في نيويورك
السبت ٢٦ ديسمبر
غادرت واشنطن بالقطار إلى نيويورك فبلغتُها بعد أربع ساعات وربع ساعة … الانتقال من كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية إلى واشنطن، ثم من واشنطن إلى نيويورك، كالانتقال من منزل إلى مكتب، ثم من مكتب إلى دكان … نيويورك بمثابة دكان كبير زاخر بالمعروضات، نشيط بما فيه من حركة بيع وشراء، تحب أن تستعرض أجزاءه، لكنك لا تحب أن تقضي الليل فيه … نيويورك مدينة فريدة في نوعها بما فيها من ناطحات السحاب، إنها مدينة لا تكاد عينك تقع فيها على شيء قديم، كأنها شُيِّدَت منذ أعوام قلائل ولم يمضِ عليها في الحياة إلا زمن قصير؛ لهذا لا تحس فيها بجلال التاريخ … تتحرك فيها من شارع إلى شارع فيكون انتقالك من مكان إلى مكان، لكنك لا تنتقل من زمن إلى زمن، كما تفعل لو انتقلت في القاهرة — مثلًا — من مصر القديمة إلى مصر الجديدة أو من الحي الحسيني إلى الزمالك.
الشوارع في نيويورك بين هذه الناطحات تبدو ضيقة، أو لست أدري لماذا تُضَيِّق الصدر ولا تشرحه؛ فالأرجح أن يشعر الإنسان — وهو سائر بين هذه العمالقة المعمارية — بأنه تافه ضئيل بدل أن يحس أنه عظيم جبار أقام هذه العمائر العالية … لا عجب أن يكون هذا هو الشعور الدفين في نفس الأمريكي الفرد؛ فهو على اعتزازه بفرديته وشخصيته يخشى على نفسه أن يُهْصَرَ ويُعْصَرَ ويُطْحَنَ ويُكْسَرَ أمام جبروت الأعمال الكبيرة والمباني الكبيرة … ذلك ظاهر من فرحة الناس التي لا تنقطع برؤية الأفلام السينمائية الكاريكاتورية الرمزية التي تجعل الفأر الضئيل في خطر من القط الكبير المفترس، لكن الفأر ينجو بنفسه دائمًا! فرحة الناس بهذا المعنى — وهو مكرر في آلاف الأفلام — تعكس ما هو دفين في نفوسهم من الخوف أن يفتك الجبار بالتافه، مهما يكن نوع الجبروت ونوع التفاهة … والجبروت في نيويورك هو جبروت الناطحات، والتافه هو الفرد يمشي في الشوارع بين هذه الشوامخ.
العمارة في نيويورك رائدها المنفعة لا الجمال، ولو أن المنفعة والجمال قد تلاقيا فليس في ظاهر البناء زخرف ولا نقش ولا بروز ولا انحناء، إنما هي خطوط مستقيمة عالية تضم بينها ثقوبًا هي النوافذ، كل نافذة منها في غرفة … قارن ناطحة السحاب في عصرنا بالكاتدرائية في القرون الوسطى تدرك ما أعنيه بقولي إن الغرض المقصود من عمارة الناطحات هو المنفعة، على حين كان الغرض المقصود من فن العمارة فيما مضى هو الجمال.
الأحد ٢٧ ديسمبر
جعلت اليوم مقصورًا على زيارة متحف الفن الحديث … وهو بناء أقيم هو نفسه على أساس من فن البناء الحديث! فتراه بسيطًا غاية البساطة: الجدران والسقوف كلها بيضاء ساذجة البياض، فلا زخرفة ولا نقش، والغرف يفتح بعضها على بعض من غير أبواب خشبية، والأرض بلاط منقوط بغير غطاء، والمقاعد كنبات بسيطة في أواسط الغرف.
طلعت بالمصعد إلى الدور الثالث لأبدأ من أعلى فنازلًا، فوجدت جزءًا كبيرًا من الطابق الأعلى مخصصًا لفنان واحد هو «ليجيه»، وهو فنان حديث، تواريخ صوره تقع في الثلث الأول من هذا القرن على نحو التقريب، وله طريقة في الرسم واحدة متميزة متكررة في كل صوره على كثرتها، ولا تراها عند فنان سواه، وهي أن يرسم الصورة في خطوط وأقواس يملؤها ببقع من اللون، ويصل الأجزاء بعضها ببعض على نحو يجعل الصورة في النهاية — إن كانت صورة إنسان مثلًا — تبدو كأنها إنسان آليٌّ، لكن الصورة مع ذلك تكون تركيبة لونية تستوقف النظر، تنظر إليها فتتمنى — مثلًا — أن تكون لك سجادة بهذا التلوين وهذا التكوين.
أقول هذا لأن هذه الفكرة طافت بذهني وأنا أتفرج على رسوم «ليجيه» وهي: لماذا يضحك الناس من هذا الفن الحديث مع أنهم أدخلوه في أذواقهم مرغمين أو مختارين؟ أدخلوه في أذواقهم على نطاق أوسع جدًّا مما يظنون … انظر إلى السجاد الذي نسميه في مصر بالسجاد الإفرنجي، ما رسومه؟ أليست تكعيبات وأشكالًا لا غاية منها سوى أن تتناغم ألوانها؟ ثم انظر إلى كثير جدًّا من الإعلانات؛ أعني الإعلانات الجيدة الرسم الملفتة للنظر، أليست قائمة في معظم الحالات على أسس الفن الحديث من أن المصور يهمل التفصيلات ويعنى بوقع الرسم على عين الرائي وفكره ونفسه؟ ثم انظر إلى كثير جدًّا من الأثاث، كيف يتخذ أحيانًا أشكال الدوائر والخطوط على نحو هو بذاته اتجاه الفن الحديث، وانظر إلى ملابس السيدات وكيف تكون زخرفتها في حالات كثيرة على أساس من ذوق الفنان الحديث وهكذا وهكذا … روح الفن الحديث قد تغلغلت في صميم حياتنا، ومع ذلك أسمع الناس من حولي في هذا المتحف، فلا أسمع إلا السخرية من الاتجاهات الحديثة، كأنها ليست في ثيابهم وفي أثاثهم وفي بنائهم وفي زخارفهم على اختلافها.
وسأذكر من صور «ليجيه» ثلاثًا، ولو أنها ليست أحسن من سائر صوره، فكلها كما قلت روح واحدة … له صورة كبيرة اسمها «لاعبو الورق»، وأخرى اسمها «الزفاف»، وثالثة «ثلاث سيدات ساعة الإفطار» … ولو سألنا: لماذا يركِّب «ليجيه» أجزاء الصورة على هذا النحو الآلي؛ لما أخطأنا الجواب إن قلنا: لأنه يصوِّر المدنية الآلية التي نعيش فيها.
نزلتُ من الطابق الأعلى إلى الطابق الأوسط على سُلم رخامي أسود جميل بغير زخرفة ولا زركشة، ووقفت وسط السُّلم لأنظر إلى صورة لبيكاسو عُلِّقَت هناك، هي «فتاة أمام المرآة» … بالطبع لا تنتظر أن ترى فتاة واضحة الأجزاء والمعالم أمام مرآة واضحة الشكل والحدود، بل لا تنتظر أن ترى الصورة في المرآة شبيهة كل الشبه بالفتاة، وإلا لما كان بيكاسو من رواد الفن الحديث، إنما هي بناء لوني قائم على شكل تقريبي لفتاة مكررة مرتين بمزيجين مختلفين من اللون، بحيث يكون في النهاية نغم لوني، وهذا هو أساس الفن الحديث كله.
دخلت الطابق الأوسط فوجدته زاخرًا بصور الفن الحديث على اختلاف مدارسه؛ كنت اليوم نَهِمًا جشعًا، فكدتُ أدرس كل صورة بقدْر ما وهبني الله من قدرة على الدراسة؛ وعلى كل حال فالمهم في استعراض الآيات الفنية هو أن أنظر إلى القطعة الفنية لأحسَّ نشوة قوية أو ضعيفة، فليس المهم في التمتُّع بالفنون أن يتفلسف الرائي أو المستمع … أقول إني كنت نَهِمًا جشعًا، فقضيت في هذا الطابق من البناء أربع ساعات كاملة … دخلت أول غرفة على يميني، فكانت أول صورة هي «مراكب الصيد» ﻟ «سيورا» الفنان الفرنسي؛ هي فاتحة في لونها هادئة في نغمها، إنها ليست ملونة بالفِرْجَون، بل هي نقط تتزاحم أو تتباعد لتعطي اللون المطلوب، ومن ثم تُسمَّى هذه المدرسة بمدرسة الفن المنقوط، فإذا لاحظنا أن «الصناعة» جزء أساسي في تقدير القطعة الفنية، وأن الصناعة في هذه الصورة قد بلغت الغاية في الإتقان؛ عرفنا ارتفاع قدْر هذه الصورة، و«سيورا» من الانطباعيين الذين يتركون حدود الأشياء في رسومهم مبهمة؛ لأن أثر المرئي في الذهن يستحيل أن يكون إلا مبهمًا هكذا.
