من الجنوب إلى الغرب
نيوأورلينز: الإثنين ٢٥ يناير
وصلت صباح اليوم إلى نيوأورلينز، وهي مدينة ذات طابع خاص تختلف به عن سائر مدن الولايات المتحدة جميعًا، وطابعها ذاك إنما يستمد معظمه من وجود الحي الفرنسي بها؛ فقد كانت تابعة للفرنسيين قبل أن تشتريها الولايات المتحدة من فرنسا في أول القرن التاسع عشر، فبقيتْ بها إلى اليوم روح المدن الفرنسية مما جعلها مختلفة متميزة، بل جعلها مقصدًا لألوف الزائرين، حتى ليقال إنها المقصد الثاني للزائرين في الولايات المتحدة كلها، لا يفوقها في عدد الزائرين إلا نيويورك.
لم أكد أصل المدينة حتى أسرعت إلى الحي الفرنسي لأنفق في ربوعه أكبر وقت ممكن من مدتي القصيرة التي سأقضيها في هذا البلد، فسأقضي به يومًا واحدًا بغير ليلته … واجهات المباني في هذا الحي تبرز منها الشرفات، ويصطف على طولها أعمدة خشبية، وتزخرف حوافيها إطارات من خشب، وهي أشياء لا وجود لها في أمريكا بأسرها؛ لأن البيت الأمريكي المألوف الشائع مصنوع من خشب على هيئة ما نسميه بالفلات في ضواحي القاهرة … وكذلك تختلف نيوأورلينز عن سائر المدن الأمريكية بضيق شوارعها؛ فهي في ذلك كله مدينة أوروبية قديمة.
سرتُ في الشارع الرئيسي في هذا الحي الفرنسي — وهو شارع رويال — فرأيت على جانبيه الدكاكين السياحية؛ فليس ما يُباع هنا سوى التُّحَف والتماثيل والصور وقطع الأثاث القديم وهكذا، حتى المكتبات في هذا الشارع مهتمة بالكتب القديمة.
ومدينة نيوأورلينز بصفة عامة تفوح برائحة المواني الكبرى؛ فهي ليست نظيفة، وتشم فيها رائحة البحر المنعشة، يخترقها نهر مسسبي عند مصبه في خليج المكسيك، ومع ذلك فهي بعيدة عن الخليج نفسه بما يساوي ساعة ونصف ساعة بالسيارة؛ ونهر المسسبي عريض جدًّا عند مصبه، ويشبه أن يكون جزءًا من البحر؛ والميناء مليئة بالبواخر الكبيرة، وقد علمت أنها الميناء الثانية في أمريكا كلها، تفوقها ميناء نيويورك وحدها، ووقوعها عند مصب المسسبي هو الذي أضفى عليها أهميتها؛ لأن المسسبي طريق رئيسي يصل البحر بداخل القارة إلى مسافة بعيدة.
بعد أن جُلْتُ وحدي جولة واسعة في أنحاء نيوأورلينز استنفدت ساعات الصباح كلها حتى وقت الغداء، تغديتُ ثم اتصلتُ فورًا بالتلفون بالسيد «ف» الذي أعطاني عنوانه الدكتور «ب» وزوجته في كولمبيا، وأوصياني أن أتصل به؛ لأنه خير مَن يطلعني على خفايا نيوأورلينز وروحها المتميز، كما أنهما أرسلا خطابًا إلى صديقهما هذا ينبئانه بموعد قدومي.
دعاني إلى منزله، ومنزله في الحي الفرنسي، فذهبت … ضغطت على جرس الباب الخارجي — وعلى الباب صف طويل من الأجراس كُتِبَ أمام كلٍّ منها اسم ساكن من السكان — فجاءني رد الجرس صوتًا يشبه صوت التلفون، فرجَّحت أن تكون هذه علامة تدلني على أن الباب الخارجي قد انفتح، فدفعت الباب ودخلت إلى حديقته الضيقة المرصوفة بالبلاط الكبير القديم، وسرعان ما خرج السيد «ف» يستقبلني، وسرعان ما عرفت أنه هو مالك البيت، وأنه قد قسَّمه شقات للإيجار، وسكن هو في الطابق الأرضي من البناء.
كانت المنازل في الحي الفرنسي قد آلت إلى ما يشبه الخراب؛ فصدر أمر من حكومة الولاية — ولاية لويزيانا — منذ عشرين عامًا يحرِّم هدم المنازل الفرنسية الطراز؛ احتفاظًا بهذا الطابع التاريخي للمدينة، الذي يجعل منها مدينة تختلف عن سائر المدن، فتجعلها بالتالي مقصدًا للزائرين … ومنذ صدر ذلك القانون، أخذ الحي الفرنسي في الانتقال من طور إلى طور؛ إذ تنبأ له ذوو البصيرة النافذة أنه سرعان ما يكون المكان الممتاز من أحياء المدينة كلها، وأقبل أصحاب الأموال يشترون بيوته ويجددونها بحيث يحتفظون لها بطرازها الفرنسي في كل شيء، وهو الآن حي الطبقة الممتازة بمالها أو بثقافتها.
ومضيفي السيد «ف» من هؤلاء الذين استغلوا أموالهم في تجديد منازل الحي الفرنسي؛ وإذَن فالبناء فرنسي الطابع، أحاطه بحديقة صغيرة، نباتها كله أخضر، فليس فيها زهرة واحدة ذات لون آخر، واحتفظ على أرض الحديقة بالبلاط القديم، وبنى سور البيت من الطوب الأحمر الذي كان في البناء قبل تجديده، وأبقى في الأبواب والحواجز الحديدية نفس الأجزاء الحديدية التي كانت في البناء منذ العهد الفرنسي (كانت نيوأورلينز مدينة إسبانية قبل أن تكون فرنسية، ثم انتقلت من فرنسا إلى الولايات المتحدة عن طريق الشراء سنة ١٨٠٣م)، وأنبأني السيد «ف» أنه جعل نبات حديقته أخضر كله؛ لأن الشمس لا تطل على الفناء المزروع إلا فترة قصيرة بحيث لا يمكن إنبات الزهور؛ وقد وضع هناك مجموعتين من مقاعد حول منضدتين، وطلاها جميعًا باللون الأبيض، فجاء هذا البياض إلى جانب اخضرار النبات بالأثر المطلوب، وأصبح المنظر غاية في الروعة.
وبعد ذلك أدخلني شقته في الطابق الأرضي، فإذا هي غرفة واحدة ألحق في أحد أركانها دورة للمياه، وفي ركن آخر مطبخًا لا يسع أكثر من شخص واحد واقف على قدميه؛ وفي الغرفة بعد ذلك كل ما يتطلبه الإنسان من سرير ومكتب ومنضدة وصوان ومكتبة.
وبعد قليل خرجنا معًا لنطوف بالحي الفرنسي … إن السيد «ف» هذا يعرف تاريخ كل عمود وكل نافذة وكل باب في الحي الفرنسي؛ فقد وقف بي عند عدة منازل مجددة ليشرح لي كيف كانت وكيف أصبحت، والقاعدة العامة في هذه المباني ألا ترى من خارج البيت إلا واجهة ذات شرفة، فإذا دخلتَ وجدتَ في الداخل فناء به حديقة جميلة؛ واللون الأخضر الغامق هو الغالب على جميع الحدائق المنزلية.
السيد «ف» من أهل الجنوب، أصله من ولاية ألاباما — التي تقع بين ولايتَي جورجيا ولويزيانا — ولذلك تراه يتحمس للجنوب كأهل الجنوب جميعًا … قال لي في موضوع الكراهية الدفينة بين أهل الجنوب وأهل الشمال: إن سببها هو أن الشمال حين انتصر في الحرب الأهلية مع الجنوب اتخذ إزاء الجنوب موقف الظافر المنتصر، وضم الجنوب إليه كما يُضم البلد الذي غزاه غزاة من الخارج، لا كما يُضَم جزء من البلاد إلى سائر الأجزاء، مع أن الجنوب كان أغنى من الشمال، وهو الآن ناهض نهضة سريعة، وله أمل كبير أنه سيستعيد تفوُّقه على الشمال.
