في الطريق، وفي الجنوب
الأربعاء ١٦ سبتمبر ١٩٥٣م (في الطائرة)
غادرت القاهرة ظهر اليوم، وجلست في الطائرة إلى جوار شاب في مقتبل العمر حسبتُه عراقيًّا، لكنه سرعان ما تبين أنه من نيكاراجوا، هو القنصل العام لبلده في شرق الأردن وإسرائيل، يتكلم العربية متعثرًا … وما كدنا نعلو في الجو فوق قِطَع السحاب الخفيف المبعثر فوق أرضيةٍ صفراء هي أرض الصحراء الغربية، حتى مرَّت بنا المضيفة باسمةً توزِّع علينا قِطع النعناع، وبعد أربعين دقيقة أعلن الميكروفون في الطائرة أننا الآن فوق مدينة الإسكندرية، فنظرت فإذا بالإسكندرية لا تزيد على خطوطٍ رفيعة مرسومة بالقلم الرصاص على الورق، وهنا ذكرت مَنْ أعرفهم هناك من أهلٍ وأصدقاء، وقلت لنفسي: إذا كانت المدينة الضخمة قد استحالت إلى هذه الخيوط الرقيقة، فبأي منظار يمكن أن أرى الناس؟ والإنسان في هذه الحالة أَمْيَل إلى التسرُّع بالحكم على نفسه بالتفاهة والضآلة؛ فقليل من الارتفاع في الجو يمحوه؛ فماذا يكون أمره عند الرائي من أفلاكٍ أخرى وأكوانٍ أخرى؟ لكن الخطأ هنا هو نسيانه أن الطائرة التي مكَّنته من الصعود هي مِن صنعهِ ووليدة فكره وطموحه وخياله الوثاب. إن أول سطر ينبغي أن يُكْتَب في كتاب ثورتنا وأن يُقْرَأ ألف مرة كل يوم، هو أن نقرِّر لأنفسنا عن عقيدةٍ قوةَ الإنسان وجبروته، وأن نمحو من صفحات أذهاننا هذا الوهم الذي ما ينفك يعاودنا ويخيفنا، وهو أن الإنسان مخلوق تافه ضعيف.
غادرنا صفرة الرمال إلى زرقة الماء، فودَّعتُ بذلك وطني، وهبطنا في أثينا وفي روما وفي زيورخ وفي باريس وفي شانُن بأيرلندة، ومنها عبرنا المحيط الأطلسي؛ ولهذا وقفت المضيفة تشرح لنا كيف تلبس معاطف النجاة إذا اضطُرت الطائرة إلى الهبوط فوق الماء.
ركب الطائرة في باريس قسيس أمريكي وجلس إلى جانبي، طويل الجسم عريضُه، حليق اللحية، لا يدل على أنه من رجال الدين شيءٌ في مظهره سوى الصدار الأسود؛ فكان هذا أول أمريكي أتحدث إليه في رحلتي إلى أمريكا؛ إنني مُقْدِم على هذه الرحلة معتزمًا أن أَخبُر الشعب الأمريكي عن كثب، لا أتأثر في حكمي إلا بما أراه وما أسمعه؛ ولما كان الشعب هو مجموعة أفراده، فمن الأفراد الذين سألتقي بهم وأحدثهم ستتكوَّن فكرتي الخاصة عن الأمريكيين، وإذَن فلأُنصِت جيدًا إلى كل حديث، ولأقرأ جيدًا كل ما أراه على الوجوه من تعبير؛ فهذا القسيس الأمريكي قد بدت منه علامات الطيبة القلبية منذ اللحظة الأولى، كان على أسرع استعداد أن يعين كلما اقتضى الأمر أن يقدم معونة إليَّ، ولما شكرته ذات مرة على قدح القهوة الذي تناوله من المضيفة وناولني إياه، اطَّرد بيننا الحديث، فسألتُه هل ذهبتَ إلى مصر؟ فقال: لا، إن أبعد ما وصلتُ إليه في أسفاري هو روما، لقد عبرتُ المحيط مرتين … ولما عرف أني مصري سألني: ما حقيقة الموقف بينكم وبين الإنجليز؟ ثم سرعان ما تدارك قائلًا: معذرة، فأظنكم على صلة بالفرنسيين لا بالإنجليز، فصحَّحت له الخطأ وأفهمته أن المشكلة الرئيسية هي بيننا وبين الإنجليز، فسألني: إذَن فأنتم خاضعون لبريطانيا، وأنتم لا تريدونها أن تحكمكم، أهذا هو الموقف؟ فابتسمت قائلًا: ليس في الأمر خضوع ولا حكم، إننا دولة مستقلة حرة، والأمر كله قائم على وجود قوة عسكرية لهم على جزء من أرضنا هي منطقة قناة السويس، ونريد إخراج تلك القوة من هناك، فانتقل فجأة إلى سؤالي عن عدد الكاثوليك في مصر … ومضينا في الحديث، فعجبتُ إذ رأيتُ بدايته الدالة على جهل شديد بمصر، قد انتهت إلى نهاية دالة على كثرة معرفة وسَعة اطلاع، ولولا أنه مشغول العقل بالكاثوليكية إلى حدٍّ أعجزه عن التفكير في شيء إلا إذا مزجه بالكاثوليكية؛ لكان رجلًا رفيع الثقافة.
قدَّم لي سيجارة فاعتذرت شاكرًا؛ لأني لا أدخِّن، فقال: ولا أنا أدخِّن السجائر إلا في رحلة كهذه، لكني بالطبع أدخِّن السيجار. وعرف أني مشتغل بالفلسفة فسألني عن الوجودية من جهةٍ، وعن الوضعية المنطقية من جهةٍ أخرى، وطلب مني أن أشرح له وجهة نظري في علاقة هاتين الفلسفتين المعاصرتين بالكاثوليكية، فهو يريد أن يعلم إن كان هو قد أصاب الرأي حين رأى أن هاتين الفلسفتين خطرٌ على الدين، فشرحتُ له رأيي في الوجودية وفي الوضعية المنطقية، لكني رفضت أن أقول شيئًا في علاقتهما بالدين، تاركًا له هذه الناحية من الموضوع يفيض فيها الحديث ما شاء؛ لأنها تشغله أكثر مما تشغلني، وتهمُّه أكثر مما تهمني.
وانتقل الحديث إلى الشيوعية، فراح يستنكرها في حماسة عجيبة؛ فقد ثار هنا ثورة انفعالية لا يتوقعها السامع من رجل ديني طابعه الهدوء، وقال — وكأنه يخطب جمهورًا كبيرًا أمامه مع أنه يتحدَّث إلى شخص واحد في طائرة تشق ظلام الليل على ماء المحيط: إنني أعلنتها مرارًا في كنيستي، بأنني مستعد لجمع التبرُّع من أهل دائرتي الكنسيَّة؛ لأعطي المال المتجمَّع لأي إنسان يحس في نفسه الرغبة في اعتناق الشيوعية، فيسافر إلى الروسيا على حساب كنيستي، وإذا استطاع الدخول فله الحق في اعتناق المذهب الشيوعي الذي تمنَّاه لنفسه، أما إذا أُوصدت دونه أبواب الروسيا وعاد بخفَّي حنين، ففيم إذَن استمساكه بمذهبٍ لا يريد أصحابه أن يفتحوا له أبوابهم لينضمَّ إلى صفوفهم؟
أُطْفِئَت المصابيح داخل الطائرة، وراح المسافرون يصلِحون من مقاعدهم ليناموا، وأسندتُ رأسي ونمت ثم صحوت بعد ساعتين، وشعرت ببرد خفيف فتدثرت ببطانية صغيرة موضوعة في أعلى مقعدي، ثم نمت مرة أخرى نحو ساعة … الركاب نائمون أو هم يتخذون ظواهر النوم … ونظرتُ إلى المحيط، فلم أرَ محيطًا بالطبع؛ لأننا على ارتفاع شديد، لكني رأيت جوًّا مفضَّضًا؛ فالظاهر أنها كانت ليلة مقمرة، وأن ضوء القمر كان منعكسًا على السحاب من تحتنا فأحدث هذا اللون الفضي … إنني الآن أشعر برئتي حين أتنفس، ولست أدري أهي نتيجة محتومة بسبب الارتفاع، أما أنها ظاهرة خاصة بي وحدي.
ظللت أنظر إلى الجو الفضي خلال الزجاج، وقلتُ في نفسي: ما أبعد الفرْق بين إنسان وإنسان! قارِن بينك الآن وأنت تعبُر المحيط على هذا النحو، وبين كولمبس وهو يعبُر المحيط نفسه؛ لتعلم كم يكون الفرق بين الفرد المبدع الخلاق المبتكِر وبين الأفراد الذين يجيئون بعد ذلك فيتبعونه! إن خيال رجل واحد وجرأته فتحَت للناس عالمًا جديدًا، وشقَّت لهم طريقًا جديدًا، وسرعان ما يختلط علينا الأمر فنظن ألا فرق بين مَن يبدع ومَن يتبع! سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر فلا ندرك فرقًا بين مبتكِر الطائرة مثلًا وبين مَن يركب الطائرة على نموذجٍ أمامه! سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر فلا نرى المسافة الشاسعة بين عالِم يبحث ويصل إلى النتائج الجديدة وينشر هذه النتائج، وبين مَن يأتي بعد ذلك ليقرأ هذا المنشور ويدرسه ويفهمه، فنقول لأنفسنا: إن منهم علماء ومنَّا علماء، ولا فرق بين شعب وشعب ولا بين شرق وغرب! … لكن الفرق يا صاحبي هو نفسه الذي يقع بيني وبين كولمب في عبور المحيط، عَبَره هو لأول مرة مغامرًا مخاطرًا متخيِّلًا متعقلًا، وعبرتُهُ بعده تابعًا، فلا مغامرة ولا مخاطرة ولا خيال ولا فكر.
الخميس ١٧ سبتمبر سنة ١٩٥٣م
أخذت تباشير الصبح تنتشر حولنا بعد أن قطعنا في سواد الليل أكثر من خمس عشرة ساعة؛ لأننا نتجه غربًا كما تتجه الشمس، فنحن والشمس نسير في اتجاه واحد كأنما نحن معها في سباق لا نريدها أن تلحق بنا، لكنها في سيرها أسرع من طائرتنا، فلحقت بنا بعد ظلام طويل، ونظرت عند إشراقها فإذا نحن سائرون فوق سحاب كثيف: منظر غاية في الروعة والجمال، فكأن ما تحتنا من سحابٍ جبالٌ من رغاوي الصابون، أو أكداس من دخان أبيض.
بدأت الحديث مرة أخرى مع القسيس الذي يجلس إلى جواري، ولم نكد نتحدث حتى طَرَقَ الكاثوليكية من جديد يحدثني فيها، ويطلب مني في إلحاح أن أقابل القسيس الكاثوليكي في البلد الذي سأحل فيه، وهو كولمبيا من ولاية كارولاينا الجنوبية، وعاد مرة أخرى يستوثق مني الرأي في بعض نواحي الفلسفة المعاصرة من وجودية ووضعية منطقية؛ ليرى كيف يمكن للدين أن يتقي مواضع الخطر، وقال لي آخِرَ الأمر: إنك لن تجد الأمريكيين كلهم من أمثالي، تحدِّثهم مثل هذا الحديث العالي فيفهمونك، فقد تقول لهم: «وضعية منطقية»، فيسألونك: كم طابقًا تكون هذه العمارة؟ فأنبأته بأن زعماء هذه الحركة الفلسفية هم اليوم في أمريكا، ونحن إنما نتبع ولا نجيئهم في ذلك بجديد.
وصلنا مطار نيويورك بعد طيران دام ثلاثًا وثلاثين ساعة، وكنتُ قد احتفظت في ساعتي بوقت القاهرة، فكانت الساعة عليها عندئذٍ الثامنة، فأرجعتها ست ساعات لتدل على وقت نيويورك، ووجدتُ سيدة تسأل عني جاءت لتستقبلني ووجدتُ معها قائمة بأسماء الغرباء الذين يُنتظَر وصولهم اليوم، أعطتها إياها وزارة الخارجية، وسرعان ما علمت أن السيدة تنتمي إلى جمعية تطوعية جعلتْ مهمتها استقبال الغرباء من أساتذة وطلاب؛ ليمهدوا لهم طريق الاستقرار في بلادهم حتى لا يضلوا السبيل كما يضل كلُّ غريب ليس له هادٍ يهديه، وقد يظن السامع أن هذه هي الجمعية الوحيدة التي أخذت على نفسها هذه المهمة الإنسانية؛ لأنه في الحقيقة يكفي أن تفكر جماعة واحدة في التطوع لمثل هذا العمل، لكنني دُهشت حين أعطتني السيدة قائمة بأربعة وثلاثين عنوانًا لأربع وثلاثين جمعية تطوعية، كلها تألفت لهداية الزائرين الغرباء!
خرجتُ من مكان التفتيش الجمركي، ووقفتُ أنتظر السيارة العامة التي تنقل المسافرين من المطار إلى المدينة، وهنا جاءني الشرطي فحيَّاني بقوله: لا شكَّ أنك مغتبِط لعودتك إلى أرض الوطن؛ فهذا شعور أحسست به أنا لما عدتُ إلى الوطن بعد غَيْبة. فقلت له: أنا مغتبِط لوصولي، ولكني زائر وليستْ أمريكا بوطني. فراح الشرطي يحدثني حديثًا يفيض ودًّا وطيبةَ قلبٍ عما ينبغي أن يكون بين الناس من إخاء مهما اختلفت أوطانهم، وسأل متعجبًا: لماذا تنشأ حرب بين قوم وقوم كالحرب الكورية مثلًا؟ ألا يريد كل رجل أن يعيش بين أهله؟ وقال لي الشرطي — فيما قال — إنه إيطالي؛ فلم أفهم لأول وهلة ماذا يريد، ولو أنه بالطبع يقصد أنه من أصلٍ إيطالي، لكني لم أخْلُ عندئذٍ من دهشة أن يذكر الأمريكيُّ أصلَه الأوروبي أول ما يذكره عن نفسه من حقائق، وجاءت السيارة فأعانني في حمل حقائبي وأوصى السائق بي خيرًا، ودلَّه على أقرب مكان للفندق الذي علم أني سأقيم فيه.
لقد تحدثت حتى الآن مع ثلاثة: القسيس في الطائرة، والسيدة المتطوعة في المطار، وهذا الشرطي، ولو كان هؤلاء عينةً للشعب الذي جئتُ لزيارته، فهو إذَن شعب ودود كريم طيب مُعين.
الجمعة ١٨ سبتمبر
صحوتُ مبكرًا، نزلتُ لأرى شوارع نيويورك وهي في هدوء الصباح، ولبثت أطوف على مهل، شاخصًا ببصري هنا، لامسًا بأصابعي هنا، واقفًا عند مفترق الطرق هناك! حتى إذا ما حان موعد العمل في المكاتب قصدتُ إلى مؤسسة جون وتني في المبنى الضخم بميدان روكفلر، وهي المؤسسة التي منحتني منحةً سخيةً لأقيم في أمريكا عامًا دراسيًّا، أحاضر في اثنتين من جامعاتها: في جامعة كارولاينا الجنوبية بكولمبيا خلال النصف الأول من العام، وفي كلية الدولة بولاية واشنطن في النصف الثاني من العام. استقبلتني الآنسة «ل» وهي فتاة في نحو الخامسة والعشرين من عمرها، أو قد تزيد قليلًا، سمحة الوجه، جميلة الملامح، مهندمة في أناقة واحتشام، تبدو عليها علائم التهذيب والثقافة، استقبلتني بتَرحاب شديد، وأعطتني القسط الأول من منحتي المالية، وَدَعَتْنِي على الغداء مع مدير المؤسسة الدكتور «و» … وفي الدقائق القليلة التي صحبتني فيها الآنسة «ل» لتعينني على صرف راتبي من مصرف في أسفل البناء، أنبأتني عن جون وتْني صاحب المؤسسة ومانحي المنحةَ المالية أنه رجل فوق الأربعين بقليل، وقد كسب أمواله من سباق الخيل، حتى اقترن اسمه بالسباق في أرجاء البلاد كلها، فأراد أن يغيِّر مَنْحَى حياته ليكسب لنفسه شهرةً عن طريقٍ آخَر، وبدأ عدة أعمالٍ من أهمها إنتاج الطعوم المثلجة المعبأة، وهو الآن في هذا المجال التجاري قد بلغ أوج الشهرة … تذكرتُ عندئذٍ أنني حين كنت أتحدث في الطائرة إلى جاري القسيس، وأنبأته أنني أستاذ زائر بمنحة من جون هيي وتْني صاحب الملايين، سألني القسيس: أهو وتْني رجل السباق؟ فقلت له: أي سباق؟ لا أظن ذلك؛ فهو رجل كل ما أعلم عنه أنه مشجِّع للعلم والعلماء.
تركتُ الآنسة «ل» لأعود إلى مكتب المؤسسة ساعة الغداء، وقبل أن أسير في شوارع المدينة جلست على مقعد قريب، ونشرت الخريطة أمامي لأرى أين أسير، وحددتْ لنفسي ثلاثة مواضع أزورها هذا الصباح: عمارة إمباير ستيت التي هي أعلى بناء في العالم، والمكتبة العامة وبناء جمعية الأمم … الحق أنك لا تلبث في نيويورك أن تتعوَّد ناطحات السحاب، كأنما أنت مقيم فيها منذ أول نشأتك! فهي كما عهدناها في الصور وعلى الشاشة حتى ليُخيَّل إليك ألا جديد.
دخلتُ المكتبة العامة فإذا بها فوق كل خيال من الأناقة والفخامة والنظافة والذوق، وقد رأيت على بابها إعلانًا عن معرضٍ لمخطوطات إمرسُن، فجعلته هدفي من الزيارة، ووقفت في غرفة المعرض أنظر إلى الصفحات المنشورة في صناديق الزجاج بخط إمرسن، وقرأتُ له بضعة خطابات وجدتُ خطه فيها غايةً في الوضوح. إن القارئ ليعجب أن يقرأ للأديب العظيم مثل إمرْسُن خطاباتٍ خاصة كأنه رجلٌ عادي له ما لسائر الناس من توافهٍ وصغائر في حياته! …
إنني أنظر إلى الناس في الطرق، فلا أجد ما توقَّعته من علامات السرعة والانشغال؛ فقد كنت قرأتُ لكاتب مصري زار نيويورك وكتب لنا عنها أنه كلما سأل أحدًا في الطريق سؤالًا امتنع عن الإجابة معتذرًا أو بغير اعتذار؛ لأن الجميع في رأيه يسيرون وكأنهم يَعْدُون عَدْوًا، ليس لديهم الوقت الذي يقفون فيه ليجيبوا السائل عن سؤاله … إنني لم أشهد شيئًا من ذلك؛ فهم ناس كسائر الناس ذوي القلوب الطيبة، تسأل مَنْ شئت منهم فيقف لك محتملًا لغتك المتعثرة، ليفهم قولك ثم يهديك بقدْرِ ما في مستطاعه أن يَهدي.
تناولت الغداء مع الدكتور «و» والآنسة «ل» من مؤسسة وتْني، وكان حديثنا على مائدة الغداء يدور معظمه حول سؤالٍ سألني إياه «و»، وهو: ما رأي المصريين في الأمريكيين؟ فقلت له صادقًا: رأي المصريين عن الأمريكيين لسوء الحظ مأخوذٌ من السينما؛ فالأمريكي عندهم — كما هو عند العالَم أجمع — رجلٌ غنيٌّ قليل الثقافة غريب النزوات؛ وأضفت إلى ذلك قولي: إن تقدير المدنية الأمريكية مُخْتَلَف عليه؛ فمن الناس مَن يرفعها ومن الناس مَن يخفضها، فقال الدكتور «و»: التَّبعة في ذلك كله واقعة على مَنْ يستعمل الألفاظ بغير تحديد لمعانيها، فما معنى «مدنية أمريكية»؟ مَنْ هو «الأمريكي» أولًا؟ وما هي «المدنية» ثانيًا؟ أتظن أن الأمريكيين كلهم سواء؟ إنك ذاهب إلى الجنوب، وسترى طرازًا من الناس ولونًا من العيش ووجهةً للنظر تختلف كثيرًا عما تراه في نيويورك، وعما تراه في وسط البلاد وفي غربها، فمَنْ هو «الأمريكي» مِن هؤلاء؟ ثم ماذا يُقصد على وجه التحديد بقولهم «مدنية أمريكية»؟ … ومضى «و» في حديثه على هذا النحو، فوجدته يتفق مع طريقتي في التفكير كل الاتفاق؛ لأنني من القائلين بوجوب تحديد هذه الألفاظ الغامضة التي تُلْقَى في الحديث جزافًا …
قلت له: إن المتحدثين عن «المدنية الأمريكية» يقصدون على الأرجح مدنيةً تقوم على العلم دون الجانب الإنساني من عقيدة وفن وما إلى ذلك؛ فقالت الآنسة «ل»: هذا لسوء الحظ رأيٌ شائع عنا في أنحاء العالم كله؛ ولذلك ترى أولي الأمر منَّا يبذلون اليوم جهودَ الجبابرة في زيادة الاهتمام بالإنسانيات في التربية والتعليم.
وسُئلت عن رأي رجال العلم عندنا في الإنتاج العلمي الأمريكي، فقلتُ صادقًا مرة أخرى: إن رجال العلم عندنا أمْيَلُ إلى اتهام الإنتاج الأمريكي بالضحولة مع أنهم مخطئون؛ فقد قال لي يومًا رجلٌ من المشتغلين بعلم النفس في مصر عن علماء النفس الأمريكيين إنهم سطحيون، مع أنك لا تراه يقرأ إلا مراجع أمريكية! قالت الآنسة «ل»: وبماذا تعلل هذه التهمة إذَن؟ قلت: لعلها مسألة نسبة؛ فالأمريكيون يُنتِجون أكثر من غيرهم، وبالطبع يستحيل أن يكون كل الإنتاج جيدًا، فإذا فرضنا مثلًا أن كل خمسة كتبٍ بينها كتاب واحد جيد، فيكون الأثر على المتتبِّع لهذا الإنتاج هو أن القلة جيدة والكثرة رديئة، مع أن هذا القليل الجيد هو في ذاته أكثر مما ينتجه أي بلد آخر … فأُعجب الدكتور «و» بهذا التعليل وقال: مصداقًا لما تقوله أضيف ما يأتي: الأمريكيون أغنى من سواهم؛ فالنتيجة هي أن يخرج منهم لزيارة البلاد الأخرى عدد كبير من أوساط الناس، فإذا فرضنا مثلًا أن كل خمسة أشخاص يزورون البلاد الأجنبية بينهم شخص واحد ممتاز وأربعة من الأوساط الوسطى، فسيكون أثر ذلك على الشعوب الأخرى هو أن أقلية قليلة من الأمريكيين ممتازة، وأما كثرتهم الغالبة فدون مرتبة الامتياز في ثقافتها وأخلاقها، ولما كانت البلاد الأخرى — كإنجلترا مثلًا — لا يستطيع الخروجَ منها إلا الممتازُ، فستقول عنهم الشعوب الأخرى إنهم شعب ممتاز.
هكذا تحدثنا على مائدة الغداء، حتى إذا ما فرغنا علمتُ أن الآنسة «ل» قد أعدَّت لي زيارة لقسم الفلسفة بجامعة كولمبيا بنيويورك، وقالت: إني سأقابل هناك الأستاذ إرون إدمان الذي يريد أن يتحدث إليَّ؛ فسُررت كل السرور أن تُتاح لي فرصة لقاء رجلٍ كنت أقرأ له وأنا في القاهرة، ولو أنني لا آخذ في الفلسفة مأخذه؛ وكان موعد اللقاء الساعة الثالثة. ركبت السيارة العامة وقصدت إلى الجامعة، وفي الساعة الثالثة تمامًا نقرت على باب غرفة الأستاذ، وجاء الأستاذ وتلقَّاني لقاءً عجيبًا؛ فقد كان يظن أنني طلبت لقاءه لأستفسر عن شيء معين، وكنت من ناحيتي أظن أنه طلب لقائي ليستفسر عن شيء معين، وهكذا بدأتِ الزيارة بسوء تفاهم عند الطرفين، ولم تكن زيارة موفقَّة، ولعل أهم ما دار فيها من حديث أنه سألني عن اتجاهي الفلسفي. فلما قلتُ له: إنني وضعي منطقي، قال: إنني لسوء الحظ مصاب بالعمى نحو الوضعية المنطقية فلا أرى فيها شيئًا؛ فأنا مختص بعلم الجمال، وليت الأستاذ فلان كان هنا لتلتقي به؛ لأنه يتجه في الفلسفة وجهتك، وودَّعته وانصرفت.
الإثنين ٢١ سبتمبر
غادرت نيويورك بالطائرة قاصدًا إلى كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية حيث أحاضر في الفلسفة مدة النصف الأول من العام، ومررتُ في طريقي مرورًا خاطفًا بواشنطن حيث قابلت الدكتورة «إ» وتحدثت معها فيما أنا مكلَّف بعمله أثناء زيارتي، كما مررتُ مرورًا سريعًا بأصدقائي في مكتب البعثات والسفارة … واستأنفتُ الطيران إلى كولمبيا فبلغتُها عند الغروب، وكان يستقبلني في المطار العميد «ن» والدكتور «ش»، وهما من رجال الجامعة الأعلام، فما كان أشد دهشتي — بل حيرتي — حين رأيتُ هذين الأستاذين الجليلين يسبقانني إلى حملِ حقائبي ووضعها في سيارة الأول، ثم صحباني إلى الفندق الذي نزلتُ فيه … الحق أنني ساعتئذٍ تخيَّلتُ أستاذًا أمريكيًّا يزور مصر كما أزور أنا اليوم أمريكا، ثم سألتُ نفسي: مَنْ مِن رجال الجامعة عندنا يفكر في استقباله في المطار كما استقبلني هذان السيدان، ويظل يرعاه حتى يطمئن على استقراره؟ … لكننا نغمض الأعين عن هذه الأمثلة الإنسانية، ونصرُّ على أن نمضي في صياحنا — لأن الأمر لا يعدو الصياح — بأن هؤلاء الناس يعيشون في مدنية مادية ليس فيها شيء من القيم الإنسانية، أما نحن فنترع وننعم بمدنية روحية!
الظاهر أن الفنادق هنا متشابهة التأثيث والإعداد، فغرفتي في هذا الفندق الذي نزلتُ فيه شديدة الشبه بالغرفة التي نزلتُ بها في نيويورك، وحسبي الآن من أوجه الشبه وضع الإنجيل على المكتب في كلتا الغرفتين، إنني لأرجو ألا تفلت مني أمثال هذه الأشياء الصغيرة الدالة على مغزًى كبير؛ فها أنا ذا أرى الأدلة تتراكم على أنني إزاء شعب متديِّن، وقد كنت أظنه غير ذلك … تُرى ماذا يقول زائر أمريكي في مصر لو نزل في فندق سميراميس مثلًا، فوجد القرآن موضوعًا أمامه في كل غرفة؟
لم أكد أستقر في غرفتي دقائق حتى دقَّ التلفون، والمتكلم هو الدكتور «ف» أستاذ الفلسفة بالجامعة يهنئني بسلامة الوصول، ويقترح اللقاء إذا لم يكن عناء السفر يحول دون ذلك، فرحَّبتُ بزيارته … الدكتور «ف» من الذين أكسبتهم الدراسة الفلسفية تنبُّهًا ذهنيًّا وصحوًا فكريًّا تراهما في لمعة عينيه؛ فالدراسة — فيما شهدتُ من خبرة الحياة — إما أن تؤدي بصاحبها إلى هذا التنبُّه والصحو، وإما أن تميل بصاحبها نحو الفتور والذهول … والدكتور «ف» من الصنف الأول، رحَّب بمقدمي وأخذني في سيارته إلى مكتبه بالجامعة، ومكتبه هناك هو نفسه مكتبته — كما هي الحال بالنسبة للأساتذة جميعًا — فجدران المكتب الأربعة مغطاة برفوف الكتب؛ مكتبه هو مكان عمله ودراسته على السواء؛ لكل أستاذ مثل هذا المكتب الذي وضع فيه عُدَّته من كتب وأوراق، فإذا قيل للأستاذ أن يتصل بطلابه كان للقول معنًى؛ لأنه مستقر هناك، وللطالب الذي يريده أن يسعى إليه في مقره ذاك؛ فهل يمكن أن أرى ذلك وألا أقارنه بحالنا في القاهرة؟ أساتذة الفلسفة جميعًا محشورون في غرفة واحدة لا تسع إلا منضدة واحدة! أين يجلس الأستاذ ليعمل؟ أين يجلس حتى لا يجد نفسه مضطرًّا إلى العودة مسرعًا إلى منزله بعد إلقاء محاضراته؟ أين يجلس ليُقال له بحق أن يتصل بطلابه؟ إننا نقول كلامًا لا نعنيه.
تحدثتُ مع الدكتور «ف» في المحاضرات التي سألقيها عن الفلسفة الإسلامية، فوجدتُ أن الناس يرقُبون هذه المحاضرات ليعلموا بها ما لم يكونوا يعلمون عن الإسلام وعن العرب وعن الشرق الأوسط بصفة عامة؛ كثير من الأساتذة رتَّبوا حضورهم هذه المحاضرات، بل كثير من أفراد الناس خارج الجامعة طلبوا الحضور. لقد أعلنتِ الجامعة قبل حضوري عن محاضراتي في الفكر العربي، فكان ذلك حافزًا لكثيرين جدًّا من الناس أن يُعِدُّوا أنفسهم لها.
الثلاثاء ٢٢ سبتمبر
خرجتُ مع الصباح الباكر، فوجدتُ مدينة كولمبيا على نمط واشنطن مع الفارق في اتساع الرقعة؛ فهي مبانٍ وطيئة نظيفة، وشوارع غاية في الاتساع، وكل منزل من منازلها — ومنازلها خشبية مطلية باللون الأبيض — تحوط به الحدائق؛ فأمام المنزل حديقة وخلفه حديقة، وله حديقة في كلٍّ من جانبيه؛ لهذا تنظر — خصوصًا إذا نظرت من رابية عالية — فترى المنازل البيضاء تطلُّ من الخضرة إطلال الزهور البيضاء في بستانٍ فسيح.
دقَّ التلفون في غرفتي عصرًا، وإذا بالمتكلم عربي يقول: الحمد لله على السلامة يا أستاذ، أنا فلسطيني هنا وأريد رؤيتكم؛ فنزلتُ فورًا، وجدت شابين، هذا الفلسطيني يصحبه لبناني؛ أما الأول فممن شتَّتت الحوادث الأليمة أسرته في فلسطين، فجاء إلى هذه البلاد يسعى نحو الرزق والعلم في آنٍ معًا، إنه يعمل في الصيف ليكسب قوت العام ونفقات الدراسة خلال أشهر الشتاء والربيع، إنه رجل بكل معاني الرجولة الصلبة القوية؛ وأما زميله اللبناني فعلى كثير جدًّا من رعونة الصبيان مع أنه لا يصغر الفلسطيني عمرًا، حياته ميسرة نسبيًّا، وقد علَّمه اليسر أن يتميع. على كل حالٍ فرحتُ بلقائهما والحديث معهما ساعة من زمان؛ إن إخاء العربي للعربي أمر لا يشعر به الإنسان على شدته وقوته إلا في مطارح الغربة، فعندئذٍ يبدو في وضوح كيف أن العربي والعربي شقيقان، بالقياس إلى سائر الشعوب.
كنت في غرفتي في المساء أقرأ وأكتب، وإذا بي أسمع دقًّا شديدًا على باب الغرفة المجاورة لغرفتي، وأسمع نداءً عاليًا، ثم تحوَّل الدق إلى باب غرفتي، فقمتُ وفتحتُ الباب، وكنت إذ ذاك أرتدي ملابس النوم (البيجاما) وإذا بي إزاء ثلاثة رجال في حالة من المرح الشديد، ولعلهم أرادوا — مدفوعين بمرحهم هذا — أن يشركوا سواهم معهم؛ فلما فتحتُ الباب صاحوا: ها أنت ذا يا جو؛ وأخذوا يجذبونني من يدي جذبًا لم أقوَ على مقاومته، فجعلتُ أرجوهم أن يتركوني لعملي، لكنهم يمضون في شدي قائلين: تعالَ هنا يا جو، حتى أخرجوني أمام غرفتي؛ ولما رأوا على وجهي علامات الانقباض — مع أنهم كانوا يتوقعون مني ضحكًا ومرحًا — تركوني قائلين بعضهم لبعض: الظاهر أنْ ليس له نصيب في حياة المرح … عُدتُ إلى غرفتي وأقفلتها، لكني لبثت مدة طويلة لا أستطيع استئناف ما كنت أكتبه.
الأربعاء ٢٣ سبتمبر
اليوم مشرق جميل، كل شيء يبدو أمام عينيَّ رائعًا، وأَحُسُّ قلبي ينبض نبضة النشوة والفرح؛ قمتُ مبكرًا وأخذتُ أتطلع من وراء النافذة، وللنافذة غطاء من السلك وقايةً من البعوض؛ كل شيء مشرق راقص، وفتحتُ الراديو لأسمع موسيقى فتضيف إليَّ نشوة هذا الصباح.
وألقيتُ اليوم أول محاضراتي عن الفلسفة العربية؛ جعلتُ المحاضرة تحليلًا لخصائص الفكر العربي، إن كانت له خصائص تميِّزه عن فكر الغرب، وأحسست بنجاح وثقة في نفسي وفيما أقول … وكان بين الحاضرين السيدة «ش» التي استرعت انتباهي منذ اللحظة الأولى بل قبل اللحظة الأولى؛ لأنها جاءتني قبل بدء المحاضرة تسألني عن المكان الذي سأحاضر فيه. عرَّفتني بنفسها تعريفًا وافيًا وطلبت مني أن أنطق لها باسمي لتنطقه صحيحًا، وقالت: إنها هي وزوجها — وهو ضابط في مستشفًى عسكري بسلاح الطيران — قد وضعا خطة حياتهما على أن يقيما بمصر حينًا، وهما يريدان أن يعلما عن مصر كل ما يمكن العلم به؛ عليها علامات الذكاء، ولا بد أن أضيف إلى ذكائها جاذبية الأنوثة فيها؛ وكل شيء في ثيابها وحليها ينم عن ذوقٍ جميل … الظاهر أنه مهما كان الكاتب صريحًا فلا بد أن تنقصه الصراحة؛ لأنني أشعر برغبةٍ في أن أخفي شيئًا من شعوري، وهو أنني اغتبطت في نفسي لما وُفِّقت إليه من طلاقة لسان، وحضور بديهة في المحاضرة الأولى لأظفر بالرضى من هذه السيدة التي جعلتْ هدفها مصر.
