عودة إلى الجنوب
الأحد ٣ يناير
الشمس غاربة والجو رائع والسماء صافية؛ فأخذتني الآنسة «أ. ر» التي تُعِدُّ عُدَّتها للذهاب إلى مصر عامًا دراسيًّا؛ حيث طفنا بسيارتها حول كولمبيا لنرى الطبيعة وهي في أروع حالاتها: غابة نشقُّها بالسيارة لنبلغ بحيرة ساعة الغروب، والغروب في كولمبيا جميل دائمًا؛ فهو قرمزي اللون على نحوٍ نادر؛ ثم مررنا على بستان للزهور — هو الآن خالٍ من زهوره لبرد الشتاء — ونزلنا ودخلنا البستان وصاحت الآنسة منادية، فخرج من بيت صغير هناك رجل كهل لكنه متورِّد الوجه، وصحته جيدة ونشاطه موفور، وهو مالك البستان يشرف فيه على إنبات زهور الكاميليا، وضع على كل شجرة ورقة كتب عليها ما يدله على حقيقة تلك الشجرة وتاريخها وما إلى ذلك … الطريقة التي أَبْدَت بها الآنسة «أ. ر» اهتمامها بالزهور، والتي يبدي بها الناس اهتمامهم بها تثير العجب حقًّا؛ فاهتمامهم خاص لا عام؛ أي أن الأمر ليس عندهم أمر «زهور» بصفة عامة — وهذه هي أعلى درجة يبلغها مصري يدَّعي أنه محب للطبيعة — بل اهتمامهم بزهرة معينة في ظروف معينة بالكاميليا مثلًا أو بالأزاليا، كيف تكون في الشتاء، وكيف يحوِّل البرد أحمرها إلى لون قرمزي وهكذا وهكذا، حتى ليكادوا يعطون كل زهرة اسمًا بمفردها، على نحو ما نطلق على كل طفل اسمًا خاصًّا إمعانًا في التخصيص والتفرُّد؛ والحق أنه لا اهتمام بغير هذا التخصيص في العاطفة التي تربط بين الشخص وبين مَن يهتم به أو ما يهتم به، لا عجب أن ترى هنا في كولمبيا وحدها نحو مائة نادٍ للزهور، كل نادٍ يتخصص في شيء يحبه أعضاؤه … والذي يهتم بزهرة معينة كالكاميليا مثلًا، يغلب أن يكون على اتصال بمَن يهتمون مثل اهتمامه حتى لو كانوا على بُعْد أميال منه، وتراه يعرف الفروق الدقيقة بين هذه الزهرة في حديقته وبينها في حديقة فلان في البلد الفلاني … فلقد قلتُ لهذا الرجل الذي استقبلنا في بستانه وطاف بنا بين أشجاره: إنني رأيت زهورًا رائعة كبيرة الحجم من زهور الكاميليا في بستان رجل اسمه القاضي «ﻫ» في مدينة أوجستا، فوجدته يعرفه ويعرف بستانه، وراح يذكر أدق الفروق بين الكاميليا عنده وبينها عند القاضي «ﻫ».
الإثنين ٤ يناير
لبَّيتُ في المساء دعوة الدكتور «ب» الطبيب، وكنت واحدًا من كثيرين مدعوين، لكني كنت موضع اهتمام خاص لمصريتي … قالت لي زوجة الطبيب متفكهة إنني المصري الثاني الذي صادفته في حياتها، أما الأولى فكليوباتره! … سُئلت في هذا الجمع أسئلة عن مصر دالة على جهل السائلين بها جهلًا غير مألوف: فهل مصر تقع في المنطقة الأفريقية التي بها ذباب تسي تسي؟ …
جلست معي الآنسة «م» ابنة الطبيب، وهي في نحو الأربعين من عمرها، وتعمل في وظيفة حكومية في بولتيمور، كانت مثلًا قويًّا واضحًا لضرورة اتساق أجزاء الثياب والزينة مع الشخصية؛ فقد كانت تلبس قرطًا كبيرًا يملأ نصف صدغها، وبه أجزاء تتدلى منه لتشنشن مع حركة الوجه شنشنة توحي بأنوثة لابسته؛ لكن الآنسة «م» مسترجلة الوجه ناشفة النظرات، عريضة الصوت حادة اللفتات؛ وإذَن فقد كان هذا القرط في أذنها صارخًا يقول بأعلى صوت: ليس هذا مكاني. وكذلك كانت تلبس فستانًا للسهرة لم يُصْنَع إلا لسيدة فيها رخاوة الأنوثة ورقتها؛ فهو نشاز على رجل أو مَن تشبه الرجل، وكان خيرًا لهذه الآنسة المسترجلة أن تلبس ثوبًا بسيطًا وتتحلى بحلي صغير الأجزاء بسيط كذلك.