مررنا ببناء كبير — هو الآن مدرسة — فقصَّ عليَّ السيد «ف» عن هذا البناء قصة لطيفة؛ فقد كان ديرًا، وحدث أن كان الفرنسيون وهم ينشئون مستعمرتهم هنا أكثر رجالًا من نسائهم؛ فأرسلوا إلى حكومتهم في فرنسا يطلبون النساء ليتزوج منهم رجال المستعمرة؛ حتى لا يندثر الفرنسيون هنا، فأرسلت الحكومة الفرنسية عددًا من البنات استطاعت جمعهن وإغراءهن بالسفر، وأمدت كل واحدة منهن بثياب العرس، وأرسلتهن إلى نيوأورلينز، فلما جئن هنا نزلن في هذا الدير تحت حراسة الراهبات حتى يتم لقاؤهن مع الرجال، ويتم اختيار الأزواج للزوجات … سمعت ذلك من السيد «ف» فقلت له: ما أجدر هذا بأديب يتناوله لينشئ على أساسه قصة جيدة!
نيوأورلينز مليئة بالشخصيات الأدبية الهامة في الأدب الأمريكي؛ فقد مررنا على المنزل الشتوي للسيدة كيز وهي من طليعة أدباء القصة في أمريكا، وفي هذه المدينة عاش أديب الأمريكيين الأكبر «فوكْنَر» الذي نال جائزة نوبل في الأدب منذ حينٍ قريب، وفيها يعيش الآن «تنِّسي وِلْيَمز» صاحب كتاب «مركبة للترام اسمها دزاير» الذي أخرجته السينما منذ قريب، وكانت له ضجة كبرى لما أحدثه من ابتكار في الإخراج والتمثيل؛ وحوادث القصة تدور في هذه المدينة: مدينة نيوأورلينز.
سرنا معًا إلى ميدان رئيسي اسمه ميدان جاكسن، تملأ فضاءه حديقة مربعة؛ وللميدان ضلعان متقابلان، ينهض على كلٍّ منهما بناء واحد ضخم بُنِيَ بالطوب الأحمر، وصاحبة البنائين عند أول إنشائهما هي البارونة بونتالبا الإسبانية؛ فقد أُقيم البناءان في عهد الإسبان، وهما أقدم بناءين في أمريكا بأَسْرِها من المباني ذوات «الشقق» الإيجارية، وضلع ثالث من أضلاع الميدان به كاتدرائية جميلة البناء بسيطة، يجاورها عن يمين ويسار بناء ضخم قديم، وكان كلا البناءين مقرًّا للحكومة الإسبانية أيام أنْ كانت هذه الأرض مستعمرة إسبانية … وأما الضلع الرابع من الميدان فجانب مكشوف على نهر المسسبي، غير أن النهر نفسه لا يظهر من الميدان، وعليك أن تخترق خطوط السكة الحديدية وتدور حول مخازن المحطة لتجد نفسك واقفًا في الميناء الكبير على هذا النهر العريض الفسيح.
رأيت في ميدان جاكسن — على رصيف الحديقة الوسطى — رسامين فنانين عرضوا رسومهم مسندة على جانب الحديقة ومسطوحة على الأرض، مما يذكِّرك بزملائهم على ضفة السين بباريس … رأيت ثلاثة منهم يرسمون «الزبائن»، جلستْ سيدة أمام أحدهم وسيدة أخرى أمام آخَر، ورجل أمام ثالث … الفن مُذلٌّ حين يهوي إلى الشوارع، فما أشبه الفنان — وقد جلس أمامه الزبون على الطوار — بحلاقي الأرصفة في بعض ربوع القاهرة! الفن مُذِلٌّ حين يوشك أن يُتَّخَذَ وسيلة للسؤال: حين يعزف الموسيقيُّ أمام المقاهي طلبًا للعيش، أو يغني المغني في مثل هذه الظروف أو يرسم المصور … كرامة الفن في أن يكون التقاؤه بكسب العيش التقاءً عارضًا.
ويطل على الميدان مقهًى على النظام الفرنسي — أو المصري أحيانًا — قديم قِدَم العهد الفرنسي، واحتُفِظَ به حتى الآن ليزيد المدينة طابعًا، وهو مفتوح نهارًا وليلًا لا يغلق أبوابه ساعة واحدة … جلسنا هناك أنا والسيد «ف» وشربنا القهوة مرة بعد مرة.
هنا ونحن جالسان على ذلك المقهى بدأ حديث ممتع بيني وبين السيد «ف»، سأثبت من تفصيلاته ما استطعت تذكُّره؛ لأنه بغير شك صورة لأمريكي قد يكون ممثلًا في وجهة نظره وفي روحه وفي مزاجه لكثير من الأمريكيين.
قصَّ عليَّ طرفًا من تاريخ حياته؛ فقد اشترك في الحربين (ولو أنه يبدو أصغر من ذلك بكثير)، وهو متخرِّج في إحدى جامعات الشمال حيث تخصص في فن العمارة، وبدأ حياته معدمًا لا يملك مليمًا واحدًا، لكنه ادخر وادخر، وحرص على ماله، حتى أصبح له الآن هذا البيت الذي رأيته وقيمته مائة ألف من الدولارات، وله منه دخل يضمن له العيش المريح حتى لو لم يعمل شيئًا مربحًا بعد ذلك.
أخذ يوجِّه النقد الشديد للأمريكيين بصفة عامة في بعثرتهم لأموالهم قائلًا في انفعال شديد: إنه لا بد من التفرقة بين «الاستثمار» و«الإنفاق»؛ ففي مستطاع الإنسان أن يعوِّد نفسه على إنفاق ماله في مقتنيات تغلُّ المال بدورها، فلا يضيع المال هباءً؛ فلا ينبغي — في رأيه — أن يُنْفَقَ مالٌ إلا فيما يعود بمال.
ليس لهذا السيد «ف» سيارة، وهو الذي يطبخ لنفسه طعامه، وينظِّف لنفسه مسكنه بالرغم من ثرائه هذا، ويدهش لهؤلاء الذين يزودون بيوتهم بالثلاجات والأفران والغسالات الكهربائية، بل يزودونها بآلة غسل الأطباق، مع أنهم يشترون هذه الأشياء كلها بالتقسيط، وإذَن فالأمريكي المتوسط مطالَبٌ بأقساط شهرية جسيمة قد لا يحتملها من أجل أن تكون له هذه الأدوات؛ فبالله عليك — هكذا وجَّه إليَّ السيد «ف» الحديث — أيُّ عقل في الدنيا يجيز لأسرة مكونة من زوجين بغير أطفال أن تكون لديها غسالة كهربائية للأطباق؟
وهنا انتقل بحديثه إلى الرئيس روزفلت، وكيف أنه أنزل الخراب على أمريكا؛ لأنه كان رجلًا يميل إلى الاشتراكية؛ فلكي يغري الناس بالتصويت له، أخذ يَعِدُهم ويتورَّط في وعوده بأن الحكومة ستعمل كذا وكذا، حتى عوَّد الناس تدريجًا على أن العبء إنما يقع على الحكومة لا على الأفراد، مع أن الحياة الصحيحة — في رأيه — هو أن يكوِّن كل إنسان نفسه كما فعل هو.
