اسپينوزا واليهودية
(١) الآراء المختلفة في مصادر تفكير اسپينوزا
ينبغي أن نشير منذ البداية إلى أن المنهج الذي اتبعناه في تفسير فلسفة اسپينوزا يؤدي إلى نظرة جديدة كل الجِدة إلى مشكلة المؤثرات المختلفة في فلسفته؛ فهذا المنهج مبني على محاولة إيجاد تفسير متسق لهذه الفلسفة، وهي محاولة لا نحجم فيها عن الغرض الذي خشي الكثيرون أن يقولوا به — وإن يكن البعض قد لمَّحوا إليه — وهو أن اسپينوزا كان يتعمد استخدام لغة لاهوتية مدرسية ليُخفي معانيه الثورية التي تقف مع المجال اللاهوتي والمدرسي على طرفي نقيض. وقد مضينا في تطبيق هذا الفرض من البداية إلى النهاية، وأدى هذا التطبيق إلى اختفاء التناقض الصارخ الذي نُسب إلى اسپينوزا في كثير من الأحيان، وإلى ظهور فلسفته في صورة مذهب فكري محكم يؤمن كل الإيمان بالعلم ويستبعد تمامًا كل عنصر غائي أو فوق الطبيعي، حتى في الحالات التي يبدو فيها موغلًا في الصوفية، ومن المؤكَّد أن النتائج الناجحة التي يؤدي إليها تطبيق الفرض هي وحدها دليل قوي على سلامة الفرض ذاته، فضلًا عما يستند إليه الفرض أيضًا من أدلة مباشرة مستمَدة من كتابات اسپينوزا وظروف حياته وعصره. ولا بد في بحث مبني على الفرض القائل إن الشكل الظاهري لكثير من كتابات اسپينوزا لا يعبِّر عن معانيها الحقيقية، من أن تتخذ مشكلة المؤثرات التي يُرَدُّ إليها تفكيره دلالة جديدة كل الجِدة؛ ذلك لأن الطريقة المتبعة في رد تفكير اسپينوزا إلى مذاهب معينة سابقة عليه، هي الكشف عن أوجه شبه بين قضايا معينة لديه، وبين قضايا أخرى في هذه المذاهب، أو بين ترتيب العرض عنده وترتيبه في كتابات أصحاب هذه المذاهب (وهذا هو ما فعله ولفسون بتفصيل مرهق في كتابه «فلسفة اسپينوزا»)، ولكن هذا التقريب يتعلق، كما هو واضح، ﺑ «الشكل الظاهري» لكتابات اسپينوزا. وقد كان اسپينوزا يستخدم بالفعل في كتاباته ألفاظ المَدْرَسِيِّين وتعبيرات العصور الوسطى وقضايا الفلاسفة اليهود القدماء والعبارات اللاهوتية المألوفة، ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون متعلقًا بالوجه الظاهري لكتاباته. أما المعاني الحقيقية لهذه الكتابات فكانت تدور في مجال مختلف تمامًا، مجال جديد كل الجِدة بالنسبة إلى كل ما عُرف في هذه التيارات التي يُفترض أنه تأثَّر بها.
ونستطيع أن نقول إن اسپينوزا قد «تعمَّد» هذا التأثر الشكلي الظاهري، ويبدو في رأينا أنه عندما أراد أن يدوِّن أفكاره العلمية التي تعد ثورية حقًّا بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه، قد تساءل: كيف أعبِّر عن هذه الأفكار الجريئة بأقل الأساليب استفزازًا لأصحاب النزعات التقليدية ولرجال الدين؟ وكان الجواب الواضح هو أن أفضل الوسائل هي اتباع نفس الأسلوب الذي اعتاد هؤلاء أن يكتبوا به. وهكذا كان لا بُدَّ له من بذل مجهود مضاعف؛ أي أن يكتب بأسلوب ظاهره لاهوتي، ويحتفظ في نطاق هذا الأسلوب ذاته بكل المعاني الانقلابية التي تضمنتها فلسفته الخاصة. وهذا يفسِّر لنا الجهد المضني الذي بذله في صياغة كتاب «الأخلاق» وترتيب قضاياه واحدة بعد الأخرى على النحو الذي يفي بهذين الغرضين معًا؛ وعلى هذا الأساس فإن الجهود التي يبذلها معظم شُرَّاح اسپينوزا في سبيل تتبُّع الأصول التي استُمِدت منها فلسفته ما هي إلا جهود تتعلق ﺑ «شكل» كتاباته فحسب. وكل ما يحرزونه في هذا الصدد من نجاح لا يدل على براعة على الإطلاق؛ إذ إنه قد «تعمَّد» أن يقرِّب كتاباته من كتابات الآخرين بقدر استطاعته، في الوقت الذي كان يعلم فيه أن هدفه مختلف تمامًا عن كل ما قالوا به. وإذن فلا بد، تبعًا لتفسيرنا هذا، من أن تتضاءل إلى حدٍّ بعيد أهمية مشكلة المؤثرات في تفكيره.
مثل هذه المحاولات للتقريب بين فلسفة اسپينوزا وبين الأفلاطونية المحدثة هي في رأينا محاولات ساذجة تمامًا. فمن العبث إضاعة الجهد في تلمُّس أوجه شبه سطحية بينه وبين مثل هذه التيارات الفكرية، في الوقت الذي ينطق فيه محتوى فلسفته بالتنافر التام بين آرائه وبين مثل هذا المذهب الحافل بالغائية وتشبيه الطبيعة والعالم بالإنسان وكراهية العلم والمعقولية. وإذا كانت هذه المحاولات تُبذل من أجل إثبات العلم أو سعة الاطلاع، فإن ذلك يتم قطعًا على حساب العقل والمنطق السليم، ففكرة «القوة» التي اعتقد بروشار أنها طاغية في فلسفة اسپينوزا، هي أبعد التصورات عن ذهنه؛ لأنها تنطوي على نظرة إلى الكون من خلال الإنسان. ونظرية اسپينوزا في العلاقة بين النفس والجسم، وفي فكرة النفس بوجه عام، هي أبعد ما تكون عن تفكير أفلوطين؛ إذ كان كل هدف اسپينوزا هو أن يقضي على القول بكيان مستقل للنفس، كما لو كانت «دولة داخل دولة». وأبعد الأمور عن ذهن اسپينوزا أن يقول بنفسٍ كُلِّيَّة في الكون أو بغير ذلك من مظاهر تشبيه الكون بالإنسان. هذا إلى أن فكرة مشاركة النفوس الفردية في النفس الكلية كانت عند أفلوطين وسيلةً لإثبات خلود النفس بالمعنى التقليدي الذي رفضه اسپينوزا رفضًا صريحًا قاطعًا. أما الجزم بأن اسپينوزا قد «تشبَّع» بالأفلاطونية المحدثة فقولٌ لا يقوم عليه أي دليل؛ لأنه إذا كان قد تعرَّف على هذا التراث من خلال مَن درسَهم من مفكري العصور الوسطى، فليس معنى ذلك أنه قد «تشبَّع به» أو آمن به على الإطلاق، بل إن كل الدلائل تدل على أنه قد نبذه في نفس اللحظة التي نبذ فيها المبادئ الأساسية لتفكير العصور الوسطى. وإنه لمن الغريب حقًّا أن يقرب شارح — على أساس تشابُه سطحي أو بناء على تفسيره الخاص لنصوص معينة — بين فيلسوف عقلي دقيق مثل اسپينوزا وبين مذهب آخر تتغلغل الغائية في كل جوانبه، ويحتشد بالأفكار اللاعقلية واللاعلمية، ﮐ «المبادئ أو العلل البذرية»، و«التعاطف» الكوني، والقوى الخفية التي تزخر بها الطبيعة؛ أعني مذهبًا لا يمكن أن يقال عنه سوى أنه نكسة شديدة للمعقولية اليونانية واتجاهاتها العلمية السليمة.