طاف بي الدكتور ش — وهو رئيس الفلسفة وأستاذ لعلم النفس — على مدير الجامعة وعمدائها ومَنْ كان من أساتذتها بنادي الأساتذة. وفي النادي جلسنا نحو ساعة هناك حيث شربنا القهوة وتحدث إليَّ الحاضرون وتحدثت إليهم، وكاد الحديث كله أن يكون عن الثورة المصرية ورجالها، وجعلت أشرح لهم بعض ما غمض عليهم من نواحيها.
الأحد ٢٧ سبتمبر
ذهب أفراد الأسرة التي سكنتُ بمنزلها إلى الكنيسة، وبقيتُ وحدي، فجلستُ في الشرفة الخارجية أقرأ الجريدة المحلية الصباحية؛ ففي كولمبيا جريدتان أساسيتان: إحداهما تصدر في الصباح والأخرى في المساء، وجريدة الأحد ضخمة تبلغ حجم جريدة الأهرام نحو عشر مرات.
نظرة سريعة إلى هاتين الصحيفتين المحليتين كفيلة أن تدل على مدى اللون الإقليمي؛ فهي تُعْنَى أولًا بشئون الولاية — ولاية كارولاينا الجنوبية — وبعد ذلك تأتي شئون سائر الولايات وشئون العالم الخارجي.
كنت وأنا في مصر أضيق صدرًا بالروح القَبَلية الشائعة في صحفنا حتى المهم منها، فتراها تخصص فراغًا كبيرًا لأخبار الأفراد: هذا سافر، وهذا تزوج، وذاك وافته منيته، وهؤلاء ارتقوا في مناصب الدولة ودرجاتها، وما إلى ذلك مما لم يكن ينبغي أن يشغل فراغًا من صحيفة تعلو على أمثال هذه التوافه؛ فلما وجدتُ شيئًا قريبًا من هذا في الصحيفة المحلية هنا — وبالطبع ليس الأمر كذلك في صحيفةٍ كبرى مثل نيويورك تايمز التي تصدر في نيويورك — أدركتُ أنه كلما ضاقت دائرة اهتمامات الناس في مجتمعٍ ما؛ جاءت صحفهم ملونةً بلون إقليمي محلي كأنها نشرات، أما إذا اتسع الأفق وارتفعت الثقافة؛ نشرت الصحف بالتالي شِباكها حول العالم، وأهملت الصغائر من أخبار الأفراد.
جلستُ في شرفة الدار عصرًا، فجاءت سيدة الدار وفي يدها طعام ملفوف في ورقة صفراء، وقفت تقول لي: إنها ذاهبة إلى الحديقة لتطعم الديدان؛ فنظرت إليها نظرة فيها دهشة وسؤال، فقالت: إني أُطعِم الديدان، في حديقتي مجموعة كبيرة منها أُواليها بالطعام، إنني أعطف عليها، كنت منذ سنوات أقشعر منها وأخشاها؛ لأنها ستأكل جسدي بعد الموت، لكني الآن أعطف عليها؛ فأقل ما يُقال فيها: إنها تنفع تربة الأرض للزراعة دون أن يلحقنا منها أذًى، قليلة هي الأشياء التي تنفع ولا تؤذي؛ لهذا أذهب كل يوم إلى حديقتي وأطعم مجموعةً كبيرة من الديدان هناك.
قلت لها: إنني أسمع مواء قطةٍ لا ينقطع، يأتي إلى غرفتي من النافذة الخلفية، فهل في الحديقة قطة حبيسة؟ فقالت: لا، هذا طائر صوته يشبه المواء؛ إنني لا أطعم القطط ولا أحبها لسبب واحد وهو أنها تأكل العصافير، إن لي صديقًا اسمه كذا يحب العصافير حبًّا جمًّا؛ ولهذا ألَّف جمعية تعمل جهدها للتخلص من القطط صيانةً للعصافير وحمايةً لها، لكن الجمعية جعلت مبدأها ألا تؤذي قِطًّا، بل هي تجمع القطط في مكانٍ ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وبهذا تعيش القطط وتعيش العصافير، وصديقي هذا يعطي دولارًا (ريالًا) لكل مَن أعطاه قطة يضمها إلى معسكر القطط.
الثلاثاء ٢٩ سبتمبر
صاحب البيت قسيس متقاعد، كان واعظًا في كوريا والصين؛ حيث قضى الشطر الأكبر من حياته، واسمه «م» … ما أعجب هذا الرجل في شدة طيبته وتواضعه واستعداده الحقيقي للخدمة والمعونة! وقد ذكرني بالقسيس الذي التقيتُ به في الطائرة من باريس إلى نيويورك، فهل يجوز لي من هذين المَثَلَين أن أُعمِّم الحكم وأقول إن رجل الدين في المسيحية رجلُ دينٍ حقًّا من حيث التواضع والتضحية بالنفس في سبيل غيره؟ هل يجوز لي أن أقول بناءً على هذه الخبرة القليلة مع هذين الرجلين إن رجل الدين عندهم لا يعتقد في دينه فقط، بل يحياه ويتمثله؟ … وهنا كدت أكتب: «وأما رجل الدين عندنا …» لولا أنني اعترضت على نفسي قائلًا: ليس عندنا «رجل دين» بالمعنى الدقيق لهذه العبارة؛ فكل مسلم رجل دين؛ بمعنى أن كل مسلم مسئول عن دينه أمام ربه … وعلى كل حال أراني مدفوعًا إلى كتابة هذه العبارة: «إن مَن يُسمُّون عندنا برجال الدين قوم حفظوا قواعد الدين ودرسوها كما تُدْرَس الرياضة أو الجغرافية، لكنهم قلَّ أن يحيوها بحيث تتمثَّل حيةً في أشخاصهم.»
اتصل بي الدكتور «ش» رئيس قسم الفلسفة بالجامعة؛ لينبئني أنه سيرتب أربعة اجتماعات في منزله في أيامٍ حددها لي، بحيث يدعو في كل اجتماع مجموعةً من الأساتذة ليعرفوني وأعرفهم، فشكرته في حرارة وإخلاص على هذا الكرم الأصيل … إن الدكتور «ش» مثلٌ نادر للرجل المهذب المؤدب، إنني والله كلما رأيت رجلًا كهذا كيف يقدِّم لي المعونة مضحيًا بوقته وجهده؛ أعجب لنفسي أشد العجب أن يشيع عن القوم أنهم ماديون في نزعاتهم وفي حياتهم، وأننا — نحن المصريين — روحانيون! ليس الأمريكيون معنًى مجردًا في الهواء، بل هم ناس، فإذا أردت أن تقول عنهم شيئًا فأَمْسِك القول حتى ترى أفرادهم وتتحدَّث إليهم لترى بنفسك إن كان «الدولار» وحده هو دائمًا رائدهم في سلوكهم كما يشيع عنهم، أم أنهم مدفوعون إلى سلوكهم في كثير جدًّا من الأحيان بمعانٍ إنسانية سامية نبيلة … لماذا جاء الدكتور «ش» هذا مع العميد «ن» ليقابلاني في المطار؟ لماذا يتسابقان على حمل حقائبي؟ لماذا يرتِّب لي هذه الحفلات الأربع في منزله؟ لماذا يحمل إليَّ بنفسه الكرسي الثقيل من طابق في البناء إلى طابق حتى يُعدَّ لي مكانًا مريحًا؟ لماذا يدور بي في سيارته ساعاتٍ ليبحث لي عن سكن أستقر فيه؟ هذا أمريكيٌّ، فهل دفعه إلى هذا السلوك كله حب «الدولار»؟ أم دفعه قلبٌ كبير وشعور نبيل؟ إنني في هذه اليوميات لن أكتب إلا خبرتي الشخصية المباشرة، وسأصم أذني بعد الآن حتى لا أسمع هذه الأحكام الجائرة التي يلقيها الناس جزافًا على شعوب بأسرها.
لو سُئلت عن الأمريكيين لِأُجيب في حدود خبرتي؛ لقلت بغير تردُّد: إنهم يمتازون بحسن العِشرة وكرم الضيافة؛ فيستحيل أن أجلس في مطعم ثم يأتي مَن يشاركني في المائدة دون أن يحيي تحية طيبة وأن يبدأ الحديث، وإذا انقطع حبل الحديث بيننا فانقطاعه دائمًا يكون من ناحيتي لا من ناحيته.
الأربعاء ٣٠ سبتمبر
كان الدكتور «ز» قد لاحظ لي — وأنا في القاهرة — قائلًا: إن المشكلة الجنسية في أمريكا محلولةُ بالزواج المبكر، والظاهر أنه قد أصاب في ملاحظته؛ فالطالبات اللائي يُحضُرن لي محاضراتي كلُّهن متزوجات، وكثيرون جدًّا من الطلبة متزوجون؛ وملاحظاتي في هذا الباب تزداد اتساعًا، فأزداد بذلك وثوقًا أن الزواج هنا إنما يكون في سنٍّ مبكرة جدًّا، في العشرين أو نحوها، وأنك تكاد لا تعثر فوق هذه السن على رجل واحد أو امرأة واحدة غير متزوجة، وقد جاء ذلك الزواج المبكر بنتيجتين: أولاهما استقامة الأخلاق استقامةً لا تطرأ ببال أحد خارج البلاد الأمريكية! ألا ما أظلمَ الناس في أنحاء العالم حين يحكمون على الأمريكيين بتحلُّل الأخلاق! لكنها السينما هي التي أوحت إلى الناس أن الحياة في أمريكا كلها مصوَّرة في حياة الممثلين والممثلات على الشاشة البيضاء! … الأخلاق في أمريكا أقرب إلى التزمُّت منها إلى التحلُّل، والسبب الأول في ذلك هو استمساكهم بالدين لدرجةٍ لا يحلُم بها إنسان من الشعوب الأخرى، ثم تفرَّع عن ذلك سبب ثانٍ وهو الزواج المبكِّر واستتباب الأسرة.
وأما النتيجة الثانية للزواج المبكر فهي أن يتزوج الزوجان في سنٍّ متقاربة إن لم تكن متساوية، وذلك مقبول حين يكونان في العشرين والثلاثين، أما حين تتقدَّم بهما السن إلى الأربعين والخمسين، فالرجل يظلُّ على شبابه على حين تَهْرَم المرأة، فترى الزوجين عندئذٍ فيُخيَّل إليك أنك إزاء رجل ووالدته لا رجلٍ وزوجته، ومن هنا كثيرًا ما ينشأ الطلاق في سنٍّ متأخرة؛ ولذا تسمع عن نسبة عالية في الطلاق بين الأمريكيين.
لم أكن أتصوَّر أن تبلغ الإذاعة هنا هذه الدرجة كلها من السخف بسبب الإعلانات التجارية؛ فلست أبالغ إذا قلتُ: إنه بعد كل إذاعة تستغرق خمس دقائق يُذاع إعلان تجاري؛ الإعلان يتخلل الأحاديث والغناء والموسيقى، فلا يمكن أن تفتح الراديو وتستمتع بإذاعة متصلة في شيء واحد مدة نصف ساعة مثلًا؛ بل إن الذي يتولَّى البرنامج الإذاعي كثيرًا ما يكون هو المحل التجاري الذي يعلن عن نفسه؛ فمثلًا تعلن سيارات شفروليه عن نفسها في نصف ساعة، فتُعِدُّ لذلك برنامجًا إذاعيًّا، فيه أغانٍ وفيه موسيقى، وبعد كل بضع دقائق من الأغاني أو الموسيقى يقطع المذيع مجرى الشيء المذاع ليقول شيئًا عن سيارات شفروليه وهكذا، حتى الأخبار تتولَّى إذاعتها شركات تجارية لتنتهز فرصتها وتعلن عن نفسها خلال إذاعة الأخبار.
أضف إلى ذلك أن الإذاعة تصبغها صبغة محلية إقليمية؛ ففي كولمبيا وحدها أربع محطات إذاعية، كلها محطات تجارية، أعني أنها مِلْك أفراد أقاموها لتكون مصدر كسب، وبطبيعة الحال يكون الكسب من الإعلانات التجارية، وإذَن فالبرامج الإذاعية قائمة على هذا الأساس؛ ولا بد أن تكون معظم الشركات المعلَن عنها في كولمبيا أو ما يجاورها من بلاد.
وبصفة عامة ألاحظ أن النزعة الإقليمية قوية جدًّا في أمريكا؛ فأهل كارولاينا الجنوبية يتعصَّبون لها أولًا باعتبارها هي الوطن المباشر، كالذي نسمع عنه أحيانًا في مصر من تعصب أهل الصعيد لصعيدهم، وأهل الوجه البحري لبلادهم، أو من تعصب أهل المديرية الفلانية لمديريتهم.
الأحد ٤ أكتوبر
كنت أقرأ جريدة الصباح في شرفة المنزل، وجاء الأب «م» (رب الدار التي أسكنها) تصحبه سيدة في نحو الثلاثين من عمرها؛ تبادلنا التضحية، وسألتني السيدة: من أي بلد أنت؟ فقلت: من مصر. دخلا المنزل، وبعد قليل عادت السيدة وحدها واستأذنت في الجلوس، وبدأت الحديث معتذرةً إذا كانت قد قطعت عليَّ قراءتي … ولم نكد نبلغ من الحديث شوطًا قصيرًا حتى علمتُ أنها ابنة الأب «م» نفسه، وأنها مصابة بمرض عقلي؛ ولذا فهي تقيم في المستشفى إقامة شبه دائمة؛ إذ هي هناك منذ ثلاث سنوات؛ وأخذت المسكينة تشكو إليَّ من سجنها في المستشفى الكريه، قائلة: إنها لا تطلب سوى أن يقولوا لها في أمانة وإخلاص ما علَّتها، ثم سألتني: أتظنهم يُجرُون عليَّ التجارب؟ تُرى هل يبقونني في هذا السجن بقية عمري؟ … إن حديثها عادي لا أثر فيه لانحراف عقلي، ولولا أنها أنبأتني نبأها لما ظننت بها مرضًا، لو استثنيت عبارة واحدة قالتها فدلَّت بها على اضطراب عقلها، وذلك أني سألتها: أنتِ إذَن ابنة الأب «م»؟ فقالت: يقولون ذلك، لكني أراني أقرب شبهًا بخالي، فلا يَبعُد أن أكون ابنته!
جاءت أمُّها عائدة من الكنيسة، فاحتضنتها في حرارة وقبَّلتها في حنان؛ فالذين يظنون في مصر أن حب الأمومة مقصورٌ على المصريات يكفي أن يروا كيف استقبلت هذه الأمُّ ابنتها.
قالت لي «ب. م» (وهو اسم فتاتنا المريضة): إنها ترى أحلامًا مزعجة كل ليلة. قلت لها: وبماذا تحلُمين؟ قالت: أحلام فظيعة، كثيرٌ منها عن الرجال … قلت في نفسي: ما أتعس حال الإنسان بما فرض على نفسه من قيود جنسية تحتج عليها الطبيعة في مثل هذه المسكينة!
وجاءت ساعة العصر فأرادوا أن يعيدوا فتاتنا المريضة إلى مستشفاها وهي تضرع إليهم ألا يفعلوا؛ إنها تبكي وتقبِّل أقدامهم أن يبقوها بينهم وألا يعيدوها لتكون مجنونة من المجانين، والوالدان يديران وجهيهما بأعينٍ باكية حتى لا يريا ضراعة ابنتهما؛ وأنا الغريب لم أحتمل المنظر فصعدت مسرعًا إلى غرفتي … ها هنا صراع بين عاطفة وعقل؛ إنني من أشد أنصار العقل على العاطفة، لكن ذلك في الكلام والكتابة، أما في سلوكي العملي فأضعف من أن أحتمل منظرًا كهذا، وأقسم أني لو كنت ذا أمر لأبقيت فتاتي معي وليكن من سلوكها في داري ما يكون … لكن الأب «م» استعان بابنه الشاب على ابنته الضارعة، فأخذ الأخ أخته في سيارته وانصرف بها إلى المستشفى.
جلس معي الأب «م» وزوجته في شرفة المنزل، وسرعان ما فتحا موضوع بنتهما «ب» فتحدثنا طويلًا في أمرها، أنبآني أن مرضها شدة في الخيال حتى لتتوهم الأوهام وتحسبها حقائق … سألتُ الوالدين: هل في الأمر مشكلة جنسية؟ فانطلقتِ الزوجة تؤكد أن ابنتها كانت متروكة حرة التصرف في أمر نفسها، ولم يكن لهما دخل في حياتها، فلم يعملا على كبت طبيعتها وغريزتها، وقالت: إن «ب» كانت تدرس في واشنطن، وكانت على أتم حرية في اتصالها بالأصدقاء الشبان، لكن الغريب في أمرها هو أنها حتى الخامسة والعشرين من عمرها — وهي الآن في الحادية والثلاثين — كان يتودد إليها الشبان فلا تُلْقِي لهم بالًا، وبعد أن أصابتها هذه المصيبة أخذت تهذي بالرجال! فقلت لها: الأمر واضح؛ فقد كانت مكبوتة بحكم ضواغط التربية لا بحكم أنكما ترقبانها أو تمنعانها، نشأت في جو ديني أوحى لها بالتزمُّت، ثم نادت طبيعتها فعجزت عن متابعة المستوى الخلقي الذي يطلبه المجتمع.
إن أمثال «ب. م» هذه من المصريات آلاف، بل عشرات الآلاف؛ إننا نظن أننا ما دمنا قد كمَّمنا الأفواه فلا تنطق بالرغبة الطبيعية، وما دمنا قد حبسنا الأجساد فلا تنطلق مدفوعة بالغرائز، فقد حُل الإشكال وانتهى الأمر؛ لكننا بغرائزنا المكبوتة مرضى لا نفكر تفكيرًا سليمًا ولا ننتج إنتاجًا قويمًا. ألا فليعلم مَنْ لا يعلم أن فقرنا العلمي والفني وأن قلقنا الاجتماعي كله راجع — ولو إلى درجة ما — إلى عدم تنظيم العلاقة بين الشبان والشابات؛ إن الله قد أراد لنا أن نكون مجتمعًا ذا جنسين، فمن أراد له أن يكون غير ذلك فليحتجَّ على الله، وليمسك عن كل أمل في إصلاح حقيقي يتناول المجتمع من أُسُسهِ وأصوله.
المنزل الذي أسكُنه مجاور لمتحف الفنون، وقد رأيت المتحف مضاءً عند عودتي من مشية قصيرة، فدخلته لأنظر ما به من معروضات فنية، وإذا بالمتحف حفلة افتتاح؛ فقد وقف عند المدخل صف طويل من الرجال والسيدات يستقبلون الزائرين، والبيانو يعزف أنغامًا حالمة، وعلى مائدة طويلة أنواع من طعام وشراب … والمعروض الذي يحتفلون بافتتاحه الليلة هو لفنان اسمه يوجين تومسن، ولوحاته تُعْرَض في ولاية كارولاينا الجنوبية لأول مرة، وهو ليس من رجال المدرسة الحديثة في التصوير، بل هو أقرب جدًّا إلى الفن في صورته الكلاسيكية، وأعني بذلك أنه يرسم الأشياء والأشخاص كما تبدو لعينه، وليس غرضه من التصوير تأليفًا بين الألوان كما هي الحال عند أصحاب المدرسة الحديثة.
لكن الدور العلوي من المتحف مليء بإنتاج الفنانين المحدثين من أهل الولاية نفسها؛ فها هنا تجد الاتجاهات الحديثة متمثلة كلها جنبًا إلى جنب، فترى فنانًا يتبع بيكاسو ومدرسته، وآخَر يرسم على طريقة الانطباعيين، وثالثًا يرسم على طريقة الفن المنقوط وهكذا … إنه لا حقَّ لي حتى الآن أن أحكم على الفن الأمريكي؛ لأنني لم أرَ منه إلا القليل، وفي عزمي أن أدرسه دراسة أوفى حين أزور المتاحف الكبرى في واشنطن ونيويورك وشيكاجو، لكني أقولها الآن متحفظًا، وهي أن الأمريكيين لم ينشئوا لأنفسهم مدرسة فنية خاصة بهم، بل نقلوا المدارس الأوروبية وتابعوها، ثم ظهرت فردياتهم وشخصياتهم في حدود المدارس الأوروبية.
الجمعة ٩ أكتوبر
قرأت قصة جيدة في مجلة «بوست» عنوانها «رجل بين فتاتين»، وخلاصة القصة التي يهمني تسجيلها، هي أن إحدى الفتاتين كانت لا تميل بطبعها إلى البقاء في البيت زوجةً وأمًّا لأطفال، وتريد إذا ما تزوجت أن يكون العمل ميدان نشاطها، وهي فوق ذلك لعوب تحب السهرات الأنيقة والمطاعم الفاخرة وما إلى ذلك، وأما الفتاة الأخرى فتعمل انتظارًا للزواج، وتؤثر لنفسها إذا ما تزوجت أن تجعل من دارها مملكة لها؛ الفتاتان تعملان مع الفتى في مكتب واحد، والأولى تبادله الحب علنًا، والثانية تحبه ولا تفصح عن حبها؛ وبعد تحليلٍ رائع يشرح النفوس الثلاث، انتهى بنا الكاتب إلى موقفٍ وقف فيه الفتى موقفَ الذي يختار، لكنه لم يلبث أن اختار لحياته الفتاة الثانية، فتاة البيت التي ترى عزَّتها وسعادتها في زوجها وأبنائها، ولا تُزِيغ بصرها الحفلات والسهرات والارتقاء في ميادين العمل الخارجي.
والمهم عندي هو أنه إذا كانت هذه القطعة الأدبية تصوِّر الأمريكي في ميوله ونزعاته، كان الأمريكي أمْيَل إلى زوجةٍ لا تعمل؛ وإذَن فلا يزال الرجل هو الرجل أينما كان، ولا يزال المثل الأعلى الذي يطمح إليه الزوج أن يكون هو عائل الأسرة ليكون سيدها.
السبت ١٠ أكتوبر
الأب «م» وزوجته يشرفان على نشاطٍ اجتماعي في الكنيسة التي يتبعانها كل سبت في المساء؛ أعلم ذلك ولا أدري على وجه الدقة ما نوع هذا النشاط، وقد دعاني الأب «م» اليوم أن أصحبه إلى كنيسته، وهي الكنيسة البرزبتيريانية ففعلت … ذهبتُ فإذا بي أرى ما لم أتوقعه في كنيسة؛ إذ رأيت ندوة ملحقة بالكنيسة، وعرفتُ أنها مكان لنشاط اجتماعي كل مساء، وأما مساء السبت فهو خاص بالجنود؛ ففي كولمبيا معسكر كبير للجنود وهم في مرحلة التدريب، فتُوجَّه إليهم الدعوة أن يحضر منهم مَن يحضر إلى ندوة الكنيسة في هذا الموعد، وتُدْعَى طائفة كبيرة من الفتيات ليكون الاجتماع طبيعيًّا مؤلفًا من الجنسين؛ وما هو إلا أن دارت أقراص الحاكي بالموسيقى ودار معها الرقص! وفي الندوة استعداد للألعاب المختلفة كالبنج بونج والشطرنج؛ وكذلك أُعِدَّت مائدة كبيرة عليها القهوة والشاي والكوكاكولا وأنواع الشطائر والفطائر لمن يريد شرابًا أو طعامًا بغير ثمن.
وقال لي الأب «م» وهو يشرح لي أوجه نشاطهم في كنيستهم هذه: إن كثيرًا من الكنائس الأخرى لا توافق على أن نقيم في الكنيسة رقصًا، ولكن كنيستنا لا ترى أبدًا ما يمنع أن يحيا الإنسان حياة مرحة ما دامت حياة شريفة.
الإثنين ١٢ أكتوبر
في المساء ألقيت في النادي الفلسفي محاضرة عن الوضعية المنطقية … إنني أصبحت لا أستريح إلى الدكتور «ف» أستاذ الفلسفة؛ لأن له ملاحظات أشكُّ في أنها تنطوي على قصد طيب؛ فمثلًا أشاع أنني لولا دراستي في إنجلترا لما أبديت الذي أبديته من قدرة، فما كان — في رأيه للناس — أن تُخرج مصر دارسًا مثلي؛ مما اضطرني يومًا أن أعلن في محاضرة قلتها، أنني بخيري وشرِّي صناعةٌ مصرية، ذهبت إلى إنجلترا بعد أن بلغ سني الأربعين وبعد أن أخرجت ستة عشر كتابًا … وكان اليوم له تعليق أثار غيظي لكني كتمت الغيظ في نفسي وناقشته بأعصاب يبدو عليها الهدوء؛ وذلك أنه في المناقشة التي أعقبت محاضرتي في النادي الفلسفي، انتهز فرصة ذِكري لأوجست كونت فقال: إن أوجست كونت لا يظن خيرًا بالمدنية العربية كلها … فأجبته بعد صمت قصير استجمعت فيه هدوئي: أنا لا أعرف أنه قال شيئًا من ذلك، وسأفرض أنه قال فأحكم عليه في هذه النقطة بأنه قد بعُد عن كل روح فلسفي صحيح، فليست المدنية كلمةً تُرسَل إرسالًا بغير حساب، المدنية دين وأدب وفن وحكومة وعلم ونظام عيش وغير ذلك، فكم قرأ أوجست كونت من الديانة الإسلامية ليحكم؟ وكم قرأ من الأدب العربي في أصوله ليحكم؟ وهل درس دقائق الفن العربي وتفصيلات الحكومة العربية ليحكم؟ أم قالها قولةَ مَن لم يدرس ولم يحلِّل؟ إن كان قد فعل ذلك فليس هو بالفيلسوف المسئول في قوله هذا … وبالطبع كنت في ذلك بمثابة مَن يقول إياكِ أعني واسمعي يا جارة؛ فالدكتور «ف» إنما يحتمي بأوجست كونت، لكنه يريد أن يقول هو عن المدنية العربية هذا الحكم، ولو قاله عن دراسةٍ لما كان ثمة ما يدعو إلى لوم، لكن أسباب الدراسة بالطبع لم تتهيأ له؛ لأنه — على الأقل — لا يعرف اللغة العربية ليقرأ أصول المدنية العربية.
إن من أظهر المعالم التي يلاحظها الإنسان في الأمريكيين مما يثير دهشته أول الأمر؛ نسبة الأمريكي نفسه لأصله الأوروبي؛ فكلما أخذت في التحدُّث إلى واحد منهم كان الأرجح أن يذكر لك في حديثه أنه إنجليزي أو إيطالي أو فرنسي … إلخ. فلا غرابة أن تجد في صحافتهم اتجاهًا نحو تقوية «التأمْرُك»، وفي ذلك قرأتُ مقالًا للكاتبة المعروفة لنا بشدة عطفها على الشرق الأوسط «دوروذي تومْسن» تقول فيه: إنهم بحاجة إلى بث الدعاية لروح «التأمرك» هذه في نفوس الأمريكيين؛ فلو فرضنا مثلًا أن حربًا قامت في تشيكوسلوفاكيا — هكذا قالت الكاتبة — فليس من الإنجليز أو الفرنسيين مَنْ يحس أن حربًا قامت في وطنه وبين بني جنسه، أما الأمريكيون فغير ذلك؛ لأن منهم مَن لا يزال إخوته وبنو عمومته هناك، فهو أمريكي بقوميته وجزء من شعوره، لكن الجزء الباقي من شعوره ملتفِتٌ إلى أهله الأولين، وكيف ينسى وهم لا يزالون معه في تراسل وتزاور؟
وقد جمعتني الصدفة على مائدة عشاء بسيدة إيطالية الأصل ورجل إيطالي الأصل كذلك؛ بعد أن عرف كلٌّ منهما الآخر راحا يتحدثان عن إيطاليا بما يدل على شدة حنينهما؛ قالت السيدة: إنها تزور إيطاليا في إجازاتها مرة كل سنتين، فقال إنه كذلك يفعل؛ الرجل صانع لثياب السيدات، وله مصنع به مائة عاملة، فسألته السيدة: كم إيطاليًّا في مصنعك؟ وهي تقصد بالطبع كم عاملًا من أصل إيطالي؟ فقال: كلهم بالطبع إيطاليون؛ وفهمتُ من الحديث أن السيدة مشتركة في جمعية تجمع الإعانة للمشردين من أبناء إيطاليا، وأقامت الجمعية في جهة بإيطاليا بلدًا جديدًا يكون مجالًا لتربية هؤلاء الأبناء … هذان أمريكيان، لكن هل يُعقل أن يخلو من كل عطف على إيطاليا إذا ما نشبت حرب مثلًا بين إيطاليا وأمريكا؟
كل ذلك دعاني إلى التساؤل: هل تكون «أمريكا» أكثر من أرضٍ بها مصالح أهلها، يحبونها بمقدار ما هي مصدر نفع لهم؟ بعبارة أخرى: هل أصبحت أمريكا «وطنًا» لأبنائها بالمعنى الذي يُفْهَم من كلمة «الوطن» في العالم القديم؟
السبت ١٧ أكتوبر
كم نتعجل أحكامنا على الشعوب حين نلقي القول جزافًا بغير سند أو دليل! إن الحكم على رجل واحد هو — عند مَن يحاسب نفسه — أمر عسير، فما بالك بالحكم على شعب قوامه مائة وستون مليونًا من الأنفس؟! فكثيرًا ما سمعت من مصريين زاروا أمريكا قبل أن أزورها أن روابط القربى هنا ضعيفة، حتى ليكاد الوالد يهمل ولده والولد يتنكر لوالده؛ لكنني لم أشهد علامة واحدة تدل على ذلك، بل كل ما شهدته دليل ناهض على أن روابط الأسرة قوية متينة … أقول هذا بمناسبة ما رأيته اليوم في جريدة الصباح؛ إذ رأيت صورة لوالد يجلس على مقعد في الطريق، والمقعد موضوع بحيث ينظر الرجل من نافذة بناء إلى جواره — والبناء هو مستشفى — فيرى ولده المريض وهو على سريره في المستشفى؛ وقالت الصحيفة: إن الرجل قد لبث — حتى صدور صحيفة هذا الصباح — يومين كاملين في جلسته تلك ناظرًا إلى ابنه لا يتحوَّل عنه، وسُئل الوالد: ماذا يدعوك إلى هذا العناء كله؟ إنك قد تعرِّض نفسك للأذى بهذا الجلوس في العراء ليلًا ونهارًا، فبكى الرجل وقال: قال لي فلان (وهو ابنه) حين جِيء به إلى هنا: «ابقَ معي يا أبي» فلا يسعني سوى البقاء إلى جانبه كما أرادني أن أفعل، وإذا كان مقامي إلى جواره في المستشفى متعذرًا فأقرب نقطة إليه هي هذا المكان من الشارع بالقرب من نافذة غرفته؛ قيل له: لكنك بحاجة إلى النوم والراحة بعد يومين كاملين لبثت فيهما جالسًا على هذا النحو المضني! فأجاب: ليس بي أقل رغبة في نوم …
أهذه مشاعر أب يعيش في شعب لا يعبأ بالعواطف الأبوية؟
دعاني مستر «ﻫ» إلى مصاحبته في رحلة إلى الريف لنقضي عطلة الأسبوع، وحدَّد لي موعدًا في الساعة الواحدة أمام متحف الفنون. لم أكن قد رأيت هذا الرجل العجيب، إنما تم التعارف بالتلفون؛ فلما جاء الموعد رأيتني إزاء رجل في الخامسة والستين ممتلئًا بالحيوية والنشاط، لا تمضي عليه دقيقة واحدة دون أن يضحك من كل قلبه؛ تظهر عليه البساطة الشديدة في حديثه وثيابه ونكاته، لكنك لا تلبث أن تنفذ ببصرك إلى قلبه فترى قلبًا مليئًا بالهموم، وقد ظن أن الضحكات المتوالية قادرات على إزالة همومه … رحَّب بي ترحيبًا كريمًا، ودخل بي إلى متحف الفنون من بابه الخلفي الخاص بموظفي المتحف، وصاح بأعلى صوت: أين هؤلاء البنات؟! فعجبت أول الأمر أن أراه يستبيح هذا الصياح في مكان كهذا؛ لأنني لم أكن أعلم على وجه الدقة مع أي رجل أنا الآن … أجابه الدكتور «ك» (وهو مدير المتحف) من داخل المتحف صائحًا بعبارة لم أتبينها؛ فعاد مستر «ﻫ» إلى صياحه: لا، أنا لا أريدك أنت ولا أسعى إلى رؤيتك، فما لك من قيمة عندي، إنما أردت البنات! وكنا في هذه اللحظة قد بلغنا مكتب الدكتور «ك» مدير المتحف، فسلَّمْنا، وعندئذٍ جاءت فتاة فصاح صديقنا «ﻫ»: «أهلًا»، وقال: ها هي ذي «م»؛ تعالي يا «م» فهذا هو ضيفنا الدكتور محمود جاءنا من مصر، سيصحبنا في رحلة اليوم … و«م» هذه فتاة في الثالثة والعشرين، تحمل درجة في الفنون الجميلة، وتعمل في المتحف، وفنُّها هو زخرفة الخزف؛ وهي وسط في جمالها، مليئة الجسم نوعًا، لو قيل لي إنها مصرية لصدَّقْت؛ لأنها تشبه مصريات كثيرات في بشرتها وسواد عينيها؛ ودقائق قليلة جدًّا تكفيك أن تعلم كم بلغت «م» من قوة الشخصية والثقة بالنفس؛ فهي تنظر إلينا نحن الكهول بالنسبة لها، وتحدثنا كأنها تنظر وتتحدث إلى صغار! صوتها واضح، وتعبيرها واضح؛ لا يغرها أنها تعلم، ولا يخجلها أنها تجهل.
خرجنا من المتحف نحن الثلاثة: فتاتنا «م» ومستر «ﻫ» وأنا، وركبنا سيارة «ﻫ»، وبعد قليل وقفت بنا السيارة أمام منزل في الطريق، فنزلت «م» صامتة، وعادت ومعها سيدة عمرها بين الخمسين والستين، هي السيدة «ب»، فسلَّمْنا وتعرَّفنا؛ وقد عرفت أنها مديرة المطبعة في الجامعة؛ فهي المسئولة عن كل ما تخرجه الجامعة من مطبوع ومنشور؛ والسيدة «ب» هي الزميلة الرابعة في رحلتنا اليوم.
