لا بُدَّ من الاعتراف، في بداية هذا الفصل القصير، بأن البحث التفصيلي في النظريات
السياسية، من حيث هو ينتمي إلى مجال العلوم السياسية، يخرج بنا عن النطاق الفلسفي البحت
الذي حددناه لكتاب كهذا؛ ومن هنا فإنا سنقتصر في هذا الفصل على معالجة أعمِّ النواحي
في
فلسفة اسپينوزا السياسية، وهي النواحي المتصلة بموقفه الفكري العام. أما البحث في تفصيلات
مذهبه السياسي فهو بطبيعته خارج عن حدود هذا الكتاب.
(١) أهمية الحياة الاجتماعية ووظيفة الدولة
يؤدي البحث في النظرية الأخلاقية عند اسپينوزا، كما رأينا عند نهاية الفصل السابق،
إلى تأكيد أهمية الحياة الاجتماعية؛ فمذهبه الأخلاقي النظري ينتهي إلى تمجيد الحياة
الاجتماعية من حيث إنها هي التي تحقق كمال الشخصية الأخلاقية الفردية، وتكفل الحرية
الحقيقية للإنسان. وهو ينقلنا من مجال النظرية الأخلاقية إلى مجال الفلسفة السياسية —
أثناء عرض نظريته في الانفعالات — فيقول أولًا: «إن كل ما يساعد على حياة الإنسان
الاجتماعية، أو يؤدي بالناس إلى أن يحيوا سويًّا في وئام، هو خير، بينما كل ما يؤدي إلى
الشقاق في الدولة شر.»
١ ثم يربط بين حرية الإنسان وبين حياته المدنية فيقول: «إن من يسترشد بالعقل
يكون أكثر تحررًا في دولة يعيش فيها في ظل نظامٍ عامٍّ من القانون، منه في عزلة يكون
فيها مستقلًّا.»
٢ وبعبارة أخرى: فما يبدو أنه قيود للحياة المدنية في ظل القانون، هو في واقع
الأمر تحرُّر يفوق كثيرًا ذلك التحرر الذي يتوهم البعض أنه يتحقق في حالة العزلة
والتخلص من النظم والقيود.
وقد أشرنا إشارة موجزة، في الفصل الأخلاقي، إلى دفاع اسپينوزا عن مبدأ تقسيم العمل
وحملته على حياة البداوة بما فيها من استقلال مزعوم يعجز المرء فيه عن تحقيق أهم
مطالبه، وبالتالي عن تنمية شخصيته على الوجه الأكمل. وقد أورد اسپينوزا في كتاب «البحث
اللاهوتي السياسي» آراء صريحة في هذا الموضوع، تقف في مصافِّ النظريات الحديثة في علم
الاجتماع من حيث تأكيد أهمية تقسيم العمل الاجتماعي بالنسبة إلى حياة الإنسان الحديث:
«إن تكوين المجتمع لا يفيد في الأغراض الدفاعية فحسب، وإنما يفيد أيضًا في أمور عديدة،
بل إن له ضرورة مطلقة من حيث إنه يتيح تقسيم العمل. ولو لم يقدم الناس مساعدة متبادلة
بعضهم إلى البعض، لما توافرت لأحد القدرة أو الوقت اللازم لتزويد نفسه بما يلزم لعيشه
ولبقائه؛ إذ ليس كل الناس صالحين بدرجة متساوية لجميع الأعمال، وليس في وسع أحد أن
يتولى بنفسه إعداد كل ما هو في حاجة إليه. وأكرر القول إن القوة والوقت يقصران إذا ما
تعيَّن على كل شخص أن يحرث ويبذر ويحصد ويطحن القمح ويطهو وينسج ويطرز … ناهيك بالعلوم
والفنون التي لها بدورها ضرورة مطلقة لكمال الطبيعة البشرية وسعادتها. وإنا لنرى أن
حياة الناس الذين يعيشون في حالة الهمجية الجهولة هي حياة بائسة أشبه بحياة الحيوان،
ومع ذلك فهم لا يستطيعون الحصول على ضروراتهم الشحيحة التافهة دون مساعدة بعضهم لبعض
إلى حدٍّ ما.»
٣
ولا بُدَّ في كل مجتمع بشري من قانون ينظم العلاقات بين الناس؛ إذ لو كان العقل وحده
— كما يقول اسپينوزا — هو الذي يسيطر على أفعال الناس، لما احتاجوا إلى قانون. غير أن
الانفعالات والغرائز تتحكم في الجزء الأكبر من رغبات الناس؛ ومن هنا احتاج كل مجتمع إلى
حكومة وقوانين لردع أفراده. وهكذا ينشأ التنظيم السياسي الذي هو في رأي اسپينوزا أعلى
أنواع التنظيم: «فمن المؤكد أن واجبات المرء نحو وطنه هي أسمى الواجبات التي يستطيع
أداءها؛ إذ لو أزيلت الحكومة لما بقي للإنسان من خير … وعلى ذلك فكل واجب لنا نحو الجار
يغدو جُرمًا إذا ما عاد بالضرر على الدولة بأكملها، كما أن كل ما نفعله في سبيل حفظ
الدولة لا يمكن أن يكون فيه إخلال بواجبنا نحو الجار، أو أي شيء سوى الولاء … وعلى ذلك
فالمصلحة العامة هي القانون الأعلى الذي ينبغي أن يخضع له كل قانون آخر، سواء أكان
إلهيًّا أم بشريًّا.»
