذه النصوص كافيًا لهدم كل ما سبق أن قاله عن فهم الطبيعة من خلال فكرة القانونية والضرورة الشاملة. أما إذا طبق عليها التفسير الذي قلنا به، أعني التفسير الرمزي غير المباشر، فإن كل شيء يغدو واضحًا مفهومًا.
ذلك لأن التفكير صفة من صفات «الجوهر»؛ أي إنه حقيقة موجودة في النظام الكلي للأشياء. وتفكير الذهن في الله، كما سبق أن أوضحنا، يعني معرفة الذهن لكل ما يستطيع أن يصل إليه عن النظام الضروري للأشياء، وعندما يفكر الإنسان، فمن الممكن القول — كما سبق أن أشرنا أيضًا — إن الذي يفكر هو الله، من حيث إنه يتبدى من خلال الذهن البشري. وبعبارة أخرى: فإن التفكير البشري هو جزء من صفة (أو ظاهرة) التفكير العامة الموجودة في الكون، والقول إن الذهن البشري يسعى إلى فهم نفسه (إذا تذكَّرنا أن الكون، في وجه من أوجُهه، هو أيضًا صفة الفكر)، وسواء أقلنا إن الله هو مجموع ما يعرف، أو أنه تعبير آخر عن النظام الضروري للأشياء من حيث هو مثل أعلى للمعرفة البشرية؛ ففي كل هذه الحالات يمكن أن يقال إن الذهن في سعيه إلى كشف قوانين الكون، يعتمد تمامًا على الله (بالمعاني السابقة للكلمة)، وأن الفكر الكوني هو عندئذٍ الذي يسعى — في مظاهره الجزئية — إلى فهم نفسه، أو، باللغة التقليدية، إن الحب العقلي لله، من جانب الذهن، هو جزء من الحب اللامتناهي الذي يحب به الله نفسه؛ وعلى هذا الأساس وحده يمكن أن تفسر العبارة السابقة الشديدة الغموض: «إن حب الله للناس، وحب الذهن لله عقليًّا، هما شيء واحد.» فجميع التفسيرات التقليدية أو القريبة من التقليدية تُخفق تمامًا في هذه الحالة؛ لأن حب الذهن لله عقليًّا من نوع مخالف لحب الله للناس تبعًا لجميع الآراء التقليدية، أما في التفسير الذي تقترحه، فإن مجرد كون الذهن البشري يفكر، ويضع العلم غاية له، معناه أن صفة الفكر في الكون تمارس فاعليتها، ومعناه — حسب لغة اسپينوزا التقليدية — أن الله، في هذا الوجه المتناهي، هو الذي يفكر. وبعبارة أخرى: فممارسة الفاعلية الفكرية في الكون، وهي الممارسة التي تنتقل من فرد إلى فرد، ومن جيل إلى جيل، وتزداد تقدمًا وانتشارًا على الدوام، لا تتم إلا من خلال الأذهان الفردية، التي هي جزئية بحق، ولكن سعيها الدائم، الذي يتجاوز نطاق الأفراد والأزمان، لا متناهٍ بالمعنى الصحيح.
ومع ذلك فإن معنى هذه الصيغة التقليدية لا يُفهم إلا من خلال التمهيد المطوَّل، الذي يستغرق الكتاب كله، والذي أعد اسپينوزا ذهن القارئ له. وهو هنا في واقع الأمر يريد أن يقول: إن مذهبي بدوره، وهو المذهب الذي يخلو من جميع العناصر فوق الطبيعية أو التشبيهية أو اللاعلمية، يمكن أن يوصل — على أساس أفضل — إلى نفس الغاية التي تتخذها الأديان هدفًا أسمى لها، ففيه أيضًا خلاص (عن طريق إدراك النظام الكلي للأشياء) وفيه أيضًا حرية (عن طريق فهم موقع كل شيء في السلسلة الضرورية الشاملة) وفيه أيضًا طمأنينة وبركة (عن طريق إدراك وحدة الكون والذهن الذي هو مظهر جزئي له) وفيه أيضًا حب (هو حب المعرفة والعلم).