لست أدري في الحقيقة ماذا أقول وماذا أدَعُ من ألوف التفصيلات التي انطبعت في ذهني من هذه الرحلة؛ ولذلك فإني سأترك القلم يكتب ما يطفو على سطح الذاكرة من تفصيلات؛ وأول ما أبدأ به هو شخصية هذا الرجل العجيب مستر «ﻫ» أمرح مخلوق على ظهر الأرض؛ يستحيل أن ترافقه دقيقة واحدة دون أن ينفُضَ عنك الخجل ويدفعك إلى الضحك وإلى المرح دفعًا؛ إنه لا ينقطع عن الصياح والزئاط كأنه الطفل الصغير يلعب على شاطئ البحر في الرمل والماء؛ وهو من أغنياء المنطقة، ويعتز بأسرته التي هبط منها؛ فهو وحده الآن يملك نحو ستين ألفًا من الفدادين، ويدير عملًا واسعًا في كولمبيا؛ ثم هو فوق ذلك محامٍ وعضو في مجلس شيوخ الولاية ومشهور في الناس.
جلست إلى جانبه في السيارة، وجلست السيدة «ب» والآنسة «م» في المقعد الخلفي، وهو ترتيب يخالف التقاليد؛ إذ كان ينبغي أن تجلس سيدة في المقعد الأمامي، لكنهم اتفقوا على ذلك لتتاح لي فرصة الرؤية الكاملة، والاستماع إلى ما يقوله مستر «ﻫ» تعليقًا على مشاهدات الطريق.
أشار إلى شجرة تحتها صخرة، وقال: إن لهذه الصخرة قصة محزنة؛ ففي الحرب الأولى فقدت أمٌّ ابنَها وجاءها خبر موته؛ فلم تلبث أن مسَّها الجنون، وصوَّر لها جنونها أن قد جاءها من ولدها خطاب يقول لها فيه إنه آتٍ إليها في الطريق راكبًا إحدى السيارات العامة؛ ولذلك فهي تنتظر قدوم تلك السيارة العامة التي تحمل ولدها؛ تنتظرها يومًا بعد يوم، وقد ظلت خمسة عشر عامًا لا تنقطع يومًا واحدًا عن المجيء إلى هذه الصخرة، والجلوس طول النهار حتى مغرب الشمس؛ معها قليل من طعام، وإبرة وخيط؛ وكلما مرَّ بها إنسان في الطريق، قالت له: «إنني أنتظر ولدي، إنه قادم في سيارة عامة، كتب إليَّ يقول هذا …» إنني أكتب هذه القصة دليلًا على الأواصر العاطفية الشديدة التي تشد قلوب الأسرة الواحدة بعضها إلى بعض؛ فليس الأمريكيون كما يقول عنهم الناس قومًا في صدورهم قلوب من حجر، يعبدون «الدولار» وحده ويسبِّحون بحمده!
في تاريخ هذه الولاية — ولاية كارولاينا الجنوبية — قائد مشهور اسمه ماريون، تراه مخلَّدًا في التماثيل، ومذكورًا في أسماء الشوارع، ويُطلق اسمه على بحيرة كبيرة … وقد مررنا على مزرعة كبيرة، فقال مستر «ﻫ»: إنها مزرعة كانت لأسرة ماريون، ورثها الولد الأكبر حسب قانون الوراثة السائد عندنا؛ وكان القائد ماريون هو الولد الثاني في أسرته، فلم يرث شيئًا، ولولا ذلك لما خرج للحرب واشتهر. ثم أخذ مستر «ﻫ» يدافع عن ذلك النظام في الوراثة على أساس أنه من جهةٍ يحافظ على مُلْك الأسرة فلا يتجزأ؛ ومن جهةٍ ثانية يهيئ فرصة الظهور في الميادين الأخرى أمام الأبناء الآخرين؛ وكان موفَّقًا في ضرب الأمثلة من أسرات كثيرة، ذاكرًا أسماء رجال اشتهروا لأنهم كانوا الأبناء الثواني أو الثوالث، فخرجوا يسعون في الأرض عملًا وإنتاجًا وذيوع صوت … لكن هذا النظام قد تغيَّر الآن هنا، وأصبح الميراث قسمة متساوية بين جميع الأبناء.
الطريق كله — وقد قطعنا طريقًا يقرب من المسافة بين القاهرة إلى الإسكندرية قاصدين إلى خزانٍ على بحيرةٍ اسمه خزان سانتي كوبر — الطريق كله خضرة وأشجار باسقة؛ ومررنا بحقولٍ مزروعة قطنًا وقصبًا؛ فهذه ولاية تزرع قطنًا وتنافس مصر في قطنها، لكن شتان بين قطن وقطن؛ فالنظرة السطحية تدلني — ولا أستطيع أن أنظر إلا هذه النظرة السطحية السريعة؛ لأنني قليل الخبرة بالزراعة — تدلني على أن قُطنَهم ظاهر الضعف بالنسبة إلى قطننا؛ فلستَ ترى حقل القطن وقد نضجت ثماره غزيرةَ المحصول غزارةَ القطن المصري، والأرض حمراء كأنها مغطاة بمسحوق الطوب الأحمر.
وصلنا بالسيارة إلى بابٍ خشبي يعترض الطريق، مفتاحه مع مستر «ﻫ»، وهو إذا ما انفتح دخل الداخل في غابةٍ كثيفة الشجر؛ وطلب مستر «ﻫ» من الآنسة «م» أن تفتح الباب وقد ناولها المفتاح؛ فهممتُ أنا أن أفعل ذلك لأوفر على الآنسة عناء النزول، فقال لي مستر «ﻫ» ضاحكًا مازحًا: اسمع مني الرأي؛ فأنا أكبر منك وأخْبَر بالنساء، يُخيَّل إليَّ أنك قليل الخبرة بهن؛ فها أنت ذا قد أحضرتَ معك صندوقًا من الشكولاتة، وأخذتَ توزِّع على هاتين المرأتين من حَلْواك طول الطريق، ظانًّا أن الحلوى تكسب النساء، لكن كسب النساء له طريق واحد، وهو إذلالهن بالعمل، وأنا أحب تشغيل النساء بما أكلفهن من أعمال يؤدينها … والتفت إلى «م» وقال في لهجة الجِدِّ المصطنع: «م» انزلي وافتحي الباب! ونزلت «م» وضحك الجميع.
دخلنا إلى طريقٍ ضيق يشق الغابة الكثيفة، ووقفنا عند بيت في قلب الغابة كان على شُرْفته سيدة متقدمة في السن نوعًا ما، اسمها «س»، وفتاة وفتى وطفل صغير؛ فتصوَّر هذا الرجلَ المَرِح كيف دخل البيت صائحًا مهلِّلًا، يمسك هذه ويقبِّل تلك ويرحِّب بهذا؛ جلسنا على الشرفة نضحك كلنا لكل لفظة يقولها «ﻫ» ولكل حركة يتحركها، وأتوا لنا بأكواب الشراب؛ وبينا نحن جلوس استعادوني النطق باسمي؛ فلفظة «محمود» صعبة جدًّا عليهم أن ينطقوها، فما هو إلا أن أخرج مستر «ﻫ» من جيبه حزمة من قصاصات؛ واسمي مكتوب على كل قصاصة منها! وبعثرها بين الجالسين قائلًا: هاكم! توقَّعت أن يسألني كثيرون أثناء الرحلة عن اسم الدكتور محمود، فطلبت من سكرتيرتي أن تدق اسمه على آلة الكتابة في عشرين أو ثلاثين صورة؛ فكلما سألني سائل عن اسمه أخرجت له واحدة من هذه القصاصات … أضحكني هذا المنظر … عرفت أن السيدة «س» هي صديقته، والفتاة هي ابنتها، والفتى هو زوج ابنتها، وهو فنان يشتغل في متحف كولمبيا مع الآنسة «م».
قال مستر «ﻫ» هلموا بنا لعلنا ندرك ساعة من ضوء النهار نستحم فيها في البحيرة، والظاهر أنه خَلَقَ هذا العذر لنترك هذه الدار ونقصد إلى أكشاكه الخشبية على شاطئ البحيرة؛ حيث سنبيت الليل، لكن أصحاب الدار دعونا على العشاء، وطلبوا منا أن نذهب لنعود إليهم في الساعة السابعة.
ذهبنا إلى مكان منعزل على شاطئ البحيرة، فيه نحو ستة أكشاك خشبية، فيها كل ما يتصوره الإنسان من أسباب الراحة؛ لكن هذه الأشياء مهوشة الترتيب إلى درجة تضحك؛ فلو تعمَّد إنسان أن يضع الأثاث في خلط وهرجلة لما عرف كيف يبلغ هذه الدرجة منهما؛ لكنك تجد كل ما تريد: آلات التبريد وآلات التدفئة لا عدد لها، وأطباق وأوانٍ وطعام إلخ … إلخ؛ خصَّص كشكًا للسيدتين، وآخَر لي، وكان له هو كشك كبير أقرب إلى المنزل الصغير، فيه غرفة الطعام والمطبخ وشرفة للجلوس وغرفة للكتب. إن الزائر لا يملك سوى أن يضحك ضحكًا متواصلًا لما يراه في منزل مستر «ﻫ» هناك؛ لأنه يجمع فيه أشياء عجيبة، يضعها على المناضد ويعلِّقها على الجدران؛ فلا بأس عنده مثلًا من أن يضع قطعة من الحديد الصدئ، أو يعلق حذاءً باليًا على الجدار! ومن هذه الأشياء ترى، لا أقول مئات، بل ألوفًا، كأنما منزله هذا دكان يبيع منوعات قديمة! وهو يضحك معك على نفسه، ويقول: إنه يجمع معظم هذه الأشياء من أكوام القمامة.
جاء وقت العَشاء فذهبنا إلى منزل الأسرة الداعية، والمنزل من الداخل آية من آيات الفن وحسن الذوق في بساطة: هدوء وعزلة في قلب الغابة، كأنما أنت في محراب راهب عابد، والأضواء في غرفة الجلوس وغرفة الطعام خافتة توحي بالاسترسال في حُلم جميل، وعلى مائدة الطعام وضعوا الشموع، وبدأنا طعامنا بالصلاة — كما هي العادة التي لم تشذ مرة واحدة على أية مائدة شهدتها — وكان معظم الحديث معي أولًا عن الفلسفة واتجاهاتها، ثم عن الفن المصري القديم، يسألونني عنه في خبرة وفي دقة؛ لأن بيننا اثنين من دارسي الفن، وحسبوني ملمًّا بدقائق الفن المصري ما دمتُ مصريًّا، وعلى كل حال فقد وفقني الله في إجابة معظم ما وجهَّوه إليَّ من أسئلة في هذا الباب.
عدنا بعد العشاء إلى أكشاكنا على شاطئ البحيرة، مارِّين بأقرب مدينة لنشتري طعامًا للغد، مستر «ﻫ» معروف للناس جميعًا، يقابلونه بالترحاب والتكريم، قال لي صاحب الدكان الذي وقفنا فيه نشتري حاجاتنا: إن مستر «ﻫ» هذا رجل عجيب، يحب صرف ماله على الناس، لا تراه في أي مكان أو في أي بلد إلا ومعه جماعة من ضيوف؛ إنه ثريٌّ كثير الكسب لكنه كثيرًا ما يقول — وهو ينفذ ما يقوله: إن المال إنما كُسِبَ ليُصْرَف. ولما تركنا الدكان قال لي مستر «ﻫ»: هل رأيت هذا التاجر؟ إنه قاتل! قتل على الأقل خمسة أشخاص، ومع ذلك لم تثبت عليه جريمة، كان فقيرًا معدمًا، وكسب من جرائمه مبلغًا لا يقل عن نصف مليون دولار، وبدأ تجارته هذه واطرد نجاحه وأصبح ذا اسم في المجتمع … ثم سكت مستر «ﻫ» قليلًا وقال: أليس هذا من سخرية القَدَر ومضحكاته ومحزناته معًا؟
جلسنا العشية في شرفة مستر «ﻫ»؛ الظلام ضارب من حولنا فلا نعرف البحيرة القريبة منا إلا من أصوات موجها، واستأنفنا الحديث الذي بدأناه في منزل السيدة «س» عن الفن، إلا أنه الآن حديث عن الفن المعاصر، وكان «ﻫ» والسيدة «ب» يعارضان — في تهكم — ألوان الفن المعاصر، وانطلقتُ مدافعًا في حرارة كأنما أنا واحد من هؤلاء الفنانين المعاصرين، وظلت الآنسة «م» صامتة لا تنطق إلا بالقليل حينًا بعد حين … لم أكن أدري أن حديثي في الفن قد غزا قلب «م» غزوًا، وأصبحتْ تنظر إليَّ نظرة الإعجاب الشديد، وتتلمس من شفتي كل كلمة أقولها، وما أكثر ما يكون الحب عند هؤلاء الناس قائمًا على مثل هذا الإعجاب!
إنني كلما ازددت معرفة بمستر «ﻫ» عرفتُ أنه عالَم بأسره، عالَم غريب، قال لي: كان لأبي مكتبة كبيرة وفيها كتب ذات قيمة أثرية عظيمة، ويكفي أن تعرف أن كتابًا واحدًا عُرِضَ لي فيه عشرة آلاف دولار، ومع ذلك رفضتُ بيعه، وأهديتُ المكتبة بأسرها إلى جامعة كارولاينا الجنوبية؛ وكذلك ترك أبي وجدي صورًا فنية ذات قيمة عظيمة — أخذ يذكر بعضها بالاسم — فأهديتها إلى متحف الفن بكولمبيا، وهي هناك الآن تملأ أكثر من غرفة (ومن هنا أدركت سر دالَّته على المتحف وأهله) … ثم أضاف قائلًا: إنني رجل صريح مع نفسي؛ إنني لا أميل ميلًا حقيقيًّا إلى الكتب أو الصور، فلماذا أبقيها في داري غير منتفع بها؟ لماذا لا أمتِّع بها أكبر عدد ممكن من الناس؟ كانت زوجتي تختلف معي في النزعة؛ فهي تميل إلى الأرستقراطية والظهور، وأما أنا فرجل بسيط، أريد أن أعيش كما تريدني طبيعتي أن أعيش، لا تكلُّف ولا تصنُّع.
أردنا ونحن جلوس في الشرفة أن نشرب القهوة، فكان لا بد أن يقوم بإعدادها أحدنا وأن يتعهد بغسل الأقداح آخَر؛ فألححتُ في أن أشترك في هذا أو في ذاك، فقال مستر «ﻫ» مازحًا: بالله لا تتلف علينا النساء بأدبك، أنت وأنا رجلان، مهمتنا أن نجلس هنا في الشرفة نشرب الشراب وندخن السيجار، وأما هاتان فامرأتان تؤديان لنا واجب الخدمة في ولاء، أليس كذلك يا بنات؟ فتجيب السيدتان في ضحك: ألَّا شك في ذلك.
وسأل مستر «ﻫ»: مَنْ ذا يقوم غدًا بإعداد الإفطار؟ فعرضتْ كلٌّ من السيدتين أن تقوم بهذه المهمة، فينظر إليَّ مستر «ﻫ» ضاحكًا وهو يقول بمرحه المعهود: هل رأيت؟ اقعد مستريح البال، أنت وأنا رجلان، نشرب وندخن السيجار، وهما تطهيان لنا وتغسلان الأطباق والأقداح، هيا يا بنات!
الأحد ١٨ أكتوبر
أقرب قرية إلى مكان أكواخنا الخشبية هي قرية بنوبولس، وباسمها يُعْرَف المكان، والذاهب إلى الأكواخ على شاطئ البحيرة يمر بمكتب بريد ريفي قديم يقع على حافة الغابة التي نتخللها لنصل إلى البحيرة، فكلما مررنا بالسيارة أمام هذا المكتب في جولاتنا، أشار مستر «ﻫ» إلى مكتب البريد ضاحكًا ضحكًا عاليًا وقال: صندوق الخطابات هنا فَتْحَتُه عمودية (العادة طبعًا أن تكون فتحة الصندوق أفقية) هذه الحقيقة البسيطة يقولها مستر «ﻫ» كلما مررنا هناك، وفي كل مرة يضحك ضحكًا عاليًا، لا يمل من التكرار، ولا ينقطع عن الضحك في كل مرة كأنه في كل مرة يكشف كشفًا جديدًا؛ وهذا كله دال على بساطة نفسه وعدم التعقُّد في نفسيته، والحق أني أصبحت الآن أَمْيَلَ إلى وصف الشعب الأمريكي كله بهذه الصفة، وهي انطلاقه انطلاقًا حرًّا في التعبير عن نفسه (ذلك بالطبع إذ نصف جاز أن شعبًا بصفة من الصفات)؛ الأمريكي ذو نفس شفافة أقرب إلى نفس الطفل في شفافيتها، ليس فيها القيود الداخلية التي تمنعه من القول والسلوك على نحوٍّ حر طليق يعبِّر عن فردية الفرد إلى أقصى حدٍّ مستطاع في مجتمع؛ لا غرابة أن يلبس رئيس جمهوريتهم قميصًا مشجَّرًا ملوَّنًا، ولا غرابة في أن يضحك مستر «ﻫ» لما هو تافه في نظر المأزوم من الوجهة النفسية، الذي يُلجِم نفسه عن المرح والضحك إلى أن تهتز له الأرض وما عليها من أثقال!
أعدت لنا السيدتان «ب» و«م» طعام الإفطار، فلما جلسنا على المائدة طلب مني مستر «ﻫ» أن أصلي صلاة الطعام على طريقتنا، والصلاة المقصودة دعاء بأن يديم الله نعماءه وبركاته؛ فتمتمت بالبسملة … بدءُ الأكل بالدعاء أمرٌ لا بد منه حتى عند مستر «ﻫ» الذي يُخيَّل إليك أنْ قد خلا قلبه من كل إيمان!
وأبدت الآنسة «م» رغبتها في سباحة وتجديف، فأسرعنا بسيارة مستر «ﻫ» إلى منزل صغير في جوف الغابة، يسكنه الحارس على أملاك مستر «ﻫ» في هذه المنطقة؛ ليطلب إليه أن يجيء إلى البحيرة بقارب، وقال لنا مستر «ﻫ» عن هذا الرجل إنه مكثار في العيال؛ فله في كل عام مولود جديد، تعالوا نسأل الرجل وزوجته كيف يستطيعان إنشاء مولود جديد في كل عام … يقول ذلك مستر «ﻫ» مرة بعد مرة، ضاحكًا فَرِحًا مَرِحًا … وما هو إلا أن جاء إلى شاطئ البحيرة هذا الحارس في سيارة نقل كبيرة تحمل القارب المطلوب، وجلستْ إلى جانبه زوجته وطفلان من أطفاله الكثيرين.
وفي الضحى ذهبنا إلى محطة توليد الكهرباء المقامة بين البحيرتين؛ مشروع جبار، فقد رفعوا مستوى الماء في إحدى البحيرتين بطرق صناعية؛ ليصبَّ ماؤها في البحيرة الأخرى متدفقًا مولِّدًا الكهرباء … أخذ المهندسون يشرحون لنا ما يستحيل على مثلي أن يفهمه، حتى لقد قالت السيدة «ب»: إني والله لأعجب أن يكون في الدنيا إنسان واحد يفهم عنهم هذه الأشياء التي يشرحونها!
الحق أني قد امتلأتُ بشعور حقيقي لا تكلُّف فيه، أنني واحد من فئة لا فائدة منها، وأعني أولئك الذين قضوا حياتهم في دراساتٍ نظرية لا تُشبِع جائعًا، ولا تكسو عاريًا، ولا تتقدم بها الدنيا قيد أنملة أو تتأخر قيد أنملة. أنظر إلى هذه الأنابيب التي تلتوي على بعضها كأنها أمعاء حيوان ضخم، وإلى هذه المصابيح، وهذه المفاتيح، وهذا الصوت الذي يطنُّ في جنبات المكان، وإني لأقول لنفسي إذ أرى وأسمع: أي مجنون في الدنيا يرى هذه الأشياء تُصنع وتُقام، يصنعها العقل البشري، ثم يختار لحياته أن تُقْضَى في تحليلات لفظية وشطحات خيالية نظرية كما أقضي حياتي؟! كان المهندسون كلهم شبانًا صغارًا، ومع ذلك أنبأني مستر «ﻫ» أن أقل راتب للواحد منهم هو ثلاثون دولارًا في اليوم؛ أي نحو اثني عشر جنيهًا أو يزيد!
كان مستر «ﻫ» موضع احترام الناس هناك؛ فهو رئيس المشروع، يعرف عنه كل شيء على الرغم من أنه محامٍ درسَ القانون ولم يدرس هندسة؛ جاءه مهندس وعرَّفه بنفسه قائلًا: ألا تذكرني يا مستر «ﻫ»؟ أنا الذي جئتك في مكتبك بنيويورك عام كذا؛ لتوقِّع لي على إذنِ الصرف؛ صرف مليون ونصف من الدولارات لهذا المشروع؛ أتدري يا مستر «ﻫ» ماذا كنتُ أقول لنفسي وأنت توقِّع الأوراق؟ كنت أقول: توقيع هذا الرجل الذي أمامي يساوي ملايين الدولارات، فهل يأتي يوم أرى فيه توقيعي بمثل هذه القيمة؟ وجعلت ذلك منذ ساعتئذٍ أملي ومُرتجاي … وأخذ مستر «ﻫ» يحكي لنا كيف استغرق التوقيع يومًا بأكمله من الصباح إلى المساء؛ إذ كان لا بد من توقيع كذا ألفًا من الأوراق، ومن كل ورقة اثنتا عشرة نسخة، فكان يستخدم لذلك قلمًا كهربائيًّا، إذا أماله في يده مال معه اثنا عشر قلمًا أخرى بطريقة آلية، وإذا وقَّع على ورقة بالقلم الذي في يده، وقَّعت بقية الأقلام على بقية النسخ بصورة آلية.
خرجنا من محطة توليد الكهرباء، فقلت وأنا أزفر زفرة المتحسِّر: ما أتفه دراستي أمام هذه المنشئات العظيمة! فقالت لي السيدة «ب»: أنا لا أوافقك؛ فدراستنا إنسانية، وبغير مشاعر الإنسان لا تساوي هذه المنشئات شيئًا، فلولا أن النساء قد أحببن الماس لصار الماس حجرًا خسيسًا.
كثيرون وقفوا بقواربهم يصطادون السمك قرب السد الذي يفصل البحيرتين؛ فالسمك كثير جدًّا هناك، تراه جماعات جماعات قرب سطح الماء؛ وقفنا ننظر، ولكن ما أبعد الفرق بين نظر ونظر! فرجل كمستر «ﻫ» يرى حين ينظر، أما أنا فأنظر ولا أرى! فمثلًا يهبط طائر أبيض يطير هابطًا صاعدًا، أما عند مستر «ﻫ» فهو الطائر الفلاني، ينزل ليتلقط السمك الصغير ويطير به مسرعًا، وأنظر إلى السمك يتلوَّى قريبًا من سطح الماء، فلا يزيد هذا المنظر في عيني على ذلك، أما عند مستر «ﻫ» فهو سمكة من النوع الفلاني قد التقمت سمكةً من النوع الفلاني، ثم يضيف قائلًا: إن السمكة الآكلة تعرف كيف تأكل فريستها؛ فهي تبدأ بالرأس لا بالذيل، حتى تقضم الرأس فتقضي على المقاومة، ولا تتعرَّض لضربات الذيل داخل حلقها.
عُدْنا إلى أكواخنا الخشبية في مكانها الهادئ على البحيرة، ورأيت في الطريق عددًا كبيرًا من السيارات التي تجر وراءها قوارب الصيد، فترى صاحب السيارة قد انطلق ووراءه قارب مركَّب على عَجلٍ كعجل السيارة نفسها، قاصدًا إلى حيث يصيد السمك في عطلة الأسبوع. ولما لمحتُ سيارة تقودها فتاة وحدها، وتجر وراءها قاربًا مشدودًا إلى سيارتها، قلتُ لنفسي: ما شاء الله كان! فهي صاحبة سيارة أولًا؛ وتعرف كيف تقودها ثانيًا؛ وثالثًا لها قارب؛ ورابعًا تعرف كيف تشد القارب إلى السيارة؛ وخامسًا تعرف على الأقل رياضة واحدة من سباحة أو سماكة أو تجديف؛ وسادسًا هي فتاة وحدها فلا حارس ولا رقيب … وعلَّقتُ على ذلك لنفسي قائلًا: هذه هي المدنية الغربية متمثلة في فتاة.
قالت السيدة «ب» تعليقًا على كثرة السيارات في الطريق: إن عدد السيارات يزداد ازديادًا شديدًا؛ فأجابها مستر «ﻫ» بأن أمريكا رغم ذلك لا يزال أمامها في هذا المضمار طريق طويل حتى تنتج لكل فرد سيارة، فبينما الإنتاج الآن هو سيارة واحدة كل خمس ثوان؛ (أي ٢٨٨ سيارة في اليوم) فإنها تنسل من السكان سبعة آلاف كل يوم.
همُّوا أن يسبحوا في البحيرة، ووزَّع علينا مستر «ﻫ» أردية السباحة، فقلت: إني لا أسبح، وسأقف لكم على الشاطئ أنظر … فانفجر مستر «ﻫ» ضاحكًا وراح يبلِّغ هذه النكتة الكبرى لزميلتينا «ب» و«م» كأنما هي أعجوبة من أعاجيب البشر!
لو استرسلتُ في تفصيلات الرحلة لما انتهيت من وصفها، حسبي ذلك منها.
وبدأنا طريق العودة عصرًا، وبينا نحن عائدون انعرج بنا في الطريق مستر «ﻫ» إلى جوف الغابة في موضعٍ ما، فسألناه: إلى أين؟ قال: زرعتُ شجرة جوز هنا في التاريخ الفلاني، وأرعاها كلما مررت في هذا الطريق؛ ونزلنا عند الشجرة، فراح يقلِّمها هنا ويهذِّبها هناك، وقال: إن أحبَّ شيء إليَّ أن أزرع شجرة في هذا الموضع، وأخرى في ذلك الموضع من المواضع التي أرتادها في رحلاتي، محاولًا أن أحصل على أكبر جوز في الولاية؛ سألتْه السيدة «ب»: فيمَ هذا التقليم والتشذيب؟ لماذا قطعت كل هذه الفروع؟ فأجابها: لكي تركز الشجرة جهدها كله في تكبير الثمار بدل أن تنفق عصارتها في تغذية فروعٍ لا فائدة منها؛ وكذلك نزلنا في موضع آخَر يجاوره منزل وحيد على حافة الغابة، زرع به شجرة أخرى؛ فراح مستر «ﻫ» يقلِّم الفروع وينادي سكان المنزل بأعلى صوت، فخرج الرجل وزوجته ورحَّبا بنا … هنا كان بعض الجوز ساقطًا على الأرض، فالتقطه مستر «ﻫ» وهو يصيح في مرحٍ ليس بعده مرح، كأنه الطفل الصغير في فرحته بلعبة جديدة، وأخذ يناول كلًّا منا جوزة أو جوزتين مما التقط، ويصيح: قولوا بصراحة أيها الأصدقاء، ما رأيكم في هذا الجوز العجيب؟ فقال قائل: ما ألذ! وقال آخر: ما أروع … مَنْ ذا يلومني إذا أحسست عندئذٍ بالحسرة العميقة حين قارنتُ تربيتي بتربية رجل كهذا؟ أي نوع من البشر أنا؟ وأي نوع من النشأة نشأتُ؟ بماذا أزيد على البهيمة غُذِّيَت لتنمو ثم تموت إذا جاءها الأجل؟ إنه بغير هذا الشغف بالحياة فلا حياة؛ بل إنه بغير هذه الرغبة في استطلاع الطبيعة والقدرة النفسية على الدهشة والتعجب لكل ما تبديه الطبيعة من كائنات، فلا ثقافة؛ فليس المثقف مكتبة متنقلة خُزنت في جمجمة الرأس، إنما المثقف رجل حي يقف من الدنيا وقفة المشترك في تطوُّرها ونموِّها، والمستطلع لسرها وخبيئها.
الإثنين ١٩ أكتوبر
في صحيفة اليوم حادث له غرابته: ذهب طالب في الجامعة أمس ساعة الغروب إلى منزله، وضرب أمه حتى قتلها؛ ثم أخذ السيارة وذهب بأعصابٍ باردة هادئة إلى أبيه في مكان عمله، زاعمًا أنه إنما أراد أن يعود به إلى المنزل في السيارة كأنه الابن المشتاق؛ لكنه يضمر عزمًا أن يقتل أباه؛ وكان أبوه — بمصادفة عجيبة — مطلوبًا في قسم البوليس لأداء الشهادة في حادثٍ ما، فَعَرَج الابن بأبيه على قسم البوليس، بل واستطاع الابن بأعصابه الحديدية أن يستخدم تلفون البوليس ليقول لأحد أصدقائه — الذي كان معه على موعد يذهبان فيه إلى السينما: إنه قد يتأخر قليلًا عن موعده، لكنه ذاهب معه لا محالة فلينتظره، وأخيرًا صحب الوالد ولده إلى الدار، والوالد لا يدري من الأمر شيئًا؛ ودبَّر الولد أن يدخل بأبيه من الباب الخلفي حتى لا يمر بالغرفة الملقاة فيها جثة أمه القتيل؛ ولم يكد الوالد والولد يدخلان حتى انهال الولد على والده ضربًا فأفقده النطق، ولم يستطِع الإجهاز عليه؛ لأن الجيران أحسُّوا حركة فجاءوا يستطلعون الأمر فوجدوا ما وجدوا … والعجيب أن قد سُئل زملاء الطالب في الجامعة، فأجمعوا على أنه كان من أهدأ الطلاب خلقًا وأطيبهم سلوكًا! فكم في هذه الدنيا من مآسٍ لا يعلم الدوافع إليها إلا الله وإلا علماء النفس إن أراد الله لعلم النفس أن يكون علمًا يُركَن إلى أحكامه ونتائجه.
دعاني مستر «ﻫ» أن أذهب إلى لقائه مساءً في فندق كولمبيا، ولم أدْرِ لماذا ولا إلى أين نذهب، لكني أحببت هذا الرجل الذي يشيع في نفسي قبسًا من مرحه كلما التقيتُ به، فاستقبلني في بهو الفندق بحفاوة، وراح كمألوفِ عهده يضحك ويصيح لا يأبه إن كان في الفندق ناس أو قِطَع من الحجارة! وكان في وسط البهو امرأة جالسة في نحو الأربعين من عمرها، لكنها على درجة عالية من الجمال؛ فأخذني ودنا منها وقال: إنني يا سيدتي لا أعرفك لكني مع ذلك أريد أن أقدِّم لك هذا الضيف من مصر؛ ثم قال لها: إني أُرجِّح أنكِ قد جئتِ إلى كولمبيا في اجتماع القساوسة الذي ينعقد الليلة؛ لأني رأيتك في صحبة قسيس، فقالت: نعم، هذا القسيس هو زوجي جئتُ معه؛ فأجابها مازحًا: لا شأن لي إن كان زوجك أو أخاك، إنما شأني هو أنكِ رائعة الجمال.
وما هي إلا أن صعدنا السلم إلى غرفةٍ فسيحة صُفَّت بها الموائد، فعرفتُ عندئذٍ أنه احتفالٌ يقيمه نادٍ اجتماعي شبيه جدًّا بنادي الرواد عندنا في مصر، مهمة أعضائه: الخدمة الاجتماعية، والغاية من الاحتفال أن يقدِّم الأعضاء زوجاتهم حتى يعرف الجميع بعضهم بعضًا، وصاحبي مستر «ﻫ» مدعوٌّ ليكون خطيب الحفلة، فطلب من الداعين أن يعدوا لي مقعدًا بجواره، وقدمني إلى أعضاء النادي … وجاء دور أخينا مستر «ﻫ» ليقول كلمته فهزَّ القاعةَ هزًّا بالضحك؛ فهو ظريف الملاحظة في فكاهة مستملحة، أراد أن يقول للحاضرين كم تغيرت مدينة كولمبيا عن ذي قبل، فوضع هذا المعنى في أسلوب فكاهي يثير الضحك؛ إذ قال: تغيرت الدنيا في هذا البلد تغيرًا عجيبًا أيها الإخوان؛ فقد كانت العادة أيام طفولتي أن يأكل الأطفال أجنحة الدجاج وأرجله، أما صدورها فللكبار، فلما كبرتُ فرحت لأنني كنت أرتقب العهد الذي أكون فيه من أكلة الصدور، لكن شاء لي الحظ الأنكد أن يذيع رجال الطب في الناس أن الأطفال يجب أن يُعطَوا صدور الدجاج ليتغذوا غذاءً جيدًا، وحسْبُ الكبار أجنحة وأرجل؛ وإذَن فقد ضاعت فرصتي في العهدين معًا! … تغيرت الدنيا يا إخواني، وإني لأدرك مدى التغيُّر عن عهد طفولتي حين أقف على ناصية الطريق يوم ريح، فعندئذٍ أرى النساء مشغولات بإمساك الشعر على رءوسهن مخافة أن يختلط ويضيع تصفيفه، وللريح بعد ذلك أن ترفع عنهن الثياب ما شاءت فينكشف من أفخاذهن ما ينكشف، وأما في عهد طفولتي فقد كانت المرأة يوم الريح العاصف تمسك بثوبها بين ركبتيها اتقاءً للعري، وليحدث لشعر رأسها بعد ذلك ما يحدث … وهكذا وهكذا.
إن الإنسان ليكسب قلوب الناس بخفة روحه أكثر جدًّا مما يكسبها برجاحة عقله.
الأحد ٢٥ أكتوبر
الساعة التاسعة صباحًا جاءني مستر «ﻫ» ومعه الدكتور «ت»، وهو في السبعين من عمره، كان أستاذًا للأدب الإنجليزي بصفة عامة، ومختصًّا بأدب شيكسبير بصفة خاصة، في جامعات مختلفة، منها جامعة شيكاجو وجامعة تكساس وجامعة كارولاينا الشمالية؛ وله كتبٌ كثيرة عن شيكسبير، أحدثها كتاب ظهر هذا العام، عنوانه: «مقالات لشيكسبير»، جمع فيه آراء شيكسبير في الموضوعات المختلفة؛ آراءه التي وردت في مسرحياته نثرًا، فجعلها كأنها مقالات كتبها شيكسبير تحت عنوانات مختلفة … إن كل شيء يذكِّر الدكتور «ت» بسطر أو أسطر من شيكسبير، ويخيل إليك أنه قد حفظ شيكسبير بأسره عن ظهر قلب.
