اسپينوزا والعقائد الشائعة
(١) كتاب «البحث اللاهوتي السياسي»
لما كانت آراء اسپينوزا الرئيسية في العقائد الشائعة في عصره قد عرضت في «البحث اللاهوتي السياسي»؛ فقد رأينا أن نبدأ هذا الفصل بالحديث عن هدف الكتاب والتأثيرات التي أحدثها بين معاصريه وبين الباحثين في وقتنا الحالي.
- (١)
تحامُل رجال اللاهوت، فأنا أعلم أنهم هم الذين يَحولون بين الناس وبين استخدام عقولهم في التفلسف؛ ولذا أحاول كشف هذا التحامل وتخليص العقول الواعية منه.
- (٢)
رأي العامة فيَّ؛ إذ إنهم لا يكفُّون عن اتهامي بالإلحاد، وأنا مضطر إلى محاربة هذا الرأي بقدر استطاعتي.
- (٣)
حرية التفلسف وحرية الرأي، التي أريد الدفاع عنها بكل الوسائل؛ إذ إنَّ نفوذ رجال الدين وطبيعتهم العدوانية يقضيان عليها.
وفي مقدمة «البحث اللاهوتي السياسي» ذاته، يحدد اسپينوزا لنفسه من تأليف الكتاب أغراضًا مشابهة؛ فهو يحمل على رجال اللاهوت؛ لأنهم يتخذون من قداسة الكتب المقدسة نقطة بداية، ويجعلون ذلك مبدأ في الدراسة والتفسير، بينما هو يدعو إلى استخلاص هذه النتيجة — إذا أمكن استخلاصها — في نهاية البحث وبعد التفكير الكامل فيه. والضرر الذي يترتب على نظرة رجال اللاهوت هذه، هو أنهم يستغلُّون طابع القداسة هذا في خنق حرية الفكر وكتم أصوات خصومهم، بل وفي السيطرة السياسية أيضًا، وكأن مصالح الدين لا تتحقق إلا إذا كُبتت الحريات على هذا النحو الغاشم.
وإذ وجدت أننا نعيش، لحسن حظنا، في جمهورية تُكفَل فيها لكل فردٍ حريةٌ لا قيود فيها، ويعبد فيها كل فرد الله حسبما يمليه عليه ضميره، وتقدَّر الحرية فوق أي شيء آخر؛ فقد رأيت أن عملي لا يكون جحودًا ولا عقيمًا إذا ما أثبت أن هذه الحرية إذا ما مُنحت، فلن يلحق النظام العام ضرر، بل إنه بدونها لا تزدهر التقوى ولا يرتكز النظام العام على أسس متينة.
ولقد وجد بعض شُرَّاح اسپينوزا في ذلك الدفاع المتحمس الذي أورده في مقدمة ذلك الكتاب، والذي أكد فيه أن كل ما قاله لا يتعارض مع النظام الجمهوري القائم، وأنه على استعداد لإثبات ذلك، ولسحب ما يتأكد من أنه متعارض مع ذلك النظام بالفعل؛ وجدوا في ذلك مظهرًا لنوع من التملق للسلطات الحاكمة، ولكن تأمَّل دلالة الحملة الشديدة، التي سبقت كلامه هذا، على الخرافات الدينية وعلى إساءة رجال الدين استغلال سلطاتهم لمنع حرية الفكر، بل لأغراض شريرة في كثير من الأحيان، كل ذلك يجعل التفسير المرجَّح لموقفه هذا هو دعم السلطة الموجودة «لأنها» كانت تشجع الحرية الفكرية، ولا سيما في شئون الدين، وليس مجرد نفاق أو تملق لها؛ فهو لا يرمي من تأليف الكتاب إلى دعم النظام القائم لمجرد أنه هو النظام القائم، وإنما لأنَّ هذا النظام يتبع مبادئ يعدُّها سليمة، وبذلك يكون هدفه الحقيقي هو الدفاع عن المبادئ ذاتها لا عن ذلك النظام.