وانتقل الحديث إلى الزواج، قال إنه كان متزوجًا، أما الآن فلو عُرِضَ عليه الزواج من أغنى وأجمل امرأة في الدنيا لرفض … قال: إنني الآن حرٌّ كالهواء، أقرأ إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل إذا أردت، أسافر حين أريد وأقيم حيث أريد … إن مديرًا لجامعة من أكبر وأهم جامعاتنا قد ألقى خطبة منذ قريب في الطلبة الخريجين، فقال لهم في صراحة غريبة إن ستين من كل مائة شخص — رجالًا ونساءً — لا يصلح بطبيعته للزواج؛ ولذلك لا ينبغي لهؤلاء أن يورطوا أنفسهم في النظام الزوجي … ويمضي السيد «ف» فيقول: إنني توقعت أن تقوم الجرائد بضجة كبرى ردًّا على هذا الحديث الخطير من مدير جامعة مهمة، لكني عجبت إذ قابلته الصحف كلها بالصمت، وربما كان ذلك لأنها لم تدرك مدى النتائج المترتبة على قوله هذا، فمما يترتب عليه من نتائج — وهي نتيجة كانت بالطبع في ذهن المدير الجامعي وهو يلقي خطابه — أن هؤلاء الستين في كل مائة، الذين لا يصلحون للحياة الزوجية، لا بد بطبيعة الحال ألا يهملوا غرائزهم الجنسية، وإذَن فلا مندوحة من قيام علاقات جنسية غير مشروعة من وراء ستار …
قال لي السيد «ف» بعد حين: تعالَ معي أطلعك على نموذج من الأماكن التي تُستخدم للجلوس في الصيف، والتي تقوم عندنا مقام المشارب التي قلتَ لي عنها إنها موجودة في باريس وفي القاهرة … وأخذني إلى بناءٍ تدخل فيه إلى حديقة فنائه؛ الحديقة جميلة، وكلها نبات أخضر؛ أعني أن ليس بها زهرٌ مختلف اللون إلا صفًّا واحدًا من زهور كبيرة حمراء … وكان إلى جانبنا جماعة من الشباب يضحكون ويضحكون في صوت عالٍ ومرح ظاهر؛ فقلت للسيد «ف»: هذه جماعة من الغرباء ويستحيل أن يكونوا من أهل هذا البلد؛ فقال: لا ريب في هذا … قلتُ: إني عرفت ذلك من الضحك الذي يضحكونه والصخب الذي يصخبونه؛ فقال: أما أنا فقد عرفته من نوع الشراب الذي يشربونه، فهم يشربون ما لا يشربه أهل نيوأورلينز.
وتحدثنا بعد ذلك حديثًا طويلًا طليًّا عن الخُلُق الأمريكي، كان السيد «ف» في معظم الأحيان يتكلَّم وأنا أسمع، فوجدته يقول أشياء تتفق حرفًا بحرف مع مشاهداتي؛ فقد حدثني عن مسارعة الأمريكي إلى نسبة نفسه إلى أصله الأوروبي، فيقول مثلًا إنه إنجليزي أو ألماني أو إسباني … إلخ، والسيد «ف» يتهم بذلك أهل الشمال وحدهم، مع أني لاحظت المشاهدة نفسها في الجنوب كذلك؛ وهو يعتقد أن أهل الجنوب أعرق حسبًا وأعمق تأمركًا من أهل الشمال؛ ففي الشمال أسراتٌ كثيرة جدًّا لم يمضِ عليها في أمريكا أكثر من جيل واحد أو جيلين، فلا عجب أن يظل أصلهم الأوروبي عالقًا في أذهانهم.
ومما لذَّ لي سماعه من السيد «ف» تحليله التفصيلي لعلاقة الأمريكيين بالإنجليز من حيث المشاعر الحقيقية؛ فقد زعم لي أنهم يمقتون الإنجليز مقتًا شديدًا، كما أن الإنجليز يكرهونهم، على الرغم من كل هذا الرياء والنفاق، ويقول: لا عجب؛ فنحن نمقتهم لأنهم يستخفُّون بنا، ويظنون بنا السذاجة والتفاهة والحداثة؛ وهم يكرهوننا لأننا أول مَن بدأ لهم طريق التدهور؛ فالثورة الأمريكية هي الفصل الأول من انحلال الإمبراطورية البريطانية؛ إن البريطانيين — في رأي السيد «ف» — يتصفون بالبلادة والكسل؛ جاءت إلى أمريكا أثناء الحرب سيدة إنجليزية، ورأت عندنا أكداسًا من البصل، فأشفقتْ على نفسها وعلى أمَّتها وبكت، قائلة إن البصل هنا مكدَّس كأنه أكوام من الحصى والتراب، ونحن في إنجلترا لا نكاد نجد بصلة واحدة … لكنَّ أحدًا من الحاضرين لم يعطف عليها رغم بكائها، فلماذا لا يزرعون ما شاءوا من البصل وغير البصل في أرضهم التي يتركونها بغير زرع؟ لقد كنت في الجزء الأوسط من إنجلترا إبان الحرب ورأيت فدادين الأرض بعد فدادينها متروكة بغير زراعة؛ ذلك لأن الإنجليز يريدون من الشعوب الأخرى أن تمدَّهم بالطعام كما تمدهم بأدوات الحرب؛ إنهم لا يريدون أن يعملوا، بل هم ينتظرون من غيرهم أن يعمل من أجلهم؛ نحن مختلفون عن الإنجليز اختلافًا أساسيًّا جوهريًّا؛ فهم يجعلون الأهمية الاجتماعية لصاحب الحسب والأصل؛ ونحن نجعل الأهمية لصاحب العمل والإنتاج؛ المهمون في تاريخنا وفي مجتمعنا هم روكفلر وروتشيلد وأضرابهما من الرجال، لا اللورد فلان ولا الإيرل علان؛ فالأساس مختلف عندنا عنه عندهم؛ إنه لو زارتْنا ملكة الإنجليز — مثلًا — فيستحيل أن تجد أمريكيًّا واحدًا ينحني لها؛ لأننا لا نحني ظهورنا لأحد كائنًا مَن كان، بل قد نجد الأمريكي الأصيل البسيط يرحِّب بها مبتسمًا قائلًا: أهلًا يا ملُّوكة! كيف الحال؟
وانتقل السيد «ف» إلى الحديث عن الفكر الأمريكي الخاص بهم من أدب وفلسفة، فقال: إنهم ليسوا مجرد أتباع مقلدين؛ فأين في آداب العالم شبيه ﺑ «إدجر ألن بو» أو ﺑ «إمِرْسُن» … إن الذي خلق منا شعبًا هو أعظم شعب شهده التاريخ، هو أننا صفوة من عدة شعوب، فكأنما خرجت من هذا المزيج عجينة فيها أحسن ما في الأجزاء كلها؛ هذا إلى أننا بدأنا تاريخنا من نقطة البداية، فلم يكن وراءنا تقاليد بالية تعوقنا وتعطِّل سيرنا، وليس بيننا تفاخر بالأسر مما يكون من شأنه أن يعرقل مساواة الفرص أمام الجميع.
عُدنا إلى منزل السيد «ف» ليغير ثيابه استعدادًا للعشاء الذي تفضَّل فدعاني إليه، وهناك أطلعني على كتاب لم يكن يعلم أني قرأته، هو كتاب «ثورة الجماهير» للكاتب «أورتيجا إي جاسِت» … قال: إن غاية هذا الكتاب هي أن يبيِّن كيف نما وعي طبقات الشعب بنفسها؛ فقلت له: إن في ذلك رائحة ماركسية؛ فقال: وهل كل ما قاله ماركس خطأ؟ لقد أعجبني من روزفلت مرة أنه قال في إحدى خطبه — وكنا لا نزال عندئذٍ في قتال مع إيطاليا: إن موسوليني بطل حقيقي وإيطالي عظيم لكن إلى حد معين من مجرى حياته، غير أنه جاوز ذلك الحد فبدأ الخطأ … ومضى السيد «ف» في كلامه فقال: إنك تستطيع أن تقول شيئًا كهذا عن ماركس وأضرابه ممن يأتي خطؤهم من تجاوز الحدود.