انطلقت بنا السيارة نحو مدينة أوجستا بولاية جورجيا، وهي تبعد عن كولمبيا نحو مائة ميل؛ وكان أول حديثي مع الدكتور «ت» في السيارة عن هذه المدنية العلمية؛ إذ بدأ «ت» بقوله: إنني أمقت هذه المادية الصارخة، وأتمنى أن أعيش عاريًا في جزيرة، وإني لأتعجب لماذا يتسابق الناس وراء الآلات الحديثة التي تهوِّن الحياة؟ إنني لا أملك ولا أحب أن أملك معظم هذه الأدوات الحديثة؛ ليس لي مذياع مصور ولا أريد أن يكون لي.
قلت له: إني لا أوافقك؛ ورحت أدافع له عن هذا الذي يُسمى مدنية مادية؛ لأنه في الحقيقة مدنية علمية، وليس «العلم» مادة بقدْر ما هو تفكير؛ فالسيارة مثلًا عقل مجسَّد، من الخطأ تسميتها «مادة»؛ لأن كل جزء فيها قد بلور تفكيرًا عقليًّا، وماذا يكون التفكير إن لم يكن روحًا؟!
فقال الدكتور «ت»: امضِ في حديثك؛ فإنما أردت بما قلته أن أبدأ حديثًا لأسمعك …
كم يحز في نفسي أن أرى كل يوم ألف دليل على مقدار جهل هؤلاء الناس بنا وبعقيدتنا الدينية! إنني أبعد ما أكون عن التعصب الديني الأعمى، لكني في الوقت نفسه أكره الظلم في الحكم الذي ينبني على جهل بالحقائق؛ فليقولوا في الإسلام ما شاءوا إلا أنه عبادة أصنام! … فقد مررنا في الطريق بكنيسة، فكانت باعثًا لمستر «ﻫ» أن يسألني ما عقيدتي الدينية؟ وإلى أي كنيسة أنتمي؟ — وهو سؤال يستحيل ألا يوجَّه إليك كلما قابلت أحدًا؛ فالكنيسة تملأ رءوسهم، وتشعُّب المذاهب يشغل بالهم — فقلت له: إني مسلم؛ فقال: لقد سمعتك تجيب بهذا الجواب مرات عدة، ولم أفهم ماذا تعني كلمة «مسلم»؟ أهي تتبعك للكنيسة الأرثوذكسية أم البروتستانتية أم ماذا؟ قلتُ له: لا شيء من هذا؛ فأنا مسلم، وقد جاء الإسلام بعد المسيحية بسبعة قرون، فهو تعديل لها من بعض الوجوه، وعلى كل حال فهما متشابهان في الأصول؛ لأن اليهودية والمسيحية والإسلام فروع ثلاثة من أرومة واحدة، هي العقيدة في إله خالق …
فقال مستر «ﻫ»: لم أسمع قط بكلمة «مسلم» هذه، أتكون «محمديًّا»؟ فقلت له: نعم إلا أني لا أحب أن تسمَّى عقيدتنا بالمحمدية كما تسمونها؛ لأن لها اسمًا هو «الإسلام» من «السلام» … صحيح أن الديانات تُنْسَب لأنبيائها؛ فالبوذية لبوذا، والمسيحية للمسيح، وقد تسأل لماذا لا تكون المحمدية لمحمد؟ لكني أحس في استعمالكم لكلمة «محمدية» معنًى آخر، وهو أنها عقيدة أنشأها رجل ولم يُوحَ بها من الله.
قال مستر «ﻫ» — ووافقه الدكتور «ت»: لكن معذرة، أليست المحمدية تعبد شيئًا غير الله؟ فقلت له: لو كان الإسلام قد جاء بشيء واحد، فهو تأكيده عبادة الله الواحد الذي لا يتعدد ولا يشاركه أحد.
يحفظ الدكتور «ت» كثيرً جدًّا من الأدب عن ظهر قلب، وقد ذكرنا «إمرسن» فقلت له: إني أخي في مصر يترجمه إلى العربية؛ فسألني: أهو يترجم المقالات أم الشعر أم كليهما؟ فقلت: المقالات؛ فراح يحدثني عن خصائص إمرْسُن حديثًا فيه لفتات جميلة، ومما أعجبني من ملاحظاته عن أسلوب إمرْسُن أنه يكتب كتابة تهتز اهتزاز البندول؛ فهو يهبط ثم يعلو ثم يهبط، وذكر لذلك مثالًا عبارة يقول فيها إمرسن: «إنني ضئيل كالجزْر، إنني إله، إنني نبتة صغيرة على الجدار.» فهو يشعر بضآلته ثم بعظمته ثم بضآلته مرة أخرى، ويعلِّق الدكتور «ت» على ذلك بقوله: إن هذه الحركة البندولية في شعورنا مألوفة لكل واحد منَّا، كلنا يحسها في نفسه.
أخذ مستر «ﻫ» يجول بنا في أراضٍ زراعية فسيحة هي أرضه وأرض أسرته؛ إن أهل كارولاينا الجنوبية يعتزُّون بالأسرة وبالحَسَب شأنَ البلاد الزراعية العتيقة؛ فمستر «ﻫ» فخور بآبائه وأجداده ومكانة أسرته واتساع مِلْكِها؛ فهذه ثلاثة وستون ألفًا من الفدادين، هي أرض جده لأبيه، وهذه خمسة وثلاثون ألفًا هي أرض جده لأمه، وهذه قطعة مساحتها ثمانون فدانًا في وسطها مبنًى صغير أهداها من أرضه للنادي الزراعي … ثم أخَذَنا إلى مقبرة كبيرة وسط الشجر الكثيف، هي مقبرة أسرته، قبورها كلها من المرمر، تتفاوت جدةً وتاريخًا، لكن وحدة الأسرة بادية فيها؛ فعلى كل قبر اسم مَنْ فيه: فلان «ﻫ»، أو فلانة «ﻫ»؛ وهكذا يتبعثر أفراد الأسرة في حيواتهم ويتفرقون ثم يعودون فيلتقون في مقبرة واحدة أسرة واحدة.
وكان مستر «ﻫ» يعرِّج بنا في الطريق إلى جوف غابة هنا وقلب مزرعة هناك، مشيرًا إلى بيوتٍ منعزلة قائمة وحدها بغير جيران، فيقول هذا منزل ابن عمي فلان، أو فلان أو فلان؛ وحدث أحيانًا أن رآه سكان هذه المنازل فخرجوا إليه مرحِّبين، لكننا لم ندخل من هذه الدُّور إلا دارًا واحدة قال عنها إنها لابنة عمه فلانة، وهي تحتفظ بمجموعة قيِّمة من الصور الفنية النادرة أراد لنا أن نراها؛ فاستقبلتنا في هذه الدار سيدةٌ نَصَفٌ جميلة، لم يكن في الدار غيرها وغير ابن لها في نحو العاشرة من عمره جلس إلى مكتبٍ صغير يذاكر دروسه؛ البيت قائم وحده في جوف غابة، لا جار له إلى مسافة بعيدة جدًّا، وهو يبلغ درجة الكمال نظافةً وأناقةً وحسنَ ذوق، أخذت السيدة تُدْخِلنا غرف الدار واحدة بعد أخرى؛ لتطلعنا على الصور الفنية التي تقتنيها، وهي لأشهر الفنانين الأمريكيين في القرن التاسع عشر، وكثير منها صور لأفراد أسرة «ﻫ».
وكنت في الطريق قبل بلوغنا هذه الدار، قد سألت الدكتور «ت» ما معنى كلمة «يانكي» التي يُوصف بها أهل الشمال؛ فبين أهل الشمال وأهل الجنوب حزازات إلى اليوم لا يدرك مداها إلا مَن زار أمريكا، فأهل الجنوب يمقتون أهل الشمال الذين هزموهم في حرب تحرير العبيد، وأهل الشمال لا يخلون من احتقار خفيف للجنوبيين، ولا تزال الفوارق بعيدةً بين أهل الشمال وأهل الجنوب، خصوصًا في مسألة الزنوج؛ فيريد الشماليون ألا تكون هناك تفرقة بين أبيض وأسود، ويصر الجنوبيون على أن ينشق المجتمع نصفين لا يختلطان ولا يمتزجان ولا يتماسان بأي وجه من الوجوه: البِيض والسود … على كل حال، سألت الدكتور «ت»: ما معنى «يانكي» التي تصفون بها أهل الشمال؟ فلم يعرف، ولما وصلنا إلى دار هذه السيدة، قال الدكتور «ت» للسيدة: أعندك قاموس أبحث فيه لهذا السيد عن معنى «يانكي» وأصلها؟ فأجاب الغلام الذي يذاكر دروسه قائلًا: هي تحريف كلمة «إنجليزي» فلما هاجر الإنجليز لأول مرة إلى أمريكا حرَّف الهنود الأصليون كلمة «إنجليزي» وجعلوها «يانكي» … وفتحنا القاموس فوجدنا هذا المعنى الذي قاله الغلام، وإلى جانبه احتمال آخر، وهو أن تكون مأخوذة من «يان كي» التي هي كلمة هولندية.
وانتهت بنا الرحلة إلى غايتها المقصودة، وهي الدار الصغيرة التي يسكنها قريبٌ لمستر «ﻫ» هو القاضي «ﻫ» وعمره ستة وثمانون عامًا، كان قاضيًا وهو الآن يقضي شيخوخته وحيدًا في هذه الدار.
دار القاضي «ﻫ» في ضاحية مدينة أوجستا، وهي مدينة تساوي كولمبيا مرة ونصف مرة، يسكنها الأغنياء، ويقصد إليها المستشفون من داء الصدر لحسن جوها؛ لما اقتربنا من الغابة التي سننفذ خلالها إلى حيث دار القاضي «ﻫ» قال لي مستر «ﻫ»: إننا يا دكتور محمود قادمون على بيت ابن عمي القاضي «ﻫ»، وهو رجل مُسنٌّ متهدم ضعيف؛ ولذلك فلن نطيل المكث عنده، فإذا رأيتنا نسرع في الرجوع وإذا رأيته لا يعبأ بذلك، فاعلم أن السبب هو ضعف شيخوخته.
وصلنا إلى الدار الصغيرة القائمة وسط أشجار باسقة، وحولها فضاء صغير قُطِعَت أشجاره ونشأت فيه بِرْكَة ماء تسبح عليها بجعتان؛ المنزل صغير جدًّا، غرفتان صغيرتان ومطبخ وحمام، في الغرفة الأولى مكتبة على جدرانها الأربع، وفي وسطها منضدة صغيرة متينة جديدة، قال عنها القاضي «ﻫ» إنه صنعها من خشب أشجاره؛ وفي الغرفة الثانية سرير صغير ومنضدة محمَّلة بأكداس المجلات، مجلات هذا الأسبوع أو هذا الشهر، ثم كتاب مفتوح عنوانه «الماء»؛ وأخذ يقص علينا القاضي «ﻫ» خلاصة ما قرأه حتى الآن في هذا الكتاب، وهو خاص بمشكلة الماء في ولاية كارولاينا الجنوبية؛ فالزراعة فيها معتمدة على المطر، لكن قد يحدث أحيانًا أن يمتنع المطر فتتعرض الزراعة للخطر، وهذه هي المشكلة التي يعالجها الكتاب.
وجاء إلى القاضي «ﻫ» ونحن معه ضيفٌ يحمل إليه زهورًا من أنواع نادرة، فراح القاضي الكهل ينظر إليها واحدة واحدة كأنه يتفرَّس في لوحات فنية ويستطلع أسرارها، وانصرف الضيف والتفت إلينا القاضي بحديثه، فإذا حديثه سلسلة لا تنقطع من النكات والطرائف، وهو في ضحك مستمر غير أن شيخوخته لم تمكِّنه من الضحك العالي القوي كما يفعل قريبه الأصغر مستر «ﻫ»؛ وقد كانوا حدثوني عنه أنه لا يشرب الخمر أبدًا — على عكس قريبه مستر «ﻫ» الذي لا يكاد يمسك عن الشراب لحظة؛ فزجاجة الخمر معه أنَّى ذهب — فما كدنا نستقر مع القاضي في داره الصغيرة حتى أخرج مستر «ﻫ» زجاجة خمره، فكانت مثار نكات القاضي فترة طويلة.
وقد أدهشني أن أرى القاضي «ﻫ» — مع الدكتور «ت» — يتلو أسطرًا من شيكسبير في كل مناسبة؛ كان يبدأ هو الأسطر فيسايره فيها الدكتور «ت»، أو يبدأ الدكتور «ت» فيلاحقه القاضي، كأنما كانا يتسابقان أيهما يحفظ أكثر من زميله وأجود، وأيهما يغوص في بحر شيكسبير اللجي ليعود ومعه لؤلؤة تناسب الموقف والسياق.
أصرَّ القاضي الكهل على شيخوخته أن يطوف معنا في أرضه وبين أشجاره؛ فأول خروجنا من داره كان يحمل قطعة من الخبز في يده، فقال إن البجعتين لن يلبثا أن يريا الخبز في يدي فيقبلا عليَّ؛ لكن البجعتين لم تأبها، فراح القاضي يقول النكات على نفسه؛ ثم انتقلنا إلى بِرْكَةٍ أخرى قال إنها مليئة بالسمك، وإنه قد عوَّد السمك أن يطفو على الماء زُرافات كلما ألقى إليه بفتات الخبز، لكنه جعل يلقي الفتات في الماء فلا يأبه له السمك، فاستأنف القاضي الفَكِه نكاته، فقد عصاه البجع والسمك لسببٍ لا يدريه.
وللقاضي في غابته حديقة زهور بها كثير من أشجار الكاميليا، قيل إنها أكبر زهور للكاميليا استطاع إنسان أن يُنْبِتها في الولاية كلها؛ ولهذه الأشياء عندهم قيمة أي قيمة! وراح القاضي يحدِّثنا عن كل شجرة، بل عن كل زهرة كأن هذا الزهر بنوه وبناته؛ إنه لا يتحدِّث عن زهوره بالجملة، بل يتحدث عنها فردًا فردًا؛ لأنها أحياء في ذهنه ينميها ويربيها ويتعقبها بالعناية والملاحظة والرعاية كل يوم.
وقد كان يستحيل ألا يجيء ذكر مصر في الحديث؛ فسألني القاضي «ﻫ» السؤال الذي يستحيل ألا يسأله كل إنسان هنا، كما يستحيل ألا يأخذني الغضب والانفعال كلما أجبته، فما استطعت مرة واحدة أن أجيب عنه وأنا هادئ الأعصاب، وهو: إنكم تطلبون من الإنجليز أن يتركوا قناة السويس، فهل إذا تركوها تستطيعون الدفاع عن أنفسكم؟ فأجيب دائمًا بقولي: لأن نستطيع أو لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا فإنما ذلك من شأننا وحدنا، وليس من حق مخلوق على ظهر الأرض أن يسألنا سؤالًا كهذا؛ فضلًا عن أننا إذا دافعنا عن أنفسنا فضد الإنجليز، وإذا خفنا على أرضنا فمن الإنجليز، ولا يُعقل أن نستريح لدفاع الإنجليز وهم عدوُّنا الأول؛ الإنجليز عدو قائم فعلًا، والروس عدو محتمل الوقوع، ومن البلاهة أن تستبقي عدوًا حقيقيًّا اتقاءً لعدو محتمل.
فقال القاضي «ﻫ»: إنه يصارحني بشعوره، وهو أنه كلما قرأ عن رغبة المصريين في استرداد قناة السويس، كاد الدمع يطفر من عينيه؛ لأن الإنجليز قد بنوها بمالهم وحرسوها بمالهم، فكيف يجيء المصريون الآن فيقولون: نريد القناة؟ فلما أفهمته أن المال مالُنا حتى وإن بقي بعضه دَيْنًا علينا، وأن الأرض أرضنا، وأن السواعد المصرية هي التي حفرت القناة في أرض مصرية، قال القاضي إما جادًّا أو متهكمًا: هذا كشف جديد لي في السياسة أنْ أعلم مِن هذا السيد أن القناة لم ينفِق عليها الإنجليز.
وجاء في حديثهم ذكر التفرقة اللونية بين البِيض والزنوج، وقد جعلت خطتي أن ألزم الصمت كلما ذُكِرَ هذا الموضوع؛ فهو موضوع حساس في ولايات الجنوب، بل هو شغلهم الشاغل ومصيبتهم الكبرى! إن البِيض والزنوج يكادون يتساوون عددًا في ولايات الجنوب؛ والتفرقة بين اللونين في هذه الولايات تفرقةٌ تامة في كل شيء كأنهما خطَّان متوازيان لا يلتقيان مهما امتدَّا! أحياء لسُكنى البِيض وأخرى لسُكنى الزنوج، مدارس وجامعات للبِيض وأخرى للزنوج، مطاعم للبِيض وأخرى للزنوج، في السيارات العامة خُصِّصَت المقاعد الأمامية للبِيض والخلفية للزنوج، بل للبِيض باب في السيارة وللزنوج باب آخر، للبِيض باب في محطة السكة الحديدية واستراحة خاصة، وللزنوج باب آخر واستراحة أخرى، للبِيض عربات في القطار وللزنوج غيرها، إذا كان البِيض والزنوج يعملون معًا في مصنع مثلًا، فللبِيض صنابير ماء وللزنوج أخرى، وكارثة الكوارث في نظري أن يكون للبِيض كنائس خاصة بهم وللزنوج كنائسهم، مع أن الجميع قد يكونون مسيحيين تابعين لمذهب واحد!
التفرقة اللونية بين السود والبِيض في ولايات الجنوب هي مركَّب النقص الذي لا يجوز لغريب مثلي أن يمسَّه بحديثه؛ لأن البِيض هناك — كأي ناس في أنحاء العالم — يعلمون أن مَثَل الإنسانية الأعلى هو ألا يكون فرق بين إنسان وإنسان، لكن العقيدة شيء وممارستها شيء آخر؛ فمن العسير جدًّا على نفوسهم أن يمتزجوا مع مَن كانوا حتى أمس القريب عبيدهم، اشترَوهم بمالهم ليَفلَحوا لهم أرضهم، فلا يمكن بين يوم وليلة أن تقول للسيد إنك أنت وعبدك الذي اشتريته بمالك على قدم المساواة لا فرق بينك وبينه، إنهم يقولون: إن المساواة شيء والامتزاج شيء آخر؛ فللسود علينا أن لهم كل الفرص التي للبِيض، لهم علينا أن يكون لهم من المدارس والمستشفيات وكل وسائل الحياة الحرة الكريمة ما للبِيض سواء بسواء، لكن هل هذه المساواة في المنافع تقتضي حتمًا أن نمتزج معًا ونعيش معًا؟ لماذا تنشد سعادة السود ولا تبالي بسعادة البِيض؟ فإن كان الزنوج يسعدهم أن يمتزجوا مع البِيض، فالبِيض يسعدهم ألا يمتزجوا مع الزنوج … وهكذا وهكذا، وباختصار: إن هذه المشكلة عندهم هي الداء الذي ينغِّص عليهم العيش ولا يعرفون له دواءً؛ فبالعقل يرون شيئًا وبالشعور يريدون شيئًا آخر، وسيظل الإنسان إلى أبد الدهر نهبًا بين عقله من ناحية وشعوره من ناحية أخرى.
قلت إنهم — القاضي «ﻫ» ومستر «ﻫ» والدكتور «ت» — راحوا يتحدثون عن الزنوج، فلزمت الصمت كعادتي إذا ما دار الحديث عن الزنوج؛ لأنني بطبيعة الحال لا أوافق أن يقوم بين اللونين تفرقةٌ كائنة ما كانت، وفي الوقت نفسه لا ينبغي أن أكون ضيفًا يلدغ مضيفه بالنقد، فضلًا عن أنني أحاول أن أشعر بشعور هؤلاء وهؤلاء … قال الدكتور «ت» بمناسبة ضجة في النقد الأدبي قامت حول كتاب أخرجه كاتب زنجي: إننا نحتفل لإنتاج الزنوج أكثر جدًّا مما نحتفل لمثله من إنتاج البِيض، فلو برع لاعب زنجي في الكرة وبرع إلى جانبه لاعب أبيض، ظفر الزنجي بمعظم التمجيد، وكذلك قُل في ميادين العلم والأدب والسياسة؛ ثم قال متهكمًا: وددت أن أكون زنجيًّا إن كان هذا هو حظ الزنوج! وردَّد النغمة نفسها مستر «ﻫ» والقاضي «ﻫ».
وجاء حديث الزنوج مرة أخرى ونحن في السيارة عائدون، فقال الدكتور «ت»: ليس الاختلاف بين البِيض والزنوج مقصورًا على البيئة والتربية، بل هناك اختلاف أصيل موروث؛ ولهذا فهما جنسان مختلفان في كل شيء … حتى نوع الجرائم التي يرتكبها أفراد هذا الجنس أو ذاك تختلف؛ فالجريمة التي يرتكبها الزنجي تختلف في هدفها وفي وسيلتها عن الجريمة التي يرتكبها الأبيض؛ الزنجي يقتل مدفوعًا بالغضب والغيظ، وأما الأبيض فقد يقتل لغير هذا، هو يدبِّر الجريمة قبل ارتكابها، على حين أن الزنجي يُستثار لها فيندفع إلى ارتكابها فورًا … ومضى يقول: لما كنت أستاذًا في جامعة شيكاجو كان البِيض هناك يقترفون جرائم عجيبة، فمثلًا حدث مرة أن أمسك بعضهم برَجُلين عنوة وخصوهما، لا لشيء سوى التفكُّه الأثيم، أما الزنجي فيستحيل أن يقترف جريمة كهذه؛ الأبيض قد يخطف الطفل من أبويه ويقتله ويطلب من أبويه فدية (كانت أمريكا عندئذٍ ترتج ارتجاجًا لحادث خطف طفل من أبويه الثريَّين وقتله الخاطف وأخفى قتله، ثم طلب من أبويه ستمائة ألف دولار فدية، وأخذ الفدية، وبالطبع لم يَعُد والدا الطفل يسمعان شيئًا)، وأما الزنجي فليست هذه جريمته، لكن حَرِّكِ الزنجي يَقْتُلْ … وفي هذا لا بد من الاعتراف بأن الزنجي أشرف وأنبل وأشجع؛ إني أقول ذلك تقريرًا للحق، مع أني لست من محبي الزنوج، ولا أحب أن يُقال عني أبدًا أنني أعطف على الزنوج؛ فإنني أعتقد أن وجود الزنوج في بلادنا هو نكبتنا الكبرى.
واستطرد الدكتور «ت» في حديثه عن الجرائم، فقال: إن آخر إحصاء قد دلَّ على أن المجرمين الشباب معظمهم من المتعلمين، ثم سأل في حماسة: أليس ذلك لأن طريقة التربية عندنا خطأ في خطأ؟ إنني الآن أكتب كتابًا في هذا، وأضرب ضربات قاسية من النقد لنظامنا التعليمي كله؛ إذ لم تَعُد الشخصية وتكوينها والأخلاق وبناؤها هي الهدف الهام في تعليمنا …
وانتهزت فرصة حديثنا في المجلات الأدبية، فسألت الدكتور «ت»: أي المجلات الأمريكية في رأيك أعلاها ثقافة؟ فما كان من الدكتور «ت» إلا أن راح يندِّد بموقف الثقافة في أمريكا قائلًا: إنه حتى أرقى مجلاتنا ثقافةً قد أصبح يتودَّد إلى القراء الأوساط في ثقافتهم، فيستميلهم بقصصٍ كلها قائم على الغرائز الجنسية … وسألتُه عن أجور النشر في المجلات، فما كان أشد دهشتي حين علمت أن المقالة الواحدة أو القصة الواحدة في مجلةٍ مثل «بوست» أو «لايف» أو «نيويوركر» قد يبلغ أجرها ثلاثة آلاف دولار؛ أي أكثر من ألف جنيه مصري! … لكن إلى جانب ذلك عرفت أن الكثرة الغالبة من المجلات العلمية والأدبية التي تعلو بمستواها فيقلُّ مدى توزيعها لا تعطي الكاتب شيئًا، وحسْبُهُ فخرًا أن المجلة قد نشرت له ما كتب!
الإثنين ٢٦ أكتوبر
عُقِدت اليوم ظهرًا في نادي الأساتذة جلسةٌ لمناقشة السياسة الدولية مع زائرٍ سياسي دعته الجامعة، وهو مستر «و. د» وهو عضو في البرلمان الإنجليزي من حزب المحافظين، ومراسل لجريدة الديلي تلجراف اللندنية، عمره حول الأربعين وهو متكلم من الطراز الأول، رجحتُ أن يجيء ذكر مصر فذهبت إلى الاجتماع مصممًا أن أتدخل في المناقشة إذا دعا الأمر إلى التدخل.
جلس في وسط حلقة كبيرة من أساتذة الجامعة، وراح كلٌّ يسأل ما عَنَّ له من أسئلة في سياسة العالم فيجيب مستر «و. د» إجابةَ الخبير، وهو ممتلئٌ ثقةً بنفسه، وحدث ما توقعتُ؛ إذ سأله سائل عن الموقف في قناة السويس، فقال مغيظًا: إنه يستحيل علينا أن نسحب قواتنا من هناك بغير بديل نطمئن إليه؛ فنحن لا نثق بالمصريين، وهم قوم مُتعِبون يصعب الاتفاق معهم على حلٍّ معقول … فتدخلتُ قائلًا: يا سيدي، لست من رجال السياسة، ولكني مصري أولًا، ورجل من رجال المنطق ثانيًا، وأحب أن أناقشك في ألفاظك التي استخدمتها … وأولها كلمة «الثقة» في قولك: إنكم لا تثقون بالمصريين، ما معناها؟ إنني أفهم معناها لو كان المصريون قد أخذوا من أرضكم أرضًا، وقيل لكم «اتركوهم في أرضكم» فتجيبون بالرفض قائلين إنكم لا تثقون بهم؛ أما أن تعتدي على أرض غيرك وتقول إنني سأظل هنا لأنني لا أثق بصاحب الأرض فقولٌ يستحيل أن يقبله عقل سليم؛ لأنه قول ينفي عن الألفاظ معانيها المألوفة … وأما أن المصريين «متعبون» فإني أؤكد لك أن المصريين إذا أسفوا على شيء فذاك أنهم لم يكونوا «مُتعِبين» بالدرجة الكافية لإخراجكم من بلادهم.
قال مستر «و. د» أنا لا أعرف أين يكون الفرق بين أن تساعدنا الولايات المتحدة بقواتها، وبين أن نساعدكم نحن بقواتنا! فقلت له: إن الفرق هو كالفرق بين الأرض والسماء؛ فقد اخترتم أن تساعدكم الولايات المتحدة، وأما نحن فلم نختر مساعدتكم، وفي حرية الاختيار يكون الفرق بين الحر والعبد؛ فسكت ونظر إلى قدميه، وقال: نعم، أظن أن هذه نقطة جديرة بالنظر … ولما انفضَّ الاجتماع جاءني مستر «و. د» يصافحني قائلًا: إنني لا أعتذر إليك، لكنني أحييك وأقول لك: إنني كنت أعرف أن مصريًّا موجودًا بين الأساتذة، فلما سُئلت عن مصر أردت أن أكون صريحًا، فأقول في حضوره ما كنت أقوله في غيابه؛ وأكد لي أنه ربما وصل الفريقان إلى اتفاق عما قريب.
الخميس ٢٩ أكتوبر
لماذا أتتبع أخبار الطفل المريض الذي جلس أبوه إلى جوار المستشفى ينظر إليه خلال النافذة؟ لماذا يشتد حزني هذا الصباح إذ قرأت أن الطفل قد مات ليلة أمس بعد أربعة عشر يومًا أنفقها أبوه على كرسيٍّ فوق طِوَار الشارع لا يعبأ بجوع أو برد؟ … هل يمكن أن يكون مثل هذا الوالد من شعب يعبد «الدولار»؟ ألا ما أظلم الناس في أحكامهم على الناس!
نعم، لبث الوالد المزارع في المدينة إلى جوار ابنه المريض، لا يعود إلى مزرعته بل لا يكاد ينتقل عن كرسيِّه الذي وضعه في العراء لينظر إلى ابنه؛ لأن ابنه طلب إليه ألا يتركه، وكان متعذرًا على الوالد أن يدخل معه في غرفته، فجلس على الطِّوَار ينظر إليه خلال النافذة لا يكاد يأكل أو ينام … ولما نُشر في الصحف نبأ هذا الوالد، جاءت إليه تبرعاتٌ كثيرة منوَّعة؛ فتبرَّع متبرِّع بمقعد طويل مريح يستلقي عليه الوالد، وتبرَّع مطعم بتقديم الوجبات للوالد مدة إقامته في المدينة، وتألَّفت جماعة تتناوب الجلوس مع الوالد للتسرية عنه، وتبرَّع آخر براديو … إلخ إلخ. هذه نزعة إنسانية فيها شَبَهٌ كبير بعواطفنا الشرقية الحادة، لكنها تزيد على عواطف الشرقيين بكونها تنتقل إلى المعونة العلمية ولا تكتفي بالتعبير اللفظي الذي لا يغني من برد أو جوع.
إنني أحكم على فلان بالسجن سنتين ليتعلَّم درسًا، وهو ألا يخالط الزنوج، لقد خلقنا الله مختلفين، فلماذا نسلك كما لو لم يكن بين الناس اختلاف؟ لقد كان فلان يستطيع أن يجد من أمثاله البِيض مَن يقضي معهم وقت الفراغ والتنزه …
ومعنى ذلك أن القاضي لا يعاقب المجرم القاتل على جريمته، بل يعاقبه على شيء آخر وهو أنه اختلط مع زنجي، فهذا عند القاضي أخطر من القتل! تُرى بماذا كان يحكم هذا القاضي نفسه على زنجي قتل رجلًا أبيض؟!
الجمعة ٣٠ أكتوبر
ذهبت إلى نادي الأساتذة في الفترة التي تقع بين المحاضرتين، وأخرج الدكتور «ك» أستاذ تاريخ القانون من جيبه قصاصة، وقرأها للحاضرين، وإذا هي الحكم الذي أصدره القاضي على القاتل الأبيض الذي قتل زنجيًّا فحكم القاضي عليه بالسجن عامين، وقال في تبرير الحكم: إنه قد قضى بسجنه ليعلِّمه درسًا ألا يختلط بعد ذلك بزنجي.
فدار الحديث بين الأساتذة حول التفرقة بين البِيض والسود، وهو موضوع حساس يشغل الناس هنا كبيرهم وصغيرهم، ويستحيل أن يُذْكَرَ هذا الموضوع أمامي إلا وأظل صامتًا لا أنبس بحرف واحد … وعرفت من حديث الأساتذة ما اشتد له عجبي؛ إذ عرفت أن من تقاليد الصحف المحلية هنا ألا تنشر صورةً لرجل أسود أو امرأة سوداء، وألا تذكر زنجيًّا أو زنجية بلقب «السيد فلان» أو «السيدة فلانة».
قال الدكتور «ك» وهو ساخط على هذه التفرقة: إنني أذكر أن رجلًا أبيض كان مخمورًا فدخل على امرأة زنجية في دارها وقضى معها الليل، فلما افتضح أمرُه في الصباح، أطلق البوليس على التهمة «إخلالًا بالأمن»، وحُكم على الرجل بغرامة بضعة دولارات، أما إذا حدث العكس، فدخل رجل زنجي على امرأة بيضاء في دارها، فالجريمة عندهم يكون اسمها «اغتصابًا جنسيًّا» ويكون الحكم فيها بالإعدام!
وقال الدكتور «ك» بعد ذلك: قولوا ما شئتم، أما أنا فتؤذيني هذه التفرقة في العدالة، ولا بد أن تسوَّى العدالة بين الجميع … لكن بقية الأساتذة كانوا أمْيَل إلى الاعتراف بالفوارق القائمة بين البِيض والسود، وإن يكن معظمهم كان يخفف القول بزعمه أن الأمر مرهون بالزمن، وأن الحال يزداد صلاحًا، والفوارق تزداد زوالًا على مرِّ السنين.
كان منتصف الساعة الثامنة مساءً موعدي مع السيدة «ج» أرملة العالم الأثري الأستاذ الدكتور «ج» — وقد كان مديرًا لمعهد الآثار الأمريكي، وأستاذًا للدراسات القديمة في جامعة نيويورك، ومؤلف كتاب «الفئوس السحرية» — فقد دعتني كما دعت الأب «م» وزوجته …
ضغطنا على جرس الباب الخارجي، فلاحظتُ أن صوت الجرس الذي أسمعه يدق داخل الدار ليس كسائر أجراس البيوت، بل هو أقرب إلى أجراس المدارس، وجاءت سيدة في الخامسة والثمانين من عمرها ففتحت لنا الباب، وهي السيدة «ج» التي تقوَّس ظهرها، وعيناها واسعتان عليهما شِبْه غشاء من ماء، ويداها مرتعشتان.
وأول ما يصادف الداخل إلى دارها أجراس معلقة على حائط البهو في هيئة عقود كبيرة، مائة جرس على الأقل أشكالًا وألوانًا؛ فهذا من نحاس وذلك من حديد، هذا أصفر وذلك أزرق؛ وقفت بنا عند هذه الأجراس وأخذت تقول: إنني أحب الأجراس، اشتريت هذا الجرس في روما، وكان هذا الجرس معلَّقًا في لجام جمل عند أهرام الجيزة في مصر، وهذا الجرس كان هو جرس بيتنا أيام طفولتي، وهذا وهذا وذلك … إنني أحب الأجراس! كنت في روما أعلِّق عقود الأجراس على فروع الشجر أمام شرفة منزلي، فكلما هب الهواء واهتزت الفروع سمعتُ رنين الأجراس أنغامًا مختلفة جميلة؛ إنني أحب الأجراس …
ودخلنا بعد ذلك غرفة الجلوس إلى يميننا؛ كل المقاعد خشبية غليظة متينة، وبها منضدة من خشب غليظ متين كذلك، فهذا المقعد كتلة خشبية وُضِعَت على ثلاث قوائم تُرِكَت على صورة فروع الشجرة التي لم يَنْجُرها قادوم أو مساحة، صنعته السيدة «ج» بيدها من أشجار حديقتها، وذلك المقعد قطعة من جذع شجرة لا قوائم لها وهكذا، وراحت السيدة تَقُصُّ علينا تواريخ مقاعدها واحدًا واحدًا، أين صنعته وكيف صنعته، وتُعلِّق تعليقاتٍ عاطفية نحو أثاثها كلما قصَّت علينا تلك التواريخ؛ فهي تحب هذه المنضدة، وهي تحنو على ذلك المقعد، وذلك الكرسي عزيز عندها.