أما الهدف الذي أخفق اسپينوزا في تحقيقه إخفاقًا تامًّا؛ فهو ذلك الذي تحدَّث عنه في الرسالة التي أوردنا نصًّا منها في البداية، وأعني به أن يدفع عن نفسه تهمة الإلحاد التي وجهها العامة إليه؛ فالأمر المؤكَّد أن هذا الكتاب قد دعم هذه التهمة ولم يخفِّفها على الإطلاق، بل إن معظم متاعب اسپينوزا مع السلطات الدينية والثقافية القائمة عندئذٍ كانت ترجع إلى ذلك الكتاب بعينه؛ لأن كتاب «الأخلاق» لم يُنشر إلا بعد وفاته.
فأولدنبرج ذاته، الذي وجه إليه اسپينوزا هذه الرسالة، والذي كان عالمًا واسع الأفق، قد بدأ في المرحلة الأخيرة من مراسلاته مع اسپينوزا ينتقد ذلك الكتاب بطريقة ضمنية؛ فعندما طلب إليه اسپينوزا أن يحدد الأفكار التي يجوز أن تجرح المشاعر الدينية في ذلك الكتاب، ذكر، في الرسالة رقم ٧١، الأمور الآتية: الخلط بين الله وبين الطبيعة، وإنكار المعجزات التي يعتقد المسيحيون جميعهم تقريبًا أنها هي وحدها التي تضمن بقاء الإيمان، وغموض موقفه من المسيح وتجسده وتضحيته. وفي الرسالة رقم ٧٣ حدد النقاط التي يعتقد أنها تؤدي، في نظر القراء، إلى هدم الفضيلة الخلقية، بأنها هي فكرة الضرورة الصارمة التي لا يخرج عنها شيء، بحيث لا يعود هناك جدوى للثواب والعقاب؛ إذ إن ما هو ضروري — حتى لو كان شرًّا — له دائمًا مبرراته، وليس في الحتمية المفرطة مكان للخطيئة أو للجزاء.
(١-١) أسلوب البحث اللاهوتي السياسي
يبدو، لأول وهلة، أنَّ الأسلوب المسترسل الذي كتب به اسپينوزا «البحث اللاهوتي السياسي» لا يتيح له اتباع الطريقة غير المباشرة في الكتابة، التي كان يساعده عليها، إلى حدٍّ بعيد، منهجه الهندسي في كتاب «الأخلاق»، وبالفعل كانت آراء اسپينوزا في «البحث اللاهوتي السياسي» صريحة إلى حد غير قليل، وكان ذلك الكتاب، كما قلنا، هو المسئول الأول عن شهرة اسپينوزا في عصره، وفي العصر التالي له مباشرةً، بالمروق.
وبالفعل نجد أمورًا أساسية يُسلَّم بها في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» دون مناقشة تؤديها أو تُعارضها، ولا يمكن أن يُفهم رأي اسپينوزا فيها إلا بالرجوع إلى كتاب «الأخلاق» على الأخصِّ. ونستطيع أن نقول إنَّ الكتابين، على هذا الأساس، متكاملان؛ فكتاب «الأخلاق»، وإن يكن مكتفيًا بذاته بكل ما لهذه الكلمة من معنى، يبحث في الأسس والدعائم الأولى للفكر النظري وللأخلاق، و«البحث» يعالج ميدانًا تطبيقيًّا هو موقع الدين في الدولة، ولكن كثيرًا من المشاكل التي تُركت فيه دون جواب لا يمكن أن تُفهم إلا بالرجوع إلى ما قيل عنها في الأخلاق.
ويتضمن كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» شواهد عديدة، بعضها مباشر وبعضها غير مباشر، على أن اسپينوزا بذل في هذه الحالة أيضًا مجهودًا لتخفيف وقع آرائه باصطناع لغة لاهوتية ظاهرة للتعبير عن معانٍ مخالفة تمامًا للمعاني اللاهوتية. وكما قلنا من قبلُ في صدد الكلام عن المنهج، فإذا كان قد استخدم المنهج الهندسي في الأخلاق وسيلة لتحقيق هذه الغاية، فإنه يستخدم هنا ما يمكن أن يُعَدَّ فرعًا للمنهج الهندسي، وهو ما أسميناه «بطريقة المعادلات»، للوصول إلى هذه المعاني المزدوجة.