وانتقلتُ إلى الصورة التي بعدها؛ ولا داعيَ لقراءة اسم صاحبها، فقد بلغت الآن من المعرفة ما يدلني على أنه «فان جوخ» الهولاندي الذي أصبحتُ الآن لا أخطئ له صورة؛ فأنا أعرفه على الأقل بألوانه التي تميل إلى الاصفرار دائمًا، مهما يكن موضوعه … وانتقلت إلى الصورة التي بعدها، وهي لفنان بلجيكي اسمه «إنسور» لم أكن قد رأيت له صورًا قبل ذلك، الصورة تمثِّل بضعة أشخاص على هيئة الأمساخ؛ فالوجوه بشعة أقرب إلى وجوه الحيوان، لكن لا، فوجوه الحيوان لها جمالها: وجه الحصان مثلًا ووجه الكلب ووجه القط، هذه وجوه جميلة، أما الوجوه التي في الصورة فأمساخ مرذولة، واللون الغالب على الصورة هو الأحمر الناري … ما هذا؟ هؤلاء ناس لا كالناس الذين تراهم في الطريق، بل هم الناس كما يراهم هذا الفنان؛ فالإنسانية في رأيه هي بهذه البشاعة، واللون الناري يتركك في جوٍّ يوحي إليك بالجحيم، وما الجحيم إلا هذه الحياة التي هؤلاء الناس هم أحياؤها … إذا كنا نبيح لكاتب مثل «جوناثان سوفِت» أن يصوِّر الإنسانية في صورة بشعة (في كتابه رحلات جلفر) شاءتها له كراهيته للبشر، فلماذا لا يكون للمصور هذا الحق نفسه؟ ليس الفنان آلة تصوير، لكنه فنان يتأثر ويعطيك الأثر.
وتتلوها صورة لرجل من أتباع مدرسة بيكاسو هو «جوجان»، في الصورة ثلاثة صفوف من أشياء؛ ففي الجزء الأعلى ثلاث قطط، كل قطة تشرب اللبن من وعاءٍ أمامها، وفي الجزء الأوسط ثلاث كئوس، وفي الجزء الأسفل ثلاث مجموعات من الفاكهة … وقد يسأل مَن لم يألف الفن الحديث: ما هذا الكشكول العجيب؟ قطط وكئوس وفاكهة في صورة واحدة؟! والجواب هو أن الصورة فيها من هذه الأجزاء زخرف جميل، وقد يعود السائل فيعترض قائلًا: لكن ما هكذا تكون القطط في الواقع ولا الكئوس ولا الفاكهة! فلماذا يرسم المصور هذه الأشياء على غير حقائقها الواقعة؟ والجواب دائمًا هو: ليس الفنان آلة تصوير تحاكي الواقع في أمانة، بل مهمته أن يقدِّم للعين نغمًا لونيًّا كما يقدم الموسيقيُّ للأذن نغمًا صوتيًّا.
وأول نظرة للصورة التي بعدها كانت كافية لأقول من فوري هذا «سيزان»: مجموعة من الفاكهة، سيزان لا يرسم التفاحة — مثلًا — لكي يقلِّد برسمه تفاحة الطبيعة، بل يرسم التفاحة ليجعلها مدارًا لبنائه اللوني، المهم عنده — كأي فنان حديث — إبراز خصائص اللون.
وانتقلت إلى غرفة أخرى، فكانت أول صورة من رسم «إنسور» الذي تحدَّثتُ عن «أمساخه البشرية» منذ قليل؛ هذه الصورة الثانية اسمها «القديس أنطوان» هي غاية في الجمال، وترى سماءها مليئة بالبقع اللونية، فإذا ما أمعنت النظر في هذه البقع وجدتها شخوصًا مختلفات، والعجيب هو أن الفنان يستعمل في هذه الصورة أيضًا اللون الأحمر، وهو نفس اللون الذي استعمله في رسمه للأمساخ البشرية، تُرى هل يقصد إلى القول بأن مادة الشر هي نفسها مادة الخير، والذي يجعل الخير خيرًا والشر شرًّا ليس هو اختلاف العنصر بقدْر ما هو اختلاف النسبة؟ فالطعام خير لكنه كذلك قد يكون شرًّا، والمرأة والشراب … حتى القراءة قد تنقلب شرًّا إذا ملأت رأس القارئ بالضلال … لا أدري إن كان تفسيري هذا مقبولًا، لكني أسارع فأسأل: مقبول ممن؟ إن في ميدان التأويلات الفنية لمتسعًا للجميع.
وهاتان صورتان، كلٌّ منهما صورة نافذة تطلُّ على الخارج، إحداهما من رسم «ماتيس» والأخرى من رسم «دِران» وكلاهما من رجال الفن الحديث …
وانتقلت إلى الغرفة التي تليها، فبدل أن أنظر إلى الصور بترتيبها على الحائط، جذبتني صورة هناك في الوسط، فذهبت نحوها فورًا: فيها ثلاثة شخوص، رُسموا بجرَّات غليظة من الفِرْجَون، وهي للفنان «روولت» واسمها القضاة الثلاثة، ومرة أخرى أقول إن مَن لم يعطف بعدُ على الفن الحديث سيسخر من هذه الشخوص التي ظهرت أمامه في الصورة، وسيسأل قائلًا: هل هذه صور لرجال؟ والجواب هو ما أجاب به «ماتيس» على المرأة التي سألته مرة عن إحدى صوره: هل هذه امرأة؟ فقال: يا سيدتي، هذه صورة وليست بامرأة … انظر إلى هؤلاء القضاة الثلاثة وسل نفسك أي شعور يدور في نفسك؟ هل من شك في أنك إذ تنظر إلى بشاعة هذه الوجوه تحس بصداها في دخيلة نفسك شعورًا بالتقزُّز والنفور؟ وإذَن فلا بد أن يكون الفنان لأمرٍ ما قد استبشع العدالة في هذه الدنيا، فاستفز الناظر إلى الصورة وحفَّزه إلى مشاركته هذا المقت وهذا النفور مما يسمونه على هذه الأرض عدالة وقضاة، ولكي يزيد الفنان من كآبة الأثر الذي تتركه الصورة في نفس رائيها؛ أحاط شخوص القضاة بخط من اللون الأسود الحالك.
وعُدت إلى «بيكاسو» من جديد: غرفتان أو ثلاثة مليئة بمختلف الصور من رسم «بيكاسو» … كم صورة رسمها بيكاسو؟ كم مائة، بل كم ألف صورة رسمها بيكاسو؟! في كل متحف صور لهذا الفنان؛ ولهذا طاف بذهني هذا الخاطر وهو: هل يستطيع الشخص العادي من الناس — هل أستطع أنا مثلًا أن أخلق أكثر من عشرين أو ثلاثين شكلًا دون أن أكرر نفسي؟ إذَن فجانب هام من نبوغ هؤلاء الناس هو هذه الخصوبة في الخيال … انظر كم خليطًا لونيًّا خلقه بيكاسو، وكل خليط منها جميل! وإذا أنا أثبت هنا كل ما دار في نفسي من خواطر حين استعرضت صور بيكاسو؛ لاستطرد الحديث، فيكفي أن أسجل اسمين أو ثلاثة لتذكِّرني بما وقع مني موقع الإعجاب الشديد من صور هذا الفنان: «الموسيقيون الثلاثة»، و«صيد السمك في ضوء القمر»، و«آنسات أفنيون».
