نظرية الأخلاق
(١) الطابع الأساسي للنظرية الأخلاقية
وأهم ما استحدثه اسپينوزا، نتيجةً لهذه النظرة إلى الإنسان، هو أنه نزع عن عالم الإنسان الباطن قناع الصوفية والغموض الذي كان السابقون عليه يُخفونه به، وأدرجه ضمن الظواهر العلمية الخاضعة للبحث والتحليل، وبحثه — كما قال في مقدمة الباب الثالث من «الأخلاق» — «كما تُبحث الخطوط والمسطحات والأجسام». وهكذا أكد أن الهدف من علم الأخلاق ليس الوعظ والإرشاد، وإنما هو الدراسة والبحث والفهم، فنقل بذلك الأخلاق من مجال «ما ينبغي أن يكون» إلى مجال «ما هو كائن»، وأكد أن مهمته بوصفه باحثًا أخلاقيًّا ليست أن يحتقر أو ينتقد، وإنما أن يفهم الطبيعة البشرية على ما هي عليه. وهكذا تجاوز اسپينوزا الحواجز بين الواقع والمثل الأعلى، وبين ما هو فعلي وما هو معيار مثالي، وأنكر الخير المطلق، وبالتالي «عالم الغايات» الذي تركزت فيه الأخلاق المثالية بأسرها.
وهذه الصفة الأساسية تفسر الطابع الفريد الذي تتميز به الأخلاق عند اسپينوزا؛ فالأخلاق من وجهة نظر معينة مستحيلة في مذهبه، وهي من وجهة نظر أخرى أساس ذلك المذهب والعنصر الجوهري فيه، ومن المستحيل تفسير هذا الازدواج الغريب إلا من خلال الارتباط الوثيق بين موضوع الأخلاق، وهو الإنسان، وبين ضرورة الطبيعة في مجموعها.
ومع ذلك فإذا كان من الصعب، من وجهة النظر هذه، الاهتداء إلى مكان للأخلاق في مذهب ينظر إلى الوجود من وجهه الأزلي، فإن من الممكن، من وجهة نظر أخرى، القول إن الأخلاق هي الموضوع الأساسي في تلك الفلسفة، وليس لأحد أن يدهش على الإطلاق لأن اسپينوزا أطلق على كتابه الرئيسي اسم «الأخلاق» في الوقت الذي عالج فيه — في بابيه الأولين على الأقل — موضوعات ميتافيزيقية خالصة؛ ذلك لأن الحد الفاصل بين البحث في الطبيعة من وجهها الشامل وبين البحث في الإنسان يختفي تمامًا عند اسپينوزا، والدلالة الواضحة لبحثه موضوعات ميتافيزيقية رئيسية في كتاب موضوعه «الأخلاق»، هي أن اسپينوزا قد أحدث تغييرًا أساسيًّا في النظرة الفلسفية إلى مجال الأخلاق؛ فهو يرفض تمامًا تفرقة الفلاسفة التقليديين بين مجال المعرفة النظرية الخالصة، وهو الميتافيزيقا، ومجال المعرفة العملية، وهو الأخلاق (وهكذا يتضح أن تفرقة «هفدنج» التي أشرنا إليها منذ قليل لا تقدم الإجابة الصحيحة على المشكلة). وهو يؤكد أننا كلما تعمَّقنا في فهم قوانين الطبيعة الشاملة كنا أقدر على فهم سلوك الإنسان؛ أي إن مجال الأخلاق ليس إلا مركزًا تتلاقى فيه إشعاعات المعرفة البشرية في سائر فروعها، ويُطبَّق فيه العلم الإنساني بكل ما حققه من نتائج. وكل ما عليك، لكي تكون قد تعمقت في فهم السلوك البشري والعلاقات المتبادلة بين الناس، أن تكون نظرتك إلى الطبيعة في مجموعها نظرة علمية سليمة لا تمتزج بها خرافات أو ترتكن على كيانات أسطورية، وعندئذٍ يتضح لك كل شيء يتعلق بالإنسان في ضوئه الصحيح، وفي علاقته بالكل الذي لا يُفهم إلا من خلاله.
وكما ينبغي أن يُقال، من وجهة النَّظر هذه، إنَّ الأخلاق معرفة نظرية شأنها شأن العلم العقلي بوجه عام، فمن الممكن أيضًا أن يُقال: إنَّ العلم ذاته له طابع عملي أخلاقي؛ أي إن العلم والمعرفة يفتحان لنا أبواب الأخلاق، مثلما تمهد الأخلاق الطريق للمعرفة. والمهم في الأمر أنه لا وجود «لأخلاق مجردة» منفصلة عن المجرى العام لعلم البشر؛ وبذلك يتجاوز اسپينوزا، بهذا المعنى أيضًا، التفرقة بين الواقع والواجب، وبين العلم النظري والبصيرة العملية، وبين الأخلاق والعلم.
(٢) الطبيعة والقيم الأخلاقية
نستطيع أن نقول إنَّ المظهر الرئيسي للاختلاف بين وجهة نظر اسپينوزا ووجهة النظر التقليدية إلى الأخلاق هو أن القيم الأخلاقية عنده ليس لها مكان في المجرى الفعلي للطبيعة، بينما كانت القيم الأخلاقية في نظر الفلاسفة التقليديين هي الغاية النهائية لسلوك الطبيعة بأسرها. وهذا الفارق الرئيسي هو الذي يحدد الاختلاف بين وجهة النظر العلمية الصارمة — عند اسپينوزا — وبين وجهة النظر الغائية السائدة من قبله.