- (١) «أعني بمعونة الله، النظام الضروري الثابت للطبيعة أو سلسلة الحوادث الطبيعية … بحيث إن القول بأن كل شيء يحدث وفقًا للقوانين الطبيعية، والقول إن كل شيء مكتوب بأمر الله، يعنيان في رأيي شيئًا واحدًا … وعلى ذلك فإن كل ما تستطيع الطبيعة البشرية أن تزوِّد به نفسها، بجهودها الخاصة، لحفظ وجودها، يصح أن يُطلق عليه اسم المعونة الإلهية الباطنة، بينما أن كل ما يعود على الإنسان بالنفع من علل خارجية يمكن أن يُسمَّى بالمعونة الإلهية الخارجية (الظاهرة).»٧
- (٢) وفي موضعٍ آخر يرى اسپينوزا أن السعي إلى معرفة الله [أي فهم استمرار الطبيعة] يمكن أن يُسمى أمرًا إلهيًّا؛ لأن الفكرة الإلهية كامنة فينا، وهي التي تدفعنا إلى هذا السعي.٨ ومعنى ذلك أن الأمر الإلهي في رأيه كامن في الإنسان، ليس له أي مصدر خارجي، وهو أمر يُصدره الإنسان لنفسه في سبيل تحقيق أشرف غاياته، وهي الفهم العقلي للأشياء.
- (٣) ويعرِّف اسپينوزا الإيمان بأنه «معرفة لله، بدونها تستحيل طاعته، وقد يتمثل في هذه الطاعة وحدها.»٩ وقبل ذلك بصفحات قلائل يقول: «إن طاعة الله لا تكون إلا في حبنا للجار.»١٠ أي إن طاعة الله إنما تكون في حسن معاملة الناس فحسب؛ وعلى ذلك يكون معنى التعريف الأول هو: الإيمان معرفة لله، بدونها تستحيل المعاملة الطيبة للناس، ويتمثل في هذه المعاملة وحدها. والتعريف، في صورته الحقيقية هذه، يوحِّد بين الإيمان وحسن التعامل مع الناس، وبالتالي لا يجعل لاختلافات مضمونات العقائد أي أثر فيه. وقد يقال إن هذه أفكار توجد صراحة في كثير من العقائد. وهذا أمر لا ننكره، ولكنه ليس هو الموضوع الأساسي في هذا المجال، وإنما الموضوع الأساسي هو: هل يوحي التعريف الأول الذي أوردناه ها هنا، في ظاهره، بمثل هذه المعاني؟ ألا يبدو في مظهره تعريفًا متمشيًا مع جميع التقاليد اللاهوتية، ولا يستطيع أشد اللاهوتيين تمسكًا بالحرفية أن يأخذ عليه أي مأخذ؟
- (٤) وفي الفصل الأول من الكتاب، حين يتحدث اسپينوزا عن المصادر التي سوف يستمد منها بحثه في الطرق التي يتصل بها الله بالبشر، يقول: إنَّ هذه المصادر هي كتب الأنبياء — وهو يعني بهم أنبياء اليهود بطبيعة الحال. ثم يقول: «ولمَّا لم يكن هناك، بقدر ما أعلم، أي نبي حي في هذه الأيام، فلا مفر لنا من قراءة كتاب الأنبياء الراحلين …»١١ ومن المؤكد أن هذه الجملة، ولا سيما عبارة «بقدر ما أعلم»، فيها نوع من الاستخفاف بالموضوع بأسره. وهذا الاستخفاف الذي يبديه اسپينوزا هنا، بطريقة مستترة، ينعكس على الكتاب كله؛ إذ إن ما يبدو فيه من احترام ظاهري لوجهة نظر أنبياء اليهود، إن هو إلا من قبيل «أخذ الناس بقدر عقولهم»، كما اعتاد اسپينوزا أن يفعل في كثير من مواقفه الفكرية.