وجدران الغرفة مليئة «بالمعلَّقات» صنوفًا غريبة: أطباق ملونة وصور وتحف ومصابيح … وخرجنا من غرفة الجلوس لندخل غرفة مقابلة لها هي المطبخ وفيه مائدة الطعام، وقفت السيدة «ج» وعلى كتفيها خمسة وثمانون عامًا، وأمسكتني من ذراعي وقالت: في هذه الغرفة حياتي؛ فها هنا أعمل وها هنا أَطْعَم وها هنا أقرأ وها هنا أعيش.
وتنظر حولك في هذا المطبخ فترى العجائب، حتى لا يسعك أحيانًا إلا أن تضحك من كل قلبك؛ وابدأ من الباب: فقد كتبت السيدة «ج» على باب مطبخها — أعني على خشب الباب نفسه — وصفاتٍ لأكلات، ووقفت تشرح لي لماذا ملأت الباب بهذه الكتابة الفريدة في نوعها، فهي تقف أمام الفرن هكذا، وتلتفت بوجهها هكذا دون أن تتحرَّك، فترى كم من الدقيق تضع وكم من السكر أو البيض أو اللحم؟ فلماذا لا أوفِّر على نفسي عناء كتابٍ أفتحه كلما أردت الكشف عن شيء أثناء الطهي؟ … وانظر إلى نافذة المطبخ تجدْ عند قمَّتها رفًّا رُصَّت عليه عشرون زجاجة صغيرة مختلفة الشكل، وكلها مُلِئ بالزيت، فتسألها: هل هذه صنوف مختلفة من الزيت؟ فتقول: لا، كلها نوع واحد، إذَن لماذا تضعين الزيت في هذا الصف الطويل من زجاجات صغيرة؟ فتجيب: لأني أحب شكلها هكذا صفًّا من زجاجات.
لم تكن السيدة «ج» في عيني حتى الآن سوى امرأة كهلة أقرب إلى البلاهة، وربما أصابها شيء من الخَرَف، لكن سرعان ما خاب ظني؛ فلم ألبث أن رأيت فيها امرأةً من عجائب البشر:
هيا بنا نصعد إلى الطابق الأعلى؛ فتصيح بنا السيدة «ج»: احذروا السُّلَّم، كلٌّ منكم يَعُد خمس عشرة درجة حتى لا يَعثُر فيقع، صعدنا فوجدنا أنفسنا في ممرٍّ يفصل غرفتين: أما يمناهما فمكتب ومكتبة غاية في حسن الذوق وخصوبة المحتوى، جدران الغرفة الأربعة مغطاة من أسفلها إلى أعلاها بخزائن الكتب ورفوفها، والمكتب موضوع في وسط الغرفة في وضعٍ مبتكر، وعليه كتبٌ ومجلات تدل على أن يدًا كانت تقلِّب فيها منذ دقائق، وأما يُسراهما فغرفةٌ للجلوس على جدرانها صور فنية رائعة؛ وقفنا ننظر في إعجاب، فلاحظتُ من الحديث أنها قد تكون من تصويرها هي، فأردتُ التأكُّد وسألت: تصوير مَنْ هذه؟ قالت السيدة: إنها لي، وهذه؟ وهذه؟ وتلك؟ … إذَن فالسيدة «ج» فنانة، وبدأت أنظر إليها هذه النظرة، فعرفتُ لماذا علَّقتْ عقود الأجراس عند مدخل دارها، ولماذا جعلتْ مقاعد غرفة الاستقبال في الطابق الأسفل من جذوع الشجر وفروعه، ولماذا رصَّتْ زجاجات الزيت صفًّا طويلًا! إنها انحرافاتُ فنانةٍ لا تحيا بالمألوف المعروف، بل تريد أن يكون طابعها متميزًا في كل جزء من حياتها، حتى في التوافه، وتلك هي فردية الفنان وشخصيته.
لكن السيدة «ج» لم تكن فنانة فحسب، فما هو إلا أن كشفتُ فيها عن جانب آخر؛ فهذا مجلد ضخم قوامه قصاصات من صحف أُلْصِقَت على نحوٍ جميلٍ فوق ورقات سوداء، هي مقالاتها التي أمدَّت بها الصحف والمجلات، ولم يكن أمامي فرصة لقراءة شيء منها، لكني اكتفيت بقراءة العنوانات، وهذه وحدها كافية للدلالة على أنك إزاء كاتبة تنشُد في كتابتها — كما تنشُد في تصويرها وفي أثاث بيتها — الطابع الفريد المميز.
بعد قليل من حديث، طفِقت السيدة تقصُّ علينا من ماضي حياتها: كانت قد تقدَّمت بي السن بغير زواج، وقلق عليَّ أهلي، وكان زوج أختي يأتينا بضيف آنًا بعد آن لعل الضيف أن يتحوَّل إلى خاطب! فكنت أقابل هذه المحاولات بالمقاومة الشديدة والعناد الشديد، وذات يوم جاءنا بضيف، وركبت رأسي ألا أحضر استقباله؛ لأن لديَّ موعدًا آخر لم أُرِد تفويته على نفسي، فرجاني زوج أختي أن أبقى معهم ساعة واحدة، ودخلت الغرفة — غرفة الضيوف — والعفاريت تملأ نفسي ورأسي، فإذا أنا أمام رجل، لا أقول إنه جميل، ولكني أقول إنه رجل! هذا هو «ر» هذا هو زوجي، كان «ر» عندئذٍ أستاذًا للدراسات القديمة في جامعة نيويورك، فقلت في نفسي: هذا محال! محال أن يقبلني «ر» زوجةً له، أين أنا منه؟ لقد بلغ الرجل قمة العلم، وأما أنا! أنا امرأة لا تعرف رأسها من قدمها، لكن ماذا أقول؟ لقد تمت المعجزة وتزوَّج مني «ر»، إنني في عجب، لم أنقطع طول حياتي معه عن العجب، ولا أذكره بعد موته إلا ويعود إليَّ العجب: كيف كنت زوجة ﻟ «ر»؟ لكني كنت جميلة، إنكم الآن تقولون في أنفسكم: كاذبة؛ إنكم الآن تضحكون في أنفسكم، افعلوا ما شئتم مع أنفسكم، لكني كنت عندئذٍ جميلة … ذهبت مع «ر» إلى نيويورك، وكنت قد أخلصت له قبل الزواج كل الإخلاص؛ إذ كاشفته بشعوري، فأطلعته على دهشتي من قبوله لي زوجة له وهو العالِم وأنا الجاهلة، وقلت له: إني سأعطيك عامًا كاملًا تتردَّد فيه، إنني قد قطعت بقبولك زوجًا لي، لكني أظلمك لو أصبحت زوجة لك … غير أن «ر» أتم الزواج رغم هذا كله، تزوَّج مني «ر» وذهبت معه إلى نيويورك وسكنت معه بيتًا جميلًا، كان أول ما فعلته في البيت أن طليت بابه باللون القرمزي، طليته بيدي، فهل تعجبون إذا علمتم أن أصحاب المنازل كلها على طول الطريق سرعان ما قلَّدونا وطلَوا أبوابهم باللون نفسه؟ الحق أنه كان لونًا جميلًا … والله إني لفي عجب كيف تزوَّج مني «ر»! لكنه تزوَّج مني وكنت جميلة عندئذٍ … كنت أنظر أمس إلى ولدي (لها ولد شابٌّ عمره فوق الثلاثين وهو مهندس) وأتفرس فيه، فصاح قائلًا: لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟ فقلت له: إني لا أنظر إليك يا أحمق! أنا أنظر إلى أبيك في وجهك، إنني أحببتُ «ر» وسأحبُّه إلى أن ألتقي به بعد موتي، لو قيل لي إن «ر» سيلقاني بعد الموت حقًّا، لمِتُّ الليلة لألقاه، إنني ما زلتُ في عجب كيف تزوَّج مني «ر»!
وبعد أن مضت السيدة «ج» على هذا النحو تقصُّ علينا قصة زواجها، نظرت إليَّ قائلة: سمعتُ أنك أعزب، اسمع نصيحتي، أنا لا أكذب، إنني أقولها لك قولة حق وصدق صادرة من هنا (وأشارت بيدها إلى قلبها) تزوج! تزوج غدًا، بل تزوج الليلة، بل تزوج الآن! إنك إذا ما تزوجت شعرت بندم على كل سنة قضيتها بغير زوج، ستندم على كل يوم، على كل ساعة! آه، إنه إذا كان الزواج هو ما رأيته مع «ر» فهو النعيم بعينه، وجدت سعادتي مع «ر».
هنا قالت السيدة «م» عني إنني أظن أنني كهل قد فاتني سن الزواج، عمره ثمانية وأربعون ويظن أنه كهل! فقالت السيدة «ج»: ثمانية وأربعون هي السن التي تعرف فيها كيف تحب يا أبله! قلت لها: وكم يكون سنها هذه التي أتزوج منها يا سيدة «ج»؟ فقالت في صوت المتعجبة: كم يكون سنها؟! اسمعوا هذا الرجل! إنها هي المرأة التي تحبها ولا تسأل بعد ذلك كم سنها، ولكني أؤكد لك أنك ستحبها صغيرة، فلا تُبالِ صغرها، ولا تبالِ إلا شيئًا واحدًا، وهو قلبك، أَنْصِتْ إلى قلبك جيدًا، إلى قلبك وحده. تزوج! وستندم على أنك لم تتزوج قبل الآن، ستندم على كل لحظة فاتتك بغير امرأة! قل لي بحق السماء: ماذا تريد من حياتك أمتع من امرأة تحبها وتعيشان معًا تتحدثان تضحكان معًا ثم … ولا تنسَ أبدًا هذا الذي سأقوله … ثم تعتركان! نعم ما كان ألذ اعتراكي مع «ر»، عراك الزوج ممتع ممتع؛ أين أنت الآن يا «ر» لنعترك ونتشاتم ونملأ الدنيا صياحًا! تلك هي جنة الفردوس بعينها!
وبعد حديث طال، قلنا: نقوم؛ فقالت السيدة «ج»: أتقومون ولم تروا صورة «ر»؟ وتركتنا ثم عادت ومعها صورة لزوجها الراحل.
الخميس ٥ نوفمبر
خرجتُ تحت المطر إلى الغداء في المطعم القريب، ولم أجد مكانًا على مائدة، والمكان الخالي الوحيد هو النضد العالي ذو المقاعد العالية غير ذوات الظهور، فجلستُ هناك وكنتُ عندئذٍ على مقربة ممن يُعدُّون الطلبات، فأمعنت النظر في هذه السرعة الخاطفة التي يؤدي بها هؤلاء الناس أعمالهم: أمامي رجلٌ يُعدُّ لحمًا مشويًّا في شطائر، فكأنما ذراعاه متصلتان بأسلاك كهربائية، لا يقف عن الحركة ثانية واحدة، ولا يتحرك حركة بغير فائدة؛ يقلِّب قِطَع اللحم على النار ثلاثًا ثلاثًا، ثم ينحني بسرعة البرق يقطع الخبز ثم يعود فيقلِّب قِطَع اللحم ثلاثًا ثلاثًا، ثم ينحرف يمينًا يقطع الطماطم بالسكين في حركة لا تكاد تتبعها العين لسرعتها، وإلى جانب هذا كله يكلِّمه الزبون الذي يجلس بجواري فيرد عليه ويضحكان، والظاهر أنها كانت نكتة وردها، لكني لم أفهم لا النكتة ولا ردَّها … وانظر إلى هؤلاء الفتيات المناوِلات، كلهن في ثيابٍ بيضاء، وقتهن بالثانية أو بجزء من الثانية، يسمعن منك الطلب وهن ينزلقن مع الهواء، يكتبن ما يطلبه هذا الزبون وهذا وذلك دفعة واحدة … تذهب المناوِلة لتعود وبخبطة واحدة على النَّضَد تضع أربعة أكواب من الماء أمام أربعة من الزبائن، وبخبطة تالية على النَّضَد تضع أربعة فناجين القهوة، وبحركة واحدة كأنها تبعثر حَبًّا تقذف أمام الزبائن الأربعة على النَّضَد بأربعة لفائف، كل لفيفة قِوامها فوطة ملتفة على شوكة وسكين وملعقة … فلا عجب أن يدخل هذا المطعم الصغير ساعة الغداء مئات ويخرجون في غير ضجة ولا إبطاء … والمطاعم هنا كلها تقريبًا على غرار واحد من التأثيث؛ فهي مؤثثة على هيئة مقصورات عربات القطار.
كنت قد أَلِفْتُ هذا المطعم أول حضوري إلى هنا، أرتاده كل يوم، ثم انقطعت عنه حينًا إلى سواه، ثم عُدت إليه بعد ثلاثة أيام، فكان استقبال صاحبته لي ترحيبًا حارًّا خجلت له، وسألتني أين كنت هذه المدة؟ فكان جوابي لجلجة صوتية في غير ألفاظ … صاحبة المطعم على شيء من بدانة الجسم، لا تزيد عن الخامسة والثلاثين، أو قل إنها قاربت الأربعين، بشرتها غاية في الصفاء وردية اللون، فلا هي بالبيضاء الشاحبة، ولا هي بالممتقعة في احمرارها، وهي تتميَّز عن المناولِات بلون ثوبها … هذه السيدة البدينة تنسل بين الموائد كأنها النسيم، وبعين لمَّاحة تُكمِل الموائد بما ينقصها، ثم تجري كأنها الريح إلى حيث تقبض النقود من الخارجين …
الجمعة ٦ نوفمبر
تحدث إليَّ طالب من طلبتي حديثًا طويلًا، فقال فيما قال إنه سيدرس القانون تحقيقًا لرغبة أبيه، ولكنه في الواقع لا يميل أبدًا إلى حياةٍ تضعه على مكتب وأمامه أوراق وكتب، ثم قال: إنني مصمم منذ الآن على أن تكون لي مزرعة؛ إن لأبي مزرعةً فسيحة، وأنا أحب العيش فيها، وأتشوق إلى عطلة الأسبوع لأقضيها في رحابها، أصيد الطير … هل عندكم في مصر طير وصيد؟ قلت: قليل، وذلك في منطقة البحيرات الشمالية على الأغلب؛ فقال: إني أود أن آتيك بمجموعة من السمان الذي أصيده هذا الأسبوع، نظيفة معدة للطهي إذا كان لديك استعداد للطهي؛ فشكرته معتذرًا لانعدام وسائل الطهي في سكني؛ قال لي عن أبيه إنه درس القانون واشتغل بالمحاماة حينًا، ثم تركها وتفرَّغ لمزرعته، وقد كان أول الأمر يزرع القطن، ثم تبيَّن له أن ربحه قليل، فقلبَ أرضَه كلها مرعًى للماشية؛ لأنها أكثر ربحًا؛ وراح يشرح لي تفصيلات كثيرة عن تربية الماشية على وجهٍ مريح.
ودُهشت حين سألني هذا الطالب أسئلة نافذة رأيتُها أكبر من سنِّه، ومنها هذا السؤال: هل المعونة المالية التي تغدقها الولايات المتحدة على العالم كمشروع النقطة الرابعة وما إليه، تثير الحُبَّ بقدْر ما تثيره في النفوس من بغض وحسد؟ … وعقَّب على ذلك برأيه، وهو أن تكفَّ أمريكا عن هذه السياسة الخارجية؛ لأنها — في رأيه — تهريج كثير لا ينطوي إلا على لباب ضئيل.
مما قرأته اليوم وأسكرني بالمتعة الفنية، مقالة أدبية في مجلة بوست لهذا الأسبوع، عنوانها: «إذَن فأنتما متخاصمان؟!» فيها تحليل من أبدع وأروع وأجمل وألذ ما يمكن أن يكتبه كاتب في الدنيا عن موقف الزوجين حين يتخاصمان، لا يكلم أحدهما الآخر، ومع ذلك يقضيان شئون الحياة من زيارات واستقبالات وغيرها من أوجه النشاط الاجتماعي … يسأل الزوجَ صديقٌ له: وكيف يا أخي تطيق العيش مع زوجتك بغير كلام طول هذه الأيام؟ فقال الزوج: ولِمَ لا؟ ليس هناك أكثر إغاظة لخصمك من صمتك عنه، على شرط أن تفعل ذلك وأنت مالك لزمام أعصابك فلا غضب ولا انفعال؛ قال الصديق: لكن العبوس المستمر سيئول بك إلى حالٍ أقرب إلى الغلظة البدائية؛ فأجاب الزوج: حذار أن نخلط بين حالتين: الخصومة من ناحية، والعبوس من ناحية أخرى؛ فالصمت عن الحديث لا يستتبع حتمًا حالة العبوس، أنا وزوجي لا يعبس أحدنا في وجه الآخر أثناء الخصومة التي ينقطع فيها كلٌّ منا عن التحدُّث إلى الآخر، وفي هذا يقع الفن كله … هي قطعة أدبية ممتازة، وإني لأشعر بالحسرة كلما وقعتُ على أمثال هذه الآيات الأدبية المبتكرة؛ لأنني عندئذٍ أستعرض أدبنا وأدباءنا، فأسأل نفسي: هل يصنع هؤلاء — كبيرهم وصغيرهم على السواء — سوى أن يقرأ الواحد منهم كتابًا أو جزءًا من كتاب، قديمًا كان هذا الكتاب أو حديثًا، ثم يعلِّق أو يلخِّص أو ينقد؟ … لقد حرمنا الله نعمة الابتكار، وكان الله بالسر عليمًا.
كذلك قرأتُ في مجلة «لايف» مقالًا مصورًا له دلالته، مؤداه أنه قد حدث في مدينة شيكاجو أن سكنت أسرة زنجية في عمارةٍ بقية سكانها بِيض، كان هذا بالطبع يستحيل حدوثه في ولاية جنوبية مثل كارولاينا الجنوبية التي أقيم فيها؛ لأن ولايات الجنوب تمنع ذلك الاختلاط بقوة القانون، أما في الشمال فالقانون لا يمنع شيئًا، غير أن القانون شيء، ومشاعر الناس شيء آخر؛ فالبِيض الذين يسكنون العمارة قد أغاظتهم جرأة هذه الأسرة السوداء، فأخذوا يقذفون أفرادها بالطوب والطماطم كلما خرجوا من البناء أو دخلوا، وحطَّموا لهم زجاج نوافذهم؛ مما اضطر الأسرة الزنجية أن تسد نوافذها بألواح مسمَّرة من خشب … وأقامت الحكومة حراسة قوية من الشرطة لتحمي هؤلاء السود من اعتداء البِيض …
إن مشكلة الزنوج في أمريكا نكبة نُكِبَ بها الأمريكيون وليس لهم منها خلاص؛ فألفُ عام لن تكفي للفوارق أن تزول زوالًا تامًّا، ولقد مجدتُ في نفسي تلك الأسرة الزنجية التي صممت ألا تتحوَّل مهما لاقت من إيذاء؛ فبمثل هذه الشجاعة، وبمثل هؤلاء الرواد تتقدم الإنسانية نحو الكمال.
الإثنين ١٦ نوفمبر
قرأت في مجلة «هاربرز» لشهر نوفمبر قصة للكاتب «ولمر هاملتن» عنوانها «صديق بالتَّراسل»، خلاصتها أن كاتبًا في سن الخامسة والستين لم يتزوج، وقد اعتزل الناس في بيتٍ ريفي صغير، لا عمل له إلا القراءة والتأليف، تزوره أخته آنًا بعد آن، وقد جاءت له أخته بخادمة على شيء من الجمال وقليل من التعلُّم، وبعد أشهر طويلة عرف الكاتب عن خادمته أنها تراسل صديقًا لم تره تراسلًا منتظمًا مطردًا؛ إذ قرأت ذات يوم إعلانًا في مجلة تصدرها إحدى الكنائس يقول فيه صاحبه: «أشعر بوحشة ووحدة، وأريد أن تراسلني فتاة حتى تقل وحشتي؛ أنا مسيحي.» فشعرت الفتاة أنها في مثل وحدته ووحشته وأخذت تراسله، ولا تعلم إلا ما يرد في خطاباته من آراء، وهي آراء كانت تدل على أن الشاب مثقَّف مهذَّب … وأخيرًا أرسل الفتى إلى الفتاة يسألها إن كانت توافق على لقائه يومًا في المدينة، فتأتي في قطار الصباح وتقضي معه بقية اليوم ثم تعود إلى ريفها في المساء، واتفقا على أن يكون ذلك في يومٍ محدَّد … لم يكن يعرف الكاتب المخدوم شيئًا من أمر الفتاة، لكنها طلبت أن يجيزها يومًا وقصَّت عليه قصتها مع الفتى، وكيف بدأ التراسل بينهما إثر إعلانٍ نصُّه كذا وكذا؛ فتعجَّب الكاتب من ذكر الفتى في إعلانه «أنه مسيحي» لماذا يقول ذلك؟ فتقول له أخته ألا غرابة في الأمر ما دام الإعلان منشورًا في مجلة كنسية، لكن الكاتب أبصر بطبيعة البشر من أن يرى ذلك أمرًا لا غرابة فيه.
أعدَّت الفتاة ثوبًا بمعونة الأخت؛ فقد كان في رأي كلٍّ منهم — الكاتب وأخته والخادمة — أن اللقاء المنتظَر قد يكون وسيلة زواج، ولو أن أحدًا من الثلاثة لم يقل شيئًا من هذا صراحةً.
ذهبت الفتاة وعادت في المساء تحمل غمًّا ثقيلًا، ولم يجرؤ الكاتب أو أخته أن يفاتحها بالكلام لاضطراب نفسها، وذهبت إلى المطبخ، وهناك سرعان ما راحت تجهش بالبكاء … ماذا في الأمر يا تُرى؟ هل علمت أن الفتى متزوج فضاع أملها؟ هل قابلها ولم تعجبه فهرب منها؟
وبعد أيام كانت تقدِّم الشاي إلى مخدومها، وكانت الأخت قد سافرت، وتلكأت قليلًا فعرف الكاتب أنها تريد قولًا، فشجعها على القول، وعندئذٍ طفِقت تقصُّ عليه قصة اللقاء لتطلب منه المشورة … ولم تكد تمضي الفتاة في وصف اللقاء حتى عرف الكاتب أن الفتى زنجيٌّ أسود! هو زنجي متعلِّم لا يجد فتاةً يأنس إليها، وأحسَّ بوحشة، وهنا يأتي لُبابُ القصة وهدف التحليل، وهو أن هذا الزنجي كان يعلم أن الفتيات البيضاوات ينفرن منه؛ لأنهن يرين سواده قبل أن يرين علمه وثقافته، فلو استطاع أن يُظهِر تهذيبه وتثقيفه قبل أن يُظهِر سواده، فربما وجد البيضاء التي تحبه، ومن ثَمَّ الإعلان والتراسل أولًا، ومن ثَمَّ ذِكْرُه في الإعلان أنه مسيحي، كأنما أراد أن يقول إني واحد من هؤلاء الناس، أدِينُ بدينهم وأتثقَّف بثقافتهم، وليس بي من نقصٍ إلا لون جلدتي …
طبعًا أخذ الفتاةَ همٌّ حين رأت فتاها الزنجي ينتظر في المكان المحدَّد وفي الموعد المضروب، لم يكن يخطر ببالها أنه زنجي؛ فكان ارتباكٌ وكان اضطرابٌ، وقد سألها الفتى عندما همَّت بالعودة إن كانت ستمضي في مراسلته كما كانت تفعل؟ فأجابته في تردُّد: نعم، حينًا بعد حين وبغير انتظام … وهي الآن تطلب المشورة من مخدومها: هل هناك ضرر في العودة إلى التراسل مع ذلك الصديق بعد أن تبيَّن أنه زنجي؟
تحليل الزنجي في موقفه ومشاعره، وتحليل الفتاة في موقفها ومشاعرها، وتحليل الكاتب في خواطره … كل ذلك آية من آيات الفن، ورائعة من روائع الأدب؛ ولنلاحظْ أن الكاتب لم يختَر لتحليله الأدبي موضوعًا غليظًا مألوفًا بحيث لا يستدعي براعةً ولا بصرًا نافذًا، لكنه اختار موقفًا فيه طرافة وفيه لطف، ويحتاج إلى دقة إدراك وبراعة تحليل … هذه هي الكتابة، وهذا هو الأدب؛ فمَن ذا يلومني إذا ما سألت نفسي ماذا يكتب أكبر أدبائنا في مصر؟ مَن ذا جعل تحليل النفس البشرية في مواقفها المختلفة موضوعه الأدبي؟ … لا، أديبنا الكبير يقرأ كتابًا أو جزءًا من كتاب، ويلخِّص ما قرأ وينقده، فيصبح بذلك أديبًا!
أديبنا الكبير يكتب عن مجَّانية التعليم أو عن الطب عند ابن سينا، فإذا هو عندنا الأديب العظيم!
وكذلك قرأت في المجلة نفسها قطعةً أخرى لكاتبة أمريكية هي «كاترين آن بورتر»، وهي على ما أرى في طليعة رجال الأدب ونسائه في أمريكا … القطعة وصفٌ لناحية من العلاقات البشرية، ومكان الحوادث ظهر سفينة؛ فبين المسافرين طفلان توءمان: ولدٌ وبنت، أقلقا الناس «بشقاوتهما»، فهما مثلًا يريان رجلًا وامرأة في مزاح فيهددانهما بالفضيحة إذا لم يعطياهما شيئًا من المال … هذان الطفلان كانا يومًا في ركن خفيٍّ من السفينة يمزحان، وأدت بهما المعركة المازحة إلى وضعٍ مريب، فيمر ضابط من ضباط السفينة، ويمسك كلًّا منهما بيد، ويجذبهما ليوقع عليهما العقاب، فمرَّ بهما أمام رجل وامرأة جالسَيْن وحدهما يتحدثان: الرجل طبيب لكنه مريض بقلبه وهو مسافر للراحة، والمرأة مسافرة عابرة جلست تتحدث إلى هذا الطبيب، لكنها فيما يظهر قد وضعت عينها عليه بغية الزواج … سألت هذه المرأة الضابط البحري والطفلان في يده: ماذا صنع هذان الطفلان؟ فيجيب الضابط في شيء من التألُّم والتأفُّف: صنعا فظاعةً لا أستطيع وصفها … فتقول له المرأة: لا تبالغ يا أخي في هفوات الأطفال، فكلنا كان طفلًا، وكلنا قد أتى في طفولته أمثال هذه الأشياء … ويمضي الضابط ومعه الطفلان.
وهنا تبدأ المناقشة البديعة بين الطبيب والمرأة عما اقترفاه إبان الطفولة من هفوات جنسية، أما الطبيب فينكر في سذاجة أنه قد اقترف شيئًا من هذا، لكن المرأة تتهكم على سذاجته هذه وتشجعه على أن يبوح بذكرياته، فتبدأ هي بقولها عن نفسها: إنني نشأت بين طائفة من أولاد أعمامي، وكانوا من «العفاريت» «الأشقياء»، فاتصلتُ بهم جميعًا صلةً جنسية وأنا لم أزل في الخامسة من عمري؛ ولست بنادمة على ذلك، ولو عادت طفولتي لعدت إلى ما فعلته. فيرد الطبيب قائلًا: إنني لم أقترف من أمثال هذه الشنائع في طفولتي إلا قليلًا، هما مرتان اثنتان في طفولتي كلها، فمرة وأنا في السادسة أغويت طفلة في مثل سني، ومرة أخرى وأنا في السن نفسها أغرتني بنتٌ في التاسعة، وفيما عدا هاتين الحادثتين كانت طفولتي بريئة … ويمضي الطبيب والمرأة في مناقشةٍ تحليلية عن مدى الاتصال الجنسي بين الناس في الخفاء، لكن الطبيب كان دائمًا يمثِّل الرجل المغفَّل الذي لا يفتح عينه للحقائق، وتمثِّل المرأةُ الشخصَ الذي فتح عينيه مبصرتين؛ سألته قائلة: ألم تَخُن زوجتك أبدًا؟ فقال في حماسة: أبدًا! فسألته أَلِأَنَّك لا تريد خيانتها أم لأنك مريض بقلبك؟ فقال: لست أدري. قالت: ألم تشعر بالملل من عدم الخيانة؟ فقال: طبعًا، ومَن ذا الذي لا يشعر بذلك؟ وكذلك زوجتي لم تخني أبدًا، لكنها بالطبع تشعر بالملل من هذه البراءة …
وعلى كل حالٍ، كان معظم التحليل منصبًّا على عدم براءة الأطفال؛ فقلت في نفسي: هذه خبرة ليس منا واحد لم يمر بها عدة مرات في طفولته، فأين هذه الخبرة على أقلام أدبائنا؟! لا يزال الأديب منا كالأبله يتحدث كما يتحدث رجل الشارع الأعمى عن «براءة الطفولة»؛ فأديبنا عاجز عن الملاحظة الصادقة والتحليل الصادق لمشاعر الناس ونفوسهم وخواطرهم.
الثلاثاء ١٧ نوفمبر
رفعتْ جماعة من أولياء أمور الطلبة الزنوج، في ولاياتٍ أربعٍ من ولايات الجنوب التي تفرِّق بحكم قوانينها بين البِيض والسود في المدارس، فتجعل لهؤلاء مدارس ولأولئك مدارس، بحيث لا يُقبل أسودٌ في مدرسة البِيض، رفعتْ قضية إلى المحكمة العليا في واشنطن تطلب إلغاء الفصل اللوني في المدارس التي تنفق عليها الدولة، وهي التي تُسمَّى ﺑ «المدارس العامة»، فما دامت الدولة للجميع، فلا يجوز بعد ذلك أن يختص البِيض بمدارس والسود بمدارس أخرى؛ وهم في قضيتهم يستندون إلى التشريع المسمى «التعديل الرابع عشر للدستور» الذي كان فيما مضى قد صدر ليقضي بإلغاء كل وضعٍ من شأنه أن يخلق الشعور بالنقص بين الزنوج.
وخشية أن ينتهي الأمر بالمحكمة العليا إلى الحكم بامتزاج اللونين في مدارس الحكومة، استعدت ولايات الجنوب التي يستحيل عليها أن تقبل هذا الامتزاج، بتشريعات مضادة إذا ما وقعت الواقعة.
كذلك قرأت عن قضيةٍ رفعها زنجي إلى المحكمة العليا ضد شركة من شركات السكة الحديدية في الجنوب؛ لأنه أراد أن يأكل في عربة الأكل فمُنِعَ من ذلك حتى لا يأكل مع جماعة من البِيض تحت سقف واحد … لقد فهمتُ مما قرأته اليوم عن هذه القضية أنها رُفِعَت لأول مرة عام ١٩٤٢م، وهي حتى الآن بين أخذٍ وردٍّ في محاكم الاستئناف؛ لأن المحكمة كانت حكمت عندئذٍ أن يُسْدَلَ ستار على جزء من عربة الأكل بحيث يُخصص ما وراء الستار للزنوج، وبهذا يأكلون إذا شاءوا دون أن يختلطوا بالبِيض في عربة واحدة اختلاطًا ظاهرًا، لكن الزنجي الذي رفع القضية لم يقبل هذا الحكم واستأنف.
وبهذه المناسبة أقول: إنني قرأت منذ أيامٍ أن وزير البحرية قد أعدَّ قانونًا يبيح للبِيض والسود أن يختلطوا في نادٍ واحد؛ وذلك أنه في نادي رجال البحرية من ميناء شارلستن (بولاية كارولاينا الجنوبية) لم يكن السود يُؤذَن لهم بالدخول مع أنهم يعملون مع البِيض في سلاح واحد وعلى سفن واحدة … وقد خطب أيزنهاور خُطبةً يشيد فيها بشجاعة الوزير في هذا القرار، ويرحِّب بكل مجهود يقوم به أي رجل من رجال حكومته نحو إزالة الفوارق بين اللونين.
الحقيقة أن مسألة التفرقة اللونية هي هنا — في ولايات الجنوب بصفة خاصة — الدُّمل الحساس الذي لا يحتملون أن يمسَّه ماسٌّ، ويُخيَّل إليَّ أن هذه المشكلة الكبرى هي التي تنغص عليهم حياتهم، ولولاها لكانت حياتهم جنةً خالصة ونعيمًا صرفًا … لكن الزمن يمضي قدمًا، والزنوج يكسبون على مر الزمن، بفضل ما قد يظهر بينهم من شجعان حينًا بعد حين، لا يرضون بالأوضاع القائمة؛ فيثيرون الضجة ويقيمون القضايا حتى يكسبون الحقوق واحدًا بعد واحد.
في منتصف الساعة التاسعة مساءً كان موعد محاضرة عن الفن الحديث، يلقيها في المتحف الدكتور واتسُن، الناقد الفني المعروف في أمريكا، وهو يعمل في معهد الفنون ومتحفها بمدينة شيكاجو، وقد جاء إلى كولمبيا بدعوة من المتحف ليُلْقِي محاضرات ثلاثًا؛ هذه أولها.
ذهبتُ إلى المتحف في الموعد المحدد، وما إن جلستُ حتى جاءت الآنسة «م» وجلست إلى جانبي، فشكرتني على تذكَرة الأوبرا التي أرسلتها إليها لاحتفال يوم السبت المقبل، وعرَّفتني بصديق لها مشغوف مثلها بالفن ومسائله.
بدأ الدكتور واتسن محاضرته التي دامت ساعتين كاملتين، وكانت مصحوبة بالفانوس السحري، فيعرض علينا صورًا فنية ويعلِّق عليها، وفي رأيي أنه قد أجاد إجادةً ليس بعدها زيادة لمستزيد، ولولا أن المقاعد خشبية تؤلم خصوصًا وقد طالت المحاضرة إلى ساعتين، لقلت إنني قد ظفرت الليلة بمتعة أنا سعيد بها … بدأ المحاضرة بحديث عامٍّ في الفن الحديث، وكيف أنه ملائم لروح العصر الحديث؛ ففي عصرنا الحديث آلة تصوير تستطيع أن تصور الطبيعة تصويرًا أمينًا، وإذَن فلا بد أن يلتمس الفن سبيلًا غير تصوير الطبيعة … كان المصورون السالفون يصوِّرون الطبيعة؛ لأنهم كانوا وحدهم أداة ذلك، أما الصورة الحديثة فليست تصويرًا لشيء خارج الفنان، إنها موسيقى؛ فالموسيقى تنسِّق موجات الصوت السبعة، والتصوير ينسِّق موجات الضوء السبعة (كنت ذات يوم في حديثي مع الآنسة «م» قد دافعت لها عن الفن الحديث، فقلتُ لها هذه الفكرة عينها وبنصِّ هذه الألفاظ، فأحسست بالزهو الليلة حين قال المحاضر ذلك وهي تجلس إلى جانبي)؛ إنك لا تسمع الموسيقى لتسأل: صوت أي شيء هذا؟ لأن الموسيقي لا يحاكي بموسيقاه صوتًا في الطبيعة كما هو، وإنما يؤلِّف الصوت كما يشتهي فيكون التأليف جميلًا، وكذلك مهمة المصور الحديث، إنه لا يريد أن يصوِّر شيئًا في الطبيعة كما هو، بل مهمته التأليف بين الألوان تأليفًا يمليه ذوقه ومزاجه، وغايته هي أن يقدِّم للعين مزيجًا لونيًّا جميلًا.