•••
ولكن هذه المحاولات كلها هينة إلى جانب محاولة أخرى كانت أوسع انتشارًا بكثير، بذلها عدد كبير من شُرَّاح اسپينوزا اليهود — وإن لم يخلُ الأمر من بضعة مفكرين غير يهود ساروا في الاتجاه نفسه — للتقريب بين فلسفته وبين التراث اليهودي، بل للنظر إليه على أنه يُمثِّل مظهرًا رئيسيًّا من مظاهر ذلك التراث. هذه المحاولة لا تقوم، في رأينا، على سوء تفسير فحسب، بل هي مبنية أيضًا على سوء النية، وعلى استغلال متعمد للعلم في سبيل إرضاء نزعات عنصرية معينة، وهو أسوأ أنواع التشويه في البحث العلمي.
ويتفاوت هؤلاء الشُّراح في درجة وطريقة تقريبهم بين فلسفة اسپينوزا وبين اليهودية؛ فبعضهم يتجاهل معظم نصوص اسپينوزا ويركز اهتمامه على نص واحد أو نصَّين منتزعين من سياقهما، ليؤكد تأكيدًا لا عقليًّا قاطعًا أنَّ اسپينوزا ظل مفكرًا يهوديًّا من البداية إلى النهاية. وبعضهم الآخر لا يصل ذهنه إلى هذا الحد من السطحية وضيق الأفق — وإن يكن لا يقل عن الأولين تعصبًا — فيحاول أن يتحايل على النصوص ويطوعها لأغراضه الخاصة بطريقة فيها شيء من الدهاء، ولكن هدفها، آخر الأمر، هو أيضًا إثبات يهودية تفكير اسپينوزا على حساب الحقائق القاطعة، وسوف نعرض فيما بعدُ أمثلة عديدة لهذين النوعين من الشُّرَّاح، ولكن ستصادفنا أمثلة أخرى غير قليلة لشرَّاح كانوا هم أنفسهم من اليهود، ولكنهم لم يستطيعوا مسايرة الأنماط السابقة من المفكرين، وسلَّموا بأن تفكير اسپينوزا لا يمكن أن يُعَد جزءًا من التراث اليهودي على الإطلاق.
وسوف نبدأ بحثنا بالواقعة الأساسية في هذا الموضوع وهي واقعة طرد اسپينوزا من المجتمع الديني اليهودي؛ أي توقيع أحبار اليهود لعقوبة «الحرم» عليه، وهي واقعة يتجاهلها، أو يخفف من شأنها، معظم الشُّراح اليهود، وإن كانت قاطعة الدلالة؛ إذ إن اليهودية الدينية قد طردت اسپينوزا من صفوفها رسميًّا، ولم يعبأ هو ذاته بهذا الطرد، بل بادر إلى تغيير اسمه من صيغته اليهودية «باروخ» إلى مقابله اللاتيني «بندكتوس» ولم يتراجع عن موقفه هذا إلى النهاية؛ لذلك كان من الضروري أن نبدأ بحثنا في العلاقة بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي بإيضاح هذه الواقعة الرئيسية.
(٢) طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية
والنتيجة الواضحة التي تُستخلص من هذا التحليل هي أن اسپينوزا لم يُطرد لعقائده وآرائه فحسب، بل طُرد لأن أفكاره الاقتصادية والاجتماعية كانت تهدد المصالح التجارية المسيطرة على يهود أمستردام تهديدًا مباشرًا. وهذا تعليل طريف ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، ولكنه لا يعبِّر عن الحقيقة الكاملة؛ فمع اعترافنا التام بأن اسپينوزا لم يكن ذلك الناسك المنعزل عن مجرى الأحداث في مجتمعه، فلسنا نرى ما يدعو إلى الاعتقاد بأن اسپينوزا قد ساهم بالفعل في حركة عملية من شأنها تهديد مصالح اليهود المالية بالخطر. وحتى كتاباته ذاتها كان أخطر ما فيها هو فلسفتها العامة، وليس ما تتضمنه من آراء اقتصادية أو اجتماعية، ومن الجائز أن اسپينوزا كان في محادثاته الخاصة يعبِّر عن آراء من هذا النوع — بل إن هناك قرائن كثيرة تدل على أن آراءه الخاصة كانت على الأرجح من هذا النوع — ولكن لم تصل هذه الآراء أبدًا، سواء في صورتها النظرية أو من حيث انتقالها إلى الواقع العملي، إلى حد تهديد المصالح القائمة؛ فاسپينوزا بالفعل لم يكن منعزلًا، ولكنه أيضًا لم يكن ثائرًا سياسيًّا أو مصلحًا اقتصاديًّا أو صاحب دعوة عملية إلى تغيير الأوضاع، وطالما أن الأمر قد اقتصر على أفكار خاصة، ولم ينتقل إلى حيز العمل التنظيمي الصريح، بل لم ينعكس على كتاباته ذاتها إلا بطريق غير مباشر إلى حد بعيد، فمن الصعب أن نتصور أن تكون مثل هذه المخاوف الاقتصادية هي سبب طرده من الطائفة اليهودية.
هذا التعليل المباشر، إذا كان صحيحًا، فإنه لا يُعفي الطائفة اليهودية من تهمة التعصب وضيق الأفق الشديدين، ومن الواضح من المقال الذي لخَّصنا نقاطه الرئيسية أن هذه الطائفة كانت تفوق الدولة الحاكمة ذاتها كثيرًا في التعصب وخنق حرية الفكر، وأنها إذا كانت قد اضطهدت اسپينوزا — وأذلَّت مِن قبله «أورييل داكوستا» حتى دفعته إلى الانتحار — فقد كان ذلك راجعًا إلى مزيج من ضيق الأفق الذي جعلها ترفض أي رأي مخالف، ومن الخوف أو الجبن المفرط الذي جعلها تتوهم أن السلطات الحاكمة ستُحمِّلها جريرة ما يعلنه بعض أفرادها من الآراء المتحررة، فكانت تُسارع إلى التبرؤ منهم خوفًا من أن تحل عليها النقمة، مع أن السلطات الحاكمة ذاتها كانت أوسع منها أفقًا إلى حدٍّ بعيد.
ولكن الظاهرة الغريبة حقًّا هي أن يعمد اليهود في العصور التالية إلى إعادة «تبنِّي» هذا المفكر الذي طردوه من بين صفوفهم، والذي اختلف معهم في الأسس الأولى لعقيدتهم وطريقتهم في الفكر والحياة، وتبرَّأ منهم مثلما تبرَّءوا منه، وغيَّر اسمه اليهودي عمدًا؛ فقد كان الأجدر بهم، في رأيي، أن يظلوا على عدائهم له إلى النهاية، ويأخذوا على عاتقهم مسئولية الصراع الفكري معه مثلما فعلوا ذلك أثناء حياته، طالما أن نفس عقيدتهم، ونفس طريقتهم في الفكر والحياة، ما زالت على ما هي عليه إلى حدٍّ بعيد، ولكن الذي حدث أن اسپينوزا أصبح، في عصر متأخر، وبعد أن «أعيد اكتشافه» في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر بوجه خاص، شخصية ضخمة في عالم الفكر — أصبح فيلسوفًا رفيع المكانة، بحيث يكون من المخجل أن يقال إن الطائفة التي كان ينتمي أصلًا إليها قد طردته واضطهدته، وتبرأت منه، وأنه قابل ذلك بموقف مماثل تجاهها، وبحيث يكون مما يُشرف أية طائفة أن يُنسب إليها. وهكذا بدأت فجأة، بعد قرنين من وفاته، لم يحفل به خلالهما اليهود على الإطلاق؛ لأن مكانته في عالم الفلسفة لم تكن قد توطدت بعدُ؛ بدأت محاولة من أغرب المحاولات في تاريخ الفكر، اشتركت فيها مجموعة كبيرة من الشُّراح اليهود، «لإعادة ضم» اسپينوزا، طريد اليهودية، إلى صفوفها، وتحوير فلسفته على أعجب نحو بحيث تغدو في النهاية متأثرة باليهودية ومنتمية إلى تراثها!