ثم جاءت بعدها آنسة أخرى تحدثني، هي الآنسة «ن»، راحت تحدثني عن شغفها بتربية الماشية وقد كانت منذ طفولتها تحب رعاية الماشية وهي — كما تقول — محبة للحيوان حبًّا غير مألوف في أوساط الناس؛ فهي تحب البقر والخيل والكلاب والقطط، وهي تجيد ركوب الخيل وفخورة بكلابها، وعندها قطتان، وقد رغبت بشدة في أن أزور معها مرعى أخيها.
كلتا الآنستين «م» و«ن» واسعة المعرفة بالعالم الخارجي؛ لأنهما سافرتا إلى الخارج عدة مرات؛ ذهبت الآنسة «ن» إلى معظم البلاد الأوروبية كما ذهبت إلى اليابان؛ وكذلك سافرت «م» ابنة الطبيب إلى أوروبا مرات كثيرة، كانت في كل مرة تقضي إجازتها مشيًا على قدميها ومتاعها على ظهرها.
نظرت إلى الغرفة التي كنا بها، فوجدتها لا تستلفت النظر بأي شيء غريب فيها، لكني سألت نفسي: هل يمكن أن تجد غرفة كهذه في بيت مصري؟ وكان الجواب: هذا محال؛ لأن ذوق التأثيث مختلف عندنا؛ فعندنا يكون تصنيف الأثاث بين غرف المنزل تصنيفًا حادَّ الفواصل فلا اختلاط في الأمر؛ غرفة الجلوس هي غرفة للجلوس في كل أثاثها، وكذلك غرفة الأكل وغرفة النوم وغرفة المكتب … لكن انظر إلى هذه الغرفة مثلًا، تجد رفوف المكتب على جدرانها، وتجد بها الراديو (الراديو عندنا حسب قواعد تصنيف الأثاث لا يكون في غرفة استقبال الضيوف)، وتجد الكراسي مختلفة أشد اختلاف وكذلك المناضد؛ أما عندنا فالأثاث يُشْتَرَى طاقمًا طاقمًا … فما معنى ذلك؟ معناه الواضح هو أن هؤلاء الناس يجعلون الأثاث ينمو مع الزمن قطعة قطعة؛ إذ ليس من المعقول أن يشتري صاحب البيت هذه الكراسي المختلفة وهذه المناضد المتباينة كلها في يوم واحد! أما نحن «فنجهز» المنزل عند الزواج تجهيزًا كاملًا، ثم يتدهور الأثاث مع الزمن.