ولسنا نود أن نمضي في تعديد الشواهد على اتِّباع اسپينوزا الأسلوب غير المباشر في هذا الكتاب بدوره، ويكفي أن نقول: إنَّ كلَّ حديثه عن الدين — مثل حديثه عن الله في الفصل السابق — يتخذ معنًى جديدًا كل الجِدَّة إذا كانت الطاعة الإلهية لا تعدو أن تكون حب الجار، وإذا كان الوحي الديني في نظره ثانوي الأهمية، وشعائر الدين — كما سنرى فيما بعدُ — لا تفيد من حيث قيمتها العملية، وإذا كان القانون أو الأمر الإلهي لا يعدو أن يكون تعبيرًا عن النظام الضروري للأشياء. فاستخدام اسپينوزا للفظ الدين، أو الإيمان، لم يكن بدوره إلا من قبيل المجاراة والتهدئة فحسب. أما معانيه الحقيقية فكانت في وادٍ آخر تمامًا. ومع ذلك فلا بد من التسليم بأن هذا الأسلوب غير المباشر لم يكن ناجحًا كل النجاح في هذا الكتاب؛ إذ إن طريقة الكتابة المسترسلة تؤدي إلى الكشف عن معانيه الحقيقية دون عناء كبير. وهذا ما يفسِّر الضجة الكبرى التي أحدثها الكتاب في الأوساط الدينية في عصره على الأخص، وهي الضجة التي ظل اسپينوزا يعاني آثارها طوال حياته.
(٢) موقف اسپينوزا من المسيحية
وبعد كل ما قلناه في القسم السابق، نستطيع أن نقول إنَّ الدَّليل الأكبر على اتباع اسپينوزا للأسلوب غير المباشر في التعبير عن آرائه، هو الاختلاف الشديد بين الشُّراح حول موقفه من المسائل الدينية، ولا بد لإيضاح طبيعة هذا الاختلاف من شرح رأي اسپينوزا في اليهودية والمسيحية كلٍّ على حدة، ثم عرض آرائه في الروح الدينية بوجهٍ عام. ولما كنا سنخصص فصلًا مستقلًّا لشرح موقف اسپينوزا من اليهودية، فسوف ننتقل هنا مباشرة من الحديث عن موقفه من المسيحية، إلى بحث رأيه العام في الروح الدينية.
والظَّاهرة التي تلتف النظر في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» هي أنَّ اسپينوزا أظهر محاباة واضحة للمسيحية بالنسبة إلى اليهودية.
ولقد أدت هذه المحاباة الواضحة للمسيحية في «البحث اللاهوتي» إلى اعتقاد بعض الشُّراح أن اسپينوزا، حين نبذ اليهودية، قد اتجه بتفكيره إلى المسيحية عن إيمان صحيح بها، أو أنه تأثر بتعاليمها وفضَّلها على سائر العقائد.
ولكن الاعتقاد بأن اسپينوزا كان ميالًا إلى المسيحية أو متحيزًا لها، وبأنه قد اقترب كثيرًا من الإيمان بها بعد تخلِّيه عن اليهودية، يكذبه على نحو قاطع ما قاله في رسالة رقم ٧٣ (إلى أولدنبرج)؛ ففي هذه الرسالة يتحدث عن الاختلاف بين رأيه عن الله والرأي الذي يقول به المسيحيون المحدثون، من حيث إنه يرى أن الله هو العلة الكامنة في شيء، وليس العلة العالية على الأشياء. ثم يفسِّر الفكرة المسيحية القائلة إن المسيح هو الابن الأزلي لله، بأنها تعني أن المسيح كان يعبِّر عن «الحكمة الإلهية الأزلية كما تتمثل في جميع الأشياء، ولا سيما في العقل البشري؛ وهي الحكمة المؤدية بالفعل إلى الخلاص. أما فكرة اتخاذ الله صورة بشرية، فيقول عنها: لقد أشرت صراحة إلى أنني لا أفهم المقصود منها، بل إن هذا القول لا يبدو لي أقل امتناعًا من القول بأن الدائرة قد اتخذت صورة المربع.» فإذا أدركنا أن اسپينوزا كان أصرح في تعبيره عن آرائه في رسائله منه في كتبه، وإذا علمنا أن الاعتراضات الواردة في هذه الرسالة تتعلق بأركان أساسية في العقيدة المسيحية، لتبيَّن لنا أن رأيه الحقيقي في المسيحية كان لا بُدَّ مختلفًا عن الرأي الذي عبَّر عنه في «البحث اللاهوتي» حين جعل هذه العقيدة هي الأقرب إلى التعبير عن التعاليم الإلهية، وحين سلَّم بحرفيتها وأبدى نوعًا من الإعجاب بها.