وهكذا كانت المحاولة تنطوي منذ بدايتها على اتجاه إلى طمس هذه الحقيقة التاريخية الأساسية أو الإقلال من أهميتها، وترمي إلى إرغام العالم على الاعتراف بانتساب اسپينوزا إلى التراث اليهودي، لا لشيء إلا لواقعة عرضية هي مولده لأبوين يهوديين، بينما كانت وقائع حياته، وعناصر فكره، تنطق كلها بابتعاده التام عن هذا التراث. وفي سبيل ذلك قيل إن الطرد الذي عُذِّب من أجله «أورييل داكوستا» حتى انتحر — حادث تافه عارض، وأن تغيير اسپينوزا لاسمه أمر لا قيمة له (بل إن الكثيرين من الشُّراح اليهود ما زالوا يسمونه «باروخ» رغمًا عنه!) وأن إعلانه الانفصال عن اليهودية وإصراره على عدم الرجوع إليها، رغم استخدام سلاحَي الرشوة والتهديد بالقتل (حسب الروايات القديمة عن حياته) كل ذلك لا يحول دون استمرار الحكم عليه بأنه «أعظم مفكري الأمة اليهودية وأكثرهم أصالة»!
(٣) محاولات التقريب بين اسپينوزا واليهودية وتفنيدها
- (أ) فئة المتعصبين اللاعقليين، وهي فئة يستدعي موقفها كثيرًا من التدبر والتفكير في مدى الضراوة التي يمكن أن تتخذها العنصرية اليهودية إذا ما أرادت إثبات امتياز الشعب اليهودي وتفوقه على حساب العقل والمنطق السليم. وأصحاب هذه الفئة لا يقدمون حججًا عقلية، وإنما يتحدثون في هوس وجنون عن عظمة الأمة اليهودية وضرورة انتساب اسپينوزا إليها، وتظهر أوضح أمثلة هذه الفئة في مقال كتبه «هاري واتون Harry Waton» بعنوان «المسألة اليهودية وفلسفة اسپينوزا» يقول فيه: «إن اسپينوزا والأمة اليهودية هما شيء واحد في الماهية وفي المصير.»٢٦ ويقول أيضًا: «إن ما كشفه اسپينوزا صراحة هو ماهية اليهودية وروحها.»٢٧ وفي المقال نجد أحكامًا مثل «إن الأمة اليهودية تحتل من الهرم البشري قمته، والأمة اليهودية هي العنصر «الصدوق» (أي الأمين المخلص Zaddik) في الجنس البشري. وقد خُلق العالم كله من أجل الأمة اليهودية.»٢٨ فهل يستغرب أحد — بعد هذه التصريحات العنصرية الهستيرية — إذا قيل إن اليهود لا يفترقون عن مضطهديهم من أعداء السامية في شيء، بل إذا قيل إنهم هم الذين يستفزون العالم إلى هذا الاضطهاد؟!
- (ب) والفئة الثانية تتألف من المذبذبين الذين يعلمون حق العلم من دراستهم لاسپينوزا أن أفكاره الحقيقية لا تتفق مع اليهودية، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون إرضاء نزعاتهم العنصرية التي تدفعهم إلى تأكيد هذا الاتفاق. وهكذا يظلون يؤكدون الاتفاق تارة وينفونه تارة أخرى دون أية محاولة لاتخاذ موقف صريح من المسألة. ومن أوضح أمثلة هذه الفئة «رخمان Rakhman» الذي أستطيع أن أقول إن مقاله عن «اسپينوزا واليهودية» من أعجب ما قرأت! فهو يؤكد في البداية تأثر اسپينوزا باليهودية، ويأتي بقائمة طويلة من العناصر التي يفترض فيها وجود هذا التأثير، ثم يعود فيؤكد وجود اختلافات أساسية بين تفكير اسپينوزا وبين نفس المصادر اليهودية التي قال بها، وهي اختلافات بلغت من الأهمية حدًّا كان من الواجب معه، لمجرد تنبُّهه إليها، أن ينفي وجود أي تأثير لها عليه. ومع ذلك يعود مرة أخرى، وبعد ذلك مباشرةً، فيقول (في ص٥٩-٦٠ من المقال المذكور): «إن كتاب الأخلاق هو أكثر ما أنتجته اليهودية من الكتب كمالًا ونضجًا.» وبعد ذلك مباشرةً (ص٦٠) يقول: إن اسپينوزا لا يمكن أن يُعَد فيلسوفًا يهوديًّا بالمعنى الدقيق، وإن اسپينوزا لا ينتمي إلى شعب بعينه، وإنما إلى البشرية جمعاء. كل هذه المواقف المترددة المذبذبة تقع في صفحات مقال قصير، ينتقل فيه المؤلف من الضد إلى الضد على نحوٍ إن دل على شيء فإنما يدل على العجز عن تحمُّل المسئولية الأدبية لموقف صريح واضح.
- (جـ)
وهناك فئة ثالثة لا يترك أفرادها آراءهم المتضادة هكذا جنبًا إلى جنب دون محاولة لإزالة التناقض بينها، بل يأخذون موقفًا ويتحملون مسئوليته: وهذا الموقف هو أن اسپينوزا قد تأثَّر فعلًا بالتراث اليهودي، ثم يحاولون دعم هذا الموقف بالأسانيد. ومن المؤكد أن الكثيرين ممن ينتمون إلى هذه الفئة قد تنبهوا أيضًا إلى وجود عناصر تتنافى مع التراث اليهودي، ولكنهم تحايلوا على هذه العناصر، وأساءوا تفسيرها في كثير من الأحيان، وسوف نناقش حجج هذه الفئة فيما بعدُ بالتفصيل، ولكن يكفي أن نقول الآن: إن آراءها تتسم بمسحة علمية؛ ولذلك فهي لا تدعو إلى الازدراء كالفئتين السابقتين. وإلى هذه الفئة ينتمي عدد كبير من شُرَّاح اسپينوزا اليهود المشهورين، مثل فرويدنتال، وجبهارت، وولفسون وروث.
- (د) وأخيرًا فإن أكثر هذه الفئات اليهودية أمانة هي تلك التي تمكنت من تغليب الحقيقة على الميول العنصرية، وإنكار وجود مؤثرات يهودية في تفكير اسپينوزا، وهي تتفاوت من شُرَّاح ينكرون هذا التأثير جزئيًّا، مثل «واكسمان Waxman»، إلى آخرين ينكرونه تمامًا، مثل «كاسيرر»، و«فوير» و«ليوشتراوس».٢٩
- (أ)
أننا لسنا بحاجة إلى رد فعل مفصل على كل حجة من الحجج التي تساق للتقريب بين اسپينوزا وبين اليهودية؛ إذ إن جميع فصول هذا الكتاب يمكن أن تعد ردودًا مفصلة على هذه الحجج، ويكفي أن يرجع القارئ إلى الصفحات التي عولج فيها أي موضوع تدور حوله الحجة المعينة في هذا الكتاب، ليجد فيها حتمًا الرد الحاسم على هذه الحجج.