إن الشرط لأي فن هو أن يكون مستقلًّا بذاته، فلا يجوز للتصوير مثلًا أن يعتمد على الأدب في شرحه، ولا يجوز للأدب أن يعتمد على التصوير؛ ومن هنا كان الإنجليز مقصرين في ميدان التصوير؛ لأن مصوريهم يعتمدون في الغالب على شيء في الأدب يفسره، أما في سائر القارة الأوروبية — كفرنسا مثلًا — فهنالك تجد قادة الفن بالمعنى الصحيح، هنالك ترى الصورة مستقلة بذاتها، تفهمها وحدها وليست هي بمستندة على شيء إلى جانبها يشرحها ويفسِّرها.
وجعل المحاضر يعرض على الحاضرين صورًا من كل مذهب ومدرسة، قديمة وحديثة، ويشرح أين يكون موضوع جمالها، وكثيرًا ما كان يربط الصورة بقطعة موسيقية من عصرها نفسه؛ ليبين أن التصوير والموسيقى في العصر الواحد يكونان ذاتَي طابع واحد، وذلك بأن يدير أسطوانة فونوغرافية والصورة أمامنا … وإني لأعترف أنني لم أكن أفهم أبدًا كيف يمكن أن تكون هنالك علاقة بين الصورة التي أراها والموسيقى التي أسمعها، فذلك شيء بعيدٌ عن ثقافتنا، إلا مرة واحدة كانت الموسيقى فيها هي موسيقى الوالتس، وأعرف كيف أميِّز أجزاءها الموسيقية ذات الضربات الثلاث؛ فقد لحظت من فوري علاقة الشبه بين الصورة والموسيقى، كلاهما مؤلَّف من وحدات كل وحدة فيها تفعيلات ثلاث إذا صح هذا التعبير؛ ثم عرض المحاضر صورةً أخرى من الفن التكعيبي قائلًا إنها هي الأخرى تلائم الدور الموسيقي الذي نسمعه؛ هنا لم أفهم لماذا، لولا أنه أشار بالعصا إلى التتابع اللوني في الصورة قائلًا: أبيض أصفر أسود، أبيض أصفر أسود، فظهر كالشمس وجه الشبه بين النغم الموسيقي والتناغم اللوني، خصوصًا حين أشار المحاضر فوق ذلك إلى أن الصورة مؤلفة من مثلثات، فوق تأليفها من ألوان ثلاثة.
خرجتُ بعد المحاضرة، وكنت من أول الخارجين، فدهشت إذ رأيت السيدة «أ. و» أستاذة تاريخ الفنون بالجامعة واقفة وحدها خارج بناء المتحف، مسندة ظهرها إلى عمود البهو تدخِّن سيجارتها، فسألتني رأيي في المحاضرة، فقلت لها ما أعتقده فيها، وهو أنها محاضرة ممتازة؛ فظنتني ساخرًا، ولما عرفتْ أني جاد، انطلقت تهاجم المحاضرة بأبشع الشتائم؛ فهي في رأيها محاضرة تافهة، والمحاضر جاهل يقول عن فلان إنه أول مَن رسم بالتكعيب وهو ليس كذلك، وملاحظاته كلها جديرة بأطفال إلخ إلخ. قلت لها: ربما رأيت فيه هذه التفاهة؛ لأنها مادة اختصاصك، أما أنا فقد تمتَّعت واستفدت إلى أقصى حد أريده؛ فقالت: إني لا أصدِّق أن محاضرًا ممتازًا مثلك يقول هذا الرأي في محاضر كهذا، تعجبتُ جد العجب أن يختلف حكمها وحكمي إلى هذا الحد البعيد.
الأربعاء ١٨ نوفمبر
لا تفتأ السيدة «م» أن تصفني بالرهبنة، ولما عدتُ ظهر اليوم نبهتني إلى مقال في الصحيفة اليومية عنوانه «أنت كذلك تستطيع أن تكون راهبًا — إذا وجدت صومعة»، والمقال لكاتبة تكتب كل يوم بانتظام في الصحيفة اليومية، وهي اليوم تعلِّق على كتابٍ أصدرته الكاتبة «هلن إرسكن» عنوانه: «خارج هذا العالم» كتبته عن أعلام الرهبان الذين تركوا هذه الدنيا واعتزلوا الحياة؛ وذلك لأنها هي نفسها تتمنى هذه العزلة لنفسها؛ فتقول الصحفية كاتبة التعليق: وأنا كذلك — كمؤلفة الكتاب — أتمنى أن أعتزل المجتمع ولو إلى حين؛ فتلك متعة لا أنعم بها حتى في الحُلم، نعم أتمنى أن أنعم بعزلة لا يدق فيها التلفون وأنا في الحمام مغطاة الجسد برغاوي الصابون، ولا تأتيني خطابات تحيرني وتربكني، ولا تدق لي الساعة حينًا بعد حين، ولا تكون ورائي المواعيد الدقيقة التي ترهف أعصابي بانتظارها … لكن المشكلة الكبرى هي: أين عساك أن تجد المكان الذي تعتزل فيه هذا العالم الواسع؟ إن معظم المعتزِلين إنما اعتزلوا العالم إما عن اضطهاد أو عن إهمال الناس لشأنهم، أو لأن الأيام قد حطَّمت لهم آمالهم، لكن حتى هؤلاء — حين التمسوا لأنفسهم صوامع في قلب الصحراء أو في جوف الجبل — لم يكن اعتزالهم حلًّا لإشكالهم؛ لأنهم أخذوا معهم آلامهم، وستظل معهم إلى أن يدركهم الموت … فربما تكون طريقة غاندي في الصوم عن الكلام يومًا في الأسبوع هي أفضل طريقة ممكنة للعزلة، وكذلك من طرق الاعتزال الممكنة اتخاذ الهوايات، كأن تفلح بستان بيتك أو ترعى الطيور أو تجمع طوابع البريد؛ لأنك وأنت مشغول بهوايتك إنما تكون بمثابة مَن يبني حول نفسه حائطًا لا يتخلله صوت المجتمع.
ويشاء لي الله أن أقرأ هذا المقال وأنا في حالة حنين شديد إلى عزلة تامة، فقلت لنفسي لما فرغتُ من قراءتي للمقال: إنني أضيف إلى مؤلفة الكتاب وكاتبة المقال شخصًا ثالثًا يتمنى العزلة، ذلك هو شخصي، أتمنى العزلة من صميم نفسي، العزلة التي تقطع كل أسلاك الصلة بالعالم الذي حولي، فإذا كانت عزلة الصحراء أو جوف الجبل لا تكفي، فلتكن عزلة في حفرة القبر، هذه هي الرغبة الحقيقية التي يرنُّ بها معدن طبيعتي، وكل ما عدا ذلك تمثيل خادع وتقليد للناس فيما ينشطون فيه … لكن لأترك هذه النغمة الحزينة ولألتفت إلى تيار الحياة.
ذهبتُ إلى نادي الأساتذة بعد الغداء، فوجدتُ الدكتور واتسن الذي ألقى أمس محاضرة عن الفن الحديث، وجدته هناك يشرب القهوة مع لفيف من أساتذة الجامعة، وكانوا عندئذٍ يتحدثون في الأثاث وتطوُّر الذوق فيه؛ فقال واتسن: كان يُراعى في الأثاث القديم أن يكون جميلًا، وأما الأثاث الحديث فيُراعى فيه النفع والراحة حتى لو أدى ذلك إلى قبح، وعندئذٍ تذكَّرتُ رأي أولدس هكسلي في ذلك؛ إذ يقول إن الأثاث يسير مع الديمقراطية منتقلًا من جمال المظهر بغضِّ النظر عن الراحة، إلى الراحة بغض النظر عن جمال المظهر. ثم أضاف الدكتور واتسن قوله إن فلانًا يبذل جهده الآن في أن يحتفظ في الأثاث بالراحة والنفع مع إضافة جمال المظهر ولو إلى حد محدود، وهو يعتقد أن فلانًا هذا سيُوفَّق إلى خلق اتجاه جديد في فن الأثاث.
وحضرتُ في المساء محاضرةً أخرى للدكتور واتسن عن «الحدائق في أمريكا وأوروبا»، عرض فيها صورًا لأشهر الحدائق مع التعليق المفيد للذين يهتمون بهذا الموضوع؛ فمما قاله مثلًا أنه يَحسُن دائمًا أن يكون للزهور البيضاء نصف ما في الحديقة من الزهور، وعرض صورًا لحدائق مختلفة رُوعِيَ في بعضها أن ينتشر فيها الزهر الأبيض فكانت جميلة، ولم يُرَاعَ في بعضها الآخر هذا المبدأ فبَدَتْ أقل جمالًا … وفي الحدائق العامة لا بد أن يتعاون فن النحت مع إنتاج الطبيعة، وعرض صورًا لحدائق انتثرت فيها التماثيل فكانت رائعة، وأخرى افتقرت إلى التماثيل فكانت أقل جمالًا، ولاحظ المحاضر أن حدائق أمريكا بوجهٍ عام لم تدخل فن النحت فكانت أقل جمالًا من نظائرها في أوروبا.
وكان مما عرضه صورة حديقة لأسرة متوسطة في جهةٍ ما بأمريكا، كانت منها موضع عناية ورعاية وهواية بحيث تغير طلاء نوافذ المنزل وأبوابه عدة مرات في العام الواحد حتى يتناسب لونها مع لون الزهور التي تزدهر في الفصل المعيَّن من فصول العام … وما هذا المثل إلا واحد من أمثلة كثيرة ساقها ليدل بها على صدق مبدأ وضعه في محاضرته، وهو وجوب التناسب بين تنسيق الحدائق وفن البناء الذي يجاور تلك الحدائق، وراح يطلعنا على أشهر الحدائق العالمية التي رُوعِيَ فيها الاتساق بين الحديقة والبناء، في طليعتها حديقة فرساي.
ومن جميل ما قاله: إن الناس يختلفون في أيهما يتبع الآخر: أننشئ الحديقة وفقًا للبناء المجاور لها، أم ننشئ البناء وفقًا للحديقة وتنسيقها وأزهارها؟ الفرنسيون يأخذون بالشق الأول، وعندهم أن الزهور هي التي تأتي في ختام القائمة لكي نختارها على أساس ما حولها؛ فهي كالقرط عند السيدات: تزدان السيدة بثيابها وتصفيف شعرها وبسائر حليها، وآخر ما تعمله هو أن تختار القرط الذي يناسب المجموعة بصفة عامة، وهكذا تأتي الأزهار في لونها ونوعها قرطًا في أُذُنِ حسناء.
الخميس ١٩ نوفمبر
من أجمل الدعوات التي دُعيتها حتى الآن، هذه الدعوة التي لبَّيتُها؛ دعوة نادي السيدات الشابات لألقي فيهن كلمةً عن المرأة المصرية وحالتها الاجتماعية؛ فهؤلاء السيدات الشابات قد أنشأن ناديهن منذ عامين، منسلخات به عن نادي السيدات المتقدمات في العمر لما رأين أن السيدات الكهلات يستأثرن بالنشاط كله، وقد جعل السيدات الشابات أربعين عامًا حدًّا أقصى لعمر المرأة العضو … ومن لطيف ما قالته لي السيدة «س» (وهي في السبعين من عمرها وعضو في نادي السيدات الكبريات ولا تنقطع فكاهتها) حين سألتها: وماذا تصنع السيدة من الشابات حتى تبلغ الأربعين؟ هل تستقيل لبلوغها أرذل العمر؟ ضحكت وقالت: لا يأخذنك الهم؛ فلن تبلغ منهن واحدة سن الأربعين، بل هناك ما هو أمرُّ وأنكى؛ وذلك أن كثيرات من أعضاء نادينا قد انضممن إلى الشابات ليقلن بذلك للناس إنهن دون الأربعين، مع أنهن فوق الخمسين فيما أعلم علم اليقين!
كانت الدعوة في أجمل فنادق المدينة، استأجر الشابات مكانًا هناك ليكون ناديهن، وهن من الطبقة العليا في المجتمع كما هو ظاهر من ثيابهن وحليهن وسلوكهن: فها أنا ذا أرى مجموعة قد تبلغ المائة من آيات الجمال الرائع، قد بَدَوْنَ في ثياب السهرة التي تخطف الأبصار فتنةً وسحرًا، وقد لبس كثيرات أنواعًا من الأساور العريضة التي تشنشن منغومةً كلما تحركت الأذرع، والأقراط في الآذان، كلها فن، وكلها عجب يسرق الألباب … الاجتماع فوَّاح بالعطور متلألئ بالزينة منغوم بالصوت الجميل، فيه كل ما يشبع البصر والشم والسمع والأنفس والعقول والألباب.
لما جاءتني اثنتان من هؤلاء تأخذانني بسيارة إحداهما إلى الفندق حيث الاجتماع، جلست إلى جانب صاحبة السيارة، وكان القمر ابن ليلتين أو ثلاث، فلم أدرِ كيف أفتح الحديث — قبل أن تتحرك السيارة — سوى أن سألت جارتي: كم عمر هذا القمر؟ فضحكت وقالت: لا أستطيع أن أراه من مكاني إلا إذا رأيته خلال فروع الشجر، ولا أريد أن أنظر إليه خلال فروع الشجر؛ لأنه يُقال إن الواحدة لو رأت القمر خلال الشجر أصابها الحظ السيئ … تلك بالطبع خرافة اعتقدت فيها هذه السيدة الفاتنة الجميلة التي شبَّهْتها أول ما رأيتها بالفاتنة المصرية «خ»، فكلتاهما مترعة بالأنوثة في كل نبرة وفي كل لفتة، فلما رأيت السيدة «ف» معتقدة في خرافة القمر والشجر زادت أنوثة على أنوثة وفتنة فوق فتنة! اللهم إني لمفتتنٌ بالمرأة التي تعتقد في الخرافة أكثر ألف مرة من فتنتي بامرأة تجلس إلى جانبي لتحدثني في الهندسة وعلم الفلك! إنني أشتهي المرأة حين لا يكون العلم الجاف جمَّد عقلها وجعلها كالصخرة الناشفة التي لا يُرْجَى عندها قطرة ماء، أريد امرأة يكون في عقلها رخاوة كرخاوة جسمها، أريدها ضعيفة لكنها ذكية …
في الجريدة اليومية التي أقرؤها محرِّرةٌ تردُّ على الرسائل التي تَرِد إليها من قرائها وقارئاتها، وكثيرًا ما تكتفي المحرِّرة بسؤال واحد لتجيب عليه في إطناب، وقد لفت نظري موضوع اليوم؛ لأنه متصل بالفكرة التي ذكرتها الآن عن المرأة التي تستهويني … فالسؤال من طالبة في مدرسة ثانوية، أرسلت تسأل المحرِّرةَ رأيها في الصفة التي تكون أكثر استهواءً للشبان، فتقول: إن طريقة تربيتي مختلفة كل الاختلاف عن تربية زميلاتي؛ فقد عنى والديَّ أن يربياني بحيث أنشأ امرأةً لا تتشبَّه بالرجال، فعلماني كيف أمشي وكيف أتكلم وكيف أتلفت، وكيف أجلس وكيف أستقبل وكيف أودِّع … أما زميلاتي فيَهْزَأن بي، ظانات بي التأخُّر والرجعية؛ فهذا العصر عندهن عصرٌ لا ينبغي للمرأة فيه أن تختلف عن الرجل في شيء؛ فهن يصحن في الحديث ويَصْفِرن ويدخِّن ويسترجلن في الحركة والكلام … إن زميلاتي ينذرنني بأن سلوكي المتخلف عن عصره سيكون منفِّرًا للشبان، وبذلك فلن تكون لي صداقة مع واحد منهم، وبالتالي لن يكون لي زواج …
فأجابتها المحرِّرة قائلة إن سلوكها هذا هو خير سلوك في اجتذاب الصديق والزوج، وأكدت لها من خبرتها الطويلة أن المرأة كلما بعُدت عن التشبُّه بالرجال زادت للرجال استثارةً واستمالةً؛ لكنها تحذِّرها تحذيرًا شديدًا ألا تخطئ فتمزج ترفُّعها بالعجرفة، قائلة لها: اعلمي أنه ليس أَقْتَل لغريزة الرجل إزاء المرأة من عجرفتها …
وقرأت في مجلة كوليرز لهذا الأسبوع مقالة دهشت لها دهشة عميقة، كدتُ لا أصدِّق عينيَّ فيما تريان على صفحات المجلة؛ ذلك أن المقالة عن طائفة من الناس في ولاية يوتا من ولايات الغرب يُطْلَق عليها اسم «المورمون» تبيح للرجال منها أن يتزوج الرجل من زوجات عدة، و«المورمون» طائفة مسيحية لكنها تختلف عن سائر المذاهب المسيحية من بعض الوجوه؛ وعنوان المقالة التي قرأتها اليوم «لماذا أعاشر خمس زوجات» وهي حديث صحفي مأخوذ من رجل اسمه «إدسن جيسوب» يدين بعقيدة المورمون، ويتزوج من خمس نساء دفعة واحدة، وقد استتر هو وأسرته الضخمة في مكان خفي من ولاية أرزونا؛ لأن حكومة الولايات المتحدة لا تجيز تعدد الزوجات على أرضها مهما تكن عقيدة الزوج، فاكتشف رجال الحكومة مكمن هذا الرجل وقُبِضَ عليه وحُوكم وحُكِمَ عليه بالسجن، لكن الرجل عندما وجَّه إليه الصحفي سؤاله كان قويًّا في إجابته مؤمنًا بعقيدته، سأله الصحفي: هل يمكنك أن تحب زوجاتك الخمس؟ فقال: «لقد سمعت هذا السؤال مرارًا كأنه لغز لا تستطيعون حلَّه، وجوابي دائمًا على هذا السؤال هو الآتي: هل يمكن لرجل أن يحب خمسة من أبنائه دفعة واحدة؟ هل يمكن أن يحب خمسة من أصدقائه دفعة واحدة؟ هل يمكنه أن يحب خمسة من إخوته دفعة واحدة؟ أروني رجلًا واحدًا ممن يدَّعون أنهم يلتزمون بنظام الزوجة الواحدة، لا تكون له امرأة أخرى يبادلها الغرام وتبادله! ونحن المورمون لا نحب سرًّا، إننا لا نحب حبًّا يلفه العار، بل نحب جهرًا وعلانية حبًّا يزدان بالشرف، ليس بيننا المرأة التي تحمل جنينها في خفاء من القانون ثم تضع حملها إجهاضًا، فنساؤنا جميعًا يحملن الأجنة من أزواج، ويلدنهم أطفالًا ذوي نمو كامل.»
وذهبتُ في الساعة الثامنة إلى الجمعية التاريخية لأشرح التطور التاريخي للمسألة المصرية، وكان بين الحاضرين سيدة واحدة؛ إنني لأوشك أن أقول إن هذه ظاهرة في الحياة هنا؛ أعني عدم امتزاج الرجال بالنساء إلا على نطاق ضيق محدود، فلولا أنني أعلم أنني الآن في أمريكا حيث الاختلاط بين الجنسين تام، لقلتُ إن مشاهداتي الشخصية تدل على غير ذلك … فالاجتماعات الأربعة التي عقدها لي الدكتور «ش» في داره عند أول قدومي لم يكن فيها امرأة واحدة، ولم تحضرها زوجته؛ والاجتماع الذي حضرته في منزل العميد «ن» لم يكن فيه امرأة واحدة ولم تحضره زوجته؛ ولم أرَ في نادي الأساتذة امرأة إلا مرة واحدة، وفي كل مطعم أرتاده لم أجد أبدًا رجلًا يجلس مع سيدة على منضدة واحدة إلا إذا جاءا إلى المطعم معًا، فكثيرًا ما يكون هنالك مقعد خالٍ على منضدة تجلس إليها سيدة، فلا يجلسك صاحب المطعم على ذلك المقعد الخالي، ويطلب منك الانتظار حتى تخلو منضدة، أو يخلو مقعد على منضدة يجلس إليها رجل؛ كل النوادي التي دُعيت إليها حتى الآن إما أن تكون للرجال دون النساء أو للنساء دون الرجال … لست أدري إلى أي حدٍّ تكون هذه قاعدة في الحياة الأمريكية، لكن تلك هي مشاهدتي على كل حال.
الأحد ٢٢ نوفمبر
المآسي البشرية تحدث كل يوم، لكن بعضها يلفت النظر لغرابته، أو لأنه أمسُّ بالشعور؛ وقد حدثت مأساتان في نيويورك: الأولى تستوقف النظر بغرابتها؛ والثانية تسترعي الانتباه؛ لأنها تمس الشعور الإنساني في صميمه.
أما الأولى فهي: أن زوجة ضربت زوجها بالقادوم — وهو نائم — على رأسه حتى قتلته، أو حتى ظنت أنه قُتِلَ، وجذبت ابنها بسرعة إلى المطبخ، وفتحت صنابير الغاز لتختنق هي وابنها، ولكن حدث وهي في المطبخ مع ابنها أنْ سمعت زوجها يئن، فعادت إليه مسرعة وضربته بالكرسي على رأسه حتى مات، وعادت لا لتجد ابنها حيث تركته، بل لتجد أن ابنها قد فر صارخًا إلى الجيران يطلب النجدة، وجاء الجيران ونادوا رجال الشرطة وقبضوا على المرأة، فقصَّت قصتها: وهي أن زوجها لم يدعِ الأسرة تستقر في مكان واحد شهرًا على شهر؛ فهو ينتقل بهم من ولاية إلى ولاية، ومن مدينة إلى أخرى، فحذَّرته من الانتقال مرة أخرى، حتى يجد ابنهما فرصة يضرب فيها بجذوره في الأرض، فيكوِّن المعارف والأصدقاء؛ لأنه حتى الآن بغير صديق، لكن زوجها عاد أمس يقول لها: نحن راحلون إلى ولاية أورجون (في أقصى غرب الولايات المتحدة)؛ فقالت له: لسنا براحلين؛ فقال: بل سنرحل، وقد اتفقتُ فعلًا على عملي الجديد … قالت المرأة للشرطة: فانتظرتُ حتى نام وقتلته، وأنا الآن مستريحة الفؤاد؛ إذ لا انتقال للأسرة بعد اليوم!
وأما الحادثة الثانية فهي: أن رجلًا متزوجًا وله طفلة، يسكن مع أسرته في نيويورك، وقد فقدَ وظيفته ويحاول البحث عن أخرى منذ ستة أشهر ولكنه لم يوفَّق، واشتد خجله من زوجته، فأفهمها أنه قد وجد عملًا، وظل يخرج في الصباح حيث لا يعود إلى داره إلا في موعد انصراف الناس عن أعمالهم، وفي هذه الأثناء يبحث عن عمل فلا يجد، وكان كل شهر يسحب من توفيره مبلغًا يساوي ما يمكن أن يكون راتبه، فيعطيه إلى زوجته، بل كان أحيانًا يعطيها زيادة على اعتبار أن راتبه قد زاد، لكن المدَّخر قد نفد، فكتب خطابًا إلى زوجته يقص عليها فيه قصته، وترك الخطاب في البيت، وخرج إلى غير عودة؛ لأنه انتحر … أليس عجيبًا أن يخفق إنسان كل هذا الإخفاق في أمريكا المليئة بالعمل والنجاح؟! لكن هكذا الدنيا وهكذا الناس: يُسْرٌ لبعض وعُسْرٌ لبعض.
ومن أغرب ما قرأتُ اليوم من أنباء هذا النبأ الذي أثار دهشتي لما فيه من دلالة عميقة، وأعني النبأ القائل بأن «إنسان البلْت داون» الذي كان معروضًا في المتحف البريطاني بلندن، والذي كُشِفَت عظامه في جنوبي إنجلترا واتُّخِذَت دليلًا على الحلقة المفقودة بين القردة والإنسان في نظرية التطور، قد تبين أنه خدعة علمية كبرى! فقد اقترف العالِم الذي أعلن كشفها غشًّا وتزويرًا بأن تناول عظامًا حديثة وطلاها وزوَّر أجزاءها على نحوٍ يوحي بأنها هي العظام القديمة المنشودة! إنني لفي عجب شديد أن يبلغ التزوير العلمي كل هذا الحد، ولماذا؟ ليُقال عنه إنه خليق بالتمجيد؛ أليس هذا إمعانًا وإسرافًا في الرغبة في الشهرة حتى وإن قامت الشهرة على زيف وغش؟ … لكن فيمَ العجب وأمثال هذا الزيف عندنا في مصر بالقناطير المقنطرة؛ فما أيسر على المصري أن ينقل غيره ويكتم خبر النقل ليشتهر بالعلم على حساب غيره … ليست الشهرة الزائفة في المحيط العلمي أمرًا غريبًا في مصر، لكنها في الحق جد غريبة في بلد كإنجلترا؛ وقد مرَّ أربعون عامًا تقريبًا والعظام معروضة في المتحف البريطاني بلندن، والعالم كله ينظر إليها على أنها الأساس العلمي المتين الذي يدعم النظرية التطورية، ويكتب المجد العلمي لمكتشفه … هذا أقوى دليل على أنه لا عِلمَ بغير أخلاق.
الثلاثاء ٢٤ نوفمبر
أذعتُ اليوم أولى إذاعاتي عن مصر وعن الإسلام، وسأذيع سلسلة منها هنا بغير أجرٍ دعايةً لوطني الذي يجهله الناس جهلًا لا يطوف لنا ببال … لكن طريقة الإذاعة لم تعجبني؛ فهي تجارية إلى درجة لا يطيقها عاقل؛ كنت لا أطيقها مستمعًا وها أنا ذا اليوم أجرِّبها من الداخل فلا أطيقها مذيعًا؛ ذلك لأن إذاعتي مسمار تتعلق عليه طائفة من إعلانات تجارية! تسألك المذيعة سؤالًا عن بلدك، فتحسب السؤال بريئًا لوجه الله فتجيب، وإذا بها تستدرجك في مهارة عجيبة حتى تذكر لها في إجابتك شيئًا تريده لتقول عنه إعلانًا في يدها؛ مثال ذلك أن تسألك إن كنا نزرع الفاكهة في مصر والتفاح بوجه خاص، لينتهي بها الأمر أن تقرأ صفحة كاملة في يدها عن «تفاح بيرو» أين يُباع وبأي ثمن يُباع، وما ميزاته على سائر أنواع التفاح … وهكذا، وبذلك لا أظنني قد تحدثتُ عن مصر أكثر من اثنتي عشرة دقيقة من نصف الساعة الذي سُمِحَ لي به، وبقية الزمن إعلاناتٌ قرأتْها المذيعة في مناسبات خلقتها خلقًا أثناء حديثها معي عن مصر.
الأربعاء ٢٥ نوفمبر
قرأت تحليلًا أدبيًّا لزوج عن زوجته، ولم يسعني إلا الضحك لشدة ما رأيت من شبه بين الزوجة الموصوفة — وهي أمريكية — والزوجات عندنا في مصر، كأنما الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان؛ ذلك أن الزوج يذكر عن زوجته فيما يذكره نقطتين: الأولى أنها تشتري من البائعين الذين يطوفون البيوت، معتقدة أرسخ العقيدة أنها ما دامت قد اشترت على الباب، فلا بد أن تكون الصفقة رابحة! وعبثًا يحاول الزوج إقناعها أنها مخطئة أحيانًا على الأقل؛ فالأطباق التي اشترتها بخمسة وستين سنتًا للطبق تُباع بثمن أرخص من هذا في الدكاكين، لكن هيهات أن يتغير اعتقادها … والنقطة الثانية أنها كثيرًا ما تبالغ في شراء الأشياء التي قد تستغني عنها الأسرة، فإذا ما ضاق الزوج ذرعًا بهذا التصرُّف الأحمق، زعمت له أنها لم تدفع الثمن من حساب المصاريف، فلا حقَّ له أن يضيق صدرًا، بل دفعته من المال المتجمع في «الحصالة» … ثم يشرح الزوج الكاتب قائلًا: والمال المتجمع في «الحصالة» إنْ هو إلا قِطعٌ من النقود تسقطها زوجتي كل يوم في صندوق مثقوب من أحد جوانبه، وهي بذلك تتوهم — وتريد أن تقنعني بصدق وهمها — أن النقود لم تعد نقودي ولا هي من حساب المصاريف، ما دامت قد تجمعت في «الحصالة»! … ولم يسعني سوى أن أضحك في مرح؛ لأنني تذكرت السيدة «ح» التي كأنما كتب الكاتب ليصفها، مع أنه أمريكي وهي مصرية! فالزوجات كلهن سواء.
لست أدري ما الذي حوَّل مزاجي في القراءة هذا التحوُّل العجيب فلم يعد يلذ لي إلا قراءة القصص، أقرؤها بشغف شديد، وإنما أعني بطبيعة الحال القصص التي يكتبها ذوو الأقلام المجيدة، والتي أجد فيها من تحليل الطبائع البشرية ما أستمتع به متعة فنية كبرى؛ لم أعد أستسيغ ولا أطيق المقالة «الحاف» التي تتكلم بلغة التعميم، خذ مثلًا المقالة التي قرأتها الآن توًّا عن سيرفانتيز، فكيف يمكن أن تُقاس المتعة التي أستمدها من قراءة هذه المقالة بالمتعة التي كنت أستمدها لو قرأت ولو جزءًا يسيرًا من سيرفانتيز؟
على كل حال؛ إن فكرة قوية تلعب في رأسي صباحًا ومساءً، وهي أن أهمَّ بكتابة القصة؛ إنني أشعر بغيرة شديدة حين أقرأ قصة قصيرة أجاد كاتبها في التحليل؛ لماذا لا أكتب مثل هذا؟ هذه وحدها هي الكتابة، هذا وحده هو الأدب؛ والحياة مليئة بالموضوعات؛ فكل شخص ممن أعرفهم يمكن أن أستخرج من حياته مواقف تحليلية تضع الطبائع البشرية في ضوء الشمس؛ وكل يوم من حياتي بغير استثناء فيه مواقف يصح أن تُذْكَرَ، كم موقف يمكن استخراجه — مثلًا — من حياة «ح» و«ع» و«ﻫ» و«س» … إلخ إلخ؟! لقد قرأت اليوم قصتين قصيرتين بارعتين: الأولى تحلِّل فتًى ريفيًّا في طباعه أراد أن يشتبك في علاقة غرامية مع فتاة مصقولة من فتيات المدن، وهو جاد وهي هازئة … أليست حياتي الشخصية مليئة بمثل هذه الخبرات فيمن أعرف من الناس؟ فلماذا يقع الكاتب هنا على موقف كهذا فيجيد تحليله، ولا نقع نحن مع أنه كان في صميم حياتنا؟ … والقصة الأخرى كاتبتها امرأة، هي قصة فتاة تسابَقَ على حبها شابان: أحدهما محتال دجال والثاني مخلص صادق، ولم تفعل الكاتبة سوى أن عرضت صورتين للشابين: كيف يتصرفان إزاء الفتاة … هذه هي الحياة نراها ونعيشها فلماذا لا نكتبها؟!
الخميس ٢٩ نوفمبر
اليوم «عيد الشكر» وهو عيد أمريكي يغلب فيه أن يكون الديك الرومي محور الغداء، وأنا مدعو اليوم عند الكابتن «ش» وزوجته السيدة «ش» التي تحضِّر لدرجة الأستاذية في الفلسفة، وتَحضُر لي محاضرات الفلسفة الإسلامية، وهما يسكنان في «سَمْتَر» في داخل مطار حربي هناك، وهي مدينة تبعد عن كولمبيا نحو خمسين ميلًا.
جاءت السيدة «ش» وزوجها ليأخذاني بسيارتهما، وقد كانت السيدة كعادتها دائمًا مَعْنِيَّة بلبسها وبقرطها، وهي اليوم تلبس عقدًا من نوع القرط، وكلاهما من فضة مرصعة بما يشبه فصوص الماس … حدثاني في الطريق عن حياتهما، فكلاهما تخرَّج في جامعة تكساس، كانا زميلين، غير أن السيدة قد سبقت زوجها في التخريج بعام، وكنتُ أقدِّر لهما من العمر ثلاثين عامًا، لكني لما علمت اليوم أنها تخرجت منذ عامين، رجحت أن يكونا أصغر من ذلك بكثير، والوجوه كثيرًا ما تخدع عند تقدير الأعمار.
دخلنا في قلب المطار الحربي حيث يسكنان؛ فهناك مجموعات من المنازل لرجال المطار، والكابتن «ش» وزوجته يسكنان منزلًا ذا غرفتين هما غاية في الأناقة والبساطة وحسن الذوق، ويسكن بجوارهما شاب وزوجته وطفلتهما، الشاب هو الآخر كابتن في الطيران، غير أن اختصاصه هناك هو التنبؤات الجوية، ولم نكد نصل حتى جاء هذان الزوجان؛ فهما كذلك مدعوان معي على الغداء في منزل «س».
تركنا الزوجتين تُعِدَّان الطعام، وذهب ثلاثتنا للطواف بالمطار، وكان أول مكان زرناه هناك هو المكان الذي يعمل فيه الكابتن «ك» في التنبؤات الجوية: صفوف من الآلات شبيهة كلها بالآلات الكاتبة، تدق كما تدق الآلات الكاتبة، تدق وحدها بطريقة آلية، وتنظر في المكتوب فتجد أن الآلات ترصد حالة الجو في أنحاء الولايات المتحدة كلها في تلك اللحظة؛ فالحرارة الآن في نيويورك كذا، وفي ميشجان كذا … إلخ، وكل آلة مختصة بشيء ترصده: هذه للحرارة وتلك للضغط الجوي وثالثة لاتجاه الريح، ومن هذه الورقات التي تخرجها الآلات ترسم الخرائط فورًا، لتعرض على نحوٍ يمكنك في نصف دقيقة أن تنبئ عن الجو في أي مكان من الولايات المتحدة كلها.
وأخذنا للكابتن «ك» بعد ذلك إلى حيث صفوف الطائرات رابضة، وأطلعني على الطائرات النفاثة والطائرات ذوات المحركات العادية، وطلبت منه أن يفرِّق لي تفرقة مختصرة واضحة بين النوعين من الطائرات ففعل، وعرفت منه في وضوح أن الطائرة النفاثة تخلخل الهواء وراءها، وهذه الخلخلة من تلقاء نفسها تدفع الطائرة إلى أمام.