ومعناه كذلك أن الناس هنا يحتكمون إلى أذواقهم فيما يشترون، ويراعون المكان وما يناسبه؛ وأما نحن «فالجهاز» في وادٍ والمكان الذي يُوضع فيه في وادٍ آخَر؛ وقد يحدث أن يُشْتَرَى «الجهاز» قبل أن يُعْرَفَ أين يُوضع … ولم أذكر شيئًا عن التُّحَف الفنية من صور وقطع صغيرة تملأ أرجاء الغرفة؛ الفن والذوق جزء لا يتجزأ من أثاث البيت، وليس هو — كما هي الحال عندنا — شيئًا ثانويًّا يُفكَّر فيه بعد أن يكتمل في الجهاز كذا طاقمًا من أدوات الشاي وكذا مفرشًا للسرير وكذا حشية ووسادة! لماذا لا ننقص المفارش مفرشين لنشتري تحفة؟ لا على أن التحفة «مظهر» بل على أنها بنفس الضرورة التي نشتري بها الكراسي والأطباق؛ لأن المكان الذي نُعِدُّه بيتٌ لا دكان … هل رأيت في الدنيا — ما عدا مصر — شيئًا اسمه غرفة الضيوف؟ تُقْفَل ولا تُفْتَح إلى حين يأتي الزائرون؟ لماذا ندفع أجرًا شهريًّا لغرفة لا نجلس فيها كل يوم؟
إذا قلنا إن التفكير الإنساني إزاء العالَم نوعان: نوع يفترض أن العالم قد بدأ كاملًا ولا جديد فيه إلا أن تتحرك أجزاؤه من مكان إلى مكان؛ ونوع آخَر تطوريٌّ يفترض أن العالَم ينمو ويزداد ويكبر ويحمل في ثناياه آثار الزمن والخبرة والذكريات؛ فإن الغرفة المصرية دالة على عقلية من النوع الأول، والغرفة التي كنا بها مساء اليوم دالة على عقلية من النوع الثاني؛ غرفتنا كعقلنا راكد جامد كقطعة الحديد البارد، وغرفتهم كعقلهم متغير متطور حي؛ غرفتنا صنعتها أدوات النجار فإن دلت على صناعة فهي لا تدل على فن، وأما غرفتهم فقد صنعتها أمزجة تختار وأذواق تنتقي، فلا عجب أن يروي المضيف إلى ضيفه عن أثاثه قطعة قطعة، أين ظفر بها، وما العلاقة في اللون أو في الذوق أو في الشكل بينها وبين القطع الأخرى؛ وأما نحن فلا نستطيع أن نقول عن أثاث بيتنا تاريخًا، كل ما نستطيعه هو أن نقول إننا اشتريناه من الدكان الفلاني؛ تأثيث المنازل عندنا أشبه بتأثيث العيادات أو الفنادق أو مكاتب الحكومة، المهم فيه أن يكون هناك كذا مقعدًا وكذا منضدة وكذا سريرًا وكذا من مفارش وفوط، ونباهي عند «تجهيز» العروس أننا لم ننْسَ من لوازم البيت شيئًا … وكم يحدث عندنا أن يُشترى الأثاث دون أن يراه مَن سيستعملونه؛ إذ قد يسافر والد العروس مثلًا إلى دمياط ليشتري «الأخشاب» … إي والله، جهازنا «أخشاب» يُرَصُّ بعضها إلى بعض، وتدخل العروس ويأتي الزائرون المبارِكون، فيُفرِّجونهم على «المعرض»، يُفرِّجونهم على الدكان الجديد الذي افتتحوه …
ولكن لماذا نعجب والأمر كله مرتبط بعضه ببعض؛ فالزواج نفسه عندنا لا حبَّ فيه؛ إن الزوج لم يختر كما لم تختر الزوجة، المهم في الزواج أن يكون في البيت رجل وامرأة، فإذا كان الرجل ذا دخل معين أو وظيفة معينة، انتهى الإشكال كله، كذلك ينتهي الإشكال بالنسبة إلى الزوجة إذا كانت ابنة فلان وشكلها كيت وكيت … يقولون: ممن تزوجتْ فلانة؟ والجواب: من دكتور! يعني أن أي دكتور فيه الكفاية؛ وكذلك يقولون: ممن تزوج فلان؟ والجواب: من بنت فلان! يعني أن المهم هو أبوها وظروفه؛ فهل ينتج عن ذلك إلا منزل يُؤثث على أساس الاستغلال وبغير ذوق ولا حياة؟ أقول الاستغلال؛ لأن العريس يريد لنفسه أكبر كمية ممكنة من السلع، فذلك نفسه هو أساس اختياره لزوجته ذاتها … ليس الزواج عندنا ازدواجًا بين قلب وقلب أو اتحادًا بين عقل وعقل، بل مزاوجة بين مجموعتين من الظروف.
وأعود إلى غرفة جلوسنا وغرفة جلوسهم، فأقول إن الفرْق بينهما هو الفرق الكبير العميق الواسع العريض بين عقل وذوق يبتكران وعقل وذوق يقلِّدان؛ كل غرفة هنا تحمل طابع أصحابها، فلا تستطيع أن تتنبأ بطريقة تأثيث البيت قبل أن تراه، وأما عندنا فيمكنك أن تحكم على البيت غرفة غرفة كيف أُثِّثَ؛ لأننا لا نختار بأذواق شخصية، ونترك معظم الاختيار للنجار الذي صنع «الطاقم»، والنجار بدوره ناقل ينسخ ما هو مرسوم في النموذج.