- (ب)
أننا سنلجأ في كثير من الأحيان إلى مواجهة مفكر يهودي بمفكر يهودي آخر يقول برأي مضاد. وكما قلنا من قبلُ؛ ففي وسعنا أن نجد كثيرًا من المفكرين اليهود الذين امتنعوا عن السير في هذه المحاولة العقيمة، واستنكروها لأنهم يدركون أن القضية خاسرة منذ البداية، وفي هذه المواجهة بين المؤيدين والمنكرين نستطيع أن نجد الرد الكافي في كثير من الأحيان.
(٣-١) المؤثرات المستمدة من حياته
ومثل هذه الشواهد، في ذاتها، غير كافية، ولا يمكن أن يعوَّل عليها؛ إذ إن نشأته وتعليمه في بيئة يهودية أمر معترَف به من الجميع، ولكن ليست له في ذاته أية دلالة؛ لأنه قد يؤدي إلى الثورة على التراث اليهودي مثلما يؤدي إلى الخضوع له. وقد يأتي بنتيجة سلبية مثلما يؤدي إلى نتيجة إيجابية، وهل يستطيع أحد أن يقول إن فلسفة ديكارت أو كانْت أو هيجل ترتد أساسًا إلى المسيحية لأنهم نشئُوا في بيئة مسيحية وتعلَّموا في مدارس مسيحية؟ وهل مجرد النشأة والتعليم وحدها كافية لتوجيه الفيلسوف الناضج، أم أن كثيرًا من كبار المفكرين يتميزون بالثورة على البيئة التي نشئُوا فيها والتعاليم التي تلقنوها في حداثتهم؟ إن الدراسة الفعلية لتفكير اسپينوزا تُثبت بوضوح أن هذا التأثير، إن وجد، كان تأثيرًا سلبيًّا فحسب؛ أي إن معارضته لهذه المؤثرات الأصلية كانت هي نقطة بداية انطلاقه في طريق التفكير المستقل.
هذه الآراء لا تستحق في رأينا مناقشة تفصيلية؛ لأننا نرجح أن اسپينوزا قد تعمَّد استخدام لغة هذه المذاهب أو ألفاظها، ولكن اتجاهه الحقيقي كان مختلفًا عنها تمامًا، والعالم الذي كانت تدور فيه أفكاره كان عالمًا علميًّا تسوده المعقولية الدقيقة والضرورة الصارمة، بينما كان عالم هؤلاء الفلاسفة واللاهوتيين هو عالم الغائية أو التصوف أو اللاهوت الذي يتأمل الكون من خلال صورة البشر. ويكفي أن يكون الموقف العام للطرفين على هذا القدر من التناقض لكي تكون محاولة التقريب ذاتها عميقة؛ إذ إن التأثر الحقيقي ليس هو التأثر بلفظ أو جملة أو قضية أو حتى بلغة كاملة، وإنما هو التأثر بالعناصر والاتجاهات الفكرية الرئيسية فحسب، وعلى أية حال فإن شارحًا مثل «رخمان» يعود (في مقاله المتقلب الذي أشرنا إليه من قبل)، فيرد على نفسه مؤكِّدًا وجود اختلافات أساسية بين اسپينوزا وبين مختلف المفكرين اليهود في نزعاتهم الروحية الصوفية وتغليبهم اللاهوت على الفلسفة وتأكيدهم لفكرة الإله (ص٥٧) — وهي كلها فوارق أساسية كانت وحدها كفيلة بإنكار وجود أي تأثير.
وكما قلنا من قبلُ، فمجرد دراسة اسپينوزا لتعاليم لاهوتيي العصور الوسطى من اليهود واستيعابه التام لها لا يدل في ذاته على شيء، بل إن كل الدلائل تدل على أنه أتى بنتيجة عكسية؛ أي إن التناقض والتهافت والافتقار التام إلى المعقولية في هذه التعاليم، هو الذي مهَّد له طريقه الخاص الذي سار فيه مستقلًّا تمامًا عنها. وأغلب الظن أن هذه التعاليم كانت — منذ اللحظة التي أعلن فيها ثورته على الطائفة اليهودية — تستفزه وتتحدى منطقه العقلي إلى الحد الذي جعله يضع لتفكيره غاية ولفلسفته هدفًا هو انتقادها وهدم الأسس التي تجعل ظهورها، هي وأمثالها من المذاهب، ممكنًا.
(٣-٢) المؤثرات في فلسفته
سوف نحلل فيما يلي بعض النواحي الرئيسية التي يُفترض أن اسپينوزا قد تأثر فيها بالتراث اليهودي في صورته الدينية المباشرة أو اللاهوتية أو الفلسفية. وكما قلنا من قبلُ، فإن التفنيد الحاسم لمحاولات التقريب هذه إنما يكون في الرجوع إلى أجزاء هذا البحث التي تعالج كل موضوع يقال بوجود مثل هذا التشابه فيه؛ إذ إن إجراء هذه المقارنة في ضوء التفسير الذي قدمناه ها هنا هو أفضل الوسائل لإظهار التضاد الحقيقي التام بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي.
وهذا رأي سليم تمامًا، وكل ما في الأمر أن هذه «الرغبة اللاشعورية» التي تحدَّث عنها في الفقرة الأخيرة كانت في رأينا رغبة «متعمدة» في استخدام نفس الاصطلاحات اللاهوتية التقليدية للتعبير عن أكثر المعاني ابتعادًا عنها، بحيث يكون قد حارب اللاهوت التقليدي بنفس سلاحه، بينما تبدو كتاباته في شكلها الظاهر متمشية مع التيار اللاهوتي العام.
•••
ولقد حاول كثير من الشُّراح اليهود أن يقرِّبوا بين كتاب اسپينوزا الرئيسي «الأخلاق»، وبين التراث اليهودي، واتخذت محاولاتهم هذه صورًا شتى، سنعرض الآن طرفًا منها:
مثل هذه الأحكام الخاطفة، الفجة، هي في رأينا مثال واضح للتشويه الذي يمكن أن يفسد به التعصب التفكير؛ فهذا الكاتب يريد أن يقرِّب بين اسپينوزا وبين المؤثرات اليهودية «رغم ذاته، ورغم طائفة أمستردام»؛ أي رغم الطرد (الذي كان يتعمد أن يتجنب الإشارة إليه). فما هي إذن شواهده على ذلك التقارب؟ أهي الاهتمام بالأخلاق؟ إن هذا الاهتمام حظ مشترك بين عدد كبير من الفلاسفة، ومنهم مثلًا أفلاطون، وكانْت، والرواقيون. ومع ذلك لم يكن واحد من هؤلاء من «أهل الكتاب!» ومع كلٍّ، فمن قال إن اسپينوزا لم يكن يعبأ بالنظريات المجردة؟! وماذا نقول في المواقف العلمية العامة التي يزخر بها كتاب «الأخلاق»؟ إن «روث» يفترض أولًا وجود سمة واحدة تُميز اليهود من أقدم العصور، وتطبع نفسها حتمًا على تفكير كل فيلسوف ينتمي إلى جنسهم، حتى لو كان ذلك «رغمًا عنه» — وهذا وحده افتراض «عنصري» لا يقوم على أساس علمي متين. ثم هو يجزم بأن هذه السمة هي الاهتمام «بالأخلاق»، وهو تأكيد يقبل كثيرا من المناقشة؛ إذ ليس هذا الاهتمام مميزًا لمفكري اليهود على الدوام، كما أن وجوده لدى مفكر لا يعني تأثره بمؤثرات يهودية. وأخيرًا فإن نظرة واحدة إلى «طريق الحياة» كما رسمه اسپينوزا تقنعنا بأنه كان هو نقيض طريق الحياة كما أوضح معالمه التراث اليهودي.