وفي اعتقادنا أن هذا الرأي الأخير صحيح، وأن ما يبدو في «البحث اللاهوتي» من محاباة للمسيحية ليس، في واقع الأمر، إلا مظهرًا من مظاهر إخفاء اسپينوزا لآرائه الحقيقية. ولنذكر هنا الرأي الذي سبق أن اقتبسناه لماتيو أرنولد، وهو الرأي القائل: إن اسپينوزا لا يناقش الإنجيل ولا يبدي رأيه فيه، بل يتناوله كما هو، ويأخذه كما لو كان يضع فرضًا معينًا، دون أن يحدد لنا موقفه من هذا الفرض. وهذا، في الواقع، هو التعليل الصحيح لما يبدو من إعجاب اسپينوزا بالمسيحية؛ فهو يتناول تعاليمها كما هي، ويفترض أنها صحيحة، ثم يستخلص التفسيرات المنطقية لما في هذه التعاليم من أفكار، ولكن الأمر لا يعدو أن يكون افتراضًا فحسب؛ إذ لو كان يؤمن بها حقًّا لما تحدَّث عنها على نحو ما رأينا في رسالة إلى «أولدنبرج»، وعلى أية حال، فإن انتقاداته التي ركزها على العهد القديم هي، في نظر كلِّ مَن يختبرها عن كثب، ذات طابع أوسع بكثير من أن تنطبق على تعاليم العهد القديم وحده؛ فهي في الواقع انتقادات موجهة إلى الروح الدينية في عمومها، كما سنرى في الأقسام التالية.
(٣) العقل والإيمان عند اسپينوزا
مثل هذا التفسير لموقف اسپينوزا من مشكلة العلاقة بين العقل والإيمان يُغفل، في رأينا، أهم أوجُه هذا الموقف، حقًّا إنه يرتكز على بعض نصوصٍ مستمدة من كتاب اسپينوزا نفسه، ولكن هذه النصوص، إذا ما وُضعت في سياقها الحقيقي، تكتسب في واقع الأمر دلالة مختلفة كل الاختلاف؛ فالتفسير الذي يبدو لأول وهلة لهذه النصوص هو أن اسپينوزا فصل بين مجالَي العقل والوحي لكي يحفظ لكلٍّ منهما حقوقه إزاء الآخر، ولكن الواقع هو أن هدفه الحقيقي، المستمد من ظروف عصره، كان إبعاد سلطة رجال الدين عن كل الأمور المتعلقة بالمعرفة، وهي الأمور التي كانوا يدَّعون لأنفسهم سلطة كاملة فيها، ويتدخلون فيها على أساس أن لهم الكلمة الأخيرة حتى في هذا المجال ذاته؛ ففي العصر الذي تكون سلطة رجال الدين فيه هي الغالبة، تتخذ الدعوة إلى فصل العقل عن الوحي دلالةً مختلفة كل الاختلاف؛ إذ يصبح الوجه الذي يدافع فيها عن العقل أقوى من الوجه الذي يدافع عن الوحي بكثير، ولو ظهرت مثل هذه الدعوة في القرن العشرين مثلًا، حيث يكتسح العقل كل مجالات المعرفة البشرية، لأصبحت دلالتها عكس الدلالة السابقة؛ أي لأصبحت دفاعًا عن الوحي أكثر منها دفاعًا عن العقل. وبعبارة أخرى: فتفسير الدعوة إلى فصل العقل عن الوحي ينبغي أن يُستمد من ظروف كل عصر، وأن يُعد دفاعًا عن الجانب «الأضعف» نسبيًّا منهما في ذلك العصر. ولما كان عصر اسپينوزا، رغم حرية الفكر النسبية فيه، قد ظل يتضمن كثيرًا من عناصر التعصب الديني المتخلف عن العصور الوسطى، وكانت كلمة رجال الدين فيه، رغم كل شيء، هي الغالبة، بينما يضطر أصحاب النزعات الثائرة فيه إلى التعبير عن آرائهم بطريقة حذرة مستترة، فلا بد أن يكون الاتجاه الحقيقي لفكرته هذه دفاعًا عن العقل أكثر منه دفاعًا عن الوحي.
ولكنا لسنا في حاجة إلى مثل هذه التحليلات والاستنتاجات لكي ندرك الغرض الحقيقي لاسپينوزا؛ إذ إن كتاباته ذاتها تحفل بالنصوص التي يستحيل أن يخطئ المرء فهم مرماها؛ إذ إنها كلها تمجيد صريح للعقل وإعلاء له على كل شيء.