٤
ويلاحظ في هذا النص أن اسپينوزا يؤكد أن مصالح المجتمع نفسه — كما يُمثِّلها قانون
الدولة — هي المرجع الأخير في كل شيء، وأن قانون الدولة يعلو على كل شريعة دينية، ولقد
كان ذلك، بطبيعة الحال، تعبيرًا عن اتجاهه الواضح إلى فصل الدين تمامًا عن الدولة، ثم
إيثار مصلحة الدولة على كل مصلحة أخرى، بحيث لا تُترَك للسلطة الدينية أية قدرة على
محاسبة الناس باسمها، متخطية في ذلك قانون البلاد؛ أي إن سلطة رجال الدين ينبغي أن تخضع
لسلطة الحاكم. وقد يبدو هذا في نظر البعض مذهبًا يجعل الدولة متسلطة على العقائد، ولكن
الواقع أن هدفه الحقيقي مخالف لذلك تمامًا؛ فمن المؤكد أن تجربة اسپينوزا الخاصة مع
ممثلي السلطة الدينية أفقدته الثقة بحكمهم تمامًا، وجعلته واثقًا من أنهم يراعون
مصالحهم الخاصة، لا المبادئ والمثل العليا، في أحكامهم. وهكذا حرص على إخضاعهم للسلطة
المدنية تأمينًا لنفسه ولغيره. ومن جهة أخرى فمثل هذا الخضوع للسلطة المدنية كفيل بعدم
تغليب دين على دين، وضمان الحرية لجميع الأديان، بحيث لا يصبح لأحدها سلطة قاهرة قد
يستغلها ضد أصحاب العقائد الأخرى. ولقد رأينا من قبلُ كيف أن اسپينوزا لم يكن يحفل
كثيرًا بالمظاهر الخارجية للعقائد الدينية، وكانت كلها تتساوى عنده طالما أنها تؤدي
غرضها العملي على النحو الصحيح؛ ومن هنا كان إخضاعها للسلطة السياسية معناه قبول مختلف
الآراء والمعتقدات على قدم المساواة في ظل قانون مدني متسامح مع كل أشكال
العبادات.
وهكذا نرى أن فكرة فصل الدين عن الدولة لم تكن عنده من ذلك النوع الذي يُترك فيه
لكلٍّ من السلطة الدينية والحاكم الزمني مجاله الخاص الذي يكون له فيه سلطان كامل؛ فهو
يريد من الدولة أن تُشرف على كل شيء، بحيث تكون مصالحها دائمًا هي العليا.
٥ فإذا اعتُرض عليه بأن أصحاب السلطة الزمنية قد يكونون أشرارًا، بحيث لا نجد
عندئذٍ من يحفظ معاني الخير والتقوى، فإنه يرد على هذا الاعتراض قائلًا إنه يمكن أن
يوجه بالمثل ضد رجال الدين؛ فهؤلاء أيضًا بشرٌ، وهم معرَّضون للخطأ، ولو كانوا أشرارًا
فلن نجد من يفسِّر لنا المعنى الصحيح للتقوى.
٦ بل إن الضرر في الحالة الثانية أعظم؛ إذ إن خطأ الحاكم يمكن إصلاحه بتغيير
الحاكم، أما رجال الدين فإنهم إذ ارتكبوا خطأً ظلوا ينسبونه إلى السلطة الإلهية ويحتمون
بها، وبذلك يظل الخطأ قائمًا، بل يتخذ مظهرًا مقدسًا بحيث يكون من أصعب الأمور التخلص
منه.
ويُعد دفاع اسپينوزا عن الحرية الدينية، أو على الأصح عن الحرية الفكرية ضد السلطة
الدينية، جزءًا من دفاعه عن حرية الرأي بوجه عام. وهذا الدفاع بدوره يرتبط ارتباطًا
وثيقًا بتاريخ الفترة التي عاش فيها؛ فقد كانت في هولندا وقت كتابة «البحث اللاهوتي
السياسي» جمهورية مستنيرة تحدُّ من سلطة رجال الدين وتترك مجالًا لا بأس به للحرية
الفكرية، ولكن الاتجاه المضاد، كما يتمثل في الكنيسة وفي النبلاء الإقطاعيين وعلى رأسهم
أمير «أورانج»، كان قويًّا بدوره، بل إنه أفلح في العودة إلى الحكم في النهاية. وهكذا
كان من أهم الأمور بالنسبة إلى اسپينوزا أن ينصر الاتجاه المتحرر على الاتجاه المتعصب،
وأن يثبت في الوقت نفسه أن المصالح الحقيقية للدولة لا تتأثر بتلك الحرية على الإطلاق،
بل إنها على العكس من ذلك تصان بالحرية على أفضل نحو.
وهكذا وضع اسپينوزا مبدأ عامًّا يكون من واجب الدولة بمقتضاه أن تتعهد عقول رعاياها
وتحكمهم بالإقناع لا بالإكراه: «فالهدف النهائي للحكم ليس السيطرة على الأفراد أو قمعهم
بالخوف، وليس فرض الطاعة عليهم، وإنما هو، على العكس من ذلك، تحرير كل شخص من الخوف،
حتى يعيش في اطمئنان تام. وبعبارة أخرى: تأكيد حقه الطبيعي في أن يعيش ويعمل دون أن
يلحقه أو يلحق غيره ضرر.
كلا، ليس هدف الحكم تحويل الناس من كائنات عاقلة إلى بهائم أو ألاعيب، وإنما تمكينهم
من تنمية عقولهم وأجسامهم في أمان، ومن استخدام أذهانهم دون قيد … بل إن الهدف الحقيقي
للحكم، في واقع الأمر، هو الحرية.»
٧
ويرى اسپينوزا أنَّ للمرء الحق في مخالفة الحاكم في تفكيره كما يشاء، على ألَّا يفعل
ما من شأنه تعكير الأمن أو إشاعة الفوضى؛ ففي مجال التفكير، وفي مجال القول — طالما كان
صادرًا عن العقل لا الانفعال — ينبغي أن تسود الحرية التامة، على ألَّا تتنافى مع
القانون. أما كبت حرية الفكر فلن يؤدي إلا إلى الرياء والنفاق: «وهَبْ أن الحرية قد
سُحقت، وأن الناس قد أُذلُّوا حتى لم يعودوا يجرءون على الهمس إلا بأمر حكامهم. رغم ذلك
كله فمن المحال المضي في هذا إلى حد جعل تفكيرهم مطابقًا لتفكير السلطة السائدة، فتكون
النتيجة الضرورية لذلك هي أن يفكر الناس كل يوم في شيء ويقولوا شيئًا آخر، فتفسد بذلك
ضمائرهم … ويكون في ذلك تشجيع لهم على النفاق والغش.»
٨ … أما إذا كانت الوسيلة إلى كبت الحريات هي ملء السجون بالأحرار، فإن
اسپينوزا يعلق على ذلك بقوله: «أيستطيع المرء تصوُّر نكبة تحلُّ بالدولة أعظم من أن
يُنفى منها الأشراف وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم يؤمنون بآراء مخالفة لا يستطيعون
إنكارها؟!»