وأخيرًا؛ فقد سبق أن رأينا كثيرًا من الكتَّاب يؤكدون وجود طابع مزدوج، لاهوتي وعلمي، في كتاب «الأخلاق»، ومن الطبيعي أن يستغل الشُّراح اليهود هذا الطابع المزدوج المزعوم، ليؤكدوا أن العنصر اللاهوتي فيه يرجع إلى التأثر بالتراث اليهودي، وهو تأثر بلغ من قوته، في رأيهم، أنه فرض ذاته على تفكير اسپينوزا العلمي على نحو بدت معه فلسفة اسپينوزا آخر الأمر ذات مظهر متناقض.
وفي وسعنا أن نقول: إنَّ هذا الكتاب بأسْره ليس إلا محاولة لتفنيد الزعم بوجود هذا الطابع المزدوج في فلسفة اسپينوزا؛ وعلى ذلك فلا ضرورة لنقده في هذا المجال؛ إذ إن أي نقد كهذا لا بُدَّ أن يؤدي إلى إثارة مسألة تفسير فلسفة اسپينوزا بأسْرها، وهي الفلسفة التي نعتقد أنها كانت متسقة إلى حدٍّ بعيد، أو أنها إن كانت تفتقر في مواضع فرعية إلى الاتساق؛ فهي على الأقل متسقة في هذه المشكلة الرئيسية: مشكلة الاختيار بين الاتجاهات العلمية الحديثة والاتجاهات اللاهوتية الوسيطية. فاسپينوزا في رأينا لم يكن مترددًا في هذا المجال على الإطلاق، بل إنه اختار طريقه منذ البداية على نحو حاسم، وكان في اختياره منحازًا بكل قواه إلى الاتجاه العلمي الحديث، الذي لم يكتفِ بتأييده، وإنما ارتفع في معظم الأحيان عن المستوى العام لمعاصريه في تفكيرهم الفلسفي في العلم.
•••
ومن الحيل الأخيرة التي يلجأ إليها بعض الشُّراح للتقريب بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي، القول بأنه كان مصلحًا يهوديًّا، وتمتاز محاولة التقريب هذه بأنها تنطوي على اعتراف بوجود عناصر كثيرة في تفكيره خرجت على التراث اليهودي، ولكنها تعلل هذا الخروج على التراث بأنه محاولة لإصلاحه — وبذلك يتحقق هدف الربط بين اسپينوزا وبين التيار اليهودي العام، بل وتصبح انتقادات اسپينوزا لهذا التراث وسيلة لتحقيق هذا الهدف.
ولست أدري ماذا يستطيع المرء أن يرد به على مثل هذه الطريقة في التفكير، فهنا نصِل إلى الحجة التي لا يمكن الرد عليها، لا لأنها معقولة، بل لأنها تفتقر تمامًا إلى المعقولية. إن الشارح اليهودي في هذه الحالة يقول: ما دام اسپينوزا يهوديًّا بمولده؛ فهو منا، مهما انتقَدَنا، ومهما حمل علينا، ومهما تضمنت فلسفته من عناصر تهدم التراث اليهودي من أساسه — إنه يهودي لأننا نريده لأنفسنا، سواء أراد القارئ أم لم يُرِد، وسواء شاء اسپينوزا ذاته أم لم يشأ!
وكل ما نستطيع أن نقوله ردًّا على ذلك هو: أن الأساس الوحيد للتقريب بين اسپينوزا واليهودية في هذه الحالة يغدو هو الأساس العنصري؛ أي إن اليهود يفترضون أن مجرد انتماء اسپينوزا إلى عنصرهم لا بُدَّ أن يصبغ تفكيره بصبغة اليهودية، وإذا كانت هذه النزعة العنصرية هي آخر ما يمكنهم الالتجاء إليه من الحيل، فلا مفر للمرء من أن يشير، في معرض الرد عليهم، إلى أن هذه النزعة ذاتها هي التي ظلت دائمًا موضوعًا لشكواهم من خصومهم؛ فهم منذ أقدم العصور يأخذون على خصومهم تأكيدهم لفكرة العنصرية، ومع ذلك فهم لا يترددون في تأكيد هذه الفكرة ذاتها إذا ما شعروا بأنها تخدم مصالحهم.
•••
ولكي لا يظل حكمنا هذا مبنيًّا على أساس التخمين وحده، سنقدم مثالًا محسوسًا لمدى تشابُه طريقتَي التفكير اليهودية والمعادية السامية في هذا الصدد، فسوف نضرب مثلًا لشارح نازي يقرب بين اسپينوزا وبين اليهودية على نفس النحو الباطل الذي حاول به الشُّراح اليهود ذلك، وسنشير إلى أوجه الشبه القوي بين اليهود وأعدائهم في طريقة المقارنة بين اسپينوزا واليهودية، بحيث لا يكون للمرء مفر من أن يستنتج أن الطرفين معًا وجهان لقطعة عملة واحدة، كما يقول التعبير الإنجليزي المعروف؛ فالوسيلة، وهي تأكيد العوامل العنصرية، واحدة في الحالتين، والهدف ذاته واحد، وهو تأكيد العوامل العنصرية، واحدة في الحالتين، والهدف ذاته واحد، وهو تأكيد انتماء اسپينوزا إلى اليهودية، وإن يكن هذا التأكيد يرمي في الحالة الأولى إلى تمجيد اليهودية عن طريق نسبة اسپينوزا إليها، ويرمي في الحالة الثانية إلى الحط من شأن اسپينوزا عن طريق ربطه بعنصر تنصبُّ عليه الكراهية.
والأمر الذي لا بُدَّ أنه قد اتضح للقارئ من خلال هذه المقارنة، هو التشابه العجيب بين المفكرين الذين يدَعون التعصب اللاعقلي يتحكم في تفسيراتهم، سواء أكان هذا التعصب يهوديًّا أم معاديًا للسامية. ولعل هذه المقارنة قد كشفت أيضًا عن ناحية أخرى نرى لزامًا علينا أن ننبه إليها القارئ: وهي أن نقدنا للاتجاه اليهودي في تفسير اسپينوزا لم يكن راجعًا إلى كون هذا الاتجاه يهوديًّا، وإنما إلى كونه متعصبًا على غير أساس من العلم والحقيقة. فلو كان اسپينوزا في نظرنا مفكرًا يؤمن باليهودية ويعبِّر عن مبادئها وقيمها في فلسفته، لما ترددنا في إعلان ذلك، ولكن فلسفته بدت لنا — تبعًا للتفسير الذي قدمناه لها — مضادة تمامًا للأسس الأولى التي قام عليها اللاهوت اليهودي، ومستهدفة غايات تبتعد كل الابتعاد عن غايات الوسيطيين جميعًا، من فلاسفة ورجال دين، وإن يكن قد تعمَّد عرضها في صورة تبدو فيها متمشية مع هذه الاتجاهات. ولما كنا لا نقبل إقحام اعتبارات التعصب في التفسير الفلسفي؛ فقد حرصنا على أن ننتقد المفسرين اليهود الذين توخَّوا في تفسيراتهم مشاعرهم الدينية أو العنصرية قبل أن يتوخوا الحقيقة الفلسفية. وهناك دليلان حاسمان على أن انتقادنا هذا لم يكن مدفوعًا بمشاعر الكراهية أو التعصب، وإنما كان دفاعًا عن الروح العلمية الصحيحة فحسب: أولهما أننا اقتبسنا، وسوف نقتبس في بقية هذا الفصل، أقوال شُرَّاح يهود آخرين دون أن نبدي أي اعتراض عليها، بل أبدينا لها، على العكس من ذلك، كل ما تستحقه من احترام وتقدير؛ لأنها في رأينا نزيهة وليست مدفوعة بالتعصب، وثانيهما أننا انتقدنا التعصب المُعادي للساميَّة بنفس القوة التي انتقدنا بها التعصب اليهودي، وهاجمنا بنفس القوة تشويهات الشُّراح النازيين الذين حاولوا أن يقحموا اسپينوزا قسرًا في صفوف اليهودية. وليس بعد هذا دليل على أن انتقاداتنا كانت مستوحاة من روح النزاهة العلمية وحدها.