وعلى هذا النحو يستغل اسپينوزا فكرته هذه في حل المشكلة القديمة العهد: مشكلة وجود الشر في العالم، والتوفيق بين وجود الشر وبين الفاعلية الإلهية. ونستطيع أن نقول إن طريقة اسپينوزا الخاصة في حل هذه المشكلة هي مثلٌ من أوضح أمثلة منهجه الخاص؛ أعني منهج «المعادلات»، الذي عالج فيه مشاكل تقليدية بعبارات تبدو في ظاهرها تقليدية بدورها، ولكن دلالتها الحقيقية جديدة كل الجِدة، وتمثل خروجًا أساسيًّا على التراث.
- (أ) في الوجه الأول يؤكد اسپينوزا أن الشر «عَدَمٌ privation» لا صلة له بماهية الأشياء، وهو يشرح هذا العدم — في الرسالة رقم ٢١ — بأنه «كيان عقلي être de raison، وطريقة في التفكير عندما نقوم بإجراء مقارنة». ثم يضرب اسپينوزا مثلًا بالشخص الذي نقول عنه إنَّه أعمى؛ لأنَّنا نقيسه بغيره من المبصرين. أما من وجهة النظر الإلهية فلا يمكن أن يعد كذلك؛ فالحجر مثلًا لا يقال عنه إنه أعمى: «إذ إن هذا الرجل لا يملك ولا يمكن أن يملك شيئًا سوى ما منحه إياه العقل الإلهي والإرادة الإلهية. كما أن الله ليس سبب عدم إبصار هذا الرجل، مثلما أنه ليس سبب عدم إبصار الحجر، وإنما الأمر هنا يتعلق بسلب بحت.»ويزيد اسپينوزا فكرته إيضاحًا في الرسالة رقم ٢٣ حين يقول: «من مبادئ تفكيري أن الله هو العلة المطلقة والحقيقية لكل ما يمكن أن تُعزى إليه ماهية، دون استثناء. فإذا كان في وسعك إثبات أن الشر والخطأ والجرائم … إلخ، تعبِّر عن ماهية، فسوف أسلِّم معك دون جدال بأن الله علة الشر والخطأ والجرائم … إلخ. ولكني أظن أنني قد أثبت أن ما يضفي على الشر والخطأ والجريمة طابعها الخاص ليس شيئًا معبرًا عن ماهية على الإطلاق؛ ومن ثم فلا يجوز القول إن الله علتها؛ فقتل نيرون لأمه، الذي ندينه من أجله، لم يكن جريمة من حيث الطابع الإيجابي للعمل الذي قام به؛ فقد كان فعل «أورست Oreste» مماثلًا من الوجهة الظاهرية؛ إذ قتل أمه عمدًا، دون أن يحق عليه مثل هذا اللوم. ففيمَ تنحصر جريمة نيرون إذن؟ إنها لا تنحصر إلا في أنه قد أثبت بهذا القتل عقوقه وقسوته وعصيانه. وهذه كلها صفات لا تعبِّر عن أية ماهية، وبالتالي فليس الله سببها، وإن يكن هو سبب فعل نيرون ونيته.»
وهنا يظهر التقسيم المعروف للعلل إلى فاعلة وغائية؛ فالعلل الفاعلة هي وحدها الحقيقية، وهي لا تنطوي في ذاتها على قيمة ما، وإنما هي تُحدث أفعالًا إيجابية فحسب. أما العلل الغائية فهي التي تضفي على الأفعال قيمتها من وجهة النظر البشرية، ولكن ليس لها خارج وجهة النظر هذه أي كيان؛ فهي ليست حقيقية إذا نظرنا إلى الأمور من منظور الأزلية والضرورة المتحكمة في الطبيعة. ومن الممكن أن يصطبغ الفعل الواحد — كما قلنا — بشتى أنواع القيم والغايات، دون أن يكون لهذه أدنى تأثير في ماهية الفعل نفسه من حيث هو ناتج عن علة فاعلة، وهكذا يقسم اسپينوزا وجهات النظر الممكنة إلى الأشياء تقسيمًا ثنائيًّا إلى: وجهة النظر الإلهية، التي لا تتعلق إلا بالماهيات الحقيقية والعلل الفاعلة، ووجهة النظر البشرية، التي تضيف إلى الماهيات السابقة غايات وقيمًا مستمدة من مقارنتنا للأشياء بعضها ببعض تبعًا لأغراضنا الخاصة. وليس للشر وجود إلا من وجهة النظر الثانية فحسب؛ وعلى ذلك فلا يمكن أن يقال عنه إنه ناتج عن الفاعلية الإلهية.