٩
بمثل هذا الدفاع المجيد عن حرية الفكر يختتم اسپينوزا كتابه «البحث اللاهوتي
السياسي»، الذي كان قد بدأه بدفاع مماثل، من خلال حملته على التعصب الديني. وهذه الحملة
الأخيرة، التي انتقد فيها بشدة تشكيل أذهان الناس في قوالب دينية ثابتة بحيث لا يعود
في
وسعهم مناقشة أية قضية دينية، يمكن أن تنطبق بكل دقة على المحاولات العديدة لتشكيل
أذهان الناس في قوالب فكرية ثابتة بالدعاية المنظمة الموجهة. ويكفي لإدراك ذلك أن نحاول
تصوُّر نص كالآتي من خلال الحياة المعاصرة: «من الواضح أن الحرية العامة لا تقبل مطلقًا
أن تملأ عقول الناس بالتعصب والتحامل، أو توجه أحكامهم وجهة محددة، أو يُستخدم أيٌّ من
أسلحة الفتنة المبنية على ذرائع دينية، والواقع أن هذه الفتن لا تستيقظ إلا عندما يزج
القانون بنفسه في ميدان التفكير النظري، وتُحاكَم الآراء وتُدان كأنها جرائم، على حين
أن من يدافعون عنها ويتبعونها يُضحَّى بهم، لا في سبيل أمن المجتمع، بل في سبيل حقد
خصومهم وقسوتهم.»
١٠
وإذا كنا قد تساءلنا من قبلُ، في مجال الأخلاق، عما إذا كان الاتجاه الغالب على تفكير
اسپينوزا ديمقراطيًّا أم أرستقراطيًّا، فمن الواضح أن المشكلة تُحَلُّ هنا، في مجال
السياسة، حلًّا يترك لكلٍّ من النزعتين مجاله، ونستطيع أن نقول إنَّ النظم الأرستقراطية
في الحكم لا تتيح للأرستقراطية الصحيحة — أرستقراطية التفوق والامتياز العقلي — أن تظهر
على حقيقتها. وهذا قول قد يبدو في ظاهره غريبًا، ولكن الذي يحدث هو أن الأرستقراطية
الحاكمة، في مثل هذا النظام، لا تسمح إلا لنفسها بالعمل، بينما تسلب غيرها جميع
الحريات، فلا تتاح الفرصة لظهور المواهب الحقيقية في أية طبقة غير الطبقة الحاكمة
ذاتها. فإذا ما أريد للتفوق الحقيقي أن يظهر، فلا بد من أن تبسط الحريات ظلالها على
الجميع بمقدار متساوٍ؛ حتى يتسنَّى تقدير الناس تبعًا لقيمهم الحقيقية. وهكذا كان سعي
اسپينوزا إلى كفالة الحريات للجميع، في واقع الأمر، تعبيرًا عن رغبته في إتاحة كل الفرص
أمام المواهب الحقيقية للظهور. وهذا الهدف، في رأيه، هو الغاية الحقيقية للتنظيم
الاجتماعي الذي يتخذ شكل الدولة.
(٢) فكرة الحق الطبيعي وتكوين الدولة
عندما تحدَّث اسپينوزا عن العوامل المؤدية إلى تكوين الدولة، تأثَّر قطعًا بكثير
من
الأفكار التي كانت سائدة في الفلسفة السياسية في عصره، ومن أهمها فكرة «الحق الطبيعي»
والعقد الاجتماعي. وقد كانت الفكرتان متكاملتين في الفلسفة السياسية في ذلك العصر،
وظهرتا بوضوح عند «هُبز وجروتيوس Grotius»، ثم عند
روسو في القرن التالي، ومن الممكن تتبُّع أصلها إلى عهود أقدم من ذلك بكثير، وكذلك
الاهتداء إلى صور لها أحدث كثيرًا من القرن الثامن عشر. والفكرة تتلخص في أن حقوق كل
فرد فيما يُسمَّى «بالحالة الطبيعة»؛ أي الحالة السابقة على التنظيم الاجتماعي الذي
يتخذ شكل الدولة، ترتكز على مقدار ما له من قوة. ثم تأتي عوامل مختلفة تحتم على الأفراد
التنازل عن حقوقهم الطبيعية: قد تكون الخوف المتبادل؛ أي رغبة كلٍّ في اتقاء شر الآخر.
وقد تكون السعي إلى المزيد من النفع. وقد تكون تحكيم العقل الذي يكشف عن عدم تعارض
مصالح الأفراد بعضهم مع البعض في نهاية الأمر. وعلى أية حال فإن هذه العوامل — التي
تختلف الأهمية النسبية لكلٍّ منها باختلاف المذاهب الفلسفية — تؤدي بالأفراد إلى
الاتفاق في «عقد اجتماعي» على التنازل المتبادَل عن بعض الحقوق الطبيعية، وتكوين مجتمع
منظم، فيه «سلطة» حاكمة تُشرف هي ذاتها على تنظيم ما تم التنازل عنه من الحقوق.
وقد تأثر اسپينوزا في كتاباته السياسية بهذه النظرية وأخذ بها، مع إدخال تعديلاته
الخاصة عليها. ونستطيع أن نقول إن هذا الجزء من فلسفته كان من الأجزاء القليلة التي
اتضح فيها تأثير النظريات المعاصرة له في تفكيره الخاص تأثيرا لا يُنكر، بينما كان أهم
ما يميز تفكيره في بقية الأجزاء هو الأصالة التي بلغت حد استباق اتجاهات لم تظهر إلا
بعده بأجيال عديدة.
وقد عرَّف اسپينوزا «الحق الطبيعي» بقوله: «أعني بالحق الطبيعي نفس قوانين الطبيعة
أو
قواعدها التي يحدث كل شيء وفقًا لها؛ أي بعبارة أخرى: قوة الطبيعة ذاتها … وعلى ذلك فكل
ما يفعله الإنسان وفقًا لقوانين طبيعته، يفعله بحق طبيعي كامل، ويكون له من الحق على
الطبيعة بقدر ما له من القوة.»
١١ وهذا الحق الطبيعي واحد لدى جميع الأفراد، لا يختلف فيه شخص عن آخر؛ ففي
هذا الميدان تتحكم الرغبة والقدرة، لا العقل. والطبيعة تتسع لكل شيء، لا للإنسان وحده،
ولكن إذا كان المبدأ ذاته واحدًا؛ أي إذا كان الأفراد جميعًا يسري عليهم المبدأ القائل
إن حق كل فرد يمتد بقدر ما تمتد قوته، فلا شك في أن نصيب كل فرد من هذا الحق يتفاوت
تبعًا لما لديه بالفعل من القوة. وهكذا تكون الغلبة في هذه الحياة للقوي، الذي لا يحد
من قوَّته شيء إلا اصطدامها بالقوى الأخرى وتوقُّفها عند الحد الذي تبطلها فيه هذه
القوى. هذا هو «القانون» الساري على الحالة الطبيعية، ولكن من المؤكد أن تسميته
بالقانون فيها قدر كبير من التجاوز، وكما قال جيركه
Gierke: «فمثل هذا القانون ليس في واقع الأمر قانونًا على الإطلاق،
وهو لا يرفع راية القانون إلا كما ترفع سفينة راية مزيفة، تختفي من ورائها فكرة القوة
التي لا تعدو أن تكون قرصنة بالمعنى الصحيح.»