عدنا إلى المنزل وجلسنا إلى مائدة الغداء، وقبل أن نبدأ الطعام شبَّكنا أيدينا وطأطأنا رءوسنا ريثما يدعو الكابتن «ش» دعاءه الديني، فقال عبارة خُيِّل إليَّ أنه أعدها وحفظها لمناسبة وجودي: «أشكرك يا رب على ما أمامنا من طعام، وأدعوك يا رب أن تعطي مَن ليس عنده مثل ما عندنا من طعام وثياب ومأوى، أشكرك يا رب على أن جعلت لنا هذه البلاد وطنًا، فنتمتع بما فيه من حرية رأي وديمقراطية، وأدعوك يا رب أن تهب البلاد التي لا تتمتع بمثل هذه الحرية مثل ما وهبتنا …»
دار حديثنا بعد الغداء في السياسة، وكانت البداية أن سألتني السيدة «ش» إن كان المنتظر أن يُعْدَمَ مصدق في إيران؟ قلت: لا أدري، لكنهم لو أعدموه فإني أحزن عليه؛ فقالت: وكذلك أنا، فإني أحزن عليه أشد الحزن؛ قال الكابتن «ك»: إن أكبر عيب في مصدق هو رأيه في أن تستقل إيران عن العالم، وليس هناك دولة في الدنيا تستطيع لنفسها هذا الاستقلال؛ فقلت: على شرط أن تختار كل دولة طريقة اتصالها بالدول الأخرى. وسرعان ما جذب الحديث قناة السويس، وطبعًا أخذتني الحماسة واشتد بي الانفعال وأنا أتحدث عن مصر وإنجلترا، وما كان لي أن أفعل؛ لأننا في جلسة عائلية ضيقة لا يجوز فيها مثل هذا الانفعال.
غربت الشمس، واستعد كابتن «ش» وزوجته لإعادتي بالسيارة إلى كولمبيا، وقد سمعتهما يُبْدِيَان رغبة أن يذهبا هناك إلى سينما، فدعوتهما لمشاهدة فلم مارتن لوثر الذي بدأ عرضه في المدينة منذ قريب … لا زلت أعجب لشدة تعلُّق الناس هنا بعقيدتهم الدينية، فما كان أشد ارتياح كابتن «ش» وزوجته بالفيلم الذي رأيناه عن مارتن لوثر والبروتستانتية، مذهبهما في الدين، فليس ارتياحهما ناشئًا عن مشاهدة فيلم جميل أو قصة جيدة، بل ناشئ عن شعورهما الديني رغبة في انتصار المذهب الذي يدينان به … ومما هو جدير بالذكر في هذه المناسبة أن الكنيسة البروتستانتية تنشط في توزيع تذاكر مخفضة القيمة؛ ليشهد هذا الفيلم أكبر عدد ممكن، وقد جاءتني ثلاث تذاكر منها هي التي استخدمتها في دخولنا الليلة.
أخذتُ الكابتن «ش» وزوجته إلى مطعم ليشربا معي القهوة بعد خروجنا من السينما، وهو المطعم الذي اعتدت ارتياده، فلما قدَّمتْ لنا المناوِلَة أقداح القهوة، سقطت قطرات منها في أحد الأطباق، وعرضت أن يكون هذا طبقي إكرامًا لضيفي، لكن المناوِلة أصرت أن تجيئني بفنجان آخر، قائلة: أنت ضيفنا جميعًا، وضيوفك ضيوفنا، فليس الأمر مقصورًا على أنه مطعم وزبائنه، بل هو أكثر من ذلك، هو علاقات إنسانية قبل كل شيء … شكرتُها، ولما انصرفت استأنفنا ما كنا فيه من حديث، وهو بعض مذكراتي التي أكتبها عن أمريكا، فسألني الكابتن «ش» ماذا أجد في يوم كهذا لأكتبه؟ فقلت له: كل ما رأيته عندك من ضيافة جدير بالتسجيل، ثم ألم تسمع ما قالته هذه المناوِلة الآن؟ إنه جدير بالتسجيل بالخط العريض؛ لأن هذه هي أمريكا الحقيقية التي لا يقرؤها الناس في الصحف!
الجمعة ٢٧ نوفمبر
في صحيفة اليوم قصة عجيبة: اختفى رجل منذ اثنين وعشرين عامًا، وكانت سنُّه إذ ذاك ثمانية وعشرين، وكان متزوجًا وله ثلاثة أولاد، وبعد اختفائه بقليل اختفت سكرتيرته التي كان عمرها إذ ذاك اثنين وعشرين عامًا، ولم يعثر أحد لهما على أثر طوال هذه المدة، حتى لقد اعتبرهما القانون «ميتَيْن بحكم القانون» فتزوجت زوجة الرجل المختفي من رجل آخر، وكان للفتاة المختفية إرثٌ يبلغ مقداره مليونًا من الدولارات فتحوَّل إلى أقرب أقربائها وهو ابن عمها، وكان للرجل في شركة التأمين خمسون ألفًا من الدولارات فأخذته زوجته وأولاده على اعتبار أنه قد «مات بحكم القانون» … حتى كان أمس، أعلن الرجل المختفي «وزوجته» — بعد أن اختفيا وتخفيا اثنين وعشرين عامًا — أعلنا حقيقة أمرهما، وهي أنهما تحابَّا ولم يستطع أحدهما أن يستغني عن الآخر؛ فاتفقا على الفرار والاختفاء؛ ليعيشا معًا في مأمن من المجتمع والقانون، ولم يكن معهما إذ ذاك إلا الثياب التي تغطي جسديهما، فغامرا ولقيا أصعب الصعاب، حتى استقر بهما الحال وتزوجا باسمين منتحلَيْن، وأنسلا ستة من الأبناء والبنات، وتزوَّجت كبرى بناتهما وأنسلت لهما حفيدًا، وثاني أولادهما الآن في الخدمة العسكرية …
بماذا نحكم عليهما؟ لا شك أن سلوكهما يخالف القانون والشرع المسيحي، لكن ألم يعيشا معًا سعيدَيْن اثنين وعشرين عامًا؟ ألا تكون إباحة الطلاق من جهة وإباحة تعدُّد الزوجات من جهة أخرى أمرًا قد تكون له ضرورته في ظروف استثنائية كهذه؟ فلو كان مباحًا للرجل أن يتزوج من اثنتين لهانت الصعاب ولتزوج من حبيبته إلى جانب زوجته الأولى إذا أرادت هذه البقاء معه … الحق أني لا أدري بماذا أحكم عليهما؛ لأنني أمقت الطلاق وألعن تعدُّد الزوجات، لكن الحياة وظروفها والقلوب ومشاعرها أوسع جدًّا من كل قانون وتشريع.
أراد الصحفيون أن يوجهوا الأسئلة إلى الزوجة الثانية — وعمرها الآن أربعة وأربعون عامًا — فأجابتهم جوابًا واحدًا: إني سعدت مع حبيبي اثنين وعشرين عامًا، ولا أزال سعيدة معه، وسأظل سعيدة معه حتى أموت، ولمن شاء بعد ذلك أن يقول ما شاء.
السبت ٢٨ نوفمبر
حدث هنا في مدينة كولمبيا حادث بسبب التفرقة اللونية؛ فهنا معسكر حربي فيه جنود من البِيض ومن السود على السواء، وقد جاء بعض الجنود السود من ولايات أخرى لا يحرِّم قانونها اختلاط اللونين، فخرج اليوم أحد هؤلاء من معسكره إلى المدينة، فركب سيارة عامة، وجلس في النصف الأمامي المخصَّص للبِيض وحدهم، محتجًّا بأنه لا يعترف بهذه التفرقة اللونية؛ فهو من ولاية كذا من ولايات الشمال التي لا تفرقة فيها بحكم القانون بين أبيض وأسود؛ لكن السيدة التي جلس إلى جانبها في السيارة طلبت منه أن يغادر مكانه إلى النصف الخلفي المخصَّص للسود، فرفض الجندي ذلك، فتدخَّل السائق وطلب منه الطلب نفسه لكنه رفض القبول، فنُودي شرطيٌّ، وسرعان ما نادى الشرطي زملاءه بواسطة اللاسلكي في سيارته البوليسية، فجاءت فرقة كبيرة … في هذه الأثناء انضم إلى الجندي الأسود الثائر عدد كبير من زملائه الجنود السود، وانضم إليهم ضابط زنجي، ظن أنه — بحكم رتبته العالية — يستطيع أن يأمر البوليس بالانصراف فيطيعوا، لكن رجال البوليس قبضوا بالقوة على الثائرين الزنوج وعلى رأسهم الضابط، وحُوكم الجميع فورًا، فحُكِمَ عليهم بغرامات مختلفة، أعلاها الغرامة التي حُكِمَ بها على الضابط؛ إذ حُكِمَ عليه بغرامة قدرها مائتا دولار.
وأذاعت قيادة المعسكر في رجالها بيانًا تقول فيه إنه على الرغم من أنه ليس في داخل المعسكر تفرقة لونية، إلا أن القيادة تنتظر من رجالها أن يحترموا قانون الولاية التي هم على أرضها إذا ما خرجوا عن حدود معسكرهم، فعندئذٍ ينبغي أن ينطبق عليهم ما ينطبق على أي مواطن آخر.
الأحد ٢٩ نوفمبر
الجو رائع، لا يكون أروع منه جوٌّ في الدنيا بأسرها، فاستخسرتُ أن يضيع هذا الجو الجميل وأنا سجين غرفتي … وقفت أمام المرأة الكبيرة، وقلت لصورتي فيها: أنت في أمريكا والجو رائع هذه الروعة كلها، فكيف تظل سجين غرفتك؟ فقالت لي صورتي: قبل أن تكيل اللوم، قل لي أين أذهب؟ فقلتُ: أخبط في الشوارع مشيًا كما اتفق! فقالت صورتي: لكن الشوارع خالية، اليوم يوم الأحد؛ البيوت مقفلة على أصحابها، والدكاكين مغلقة على بضائعها … ومع ذلك فاصبر قليلًا، اصبر ساعة ونصف ساعة، وستخرج إلى الغداء، فامشِ بعد الغداء حتى تُشبِع قدميك مشيًا، وأراهنك أنك ستعود بعد مشي لا يدوم أكثر من دقائق.
وماذا أصنع في هذه الساعة ونصف الساعة التي بقيت إلى موعد الغداء؟ أُحَضِّر محاضرات الغد؟ السم الزعاف أهون … أقرأ؟ لقد قرأت أمس عشر ساعات متوالية، فرحمة بعينيك … أكتب؟ إي والله هذا خير ما أصنع؛ ماذا تكتب؟ … أكتب أي شيء، ما أول خاطر يأتيك؟ أول خاطر هو … هو … لا خواطر!
لا، فكِّر قليلًا، واكتب في أول خاطر يَرِد إلى ذهنك على أي نحو يجري به قلمك، وماذا يكون أول خاطر سوى هذا الذي يعاودني ألف مرة، هو جناية الآباء على أبنائهم؛ إذ يُخْرِجونهم إلى هذا العالم بعد أن يحطموهم، فيخرج الابن محطم النفس ليصير بدوره أبًا ينسُل البنين، فيحطم البنين بدوره … من الذي يمسك لساني حين أريد الكلام؟ ومن الذي يقيِّد ذراعي حين أريد الحركة؟ ومن الذي يغُلُّ قدميَّ حين أريد السير؟ مَنْ فعل ذلك كله غير الذي ربَّاني فأخرجني إلى العالم مغلولَ اللسان والذراع والقدم؟ إن نفسي لتقطر مرارة!
كان الفتى في سن الثامنة عشرة، وكانت الفتاة في الخامسة عشرة من عمرها، وأمسك الفتى بالفتاة وضربها على رأسها ضربة أفقدتها وعيها، ثم بحبل رفيع خنقها، وأمسك بمقص يقص عنها ثيابها وهو في نشوة … وهنالك أمسكوه مجرمًا، وحُوكم وقُضِيَ عليه بالموت سفاكًا خطيرًا، فلم يلبث أن تلقَّى القاضي الذي أصدر هذا الحكم خطابًا من فتاة في الخامسة والعشرين، هي طالبة في الدراسات العليا بإحدى الجامعات، تقول فيه: لقد أكل الدهر على القانون وشرب، تقدَّم العلم ولم يتقدَّم القانون ليساير الزمن! والقضاة جهلة قساة … ما أكثر ما يكون المجرم فريسة تنوء تحت عبء ثقيل، هو العبء الذي ألقته على كتفيه الأيام والظروف! … أنا أخت هذا الفتى الذي أعدمتموه، وسأقص عليك شيئًا عن الظروف التي نشأت فيها مع أخي لتدرك إلى أي حد أنتم تظلمون! إن الإنسان لا يفقد صوابه ورشده بين عشية وضحاها، بل لا بد له من مقدمات طويلة تمتد على سنوات طوال؛ فإني لأذكر أخي وهو بعدُ طفل صغير يعاني من أبويه ما يعاني، كان يضحك فجأة أو يبكي فجأة، ولا يفهم الوالدان لذلك سببًا، فيضربانه ضربًا مؤلمًا، أو يغمسانه في حوض مُلِئَ بالماء الساخن ليهدأ، ومضى وقت طويل قبل أن تشاء الظروف أن يفحصه طبيب فيجد أن جزءًا من مخه تالف، هو الجزء الذي يستخدمه الإنسان في ضبط نوازعه الحيوانية … إن طفلًا كهذا كان لا بد أن يتعذَّر عليه الملاءمة بين نفسه وبين أسرته، حتى لو كانت أسرته سعيدة، فما بالك والأسرة التي نشأ فيها جهنم وجحيم؟ وسأسوق نفسي مثلًا.
فلست كأخي مريضة ولا معتوهة، وُلِدت سليمة العقل، بل إني فوق المتوسط المألوف في ذكائي؛ إنني لا أريد الآن أن أتواضع، فليس هذا أوان التواضع الزائف، لكنني لقيت من أبويَّ ما لقيته من قسوة وجهل بطبائع الطفولة ما ملأني مرارة، وكنت أحاول أن أفرَّ من هذا الجو المسموم بالقراءة وبصحبة الأصدقاء، وهو ملاذٌ لم يجد أخي المريض سبيلًا إليه، كان في مدرسته أضحوكة الضاحكين من زملائه، وكان في البيت موضع سخط الوالدين الغاضبين دائمًا، المعتركين دائمًا … كان أبي أو كانت أمي تضربه بكتبه على رأسه؛ لأنه ولد خائب يجلب على أبويه العار.
بلغتُ من عمري السادسة عشرة، وكنت كلما كبرت عامًا من الزمن، ازددت ثورة نفسية وازددت مرارة وسخطًا، حتى عجزت عجزًا تامًّا أن أجرَّ قدميَّ إلى المدرسة، وأذكر ذات مساء أن خلعت أمي عن جسدي الثياب وضربتني على ظهري بحزام من الجلد، وما كادت تتركني حتى هممت بالانتحار خلاصًا من هذا العالم الوبيء، فلم أستطع … أفتدري ماذا صنعتُ بعدئذٍ؟ تحوَّلتُ منذ الصباح التالي عاهرة تعرض جسدها على كل مَن أراد أن يستمتع به من زملائي، لم آخذ من أحد مالًا على متعته، ولا أقول إني كنت في ذلك أنشد المتعة الجسدية، فما أقل ما وجدتها حينئذٍ! وما أكثر ما شقيت! ولكني لم أزل عارضة جسدي كل يوم على مَن شاء … وأسأل نفسي الآن: لماذا؟ وأجد الجواب حاضرًا: لأجد كل يوم شخصًا يظهر لي علامات الحب حتى ولو كان زائفًا، كان ذلك مني ضربًا من الانتقام من والديَّ.
حاجة الإنسان إلى عطف هي — يا سيدي القاضي — أشد وأقوى ما يدفع الإنسان في هذه الدنيا إلى سلوكه الذي يسلك.
وقضيت في انتقامي العاهر أعوامًا، ثم قابلت فيمن قابلت شابًّا عرفني، ولعله لمس قلبي وما يكنُّه من أخلاط المشاعر والدوافع، فطلب الزواج مني وقَبِلْتُهُ زوجًا، حيث نعيش الآن زوجين … لا أظنني كنت أحبه عندئذٍ حبَّ المرأة للرجل، لكني قبلته زوجًا لأفرَّ مما كنت فيه، ومنذ ذلك الحين مضيت في دراستي الجامعية، أزيح عن نفسي قليلًا قليلًا ما تركه أبواي من رواسب السم.
لقد حكمتَ على أخي بالموت — يا سيدي القاضي — وها أنا ذا قصصت عليك تاريخي لتعلم في أي بيئة نشأنا؛ إن أخي قد قتل فتاة في جسدها، فحكمتَ عليه بالموت، وأنا أسألك الآن: ماذا أنت صانعٌ بوالدَيْن تآمرا على قتل نفسين: نفسي ونفس أخي؟ أم أن قتل النفوس عندكم في القانون حلال مباح؟ …
أَمْلَتْ عليَّ صورتي في المرآة هذا كله، فسألتُها: أنَّى لكِ هذا؟ فقالت: وما جدواك أن تعرف من أين؟ إن هذه القصة إن تكن من الحياة الواقعة فهي واقع، وإن تكن خيالًا فهو خيال يشبه الواقع.
مضت ساعة وبقيت نصف ساعة على الغداء، سأكتب فيها شيئًا قرأته الآن، هو خلاصة حديث أدلت به زوجة الكاتب المعروف «ول ديورانت» — الذي أدين له بشيء كثير — فقد ذكرت الزوجة في حديثها كيف كان لقاؤها مع زوجها لقاءً أنتج الزواج؛ وهو حديث قالته الزوجة بمناسبة صدور جزء جديد من سلسلة المجلدات التي يخرجها «ول ديورانت» في «قصة الحضارة».
قالت «آريل» — زوجة ديورانت: نشأتُ في نيويورك وكرهت المدرسة التي كنت أرتادها، حتى لقد كنت أنحرف من نصف الطريق إلى المدرسة، وأذهب إلى حيث أقضي الوقت في اللعب، وكنت ألعب ذات يوم في الحديقة العامة، فجاءت امرأة ومعها مجموعة من أطفال، وقيل إنها مدرِّسة وهؤلاء تلاميذها، فلم أصدِّق؛ لأن العلاقة بينها وبينهم كانت علاقة أم بأبنائها، وأحببت أن أرافقهم فجلست معهم، ولما سُئلت مَنْ أنا؟ قلت: إذا كانت هذه مدرِّسة فأنا من تلميذاتها … وهكذا ظللت أيامًا أجلس بين تلميذات هذه المدرسة التجريبية التي أحببتها حتى ذهبت يومًا غابت فيه المدرِّسة وجاء مكانها رجل هو هذا (وأشارت إلى زوجها ول ديورانت) وهو الذي أصبح زوجي، وكوَّنت معه أسرة لم أرَ أسعد منها، كانت سنُّه عندئذٍ ثمانية وعشرين عامًا، وكنت في الخامسة عشرة، كان الفرق بيننا كبيرًا، لكن كلانا أحب الآخر، فليس مستحيلًا أن تحب فتاة عمرها خمسة عشر عامًا رجلًا عمره ثمانية وعشرين؛ كان زوجي يقول إن أرسطو من رأيه أن المرأة تسبق الرجل في النضوج بخمس عشرة سنة، فإن كان ذلك كذلك، فقد كنت زميلة لزوجي في درجة النضوج، كنت طفلة في بعض نوازعي، فتعهدني بالتربية حتى أحببت كل ما يحبه هو … إنني أعتقد أن زوجي من نوابغ القرن العشرين، ولم يكن يسيرًا على أي امرأة أن تشارك مثل هذا الرجل حياته؛ لكن الحياة معه جديرة بالعيش!
مشيت بعد الغداء نصف ساعة أو نحوها، وكان الجو جميلًا رائعًا: شمس مشرقة، وسماء صافية وبرد خفيف يمكِّن من المشي، لكني عُدت إلى غرفتي ثقيلَ القلب محزون الفؤاد، ولست أدري لهذا الغم سببًا، فلماذا تكون الشمس مشرقة والنفس غائمة؟ إني أشعر بضيق شديد، أشعر بوحشة وعزلة؛ فتحتُ الراديو ساعتين كاملتين، وبرامج الإذاعة يوم الأحد هنا تكون عادةً جيدة الاختيار، فسمعت لأشهر المغنِّين في برنامجٍ يسمونه «الأصوات الذهبية» ويذيعونه كل أحد؛ كذلك سمعتُ قراءات أدبية ممتازة، ينطق بها أشهر الممثلين وأشهر القراء؛ فسمعت نجوى هاملت المشهور: «أبقاء أم فناء؟ تلك هي المشكلة» يقرؤها جون باريمور قراءة غاية في الجودة، ثم قراءة من الإنجيل عن جنة عدن يقرؤها تشارلس لوتن، من أبدع وأروع ما يمكن أن يسمعه إنسان في حياته، وكذلك سمعت قراءات من الشعر الإنجليزي يقرؤها قراء مجيدون.
كلها أشياء من طبيعتها أن تسرِّي عن النفس، لكن الغم قائم لا يزول، أعددت لنفسي الشاي وشربت ثلاثة أقداح منه، وتحسنت حالي بعض الشيء، لكني قلق لا تستقر بي جلسة ولا رقدة … لقد سمعت قصة الشجرة المحرمة منذ دقائق يقرؤها تشارلس لوتن من الإنجيل، فسمعت فيها أن آدم وحواء كانا عاريين ولم يكونا يشعران باستحياء من ذلك العري، كان ذلك قبل أكلهما من الشجرة المحرَّمة، شجرة المعرفة، معرفة الخير والشر، فلما أكلا منها كان أول ما أحسَّاه خجلًا من عريهما، فغطيا نفسيهما بورق الشجر، لكن العري لا يزال باديًا، والخجل لا يزال قائمًا، وهنا ناداه ربه: يا آدم؛ فأجاب آدم من بُعْد واستحيا أن يقابل ربه عاريًا؛ فقال له ربه: إذا كان قد أخذك الخجل من عريك، فلا بد أن تكون قد ميَّزت الخير من الشر، وإذَن فلا بد أن تكون قد أكلت من الشجرة المحرَّمة، فلماذا عصيتني فيما أمرتك به …؟
وإني الآن لأطبق هذه القصة على نفسي، وعلى القلق الذي ألمَّ بي وغمَّني، فأقول: إنني كلما ازددت معرفةً بنفسي ازددت يقينًا بما يملؤها من عُقَد، وكلما أدركت أنها نفسٌ مريضةٌ ازددت قلقًا بل ازددت خجلًا، قلت لنفسي إنك لم تكن بهذا العجز كله فيما مضى، وأخذت أتذكر أيام طفولتي وشبابي، فلم أتذكر إلا جرأةً على المجتمع … والآن قد عرفت لماذا يزداد ارتباكي كلما كبرت، وكان العكس أحق أن يقع؛ فالسبب هو أني عرفت نفسي حين ألقت بها الظروف في أوساطٍ مختلفة … أتكون معرفة الإنسان لنفسه وتحليلها مصدرًا لشقائه، كما كانت معرفة آدم للخير والشر بداية لعنائه؟!
الثلاثاء أول ديسمبر
قرأتُ في مجلة «لايف» موضوعًا شائقًا بالصور الجميلة عن الحيوانات البحرية كيف تعيش في جوف المحيط: كيف تعيش في ظلام القاع الذي لا ينفذ إليه شعاع من ضوء؟ كيف يفتك بعضها ببعض؟ كيف أُعدَّ كل نوع منها بطرائق التخفي وأساليب الهجوم والدفاع؟ … كل ذلك معروض عرضًا يجعله أقرب إلى القصص الممتع منه إلى الوصف الطبيعي الصادق.
ويكفي أن أفكِّر في موضوع واحد كهذا، ماذا صنعت المجلة لتجمع مادته، ثم أسأل نفسي: ماذا تفعل مجلة مصرية في الموضوع نفسه إذا أرادت أن تنشر عنه شيئًا؟ أقول إنه يكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا في مجلاتهم ومجلاتنا لأدرك لُبَّ الفَرْق بين شعب وشعب؛ فمجلة «لايف» هي التي أرسلت المصورين، وهي التي جمعت المختصين بدراسة الحيوانات البحرية، ولبث عملاؤها ثلاثة أعوام في رحلات بحرية، يغوصون في قاع المحيط ويلاحظون ويصورون ويصفون … فالمسألة كلها من أولها إلى آخرها من تدبير المجلة، تفكير وابتكار ومغامرات وعلم وكتابة وتأليف وتنسيق … أما المجلة المصرية فماذا تصنع؟ تنقل عن مجلة «لايف» ما كتبته وصوَّرته، ثم يقول لك الناقل بعد ذلك إنه أديب! خلط وجهل وادعاء … ها هنا كل الفرْق بيننا وبينهم؛ فليس الفرق المهم هو ثراءهم وفقرنا، بل هو ابتكارهم وعجزنا … يستحيل أن نتقدم تقدُّمًا حقيقيًّا إلا إذا كان لنا ابتكار، إلا إذا بدأت الأفكار من عندنا أحيانًا، أما أن يبتكروا هم الطيارة ونحن ننقلها ونقول إن لدينا مهندسين كمهندسيهم، وأن يبحث علماؤهم في الطب والفيزيقا والنفس وما إلى ذلك، فنحفظ ما كتبوا ثم نقول إن منَّا العلماء في الطب والفيزيقا والنفس؛ فإغماض لأعيننا عن سرِّ التقدُّم وسرِّ المدنية كلها، بل سرِّ الإنسان وهو الابتكار؛ يعوزنا إدراك هذه الحقيقة في وضوح، وهي أن الفرْق بعيدٌ بُعْدَ ما بين الأرض والسماء، بين المبدع الخلاق المبتكر وبين مَن يسير بعد ذلك في الطريق، وقد شُقَّ وعُبِّدَ بمغامرات المغامرين وتفكير المفكرين، الفرْق بين هذا وذاك هو نفسه الفرْق بيني في رحلتي إلى أمريكا وبين كولمبس حين ارتحل مخاطرًا مغامرًا مفكرًا مدبرًا.
الأربعاء ٢ ديسمبر
ذهبت مع الدكتور «ف» إلى نادٍ هو عضو فيه: «نادي الكتاب الخالد»، وأعضاؤه جماعة تجتمع مرة كل أسبوعين، وهي تقرِّر في كل مرة كتابًا من الكتب الخالدة العظيمة يقرؤه الأعضاء ثم يجتمعون للمناقشة فيه؛ وقد علمتُ منهم الليلة أن مثل هذه الجمعية موجود في كل أنحاء الولايات المتحدة؛ والكتاب الذي قرأه الأعضاء وناقشوه في هذه الجلسة كتاب للأديب الفيلسوف الروماني «لوسيان» … وعند انصرافهم قرروا للجلسة الآتية كتابًا لتوماس الأكويني.
ولما عدتُ إلى غرفتي في المساء، قرأت في مجلة «بوست» أولى مقالتين عن الرحلة التي قام بها بعض الرحَّالة محاولين بها الصعود إلى قمة جبل قره قورم في باكستان؛ وهي القمة التي تتلو قمة إفرست ارتفاعًا … وصف الرحلة دقيق مليء بالحياة والحركة، ولا يسعك وأنت تقرأ إلا أن تشارك الكاتبَيْن (فقد اشترك في المقالة كاتبان من بين الرحالة أنفسهم) في الصعود وفي الصعاب التي لاقاها الرحالة، وفي الفرح الذي شعروا به كلما حققوا شيئًا في رحلتهم.
ومرة أخرى أسأل نفسي: ما الفرْق بين هذا الموضوع يُكْتَب في مجلةٍ أمريكية وبينه هو نفسه يُكْتَب في مجلة مصرية؟ والجواب هو: إن الذي يكتب هنا هما كاتبان اشتركا فعلًا في هذه الرحلة؛ فهما يكتبان خبرات خاصة، ويصفان جهدًا خاصًّا نبض له قلباهما … وأما إذا كتبته مجلة مصرية فلا حيلة لها سوى أن تلخِّص ما كتبته المجلة الأمريكية — وأقول «تلخِّص» ولا أقول، «تنقل»؛ لأن مَن يقوى على متابعة التفصيلات بين قرائنا يُعَدُّون على أصابع اليدين — والمصيبة الكبرى أن مَنْ يلخِّص عن المجلة الأمريكية سرعان ما يقول عن نفسه — وقد يقول عنه الناس — إنه أديب! … وأعود فأقول يائسًا ألا فائدة من هذه الحال ولو قضينا ألف ألف عام! فستظل المدنية مدنيتهم، والجهد جهدهم، والتفكير تفكيرهم، وأما نحن فسننقل من هذا كله لمحات عابرة، وكفى الله المؤمنين شر المغامرة والمخاطرة والجهد والتفكير!
الخميس ٣ ديسمبر
عرفت مدى حبي لمصر حين رأيت كيف أخذتني النشوة عندما قرأت هذا الصباح لأول مرة نتيجة الانتخابات في السودان التي جاءت مشرفة باهرة؛ نشوة كأنما هبطت عليَّ ثروة مفاجئة، فنبض قلبي وقمت عن مقعدي لأجلس مرة أخرى، ثم قمت لأجلس على الكنبة، ثم قمت فأعددت فنجانًا من القهوة … قلقت قلق المسرور الفَرِح … وكتبت مجلة «تايم» في ذلك متهكمة ساخرة؛ إذ قالت في أول مقالها: «في الجنوب الاستوائي — وعلى الضفة اليسرى من النيل الأبيض — جلس ملك الشلوك تحت شجرة من أشجار المانجو مرتديًا ثوبًا أبيض، وماسحًا بكفِّه على لحيته الخشنة، وجاء رعايا جلالته الأميون فقبَّلوا قدميه السوداوين، وسألوه: لمن نعطي أصواتنا؟ فأجاب الملك: اسألوا الرجل الأبيض.»
وكان هناك بريطاني في سراويله الكاكية القصيرة، واقفًا على مقربة منهم في كوخ من الطين ذي سقف من القش؛ هذا الكوخ هو مركز الانتخاب، وتردَّد الناخبون الشلوك وهم يتقدمون نحوه، وراحوا يلعبون بأصابعهم في خرزات اللحم التي برزت من جباههم، والتي صبغوها بصبغة حمراء؛ وجعلوا ينظرون إلى صف من صفائح البنزين الفارغة — وهذه الصفائح هي صناديق الانتخاب … وأخيرًا وجَّه أحدهم سؤاله للرجل الأبيض: في أي الصفائح نضع هذه الورقة المسحورة؟ فأجابه الرجل الأبيض: لكم أن تختاروا … فانطلق الشلوك يُلْقُون بأوراق انتخابهم في الصفائح جزافًا …»
لو كان نصيب الإنجليز — والأمريكيين المتعصبين للإنجليز — هو هذه المرارة، ونصيبنا قلوب السودانيين، فلنا الكسب وعليهم الخسران.
اجتمع عدد كبير من أساتذة الجامعة في الغداء، وخطب فيهم بعد الغداء الدكتور فرانسز كوكر أستاذ النظريات السياسية في جامعة ييل، والذي دعوه أستاذًا زائرًا هنا … وموضوع خطبته هو واجب الأستاذ الجامعي إزاء لجنة التحقيقات … وهي لجنة يؤلِّفها الكونجرس للتحقيق مع المتهمين بالشيوعية، وبناءً على الدستور الأمريكي يجوز للمسئول أمام أي لجنة للتحقيق ألا يجيب حتى لا تكون إجابته سببًا في إدانته؛ فكثيرون ممن تناديهم لجنة التحقيق المذكورة يسكت عن الإجابة، والدكتور كوكر في كلمته اليوم يقول: إن واجب الأستاذ الجامعي أن يعين لجنة التحقيق على أداء عملها بأن يجيب عن أسئلتها …
إنني في الحق لفي دهشة لا تنقضي من هذا الذعر الذي رأيته يملأ الناس هنا من الشيوعية! إنه يستحيل على أحد خارج الولايات المتحدة أن يتصوَّر مدى فزعهم إلا إذا جاء هنا ليعيش بينهم حينًا، فيقرأ الجرائد ويسمع الراديو ويتحدث إلى الناس، فعندئذٍ يلمس في قوة كم يعيش الناس في هلع وفزع من الشيوعية … إنني الآن لا أستطيع أن أتصوَّر أمريكيًّا واحدًا — مهما بلغت جرأته — يستطيع أن يعتنق شيئًا من المذهب الشيوعي في صراحة؛ فكيف إذَن لا أسأل نفسي: ما الفرق بين هذا الجو الفكري وبين ما يقولونه عن الروسيا من إرغامها الناس على قبول مبدأ واحد، ثم تُكَمُّ الأفواه عن نقد ذلك المبدأ والخروج عليه؟ ستظل الدنيا إلى أبد الآبدين في هذا الضلال العقلي، وهو أن تظن كل جماعة أن دينها خير دين، ومذهبها السياسي خير مذهب، وأصلها أشرف الأصول!
من الملاحظات التي تبرز لعين الرائي بروزًا واضحًا جهل الأمريكيين بالعالم الخارجي جهلًا عجيبًا، وقد عثرت اليوم في مجلة «تايم» على ما يؤيد هذا؛ إذ أجرى معهد الصحافة الدولي هنا بحثًا علميًّا نشره هذا الأسبوع في ٢٦٦ صفحة، وهو بحث خاص بكيفية تلقي الأمريكيين للأنباء الخارجية ومدى اهتمامهم بها، وقد تناول البحث ١٧٧ صحيفة يومية، وخمسًا وأربعين شركة من شركات الأنباء، ومئات من المراسلين والمحررين … إلخ؛ ونتيجة البحث هي أن القارئ الذي ينفق في قراءة صحيفته اليومية ثماني عشرة دقيقة في اليوم، يخصص من هذه المدة دقيقة للأنباء الخارجية؛ ولذلك يجهل القراء شئون الخارج جهلًا شديدًا؛ فأكثر من ٥٦٪ لم يعرف مَنْ هو «سنجمان ري»، و٤٠٪ لم يعرفوا مَن الذي خلف ستالين في روسيا، و٢٧٪ فقط هم الذين عرفوا أي حزب يحكم الآن في بريطانيا … ومن المصادفات أن من بين العنوانات الصحفية التي عرضت للبحث العنوان الآتي الذي نُشِرَ حين نُشِرَ بالخط العريض: «إسرائيل تدرس الاقتراحات التي قدمتها مصر»، فوجد أنه لم يقرأ هذا النبأ في الجريدة قارئ واحد!