- (ب) ويرتبط الوجه الثاني للحل الذي أتى به اسپينوزا لمشكلة علاقة الشر بالفاعلية الإلهية، بالوجه الأساسي الأول ارتباطًا وثيقًا، فإذا كان الشر لا يعبِّر عن ماهية إيجابية، وإنما هو عَدَمٌ محض، مستمد من مقارنتنا للحوادث بعضها ببعض تبعًا لغاياتنا الخاصة؛ فلا بد أن الشر — والخير أيضًا، بطبيعة الحال — مستمد من قيم البشر الاجتماعية الناجمة عن اتصال الناس بعضهم ببعض، بحيث إننا لو تصورنا حالة طبيعية للناس، لا يظهر فيها تأثير القيم الاجتماعية بعدُ، فمن المحال أن يكون للشر فيها وجود، «ففي الحالة الطبيعية، إذن، يستحيل تصوُّر الخطيئة، وهي لا توجد إلا في حالة يتفق فيها الناس على معنى الخير والشر، ويتعيَّن على كل شخص أن يطيع سلطة الدولة … ففي الحالة الطبيعية لا نستطيع أن نتصور رغبةً في إعطاء كل ذي حق حقه. وبعبارة أخرى لا يوجد في الحالة الطبيعية شيء يطابق العدالة والظلم، ومثل هذه الأفكار لا تكون ممكنة إلا في دولة اجتماعية … ومن هذا كله يتضح أن العدل والظلم، والخطيئة والفضيلة، هي أفكار خارجية، وليست صفات تكشف عن طبيعة العقل.»٧
ويكشف لنا حله هذا عن وجه آخر للغة اسپينوزا اللاهوتية التي استُخدمت للتعبير عن معانٍ لا صلة لها بمجال اللاهوت على الإطلاق؛ فوجهة النظر الإلهية التي لا يكون للشر معنًى فيها، ليست إلا «النظام الضروري للأشياء»، والقول إن الله لا يمكن أن يكون علة للشر لأن الله علة للماهيات الإيجابية فحسب، ليس إلا تعبيرًا مدرسيًّا عن القول إن الطبيعة إذا ما نُظر إليها في ضرورتها الشاملة لا تعرف القيم بمعناها البشري، بل إن البشر هم الذين يقتطعون من المجرى الضروري للطبيعة حوادث معينة ينظرون إليها من خلال مصالحهم الخاصة فيرون فيها خيرًا أو شرًّا.
فمن حيث ظاهر اللغة المستخدمة، يوجد تشابُه واضح بين اسپينوزا وبين الفلاسفة المَدْرَسِيِّين؛ إذ إنه بدوره يرمي إلى تقديم تفسير لظاهرة الشر في عالم تسيطر عليه ألوهية، ولكن هذا التشابه سطحي وخداع، والنتيجة الحقيقية للتفكير مختلفة في كل حالة عنها في الأخرى كل الاختلاف؛ ذلك لأن المَدْرَسِيِّين واللاهوتيين كانوا يحاولون استبعاد فكرة الشر عن الفاعلية الإلهية لكي يستبقوا لهذه الفاعلية طابعها الخيِّر؛ أي إنه إذا كان الشر في نظرهم وهمًا غير حقيقي، فإن الخير حقيقة لا شكَّ فيها، وله دلالة ميتافيزيقية أو أنتولوجية أساسية، وهو الغاية القصوى التي يستهدفها كل فعل إلهي. أما اسپينوزا، فإن طريقته الخاصة في استبعاد فكرة الشر عن الفاعلية الإلهية — أي من المجرى الضروري للأشياء — تتضمن في الوقت ذاته استبعادًا للخير، ومعه كل القيم المماثلة، من هذا المجال نفسه؛ فهو يختلف عن المَدْرَسِيِّين اختلافًا أساسيًّا في أنه لا ينفي الشر لكي يترك الخير وحيدًا في الميدان، بل يُخلي الميدان من جميع القيم الملائمة وغير الملائمة في آنٍ واحد. وهذا بطبيعة الحال هدف مختلف تمامًا عما كان يرمي إليه المدرسيون، بل إنه في واقع الأمر يهدم كل أسس التفكير المدرسي، من حيث إنه يستبعد الخير بوصفه غاية لمسار الحوادث في الكون. ويؤدي نفي وجود مثل هذه الغائية — مع نفي الشر — إلى إنكار تحكم العناية الإلهية في العالم، بحيث يغدو مجرى الحوادث غير مكترث ولا عابئ بالإنسان. وفي هذه الحالة، فحتى لو ظل المرء يقول بمبدأ إلهي أول، فإن وجود هذا المبدأ وعدمه يتساوى من وجهة نظر الإنسان، طالما أنه لا يستجيب للإنسان على أي نحو. وهكذا يتضح مدى الاختلاف الضخم بين نتائج اسپينوزا ونتائج المَدْرَسِيِّين، رغم أنه توصَّل إلى نتائجه عن طريق مقدمات تبدو، من حيث لغتها، قريبة الشبه من لغتهم إلى حدِّ بعيد.
(٢-١) نقد فكرة حرية الإرادة
يظهر اتساق الاتجاه الحتمي في نظرية اسپينوزا الأخلاقية بوضوح في نقده لفكرة حرية الإرادة؛ فعلى خلاف معظم المذاهب الفلسفية التي لم تتصور إمكان قيام الأخلاق دون إرادة حرة، يؤكد اسپينوزا أن الاعتقاد بحرِّية الإرادة وهمٌ باطل، وأثر من آثار الجهل بالأسباب الحقيقية، وأننا لن نستطيع فهم الإنسان على حقيقته، وبالتالي فهم طبيعة سلوكه، طالما أننا نفترض مقدمًا مثل هذه الفكرة الباطلة.
ويوضح اسپينوزا، في رسالته رقم ٥٨، طريقته الخاصة في فهم الحرية فيقول: «يكون الشيء في رأيي حرًّا عندما يوجد ويُفعل حسب ضرورة طبيعته وحدها، ويكون مرغمًا عندما يتحكم شيء آخر في وجوده وفعله تبعًا لقاعدة محددة.» ويشرح اسپينوزا اعتقاد الإنسان بحرِّية إرادته عن طريق التشبيه الآتي: إن الحجر لا يتحرك إلا إذا دفعته علة خارجية. فلنتصور أن هذا الحجر يعتقد، أثناء حركته، أن جهده هو الذي يجعله يتحرك؛ إذ ليس لديه وعي إلا بجهده هو، على حين أنه يجهل الأسباب الخارجية التي تحكمت في حركته، وهكذا يتصور نفسه حرًّا. وتلك هي حال الحرية البشرية.