وهنالك بضع صور لفنان روسي هو «تشاجال» لها طابعها المميز عن الصور جميعًا؛ هو رسام يحلم على لوحته! انظر إلى هذه الصورة التي يسميها «عيد الميلاد» وفيها امرأة ممسكة بطاقة من الزهر، وراحت تجري في غرفتها في سبيل إعداد العدة لحفلة المساء، وصورة زوجها معلقة في الهواء من خلفها، بادئة من التقاء الشفاه، أعني أن شفتي الزوج على شفتي زوجته، ثم امتد جسمه طائرًا في الهواء وراءها كأنه «تلفيعة» تلفعتْ بها فطارت في الهواء وراءها وهي مسرعة في السير! أيكون معنى الصورة أن الزوجة تحمل معها قبلة زوجها أينما سارت؟ إن الرجل أحيانًا يقبِّل امرأة ويظل طعم القبلة عالقًا على شفتيه مدة طويلة، وإذَن فيجوز أن تكون الصورة تعبيرًا عن هذا المعنى … وتستطيع أن تفسِّر الصورة تفسيرًا آخَر، فتقول إنها امرأة اكتسحت زوجها اكتساحًا؛ فهو بالنسبة إلى شخصيتها كالزائدة أو «كشُرَّابة الخرج» — كما يقولون — فهي وحدها الشخصية التي تسيطر داخل دارها، وما زوجها إلا تكملة؛ فهو يُقبل ويحب لتنشأ الأسرة التي هي عمادها النشيط الفعال … واضح جدًّا أن هذه صورة من الأسلوب الذي يسمونه في الفن بما فوق الواقع «السير ريالست»؛ لأنه ليس في واقع الأشياء شيء كهذا؛ ليس هنالك في دنيا الواقع امرأة تحمل زوجها على هذا النحو وتسير به عالقًا وراءها في الهواء، لكننا إذا لم نكن قد رأينا هذا الشكل بحذافيره، فقد شعرنا هذا الشعور، سواء كان التفسير الأول صحيحًا أو التفسير الثاني؛ وما الفن إلا تصوير لمشاعر الإنسان أولًا وقبل كل شيء.
وروسيٌّ آخر اسمه «كاندنسكي» (مات ١٩٤٤م) له صورتان متجاورتان وليس فيهما إلا مزيج لوني، لم يحاول حتى أن يجعل مدار ألوانه شيئًا يختاره بين الأشياء التي يراها كمقعد أو منضدة، بل ترى الصورة عنده وكأنها ألوان سُكِبَت، مما يدل أقوى دلالة على أن الصورة في الفن الحديث هي نغم لوني لا تصوير، ويزيد ذلك وضوحًا أن ترى الفنان قد كتب على صورتيه اسميهما هكذا: «إنشاء لوني رقم ١» و«إنشاء لوني رقم ٢» على نحوِ ما تُسمَّى المقطوعات الموسيقية التي ليست سوى تأليفات صوتية … وقد تسأل نفسك وأنت تنظر إلى صورتَي «كاندنسكي»: لكن ما العاطفة التي يريد هذا المصوِّر أن يصوِّرها أو أن يثيرها في نفس الرائي؟ أليس الفن تصويرًا للعواطف؟ والجواب هو شبيه بما نجيب به في الموسيقى، فإنه يُقال إن القطعة الموسيقية لو أحدثت في السامع عاطفة محدَّدة معلومة كانت موسيقى من النوع الساذج؛ لأنها تكون واضحة الغرض، مع أنه لا يجوز للقطعة الفنية أيًّا كان نوعها أن تكون واضحة الغرض، وإلا كانت درسًا لا فنًّا؛ أما الموسيقى الراقية الرفيعة فهي التي تخلق «جوًّا عاطفيًّا» معينًا، دون أن تحدِّد العاطفة تحديدًا قاطعًا، إنها مثلًا لا تثير «الكراهية» بشكل محدد، بل تثير «جو القلق» … وهكذا قُل في صورتَي «كاندنسكي» وأمثالهما؛ فالمزيج اللوني الفني يثير ارتياحًا أو نفورًا أو ما شاكل ذلك … الفن الحديث موسيقى للعين لا تصوير للأشياء.
وأريد أن أختم حديثي عن متحف الفن الحديث بما رأيته في غرفة وضعوا لها عنوانًا هو «فن المستقبل»، والصور المعروضة هنا هي لفنان إيطالي اسمه «بالا»، فله صورة عنوانها «السيارة المسرعة»، وأخرى عنوانها «المدينة تنهض»، وفيها رموز واضحة لنهضة صناعية كأنما هذا الفنان الإيطالي قد سئم أن تكون إيطاليا بلد الجمال الذي يزوره السائحون، كأن إيطاليا بأَسْرِها تحفة في متحف؛ وهو يريد أن يكون المستقبل في بلده انقلابًا صناعيًّا … ما أحوجنا في مصر إلى هذا الفن «المستقبلي» ينفض عنا غبار القِدَم!
أما بعد، فأين الفن الأمريكي في هذا كله؟! إنه قليل جدًّا، ومعظم هذا القليل في الفن هو من نوع «ما فوق الواقع» (السير ريالست)؛ فهنالك الفنان «تانجاي» بصورته «نحو الشمال في بطء»، وهي صورة مما فوق الواقع صوَّر فيها مركبًا في بحر هادئ، وصورة أخرى غاية في الجمال عنوانها «أماه! أبي جريح» وقفتُ أمامها مدة طويلة أحاول أن أرى أين تكون الأم أو الأب الجريح؟ فلم أجد من ذلك شيئًا، وحسبي أنها جميلة، وهنالك أيضًا ترى فنانًا أمريكيًّا آخر هو «ماكس إرنست» بصورتيه: «نابليون في التيه» و«امرأة ورجل كهل وزهرة».
الإثنين ٢٨ ديسمبر
زرتُ اليوم متحف المتروبولتان بنيويورك، وهو بناء فخم ضخم؛ فهو ليس بناء من نوع متحف الفن الحديث في بساطته … أول ما يصادفك داخل المتحف بهو عظيم تعلوه قبة البناء الرئيسية، فانحرفت إلى اليمين لأبدأ زيارتي بالقسم المصري، وهو يشغل عشر غرف متتابعة.
لم أكد أجاوز الغرفة الأولى إلى ما بعدها — والغرفة الأولى خاصة بما قبل التاريخ — حتى مرتْ مجموعة كبيرة من الطالبات، كلٌّ منهن تحمل لنفسها مقعدًا، ومعهن مدرِّسة جاءت معهن — على الأرجح — لتحاضرهن في موضوع يتصل بما في المتحف من آثار … فأحدث الفتيات ضجة حين مررن بالغرفة التي كنت بها، حتى إذا ما غادرنها نظرت إليَّ سيدة في نحو الثلاثين من عمرها، أمْيَل إلى الجمال وعلى ملامحها علامات الثقافة، وفي عينيها بريق جذاب، وقالت: ما رأيك في جماعة من الناس تمر في متحف الفرض فيه أن يكون هادئًا صامتًا ساكنًا، فيحدثن مثل هذا الضجيج؟ فقلت لها وقد لمحتُ في عينها لمعة تشجِّع على التفكُّه في الحديث: لولا أنكِ امرأة لقلت لكِ ماذا تتوقعين من مجموعة من نساء إلا صخبًا وضجة؟ فقالت: قُلها ولا تبالِ، فإني أقولها معك … وبعد لحظة نظرت خلالها إلى معروض قالت: أنا مفتونة بالفن المصري، انظر إلى هذا الانسياب في نحت التمثال! وكانت تشير إلى تمثال من الخشب واقف إلى جانب تمثال «الكاتب الجالس»، فقلت لها: وربما ازددت رفقًا بالفن المصري حين تعلمين أن مَن تحدثينه الآن مصري!