الخميس ٧ يناير
كنت في دار الإذاعة اليوم، سألتني المذيعة في حوارها معي حوارًا مُذاعًا: أين قضيت إجازة عيد الميلاد؟ فلما قلت لها إني قضيتها في واشنطن ونيويورك، طلبت مني أن أحدِّثها — وأُحدِّث المستمعين معها — عما استرعى نظري من خصائص في هذين البلدين الكبيرين.
فقلت: إني أستطيع أن ألخِّص الخصائص الأمريكية كما شاهدتها في كلمة واحدة هي «الانطلاق»، الانطلاق الذي لا يعرف الحدود بل الذي يتحدى كل الحدود، الانطلاق في كل شيء؛ فإذا كانت الشوارع في بلاد العالم قد حددها العُرف باتساعٍ معين، فالشوارع هنا تضرب هذا الاتساع في ثلاثة أمثال أو أربعة؛ وإذا كانت المباني في بلاد العالم قد حددها العُرف بارتفاع معين، فالمباني هنا تضرب هذا الارتفاع في عشرة أمثال أو عشرين … وهذا الانطلاق النفسي من قيود العُرف المألوف قد وجد سبيله كذلك في بريق الألوان؛ فالألوان أينما سرتُ كانت تستوقف النظر، بل كانت تخطف البصر: بريق الأقراط في آذان السيدات، وبريق أربطة الأعناق على صدور الرجال، والجوارب في سيقانهم بألوانها الزاعقة، وبريق الزينات التي عُلِّقَت في كل مكان بمناسبة عيد الميلاد، وكادت كل سيدة أن تضع على صدرها طاقة من ورد صناعي مزخرف فيه كراتٌ ملونة بألوان صارخة، ثم متاحف الفن، إذا ما دخلت غرفة بها لوحات من الفن الأمريكي كان الأرجح أن أرى ألوانًا غاية في السطوع واللمعان … إذا شئتم فسمُّوا هذا الانطلاق حرية في التعبير عن النفس، حرية لا تكتم نفسها بالضوابط المصطنعة من غير داعٍ؛ يضحك الأمريكي من كل قلبه، فليس هو كالإنجليزي يضحك من رأسه ضحكًا مكبوتًا؛ ويعبِّر الأمريكي عن نفسه تعبيرًا واضحًا في لغة واضحة من غير لف أو دوران.
سألتني المذيعة فيما سألت: لا بد للإنسان في حياته من نسق في الحياة يجري على مبادئه وسننه، هكذا يقولون، فما معنى ذلك؟
قلت لها: هذا الكلام مشكوك في صحته؛ فلا ينبغي أن يكون لأي إنسان نظام معين إلا إذا أراد أن يجعل من نفسه آلة صماء؛ وهنا تجب التفرقة بين حياة الإنسان العلمية وحياته العادية التي تبلغ مداها في الحياة الفنية … نعم، إنه في الحياة العلمية يجب أن يكون منطقيًّا صارم المنطق، وبذلك يبني نظامًا مسلسل الخطوات؛ أما الحياة العادية فلا بد أن تكون حرة؛ لأن الحياة لدنيَّة تلقائية، ومعنى ذلك أنها حرة فيما تأتي به اللحظة القادمة؛ الحياة لا تعرف النظام الصارم؛ فشجرة الورد لا تحدِّد نفسها إلا في حدود عريضة، وهي أن تنتج وردًا، أما كم وردة تنتج وكم فرعًا وكم يكون ارتفاعها، فذلك كله فيه كثير من المفاجأة؛ الحياة في حريتها هذه كالنهر المتدفق، إذا قِسْنَا ماءه وسرعته فذلك على سبيل التقريب، وهناك دائمًا مجال للاختلاف نحو الأكثر أو الأقل … الإنسان رغبات، وكل ما يُطْلَب من نظام وتنظيم الرغبات ألا تهدم صاحبها، وبعد ذلك لا بد أن يُتْرَكَ للإنسان حرية التعبير عن هذه الرغبات تعبيرًا يقوى حينًا ويضعف حينًا، ويشذ حينًا ويستوي حينًا؛ إن في هذا الفرقَ بين الدول الدكتاتورية والدول الديمقراطية؛ فالدول الدكتاتورية تريد أن تجمِّد الحياة في «نظام»؛ وأما الديمقراطية فتترك المجال واسعًا للاختلاف والتغير، لو كانت الحياة خاضعة لنسق منظم لكانت كلعبة الأطفال التي تُرصُّ فيها مكعبات الخشب ليكوَّن منها منزل، فإذا ما رُصَّت المكعبات مرة واحدة تم كل شيء إلى الأبد، ولم يَعُد مجال لتجديد أو خَلْق وابتكار.