كان حديثي مع السيد «ف» على مائدة العشاء يدور حول بعض الأدباء الأمريكيين المحدثين والمعاصرين، خصوصًا مَن استمدوا إلهامهم من «نيوأورلينز»؛ فكان ممن ذكرهم «مرغريت متشل» كاتبة «ذهب مع الريح»، قال: إننا جميعًا هنا كنا نعرف القصة — يقصد الحوادث الحقيقية التي بُنِيَت عليها القصة — ونعرف المناظر، ومعظمها في مدينة أتلانتا (بولاية جورجيا) … دهشت حقًّا حين رأيت الحماسة والانفعال الذي يتكلم بهما السيد «ف» كيف أن رجال السينما قد صفعوا الجنوب صفعة قوية على وجهه حين لم يقع اختيارهم على ممثلة من أهل الجنوب لتقوم بالدور الرئيس في «ذهب مع الريح»، فما دامت القصة كلها والكاتبة وكل شيء ينتمي إلى الجنوب، فلماذا لا تقوم بالدور الرئيسي ممثلة من الجنوب؟ أَلِأَنَّ الجنوب لم يُخرِج ممثلات من أبرع الممثلات؟ ألم يُخرِج الجنوب فلانة وفلانة وفلانة وهن جميعًا من الصف الأول بين ممثلات العالم براعةً وقدرةً؟ لكن أهاننا القائمون بصناعة السينما، ولكي يستروا هذه الإهانة الكبرى جاءوا بممثلة أجنبية، فلا هي من الجنوب ولا هي من الشمال (هي فيفيان لي الإنجليزية) … هذا فضلًا عن خديعتهم للكاتبة مرغريت متشل حين أعطوها خمسة وسبعين ألفًا من الدولارات، ولما كانت المسكينة لا يهمها المال أبدًا ولا تفكِّر فيه لم تناقشهم الحساب، وأخذت ما أعطوها إياه، مع أن هذا الفيلم السينمائي كان ينبغي ألا يقل أجر كاتبه عن مليون دولار … هنا أبديت دهشتي من ضخامة المبلغ قائلًا: مليون دولار؟! فقال: معلوم! لِمَ لا؟ نعم مليون دولار، إن «تنسِّي وليمز» قد أخذ ربع مليون في كتابه «مركبة الترام المسماة دزاير» … ألا تعلم أن «ذهب مع الريح» هو أعظم فيلم أخرجته هوليوود في حياتها الفنية جميعًا؟
وانتقل السيد «ف» بحديثه إلى نقد الأمريكيين في جهلهم بالعالم الخارجي، فقال: إن تعليمنا ناقص؛ فالأمريكي يوشك ألا يعرف عن العالم الخارجي شيئًا، وكل أمريكي يتوهم أن ما في أمريكا من أشياء إنما هي منقطعة النظير في العالم، تراهم في جهل وسذاجة يفخرون بضخامة دليل التلفون في مدينة نيويورك، مع أنني لما ذهبت إلى باريس وجدت دليل التلفون هناك ضِعْف هذا الحجم … الأمريكي يفخر فخر الأطفال بضخامة الحجم، فتراه يقول إن ارتفاع العمارة عندنا هو كذا طابقًا، واتساع الشوارع كذا مترًا، وننتج من السيارات كذا ألفًا … وهكذا.
هنا رددتُ عليه مدافعًا عن العقل الأمريكي — وجزء من الدافع أن أرضيه — فكان ينصت إلى ثنائي على الأمريكيين في نبوغهم وقدرتهم، وعلى فمه ابتسامة الفرح وفي عينيه لمعة الزهو.
مشينا قليلًا بعد العشاء في شارع كانال الذي هو أوسع شارع تجاري في أمريكا بأسرها، وبالطبع يكون أكبر شارع في نيوأورلينز، فوجدته في إضاءة الليل يكاد يتقد اتقادًا من الوهج، وهو في هذا الوهج شبيه بشارع برودواي في نيويورك … إنني لا أحب هذا الوهج الشديد في الإضاءة، وكان يعجبني «الشارع الرئيسي» في كولمبيا من ولاية كارولاينا الجنوبية؛ فلست أدري كيف كانت تمتزج ألوان الضوء فيه من أحمر وأبيض وأزرق امتزاجًا جميلًا؟!
الثلاثاء ٢٦ ديسمبر
قام بنا القطار الذاهب إلى «لوس إنجلس» (وهوليوود هي إحدى ضواحيها) على الساحل الغربي ليلة أمس عند منتصفها، فنمت في غُرَيْفَتي بالقطار فور قيامه؛ لأني كنت متعبًا من عناء النهار، مع أني كنت أود أن أرى الكوبري الطويل الذي يعبر عليه القطار نهر مسسبي إلى ضفته الغربية؛ إذ يبلغ طوله أربعة أميال ونصف ميل … فلما صحوت في الصباح كنا قد خرجنا من ولاية لويزيانا إلى ولاية تكساس؛ كان المنظر ساعات الصبح والضحى حقولًا زراعية ومراعٍ، فولاية لويزيانا وجزء من ولاية تكساس هما أشهر بقاع أمريكا في زراعة القصب وصناعة السكر، ومن ثَم أُطْلِقَ اسم «وعاء السكر» على ملعب الكرة المشهور في الجنوب، الذي يقصد إليه في مباريات الشتاء ألوف الألوف من شتى أنحاء البلاد … وكذلك ترى حقول القطن والأرز، حتى إذا ما انتصف النهار دخلنا تدريجًا في منطقة صحراوية ليست هي بالرمال الصفراء، بل هي أرض على شيء من الصلابة، تغطيها شجيرات صغيرة متناثرة رمادية اللون جافة … في هذا المنظر الصحراوي لبثنا ساعات بعد ساعات كلها في ولاية تكساس، حتى إذا ما غربت الشمس بدأت الأرض تتموج قليلًا، وإذَن فهي بدايات جبال روكي.
الأربعاء ٢٧ ديسمبر
لا بد أن نكون قد قطعنا ولاية «المكسيك الجديدة» أثناء الليل؛ لأنني إذ أصبحت وعندما كنت أفطر في مطعم القطار وقفنا عند هذه المدينة العظيمة، مدينة فينكس وهي في ولاية أرزونا … الأرض منبسطة سهلًا، فلا تلَّ فيها ولا شبه تل، وإذَن فلا بد أن نكون الآن على سطح الهضبة، وهو حقول مزروعة، أو مراعٍ للماشية التي ترى حظائرها بين حين وحين غاية في حسن النظام والتنسيق، فتعلم أن رعاية الماشية هنا لا بد أن تكون موردًا ضخمًا من موارد الثروة.
وقُبيل الظهر بقليل وصل القطار عند مدينة «يوما» التي تقع عند حدود ولايتَي أرزونا وكالفورنيا، تقع على نهر كلورادو، تعبر النهر فتخرج من أرزونا وتدخل في كالفورنيا … لكن مدينة «يوما» تثير الخواطر وتثير التفكير، فعندها يقف القطار عشر دقائق، وينبهك خادم العربة إلى ذلك، فتنزل إلى الرصيف إذا شئت …
نزلتُ إلى رصيف محطة «يوما» فوجدت على مسافات متقاربة نساء جالسات على الأرض، هن من البقية الباقية من الهنود الحمر، السكان الأصليين، وكلٌّ منهن قد رَصَّت أمامها قليلًا من العقود وما شابهها، هن نظيفات جدًّا، تبدو عليهن الوداعة، لا ينظرن إلى أحد، فكلٌّ منهن قد أَحْنَتْ رأسها نحو الأرض، لا تنظر حتى لمن يشتري من بضاعتها شيئًا؛ فقد رأيت سيدة تشتري من إحداهن عقدًا، لم تسألها عن الثمن بل أخذت العقد وناولتها نقودًا، فمدت الهندية يدها وأخذت النقود وعيناها لا تزالان تنظران إلى الأرض! كل ما هنالك أنها هزَّت رأسها بالقبول.