ويلاحظ في تعريف اسپينوزا للحرية، أنها لا تتعارض مع الضرورة، وإنما مع التحكم أو الإرغام الخارجي؛ فالحرية هي الضرورة الباطنة؛ أي إن الكائن يكون حرًّا إذا لم يكن يرغمه شيء خارج عنه، وإنما يكون سلوكه متفقًا مع الضرورة الباطنة لطبيعته فحسب. ومن الواضح أن الحرية بمعناها الحقيقي لا تتوافر في هذه الحالة إلا للكون بمعناه الشامل، الذي لا يتحكم فيه شيء ولا يوجد شيء خارجه حتى يقال إنه يرغمه. وهذا هو معنى العبارة المصوغة بلغة لاهوتية، والقائلة إن الله وحده هو الحر.
وواضح، من هذه الفكرة الأخيرة، أن اسپينوزا يقول بمستويات مختلفة لتفسير فكرة الحرية؛ ففي المستوى المطلق يكون كل شيء ضروريًّا، وتنتفي الحرية بمعنى المشيئة التي لا تخضع لعامل خارجي. أما في المستوى النسبي أو الحيوي فإن بعض الأشياء يكون عرضيًّا إذا كانت معرفتنا بأسبابه غير كافية، وإذا كانت رغبتنا قوية في أن نسلك كما لو كنا نتحكم فيه بالفعل. وهكذا تكون الضرورة بالنسبة إلى اسپينوزا مثلًا أعلى للمعرفة؛ فإذا تأملنا الأشياء من وجهة نظر المعرفة الكاملة بها؛ أي إذا تصورنا أن لدينا معرفة كاملة بأدق تفاصيل الطبيعة، فمن الواجب عندئذٍ أن يختفي الاعتقاد بحرية الإرادة، ويصبح كل شيء مرتبطًا ارتباطًا ضروريًّا بأسبابه المعروفة، ولكن الملاحظ من جهة أخرى أن موقفنا الإنساني ذاته لا يتيح لنا الوصول إلى هذه المعرفة الكاملة التي تغدو كل الحوادث في ظلها ضرورية، فمعرفتنا بطبيعتها ناقصة، ولا يمكن أن تستوعب كل شيء. وهذا الجهل الذي نعيش فيه — بدرجاته المتفاوتة — يجعل لفكرة حرية الإرادة مكانًا في تفكيرنا على الدوام. وإذن فحرية الإرادة فكرة «واقعية». أما فكرة الضرورة فهي تعبير عن مثل علمي أعلى، والفكرتان تنتميان إلى منظورين مختلفين: منظور الحياة الفعلية من جهة، ومنظور المثل الأعلى للمعرفة العلمية من جهة أخرى. ويبدو أن اسپينوزا لم يكن يرمي إلا إلى استخلاص هذه النتيجة؛ أي إلى أن يقول: تستطيعون أن تعتقدوا أن إرادتكم حرة طالما أنكم تجهلون الأسباب الحقيقية للظواهر. وأنا لا أنتقدكم على ذلك، ولكن كل ما أريده منكم هو أن تعترفوا بأن المعرفة الكاملة لهذه الأسباب كفيلة بأن تقضي على اعتقادكم الحالي بحرية الإرادة، وبأن تأمُّل الأشياء من وجهة النظر الشاملة يؤدي حتمًا إلى سيادة فكرة الضرورة.
ومن المؤكد أن نفي حرية الإرادة، وتأكيد سيادة الضرورة — حتى على مستوى المثل الأعلى للمعرفة — يُثير حتمًا السؤال عن إمكان المسئولية والجزاء، وبالتالي عن إمكان قيام الأخلاق ذاتها. وبالفعل نجد اثنين على الأقل من مراسلي اسپينوزا، وهما «أولدنبرج» و«بلينبرج»، يبديان نفس الاعتراض؛ إذ إن الجزاء الإلهي، من مثوبة وعقاب، يغدو أمرًا لا معنى له إذا كانت جميع أفعالنا ترجع إلى الله بوصفه علة لها. وبعبارة أخرى: فإذا كانت الضرورة هي المتحكمة في جميع هذه الأفعال، فعندئذٍ تغدو جميع الآثام مباحة، وكل الشرور لها ما يبررها.
(٣) الانفعالات ووسيلة التغلب عليها
يرسم اسپينوزا في مقدمة الباب الثالث من «الأخلاق» منهجًا للبحث في الانفعالات ووسيلة التغلب عليها، يؤكد فيه أن خوضه لهذا الميدان البشري المحض لا يعني خروجه على مبدأ الحتمية المتحكمة في الطبيعة، بل إن خطأ جميع الباحثين من قبله كان تردُّدهم في أن يطبقوا على الإنسان نفس المبادئ التي تُطبَّق على الطبيعة بوجه عام، ونظرتهم إلى الإنسان على أنه «استثناء» من المجرى العام للطبيعة، ووضعهم إياه في مركز مميز يعلو فيه سلوكه على سائر الظواهر الطبيعية، وكان من نتيجة ذلك أن ظلت طبيعة الإنسان مجهولة لديهم على الدوام، وسوف نقتبس من هذه المقدمة نصًّا طويلًا، لأهميته الكبيرة في إيضاح منهج اسپينوزا في معالجة نظريته الأخلاقية.