السبت ٩ يناير
من أخبار الفن هذا الأسبوع خبرٌ فيه دلائل كثيرة على الخلق الأمريكي، ومؤداه أن أمريكيًّا ثريًّا اشترى ديرًا قديمًا في إسبانيا، بناه الملك ألفونسو السابع عام ١١٤١م في قرية ساكرامنيا، وفُكَّ بناء الدير حجرًا حجرًا (به خمسة وثلاثون ألفًا من الأحجار)، وشُحِنَت الأحجار إلى الولايات المتحدة حيث أُقيمَ من جديد عند مدينة ميامي على شاطئ فلوردا، تلك المدينة المشهورة التي يؤمُّها ألوف إبان فصل الشتاء، وسيتم افتتاح الدير هذا الأسبوع، وسيكون دخوله بأجرٍ قيمتُه دولاران للشخص الواحد.
أقول إن هذا النبأ دليلٌ على أشياء كثيرة من الخلق الأمريكي: ففيه جرأة التفكير وغرابته، وفيه انتباه إلى الآثار الفنية مع عينٍ تنظر إلى الجانب المادي من الموضوع، وفيه رغبتهم الشديدة في جعل أمريكا تحمل من الآثار الدالة على تقادم الزمن ومر التاريخ؛ لتكون أمريكا ذات آثار تاريخية كسائر البلاد! … إنني وأنا على سطح عمارة «إمباير ستيت» في نيويورك — وهي أعلى عمارة في العالم بها ١٠٢ طابق — ورَدَ على خاطري الفرق بين الأمريكيين والأوروبيين في الأعمال الهندسية؛ فحين أرادت فرنسا — مثلًا — أن تقيم دليلًا على المهارة الهندسية، أقامت برج إيفل الذي يدل على القدرة لكنه لا يفيد، وأما الأمريكيون حين أرادوا إظهار القدرة الهندسية فقد أقاموا هذه العمارة الجبارة لتفيد وتدر المال.
الأحد ١٠ يناير
الليلة موعد الكلمة التي سألقيها في جماعة «التوحيديين» عن مبادئ الإسلام؛ و«التوحيديون» جماعة مسيحية تنكر بنوة المسيح لله، وهم قليلون نسبيًّا في أمريكا بالقياس إلى أتباع المذاهب المسيحية الأخرى، لكنهم مرتقون في ثقافتهم بصفة عامة.
إنني فخور بنفسي فخرًا أحسه الآن في دورة الدم وفي التنفس! إنني مليء بالزهو؛ لأنني في محاضرة اليوم عن مبادئ الإسلام قد بلغت — فيما أعتقد — أكمل ما يتمناه متكلم لنفسه في بسط وجهة نظره، وقد بدأت كلمتي بشيء من التحدي، قائلًا إنني يا سادة رُبِّيت في ظل الإسلام ونشأت في أحضانه وعلى مبادئه؛ لذلك فربما أكون قد عميتُ عن نقائصه، وسأشرح لكم الليلة مبادئه، وإني لأعترف لكم بالفضل ما حييتُ لو تفضلتم بعد كلمتي ففتحتم عيني على النقائص التي ربما عميتُ عنها، فإن لم تجدوا كان لزامًا عليكم — لا أقول أن تدينوا بدين غير دينكم — بل أن تكفوا عن الاستخفاف بديانةٍ يصعب عليكم أن توجِّهوا إليها النقد والتجريح.
