مقدمة الطبعة الثانية
إنني إذ أتقدَّم للمرة الثانية إلى القراء بهذه «الأيام»، أقرِّر حقيقةً قد غابت — على وضوحها — عن بعض الذين تفضَّلوا بنقد الكتاب في طبعته الأولى، وتلك هي أن في هذا الكتاب «انطباعات» انطبعت بها حاسة البصر أو حاسة السمع أثناء مقامي في الولايات المتحدة عام ١٩٥٣-١٩٥٤م أستاذًا زائرًا، كنت أثبتُها يومًا فيومًا؛ وليس «الانطباع» مما يُوصف بالخطأ، بمعنى أنه لو حدث لزائر آخَر أن يرى غير الذي رأيت أو يسمع غير الذي سمعت؛ لكان كلانا مصيبًا بمقدار ما أصاب في إثبات انطباعه على الورق؛ ليس الأمريكيون رجلًا واحدًا، بل هم مائة وستون مليونًا أو يزيد، ولا يستطيع الزائر — بداهةً — سوى أن يتحدث إلى عدد قليل جدًّا من هؤلاء، فكل واجبه — إذا أراد أن يكتب عن خبرته — ألا يجاوز حدود ما قد سمع منهم، ويجوز — بل يُرَجَّح — ألا يكون هؤلاء أنفسهم هم الذين يلتقي بهم ويتحدَّث إليهم الزائرون الآخرون، وإذَن فلا تناقض في أن يسافر اثنان إلى بلد واحد، كلٌّ منهما يسمع شيئًا غير الذي سمعه الآخر، أو يرى شيئًا غير الذي رأى.
لقد حرصتُ جهدي عندما كتبتُ هذه اليوميات أن أكون أمينًا في وصف خبراتي، ولست أدَّعي أنها الخبرات الوحيدة التي لا بد أن يصادفها كل كاتب آخَر، وحسْبُ قارئي أن يعلم أني صدقته الخبر في حدود خبرتي الخاصة، فأتحت له فرصة العيش معي أيامًا عشتها هناك.
إن لكل كاتب طابعًا خاصًّا، ولعل طابعي الخاص يتميز بالنقد الذي قد يشتد أحيانًا معتمدًا على صدق نيتي وإخلاصي؛ ولا أظن أن قارئًا يخطئ هذا الجانب مني إذا قرأ لي «جنة العبيط» و«شروق من الغرب» و«الثورة على الأبواب» و«قشور ولباب» — وكلها مجموعات من مقالات تنحو هذا المنحى على تباعُدِ فتراتِ نشرها؛ فإذا وجدني القارئ في هذه اليوميات التي أقدِّمها له الآن كثيرًا ما أميلُ — عند مقارنة الأشياء بعضها ببعض — إلى ذكر أوجه النقص عندنا، فليحمل هذا النقد بصدر رحب، وله بالطبع كل الحق في ألا يأخذ بما أخذت به من وجهات النظر … إنني أقول ذلك لأن ناقدًا فاضلًا كان قد لامني على ما وجَّهته إلى الحياة المصرية من نقدٍ هنا وهناك بمناسبةِ ما كنت أراه أو أسمعه أثناء زيارتي للولايات المتحدة؛ ولو أَنْصَفَ في نقده لأوضح لي موضع الخطأ في رأيي، وليس أَحَبَّ إلى نفسي من أن أرى ما يراه عن اقتناع كلما اختلفت بيننا الآراء؛ إن المصري إذ يكتب للمصري هو أخ يتحدث إلى أخيه، فقد يتفقان وقد يختلفان، لكن كلًّا منهما — على كلتا الحالين — يريد الخير للآخر.
أرجو أن يجد قارئ هذا الكتاب ما قد أردته له من فائدة ونفع.
الجيزة، يوليو ١٩٥٧م