اهتم كلٌّ منا بالآخر؛ اهتمت بي لمصريتي، واهتممتُ بها لدرايتها بالفنون؛ فقد تعارفنا فعرفت عنها أنها من أهل نيويورك، تخرَّجت في جامعتها، وحصلت على درجة جامعية في الموسيقى أساسًا وفي الفنون إطلاقًا، وهي تدرس في ولاية جورجيا (في أقصى الجنوب)، وأغرب ما علمته منها أنها تدرس في كلية للزنوج هناك؛ ذلك لأني لم أكن أعرف أن البِيض قد يَقْبَلون العمل في مدارس السود، وإذا كانت هذه السيدة لا تدَّعي ما ليس حقها، فهي تقول إنها اختارت عامدة أن تدرس عامين في مدرسة للزنوج؛ لأنها تعطف عليهم وتقف إلى جانبهم في مشكلتهم مع البِيض، وأرادت أن تضع نفسها في المسرح الذي تدور عليه المشكلة في صميمها؛ وأعني به ولايات الجنوب، لترى بعينها الحقائق عن كثب … راحت تشرح لي كيف أن الموقف أصعب جدًّا من ناحية الزنوج منه من ناحية البِيض؛ لأن الأبيض ما عليه إلا أن يغيِّر رأيه عن الأسود فتنتهي المشكلة بالنسبة إليه؛ أما الأسود فهو يغلي من الغل والكراهية لانعزال البِيض عنه تكبرًا، مع أنه في الوقت ذاته لا يرضى أن يندمج البِيض في السود، ويريد لنفسه العزلة! سألتُها: ولماذا يريد السود أن يظلوا في عزلتهم اللونية؟ فقالت: لأنهم يخشون منافسة البِيض؛ فافرض مثلًا أن كلية من كليات الزنوج فتحت أبوابها للمدرسين جميعًا أبيضهم وأسودهم على السواء، وافرض أن البِيض أقبلوا على التدريس فيها، فسيكون الموقف دائمًا هو أن بين البِيض مَن هم أكفأ وأعلى في الدرجات العلمية، وبذلك يملئون الوظائف ويسدُّون الطريق أمام الزنوج … ثم قالت: إن الزنوج لا يُقْبِلون على العمل إقبالنا نحن البِيض عليه …
ومن أغرب ما سمعته منها ولم أكن أعلمه، أن تلاميذها يعرفون عنها داخل الكلية أنها شديدة العطف على الزنوج وتحبهم وتشجعهم، ومع ذلك كله فبمجرد ما تخرج من أبواب الكلية، يمتنع تلاميذها عن التحدُّث إليها في الطريق، وحتى إن شجَّعت طالبًا رأته في الطريق بأن تبدأ هي بالحديث، خاف الطالب وراح يتلفت حوله قبل أن يتحدث إليها؛ خشية أن يكون هناك شرطيٌّ على مقربة منه؛ لأن الشرطي يقبض على الزنجي بحكم القانون إذا رآه يتحدث في الطريق مع بيضاء!
اسم هذه السيدة «أ. و» جاءت إلى نيويورك لتقضي مع أهلها عطلة عيد الميلاد، وهي واسعة الدراية بالفنون إلى درجة تستلفت النظر، مَشَيْنَا معًا في حجرات القسم المصري، فكانت لها تعليقات أفادتني في الفهم فائدة عظيمة، كان أول ما رأيناه معًا في الغرفة التي كنا بها أوانٍ فخارية بينها «زير» على حامل من الحديد، شديد الشبه جدًّا بما يُسْتَعْمَل حتى اليوم في الريف المصري، فقالت: هذا شبيه ببعض الآثار الفخارية في المكسيك، والذي حِرْت في أمره هو: لماذا يصنعون هذه الآنية الفخارية بغير قاع مسطوح ترتكز عليه فوق الأرض؟ لماذا يجعلون لها هذا القاع المكور بحيث يحتاج في رفعه عن الأرض إلى حامل من حديد؟ فقلت لها: هذه الآنية الفخارية لا تزال مستعملة في ريفنا المصري لتبريد الماء، والفكرة هي أن جدار الآنية ليس مصمتًا، بل هو ذو مسام يَرْشَح منها الماء ويسيل على الجوانب، وإذَن فلا بد أن تُرفع الآنية عن الأرض ليتجمع الماء السائل في الطرف الأسفل ويتبلور في نقطة ماء تسقط في إناء موضوع تحت الزير.
وانتقلنا إلى الغرفة المجاورة، فكانت هناك لوحات حجرية عليها رسوم حمراء لأشخاص في أوضاع مختلفة؛ وهنا دار بينها وبيني حديث مفيد ممتع في فن التصوير عند المصريين القدماء؛ وذلك أني نظرت إلى الصورة وقلت في شيء من المجازفة — خشية أن يكون قولًا دالًّا على جهل معيب: إنني أرى في هذا الرسم المصري القديم بعض أصول الفن عند «ماتيس». ثم سألتُ قائلًا: فلماذا يُعَدُّ هذا الفن بدائيًّا بينما يُعَدُّ فن «ماتيس» آخر طراز في الحداثة؟ فقالت: فن «ماتيس» قائم بالطبع إلى حد كبير على الفن الأفريقي (هكذا)، ولكن مَن ذا الذي قال إن هذا الفن الأفريقي بدائي؟ وراحت تشرح لي ما أفادني، وهو أن الرسم المصري قائم على أساس حقيقة المرئي كما هو في الواقع، لا على صورته في عين الرائي؛ فهم يرسمون الرجل — مثلًا — بصدره كله، ويلفتون الرأس إلى أحد الجانبين، وفي الوقت نفسه يرسمون العين كاملة على الصدغ الظاهر، مع أنهم لو رسموها كما يراها الرائي تحتَّم أن يرسموا نصفها لاختفاء نصفها الآخر ما دام الوجه ملتفتًا إلى جانب … المصور المصري القديم لا يأبه لما تراه عينه من الشيء المرسوم، بل يرسم ما يعلم أنه حقيقة الشيء في الواقع، يندر جدًّا أن يرسموا الشخصية من جانبه؛ لأن ذلك يضيق الصدر في الصورة، وكذلك يندر جدًّا أن يرسموا الوجه ناظرًا إلى أمام مع الصدر؛ لأن ذلك لا يعطي للأنف كامل هيئته، وكذلك القدمان يرسمهما الرسام دائمًا كاملتين مهما كان وضع الشخص المرسوم … أخذت السيدة تشرح لي كيف أن المصري في رسمه للأشياء على هذا الأساس لم يكن جاهلًا بقواعد المنظور في الرسم؛ فهو يبدي دقة كبيرة في رسم التفصيلات مما يدل على قدرته وبراعته، بحيث يستحيل بعد ذلك أن نقول: إنه إذا رسم العين كاملة — مثلًا — مع أن الوجه ملتفت إلى جانب ولا يُظْهِر العين كاملة كان ذلك جهلًا منه بالرسم وقواعده! لكن الأمر أمر «مبدأ» فني يصدرون عنه؛ فقد أرادوا — كما أراد «ماتيس» في عصرنا الحاضر — ألا يتقيد الفنان بقواعد المنظور، على اعتبار أن الصورة الفنية ليست صورة فوتوغرافية تنقل الشيء كما يُرى … ولحسن الحظ كان أمامنا صورة أخرى معلقة إلى جانب الصورة التي كانت موضوع الحديث، في هذه الصورة الثانية شخص ممسك في يده بعدد من الطير، يمسكها من أرجلها فتتدلى رءوسها إلى أسفل صفًّا على هيئة مروحة أو على هيئة الزهرة، والرجل في الصورة متمنطق في وسطه بالثوب المصري التقليدي، لكن الرسام أظهر في الصورة خطوط فخذيه، مع أن فخذيه يغطيهما الثوب فلا يظهران للرائي، فقالت السيدة لي: انظر إلى هذه الصورة مثلًا، فلو كان الفنان متقيدًا بقواعد المنظور؛ لأخفى خطوط الفخذين لاستتار الفخذين وراء الثوب، ولا يمكن أن نقول إن ذلك جهل منه في التصوير؛ لأننا إذا نظرنا إلى مجموعة الطير في الصورة، وجدنا الفنان قد راعى فيها قواعد المنظور التي حسبناه يجهلها، فجعل الطائر الأعلى يخفي الطائر الذي خلفه وهكذا … لماذا؟ لأن هدف الفن المصري هو إظهار «القالب» أو «التكوين» أو «الفورمة»؛ فهو يُظهر فخذَي الرجل بغضِّ النظر عن الثوب؛ لأنه يريد إظهار «تكوينهما»، أما في حالة الطير فلم يرَ حاجة إلى إهمال قواعد المنظور؛ لأن «التكوين» أو «الفورمة» قد تحققت له في رءوس الطير التي تدلَّت على هيئة الزهرة … والخلاصة أن أساس التصوير المصري هو إظهار «التكوين»، بحيث يستبيح الفنان لنفسه مجاوزة قواعد رسم المنظور إذا ما تعارضت مع إبراز «التكوين»، أما إذا لم يكن ثَمَّ تعارض بين المنظور و«التكوين» راعى قواعد المنظور.