«إن معظم من يكتبون عن الانفعالات والسلوك البشري يبدو كأنهم يعالجون أمورًا خارجة عن الطبيعة أكثر مما هم يعالجون ظواهر تسير وفقًا للقوانين العامة للطبيعة. وهكذا يبدو أنهم يتصورون الإنسان كما لو كان في الطبيعة يحتل مركز دولة داخل الدولة؛ إذ إنهم يظنونه خارجًا على نظام الطبيعة أكثر منه منقادًا له، ويعتقدون أن لديه سيطرة مطلقة على أفعاله، وأنه لا يخضع إلا لذاته … فلم يقم أحد، بقدر ما أعلم، بتعريف طبيعة الانفعالات وقوَّتها، وقدرة الذهن على مكافحتها وقمعها.
ولكن هذه هي خطتي؛ فلا شيء مما يحدث في الطبيعة يمكن أن يفسَّر بأنه انحراف عنها؛ إذ إن الطبيعة هي هي على الدوام، وهي دومًا متماثلة في أحكامها وقدرتها على الفعل؛ أي إن قوانين الطبيعة وأوامرها، التي تحدث بها كل الأشياء وتتغير من صورة إلى أخرى، واحدة في كل شيء وكل زمان، بحيث يجب أن يوجد منهج واحد لفهم طبيعة كل الأشياء على إطلاقها؛ أعني من خلال القوانين والقواعد الشاملة للطبيعة. وهكذا فإن انفعالات الكراهية والغضب والحسد وما إليها، إذا ما نُظر إليها في ذاتها، تسير وفقًا لنفس هذه الضرورة والإحكام في الطبيعة، وهي ترتد إلى أسباب محددة تُفهم من خلالها، ولها خصائص معلومة تستحق أن تُعرف، شأنها شأن خصائص أي شيء آخر يؤدي تأمله في ذاته إلى إرضائنا؛ لذلك سأعالج طبيعة الانفعالات وقوَّتها وفقًا لنفس المنهج الذي استخدمته من قبلُ في أبحاثي عن الله والعقل، وسوف أنظر إلى الأفعال والرغبات البشرية تمامًا كما لو كنت أبحث في خطوط ومسطحات وأحجام.»
مثل هذا التعريف للانفعال يستبعد تمامًا كل إشارة إلى قيم الخير أو الشر، بل يستبعد كل تفرقة «كيفية» بين انفعال وآخر، ويجعل أساس التمييز بين جميع الانفعالات هو ما يؤدي إليه كل منها من زيادة أو إنقاص قدرة الكائن على حفظ ذاته؛ أي المساعدة على استمراره في الوجود أو الحيلولة دون ذلك. وعلى أساس هذا المبدأ الرئيسي يُبنى المذهب الأخلاقي كاملًا، دون إدخال أية اعتبارات تقويمية أو كيفية فيه.
ولقد أتى اسپينوزا في الباب الرابع من «الأخلاق» بقائمة طويلة للانفعالات البشرية، معرَّفة كلها من خلال هذا المبدأ الأساسي: مبدأ زيادة قدرة الإنسان على حفظ ذاته والاستمرار في وجوده أو الإقلال من هذه القدرة. ولهذه القائمة طرافة كبيرة، وهي بلا شك تؤلِّف جانبًا هامًّا من نظرية اسپينوزا الأخلاقية، وتدل بكل وضوح على أصالة هذه النظرية؛ إذ إن تعريفاتها العلمية الصارمة للانفعالات تختلف تمامًا عن تعريفات الفلاسفة الأخلاقيين التقليديين بكل ما تضمنته من معانٍ تقويمية وتمييزات كيفية بين الانفعالات؛ فقائمة الانفعالات عند اسپينوزا تُمثِّل المحاولة الوحيدة، في المذاهب الأخلاقية التقليدية، لرد جميع انفعالات الإنسان إلى أصل واحد ترتبط فيه طبيعة الإنسان بطبيعة كل كائن حي آخر، ولا يُنظر إليها على أنها تحتل في الكون مركز «دولة داخل الدولة».
•••
وينبغي، قبل أن نتحدث عن وسيلة التغلب على الانفعالات عند اسپينوزا، أن نلاحظ أنه لا يحمل على الانفعالات بما هي كذلك؛ فهو لم يكن ضمن أولئك الفلاسفة الذين يحملون على كل انفعال ويعدونه مظهرًا من مظاهر ضعف النفس البشرية. وهو على الأخص لم يكن يحمل على الانفعالات الإيجابية المرتبطة بتحقيق الإنسان لطبيعته، وبالتالي كان أبعد الفلاسفة عن الدعوة إلى الزهد أو إنكار الجسم ومطالبه. وكثيرًا ما نسبت إلى اسپينوزا نزعات زاهدة، نظرًا إلى الاعتقاد بأنه كان فيلسوفًا صوفيًّا يدعو — بالمعنى الحرفي — إلى الحب الإلهي وإلى التخلي عن معرفة الحسيات والجزئيات في سبيل المعرفة الحدسية الصوفية. وهكذا نُظر إليه على أنه لا يفترق، في اتجاهه الأخلاقي العام، عن التراث الأفلاطوني المسيحي في الفكر الغربي. ومثل هذا التفسير بعيد كل البعد عن اتجاه اسپينوزا الحقيقي، وإن يكن ظاهر لغته يوحي بهذا في كثير من المواضع.