(٤) استقلال اسپينوزا عن التراث اليهودي
•••
وعلينا أخيرًا، قبل أن نختم هذا الفصل، أن نختبر بعض النصوص التي تتناول رأي اسپينوزا المباشر في اليهودية، ولنسارع فنكرر ما قلناه من أن معظم الشُّراح اليهود الذين يسعون إلى الربط بين تفكير اسپينوزا والتراث اليهودي يتجاهلون واقعة طرده من الطائفة اليهودية وانفصاله عنها طوال حياته الناضجة (أي منذ سن الرابعة والعشرين حتى وفاته)، أو يقللون من أهمية هذه الواقعة، مع أنها — مهما كانت قيمة طقوسها — دليل قاطع على عصيانه الروحي للطائفة التي نشأ فيها. وكونه لم يحاول في أي وقت أن يتراجع عن موقفه، أو يسترضي السلطات الدينية اليهودية، دليل حاسم على ترحيبه هو ذاته بهذا الطرد، وعلى أنه بذل كل ما استطاع من جهد لإزالة آخر المؤثرات اليهودية في تفكيره.
ومع ذلك فإن أمثال هؤلاء الشُّراح المتعصبين يستشهدون بنصوص قليلة جدًّا، لا تعدو في الواقع أن تكون نصًّا أو اثنين، يشتمُّون فيها نوعًا من العطف على اليهود. وتتردد هذه النصوص القليلة ذاتها لدى عشرات من كتَّابهم على نحوٍ يبعث على السخرية حقًّا. وهم يُسرفون في تأويل هذه النصوص إلى حد تشويهها تمامًا، وإخراجها نهائيًّا من سياقها. ولنتأمل هذه النصوص القليلة لنرى إلى أي حد يمكن أن تُفهم على أنها تتضمن بالفعل عطفًا على الأمة اليهودية:
-
(١)
ففي الرسالة رقم ٣٣، تحدَّث «أولدنبرج» إلى اسپينوزا عن إشاعة كانت رائجة في ذلك الحين، مؤداها أن الإسرائيليين المشتَّتين منذ أكثر من ألفي عام سيعودون إلى وطنهم. وطلب أولدنبرج رأي اسپينوزا في هذه المسألة، كما أراد أن يعرف رأي يهود أمستردام في هذا النبأ «الذي لو صح، لكان فيه إيذان بهزَّة ضخمة في العالم بأسره.» وكان أولدنبرج يشير في هذه الرسالة إلى حركة قومية ظهرت بين اليهود بعد ظهور شخص بينهم يُدعى «شبتاي زفي Sabbatai Zevi»، ادَّعى أنه سيتوَّج ملكًا على القدس بعد سنتين، وآمن به كثير من اليهود، ولكن الذي حدث خلال هاتين السنتين هو أنه قُبض عليه في القسطنطينية، وخابت آمال أتباعه اليهود عندما علموا أنه أشهر إسلامه بعد ذلك.٧٦ومن المؤسف أن رد اسپينوزا على هذه الرسالة — وهو رد كان كفيلًا بأن يُلقي مزيدًا من الضوء على رأيه الحقيقي في مسألة تكوين دولة يهودية — هذا الرد إما مفقود أو لم يُرسَل على الإطلاق، وظلت المراسلات بينه وبين أولدنبرج منقطعة بعد ذلك فترة طويلة. ومع ذلك فإن «كايزر» يتطوع — من تلقاء ذاته — بتقديم رد يتلاءم مع أماني اليهودية المتعصبة؛ إذ يقول إن هذا الرد ربما كان موجودًا في فقرة من كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» يقول فيها اسپينوزا: «بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه لو لم تكن مبادئ عقيدتهم (أي اليهود) قد أضعفت عقولهم، ولو سنحت الفرصة وسط التغيرات التي تتعرض لها أحوال البشر بسهولة؛ فقد يُنشئون مملكتهم من جديد. وقد يختارهم الله مرة ثانية.» ويهلل «كايزر» لهذا النص، الذي يتكرر الاستشهاد به في عشرات من مؤلفات الشُّراح اليهود المتعصبين، ويقول: لقد ظل باروخ اسپينوزا جزءًا من الأمة التي نبذه معلموها المتحمسون قبل ذلك بعشر سنوات.»٧٧
ومن الملاحظ أولًا أنه ليس من الروح العمية في شيء أن يبني المرء حكمًا عامًّا على نص واحد، ويتجاهل آلاف النصوص الأخرى التي تشهد بطريقة قاطعة على خروج اسپينوزا على التراث اليهودي، بل وعلى كل تراث لاهوتي بوجه عام. وثانيًا، فمن الضروري لفهم هذا النص، أن يُوضح رأي اسپينوزا الخاص في فكرة «المملكة أو الإمبراطورية»، وفكرة «اختيار الله لليهود»، وهو رأي عرضه اسپينوزا مرارًا في هذا الكتاب نفسه، ويختلف تمامًا عن المعاني التي يستخلصها «كايزر» وأمثاله منه — معاني العودة إلى الدولة القديمة وإحياء مجد إسرائيل! وثالثًا، فإن هذا النص السابق، الذي استشهد به، كما قلنا، عدد كبير من شُرَّاح اسپينوزا اليهود، منتزع من سياق لا شأن له على الإطلاق بتمجيد اليهود، بل إنه على العكس من ذلك يتضمن انتقادًا مريرًا لهم.
أما معنى «اختيار الله لليهود» فإن اسپينوزا لا يكفُّ عن القول بأن هذا الاختيار لا يرجع إلى امتيازهم في الفضيلة أو العقيدة أو في أية صفة أخرى، وإنما كان المعنى الوحيد لهذا الاختيار هو أن دولتهم القديمة خضعت لقوانين تكفل تنظيمًا سليمًا للمجتمع فحسب؛ فالاختيار هنا لا يعني إلا سلامة نظام الحكومة فحسب. أما فكرة امتياز شعب على شعب — أو على بقية الشعوب — فإن اسپينوزا يرفضها بشدة. ويقول اسپينوزا في هذا الصدد: «وهكذا نستنتج أنه، لما كان الفضل الإلهي يعم جميع الناس على السواء. ولما كان الله لم يختر العبريين إلا من حيث تنظيمهم الاجتماعي وحكومتهم، فإن اليهودي الفرد، إذا ما نُظر إليه بمعزل عن تنظيمه الاجتماعي وحكومته، لا يملك أية موهبة يخصه بها الله عن سائر البشر، ولا يوجد فارق يميز اليهودي عن غير اليهودي.»٧٨وسنورد فيما يلي السياق الذي ورد فيه النص الذي استشهد به «كايزر» لتأييد مزاعمه:
«… لا يوجد على الإطلاق في الوقت الحالي أي شيء يستطيع به، اليهود أن يباهوا به غيرهم من الشعوب.