١٢
ويتم الانتقال من الحالة التي يسودها الحق الطبيعي إلى حالة العقد الاجتماعي عن طريق
تنازل الأفراد عن بعض حقوقهم لهيئة حاكمة في المجتمع الذي ينظمه القانون المدني؛ ذلك
لأن الفرد، رغبةً منه في حماية نفسه وتحقيق ما فيه صالحه بطريقة أفضل، يقبل التنازل عن
شريعة الطبيعة والخضوع لقانون العقل، والاتفاق مع غيره على العيش في وئام. وهكذا يحدث
التنازل عن موضوعات بعض الرغبات استهدافًا لخيرٍ أعظم، أو توقِّيًا لشرٍّ أفدح، ويتم
هذا التنازل للهيئة الحاكمة، التي ينبغي على الأفراد طاعتها، وإلا لما أمكن قيام
الدولة، ويظل حق الحاكم قائمًا طالما كانت لديه القدرة على تنفيذه. وبعبارة أخرى: فإن
نفس قاعدة الحق الخاضع للقوة تسري على الدولة بدورها، بحيث تُحد سلطة الدولة بما لديها
من القوة، ولكن لا بُدَّ أن تجد الدولة أيضًا أن من مصلحتها، بدورها، أن تسترشد بالعقل،
وأن تحفظ قدرتها بتوخِّي الصالح العام: أعني أن تحد من ذاتها، ولا تمارس قواها أكثر مما
ينبغي حتى لا تقابل بالمقاومة. وحين تعترف الدولة بحكم العقل، تترك للأفراد قدرًا غير
قليل من الحقوق التي يمارسونها بحرِّية، ولا سيما حقهم في التفكير الحر، والتعبير عن
آرائهم كما يشاءون، وهو الحق الذي أكد اسپينوزا أنه أساس في كل نظام سليم للحكم.
هذه الفكرة، التي كانت، بأشكالها المختلفة، تكوِّن أساس المذاهب السياسية في القرن
السابع عشر بوجه خاص، قد احتلت المركز الرئيسي في تفكير اسپينوزا السياسي بدوره. ومع
ذلك فكلما أمعن المرء التفكير فيها، وجد أن موقعها في فلسفته شاذًّا إلى حد ما؛
فالمقدمات الفلسفية التي بنى عليها هُبز مذهبه السياسي مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي
بنى عليها اسپينوزا مذهبًا مماثلًا. ومن المؤكد أن السياق العام لتفكير اسپينوزا
الفلسفي كان يقتضي نوعًا من الخروج على هذه النظرية السياسية الشائعة، التي جعلت من
القوة أساسًا للحق — وهذا الاستنتاج هو بالفعل ما تؤدي إليه الدراسة المتعمقة لفلسفة
اسپينوزا؛ إذ يشعر المرء بأن ثمة نوعًا من «الفراغ» في نظريته السياسية المتعلقة بأساس
تكوين الدولة.
ومع ذلك فهناك حقيقتان أساسيتان ينبغي ألا تغيبا عن الأذهان في هذا الصدد: الأولى
هي
أن فكرة الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي كانت تبدو من بديهيات الفلسفة السياسية في عصر
اسپينوزا، ولم يكن في الإمكان عندئذٍ تصوُّر طريقة أخرى لتطور التنظيم الاجتماعي
البشري؛ فقد رأى المفكرون أن الحالة الاجتماعية الراهنة للبشر لا بُدَّ قد سبقتها حالة
أخرى «طبيعية»، ولا بد أن تكون الشريعة السائدة في مثل هذه الحالة الطبيعية هي القوة.
ولما كانت ممارسة القوة تقضي على ذاتها إذا ما تُرك لها العنان؛ لأن القوى سوف تتضارب
حتمًا؛ فقد كان من الطبيعي أن يتصور المفكرون عندئذٍ «عقدًا اجتماعيًّا» يتفق فيه الناس
بمحض إرادتهم على التنازل عن بعض سلطاتهم لهيئة حاكمة. هذا التسلسل لمراحل التنظيم
الاجتماعي كان يبدو عندئذٍ أمرًا مفروغًا منه، وحقيقة لا تقبل المناقشة، وأية دراسة
للفلسفات السياسية في تلك الفترة تُثبت مدى تغلغل هذه الفكرة في النفوس على نحو مشابه
لتغلغل نظرية التطور مثلًا في التفكير العلمي الحالي. وكما أن العلماء البيولوجيين
يبنون اليوم أبحاثهم بطريقة شبه إجماعية على أساس فرض التطور، مع وجود اختلافات فرعية
في طريقة تطبيقهم له، ويرون أن الأخذ بهذا الفرض من أسس الروح العلمية في العصر الذي
نعيش فيه، فكذلك كان الحال في موقف المفكرين السياسيين من نظرية الحق الطبيعي والعقد
الاجتماعي في ذلك العصر.
والحقيقة الأساسية الثانية هي أن اسپينوزا قد خفف كثيرًا من غلواء النظرية في صورتها
الأصلية كما تتبدى لدى فيلسوف مثل هُبز، وحاول بقدر الإمكان أن يقرِّب بينها وبين مذهبه
الفلسفي العام، وإن لم يكن قد أحرز في ذلك إلا نجاحًا محدودًا:
- (١)
فمن الممكن القول بوجود نوع من الموازاة بين فكرة الحق الطبيعي، كما
صاغها اسپينوزا في ميدان السياسة، وبين أساس النظرية الأخلاقية عنده؛ ذلك
لأنه أكد في مجال الأخلاق — كما رأينا — عدم وجود معنًى مطلق لعبارات مثل
الخير والشر، وبنى الأخلاق كلها على أساس علمي، وربما على أساس نظرة آلية
إلى الطبيعة البشرية من خلال النزوع إلى حفظ الوجود واستمراره. وهذا هو ما
فعله اسپينوزا في ميدان السياسة أيضًا؛ فقد أزال قيم الخير والشر من هذا
الميدان أيضًا، ولم يقل بحقٍّ أو واجبٍ مطلق، بل إن جميع هذه التعبيرات
المعيارية ينبغي أن تُرَد إلى الأصل الموازي للنزوع إلى حفظ الوجود
واستمراره؛ أعني إلى «القوة»؛ فالحق في السياسة يرتد إلى القوة، ولكن مثلما
كان رد القيم الأخلاقية التي يُفترض أن لها وجودًا مطلقًا، إلى أصلها
الطبيعي، مؤديًا إلى فهم علمي أفضل لمنشأ هذه القيم، فكذلك كان هذا التفسير
الطبيعي لأصل الاجتماع البشري مؤديًا في نظره إلى فهمٍ أفضل لأسس السياسية،
دون ضياع للالتزامات الحالية للأفراد تجاه الدولة.