إن في هذا الجزء عناصر تبدو صوفية ولا شك، ولكن الصوفية في هذه الحالة إنما هي صوفية العلم الذي لا تُداخله أية مسحة من النزعة إلى ما فوق الطبيعة. والخطأ الذي وقع فيه المفسرون عندما صادفوا مثل هذه العبارات التي حلَّق فيها اسپينوزا بالفعل في آفاق لا يدانيها، في علو غايتها، إلا آفاق المذاهب الدينية التقليدية، هو أنهم تصوروا أنه لا بُدَّ لذلك أن يكون قد عاد آخر الأمر إلى المعاني التي رفضها كلها في البداية، ومع ذلك فليست كل العبارات ذات المظهر الصوفي، كما رأينا، إلا تتويجًا للمذهب العلمي الدقيق الذي ظل يبنيه حجرًا حجرًا طوال الكتاب، وهو لم يتخلَّ هنا عن أية فكرة من أفكاره السابقة، بل لقد استجمعها كلها، كمؤلف سيمفونية ضخمة، لينسج منها خيوط الخاتمة الجبارة. ومن المؤكد أنه كان سيعد مذهبه ناقصًا لو لم يكن قد وجد فيه مجالًا لجميع الغايات والأهداف التي تتخذها لنفسها العقائد المنافسة لمذهبه. ومهما أشاد بفضيلة العقل والمنطق، وبقيمة التخلص من الأوهام والخرافات، وبأهمية النظرة العلمية الدقيقة إلى الكون؛ فقد كان سيجد حتمًا أناسًا يقولون له: ولكنا سنجد في عقائدنا خلاصًا وراحة وطمأنينة للنفس لا نجدها في مذهبك الصارم! وهكذا كان الجزء الأخير من الكتاب — تبعًا للتفسير الذي نقول به — هو الخاتمة الطبيعية الضرورية لكل ما سبقه، وليس على الإطلاق متناقضًا أو متنافرًا مع الأجزاء السابقة عليه، أو مقحمًا عليها دون انسجام.
ولعل السبب الأكبر في اشتداد تناقض التفسيرات حول هذا الجزء، ووقوع معظم شُرَّاح اسپينوزا في أخطاء واضحة بصدده، هو ذلك الاعتقاد الباطل، والشائع لسوء الحظ، بأن النظرة الشاملة الحدسية إلى الكون في مجموعه، وإدخال مقولات «الخلاص» وطمأنينة النفس وما إليها، مرتبطة ارتباطًا حتميًّا بالموقف اللاهوتي التقليدي، ولكن هل هذا الارتباط ضروري بحق؟ وهل لا تستطيع أن تنظر إلى «الكون» وإلى «النظام الكلي للأشياء» باحترام وتبجيل وحب إلا من خلال موقف لاهوتي؟ وهل يتحتم أن تكون النظرة العلمية إلى العالم، التي لا تُداخلها أية أوصاف «فوق الطبيعية»، جامدة غير مكترثة، لا تعرف الحب ولا الغبطة؟ وهل ينبغي القول بمبدأ فوق الطبيعي لكي يكون مثل هذا الحب ممكنًا؟ وهل هذا الحب محرَّم على العالم الذي يستبعد كل فرض عالٍ على الطبيعة؟ وهل يستحيل على المفكر أن يتعاطف ويندمج بكل كيانه في موضوع تفكيره إلا إذا تجاوز حدود هذا الموضوع وافترض كيانات خارجة عنه؟ لو رجعنا إلى تجربة العلماء لوجدنا الكثيرين منهم يردون على هذه الأسئلة كلها بالنفي القاطع؛ إذ إن أشدهم تمسكًا بالتفسير الطبيعي الصارم لا يجد ذلك متعارضًا مع شعوره بالحب نحو موضوع بحثه، وكلما تعمَّق العالم في بحثه ازداد نطاق هذا الموضوع اتساعًا، حتى نصل إلى ذلك الحب الكامل للطبيعة وللمجموع الكلي للأشياء، الذي أحس به علماء كثيرون لم تدخل تفكيرهم أية عناصر خارجة على الطبيعة أو عالية عليها.