الهنود الحمر — السكان الأصليون للبلاد — يقيمون الآن في محابس منتشرة على طول الولايات المتحدة وعرضها، فقد حُصِرُوا مجموعات مجموعات، وسُمِحَ لكل مجموعة محصورة في محبسها أن تزرع أرضها هناك وتستغل ما فيها من موارد الثروة بقدْر مستطاعها، لكن هؤلاء الهنود (وهم في أمريكا يسمون بكلمة «الهنود» وحدها) لا يُعَدُّون من المواطنين؛ فليس لهم مثلًا حق التصويت والانتخاب.
وبالقرب من مدينة «يوما» هذه التي وقف عندها القطار حينًا، محبس من هذه المحابس الهندية … والخاطر المقلق الذي ملأ رأسي عندئذٍ هو هذا: إنه منذ مائتي عام أو نحوها كان هؤلاء الهنود هم أصحاب البلاد، لم تكن هناك أمريكا التي نعرفها الآن! في مائتي عام أو نحوها خُلِقَت هذه الأمة العظيمة خلقًا من العدم؛ في هذه الفترة الوجيزة جدًّا مُلِئَت هذه القارة الواسعة تعميرًا واستثمارًا ومدنية وحضارة، مُلِئَت علمًا وفنًّا وسياسة، إنها غزت العالم غزوًا … أتقول إنه لم يكن من العدل لهؤلاء الدخلاء أن يغتصبوا البلاد من أهلها، وهذه هي نتيجة الاغتصاب؟! هل نحكم على الحركات التاريخية بنتائجها أم بمبادئها؟ هذه أمة عظيمة خُلِقَت، ولا تدَّعي أنها تستند إلى ماضٍ، اللهم إلا ماضيها الديني؛ نعم فقد جاءت ومعها مسيحيتها، بل جاءت بسبب مسيحيتها … فهل بعد ذلك نقول: إن النهوض لا يكون إلا بالاستناد إلى تراث الأقدمين؟ هذا كلام يصلح للإنشاء في كراسات التلاميذ، أما مَن يريد أن يكون جادًّا في تفكيره، فسيجد الواقع صارخًا ببطلانه؛ أم نقول: إن الثقافة الأوروبية هي نفسها ماضي أمريكا الثقافي؟ على كل حال، فحتى على هذا الفرض، فليس هناك ماضٍ قومي، إنما هو ماضٍ إنساني.
إنه يستحيل أن تمر هذه الخواطر على رجل من الشرق الأدنى دون أن يتذكر العرب وإسرائيل، فمن يدري كيف ينحرف مجرى التاريخ؟! لكن ليحذر العرب! ليفتحوا أعينهم إلى الحقائق ولا يدسُّوا رءوسهم في الرمال؛ فليس مستحيلًا في منطق التاريخ أن يكون الإسرائيليون النازحون إلى الشرق الأوسط بمثابة مَن نزح إلى أمريكا أول مرة! ليس مستحيلًا في منطق التاريخ أن يكون العرب بمثابة الهنود الحمر، يتضاءلون ثم ينتهي مصيرهم إلى محابس ينحصرون فيها، ثم إلى انقراض؛ فالحياة لمن هو أكثر علمًا وفاعلية ونشاطًا، وليس وراء هذه الحقيقة حقيقة أعلى.
بعد مدينة «يوما» دخلنا مدينة كالفورنيا، وسرنا عدة ساعات لا نرى إلا صحراء كصحرائنا في مصر: رمال وكثبان؛ وبعد حين وحين ترى مجموعة من النخيل؛ وقد علمت أن في هذه الصحراء الرملية تقوم الشركات السينمائية بتمثيل الأدوار التي تحتاج إلى صحراء وإلى عرب … وإني أكتب هذه السطور — بل هذا السطر بالذات — في اللحظة التي وقف فيها القطار عند محطة «بام سبرنجز» (أي عيون النخيل) وهي مشتًى مشهور؛ وقد بَدَتْ في الأفق الغربي البعيد جبال عالية، تغطِّي قمم بعضها ثلوج بيضاء، تبدو غريبة في هذا الجو الدافئ داخل القطار، وأمام هذه الشمس الساطعة خارجه … فلعلها أن تكون الحافة الغربية من جبال روكي، بل لعلها أن تكون على وجه التخصيص قمة سان برنار دينو التي هي في هذا المكان من جبال روكي، وتغطيها الثلوج صيفًا وشتاءً.
نزلت في محطة «لوس أنجلس»؛ للمحطة فناء على الطراز الأندلسي الإسلامي، فأثر الإسبان — على ما يبدو — لا يزال قويًّا في هذا المكان؛ إذ كان في أيدي الإسبانيين قبل أن يئول إلى الولايات المتحدة … فالضاحية التي وقفنا بها قُبيل وقوفنا عند المحطة الرئيسية اسمها «الهامبرا»، وهي الكلمة الإفرنجية لكلمتنا العربية «الحمراء»؛ والمدينة نفسها اسمها: «لوس أنجلس»، وهي العبارة الإسبانية التي معناها «الملائكة» … ردهة المحطة وغرفة الانتظار بها قد بلغتا من العظمة والفخامة حدًّا يجعل ألفاظ التفخيم تافهة بغير معنًى.
لم أكد أقذف بحقيبتي في الفندق الذي نزلت فيه لأقضي هذه الليلة في لوس أنجلس، حتى خرجت كالنَّهِم إلى الشوارع أطوف مسرعًا ببعضها، وكانت الساعة عندئذٍ الخامسة بتوقيت الساحل الغربي (وهي تكون الآن الثامنة مساءً في كولمبيا على الساحل الشرقي، وفي مصر الثالثة بعد منتصف الليل).
وأهم ما استوقف نظري العابر في هذه المشية السريعة، هذا العدد الضخم من الواقفين على جوانب الشوارع من رجال ونساء، وقفوا وظهورهم مسندة إلى جدران المحلات التجارية، ينظرون متفرِّسين في المارة، وعليهم جميعًا علامات التعطُّل وأمارات الملل والضجر، وانتهى بي الطواف إلى متنزَّه صغير فيه تمثال لبيتهوفن، وفي ركن من المتنزه ازدحم الناس جماعات جماعات، ووقف في كل جماعة خطيب كأنها «هايد بارك» أخرى.
إنني لا أشك في أن عددًا كبيرًا من المزدحمين في هذا الميدان يُكِنُّون في صدورهم استعدادًا للجريمة؛ فذلك بادٍ في ملامحهم: ترى الواحد منهم وقد أمال قبعته على جبهته ونظر بعينه إلى أعلى من تحت إطار القبعة، ووضع سيجارة مهملة في فمه المعوج قليلًا إلى أحد جانبيه يبدو الاستهتار، بل اليأس على كثيرين منهم؛ فالظاهر أن كثيرين من هؤلاء قد جاءوا إلى «لوس أنجلس» يبحثون عن عمل … فلم أخلُ من خوف خفيف وأنا أقتحم هذا الزحام … كان هناك جماعة احتدَّت المناقشة بين أعضائها، فوقفتُ بينهم أسمع، وكان المتكلم حين وقفت زنجيًّا، كان يتكلم إلى ثلاثة آخرين: زنجي آخر ورجل وامرأة أبيضان، فقال الزنجي بحرارة وانفعال إن الله إذا أراد له ألا ينتحر فليبعث إليه بشيء من الخبز، أما أنه لا يرسل خبزًا ثم لا يسمح بالانتحار فاستبداد منه … فرد عليه الزنجي الآخر داعيًا إياه إلى صدق الإيمان بالله، وإلى النظر إلى الأمور من جانبها المضيء، قائلًا له: إنك كمن يبحث في هذا العالم عن ثقوب يضع فيها عنقه، ولكن اعلم جيدًا أن مَن يضع عنقه في ثقب من هذه الثقوب اختنق وقضى … هنا تكلمت المرأة البيضاء بحرارة تؤيد الزنجي الأول في يأسه، وعاد الزنجي الأول إلى استئناف حديثه موجهًا الكلام إليَّ، وممسكًا بذراعي بيده، فضغطت بذراعي على محفظة نقودي، وما كاد يترك ذراعي حتى انصرفتُ.