- (٢)
تتسم فكرة الحق الطبيعي عند اسپينوزا بأنها فرضٌ نظري إلى حد ما؛ فهو
يعترف بأن قوى الإنسان — التي تمتد بقدرها حقوقه — تقل طالما كان هناك
أفراد آخرون يخشاهم، وطالما كان لكل من هؤلاء الأفراد حقوق مثله.
١٣ وأن مجرد اعترافه في مقدمة «البحث السياسي» بأن «الناس قد
فُطروا على ألَّا يستطيعوا العيش دون قانون عام ما.»
١٤ لينطوي ضمنًا على تأكيد الحالة المدنية على حساب الحالة
الطبيعية، وعلى أنه كان يؤمن بأن الحالة الطبيعية هي، إلى حدٍّ ما، نوع من
الفرض النظري الذي يُكمل بناء المذهب فحسب.
- (٣)
ولقد دافع اسپينوزا مرارًا عن الفكرة القائلة إن الإنسان حيوان اجتماعي،
وهي فكرة لا تتمشى مع الصورة المتطرفة لنظرية الحق الطبيعي كما تتمثل عند
فيلسوف مثل هُبز؛ فالقول بأن الاجتماع صفة أساسية في طبيعة الإنسان يتنافى
إلى حدٍّ بعيد مع أساس فكرة الحق الطبيعي ذاتها. ولا يقتصر اسپينوزا على
ذلك، بل إنه يشيد على الدوام بالحالة المدنية أو القانونية ويمتدحها، ويرى
أنها تؤدي إلى تهذيب الطبيعة البشرية ذاتها، ويكاد يقول إنها تخلق فيه
«طبيعة ثانية»؛ فالإنسان في ظل الحالة المدنية لا يعود في نظره ذلك الحيوان
المفهوم الذي قال به هُبز، وإنما يتمكن من قهر الظروف الخارجية التي تحد من
قدرته وفاعليته، ويتسع نطاق حريته بفضل تضامنه مع الآخرين. ومن المؤكد أننا
إذا ربطنا بين هذه النظرية وبين فكرة الانفعالات عند اسپينوزا، لكان من
الواضح أن الحالة الطبيعية، بما فيها من خضوع تام للانفعالات التلقائية،
تُمثِّل حالة «عبودية» الإنسان، على حين أن الحالة المدنية، بما فيها من
ضبط لهذه الانفعالات وتنظيم لها، تساهم إلى حدٍّ بعيد في «تحرير» الإنسان
من هذه العبودية. وهكذا يكون التنازل عن الحق الطبيعي — النظري — دعمًا
للحقوق الفعلية للإنسان.
- (٤)
وأخيرًا، فهناك دلائل على أن الدولة عند اسپينوزا ليست مجموع إرادات
الأفراد أو محصل هذه الإرادات، وليست سلطتها ناتجة عن الجمع بين سلطات
الأفراد، وإنما هي حقيقة تتجاوز هذا كله. ومنذ اللحظة التي يعلن فيها
اسپينوزا ضرورة تنازل الدولة، بدورها، عن حقها المبني على القوة في سبيل
الخضوع لحكم العقل، منذ هذه اللحظة يجعل من الدولة كيانًا له سلطته
المعنوية الخاصة التي تطاع لذاتها لا من أجل كونها مجموعًا لسلطات الأفراد؛
فالدولة حين تتبع حكم العقل تصبح أقدر على حفظ مصالح أفرادها ووجودهم منها
لو اعتمدت على القوة. وقد اعترف
«جيركه
Gierke» نفسه بهذه الحقيقة
بعد أن كان قد أنكرها في بادئ الأمر.
١٥
ومن المؤكد أن إشارة اسپينوزا إلى ضرورة جعل «حكم العقل» هدفًا لسياسة الدولة، قد
حتمت عليه أن يضع شروطًا دقيقة للحاكم أو للهيئة الحاكمة في الدولة؛ ذلك لأنَّ هناك
أنواعًا معينة من نظم الحكم لا تستطيع بطبيعتها أن تسترشد بالعقل، وإنما تبني سياستها
على الانفعالات والاستجابات التلقائية فحسب. ولا يتوقع اسپينوزا أن يكون في استطاعة أي
حاكم أن يسترشد بالعقل وحده، فهذا حلم يستحيل تحقيقه، ولكنه يضع مع ذلك بعض الشروط التي
تكفل الاقتراب من تحقيق هذه الغاية بقدر الإمكان، وأهم هذه الشروط هو وجود الضوابط؛
فنظام الحكم الذي يعتمد على أمانة الحكام فحسب لا يمكن أن يكون مستقرًّا،
١٦ ولا بد أن ندرك أن الضعف البشري حقيقة واقعة، وإذن فعن طريق الضوابط
الدقيقة، التي تمنع الاستبداد في الرأي أو الانقياد، للانفعال يمكننا أن نتلافى العيوب
التي يتعرض لها أي حاكم بطبيعته.