•••
هذا هو تفسيرنا للجزء الأخير من كتاب «الأخلاق»، وهو تفسير قائم على الفهم الذي أوضحناه خلال هذا البحث لفكرة «الله» عند اسپينوزا. ويمتاز هذا التفسير بأنه يقضي تمامًا على التناقض المزعوم بين هذا الجزء وبين بقية أجزاء الكتاب، ويجعله خاتمة طبيعية لكل الأفكار التي عرضها اسپينوزا في كتابه بالتدريج.
وإنه ليكون أمرًا غريبًا بحق لو كان اسپينوزا قد هدف آخر الأمر، كما يقول شراحه، إلى تأكيد الخلود والحب الإلهي بمعناهما الحرفي، وإلى أن يعود، بشكل أو بآخر، إلى الموقف الديني التقليدي كما عرفه في حداثته، أو إلى نوع من التصوف الذي لا يأباه اللاهوتيون. ومبعث الغرابة في ذلك هو أنه، تبعًا لهذا الفرض، يكون قد مهَّد لهذا الهدف أسوأ تمهيد بعرض آرائه المادية التي طالما جلبت عليه الاتهامات وأثارت حوله الشكوك؛ فالأمر يكون عجيبًا حقًّا لو كان هذا الفيلسوف الذي كان الحذر حقيقة أساسية في حياته، والذي بذل جهدًا جبارًا لاتقاء شر خصومه ممن ينفرون من آرائه الجريئة، قد وضع كل هذه المقدمات الاستفزازية التي تجلب عليه المزيد من الشك ومن الاتهام والغضب والنقمة والخطر، من أجل الوصول إلى غاية هادئة خاضعة لا تُغضب المتمسكين بالتقاليد! ولن يكون لذلك تعليل سوى أنه نوع من الرغبة المتعمدة في إيقاع الأذى بالنفس؛ أي «المازوكية» الفكرية، أو نوع من العناد والمشاكسة، ذلك الذي يدفعه إلى أن يجلب على نفسه مصائب كان يعمل لها ألف حساب، في الوقت الذي كانت فيه غاياته الحقيقية لا تختلف كثيرًا عن غايات من يخشى أذاهم!
إنَّ الاعتبارات «التَّاريخيَّة» — أعني تلك المستمدة من ظروف حياة اسپينوزا — هي وحدها كفيلة برفض التفسير القائل بتناقض النهاية الصوفية لكتاب «الأخلاق» مع بقية أجزائه ذات الاتجاه المادي. أما الاعتبارات «المنطقية» فنحسب أننا أوضحناها في هذا الفصل بما فيه الكفاية.
Die Grossen Philosphen (op. cit.) Bd 1, S. 770.
«إن الله عند اسپينوزا ليس إلا لفظًا مهدئًا يعبِّر عن أشمل مبدأ في الكون.»
(انظر الملحوظة التالية.)
ويلاحظ في عبارة المؤلف الأخيرة أنها يمكن أن تعد ردًّا على المحاولة التي قام بها «ولفسون» في كتابه «فلسفة اسپينوزا»، إعادة كتاب «الأخلاق» كما كان يمكن أن يتصوره الكهنة اليهود وفلاسفة العصور الوسطى؛ إذ إنه يلوم ويلفسون ضمنًا على هذه المحاولة، ذاكرًا أنه طالما اعترف بأن كلمة الله عند اسپينوزا «لفظ مهدئ» فقد كان من واجبه أن يحاول إعادة كتابه «الأخلاق» دون هذا اللفظ المهدئ، وهو عكس ما فعله ولفسون.
(Brochard: Le Dieu de Spinoza, in “Etudes de phil. ancienne et de phil. moderne.” Paris (Vrin) 1954. p. 361).