الخميس ٢٨ يناير
اشتركتُ منذ الصباح في رحلة إلى هوليوود التي هي ضاحية قريبة من ضواحي لوس أنجلس … مرت السيارة الكبيرة على الفنادق تلتقط الزائرين المشتركين في الرحلة، حتى إذا ما تكامل العدد سارت بنا نحو غايتنا، والميكروفون أمام سائق السيارة ينبئ الركاب بما أراد أن ينبئهم به عن الطريق ومعالمه؛ قال عن منظرٍ مررنا به إن مخرجي السينما كثيرًا ما يستخدمون هذا المكان حين يريدون مناظر الرفييرا لأنه شبيه بها … وهكذا أخذ يعلِّق لنا عن كل ما نراه على جانبي الطريق حتى وصلنا إلى هوليوود.
ظننتُ أني سأجد هوليوود مكانًا صاخبًا بالملاهي وبالنجوم الحسان، وإذا أنا في منطقة أهدأ ما تكون المناطق، فلا مارَّة في الطريق ولا ملاهي ولا مقاهي ولا حسان ولا شبْه الحسان! إنني لا أرى شيئًا إلا مباني وطيئة امتدت على جوانب شوارع فسيحة، والصمت شامل والهدوء كامل، كأنني بين حي هادئ رحل آهلوه إلى مشتًى أو مصيف وأغلقوا أبواب ديارهم.
كان سائق السيارة يسمِّي الأماكن التي نمر بها: هذا ستوديو والت دزني، وهذا ستوديو كولمبيا، وهذا منزل «بُبْ هوب» وهكذا.
ولما وصلنا إلى ستوديو يونيفرسال دخلنا إليه بالسيارة لنطوف في أرجائه؛ فهو أيضًا مكان هادئ كأنما هو مكان مهجور، وكل ما رأيناه هناك «مناظر» مُعَدَّة للإخراج السينمائي … الحق أني لم أكن أتخيَّل أن الخداع السينمائي يبلغ هذا الحد البعيد: فهذه بحيرة صغيرة جدًّا شبيهة بالبحيرة التي تحف بجزيرة الشاي في حديقة الحيوان بالقاهرة، وإلى جانبها مجموعة من الغاب المزروع ونخلة أو نخلتان، وهنا تُؤخذ مناظر أواسط أفريقيا! … وترى ركنًا آخَر على سفح جبل كل ما فيه ثلاثة منازل أو أربعة، هي منازل صغيرة جدًّا، بل قل هي نماذج للمنازل، ثم يُقال لك هذا هو المنظر الذي مُثِّلَت فيه رواية كذا! … ترى فنطاسًا فيقال لك إن في هذا الفنطاس تُمثَّل مناظر ما تحت الماء من غواصات وغيرها! … ترى عربة قطار صغيرة جدًّا وقاطرة صغيرة جدًّا كذلك، وإذا بهذه «اللعبة» هي القطار الذي يستخدمونه إذا أرادوا قطارًا؛ في ركن من أركان الاستوديو أكداس من ألواح الخشب كأنها بقايا بيت مهدم، هذه الألواح الخشبية التي يقيمونها لتكون الشوارع والمدن! … ترى هناك بيتًا صغيرًا من الطوب الأحمر، هو الكنيسة التي يمثلون فيها حفلات الزواج؛ إذا أرادوا ثلجًا متساقطًا أسقطوا في الهواء رقائق الخبز المقدد بعد طلائه لونًا أبيض فتتطاير الرقائق خفيفة في الهواء كما يتطاير ثلج الشتاء … كل شيء غاية في البساطة، وإني لأدهش دهشة لا حد لها كيف يمكن تأليف المناظر العظيمة التي يؤلفونها في الأفلام السينمائية من هذه البسائط الساذجة؛ فالظاهر أن الخداع السينمائي أكثر مما كنت أظن بألف ألف مرة.
خرجنا من الاستوديو وقصدنا ما يسمونه «وعاء هوليوود» وهو منخفضٌ على هيئة الوعاء، تُعْقَد فيه الحفلات الموسيقية الكبرى حيث تُسْتَخْدَم جدران «الوعاء» لجلوس المستمعين على مقاعد تتدرَّج مع تدرُّج الجدران.
عُدتُ إلى مدينة «لوس أنجلس» أجول في أرجائها؛ فدخلت المكتبة العمومية، وبناؤها شديد الشبه بنادي الأطباء في القاهرة، يجد الداخل على يساره غرفة للمجلات امتلأت مقاعدها بالقارئين، وعلى يمينه غرفة للصحف اليومية امتلأت مقاعدها كذلك، ثم تدخل إلى بهوٍ أوسط، فترى جدرانه مغطاة برفوف عليها أحدث الكتب صدورًا، وكل مجموعة من رفوف وُضِعَت إلى جانبها مقاعد تمكِّن من الاطلاع السريع على هذه الكتب الجديدة؛ وبعدئذٍ دخلتُ غرفة فسيحة خُصِّصَت للمؤلفات التي كُتِبَت باللغات الأجنبية (أي غير الإنجليزية) فتتبعت كل ما أذكره وما لا أذكره من لغات الأرض، لكني لم أجد بينها كتابًا واحدًا باللغة العربية كأننا لسنا من هذا العالم الذي نعيش فيه … وهكذا جعلتُ أنتقل في المكتبة من غرفة إلى غرفة لأجدها مليئة بالقارئين، ولأجد اليسر كل اليسر في القراءة؛ فالكتب كلها على رفوف مكشوفة، وللقارئ أن يستعرضها كيف شاء، وأن يأخذ منها ما شاء، ثم يجلس بما اختار من كتب حيث شاء في القاعة، ويقرأ ملء شهوته، ويترك الكتب حيث هي على المنضدة، حتى تمر العاملة تدفع أمامها عربة صغيرة، لتلتقط الكتب المتروكة وتردها إلى أماكنها.
«لوس أنجلس» بما فيها ضاحية هوليوود مدينة غير طبيعية، فيها أشياء كثيرة تدل على أن أهلها مجتمع مصطنع؛ أعني أنهم مجموعة من سكان لا يجمعهم روح الانتماء إلى مدينة واحدة، هم جماعة تأتي إلى المدينة باحثة عن عمل أو منجِزة لعمل، ثم تمضي عنها، وليسوا هم كأهل كولمبيا (بولاية كارولاينا الجنوبية) مثلًا يضربون في المكان بجذور عميقة، حيث يسكنون بيوت آبائهم وأجدادهم؛ في كولمبيا مجتمع طبيعي؛ ولذلك تحسُّ فيه حرارة الحياة، وأما هنا في لوس أنجلس فالمدينة أشبه بالاستوديو السينمائي الذي شهدته في هوليوود، تقوم فيه المدن المصطنعة قيامًا سريعًا بغية أداء غرض معين، والأمر كله من أوله إلى آخره «تمثيل» … لكن «لوس أنجلس» مع ذلك مدينة عامرة بما فيها من ازدحام الناس ونشاط العمل.