وعلى هذا الأساس دافع اسپينوزا بقوة عن الدولة الديمقراطية، وأكد أن النظام
الديمقراطي هو الذي يكفل للفرد أعظم قدر من الحرية، ويكفل للقوانين الاقتراب من العقل
السليم؛ ففي الديمقراطية لا يُخشى من سيطرة الأوامر اللامعقولة؛ إذ إنه كلما ازداد عدد
المشتركين في الحكم قلَّ احتمال ظهور الرغبات اللامعقولة، وأمكن ضبط الانفعالات الهوجاء
بسهولة، وهو يؤكد أن إطاعة الفرد لمثل هذه الدولة تزيد من حريته، ولا تنقصها على
الإطلاق: «ففي الدولة أو المملكة التي تكون فيها إرادة الشعب كله، لا إرادة الحاكم، هي
القانون الأعلى، لا يصبح المرء عبدًا إذا ما أطاع السلطة العليا … وإنما يصبح مواطنًا؛
وعلى ذلك، فأكثر الدول تحررًا هي تلك التي تُبنى قوانينها على العقل السليم، بحيث
يستطيع كل فرد فيها، إذا شاء، أن يكون حرًّا … فالأطفال، وإن يكن عليهم أن يطيعوا أوامر
والديهم، ليسوا مع ذلك عبيدًا؛ إذ إن أوامر الوالدين تستهدف عادةً مصلحة الأطفال.»
١٧ ويؤكد اسپينوزا في مواضع عديدة رفضه للنظام الملكي، ولكنه على ما يبدو كان
يدرك أن هذا النظام لا مفر منه في كثير من البلدان في ذلك العصر، فحاول أن يخفف من
أضراره بقدر الإمكان، وكرَّس لذلك الفصل السابع من «البحث السياسي» الذي دعا فيه إلى
وجود مجلس كبير إلى جانب الملك، في الدول التي ينبغي أن تأخذ بالنظام الملكي، وحاول أن
يمزج المَلَكية بنظامٍ شبه ديمقراطي يضمن الاستماع إلى صوت العقل بقدر الإمكان. ومع ذلك
فحتى في هذا الشكل الدستوري الأخير للنظام الملكي، تظل الديمقراطية — أي حكم الشعب عن
طريق ممثليه — مفضلة عنده دائمًا.
ومن المؤكد أن اسپينوزا كان يجعل للدولة، بوصفها نظامًا سياسيًّا، مسئولية كبيرة
في
توجيه رعاياها في الطريق السليم؛ فهو لم يكن من أولئك الفلاسفة الذين يقللون مسئوليات
الدولة إلى الحد الأدنى، وإنما أكد بالفعل أنه، منذ اللحظة التي يتنازل فيها الأفراد
للدولة عن بعض حقوقهم في سبيل تحقيق المزيد من الحرية بفضلها، تصبح الدولة هي المسئولة
عن المستوى الأخلاقي والاجتماعي لمواطنيها، وإذا ظهر أي انحراف عام في سلوك هؤلاء
المواطنين فمن الواجب أن تلام عليه الدولة ذاتها، لا الأفراد: «… فمن المؤكد أن الفتن
والحروب وكسر القوانين أو حرقها لا ينبغي أن تعزى إلى وجود الشر في الرعايا بقدر ما
تعزى إلى سوء حالة نظام الحكم ذاته؛ ذلك لأن الناس لم يُخلقوا صالحين لأن يكونوا
مواطنين، وإنما ينبغي أن يُجعلوا صالحين لذلك. وفضلًا عن ذلك فإن انفعالات الناس
الطبيعية واحدة في كل مكان، فإذا ما استشرى الفساد في مكانٍ ما، وازدادت الجرائم
انتشارًا في دولة دون الأخرى. فلا بد أن الأولى لم تمضِ في عملية توحيد رعاياها كما
ينبغي، ولم تضع قوانينها ببُعد نظر كافٍ؛ وبذلك تكون قد أخفقت في استخدام حقها في
ممارسة الحكم.»
١٨
(٣) الموقف السياسي العام لاسپينوزا
ليس البحث في موقف اسپينوزا السياسي من الموضوعات الهينة؛ إذ إن آراء اسپينوزا
الصريحة لا تُستكشف إلا بعد قدر غير قليل من البحث والمقارنة. وفضلًا عن ذلك فقد اشتهر
عنه وقتًا طويلًا أنه كان منعزلًا معتكفًا لا شأن له بالصراع السياسي الحقيقي الدائر
في
عصره، ولم يبدأ الباحثون في الكشف عن غوامض حياته العملية إلا في وقت غير مبكر من القرن
الحالي. وبعد ذلك تضاربت الآراء إلى حدٍّ بعيد عن الموقف الحقيقي الذي كان اسپينوزا
يقفه من مختلف التيارات السياسية في عصره، وكان هذا التضارب راجعًا في المحل الأول إلى
رغبة كثير من الباحثين في تفسير اسپينوزا من خلال الاتجاهات السياسية السائدة في
عصورهم، لا في عصره هو.
ونستطيع أن نتخذ نقطة بداية بحثنا من آراء «ديزانتي
Desanti» الذي قدَّم تفسيرًا ماركسيًّا لفلسفة اسپينوزا، ولا سيما
النواحي السياسية فيها؛ فهو يرى أن اسپينوزا لم يكن بمعزل عن التيارات السياسية في
عصره، ويميل إلى القول بأنه كان على اتصال بالهيئات البورجوازية الحاكمة في عهد «يان
ديڨيت» الجمهوري، ويحلل «ديزانتي» النص الذي بدأ به اسپينوزا «البحث اللاهوتي السياسي»،
والذي يتحدث فيه اسپينوزا عن ضرورة صيانة الحرية السائدة في العصر الجمهوري القائم
والدفاع عنها، قائلًا إن هذا النص يكشف عن مدى ارتباطه بالأفكار السائدة في «الجمهورية
التجارية».
١٩ وسوف نُورِد هذا النص لكي يكون بحثنا هذا قائمًا على أساس ملموس: «لمَّا
كان قد قُدر لنا أن نحظى بهذا الخير العميم، وهو أن نحيا في جمهورية يتمتع فيها كل شخص
بالحرية الكاملة في الحكم وتمجيد الله على حقيقته، وينظر فيه الجميع إلى الحرية على
أنها أنفس وأغلى ما يملكون؛ فقد رأيت أنني لا أكون جحودًا ولا أكون قد بذلت جهدًا
عقيمًا إذا ما أثبتُّ أن هذه الحرية يمكن أن تُمنح دون خطر على التقوى والدولة، بل إن
القضاء عليها يستتبع حتمًا القضاء على سلام الدولة وعلى التقوى.» ومن هذا النص يستنتج
ديزانتي أن اسپينوزا كان حريصًا على سلامة الدولة حتى تثرى المؤسسات التجارية
البورجوازية، وأن دعوته إلى استتباب النظام معناها الإبقاء على النظام القائم والقضاء
على الروح الثورية. أما الدعوة إلى التقوى فيقصد منها التهدئة الدينية للنفوس لنفس الغرض.