أما استمرار اليهود كل هذا الوقت بعد تشتتهم وضياع ملكهم، فليس فيه ما يدعو إلى العجب؛ إذ إنهم قد انفصلوا عن كل أمة أخرى إلى حد جلب عليهم كراهية الجميع، ولم يتحقق ذلك الانفصال فقط عن طريق طقوسهم الخارجية، وهي طقوس تتعارض مع شعائر الأمم الأخرى، بل تحقق أيضًا عن طريق علامة الختان التي يحرصون كل الحرص على مراعاتها.»٧٩ ويضرب اسپينوزا بعد ذلك مثلًا بيهود إسبانيا الذين أُرغموا على التحول إلى المسيحية، ثم عوملوا معاملة حسنة، فاندمجوا في السكان بمضي الزمن، بحيث تلاشت كل الفوارق بينهم وبين هؤلاء. أما يهود البرتغال الذين أُرغموا أيضًا على التحول إلى المسيحية، ولكنهم اضطُهِدوا وعوملوا معاملة سيئة؛ فقد ظلوا محتفظين بهويَّتهم. وفي هذا الصدد يأتي النص الذي اقتبسه «كايزر» من قبلُ، وتسبقه العبارة الآتية: «إن علامة الختان وحدها لها من الأهمية ما يجعلها تكاد تكون كافية، في اعتقادي، لحفظ الأمة إلى الأبد، بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه …» (إلى آخر النص الذي سبق اقتباسه.)٨٠وإذن؛ فقد ورد هذا النص في سياق انتقد فيه اسپينوزا اليهود بشدة، وأكد فيه أن ما يسمونه «بمعجزة البقاء» عبر العصور الطويلة لا ترجع إلا إلى ما جلبوه على أنفسهم من كراهية الآخرين؛ فهي ليست معجزة على الإطلاق وإنما هي مظهر اعتلال وانحراف. وقد دلل اسپينوزا على ذلك بمقارنته بين يهود عوملوا معاملة حسنة فتلاشوا — بوصفهم يهودًا، لا بوصفهم أفرادًا — بينما احتفظ آخرون بهويتهم عندما اضطهدوا؛ أي إن هذه الكراهية التي يجلبها اليهود على أنفسهم، والتي تسبب اضطهاد الآخرين لهم، هي التي تعمل على بقائهم، ولولاها لاندمجوا كغيرهم من الشعوب المتطورة عبر التاريخ. وليس معنى الاندماج على الإطلاق أن تتلاشى الشعوب، وإنما أن تخضع فقط لتطور التاريخ خلال الزمان، وتستفيد من مزايا الاختلاط والانصهار مع غيرها، كما حدث لعشرات من الأمم القديمة التي لم يعُد لها وجود بصورتها الأثرية، لا لأنها قد فَنَت، بل لأنها قد انصهرت واختلطت بغيرها عبر الزمان، وأفادها هذا الخضوع لمنطق التطور فائدة لا تُقدَّر، ومن الواضح كل الوضوح، من هذا السياق، أن اسپينوزا يعيب على اليهود — بعد أن خرج من طائفتهم — تحجُّرهم وافتقارهم إلى التكيف مع المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، حتى إنهم حرصوا على تمييز أنفسهم بعلامة الختان حتى يظل جنسهم منفصلًا عن غيره، وبعد كل هذا الانتقاد، وفي ضوء المعنى الخاص الذي أوضحناه من قبلُ لفكرة «الاختيار الإلهي»، يأتي النص الذي اقتبسه «كايزر» وكثيرون غيره، ليدللوا به على عطف اسپينوزا على الأمة اليهودية. ومن المؤكد أن واحدًا من هؤلاء الشُّراح لم يكن يجهل السياق الذي ورد هذا النص فيه، ولا بد أن التعصب وحده هو الذي جعلهم يلجئون إلى اقتطاعه من سياقه المخالف تمامًا لما توحي به سطوره القليلة، حتى يؤيدوا به دعواهم الخاسرة.
-
(٢)
والنص الآخر، الذي طالما استشهد به المفسرون اليهود، وارد في رسالة اسپينوزا رقم ٧٦ إلى «ألبرت برج Albert Burgh»، وفي هذه الرسالة يتحدث عن اليهود فيقول: «إن أكثر ما يباهون به، هو أن منهم شهداء يزيدون على ما لدى أية أمة أخرى منهم، وأن كل يوم يشهد أعددًا جديدة ممن يتحملون العذاب من بينهم، بسبب عقيدتهم، بقلب راسخ إلى حد يبعث على الدهشة. وتلك ليست أسطورة؛ فقد عرفت بنفسي، من بين الكثيرين ممن عرفت، شخصًا يُدعى يهودا Judas، ويُلقَّب بالمخلِص Fidèle، أخذ يُنشد وسط اللهيب، في وقتٍ ظنَّه فيه الناس ميتًا، هذا النشيد: إليك يا رب أقدِّم روحي … ومات وهو ينشد.»
هذا النص يبدو في نظر الكثيرين، كما قلنا، معبِّرًا عن عطف اسپينوزا على اليهود، ولكن هل هو بالفعل كذلك؟ لنتأمل السياق الذي ورد فيه: إن الرسالة موجَّهة إلى كاثوليكي شديد التعصب، هو «ألبرت برج»، ويناقش فيها اسپينوزا الحجة التي سبق أن تقدَّم بها هذا الأخير، وأيَّد بها عقيدته الكاثوليكية على أساس أن الملايين من الناس يؤمنون بها، وأنها ظلَّت محتفظة بكيانها عبر العصور دون انقطاع. والرد الذي يأتي به اسپينوزا هو أن اليهود المتعصبين بدورهم يلجئون إلى هذه الحجة دائمًا؛ فهم، كما جاء في الرسالة ذاتها قبل ذلك، «يُشِيدون، بنفس القدر من الغرور، بكنيستهم، التي ظلت حتى اليوم ثابتة راسخة، رغم ما يبديه نحوها غير اليهود والمسيحيون من عداوة مريرة. وهم يحتجون خاصةً بقِدمهم، ويدَّعون بصوت واحد أن لديهم تراثًا تلقَّوه من الله ذاته، وأنهم هم وحدهم حفظة كلمة الله المكتوبة وغير المكتوبة … ولكن أكثر ما يفخرون به، هو أن بينهم شهداء (إلى آخر النص الذي اقتبسناه من قبل) …» ومن الواضح عندما يوضع النص في سياقه هذا أن المقصود به الرد على حجة كاثوليكي متعصب بما يماثلها لدى اليهود، لإثبات أن الموقفين معًا باطلان، والمقصود من الأمثلة الأخيرة (التي استشهد بها الشُّراح اليهود) هو إثبات وجود أمة أخرى لا يقل أفرادها عن الكاثوليكيين تمسكًا بعقيدتهم واحتفاظًا بها مهما كانت الظروف، وتكملة الحجة، كما هو واضح من السياق، هو كما يأتي: إنك تظن أنك صاحب الدين الحق لأن عقيدتك باقية، ولكن هناك أناسًا آخرين، هم اليهود، لديهم كل الأسباب التي تجعلهم يؤكدون أنهم أشد الناس تمسكًا بعقيدتهم. فهل يكون لهؤلاء بدورهم أن يزعموا أن دينهم هو الحق؟ الواقع أنه لا الكاثوليكية، ولا اليهودية، يحق لها أن تدعي احتكار الحقيقة لنفسها، ومن الممكن الإتيان دائمًا، في كل حالة تلجأ فيها إحدى العقائد إلى الحجة القائلة بقدرتها على البقاء، بأمثلة أخرى لعقائد مخالفة لا تقلُّ عنها قدرة على البقاء، ولكن لا هذه ولا تلك يحق لها، كما قلنا، أن تدعي لنفسها احتكار الحقيقة.