وبعد ذلك فصَّلت الحديث في المبدأ الأول للإسلام، وهو التوحيد الذي جاء الإسلام به محققًا لاستمرار الديانتين السابقتين الكبريين، وهما اليهودية والمسيحية، لكنه صحَّح أخطاءهما؛ أعني أخطاء الناس في تأويلهما؛ أما اليهودية فالإسلام مثلها يريد أن يكون الله واحدًا وحدانية مطلقة غير مشروطة بأي شرط، لكن الإسلام لم يجعل الله — كما جعله اليهود — إقليميًّا محليًّا خاصًّا بشعب معين مُختار دون سائر الناس؛ إذ يريد الإسلام أن يكون الله للبشر كافة بغير تفريق.
وكانت المسيحية قد حقَّقت هذا التعميم الإنساني للدين، لكنها من جهة أخرى عددت الله في تثليث، فجاء الإسلام يأخذ بما أخذت به من تعميم بغير تمييز، لكنه وحَّد الله ولم يُثَلِّثْ.
وبعد إفاضة القول في التوحيد الذي يميز الإسلام، شرحت في اختصار سائر مبادئ الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، مبينًا قدْر استطاعتي ما ينطوي عليه كل مبدأ من فلسفة وراءه.
وبدأت المناقشة، وهي التي ملأتني زهوًا بنفسي؛ فقد هُوجمت بأسئلة من كل أرجاء القاعة، فوهبني الله قدرةً على الرد السريع لكل سؤال ردًّا مفحمًا، حتى لقد قال لي أحد الموجودين إنه يعجب لماذا لم أشتغل بالمحاماة لأكسب ملايين الدولارات؛ لأنه — هكذا قال لي — لم يرَ في حياته رجلًا بهذه السرعة في الإدلاء بالحُجة التي تدفع الخصم دفعًا.
سُئلت عن الإسلام أسئلة شتى: الإسلام والحب، الإسلام والحرب، الإسلام والمرأة … إلخ إلخ، وكنت دائمًا موفَّقًا، وكال لي الحاضرون إعجابًا وتقديرًا، وجاءتني السيدة «ب» — وهي من أكثر الناس أرستقراطية وترفُّعًا — ولبثتْ تُبْدِي لي من الإعجاب ما ملأني زهوًا، كما جاءت السيدة «س» تبدي إعجابها هي الأخرى، قائلة إن طريقتي في رد الاعتراضات التي وُجِّهَت كانت معجزة؛ فقلت لها: يا سيدتي ليس في الأمر إعجاز، إنما المسألة كلها هي أن الناس لا يعرفون الإسلام وأنا أعرفه؛ الناس يحكمون على الإسلام دون أن يقرءوا عنه حرفًا واحدًا …
رأيي هو أن المسلمين لو أرادوا لدينهم دعاية في البلاد المسيحية، ولا أقصد تبشيرًا يثني الناس عن عقائدهم؛ لأن العقائد عندي كلها سواء فيما تؤديه للقلب من إشباع عاطفي، بل أقصد الدعاية التي تجعل الأمم المسيحية تدرك مجرد إدراك أن الإسلام دينٌ في مستوى المسيحية واليهودية، ويزيد عليهما أنه جاء بعدهما فأدرك ما لم يدركاه من سلامة توحيد مع اتساع أفق ليسوي بين البشر أجمعين؛ فأكملُ خطةٍ هي أن يُبرِز متكلمونا أوجه الشبه بينه وبين تينك العقيدتين لا أوجه الاختلاف … والحقيقة أنها ديانات ثلاث كالأفرع من شجرة واحدة، كلها ساميٌّ وكلها يدين بإله هو هو نفسه في العقائد الثلاثة … فهل يأتي يوم يتآخى فيه البشر بقلوبهم كما أراد لهم الله أن يتآخوا؟
الإثنين ١١ يناير
مطر متصل مع جو دافئ؛ جاءني طالب في مكتبي بالجامعة، وهو ممن يحضرون لي محاضرات الفلسفة اليونانية، وهو معيد بالجامعة في قسم الرياضة … وطلب مني أن يحدثني حديثًا خاصًّا فيما يشغل باله من شكوك دينية؛ جلس والقلم الرصاص على ظهر أذنه كما هي حاله دائمًا، والسيجارة في فمه.