وفي مجموعة الرسائل التي تبادلها اسپينوزا مع «بلينبرج»، ذكر هذا الأخير (في الرسالة رقم ٢٠) أن الوحي عنده يعلو على العقل، وقال: «إذا ما اتضح لي، بعد دراسة فاحصة، أن المعرفة الطبيعية تتعارض مع كلام الله أو لا تتفق معه، فإن لكلام الله في عقلي سلطة تجعلني أشك في المفهومات الواضحة المزعومة …» وكان هذا القول سببًا في هجوم اسپينوزا عليه بعنف في الرسالة رقم ٢١ إذ قال: «إنني لأدرك الآن أن أي برهان، مهما كانت متانة الأسس التي يرتكز عليها، لا قيمة له في نظرك إذا لم يتفق مع التعاليم التي تنسبها أنت أو من تعرفهم من رجال اللاهوت إلى الكتاب المقدس. فإذا كنت تعتقد أن الله يعبِّر عن نفسه في الكتاب المقدس بطريقة أوضح وأدق من تلك التي يعبِّر بها عن نفسه في النور الطبيعي للذهن — الذي هو بدوره من صنعه والذي يحفظه بحكمته الإلهية — فإن لك كل الحق في إخضاع ذهنك لمعتقدات الكتاب المقدس. ولو كنتُ موضعك لما فعلتُ غير ذلك. أما أنا فأعترف دون مواربة بأنني لا أفهم الكتاب المقدس، وإن كنت قد كرَّست لدراسته عددًا من السنين … ولقد أصبحت، بفضل ممارسة قدرتي الطبيعية على الفهم، وهي القدرة التي لم تخذلني قط، رجلًا سعيدًا. وأنا بالفعل استمتع بها، وأقضي حياتي بعيدًا عن الحزن والهم، هادئًا مرحًا مسرورًا.» وعندما أصر «بلينبرج» في الرسالة التالية، على موقفه الذي يُخضع فيه العقل للوحي، رد عليه اسپينوزا في الرسالة رقم ٢٣ قائلًا إنه لا جدوى من استمرارهما في التراسل، طالما أنهما مختلفان على هذه المبادئ الأساسية، وكان من بين ما جاء في رده: «لقد كتبت في رسالتك الثانية أيضًا تقول إن أمنيتك ورغبتك الوحيدة هي المحافظة على الإيمان والأمل، بينما أنت لا تكترث بمختلف الآراء التي تناقشنا حولها في صدد الذهن الطبيعي. وهكذا رأيت، وما زلت أرى، أن رسائلي لا قيمة لها بالنسبة إليك … والواقع أنني عندما كتبت إليك (رسالتي الأولى) كنت أظنك فيلسوفًا خالصًا، لا تقبل (شأن عدد كبير من أتباع العقيدة المسيحية) معيارًا للحقيقة سوى الذهن الطبيعي، لا اللاهوت.»
ولما كان أي شخص يؤمن بالوحي لا يستطيع أن ينكر أن التفكير العقلي يرجع إلى الله ويُستمد منه، فإن اسپينوزا يستغل هذه الفكرة ليقول: إنَّ العقل البشري ينبغي، على هذا الأساس، أن يكون هو الأصل الأول لكل وحي إلهي، فيقول في الفصل الأول من «البحث اللاهوتي»: «ولما كنا نرى أن ذهننا ينطوي في ذاته على الطبيعة الإلهية ويشارك فيها، ويستطيع لهذا السبب وحده، أن يكوِّن أفكارًا تفسر الظواهر الطبيعية وتحضُّ على الأخلاق الحميدة، فإن ذلك يستتبع القول بأن لنا الحق في أن ننظر إلى طبيعة الذهن البشري (منظورًا إليه على هذا النحو) على أنه هو العلة الأولى للوحي الإلهي.» وهكذا يستخلص اسپينوزا من نفس منطق التدين، باستدلالٍ دقيق، نتيجةً خطيرة تجعل من العقل أساسًا للوحي ذاته.