والحد الفاصل الذي يضعه بين الانفعالات التي ينبغي السعي إليها وتلك التي ينبغي تجنُّبها هو موافقة الأولى للعقل ومخالفة الثانية له. وليس العقل في هذه الحالة مبدأً مخالفًا لقوة الإنسان الطبيعية أو نزوعه إلى حفظ وجوده، بل هو على العكس من ذلك قوة تتمشى تمامًا مع الطبيعة الحقيقية للإنسان وتوفِّق بينها وبين النظام الكلي للأشياء. فإذا دلنا العقل على أن انفعالًا ما يؤدي إلى المساعدة على استمرار وجودنا وحفظ ذاتنا، فذلك انفعال ينبغي أن نسعى إليه. أما ما يعوق وجودنا فمن الواجب تجنُّبه بأي ثمن.
وليس معنى ذلك أن يتخلى الإنسان عن نفعه في سبيل التحليل العقلي المنطقي لكل الانفعالات، فالتفكير والمعرفة لا يتعارضان مع تحقيق الإنسان لنفعه، بل إنهما في الواقع يساعدان عليه؛ فهو يعارض القائلين بأن سعي الإنسان إلى تحقيق نفعه الخاص رذيلة، ويُثبت في مجموعة من القضايا أن سعي الإنسان إلى نفعه الخاص، إذا استرشد بالعقل، يكون هو ذاته قوام الفضيلة، وهكذا يتسلسل تفكيره، في الباب الرابع، على النحو الآتي؛ ففي القضية رقم ١٩ يقول: إن كل شخص يرغب بطبيعته فيما يراه خيرًا ويُحجم عما يراه شرًّا. وفي القضية ٢٠، يرى أن فضيلة الإنسان تكون في سعيه إلى نفعه؛ أي حفظ كيانه. ومن المحال، كما يقول في القضية ٢٢، أن نتصور فضيلةً أسبق من محاولة الإنسان حفظ وجوده. ثم يشرح دور العقل والفهم في القضية ٢٣، فيقول: إنَّ الإنسان لا يتصرف وفقًا لفضيلته إلا إذا كان يفهم فعله. ويلخص رأيه في القضية ٢٤ بقوله: إنَّ السُّلوك وفقًا للفضيلة يعادل تمامًا سلوك المرء وعيشه وحفظه لوجوده (وهي كلها ألفاظ مترادفة) وفقًا لما يمليه العقل، وعلى أساس مبدأ السعي إلى ما فيه نفعه الخاص. ويعبِّر عن ذلك تعبيرًا أكثر إيجازًا في القضية ٣١ فيقول: إنَّ «الشيء يكون خيرًا بالضرورة بقدر ما يكون منسجمًا مع طبيعتنا.»
وفي رأينا أن الحل الذي أتى به اسپينوزا لمشكلة التغلب على الانفعالات، لا عن طريق محاولة التخلص من هذه الانفعالات بطريق مباشر، وإنما عن طريق معرفتها والتفكير العقلي فيها وربطها بالسياق العام لظروف الإنسان الخارجية والباطنة — هذا الحل ينطوي على بعض أوجه الشبه مع فكرة التحليل النفسي (وإن لم يكن لنا أن نمضي في التماس أوجه الشبه هذه أبعد مما ينبغي)؛ ففي التحليل النفسي بدوره يُقال بإمكان التخلص من المشكلات النفسية عن طريق الخروج بها من اللاشعور إلى عالم الشعور، وعن طريق الإدراك الواعي لها. والعنصر المشترك بين الطرفين هو أن اختلال التوازن النفسي يمكن أن يستمر طالما أن المشكلة لا تأخذ طريقها إلى ذهننا الواعي، وأن طريقة إعادة التوازن السليم هي إدراك هذا الاختلال عن وعي ووضعه في سياق الطبيعي، سواء عن طريق المعرفة العقلية، في الحالة الأولى، أو عن طريق مجرد الوعي به في الحالة الثانية؛ ففي كلتا الحالتين يكفي لتخليص الإنسان من هذا الاختلال إلقاء ضوء عليه، وإخراجه من الظُّلمة التي كان غارقًا فيها أثناء تعرُّضنا التلقائي له، ونقله بالتفكير الواعي من مجاله الضيق ومن الظروف المحددة الغامضة التي كان يمارس تأثيره فيها.
•••
وأخيرًا فلا بد من إشارة خاصة إلى النتائج الاجتماعية الواضحة التي يستخلصها اسپينوزا من نظريته في قهر الانفعالات. هذه النتائج تُلخَّص في أن الانفعالات هي أساس الشقاق بين الناس، وأن العقل أساس التقريب بينهم. فإذا كان العقل هو وسيلتنا إلى قهر الانفعالات، فلا بد أن سعي الإنسان إلى التغلب على انفعالاته يؤدي هو ذاته إلى تأكيد المعاني الاجتماعية في نفس الإنسان.