واستطردت السيدة في شرحها فقالت: إن المصريين في تماثيلهم لا يلجئون إلى تغيير شيء من المرئي؛ لأنهم في النحت ليسوا بحاجة إلى تغييره؛ إذ تتلاقى قواعد المرئي مع حقيقة الشيء في الواقع، لكن التصوير هو الذي أحدث هذه المشكلة في عصور التاريخ الفني كلها؛ لأن المادة المرسوم عليها ذات بُعْدَين، على حين أن الشيء المرسوم ذو ثلاثة أبعاد، فكيف نتصرف إزاء البُعد الثالث؟ أما المصريون واليونان معًا، ومعهم الفنان الحديث على أيدي «بيكاسو» و«ماتيس» وغيرهما، فيهملون البعد الثالث ليكونوا أمناء في استخدام المادة التي يرسمون عليها، وبذلك ظهرت رسومهم مسطحة لا محاولةَ فيها لإبراز البعد الثالث؛ وأما الفن الأوروبي منذ عصر النهضة إلى القرن العشرين، فهو وحده دون سائر عصور التصوير كلها في كل مكان وفي كل زمان، هو وحده الذي خرج على التقليد الفني، وحاول أن يلجأ إلى «التظليل» في الصورة ليُظهر البعد الثالث، وكان ذلك خطأً فنيًّا عظيمًا، ومجهود المدرسة الحديثة في الفن أن تزيل هذا الخطأ وتعود إلى الطريق الصواب؛ فإذا كنا نريد إظهار الشيء بأبعاده الثلاثة فعلينا بالنحت، أما أن تكون لوحة التصوير مسطحة ذات بُعدين، ثم نحاول أن نبرز على سطحها بُعدًا ثالثًا، فخروج على ممكنات المادة التي يعالجها الفنان.
إنه بِغضِ النظر عن هذه اللمحات القوية التي استفدتها من هذه السيدة في فهم الفن المصري وتقديره، فوالله لقد وقفتُ مبهوتًا أمام المعروضات المصرية؛ إنه لا جديد فيما أرى؛ فقد أَلِفَت أعيننا هذه الأشياء، لكن لا تنظر النظرة العابرة؛ وقِفْ أمام شيء واحد، وادرسْ تفصيلاته لتدهش وتعجب … لقد كنت أمس في متحف الفن الحديث، ورأيت تماثيل نَحَتَهَا قادة هذا الفن في عصرنا، وإني لأقول إذ أقارن بين ما أراه الآن وما رأيته أمس: شتان ما بين الثرى والثريا! … طاف ذلك بخاطري، لكني لم أقُلْه لزميلتي خشية أن أكون كالطفل الذي يباهي، حتى وقفت هذه السيدة من تلقاء نفسها أمام تمثال جميل وقالت: لو خُيِّرْتُ بين هذا التمثال وحده وبين متحف الفن الحديث كله بما فيه من أرضه إلى سمائه، لاخترت هذا التمثال، يا له من إعجاز في الفن!
وانظر إلى الحلي المعروضة نظرة مدقق، وقل لي أين الفرق بين هذه الأقراط الكبيرة المستديرة التي أراها الآن، وبين ما أراه في أرقى معروضات الطريق الخامس في نيويورك؟! وانظر إلى الأواني الدقيقة الرقيقة ذات «التكوين» البديع الرشيق الرائع … إن كل آنية منها كأنها فتاة من باريس تعلمت كيف تقف وكيف تتلفت في رشاقة ودلال.
وقفت مع زميلتي الفنانة أمام رأس نفرتيتي (وهي بالطبع نسخة من الأصل المحفوظ في برلين)، وراحت الزميلة تُبْدِي إعجابها الشديد، قائلة إن أستاذها الذي علَّمها الفنون كان قد درس في برلين، وكان يقول لهم إنه من شديد إعجابه برأس نفرتيتي أحب نفرتيتي حبًّا جنسيًّا كما يحب الرجل المرأة يشتهيها … ثم قالت: وأنا لا ألومه على حبه ذاك، انظر إلى هاتين الشفتين! إن الشفاه في تماثيلكم كلها من أبدع الشفاه في البشر جميعًا … فقلت لها: لولا أن شفتي نفرتيتي تُبْدِيان قليلًا من شهوة، فقالت: نعم، هذا صحيح، لكنها شهوة في تحفُّظ الحياء، وفي هذا سر جمالها.
ودَعَتْنِي الزميلة الفنانة لنلتقي بعدئذٍ على عشاء … ورحتُ أستعرض وحدي بقية المتحف، لكن هل يمكن أن أستعرض كل هذا العالم الزاخر في جزء من يوم؟ فهذه آثار اليونان، وتلك آثار العصور الوسطى، وأخرى آثار العصر الأول في أمريكا وهكذا وهكذا، كلها معروض في أبهاء فسيحة قوية البناء جميلة التنسيق ذات هيبة وجلال.
وحسبتني قد كدت أفرغ من المتحف، لكني وقعت فجأة على جناح بأسره خُصِّص للفن الأمريكي في التصوير … فيئست من التتبُّع والتعقب والدراسة، أقول إني يئست من أن أحيط بأكثر من النزر اليسير من العلم بالفن الأمريكي، فجلست على كنبة هناك لأستريح؛ فقد كان التعب هدَّني هدًّا.
وعدتُ في المساء فالتقيتُ بالزميلة الفنانة، وحضرنا معًا ملهاة سينمائية جميلة عنوانها «جنة القبطان»، ثم تعشينا في مطعم صيني، وهناك على مائدة العشاء دار بيننا حديث ثقافي طويل بلغنا به أعلى ما يمكن لمثلنا أن يبلغه من ارتفاع، وكان الموضوع هو هذا: هل يستطيع الفنان أن يقيد نفسه بقوانين المجتمع وأوضاعه؟
أما أنا فقد أخذت بوجهة النظر القائلة بأنه يستحيل على فنان أصيل أن يخضع لأي قانون غير ما يشرعه لنفسه من نظام، ومن ثم اتهامه عادةً بالشذوذ أو بالجنون؛ فالفنان العظيم هو أولًا وقبل كل شيء إنسان ذو خيال قوي يحطم قيود الزمان والمكان، فلا هو يرتبط بعصره، ولا هو يتقيد بتقاليد بلده وقومه، فإذا تخيَّل الفنان طريقة للعيش ولم يعِش وفق خياله كان فنانًا ناقص التكوين أو ضعيف العقيدة.
وأما زميلتي الفنانة فقد دافعت بقوة وبراعة وسَعة اطلاع عن الفكرة القائلة إن الفنان العظيم لا بد له كسائر الناس من قيود، وضربت لذلك أمثلة كثيرة من الموسيقيين بصفة خاصة، ثم أمثلة أخرى من رجال الأدب؛ فمِلْتُن مثلًا رجلٌ متدين عميق الإيمان، ولم يمنع استسلامه للعقيدة الدينية من أن يكون شاعرًا عظيمًا، لا بل إنه كان شاعرًا عظيمًا بسبب عقيدته الدينية … ثم قالت: إنهم صغار الفنانين هم الذين يتظاهرون بالخروج على كثير من الأوضاع والقواعد ليكملوا بهذا الشذوذ نقصًا في شخصياتهم؛ وهنا أخذت تسوق أمثلة كثيرة من أدب «توماس مان» خصوصًا قصته «موت في البندقية»؛ لأنها قصة عن فنان أعزب أبى أن يتزوج، وأخيرًا طفحت به غريزته فمالت به إلى شذوذ حتى أحب غلامًا في باريس.
ثم تحدثنا عن الفن الأمريكي وهل له خصائص تميِّزه من الفن الأوروبي، فوافقتني على أن الفن الأمريكي يساير المدارس الأوروبية خطوة خطوة … لكن حديثي معها قد أظهرني على سعة اطلاع عجيبة؛ لأنها تعرف الشيء بتفصيلاته، ولا يكفيها المعلومات العامة كما هي الحال مع معظم مثقفينا في مصر؛ فلو قالت مثلًا: إن الفن الفرنسي يتميز بكذا وكذا، راحت تسوق الأمثلة الجزئية من لوحات معينة وهكذا.