ويقول التقرير إن الدراسة قد دلَّت على أن اهتمام القراء في أمريكا مقصور إلى حد كبير جدًّا على البيئة المحلية القريبة؛ فيعنى القارئ أكثر ما يعنى بشئون الولاية التي يعيش فيها، وحسْبه ذلك في معظم الأحيان.
وهذا ما قلتُه مرارًا للذين أتحدث إليهم هنا؛ إذ عبَّرت عن دهشتي من مدى النزعة الإقليمية بين الناس؛ ففي كولمبيا مثلًا لا يكاد يقرأ قارئ واحد أي صحيفة غير الصحيفة المحلية التي تصدر في كولمبيا؛ فإذا حلَّلت هذه الصحيفة وجدت تسعة أعشارها عن ولاية كارولاينا الجنوبية نفسها من تجارة ومشروعات وسياسة وتعليم وزواج ووفيات.
الجمعة ٤ ديسمبر
المجلات الأدبية كلها تعلِّق في استفاضة على كاتبهم المسرحي «يوجين أونيل» بمناسبة موته منذ أيام؛ كان أكبر كاتب مسرحي عندهم، وهو الذي ظفر بجائزة نوبل عام ١٩٣٦م، وله ثمانٍ وأربعون مسرحية … وقد أردتُ أن أحييه عند رحيله فقرأتُ له ثالوثه المسرحي «إلكترا».
كان أرسطو قد رأى أن يكون بطل المأساة ذا هيبة وجلال ومكانة عالية، ثم يهبط إلى هوة يتناسب سحقها مع الرفعة الأولى، وبهذا الانتقال من القمة إلى الحضيض تتألف المأساة في صميمها … لكن هذا الرأي في المأساة لم يكن ليتفق مع فن يوجين أونيل؛ لأنه لا يتفق ووجهة النظر الأمريكية إلى أفراد الناس والحياة، فليس بين الأمريكيين مَن ينظر إليه الناس وأعناقهم مشرئبة؛ إذ ليس فيهم مَن يعلو على بقية الشعب علوًّا يجعله في رفعة ويجعلهم في حضيض؛ فالأمريكيون من أشد شعوب الأرض اعترافًا بقيم الأفراد وبالمساواة بين الرءوس؛ فأعظم عظيم فيهم قد يخاطبه الناس بالجزء الأول من اسمه حتى لا يُبقوا له على وقار خاص، وقد تنشر له الصحف صورًا في حياته الخاصة، يأكل أو يلعب بحيث يبدو للناس على حقيقته بشرًا، وإذَن فيستحيل على مسرحيٍّ في أمريكا أن يجعل مأساته قائمة على سقوط العظيم كما أراد أرسطو وكما كانت السُّنة عند رجال المسرحية فيما مضى من زمن … وقد قيل في إحدى مسرحيات «أونيل» إن الشخصيات تبدأ مجموعة من سكارى وتنتهي كما بدأت مجموعة من سكارى؛ أي إنه لا ارتفاع ولا هبوط.
فلئن كانت المأساة اليونانية قائمة على استبداد «القدر» بمصاير الناس، يتحكم فيهم نحسًا وسعدًا؛ ولئن كانت مأساة شيكسبير قائمة على الشخصية وتكوينها ومصارعة الإنسان لنفسه؛ إذ تتحكم إرادة الإنسان في مصيره، وإذَن فالصراع الحقيقي للبطل هو بينه وبين إرادته؛ فقد كانت المأساة عند «يوجين أونيل» قائمة على التحليل النفسي والتكوين الفسيولوجي؛ لأن مصير الإنسان مرهون بما في جسمه من غدد وإفراز، وما في نفسه من عُقَد ودوافع … وهكذا ترى بطل المأساة في أدب القرن العشرين كله ضحية الظروف … كانت المأساة اليونانية والمأساة عند شيكسبير تجعل البطل يعاني الآلام ليكفِّر للآلهة أو للقدر عما فعل، أما المأساة في أدب القرن العشرين — وخصوصًا على أيدي «يوجين أونيل» — فتجعل البطل يعاني من تكوينه النفساني والجثماني؛ فهو هو الذي يعذِّب نفسه ويتعذَّب.
يستحيل أن يكون الأديب إلا ناقدًا لعصره ساخطًا على أوضاعه، وهكذا كان «يوجين أونيل» بالنسبة لعصرنا بصفة عامة، وللأمريكيين بصفة خاصة … عنده أن عصرنا هذا مصاب بمرض أطلق عليه «مرض العصر»، وظواهره في الحياة الأمريكية — من وجهة نظر أونيل — هي أن الحب قد غاض في القلوب لتحل محله الرغبة في التملُّك، وحنين الإنسان إلى الفئة التي ينتمي إليها — أسرة كانت أو أصدقاء أو أُمَّة — قد زال واندثر في عصر الآلات الذي نعيش فيه، وذبل الإيمان في القلوب … أو إن شئت فقل كما يقول «أونيل» إن الإله القديم قد مات، ولم يَعُد في السماء إله يقوم مقامه ويملأ فراغه؛ فإن كان الأمريكيون اليوم يعبدون شيئًا، فذاك وثنٌ اسمه «النجاح»؛ النجاح في التجارة وفي الصناعة وفي جمع المال.
هذا رأي أديبهم العظيم «يوجين أونيل» الذي مات منذ أيام، ولا أراه مطابقًا كل المطابقة لما أصادفه عند الناس من حب وتديُّن إلى جانب إيمانهم بالنجاح الذي أشار إليه «أونيل»، لكن «أونيل» هو بالبداهة أصدق مني نظرًا وأصوب رأيًا، خصوصًا فيما يتعلق بقومه.
السبت في ٥ ديسمبر
افتتاحية مجلة هاربرز لهذا الشهر هي كلمة ألقاها مدير جامعة هارفارد — وهي من أهم الجامعات الأمريكية — وهو «ناثان بوزي» عُيِّن مديرًا لهارفارد هذا العام، فأراد أن يلقي كلمة يستهل بها إدارته لهذه الجامعة الكبرى، فماذا قال؟
وُجِدَ أن مديرًا سابقًا لهذه الجامعة — هو «إِلْيَتْ» — كان قد ألقى سنة ١٩٠٩م كلمة بمناسبة توليه هذا المنصب، فجعل عنوان كلمته إذ ذاك «ديانة المستقبل»، قال فيها: إن المبدأ الذي يعتزم إدارةَ الجامعة على أساسه هو أن يجعل العقيدة الدينية عند الناس هي الخدمة الاجتماعية، والانصراف إلى البحث العلمي في شتى نواحيه؛ فالدين الذي أراده «إلْيَت» هو أن يذهب عاملٌ جريحٌ إلى جرَّاحٍ يضمد له جرحه بشاشة معقَّمة، وأن تغيِّر الدولة طريقة العيش التي يعيشها الفقراء في مساكنهم القذرة وملابسهم الممزقة … إلخ؛ هذا عنده هو الدين الذي لا دين سواه.
فجاء المدير الحالي لجامعة هارفارد، وألقى كلمةً يعارض بها كلمة «إليت» فجعل عنوانها «ديانة الوقت الراهن»، قال فيها إن المبدأ الذي ينوي أن يدير الجامعة على أساسه هو توكيد الدين في النفوس والعناية بالكنيسة؛ فهو يعتقد أن هذا جانب لا بد منه إلى جانب المعرفة العلمية، وأن ما ينقصنا الآن ليس هو في العلم بمقدار ما هو في الدين.
فإذا كانت هذه هي نغمة الحديث على لسان مدير جامعة هارفارد، أفلا يكون صوابًا أن نقول إن الاتجاه الديني طابع الأمريكيين؟
الإثنين ٧ ديسمبر
اليوم بداية ما يسمونه «أسبوع الاهتمام بالدين»، وهو أسبوع تخصصه الجامعة كل عام لنشر الدعاية للدين بكافة الوسائل، التي أهمها دعوة فئة من كبار المتكلمين في الشئون الدينية ليقضوا الأسبوع كله في الجامعة يحاضرون ويناقشون؛ وقد حضرت اليوم كلمتين من هذا النوع: الأولى في الصباح ألقاها عضو في الكونجرس دَعَوه هنا ليلقي هذه الكلمة، فتحدَّث عما يمكن أن تؤديه الديانة المسيحية في مجال الإخاء الإنساني … كلام كله فارغ؛ وإني لأزداد إيمانًا بأن العالم كله لا يزال من هذه الناحية في دور الهمجية والخرافة الفكرية.
والكلمة الثانية كانت خاصة بالأساتذة وحدهم، أُلقيت ساعة الغداء، وألقاها أحد المتخصصين في الدين، وقد جاء أيضًا بدعوة من الجامعة … تكلَّم في وجوب تكوين جمعيات دينية بين أساتذة الجامعات، مهمتها أولًا أن تؤاخي بينهم، وثانيًا أن يوجِد الأساتذة — كلٌّ فيما يتخصص فيه — العلاقةَ بين ميادين أبحاثهم العلمية والديانة المسيحية! ما شاء الله كان! يعني يريد مولانا أن يجد عالم الطبيعة وعالم الكيمياء وعالم النبات … إلخ العلاقةَ بين ما يقولونه من نتائج علمية وبين ما ورد في الإنجيل! إنني بعد الآن لن ألوم متعصبًا دينيًّا في مصر إذا قال ما شاء في وجوب سيطرة الدين على العلم، ما دمتُ أرى هذا في أمريكا رائدة البحث العلمي في عصرنا!
وكذلك يقترح المحاضر ضرورة النظر في إدخال التعليم الديني في مناهج الجامعات، مهما تكن الكلية ونوع دراستها، طبًّا كانت أو هندسة أو فلسفة، ولا يكفي أن يكون للاهوت كلية مستقلة، وقد ذكر أنه في طول البلاد وعرضها حركة شديدة اليوم في هذا الاتجاه، وهي تُسمى «جمعية الأساتذة المسيحيين في الجامعات».
الثلاثاء ٨ ديسمبر
بدأت المحكمة العليا في واشنطن أمس النظرَ في القضية المرفوعة من أولياء الأمور الزنوج في بعض ولايات الجنوب، يطلبون الحكم بعدم دستورية الفصل اللوني في المدارس، بحيث لا يجوز أن يكون للبِيض مدارسُ وللسود أخرى … أما محامي الزنوج فيقول ببساطة واختصار إن هذا الإجراء مناقض للتعديل الرابع عشر للدستور، وهو تعديل يقضي بألا يكون هناك في أية ولاية من الولايات شيء من شأنه أن تكون هناك تفرقة؛ ويرد مقدمًا على محامي البِيض؛ إذ يتوقع أن يلجأ هذا المحامي إلى العبارة المشهورة التي تسمعها هنا في كل مناسبة تثار فيها مسألة الفصل اللوني، وهي «انفصال مع المساواة»؛ أقول إن محامي الزنوج يرد مقدمًا على هذه العبارة قائلًا إن مجرد الانفصال ينطوي على عدم المساواة.
ويأتي دور محامي البِيض فيطيل في الكلام؛ فهو أولًا يقول إن المحكمة العليا لا حق لها في النظر في هذه القضية، وإلا كان اعتداءً على حقوق الولايات التشريعية؛ إذ لكل ولاية تشريعها الخاص، فلكل ولاية أن تشرِّع ما تشاء في تعليم أبنائها، على أن تحافظ طبعًا على الخطوط الرئيسية لدستور البلاد؛ وهنا ينتقل إلى النقطة الثانية، وهي أن انفصال اللونين، كل لون في مدارسه الخاصة، لا اعتداء فيه على الدستور؛ لأن التعديل الرابع عشر يقضي بألا تكون هناك تفرقة لونية، ونحن لا نريد تفرقة، بل نريد مساواة مطلقة بيننا وبين الزنوج، لكن هل انفصال كل لون في مدارسه فيه شيء من عدم المساواة؟ إذا كان لكل طفلٍ ما لزميله من حقوق التعليم، ولكل مدرِّسٍ ما لزميله من حقوق مالية، فأين تكون التفرقة؟ إن هدف القانون إسعاد الناس، فهل تظنون أن مدرسةً بها — مثلًا — سبعة وأربعون طفلًا أسود وثلاثة أطفال من البِيض، أو العكس، تزيد من درجة تعليم الأطفال ما داموا قد امتزج أسودهم بأبيضهم؟ هل يزيد هذا من سعادتهم؟ كلا، بل سيشعر هؤلاء وأولئك بالحرج، وتكون النتيجة تضحية الاطمئنان النفسي من أجل لا شيء …
وتقول الجريدة التي قرأتُ فيها تفصيلات الدفاع: «وختم المحامي الكهل — الذي بلغ الثمانين من عمره — دفاعه وهو على وشْك البكاء، منذرًا القضاة بشر النتائج إذا هم قضوا بإلغاء الفصل اللوني في المدارس.»
صدر اليوم حكم المحكمة في جماعة المورمون التي كانت تباشر تعدُّد الزوجات حسب عقيدتهم، والتي اعتزلت في ناحية قصيَّة من ولاية أرزونا … وقد حُكم عليهم بمدد متفاوتة من السجن مع إيقاف التنفيذ؛ وقال القاضي في ذلك إنه لا يود أن ينفَّذ فيهم حكم السجن حتى لا يخلق منهم أبطالًا … كان المتهمون قد زعموا أن تعاليم الإنجيل ليس فيها ما يحرِّم تعدُّد الزوجات؛ فقال القاضي في صيغة الحكم إنه راجع نصوص الإنجيل — خصوصًا الإصحاح السادس من سِفْر التكوين — فوجد فيه رفضًا صريحًا لتعدُّد الزوجات، «ففعلكم هذا منافٍ لكلام الله … والرجل الذي يدفع فتاة صغيرة إلى زواج مشترك إنما يفرض عليها العبودية؛ فإن قال قائل إنها تتزوج بمحض اختيارها كان هذا القول لفظًا أجوف بغير معنًى.»
الخميس ١٠ ديسمبر
لستُ أشك في أن الأمريكيين يمتازون بروحٍ من الفكاهة نادرة بين شعوب الأرض كلها؛ لأن فكاهتهم لها خصائص هي في نظري الخصائص التي تميِّز فكاهة الطفل؛ فهي مرح لا ينطوي على خبث كما أظن في فكاهة الفرنسيين ممثلة في رجلٍ كفولتير؛ ولا تنطوي على عمق نظر في متناقضات السلوك الإنساني كما أظن في فكاهة الإنجليز ممثلة في أديبٍ مثل «شوِفْت»؛ ولا تنطوي على مرارة و«غُلب» كما أظن في فكاهة المصريين بصفة عامة … يُخيَّل إليَّ أن الأمريكي يتصيد الفرصة للضحك؛ لأنه منبسط النفس وذو طبيعة بسيطة؛ الأمريكي رجل شبع واكتسى وتزوَّج وأنجب الأطفال، مهما تكن سنه ومهما تكن ظروفه؛ ولذلك فهو قليل الانقباض والعبوس، فلم أرَ حتى الآن وجهًا واحدًا عابسًا؛ كنتُ أظن الأمريكي جادًّا في عمله؛ بمعنى أنه يتجهَّم إبان عمله ولا يُدخِل فيه المزاح، لكني وجدته يمزج المزاح بالعمل كلما أمكن ذلك.
وقد لفت نظري بهذه المناسبة إجابة جندي أمريكي كان قد وقع أسيرًا في أيدي الشيوعيين في الحرب الكورية؛ وقد عاد أخيرًا بين مَن عادوا؛ وهناك لجانٌ تسألهم كيف كانوا يُعامَلُون أثناء أَسْرِهم؛ فقال هذا الجندي: إن أكثر ما ضِقتُ له من هؤلاء الشيوعيين انعدام روح الفكاهة عندهم؛ فهم أبدًا عابسون، أبدًا متزمِّتون؛ وإني لأعتقد أن عاملًا من العوامل التي تساعدنا نحن الأمريكيين على النصر والفوز هو أننا ننظر إلى الجانب المضحك من الأشياء والمواقف، فنضحك ونسرِّي عن أنفسنا … إني لا أفهم أبدًا شخصًا لا يضحك؛ فهؤلاء الذين لا يضحكون هم في نظري من الأموات.
إنني حين ألاحظ ملاحظة عن الأمريكيين مما يكون مخالفًا لرأي الناس عنهم، ثم أجد هذه الملاحظة بعينها قد وردت على لسان زائر آخر، أشعر باطمئنان على صدق حكمي … ألم ألاحظ مرارًا أنني أرى اختلاط الرجال بالنساء في الحياة الاجتماعية هنا محدود، وفي نطاق ضيق وعلى كثير من التحفُّظ؟ قلت ذلك وأنا متردد؛ لأنه يناقض ما يُقال عن الأمريكيين من اختلاط بين الجنسين لا يقف عند حد مشروع … لكني وجدت اليوم أن كاتبة فرنسية قد أصدرت كتابًا عن زيارتها لأمريكا، وهي «سيمون دي بوفوار»، والكتاب عنوانه «أمريكا يومًا بعد يوم»، ومن ملاحظاتها «أن العلاقة بين الرجال والنساء عسيرة في أمريكا؛ فالرجال يوصدون دون أنفسهم أبواب نواديهم، وكذلك يفعل النساء في نواديهن، ويُخيَّل إليَّ أن الإخفاق الجنسي مما يميز الأمريكي والأمريكية؛ فكانت النتيجة أن بردت العاطفة في نسائهم، وقلَّت الخبرة في رجالهم؛ ولهذا تراهم كثيرًا ما يلجئون إلى الشراب وسيلةً لتحطيم الحواجز والموانع النفسية التي تَحُول بين الجنسين …»
الإثنين ١٤ ديسمبر
حضرتُ في المساء اجتماع الندوة الفلسفية في منزل الدكتور «ف»؛ حيث ألقى الدكتور «ب» أستاذ الأدب الألماني كلمةً يلخِّص بها قصةً للكاتب الأوروبي «هرمان هِس»، وهو كاتب لا يزال حيًّا بلغ الآن عامه الثمانين، والقصة من جزأين في أصلها الألماني، وعنوانها في الترجمة الإنجليزية «ماجستر لودي» — والعنوان الأصلي معناه الحرفي هو «لعبة الخرز» … وملخَّص القصة أن جماعة في ديرٍ يفكرون تفكيرًا نظريًّا، وقد جعلوا موضوع بحثهم هو الأصول المشتركة بين الموسيقى والرياضة، ثم الأصول المشتركة بين العلوم كلها، كما جعلوا لغة البحث رموزًا رياضية، لكنهم على شدة ما بلغوا من أعماقٍ عميقةٍ في أبحاثهم تلك، كانوا مقطوعي الصلة بالعالم الخارجي العملي الواقعي؛ وجاءهم ذات يوم رجلٌ من هذا العالم، فكانت الهوة السحيقة التي تفصل وجهة نظره عن وجهات أنظارهم — أي تفصل بين أوضاع الحياة العملية عن التفكير النظري — مَدْعَاة إلى رئيس الجماعة أن يخرج من ديره إلى العالم الصاخب، واختار لنفسه مهنة التعليم حرفة، فتولَّى بالتربية طفلًا هو ابن الرجل الذي كان قد زار الدير … وحدث يومًا أن خرج الأستاذ وتلميذه الصغير حتى جاء إلى بحيرة مثلوجة، واستطاع الطفل الناشئ أن يعود فينجو؛ أما الأستاذ الذي تعمَّق الأبحاث النظرية إلى أغوارها فقد غرق ومات.
ودارت مناقشات طويلة عميقة بين الحاضرين حول الفكرة الرئيسية التي أدار عليها الكاتب قصته، وهي الموازنة بين البحث النظري والحياة العملية، أين يلتقيان وأين يفترقان؟
ويشاء الله ألا يتم هذا الاجتماع العلمي الثقافي الذي كان ينبغي أن يخلو من تُرَّهات الإنسان وتفاهاته، بغير هفوة من أحد الحاضرين أثارت ثائرتي على الرغم من ضبطي لأعصابي وإمساكي لزمام نفسي؛ فلست أرى كيف أدى الحديث إلى الإسلام، وهنا سألني من الحاضرين سائل: أتَعُدُّون قصة ألف ليلة وليلة بما فيها من شهوات جنسية قصيدة الإسلام الكبرى؟ … فجلست لحظة صامتًا أنظر إليه وأقبض على زمام نفسي، وأستجمع أطراف تفكيري الذي أذهله مثل هذا السؤال من أستاذ جامعي المفروض فيه علو الثقافة واتساع المعرفة ورقة الذوق؛ ثم قلت:
الشهوة الجنسية في ألف ليلة وليلة — يا سيدي الأستاذ — هي أحلام الشباب المراهق في أي بلد من بلاد العالم؛ ألف ليلة وليلة مجموعة من القصص فيها تصويرٌ للنفس الإنسانية في وجهٍ من وجوهها، وقُل فيها بعد ذلك ما شئتَ من نقدٍ أدبي يرفعها أو يخفضها؛ لكن ما دخل الإسلام في ذلك؟
ولست أدري ماذا قال هذا الأستاذ مما أثار انفعالي، وجعلني أقول له: يجب أن تعلم أن الإسلام قد ظهر بعد المسيحية بسبعة قرون، وقد ظهر في نفس المكان الذي ظهرت فيه المسيحية — أعني الشرق الأوسط — وإذَن فهو تحسينٌ وتطوُّرٌ وتقدُّمٌ وليس هو بالنكسة والتأخُّر.
وهنا تدخَّل الأستاذ — الذي قرأ البحث — ليعين زميله، فقال كلامًا بدأه بقوله: «إن الثقافة الأوروبية مسيحية …» فقاطعته قائلًا: هذا خطأ؛ نعم هي عبارة تكررونها آلاف المرات، وخطؤها واضح؛ فالثقافة الأوروبية وثنية في صميمها وليست هي بالمسيحية في شيء؛ الثقافة الأوروبية الحاضرة قائمة على ثقافة النهضة، وهذه الأخيرة قد أُقيمت من حيث الأدب والفن على اليونان، ثم أُقيمت إلى جانب ذلك على العلم الذي هو قبل كل شيء اهتمامٌ بالطبيعة لا بالإيمان الديني.
فقال: ألا يمكن القول إن المسيحية طابع التفكير الغربي؟ قلت له: خطأ أيضًا؛ لأن المسيحية ليست إنتاجكم، بل هي إنتاج الشرق الأوسط انتقل إليكم، وعلى أحسن الفروض بعد ذلك، أخذتم الإنتاج وترجمتموه وقبلتموه، وحتى على هذا الفرض، فالكتاب إنما يدل على كاتبه لا على مترجمه أو قارئه؛ فنحن أهل الشرق الأوسط بمثابة مَن أنتج كتابًا ثم أرسله إليكم … ومع ذلك فليس الفرض صحيحًا؛ لأنكم لم تقبلوا المسيحية في الواقع، بل تظاهرتم بقبولها، وما زلتم تتظاهرون بقبولها؛ فالمسيحية حب وسلام، وأوروبا من بين بقاع العالم كله أكثر أجزاء الأرض قتالًا داخل حدودها وخارج حدودها على السواء …
على أنني بعد ذلك كله أحب أن أنبهك إلى ما لم تكن عالمًا به، وهو أن الإسلام والمسيحية لا يختلفان إلا في نقطة جوهرية واحدة، هي التثليث المسيحي الذي جعله الإسلام توحيدًا …
وهكذا استطرد الكلام فترة طويلة، كان محدِّثي أهدأ مني، لكني كنت أقوى منه حجةً وأسرع فكرًا، وانتقل الحديث إلى فرويد والمسيحية، فتركتُه لهم وجلستُ صامتًا حتى النهاية.
لست متعصبًا في الدين، لكني بعد هذه الزيارة لأمريكا، وبعد ما سمعته من ملاحظات عن الإسلام تدل على أن هؤلاء الناس يظنون بالإسلام شر الظنون، فهو عندهم وثنية أو شر من الوثنية، وهو عندهم همجية وتأخُّر، أصبحت الآن أرى وجوب اتخاذ الوسائل كلها لنشر جوهر التعاليم الإسلامية مبسطة؛ ليفهم هؤلاء الناس أننا لسنا في الدين من التخريف بحيث يظنون.
الثلاثاء ١٥ ديسمبر
ذهبت إلى السينما وشاهدت فيلمًا جيدًا حقًّا، فيه اللمسة الإنسانية غاية في القوة: فتاة يموت أبوها وهي بعدُ طالبة ولا يعولها أحد، فتشتغل بالتدريس في الريف، وكان أبعد ما يتصوره خيالها أن تتزوج من فلاح فقير، لكن حدث أن أحبها فلاح وأحبته، وعاشت معه فيما يشبه الفقر الشديد، وأنجبا طفلًا ومات الوالد، وجاهدت الأم جهادًا تمثلت فيه المُثُل الإنسانية العليا، حتى تخرَّج ولدها مهندسًا للعمارة، وكانت الأم في شبابها مغرمة بالموسيقى؛ فهي تقدِّر الفنون، وتقدِّر أن يعيش الإنسان بفنٍّ منها؛ ولذلك أفرحها أن يكون ابنها من رجال الفنون في كسب عيشه …
لكن الفتى أراد الزواج، فتزوج من فتاة لا تفرِّق بين العمى والسما، ولا يهمها إلا أن يكسب الزوج مالًا، وفن هندسة العمارة قد يكون بطيء الكسب، فدفعته دفعًا أن يترك فنَّه ليكون سمسارًا يصل ما بين مهندسي العمارة وبين مَن يريدون البناء، وكسب عن هذا الطريق ألوفًا، لكنه لم يكسبها عن طريق فنِّه، فلما عرفت أمه ذلك؛ تحطَّم قلبها من أجل ولدها؛ فقال لها: كنت أظنك يا أماه تفرحين حين تعلمين أنني أكسب كذا ألفًا من الريالات في الأسبوع الواحد؛ فأجابته أمه إجابة رائعة، هي التي جعلتني أثبت خلاصة القصة لأثبت تلك الإجابة، قالت له: الفرْق يا بني بعيدٌ بين مَن يقطع التذاكر في شباك الأوبرا وبين مَن يدخلون ليشاهدوا الأوبرا، مهما كسب الأول وخسر الآخرون فهو في خارج البناء وهم في داخله يشاهدون، وعملك في السمسرة مهما أكسبك الألوف، هو عندي بمثابة قاطع التذاكر، وكنت أحب أن تمارس فنَّك مهما كان كسبك من ورائه ضئيلًا …
فأحسست إحساسًا غامضًا أني قد قضيتُ شطرًا طويلًا من عمري قاطعًا للتذاكر أعطيها لغيري فيدخلون ويشاهدون … ولم أدرك تمامًا ما وجه الشبه بيني وبينه، لكنها على كل حال حكمة بالغة، فلأنْ يعيش الإنسان بفنه أو بعلمه — ولو كسب منه القليل — خير ألف مرة من أن يجعل من نفسه وسيطًا لأصحاب الفنون والعلوم، مهما جاءته هذه الوساطة من مال وجاه.
الأربعاء ١٦ ديسمبر
كنت أحاضر في جمهورية أفلاطون، وذكرت ما ورد فيها عن الأطفال أن يكونوا أبناء الدولة، فاعترضت الآنسة «ج» وهي طالبة ذكية، قائلة: إن هذه التربية للأطفال مستحيلة؛ لأنها تخلي محيط الطفل من عاطفة الأمومة، ولا حياة لطفل بغير عاطفة، فقلت لها: الأمر يحتاج إلى تجربة … فقالت: قد أجريت في ذلك بعض التجارب التي لها دلالتها، فقلت لها: أين قرأتِ عن هذه التجارب؟ فأجابت: في مقال سأبحث لك عنه.
وجاءتني اليوم بمجلة فيها تقرير عن تجربة قام بها عالمٌ في اللغات، وهي أنه جمع بضعة أطفال من اللقطاء، وعهد بهم إلى مربيات طلب إليهن ألا يكلمنهم أبدًا، بل يطعمنهم وهن صامتات، فمات الأطفال على مر الأيام، ولم تتم للعالم تجربته … وعلى الرغم من أن التجربة ليست قائمة على موضوع عطف الأمومة بالذات، لكنها — كما قالت الآنسة «ج» — تجربة لها دلالتها وتستحق أن تُذْكَر.
وقرأت اليوم قصة طويلة في مجلة «بوست» أعجبتني فكرتها، لكن حوادثها لم تمتعني؛ لأنها تفصيلات عن تربية الأغنام التي لا علم لي بها، وذلك أن حوادثها تدور في مرعًى للغنم … القصة عنوانها: «حُمَّى العروس» وهي تحليل للشعور بالمقاومة التي تشعر بها العروس شعورًا خفيًّا حين يتقدَّم إليها الخاطب … ورثت فتاةٌ عن أبيها مرعًى كبيرًا من الغنم، وكان أبوها قبل موته قد وضع خطة لزواج ابنته من شاب ربَّاه ودرَّبه على رعاية الغنم؛ ومات الوالد وجاءت الفتاة من جامعتها إلى حيث المرعى، فكان الشاب يعلم أنها في حكم خطيبته، حتى لقد أعدَّ خاتم الخطبة انتظارًا لقدومها، لكن الفتاة أرادت إثبات شخصيتها، فقالت له إنها ستتولى المرعى بنفسها مدة من الزمن، وإنها لم تقرِّر بعدُ الزواج منه؛ وأراد الشاب أن يردَّ عليها بما يقرِّر سلطانه عليها، فقالت له الفتاة في كبرياء: على رِسْلِك يا هذا! أحسبتني غنمة من الغنم؟
ترك الشاب مرعاه، واستعانت الفتاة براعٍ يرعى لها الغنم ويعلِّمها رعايته، وكان الراعي يعلم ما بين الشاب والفتاة من عناد، ويعلم كذلك بطبائع الإنسان والغنم على السواء؛ قال لها ذات يوم في خبث وهو يشير لها إلى غنمة تترك صغارها لتجري وراء كبشها: هذه طبيعة الغنم، وطبيعة الناس! فالمرأة طبيعتها أن تَنْسلَّ إلى حضن الرجل ولا تستريح بالًا إلا وهي تحت جناحه، إنها تفعل ذلك لكنها إذا قيل لها هذا الحق غضبت وثارت لكرامتها، كأنما تكره أن يذكرها أحد بطبيعتها …
وثارت عاصفة هوجاء، وضاع كثير من غنم المرعى، وجاء من الجبل فهد مفترس، واشتدت الأزمة ووقعت الفتاة في حَيْصَ بَيْصَ لا تدري ماذا تصنع والكوارث آتية على مرعاها من كل ناحية … وهنا جاء الشاب الخاطب مارًّا في طريقه مصادفةً ودفعته النخوة أن ينقذ الأمور، وأحست الفتاة في وجوده أمنًا وطمأنينة، فذابت بين ذراعيه وهي تقول: لك أن تشرف على المرعى كما كنت تشرف، وأن تدخلني في رحابك، وتضعني تحت سطوتك وسلطانك، واعتبرني منذ اليوم غنمة من الغنم!
قلت لنفسي: إن كاتب هذه القصة أمريكي، والفتاة التي يحللها أمريكية، وإذَن فالأمريكي كالمصري، كأي إنسان في الدنيا، من طبيعته أن ينتشي لطاعة المرأة، والأمريكية كالمصرية، كأية امرأة في الدنيا، من طبيعتها أن تذل للرجل وتخضع، ولذلك كله حدود يمكن معرفتها بالإدراك السليم؛ فمجاوزتها طغيان والانتقاص منها غباء وحمق.
الجمعة ١٨ ديسمبر
رغب الطلبة اليوم في أن أحدِّثهم عن مصر بدل أن أحاضرهم في الدرس؛ فاليوم هو آخر الأيام قبل إجازة عيد الميلاد؛ فحدثتهم عن مدى الخطأ الذي يخطئونه في فكرتهم عنا، ومصدر الخطأ خيانة كتَّابهم ومخرجي الأفلام السينمائية؛ فهؤلاء جميعًا يهمهم أن يصورونا في صورة غريبة أكثر مما يهمهم أن يصفوا الحق والواقع؛ فالفكرة العامة عند الأمريكيين هي أننا حفنة من العرب نغوص في الجهل والشهوة؛ قلتُ لهم: ها أنا ذا أمامكم، فهل رأيتموني أتكلم أو أفكر أو أسلك على صورة تدل على أنني إنسان أقل من متوسط الناس عندكم؟ فأنا هو مصر، لست في بلدي إلا واحدًا من أوساط الناس، أنا في عالم الثقافة والتفكير في بلدي من غمار الأوساط؛ فقد يسأل سائل منكم عشرة آلاف مصري يختارهم عفوًا من المثقفين في مصر: هل تعرفون فلانًا؟ وسيجد إجابتهم: مَنْ فلان هذا؟ …
الحق أني قد تركتُ فيهم أثرًا أعتقد أنه لن يُمْحَى من أذهانهم؛ قال لي أحدهم، وهو طالب حاصل على درجة الجامعة وعلى درجة الأستاذية ويحضِّر رسالته للدكتوراه، وهو غاية في النضوج العقلي: أقول لك مخلصًا إنني قبل أن أراك لم أكن أتصوَّر «العربي» إلا إنسانًا أقرب إلى الهمجية في ثيابه الواسعة ولحيته الكثة وجهله المُطْبِق، وأظن أن مجرد وجودك بيننا تحاضرنا وتتحدث إلينا قد بدَّد هذه الخرافة، لا أقول عندي وحدي بل في الجامعة كلها، كلهم يقولون عنك ذلك … وقال طالب آخر: لا بد أن تفكروا في وسيلة تنشرون بها حقيقة شعبكم، إن رجلًا مثلك يستطيع أن يوسِّع من صِلَاته في أمريكا وقتًا ما، وذلك وحده عامل قويٌّ في ذاته …
كنت أتعشى الليلة في المطعم المألوف، وحدث ما لم يحدث إلا نادرًا، وهو أنْ جلس زوجان معي على مائدة واحدة، هما صغيران، فلا أحسبهما يزيدان على العشرين، وعليهما علامات السذاجة، كأنما جاءا إلى كولمبيا من الريف؛ أوشك الشاب أن يبدأ طعامه، فرفع الشوكة والسكين، فابتسمتْ له الزوجة قائلة: ألا تنوي الصلاة يا عسل؟ فترك الشاب سكينه وشوكته وطأطأ الرأس، وطأطأت الزوجة رأسها، وتوجَّها بالدعاء إلى الله أن يبارك لهما في طعامهما، وأن يجعل لهما الرزق موصولًا.