وتتسم آراء اسپينوزا في هذا الصدد بطابع مزدوج، يرتبط بطابع مزدوج مُناظر في الحل الذي وضعه للتغلب على الانفعالات؛ فهو من جهة يقول إن الانفعال لا يقهره إلا انفعال آخر أقوى منه، ومن جهة أخرى يقول إن التفكير في الانفعالات وربطها بالنظام الضروري للأشياء هو الكفيل بالقضاء عليها. وصحيح أنه يربط بين هاتين الوسيلتين على نحوٍ ما حين يقول، في نص سبق اقتبسناه: إن معرفة الخير والشر هي انفعال اللذة والألم، بقدر ما نكون على وعي بهما، ولكن لا شك، رغم ذلك، في أن هناك نوعًا من التمييز بين الوسيلتين؛ إذ إن الوسيلة الأولى، وهي استخدام انفعال أقوى، تستبقي على أية حال نوعًا آخر من الانفعال. أما الوسيلة الأخرى فمن الممكن، إذا مضينا إلى أبعد مراحلها، أن تؤدي إلى حالة لا يعود فيها مجال لأي انفعال، ويتسم فيها كل شيء بصبغة الضرورة المطلقة، ونستطيع أن نعد الوسيلة الأولى مرحلة ممهدة للأخرى؛ أي إن التغلب على الانفعال يمكن أن يكون بانفعال آخر أقوى منه، وهذه هي الوسيلة الأسهل والأقرب مثالًا، ويمكن أن يتم عن طريق الفهم الكامل لموقع كل حادث في النظام الكلي للأشياء، وهي أصعب الوسيلتين، وأبعدهما عن متناول الناس.
ولكن إذا كان اسپينوزا قد أكد في النص السابق عجز العقل عن قهر الانفعال، فلنذكر — كما أوضح في ملحوظة القضية رقم ١٧ من الباب نفسه — أنه يعالج المسألة في هذا الباب من وجهة نظر الضعف البشري وعبودية الإنسان، وأن هناك وجهة نظرٍ أخرى على مستوًى أرفع، هي وجهة نظر «تحرُّر الإنسان»؛ أعني تلك التي يكون العقل فيها قادرًا بالفعل على تخليص الإنسان من انفعالاته بالتفكير فيها، وفي هذه الحالة أيضًا تؤدي محاولة الإنسان قهر انفعالاته إلى التقريب بين الناس وتأكيد القيم الاجتماعية في النفس البشرية، ولكن على مستوًى أعلى من مستوى الخوف المتبادل الذي أدت إليه الوسيلة الأولى.
ولعلنا لا نكون مسرفين كثيرًا في التفسير إذا قلنا: إنَّ اسپينوزا كان، في ربطه بين التعاون المتبادل بين الناس وبين زيادة تيسير الوفاء بحاجاتهم، يدافع في الوقت ذاته عن الحضارة الصناعية الحديثة التي شهد أول البوادر الممهِّدة لها، وينتقد مقدمًا أولئك الذين يندبون أيام عزلة الإنسان واكتفائه بذاته، ويجعل من نفسه مدافعًا عن مبدأ تقسيم العمل، مؤكدًا — كما سنرى أيضًا فيما بعدُ — أنه أقدر على تحقيق كمال الإنسان بكثير من حياة «البداوة الجلفة».
(٤) الجوانب السلبية والإيجابية في النظرية الأخلاقية
من الطبيعي أن تثار مشكلة السلبية والإيجابية في صدد كل مذهب أخلاقي يدعو إلى قهر الانفعالات عن طريق العقل؛ فمنذ الرواقيين أصبح الاعتراض على مثل هذه المذاهب بالسلبية أمرًا مألوفًا. أليست تدعو الإنسان إلى أن يركز طاقته في كبت انفعالاته وقهرها، ويستخدم عقله في السيطرة على ذاته، بدلًا من أن يستغل هذه الطاقة في التغلب على العوامل الخارجية المؤدية إلى هذه الانفعالات، أو يستخدم عقله في السيطرة على العالم المحيط به؟ إن مثل هذه المذاهب، ابتداءً من الرواقية حتى اسپينوزا، تبدو صالحة لأناس يعجزون عن تغيير العالم المحيط بهم فيركزون جهودهم في تغيير أنفسهم، ويجعلون مسرح نشاطهم هو عالمهم الباطن؛ لأنَّهم لا يملكون أن يسيطروا على أي عالم سواه.
وفي نظرية اسپينوزا في قهر الانفعالات كثير من العناصر التي تشجع على مثل هذا النقد. وهو يتحدث أحيانًا بلهجة توحي مباشرةً بالسلبية، كما في قوله، في الرسالة رقم ٣٠ التي يتحدث فيها إلى أولدنبرج عن الحرب الدائرة بين هولندا وإنجلترا، وهي الحرب التي لا يوافق عليها وعلى ما يراق فيها من الدماء: «أما أنا فلا تثير فيَّ هذه القلاقل ضحكًا ولا بكاءً؛ وإنما تدفعني إلى التفلسف وإمعان النظر في طبيعة البشر؛ إذ لست أعتقد أن من حقي أن أسخر من الطبيعة، أو أن أشكو منها، وذلك كلما فكرت في أن الناس، شأنهم شأن سائر الموجودات، ليسوا إلا جزءًا من الطبيعة، وفي أنني أجهل كيف تتفق هذه الأجزاء مع الكل وتتمشى معه، وكيف يرتبط كل جزء بالباقين … فأنا الآن أترك لكلٍّ الحرية في أن يحيا وفقًا لطبيعته …»
هذه دون شكٍّ نظريةٌ سلبية إلى ظاهرة يعترف، هو ذاته، بأنها شر، وهي الحرب، ولكنه يعزوها إلى ضعفٍ كامن في الناس لا يمكن إحداث تغيير فيه. والنظرة السلبية ترتبط — كما هو واضح من هذا النص — بتأمل الأمور في طبيعتها الضرورية؛ أي من منظور الأزل. فلا بد له، لكي يترفع عن صغائر الناس ومظاهر ضعفهم، من أن يربط كل حادث بالمجرى الضروري الأزلي للطبيعة. وهذا أمرٌ مستساغ في لحظة التحليل والتفلسف، ولكنه إذا أصبح يعبِّر عن الموقف الوحيد للفيلسوف، فإنه يؤدي إلى إنكاره لوجوده الإنساني، وكفه عن المشاركة العملية في الشئون اليومية لبقية الناس. ومن الواضح أن حياتنا العملية تقتضي نوعًا من التخلي المتعمد — مؤقتًا — عن وجهة النظر الأزلية والاهتمام من آنٍ لآخر بجزئية الحوادث، وبعالم الانفعالات بما فيه من قيم بشرية هي حقًّا لا تنتمي إلى طبيعة الأشياء، ولكنها قطعًا تعبِّر عن مشكلات أصيلة في حياة الإنسان.