إنني أستطيع أن أقول إن نيويورك — بل إن الولايات المتحدة كلها — قد ركزت روائع حياتها في ثلاثة شوارع، هي شوارع «برودواي» للسينمات والمسارح، و«الطريق الخامس» لكبريات المحلات التجارية، و«بارك آفينو» (أو «طريق البستان» إن شئت ترجمةً عربية لهذا الاسم) لفنادق ومساكن الطبقة العليا … ولكل شارع من هذه الثلاثة خصائصه، وأعتقد أن مَن يدرس بدقة هذه الشوارع الثلاثة فقد درس جانبًا مهمًّا من الحياة الأمريكية والذوق الأمريكي حين يبلغ أقصى مداه … وليس لمثلي أن يقول شيئًا عن «طريق البستان»؛ لأنه لن يُتاح لي أن أدخل منزلًا فيه أو فندقًا من فنادقه، وليس الشارع هو ظاهر مبانيه، بل هو ما تحتويه تلك المباني … لكني أقول عن شارع «برودواي» إنه لا يزيد على شوارع المسارح في المدن الأخرى إلا في الدرجة لا في النوع؛ فلافتات السينما كبيرة تعشي البصر بأضوائها الوهاجة، وحتى المتاجر والمطاعم في برودواي تساير هذا البريق المتوهج، والناس في هذا الشارع في زحام لا ينقطع، وأعقاب التذاكر تملأ الأرصفة … وأما «الطريق الخامس» فهو مختلف عن أمثاله في النوع، فلا تستطيع مثلًا أن تكبر بالخيال شارعًا في مصر ثم تقول إن هذا هو «الطريق الخامس» بنيويورك؛ فليس هو بالمختلف عن ضريبه في القاهرة في أنه أوسع وأن عماراته أعلى ومحلاته التجارية أكبر … لا، بل هنالك فرق في النوع أيضًا، هنالك فرق في الروح، في الذوق البديع البادي في معروضات النوافذ التجارية، وفي جودة الأصناف المعروضة وغلاء أسعارها … حتى الناس الذين تراهم سائرين في هذا الشارع ساعة الضحى هم — كما يُخيَّل إليَّ — من صنف مختلف؛ إذ ترى كثيرات من سيدات بمعاطف الفراء يفُحْنَ بالعطور … هن مختلفات عمن ترى في برودواي؛ لأنك ترى في برودواي أخلاطًا من الناس.
الانتقال من شارع إلى شارع في نيويورك هو انتقال في المكان لا في الزمن … ليس في نيويورك غزارة زمنية، ليس فيها رواسب الأيام والقرون، الانتقال بين الشوارع الثلاثة التي ذكرتها: طريق «البستان» و«الطريق الخامس» و«برودواي» — التي تمثل كما قلت جانبًا هامًّا من نواحي الحياة الأمريكية — هو انتقال يدل في امتدادات الزمن على يوم واحد؛ فللطريق الخامس ساعات الضحى، ولبرودواي الساعات الأولى من المساء، ولطريق البستان الحفلات الساهرة التي تقضي ما بقي من الليل وراء ستر من الجدران.
الثلاثاء ٢٩ ديسمبر
ذهبتُ عصر اليوم إلى متحف «وتني» للفنون، وهو متحف للفنانين المحدثين من الأمريكيين، وكنت في هذه الزيارة على موعد مع زميلتي الفنانة «إ» وصديق لها اسمه «ﻫ» هو وزوجته، وكلهم من المشتغلين بالفن إنتاجًا وتدريسًا، أخذ كلٌّ منا يتفرج وحده، لكني سرعان ما التقيتُ بزميلتي الفنانة عند صورة عجبتُ والله كيف يمكن أن يكون فيها أي شيء من الفن لتُعرض في معرض كهذا! فهي لا تزيد أبدًا عن «شخبطة» يخطها طفل على ورق كما اتفق! وحتى المزيج اللوني لا جمال فيه؛ فالأرضية سوداء وخليط الخطوط عليها بيضاء؛ فقلت لزميلتي «إ»: ما رأيك في هذه الصورة؟ فقالت: هي من أبدع معروضات المتحف! قلت لها: أتوسل إليكِ أن تبصِّريني بمواضع الجمال فيها؛ فلا لون ولا حسن تقسيم ولا شكل، فما جمالها؟! فقالت في استخفاف: آه! جمال! أنت إذَن تبحث في الصورة الفنية عن جمال؟! إذَن فبينك وبين أن تفهم الفن الحديث مراحل ومراحل؛ فأقل ما ينبغي أن تعرفه هو ألا شأن للفن بالجمال! كون الفن يعرض جمالًا هذه فكرة ذهبت وذهب زمانها، إلا إذا أردت أن تنبذ الفن الحديث وتتنكَّر له كله من تصوير ونحت وموسيقى! قلت لها: هذا شيء عجيب! ماذا إذَن تريدين من الفن أن يعرضه إذا لم يعرض جمالًا؟ فقالت: أريد شيئًا واحدًا، هو حرية التعبير، لا أكثر ولا أقل؛ فهذه الصورة التي تسألني عنها فيها حرية التعبير، انظر إلى البساطة التامة في الخطوط والدوائر … قلت لها: لكن الطفل حين يخطِّط على الورق كما اتفق يفعل ذلك ببساطة وحرية! فقالت: عندئذٍ يكون عمل الطفل فنًّا وإن لم يكن ذا جمال!
هنا انقلب تصوري للأمر رأسًا على عقب؛ فقد كنت حتى الآن مستريحًا إلى مبدأ أتفرج به على الصور وأقدرها على أساسه، وهو أن أرى جمالًا في البناء اللوني للصورة، وفي البناء التخطيطي، وها هي ذي زميلتي الفنانة «إ» تقول: لا، ليس هذا بالأساس الصالح … أنا لا أقول إن «إ» قد أصابت حتمًا كل الصواب فيما قالت، لكنها على الأقل قد أفسحت عندي مجالًا جديدًا للشك والتفكير؛ فأقبح المخلوقات قد يكون موضوعًا لصورة فنية أو لتمثال، دون أن يُقال إنه ليس فنًّا بسبب قبحه؛ وإذَن فالجمال والفن قد لا يلتقيان أبدًا.
خرجنا من المتحف، وصحبنا الفنان الشاب «ﻫ» إلى المبنى الجديد من جامعة نيويورك، وكنا عندئذٍ على مقربة منه؛ فنحن الآن في حي الجامعة الذي هو شديد الشبه بالحي اللاتيني في باريس … أطلعنا «ﻫ» في المبنى الجديد للجامعة على رسم حائطي رسمه على أعلى حائط المدخل ويمتد ما امتد الحائط، فعندئذٍ عرفت أنه — على حداثة سنه البادية — فنان معترَف به ما دامت الجامعة قد وكلت إليه أن يزخرف بناءها الجديد بزخرف تشيع فيه روح الفن الحديث.
أخذت «إ» تبدي لصديقها الفنان بعض ملاحظاتها، وكان يتقبل قولها بصدر واسع رحب، وقد ورد في حديثهما تعليق عني؛ إذ قالت لصديقها: لا يزال الدكتور محمود ممن ينظرون إلى الصورة ويسألون: أين الجمال؟ فضحك الفنان الشاب ضحكة العطف على هذا الذي لم يدخل بعدُ دنيا الفن الحديث! فقلت له كأنما أعتذر عن فضيحة كبرى: اعتبرني في مرحلة التطهير التي وردت في جحيم دانتي؛ تلك المرحلة التي يجتازها المنتقل من الجحيم إلى الجنة.
الأربعاء ٣٠ ديسمبر
دخلتُ كنيسة القديس باتْرِك في «الطريق الخامس»؛ إن الروعة لتصادف الداخل حتى لتنحبس منه الأنفاس ويهتز القلب … النوافذ الملونة غاية في الجمال، والعُمُد القوطية والأضرحة المرمية البديعة! على كل عمود في الممشى الرئيسي عُلِّق إكليل من الصنوبر مزخرفًا بشريط حريري أحمر ليرمز إلى شجرة عيد الميلاد، وفي المربع المسوَّر وسط الكنيسة طاقات وطاقات من الزهر الأحمر الجميل، وهنالك في محراب الكنيسة مسرح أُقيم من طين على هيئة البيت المتواضع حيث وُلِدَ المسيح؛ فيه شخوص تمثِّل ساعة مولده، وعلى طول المماشي صفوف من الشمع الموقَد، كل شمعة في كوب من الصيني … مئات الناس يدخلون ويخرجون؛ فنيويورك في أزحم أيامها في العام كله بسبب عيد الميلاد …
جلست هناك على مقعد أنظر: هذه امرأة وطفلاها، ركعتْ هي وركع معها طفلاها في خشوع أمام أحد الأضرحة المرمية؛ إنني لا أعرف ماذا يدور في رأس المرأة، لكنني أتصوَّر في وضوح نوع الشعور الملغز الغامض الذي يدور في نفس هذين الطفلين، والذي هو أقرب إلى الخوف منه إلى التقديس … كيف يمكن بعد هذا لمثل هذين الطفلين أن يقبلا أو يتسامحا في أية عقيدة أخرى؟ إذا كان قد بدءا يركعان منذ الآن أمام ضريح من الحجر!