قال: أنا لا أُومن بالمسيحية؛ فقلت له: وماذا تريدني أن أصنع لك في هذا؟ قال: إما أن تؤيدني في شكي هذا، أو أن تهديني فلسفيًّا إلى الطريقة التي يمكن بها أن أقتنع وأومن بهذا الكلام الفارغ الذي يقولونه في الكنائس … فأخرجتُ له قطعة من الورق، ورسمتُ خطًّا يقسم الورقة قسمين، وكتبت له في قسم منهما كلمة «وجدان»، وفي القسم الآخر كتبتُ كلمة «منطق»، وقلت له: اسمع، الكلام الذي يقوله الناس قسمان: قسم يخضع للمنطق وهذا تجوز فيه المناقشة؛ وقسم يخضع للوجدان والمشاعر والذوق وهذا لا تجوز فيه المناقشة، فإذا قرأتَ عن المسيحية وسمعتَ عنها فتأثَّر قلبك واهتزت مشاعرك فاعتقد فيها، وأما إذا فعلت ولم تتأثر فلا تعتقد، وليس لمخلوق عليك من سلطان؛ لأنك قد سمعتَ ما يقولونه فلم تتأثر، إذَن فقد انتهى الإشكال.
قال: لكن لموقفي هذا نتائج كثيرة؛ قلت: ماذا؟ فقال: إني خاطب، والناس هنا متزمِّتون في الدين، فأول زيارة زرتها لأسرة خطيبتي في الريف، واجتمع أهلها معي على عشاء، دار الحديث كله تقريبًا على حسرتهم العميقة؛ لأن واحدة من أسرتهم البروتستانتية ستتزوج من شاب كاثوليكي، واعتبروا فتاتهم هذه في حكم مَن ماتت … فلما خلوتُ إلى خطيبتي قلت لها: اسمعي، إني لا أومن بالمسيحية كلها من أولها إلى آخرها، فانظري في أمرك وقرري؛ ومنذ ذلك اليوم ونحن في جدل كل يوم، خصوصًا ما نريده لأطفالنا حين يكون لنا أطفال؛ فأنا مصمم على أن يكون الاتفاق صريحًا منذ الآن ألا ينشأ أطفالي على خرافات دينية فارغة، بل يُتْرَكُون حتى يشبوا، ولهم أن يختاروا لأنفسهم بعد ذلك ما شاءوا؛ وأما هي فمصممة على أن نكون مسيحيين قبل كل شيء.
قلت له: إذا استمر الخلاف بينكما على هذا النحو، فهل يؤدي إلى فسخ الخطبة؟ فقال: لا، لا أظن ذلك؛ لأننا نحب أحدنا الآخر، لكني لا أريد التساهل في هذه الأمور منذ الآن؛ إنها امرأة ككل النساء تريدني أن أصحبها إلى الكنيسة وأنا لا أحب ذلك؛ فالمرأة لا تحب أن تذهب إلى الكنيسة وحدها، وهي تقول لي: واجبك أن ترافقني إلى الكنيسة يوم الأحد لأستمد منك القوة، فأجيبها بقولي: كيف أمدك بما ليس عندي؟ إنني غير معتقد، فكيف أبثُّ فيكِ العقيدة؟ … وقد أردت التفريج عن كربها مرة، فذهبتُ معها إلى الكنيسة، فما ازددت إلا نفورًا؛ لماذا أذهب لأسمع رجلًا يتكلم دون أن تكون لي فرصة مناقشته فيما يقول؟ ما معنى أن يتكلم هو وأنا أسمع؟! فقلت لخطيبتي بعد خروجنا: هذه أول مرة وآخر مرة في حياتي أدخل الكنيسة فيها بصحبتك.