ولقد تعرَّض اسپينوزا، من جرَّاء حملته على فكرة «الشعب المختار» هذه، لانتقاد بعض معاصريه، ممن كانوا يعدون هذا النقد، بما فيه من خروج على بعض تعاليم العهد القديم، منطويًا على مساس بتعاليم الإنجيل بأسره. وهكذا يلاحظ «لامبرت دي ڨلتهويزن» في الرسالة رقم ٤٢ الموجهة إلى اسپينوزا، أن هذا الأخير أنكر فكرة اختيار اليهود أو تفضيلهم على بقية الأمم، وأكد أن ممارسة الفضائل الأخلاقية أجدى من ممارسة شعائر العقيدة اليهودية ذاتها. ويلوم صاحب الرسالة اسپينوزا لأنه جعل أمم الأرض كلها سواء، وأفراد البشر جميعًا متماثلين، في القدرة على فعل الخير والتحلي بالفضائل — وهي كلها أفكار تخالف تعاليم العهد القديم كما فهمها اليهود مخالفة أساسية.
ومن المؤكد أن اسپينوزا قد عبَّر، في نصوص متعددة، عن انتقاده لفكرة «الشعب المختار» هذه بكل وضوح، ولكن من المؤسف أن الشُّراح اليهود الذين حرصوا على الربط بين فلسفته وبين التراث اليهودي، لم يتعرضوا لهذه النصوص قط، بل تجاهلوها كما لو كانت لا تنتمي إلى كتابات فيلسوفنا هذا على الإطلاق، ولنتصور ماذا يمكن أن يقوله هؤلاء الشُّراح في نص صريح كهذا: «إن السعادة والبركة الحقيقية لكل شخص إنما تكون فقط في تمتُّعه بما هو خير، لا في مباهاته بأنه هو وحده الذي يتمتع به، دون كلِّ مَن عداه. أما ذلك الذي يعتقد أنه أكثر من غيره سعادة لأنه يتمتع بنعم يفتقر إليها الآخرون، أو لأنه أكثر غبطة أو أسعد حظًّا من أقرانه، فإنه جاهل بطبيعة السعادة والبركة الحقة، ولا يمكن أن يكون السرور الذي يحس به إلا صبيانيًّا، أو حسودًا خبيثًا. مثال ذلك أن سعادة الإنسان الحقة لا تكون إلا في الحكمة ومعرفة الحقيقة، وهي لا تكون أبدًا في شعوره بأنه أحكم من الآخرين، أو بأن الآخرين يفتقرون إلى مثل هذه المعرفة؛ فمثل هذه الأمور لا تزيد من حكمته أو سعادته الحقة؛ وعلى ذلك فإن كلَّ مَن يغتبط لأسباب كهذه، إنما يغتبط لتعاسة الآخرين، وبذلك يكون خبيثًا وشريرًا لا يعرف السعادة الحقة ولا طمأنينة الحياة الصحيحة.»٨١هذه الكلمات الرائعة، وردت في فصلٍ يتناول موضوع اقتصار النبوة أو عدم اقتصارها على العبرانيين. ومعناها الواضح هو أنه حتى لو كان اليهود ممتازين عن غيرهم بحق، فإن تباهيهم بهذا الامتياز يكفي لجعلهم أشرارًا؛ إذ إن المرء يسعد بتمتُّعه بالخير، لا بإدراكه أن الآخرين محرومون منه. فهنا نقد أساسي لفكرة الشعب المختار، مبنيٌّ على القول بأن الفكرة ذاتها ليست مما تشرُف به أية أمة أو يفخر به أي فرد يعرف معنى الأخلاقية؛ إذ إنها تنطوي على مقارنة فيها حطٌّ من شأن الآخرين، وليس الحط من شأن الآخرين من شيم الفضلاء حقًّا. هذا فضلًا عما تتضمنه الفكرة من أنانية واضحة، تظهر في الاغتباط بافتقار الآخرين إلى السعادة التي يتمتع بها هذا الشعب ذاته، والأنانية صفة بعيدة كل البُعد عن الفضيلة الحقة، وبعبارة أخرى: ففكرة «الشعب المختار» فكرة مناقضة لذاتها؛ لأن مَن بلغ أسمى درجات الفضيلة لن يجد لذة في تأكيد تميُّزه عن الآخرين، ولأن مجرد النظر إلى الآخرين على أي نحو ينطوي على الحط من شأنهم معناه أنك لم تعد كامل الفضيلة، ولم تعد «مختارًا».
أما أولئك الذين احتفلوا في إسرائيل — كما ذكرنا من قبلُ — بمرور ثلاثمائة عام على طرد اليهود لاسپينوزا، فأرادوا ردَّ اعتباره بتشييد نُصب كتبوا عليه «أهْلُكَ!» — فسوف يجدون في كتابات اسپينوزا نصوصًا عديدة نستطيع أن نستدل منها بكل وضوح على رأيه في الدولة اليهودية القديمة، وبالتالي في الدولة الحديثة التي أُسِّست لكي تكون إحياء للقديمة أو استمرارًا لها، فاسپينوزا قد أكد تأكيدًا قاطعًا أن الدين ينبغي أن ينفصل عن الدولة، وأن الهيئات الدينية ينبغي أن تترك للدولة الكلمة الأخيرة في الشئون الدينية، وأن الأحكام التي يفرضها الله على الناس لا ينبغي أن تصدر إلا من خلال الحكام الزمنيين،٨٢ وأن الدولة مبنية على عقد بشري، وسلطتها مستمدة من سيادتها لا من الأوامر الإلهية.٨٣ أما في الدولة اليهودية القديمة؛ فقد خلط اليهود بين السلطتين الإلهية والزمنية بعد أن ولَّوا موسى على أساس أنه هو المعجزة الإلهية بينهم، واختاروا خلفاءه على أساس هذا التقرب إلى الله: «وبعد أن نقلوا حقهم إلى الله، اعتقدوا أن دولتهم تنتمي إلى الله، وأنهم هم أنفسهم أبناء الله، ونظروا إلى الأمم الأخرى على أنها عدوة الله، وعاملوها بكراهية شديدة … فلم يكن شيء أبغض إلى نفوسهم من التعهد بالولاء لأجنبي، والوعد بإطاعته …وهكذا نظر العبرانيون إلى حبهم لبلادهم، لا على أنه وطنية فحسب بل على أنه تقوى أيضًا، ومجَّدوه وأذكوه بطقوسهم اليومية حتى لم يَعُد مفرٌّ من أن يُعَد جزءًا من طبيعتهم، شأنه شأن كراهيتهم لبقية الأمم.»
وهكذا كان اسپينوزا، الذي مر بتجربة التربية اليهودية واستوعب الثقافة اليهودية استيعابًا تامًّا حتى طُرِد، أقدر الناس على تشخيص العلل الحقيقية في نفسية اليهود: كراهية الشعوب الأخرى التي غدَت جزءًا من طبيعتهم، ورفض الاندماج في أي بلد آخر أو إبداء فروض الولاء له، والخلط بين السلطة الإلهية وسلطة الحكم في دولتهم القديمة، وهو خلط لا بُدَّ أن ينعكس أيضًا على دولتهم الحديثة. ولو صدر مثل هذا الكلام من شخص غير يهودي لأصبح موقعه في تاريخ الفكر اليوم في قمة «أعداء السامية». وهذا بالفعل ما اتهمت به الطائفة اليهودية اسپينوزا أثناء حياته. ولكنه بعد وفاته بقرنين أو ثلاثة أصبح فجأة، في نظر معظم شراحه اليهود، مدافعًا عن التراث اليهودي، ومتعلقًا بالأمة اليهودية، وزُيف العلم وشوهت الحقيقة لكي يُضَم إلى التراث اليهودي مفكر كان عظيمًا بحق، ولكن أعظم ما فيه كان تحديه لكل تراث سابق عليه!
(مجموعة الخطب والمقالات التى نشرها معهد اسپينوزا بأمريكا بمناسبة مرور ثلاثمائة سنة على مولد اسپينوزا، سنة ١٩٣٢م.)