وهذه فتاة راكعة وهي في كامل زخرفها وزينتها من تظليل للجفون إلى تلوين للأظافر، وإنه ليبدو على وجهها أنها جاءت تستغفر زَلَّة أو زلات؛ وهذه امرأة عجوز وقفت في خشوع تضيء الشموع التي انطفأت، وهي بذلك تعبد الله … هذا رجل غاية في الوقار وحسن الهندام، ركع أمام مقعده وأخرج من جيبه إنجيلًا صغيرًا وراح يقرأ لنفسه … على كل حال، يستحيل لآدمي أن يجلس ها هنا، في هذا الجو الفني من عمارة ونوافذ وتماثيل وأضرحة وأنغام للأرغن خافتة تتردد أصداؤها، دون أن يخشع لمن هو أكبر منه، دون أن يشعر بأنه صغير؛ صغير على الأقل بالنسبة لهذه العُمُد الرفيعة وهذه القباب العالية … إنه إذا كانت العقيدة الدينية أكذوبة ضرورية، فيحسُن أن تُساق الأكذوبة في فن جميل.
خرجتُ من الكنيسة وقصدتُ إلى «طريق البستان» ومشيتُ فيه الهوينا، أنظر إلى الحديقة التي امتدت في وسطه — وهو فيما أظن الشارع الوحيد في نيويورك الذي تمتد في وسطه حديقة — وأنظر إلى أشجار عيد الميلاد العالية المزخرفة التي غُرست في وسطه صفًّا يمتد بامتداده … وصلت في سيري إلى فندق «والدورف آستوريا» المشهور، فدخلت وجلست في بهوه لأستريح أولًا، ولأرى الناس يدخلون ويخرجون … سجادٌ وزينة وفخامة وضخامة! قلت في نفسي: أفي هذه الأبهة كلها كان مندوبو مصر دائمًا ينزلون على حساب الفلاح الذي يأكل الخبز الخشن مغموسًا في المش، وهو سعيد لو وجد منهما ما يكفيه؟ إي والله، كانوا ينزلون هنا يخبُّون خبًّا في هذا العز الذي كان ينبغي أن يُترك لأبناء أمَّةٍ فلاحها يأكل ويكتسي ويسكن إلى بيت!
حضرتُ الليلة رواية تمثيلية غنائية في مسرح «زيجفلد» اسمها «قسمت» قائمة على الجو الساحر في ألف ليلة وليلة، وهي رواية من فصلين: كل فصل منها ذو سبعة مناظر؛ أما الفصل الأول فمناظره تتدرج من ساعة الفجر إلى سوق في الضحى إلى مناظر في حديقة قصر الوزير؛ وأما الفصل الثاني فتتدرج مناظره من الغروب إلى الفجر، أغلبه «حريم» ورقص وما يُظن أنه حياة الوزراء والخلفاء في الإسلام … المناظر كلها من الفتنة بحيث تنقلك إلى جو من الأحلام؛ إنني إذ أقول ذلك أخشى أن تُحمل ألفاظي على المبالغة اللفظية التي لا تعني شيئًا من واقع، ولا أدري ماذا أقول لأصف هذا الفن الذي أخرج المناظر واحدًا في إثر آخر إخراجًا يسلبك عقلك ووعيك ويتركك سابحًا في حلم …
لكن هل كان يمكن لهذا الجمال كله وهذه الفتنة كلها أن تغرقني في حُلم لا أصحو منه حينًا بعد حين محزون الفؤاد، مغموم النفس، ضيق الصدر؟! فكم مرة ذُكِرَ القرآن في سخرية، وكم مرة ذُكِرَ الإسلام في ازدراء، وكم مرة ذُكِرَ محمد في استخفاف وتحقير؟ … كيف جعلوا الوزير المسلم لا يتصرف إلا أن يكون في تصرفه كالأبله المجنون؟ وكيف جعلوا الخليفة لا يتكلم إلا كما يتكلم المجاذيب بغير عقل؟ … كنت في وسط هذا الجمال كله من مناظر وغناء وموسيقى، ووسط هذا السحر كله من أضواء وظلال تتعاقب وتتغير في لطف وحسن ذوق ورفعة فن إلى درجة لم أكن أتصورها في الإخراج المسرحي؛ كنت وسط هذا كله يعاودني الألم المُمِض مما أرى وما أسمع، فأتصور نفسي وقد وقفت وسط المسرح صائحًا: حرام عليكم أن تنظروا إلى الإسلام وإلى القرآن وإلى محمد هذا النظر بغير دراسة ولا قراءة؛ أَمِنْ أجل الإخراج الفني البديع تفتكون بأنفس ملايين من البشر؟! … وتذكرتُ عندئذٍ ما رأيته في واشنطن: مسجد لم يكمل بناؤه لامتناع الدول العربية أن تمدَّه بالعون، وله طابق تحت سطح الأرض، وفي هذا الطابق مركز للثقافة الإسلامية، فيه رجل واحد أو رجلان للدعوة للإسلام في أمريكا!
كم ألف ألف خطبة، وكم ألف ألف مقالة، وكم ألف ألف رجل نحتاجه ليزيل من أذهان الأمريكيين أثر هذه الرواية الواحدة؟! لقد خرج الناس من المسرح مأسورين مبهورين مفتونين، وتلكَّأْتُ في السير بين جموعهم لأسمع تعليقاتهم، فلم أسمع إلا إعجابًا وعجبًا من هذا الفن كيف بلغ كل هذا المدى … وبالطبع في قلب هذا الفن كله لباب سيظل عالقًا بأذهانهم لن يزول عنها إلا مع آخر أنفاسهم، وهو أن الإسلام هو هذا الذي استخلصوه مما رأوه وما سمعوه: هو حماقة عقل، وشهوة للمرأة لا تنقضي ولا تنقطع … فذلك هو شغل الوزير الشاغل وشغل الخليفة الشاغل، بل ذلك هو القرآن وهو محمد … والمسلمون يصلون في حركات هستيرية تثير الضحك، والعبادة كلها يُشار إليها بما يبعث على الاستخفاف.
وما زلتُ أفكِّر في الأمر مهمومًا، حتى جعلت من نفسي رجلين: رجل يعزِّي رجلًا، فقال الأول للثاني: إذا كانت هذه الحياة التي يسخرون منها لا تعجبهم، فلماذا يتخذون منها مَعِينًا لا ينفد ولفنهم؟ فهم ما ينفكون يستمدون من حياة ألف ليلة وليلة النفائس تلو النفائس للسينما وللمسرح؛ إنها حياة لها سحرها رغم أنوفهم، ولولا ما فيها من سحرها لما أحبوها وعرضوها على هذا النحو البديع … ماذا يغضبك؟ ليت حقيقة حياتنا كانت كل هذا الحرير وكل هذه البدور والحور وكل هذا الشعر والخيال.
الخميس ٣١ ديسمبر
ذهبتُ في الصباح إلى ما يُسمى «بالمناسك» في الطرف الشمالي من نيويورك، وهو بناء فيه مجموعة أجزاء من أديرة قديمة من أديرة العصور الوسطى، نُقِلَت أحجارها من أماكنها الأصلية في أوروبا، وأُعيد بناؤها هنا على ما كانت عليه في إبانها، وأغلب هذه المناسك يرجع إلى الفترة الواقعة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر؛ أي قبل أن يسمع العالم بشيء اسمه أمريكا.