الجمعة ٢٩ يناير
وصل بي القطار في الصباح الباكر إلى محطة سان فرانسسكو، وفي دخول القطار إلى حظيرة المحطة لمحتُ ماء المحيط الهادي لمحة سريعة، ورأيت مركبًا كبيرًا، فكانت هذه أول نظرة ألقيها على المحيط الهادئ، وكانت السماء غبشاء بسحاب الصبح وضبابه … محطة سان فرانسسكو لا جمال فيها، وهي شبيهة بمحطة بادنتُن في لندن، وهناك مشيت في غمرة المسافرين إلى حيث ذهب تيارهم، فانتهيت معهم إلى غرفة انتظار قبيحة المنظر، مقاعدها خشبية مطلية باللون الأزرق، ومن هناك ركبنا معدية بخارية كبيرة عبرت بنا الخليج إلى حيث مدينة سان فرانسسكو … وهو الخليج الذي يصل طرفيه كوبري أوكلاند المشهور؛ لأنه أطول كوبري في العالم، طوله ثمانية أميال وربع الميل؛ وكانت المعدية تسير بنا عبْر الخليج بحذاء الكوبري، وكانت مياه الخليج عندئذٍ هادئة جدًّا، فكأنها لوح مصقول من زجاج أزرق، فهل كان ذلك لأن الخليج مستور بالجبال؟ أم لأنها ساعة الصبح الباكر حين يهدأ البحر؟ أم لأن المحيط «هادئ» بطبعه دائمًا؟
أول ما فعلته فور وصولي إلى الفندق الذي نزلت فيه — فندق سان فرانسز — أنْ جلستُ في البهو أدرس خريطة البلد؛ لأصمم لنفسي طريقة السير؛ فطريقتي دائمًا هي السير على الأقدام فيما استطعت أن أطوف به من أجزاء المدينة التي أزورها.
كان أول مكان قصدت إليه في سان فرانسسكو بقعة يتلاقى عندها شارعان كبيران: شارع «فان نس» وشارع «ماك ألستر»، فها هنا مجموعة من الأبنية العامة، فأولًا هناك ما يسمونه «بناء الحكومة» وهو يشغل ضلعًا بأسره من ميدان مربع تتوسطه حديقة جميلة في وسطها نافورة بديعة حطَّ على حافاتها وحول جدرانها عشرات من الحمام ومن طيور الماء البيضاء؛ وقفت وسط الحديقة ونظرت مبهورًا إلى واجهة «دار الحكومة» فرأيت بناءً فخمًا تعلو وسطه قبة عالية كبيرة كقبة الكابتول في واشنطن، ومدخله مكوَّن من عدة أبواب حديدية تمتد فوقها شرفة، والأبواب والشرفة مذهبة الأطراف على نحو جميل … دخلتُ البناء ووقفت تحت قبته الرفيعة في البهو المصقول الرائع الذي قام في كلٍّ من أركانه الأربعة نجفة كبيرة على حامل، والنجفة وحاملها مذهبان بما يتناسب مع زركشة القبة من الداخل، كما يتناسب مع أبواب المدخل.
عُدتُ فعبرتُ الميدان إلى الجانب المقابل لدار الحكومة، فهناك بناء المكتبة العامة؛ تدخل فيلاقيك بهو، وترى أمامك في صدر البهو سُلَّمًا عريضًا مسطوح الدرجات تعلوه أعمدة، وسقف السلم مقوس مزخرف ببروز في حجر البناء نفسه … اصعدْ هذا السُّلم مسحورًا مبهورًا لتجد أمامك غرفة البطاقات (الفيش): هي قاعة فسيحة نظيفة مصقولة لامعة ساطعة هادئة منظمة، تتدلى من سقفها نجفة كبيرة جدًّا من البلور؛ ومن غرفة البطاقات تدخل غرفة المطالعة، وهي بدورها قاعة طويلة لا يقل طولها عن خمسين مترًا، رُصَّت جدرانها برفوف الكتب، وجلس على مقاعدها قراء متناثرون هنا وهناك، فما نزال في ساعة مبكرة من الضحى؛ والإضاءة في غرفة المطالعة مصدرها ثلاثة أشرطة تمتد بامتداد القاعة: ضوء هادئ وذوق هادئ … البناء كله مصمَّم على أساس الذوق الهادئ؛ فالجدران لونها لون الحجر الجيري بغير طلاء، والبلاط بنِّي اللون في اصفرار، إنه مصقول مصقول مصقول، كل جزء في الأرض مرآة من الحجر …
هناك وقفت متذكرًا غرفة البطاقات في مكتبة باب الخلق بالقاهرة؛ حيث جلس الموظفون أمام مناضد تكدست عليها أوراق قذرة؛ وحيث أحاط بالجدران صواوين قذرة، وملأ الأدراج بطاقات قذرة … وقد يقول قائل: على رِسْلِك يا أخي، إننا شعب فقير، فلا تقارن بين أمريكا ومصر؛ وأنا أجيب قائلًا: ما شأن الفقر بالحاجز الخشبي الأدكن القذر القبيح الذي أقاموه في غرفة البطاقات هناك ليحجز جزءًا من القاعة خاصًّا بالسيدات، حتى أصبح المكان كله كومة من قبح الذوق وقلة الثقافة وقذارة الطباع وتأخُّر التفكير؟! إن هذه الأماكن العامة هي غرفة الاستقبال بالنسبة إلى الشعب كله؛ أعني أنها من البلد بمثابة غرفة الاستقبال في المنزل، هي أنظف ما فيه، وأجمل ما فيه، هي العنوان هي الذوق العام، هي الأمة كلها عند الزائر الغريب؛ لأن الزائر لا يدخل البيوت وإنما يزور الأماكن العامة.
خرجتُ من المكتبة وعُدتُ فعبرتُ الميدان راجعًا إلى دار الحكومة، فاخترقتُ بناءها لأخرج في الشارع من الناحية الأخرى، وهناك تجد عند خروجك بناءين توءمين حديثين بينهما حديقة لها بوابة واسعة مذهبة تتناسب مع الزخرفة الذهبية التي تزخرف دار الحكومة المقابلة لها … وأحد هذين البناءين التوءمين دار الأوبرا، والآخر يُسمى «بناء المجاهدين»، وكلا البناءين قد أُقيما لتخليد ذكرى شهداء الحرب، وفي «بناء المجاهدين» اجتمع مندوبو الدول عقب الحرب العالمية الثانية؛ حيث أعدوا الوثيقة التي على أساسها أُنْشِئَت منظمة الأمم المتحدة.
وبعدئذٍ سرتُ حتى بلغتُ «متنزه البوابة الذهبية»، وظننتُ مخدوعًا أنني سرعان ما أعبر هذا المتنزه سائرًا على قدميَّ لأبلغ حافة المحيط، فمَن ذا أدراني أن «متنزه البوابة الذهبية» تبلغ مساحته أكثر من ألف فدان، وأنه يمتد طولًا ثلاثة أميال ونصف ميل؟
في المتنزه متحف لنباتات المناطق الحارة ومتحف للأسماك ومتحف للتاريخ الطبيعي ومتحف للآثار والفنون وحديقة يابانية للشاي، وقد كنت أريد أن أطوف بهذه الأماكن كلها … لكني مشيت ومشيت ومشيت ولم أبلغ شيئًا، حتى لقد ظننت أني ربما كنت أدور في مماشي المتنزه فلا أتقدم، وأردت أن أسأل أول مَن ألاقيه من مارَّة … لا أحد في الطريق يمشي لأسأله، كل ما تراه عِقْد متصل الخرزات من سيارات تنساب في المماشي … وأخيرًا هذا رجل هناك بين الشجر يتنزه، فقصدت إليه أسأله، فوجدته أصم لا يسمع، فكتبتُ له السؤال على الورق، فراح يحدِّق بعينه التي كاد يلصقها بالورق، ثم اعتذر عن عدم إمكان رؤية المكتوب، وهو في اعتذاره لم ينطق، بل أشار بيده إشارات دالة على ما يريد، وإذَن فهو كذلك أبكم … أصم وأعمى وأبكم، هذا هو الرجل الوحيد الذي صادفتُهُ ماشيًا في الحديقة يتنزه.