٢٠ وهكذا لخص الوضع السياسي والطبقي لاسپينوزا بأنه وضع شخص «متضامن مع الطبقة المسيطرة»،
٢١ التي يحددها بأنها هي «البورجوازية التجارية والمالية والاستعمارية» التي
كانت تسعى أولًا وقبل كل شيء إلى حفظ أنظمتها ومصالحها الخاصة.
٢٢
هذا التفسير في نظرنا قائم على فهم ناقص لجميع أطراف فلسفة اسپينوزا. وليس خطأ
المؤلف، في نظرنا، راجعًا إلى محاولته إيجاد تفسير «طبقي» لتفكير اسپينوزا السياسي،
وإنما هو يرجع إلى أن هذا التفسير مبني عنده على معطيات غير كافية وغير دقيقة، وبالتالي
يتحتم أن يكون باطلًا، ونستطيع أن نوجه إليه الانتقادات الآتية:
- (١)
فالمؤلف يفهم كثيرًا من ألفاظ اسپينوزا ومصطلحاته فهمًا حرفيًّا. وهكذا
يفوته «السر» الحقيقي لتفكير اسپينوزا؛ فهو مثلًا، حين يقول في مواضع
متعددة من كتابه بوجود تناقض أساسي في فلسفة اسپينوزا يعكس تناقض المجتمع
الذي عاش فيه، ويحدد هذا التناقض بأنه يتمثل في المزج بين الاتجاه العلمي
والاتجاه الصوفي، يخطئ إذ يتبع طريقة الفهم الحرفي لفكرة الله عند
اسپينوزا. وهذا الخطأ وحده كفيل بتقديم صورة باطلة لكل جوانب هذه الفلسفة.
ونستطيع أن نجد في تفسير النص الذي قدمناه من قبلُ مثلًا جزئيًّا لهذا
الخطأ العام؛ فهو يفسِّر فكرة «التقوى» التي وردت في هذا النص بأنها تعبير
عن التهدئة، بينما كان المعنى الحقيقي لهذه الفكرة، كما رأينا من قبلُ، هو
«التعاطف أو حب الجار»، وهو معنى مخالف تمامًا لتفسير المؤلف. هذا فضلًا عن
أن وصف كتاب ثائر مثل «البحث اللاهوتي السياسي» بأنه يرمي إلى تهدئة الناس
أو تخدير روح الثورة فيهم عن طريق التقوى فيه إغفال تام لكل ما في هذا
الكتاب من أصالة.
- (٢)
عندما تحدَّث اسپينوزا في آخر النص السابق عن عدم تعارض الحرية مع مصلحة
الدولة أو سلامتها، فمن المؤكد أنه كان يضع مبدأ عامًّا، ولم يكن يتحدث عن
الدولة التي عاش فيها على التخصيص. وهذا واضح كل الوضوح من نص الكتاب نفسه؛
فكل ما أراده هو أن يقطع الطريق على الحجة القائلة إن منح الحريات قد يهدد
أمن الدولة، أو يقضي على التقوى، ويُثبت أن الدولة التي تمنح الحرية
لرعاياها تستطيع أن تكون أكثر اطمئنانًا على أمنها، وأن التقوى فيها —
بمعناها الخاص عنده، وهو حب الجار أو التعاطف بين الناس — لن تتأثر على
الإطلاق، فلم يكن اسپينوزا يرمي إلى أن يدافع عن الدولة التي عاش فيها إلا
من حيث هي تقبل مبدأ الحرية وتعترف به فحسب.
- (٣)
هناك شُرَّاح آخرون لا يقلُّون عن المؤلف إيمانًا بالتفسير الاقتصادي
الاجتماعي — مثل «فوير
Feuer» — أكدوا
أنَّ اتصالات اسپينوزا كانت كلها مع أحرار الفكر في عصره، وأن إعجابه ﺑ
«ديڨيت» كان راجعًا إلى أنَّ هذا الأخير كان يُمثِّل أعلى ما يمكن أن تصل
إليه الروح التقدمية في ذلك العصر، ولم يكن هذا الإعجاب مع ذلك مطلقًا، بل
إن اسپينوزا قد انتقد نظام ديڨيت ضمنًا في انتقاده للأرستقراطية في كتاب
«البحث السياسي»، وأظهر ميلًا واضحًا إلى إيثار الديمقراطية عليه، بل إن
هناك فلاسفة ماركسيين آخرين يستنتجون من المعطيات ذاتها نتائج مضادة؛ فيرون
أن اتصال اسپينوزا بالطبقة البورجوازية الناشئة هو الذي أدى به إلى «التخلي
عن النزعة الغائية، وعن المثالية وعن التعلق بالعالم الآخر، والصوفية، وهي
النزعات التي تميزت بها العصور الوسطى، وإلى إعلان شمول قوانين الطبيعة،
والحتمية العِلِّية الضرورية، وواحدية الجوهر الأزلي اللامتناهي»، ويؤكدون
أن اسپينوزا قد عبَّر عن المصالح البعيدة لا المصالح العاجلة لهذه الطبقة،
مما جعل أفرادها يشكون في تعاليمه ويناصبونه العداء.
٢٣ وفي مثل هذا التفسير يستحيل أن يقال إنه كان يسعى إلى تخدير
روح الثورة في الناس عن طريق الدفاع المباشر عن النظام القائم أو السلطة
الدينية.
- (٤)
وأخيرًا، فإن «مادلين فرانسيس»، وهي من أكثر الباحثين تعمقًا في الظروف
السياسية والاجتماعية والاقتصادية لحياة اسپينوزا، تُبدي شكها في أن يكون
اسپينوزا قد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بحزب «يان ديڨيت» الجمهوري أو جعل من
فلسفته تبريرًا فكريًّا له، وكل ما في الأمر أنه رأى في ذاك الحاكم أصلح من
يوجد، وحاول أن يأتي في كتاباته بأفكار قد تساعد على تقوية الاتجاهات
السليمة لديه.