لأول مرة في نيويورك — بل لأول مرة في الولايات المتحدة — أجد نفسي في مكان ينقلني قرونًا إلى الوراء؛ فالنقلة الزمنية هنا بعيدة المدى، تقفزها قفزًا بمجرد دخولك هذه المناسك التي قام بناؤها على نحوٍ شبيه بالحصن، فوق قمة صخرية مرتفعة تطل على نهر هَدْسُن؛ تدخل فترى نفسك في غرف ذوات جدران حجرية سميكة، ترن فيها أصداء الصوت؛ وتنتقل من غرفة إلى غرفة إلى معبد إلى محراب إلى حديقة مربعة صغيرة مكشوفة يحيط بها ممر ذو عُمُد فوقها أقواس قوطية … نُسِّقَت الغرف والأبهاء بآثار قليلة لكنها تفوح بجلال التاريخ والزمن؛ فهي بأسرها من بقايا العهود الدينية في العصور الوسطى، هذا مذبح كان في كنيسة كذا بإيطاليا، وذلك تمثال لمريم العذراء مع وليدها المسيح كان في كنيسة كذا بفرنسا، وهذه الشخوص تمثِّل تدشين الملك الفلاني على يدي البابا، وهكذا … المكان كله متحف من نوع فريد في بابه، لحسن اختيار موقعه، ولأنه دليل على القدرة والإرادة والذوق، وأي إرادة هذه التي تنقل أبنية بأسرها من قارة إلى قارة؟ الأمريكيون يحسون نقصهم في عراقة الزمن؛ لأنهم بلد جديد ناشئ، فراحوا «يشترون» بأموالهم قِدم الزمن وجلال التاريخ وروعة الفن … إنني لا أبالغ إذا قلتُ إن هذه المناسك هي أفضل ما يزوره الزائر في نيويورك، من حيث غزارة الشعور الذي يكتسبه هذا الزائر وهو واقف هنا أو جالس هناك أو سائر بين أجزائه.
خرجتُ من المناسك مصممًا على أن أقطع نيويورك — أعني مانهاتن — من شمالها إلى جنوبها؛ إذ قررت أن أزور تمثال الحرية وهو في أقصى الجنوب، فركبت قطار ما تحت الأرض ابتغاء السرعة، فلما خرجت على وجه الأرض عند البحر حيث ميناء نيويورك وجدت الجو عاصفًا شديد الريح والبرد، يتساقط الثلج خفيفًا بحيث لا يتراكم على الأرض؛ لأنه يذوب فور وصوله.
ركبت «المعدِّية» البخارية إلى جزيرة «بِدْلو» التي ينهض عليها التمثال، وهي جزيرة صغيرة ليس عليها إلا التمثال ولواحقه … إنه تمثال بلغ من الضخامة حدًّا يستحيل تصوره إلا إذا رأته العين ومارست القدمان صعوده؛ فيكفي أن أقول إنك تصعد بمصعد عدة طوابق هي القاعدة، ثم تصعد بعد ذلك سُلَّمًا حلزونيًّا داخل التمثال نفسه، عدد درجاته ١٨٦ درجة … فلما بلغنا القمة التي هي تجويف رأس التمثال من داخله، عَددتُ الواقفين في ذلك التجويف وحده فوجدتهم سبعة وعشرين! وفي تجويف الرأس نوافذ من زجاج لتطلَّ منها على ناطحات مانهاتن؛ لا ينبغي أن نطيل الوقوف هناك؛ لأن سيل الصاعدين يتزايد، ولا بد أن نخلي المكان فنبدأ بالنزول ليقف مَنْ جاءوا بعدنا؛ الصعود والنزول على هذا السُّلم الحلزوني فيه كثير من العُسر؛ ولذلك تراهم قد أعدوا ثلاثة مخارج في وسط الطريق لمن لا يستطيعون المضي في الصعود، وكان كثيرون يأخذهم التعب فيهربون من هذه المنافذ، لكني مضيت إلى القمة مع مَن استطاعوا … وأعجب ما عجبت له أني رأيت هناك أمًّا تحمل رضيعًا على ذراعيها، فلا أدري كيف استطاعت الصعود به، وكيف ستستطيع النزول؛ لأنني وجدت من الضروري أن أستخدم كلتا يدي لأطمئن إلى ثبات قدميَّ على درجات السُّلم الضيقة الزلقة … في تجويف الرأس وعند إحدى نوافذ الزجاج وقف حبيبان ولهانان، كل حركة وكل لفظة وكل نظرة وكل لفتة منهما كانت صارخة بالحب الشديد؛ وقف العاشق الولهان محوِّطًا حبيبته بذراعيه، ومال برأسه إلى أسفل كي يجعله في مستوى رأسها، كأنه يريد أن ينظر بعينيها لا بعينيه، يعز عليه ألا يرى ما تراه هي بالضبط والدقة، وأظنه ود لو استطاع أن يدخل معها في إهاب واحد، وبعد أن نظروا إلى البحر وإلى نيويورك وما يجاورهما ملء عيونهما، قبَّلها وبدءا ينزلان السُّلم؛ إنه لم يُرِد أن تفلت منه هذه الوقفة النادرة دون أن يخلِّدها في حياته الشعورية بقبلة.
تمثال الحرية — كما هو معروف — هدية أهداها الشعب الفرنسي إلى الشعب الأمريكي، وقد أُقيم في مكانه عام ١٨٨٦م، وقوامه امرأة تمثِّل الحرية عند مدخل القارة الجديدة، حطمتْ عن يدها قيدًا تراه مُلقًى عند قدميها، ورفعت بيمناها شعلة الحرية، وخطت بإحدى قدميها خطوة إلى أمام، وحملت في يسراها قرصًا كبيرًا كُتِبَ عليه «٤ يوليو ١٧٧٦م» (وهو اليوم الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة استقلالها).
وفي المساء ذهبت إلى دار الأوبرا حيث شاهدت رواية «فلادرماوس» — ومعناها الوطواط — ولقد بلغت قاعة الدار حد الكمال من الروعة والفخامة؛ فقد كُسِيَت الأرض كلها بالقطيفة الحمراء الجميلة … وظهرت في الفصل الأوسط من فصول الأوبرا راقصة عجيبة هي «ماركوفا» التي قيل لي عنها إنها أبرع راقصات العالم … وإن براعة رقصها لم تكن تحتاج مني إلى شدة فهم في الفنون، فتستطيع كل عين أن ترى خفة هذه الراقصة العجيبة في رقصها، كأنها ريشة في مهب النسيم؛ إنها حقيقة جسم بغير ثقل ولا كثافة، إنها هواء طائر … سبحانك ربي! ما هذا؟ أليس هناك قانون للجاذبية يتحكم في جسم هذه الراقصة كما يتحكم في سائر الأجسام؟!
وخرجت من دار الأوبرا قبيل منتصف الليل، وعدت في طريقي إلى الفندق، مصممًا أن أتلكأ حتى ينتصف الليل وأنا في «برودواي» لأرى ماذا يحدث أول قدوم العام الجديد … ولم ألبث أن رأيت نفسي في كتلة بشرية مصمتة لا أتحرك فيها بإرادتي، إنما هي التي تدفعني هنا أو هناك … وبعد أن كافحت كفاحًا مرًّا لأخرج من الزحام الذي خُيِّل إليَّ أنه يمتد إلى ما لا نهاية، وصلتُ إلى حاشية الزحام … تسعة وتسعون من كل مائة في هذه الزحمة رجال، وكانوا كلما رأوا في الجموع الحاشدة امرأة تزاحموا عليها ليظفروا منها بقبلة العام الجديد، على أن أهم ظاهرة رأيتها، بل الظاهرة التي لا ظاهرة سواها، هي الزمَّارات؛ فكل رجل في فمه زمارة يزمر بها، حتى أنتج ذلك الأمر خليطًا صوتيًّا عاليًا مزعجًا، وكان بائعو الزمَّارات على أرصفة الشوارع يبيعون للناس في سيل لا ينقطع … لكي أعطي صورة رقمية دقيقة، أقول إني لم أرَ في هذه الألوان المتزاحمة مَن قَبَّل امرأة إلا ثلاثة؛ وانتصف الليل فلم تُطْفَأ الأنوار كما توقعت، ولم يحدث التقبيل على النطاق الواسع الذي يحدث في لندن عند كنيسة القديس بولس إذا ما دقت ساعة الكنيسة الثانية عشرة ليدخل الناس في سنة جديدة.
إن مَن يأتي إلى أمريكا ثم يعود حاملًا معه رأيًا غير أن الأمريكيين من أشد الناس تحفظًا في أخلاقهم وتزمتًا في العلاقة بين الرجل والمرأة، فهو كذاب يصر على أن يقول ما لم ترَ عيناه، جاء إلى أمريكا وملء رأسه إشاعة، وعاد دون أن يأذن لملاحظته الشخصية أن تصحح إشاعة خاطئة.