السبت ١٦ يناير
إن كل ما أقرؤه هنا عن مصر يحز قلبي حزًّا، وإني لأتمنى للمصريين أن يغتربوا واحدًا واحدًا، ليقرءوا عن مصر في غربتهم فتُحَزَّ نفوسهم، ثم يعودون لعلهم يصنعون شيئًا في سبيل الثورة على أنفسهم ثورة لا تُبْقِي من القديم شيئًا ولا تذر … فقد قرأت كتابًا عنوانه «حيث يلتقي النهر بالشارع الرئيسي» لكاتب اسمه «هودِنْج كارتر»؛ وهو كتاب أقرب جدًّا إلى مذكرات، وفيها ذكرياته أيام أن كان في مصر إبان الحرب؛ كتب ذكرياته عن مصر تحت عنوان «تلفون الهرم ٥٦٦٤»، ووصف وصفًا تفصيليًّا ليلةً دعاهم فيها أعرابيٌّ اسمه … وقد كتب على بطاقته التي أرسلها إلى المدعوين أنه يبيع الجِمال ويؤجرها للركوب أو للإخراج السينمائي … كان المدعوون خمسة عشر، معظمهم ضباط أمريكيون وفيهم بولنديان ونيوزيلندي … انتظرتهم الجياد عند الهرم وركبوا نحو خمسة أميال في الصحراء إلى حيث خيام الشيخ … دخلوا الخيمة الأولى حيث ينتظرهم الوسكي في كثرة أذهلت الأمريكي! وراح الكاتب يصف السجاد الفاخر الذي فُرِشَت به الخيمة، ثم انتقلوا إلى خيمة مجاورة حيث مائدة العشاء؛ وهنا أخذ يصف الأصناف قائلًا إن المائدة كانت تحمل ثلاثين صنفًا على الأقل؛ ففي وسط المائدة خروف محمَّر بأكمله، تحفُّ به صفوف من الدجاج والسمك واللحم المشوي، وأكوام من الفاكهة، وأطباق لا عدد لها من كذا وكذا … وبينما هم يستعدون للرحيل بعد العشاء مرَّت فرقة من البوليس الإنجليزي رئيسها جاويش، وهنا يصف الأمريكي كيف أهان الجاويش الإنجليزي الشيخ … وطلب منه رخصته التي تبيح له أن يقيم الحفل — وكما يقول الكاتب — «كأنما الأرض ليست وطنًا للشيخ … وآبائه وأجداده قبل أن يسمع الجاويش وآباؤه وأجداده شيئًا اسمه مصر!» … يقول الكاتب: كرهنا من الجاويش أن يعامل مضيفنا في حضورنا هذه المعاملة المهينة، فأسرَّ النيوزيلندي الذي كان معنا في أذن الجاويش شيئًا، فانصرف … ويمضي الكاتب قائلًا: إن القوات الأمريكية أقامت بعد ذلك حفلًا للعشاء دُعِيَ إليه الضيوف أنواعًا وأشكالًا وألوانًا، وكنا على عِلمٍ سابق بهذا الحفل، فوعدنا الشيخ … أننا سنرسل إليه الدعوة إلى العشاء لَيلَتئذ، وقَبِلَ الرجل مسرورًا، لكن — لسبب لا أعلمه — رفضت السلطات الأمريكية توجيه الدعوة إلى الشيخ … مع أننا أبلغنا أولي الأمر كم كان الرجل كريمًا في دعوته لخمسة عشر ضابطًا منَّا … ثم يختم الكاتب هذا الجزء من ذكرياته في مصر قائلًا: «لما قرأت بعد ذلك بثمانية أعوام عن حرق القاهرة، حَرْق الأماكن التي طالما ارتدناها، والتي ظن الغربيون أنها ملكهم المقدَّس، حَرْق فندق شِبرد ونادي تيرف وبنك باركليز وجروبي — ذلك المكان العظيم فيما يقدِّمه من مثلجات — وسائر الأماكن التي يمتلكها الأجنبي الذي ذهب إلى مصر لينتفع ثم يشمخ بأنفه، لا ليفيد البلد الحزين وينقذه؛ لما قرأت عن التخريب الأهوج الذي حدث، تذكرتُ الشحاذين الذين ألقى بهم التيفوس صرعى في مواخير القاهرة، وتذكرتُ جاويشًا إنجليزيًّا على ظهر جواده، وتذكرتُ صحراء جرداء لا تُنتِج قمحًا، وتذكرتُ ثلاثين صنفًا من الطعام في خيمة مفروشة بفاخر السجاد، وتذكرتُ دعوة (للشيخ …) رفض إرسالها أولو الأمر، فلم أكن بعد هذا كله بحاجة إلى سياسيٍّ يحلل لي أسباب الجنون الذي أحرق القاهرة.»