٢٤
وفي رأينا أن اسپينوزا، إذا كان في
الفترة الأولى من حياته قد اندمج بالفعل في حياة التجارة والأعمال، فإنه منذ اللحظة
التي تخلَّى فيها طوعًا عن هذه الحياة ليتفرغ للتفكير الفلسفي، وأكد صراحة أن السعي
وراء المال عائق في وجه حرية التفلسف، وتنازل بمحض اختياره عن تجارته الناجحة الموروثة،
واحترف مهنة يدوية يرتزق منها، منذ هذه اللحظة ينبغي أن يقال إنه قد تخلَّى تمامًا عن
قيم التجار وأعلن احتقاره لها، وأخذ تفكيره يسير في طريق متحرر من قيود المصالح
السائدة. ولنتأمل مغزى العبارات المشهورة التي استهل بها كتاب «إصلاح العقل»، والتي
أعلن فيها سأمه من الحياة الاجتماعية في عصره. فمثل هذه العبارات لا يقول بها شخص راضٍ
عن قيم عصره أو يريد أن يجعل من نفسه مدافعًا عن هذه القيم، وإنما هي قطعًا كلمات ثائر
على الظروف المحيطة به. وهنا تظهر لنا حملته على عبودية الإنسان وخضوعه للانفعالات في
ضوء جديد؛ فقد كان اسپينوزا يربط دائمًا بين الانفعالات وبين الأسباب أو القوى
الخارجية، وبذلك تكون محاولة إخضاع الانفعالات للعقل هي ذاتها تعبير عن محاولته قهر
الواقع الخارجي، أو التخلص من تأثيره، عن طريق الذهن، وهي الوسيلة الوحيدة التي كانت
في
متناول يده.
وعلى أية حال فلسنا في حاجة لإثبات هذا الرأي إلى الاستنتاجات؛ لأن اسپينوزا قد أكده
صراحةً في مواضع متفرقة، من أوضحها دلالة ما قاله في رسالته رقم ٤٤ إلى صديقه
«چارج چلز Jarig Jelles»؛ ففي هذه الرسالة
يُحدِّث اسپينوزا صديقه عن كتاب قرأه بعنوان Homo
politicus ويحمل على الكتاب بشدة لأن مؤلِّفه كان ينظر إلى الثروة
والجاه على أنهما الخير الاسمى، ويستحل في سبيل بلوغهما كل الوسائل، من غش وخداع ونفاق
وامتهان للأخلاق، وبلغ من سخط اسپينوزا على الكتاب أنه فكر في أن يؤلف كتيبًا ينتقد فيه
المؤلِّف بطريقة غير مباشرة (وهي طريقته المألوفة في التعبير عن آرائه)، ويُثبت فيه
تعاسة الطامعين في الثروة والجاه، ويُبرهن في النهاية على أن الجشع يودي حتمًا بالأمم.
وفي هذه الرسالة يقول عبارات لها دلالتها البالغة: «لكَم كانت تأملات طاليس الملطي أسمى
وأرفع من أفكار هذا الكاتب! لقد قال طاليس إن كل الأشياء مشاع بين الأصدقاء، وإن
الحكماء أحباء الآلهة، وإنه لما كان الآلهة يملكون كل شيء، فإن الحكماء، بدورهم يملكون
كل شيء. وبالاختصار، فهذا الحكيم العظيم قد أثرى نفسه إلى أبعد حد باحتقاره الكريم
للثروة، لا بالسعي المُلحِّ وراءها، ومع ذلك فقد أثبت في موضعٍ آخر أن الحكماء إذا لم
يكونوا أثرياء؛ فذلك لأنهم قد اختاروا ذلك طوعًا ولم يضطروا إليه رغمًا عنهم.» فهل يجوز
أن تعد هذه الآراء، التي تُشيد بجعل الأشياء «مشاعًا بين الأصدقاء»، وتحتقر الثروة
والسعي وراءها إلى هذا الحد، معبرة عن مصالح طبقة التجار البورجوازية؟!
من الواضح أن بين تفكير اسپينوزا وبين أشد المذاهب المعاصرة تقدمية عناصر مشتركة
كثيرة لا تقبل الجدل. من هذه العناصر — بالإضافة إلى الحملة على قيم التجار — كراهية
الحرب: وهو يعبِّر عن آرائه الحقيقية في هذا الصدد في رسالتيه رقم ٢٨ و٣٠ إلى أولدنبرج.
والأمر الغريب أنه كان، هو وأولدنبرج، ينتميان على الأرجح إلى طرفَي النزاع الدائر، ومع
ذلك كانا يتبادلان الأفكار في الأمور العلمية ويسخران من الحرب الناشبة ويعبِّران بكل
وضوح عن إيمانهما بالسلام وعدم جدوى الحروب التي لا تعبِّر عن ضعف الإنسان. بل لقد علل
اسپينوزا الحرب الدائرة عندئذٍ تعليلًا حديثًا، فرأى أنها ترجع إلى الرغبة في الإثراء
المادي. وعندما بحث في «البحث السياسي» عن وسيلة لإنهاء الحروب، اقترح أن يمنح الحكام
في زمن السلم مرتبات تزيد على ما يحصلون عليه أثناء الحرب!
٢٥
وأخيرًا، فإن الاضطهاد الذي لحق اسپينوزا أثناء حياته، ومذهبه الفلسفي بعد وفاته على
الأخص، والظاهرة التي شاعت في الأجيال التالية له مباشرةً، وهي توجيه تهمة
«الاسپينوزية» جزافًا لكل مذهب فيه مسحة من التجديد، أو من الانحراف عن عقائد الكنيسة،
أو لأي نوع من الخروج عن السلطة السائدة، يكشف لنا عن تشابهٍ آخَر قويٍّ بين فلسفة
اسپينوزا وبين المذاهب الاشتراكية في عصرنا، بما تلقَّاه من اضطهاد في كثير من الأوساط
المدافعة عن النظم الاقتصادية والفكرية التقليدية.
فتهمة الاسپينوزية كانت بدورها — كما أشار «بيل Bayle» في قاموسه المشهور — توجَّه إلى جميع الثائرين على تقاليد
الكنيسة، ولكن نطاقها قد اتسع في القرن الثامن عشر حتى أصبحت تُنسب إلى كل مُعارض للنظم
القائمة، وحتى اضطر مشاهير المفكرين في الجيل التالي إلى التبرؤ من اسپينوزا وتفنيده
علنًا، بسبب دون سبب؛ استرضاءً للسلطات القائمة، ولا شك أن هذا التاريخ المعروف
للاسپينوزية يجعلنا نرفض تمامًا كل تفسير لها بأنها كانت مهادنة للسلطات الحاكمة، بما
لها من مصالح تجارية، ولا سيما إذا جاء هذا التفسير من مفكر ينتمي إلى مذهبٍ صادف
أصحابه ظروفًا تُماثل إلى حدٍّ بعيد ما مر باسپينوزا من الظروف.