ومن جهة أخرى، فصحيح أن التعقل وفهم الأسباب خطوة كبرى نحو التخلص من مشاكلنا، ولكنه ليس هو الخطوة الأخيرة؛ فالفهم والمعرفة ليسا كافيين، بل إن في الاقتصار عليهما نوعًا من السلبية، ومن الواجب أن تكملهما محاوَلةٌ للتغيير الإيجابي للظروف الخارجية؛ محاولةٌ تنتمي إلى ميدان «الفعل»، لا إلى ميدان العقل وحده.
ونستطيع أن نقول، رغم ذلك كله: إنَّ تهمة السلبية لا تنطبق على فلسفة اسپينوزا الأخلاقية كل الانطباق؛ ففي هذه الفلسفة عناصر إيجابية لا تُنكَر؛ فهو يفترق عن كثير من المذاهب الداعية إلى قعر الانفعالات بالعقل في أن هذه الدعوة لم تكن قائمة عنده على أساس من الزهد، بل إنه يؤكد على نحوٍ لا يتضمن أي لبس أن من واجب الإنسان أن يمارس كل عناصر طبيعته بقدر ما يستطيع. ولنلاحظ في هذا الصدد أن مبدأه الأساسي الذي فسر من خلاله كل مظاهر سلوك الإنسان، وهو مبدأ الاستمرار في الوجود، هو في ذاته مبدأ للفاعلية، بينما هو يعد كل ما يعوق فعل الإنسان شرًّا. وفضلًا عن ذلك فقد أكد اسپينوزا أهمية سعي الإنسان إلى نفعه الخاص، ولم ينكر أي عنصر من عناصر الحياة الحسية أو يحمل عليه إلا إذا أصبحت له الغلبة على العقل، وهو أمر لا تنكره أية فلسفة مبنية على مبدأ الفاعلية المطلقة للإنسان. وأخيرًا فقد أكد القيم الاجتماعية، كما رأينا من قبلُ، على نحوٍ لا يقبل أي جدال، وربط بصورة واضحة بين إنهاض الإنسان لحياته وبين اتصاله الاجتماعي بالآخرين، وفي ذلك قطعًا عنصر إيجابي واضح.
ومثل هذا النظام الذاتي، المستمد من وصول العقل البشري إلى أرفع مستوًى يمكنه أن يبلغه، لا يتوافر إلا للقليلين. وهكذا يضطر المرء إلى الاعتراف بأن الأخلاق عند اسپينوزا تتجه إلى القلة لا إلى الكثرة، وأنه — رغم اعترافه الكامل بطبيعة الإنسان — يفرض للأخلاقية شروطًا لا يصل إليها إلا القليلون.
وهكذا مضت بنا هذه المناقشة — ذات الطابع الديالكتيكي الواضح — لمشكلة السلبية والإيجابية عند اسپينوزا، وبالتالي لمشكلة الأرستقراطية والديمقراطية في هذه الأخلاق، من تأكيد إلى تأكيد مضاد على مستوًى أرفع، وفي اعتقادنا أن الرأي السابق ليس هو — رغم المظاهر البادية — الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع. فما زال من الممكن القول إن المثل الأعلى الذي وضعه اسپينوزا للأخلاق، وهو سيادة العقل، ليس أرستقراطيًّا من جميع الأوجه، وبالتالي ليس غاية سلبية بالنسبة إلى الجزء الأكبر من البشر؛ ذلك لأن للعقل الرفيع هذه الميزة، وهي أنه إذا كان من الوجهة العملية لا يتوافر إلا للقليلين، فإنه من الوجهة النظرية يمكن أن يتوافر للجميع، بل إن المعرفة هي — نظريًّا — أقرب المثل العليا إلى متناول الجميع؛ فهي، كما قلنا، ليست كالمال ينقص كلما ازداد عدد المشاركين فيه، وإنما هي الغاية الوحيدة التي يمكن أن يشارك فيها الجميع على السواء، وتزداد آفاقها اتساعًا كلما اتسع نطاق المشاركة فيها، وصحيح أن هذا من الوجهة العملية أمر غير متحقق؛ لأن المعرفة بالفعل لا تتوافر إلا للقلة النادرة، ولكن المثل الأعلى للمعرفة هو، من حيث المبدأ، أسهل المثل العليا منالًا، مثلما أنه من الوجهة العملية أصعبها بلوغًا، وعلى أساس هذه الطبيعة الخاصة لمثال المعرفة يمكننا أن نحل المشكلة بالجمع بين طرفيها في هذا المركَّب الأعلى.