وهكذا يكون من الخطأ، في هذا السياق أيضًا، أن نقرب بين اسپينوزا وبين فلاسفة العصور الوسطى الذين كانت مهمتهم هي التوفيق بين الفلسفة والدين، والذين ركزوا جهودهم في العثور على صورة أرسطو في النصوص الدينية؛ ففي الوقت الذي يبدو فيه لأول وهلة أن اسپينوزا يرمي إلى تحقيق نفس الهدف، مع استبدال ديكارت بأرسطو، يتضح من البحث الدقيق لآرائه أنه يجعل للعقل، في واقع الأمر، مكانةً تعلو على كل شيء، وأنه لو خُيِّر بين العقل والوحي لما تردَّد في اختيار الأول، وأنه لم يجعل للوحي مجالًا إلا حيثما يعجز الناس عن ممارسة عقولهم، وسوف تظهر هذه الحقيقة بمزيد من الوضوح عندما نتحدث عن وظيفة العقيدة الدينية كما تصوَّرها اسپينوزا.
(٣-١) وظيفة العقيدة الدينية
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فهو لا يكتفي بأن يقول إن السلوك القويم يؤدي إلى تحقيق الغاية المقصودة من الدين سواء أكانت أُسُسه دينية أم غير دينية، بل إنه يمضي خطوةً أبعد من ذلك، فيقول إن العقائد تفيد في تقويم سلوك العامة وحدهم. أما الخاصة؛ أي أصحاب العقول المفكرة، ففي وسعهم الاستغناء عنها تمامًا، بل لا مفر لهم من أن يستغنوا عنها إذا ما فكروا فيها بالمنطق الدقيق.
وتظهر هذه التفرقة بين حاجات العامة والخاصة من الناس بصورة ضمنية فيما رواه «كوليروس» عن اسپينوزا من أنه كان ينصح الأطفال بالذهاب إلى الكنيسة، وبإطاعة آبائهم، وأنه عندما سألته صاحبة داره إن كان يعتقد أن العقيدة التي تؤمن بها ستجلب لها الخلاص، أجاب: «إن عقيدتك عقيدة طيبة، ولست بحاجة إلى البحث عن غيرها، أو إلى الشك في أنها ستؤدي إلى خلاصك، على شرط أن يقترن اعتصامك بالتقوى بالعيش في سلام واطمئنان.» فهذه الرواية تكشف عن عدم اهتمام اسپينوزا بنوع العقيدة التي يؤمن بها الناس طالما أنها تؤدي إلى عيشهم في اطمئنان — فضلًا عن أن موافقته على ترك العامة يؤمنون بعقائدهم كما هي تعني ضمنًا أنه يرى لهذه العقائد وظيفة نافعة بالنسبة إلى عقول هؤلاء العامة ومستواهم الفكري.
والرأي الحقيقي الذي يؤمن به اسپينوزا في هذا الصدد هو الرأي القائل إننا إذا شئنا أن نهتدي إلى دليل على القدرة الإلهية، وأن نكون متسقين مع أنفسنا في الوقت ذاته، فلدينا في عقلنا البشري نفسه أعظم دليل. فليس ثمة داعٍ لافتراض معرفة غير مألوفة، خارجة على قوانين الطبيعة، لتكون هي مظهر هذه القدرة الإلهية. بل إن عقلنا ذاته معجزة، وكفاحنا من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها معجزة، ولا معنى — في نظره — لافتراض معجزات ونبوءات تتحدى العقل وتخرج عن نطاق الطبيعة من أجل إثبات هذه القدرة.
(٣-٢) نسبية الظاهرة الدينية
ومع ذلك، فالأمر الذي استطاع اسپينوزا أن يؤكده — باطمئنان كامل — هو أن مذهبه ليس أقل من غيره حرصًا على القيم الأخلاقية، وأن حياته ذاتها كانت — كما قال عنه الكثيرون من معاصريه — حياة قديس، بالمعنى الذي يفهمه هو لهذه الكلمة، وأن السعادة أو البركة التي تتخذها كل المذاهب الدينية غاية قصوى لها، قد وُجدت في سعيه إلى المعرفة تحقيقًا فعليًّا لها؛ وهذا وحده، بغضِّ النظر عن المحتوى النظري للتعاليم، هو الذي كان كفيلًا بإقناعه بأنه وجد، على طريقته الخاصة، سبيله إلى الخلاص.