استعنتُ الله واستأنفت السير، وما لي وما يؤدي إليه السير؟ إنني أخترق جنةً على الأرض؛ فهذا المتنزه لا بد أن يكون وحيد نوعه في العالم! لقد كانت هذه البقعة من الأرض حتى سنة ١٨٧٠م كثبانًا رملية صحراوية جرداء، وبفضل رجل واحد أقاموا له تمثالًا في وسط المتنزه هو «جون مكلارن» أُنبتت هذه الجنة على الأرض؛ انظر إلى مدى ما يستطيع رجل واحد أن ينشئه! ويُقال إن في الحديقة أكثر من أربعة آلاف نوع من أنواع النبات، جيء بها من كل أنحاء العالم.
وأخيرًا وصلت إلى مكان المتاحف من هذا المتنزه الفسيح، أولها «دي ينج» للآثار والفنون، طُفْتُه مسرعًا، وهو متحف على كثير من الطرافة؛ فمثلًا تجد غرفةً كل ما فيها من معروض هو أن سقفها منقول من كنيسة بإسبانيا، وغرفة أخرى نافذتها منقولة من كنيسة بأوروبا، وثالثة جدرانها هي نفسها جدران غرفة فرنسية من العصر الفلاني؛ وفي المتحف غرفة مصرية فيها بعض الأواني الأثرية، وفيها مومياء وُجِدَت في الفيوم، وهي من عهد البطالسة وأهداها إلى المتحف «دي ينج» الذي سُمِّي المتحف باسمه.
ورأيت في طريقي إلى متحف الأسماك تماثيل هنا وهناك لرجال الموسيقى والأدب: تمثال لبيتهوفن، وتمثال ﻟ «فردي» (صاحب أوبرا عايدة)، وتمثال جميل ﻟ «سير فانتيز» (مؤلِّف دون كيشوت) أُقيم على كومة من الحجر، وركع أمامه فارسان لعلهما يصوِّران دون كيشوت وسانكو بانزا …
ثم دخلتُ الحديقة اليابانية لأستريح وأشرب الشاي؛ فقد صممت خطتي منذ بداية الصباح أن أجعل هذه الجلسة راحة بين جهادين … الحديقة يابانية في نباتها، ويابانية في تماثيلها، وفي الأعمدة المنتثرة في أرجائها، وفي الكباري المُقامة على قنواتها، وفي تمثال كبير لبوذا أُقيم فيها … وأخيرًا دخلت «كشك» الشاي، وهو كشك أمامه فضاء مربع صغير، تعلوه مظلة يابانية، رُصَّت تحتها مناضد حمراء السطوح سوداء القوائم، وحولها مقاعد كأنها مناضد صغيرة بنفس التقسيم والتلوين، وتجيئك من الكشك فتاة يابانية بشاي على الطريقة اليابانية.
السبت ٣٠ يناير
ذهبت إلى الحي الصيني بسان فرانسسكو … هو حيٌّ بأَسْرِه: اللافتات مكتوبة بالكتابة الصينية (وتحتها ما يساويها بالإنجليزية) حتى الكنيسة هناك، وجمعية الشبان المسيحيين كُتِبَ اسمها بالصيني، ومعظم المباني صينية الطراز، أو قُل إن معظمها قد طُلِيَ بألوان ورسوم يبديها على هيئة الطراز الصيني في البناء؛ وأهم شارع هناك — شارع جرانت — تراه عامرًا بالمطاعم والدكاكين الصينية … تركت الحي الصيني مصممًا أن أعود إليه لجمال وقعه في نفسي.
الحقيقة أن سان فرانسسكو بصفة عامة هي الآن معشوقتي بين بلاد العالم التي رأيتها، وإنه ليُخيَّل إليَّ أنها أخف بلاد الأرض دمًا وأحلاها طعمًا … ليس إعجازها في ضخامة مبانيها؛ لأن مبانيها ليست ضخمة، ولا في كبر حجمها واتساع رقعتها، لكنها مدينة ذات طابع جذاب، ولا أدري أين على وجه الدقة موضع الجاذبية منها؟ أهو شوارعها الصاعدة الهابطة مع سفوح الجبل؟ أهو موقعها على شاطئ المحيط؟ أهو هذه المطاعم الكثيرة والمراقص الكثيرة والفنادق الكثيرة، وكلها بالإجماع حسن الذوق؟ أهو في كثرة زائريها، وللزائرين روح مرحة يشيعونها في الشوارع والدكاكين والفنادق؟ أم هو في هذه الأشياء كلها مجتمعة؟ السعيد السعيد مَن أراد له الله أن يقيم في سان فرانسسكو.
تركت الحي الصيني مؤقتًا، ذلك الحي الذي خلع على سان فرانسسكو ما يوهم بالقِدَم، وبالتالي خلع عليها مسحة من جلال الزمن، فتميزت بذلك من سائر بلدان الولايات المتحدة التي طابعها الأول هو الحداثة …
وقصدتُ إلى كوبري سان فرانسسكو الجبار — كوبري أوكلاند — ظانًّا أنني مستطيع أن أسير عليه لأستمتع بلمسه، وهو كوبري يكاد يبلغ طوله ما يساوي المسافة بين وسط القاهرة وهرم الجيزة، يرتكز في وسطه على صخرة، واعتماده بعد ذلك على التوازن وارتكاز نصفيه أحدهما على الآخر … وبعد أن سرتُ تجاهه نحو ساعة، التمستُ طريقي مهتديًا بالخريطة حينًا وبالسؤال حينًا، وجدت ألا مكان به للمشاة! … وبينما كنت أتحدَّث — وأنا في طريقي إلى الكوبري — مع رجل استفسرته الطريق، جاء رجل أسود وخاطب محدثي قائلًا: اسمح لي بكلمة واحدة … فقاطعه الأبيض قائلًا: لا مال … عاد الأسود يقول: اسمح لي بكلمة واحدة … فقاطعه الأبيض قائلًا: لا مال … فانصرف الزنجي، ومشيتُ أحدِّث الأبيض فقال لي هذا: مساكينُ هؤلاء الزنوج؛ إنهم مرضى، هذه هي العلة الأساسية لتدهورهم، قد تسمع من كثيرين قولهم بأن الزنوج لا يصلحون للعمل، وأنهم بغير كفاية، وما إلى ذلك، لكن لا، هم مرضى لا أكثر ولا أقل، ولو عُولجوا لصلح أمرهم.
صممتُ أن أذهب إلى طرف المدينة الشمالي، إلى حيث شاطئ المحيط، وركبت سيارة عامة إلى هناك … «الكورنيش» عند نقطة نزولي من السيارة العامة شبيه جدًّا «بالكورنيش» في الإسكندرية عند سيدي بشر، لكن الشارع ضِعْف شارع الإسكندرية اتساعًا؛ هناك «لونابارك» ودكاكين ومطاعم ومحلات للهدايا ولعب الأطفال … المكان بصفة عامة لا يليق بجمال سان فرانسسكو … وعلى شارع المحيط آنًا بعد آن ترى منظارًا مقرِّبًا مثبتًا على قائمة، فتضع فيه قطعة من النقد إذا شئت أن تستخدمه لرؤية المحيط عند أبعادٍ لا يأتي إليك بها نظرك المجرد.
كنتُ في نشوة أن أراني سائرًا إلى جانب المحيط الهادي، وتمنيت عندئذٍ أن أتذكر القصيدة الإنجليزية «عند أول نظرة إلى المحيط الهادي» … جزء كبير من شارع المحيط يحف به حائط الجبل صخرًا خشنًا لا أظنه يصلح للصعود، على جزئه الأعلى خضرة وشجر، وترى في حضن الحائط الجبلي طواحين هوائية … وبعد مشية قصيرة وصلت إلى «بيت الصخرة» الذي يُقال إنه معروف في العالم كله بجودة طعامه وحسن موقعه … دخلته، ومن المصادفات السعيدة أنْ دخل في اللحظة نفسها عروسان بثياب العرس، ومعهما مجموعة من الأصدقاء تحمل طاقات من الزهر الجميل، فاستبشرت بذلك.
على مقربة من «بيت الصخرة» وفي وسط ماء المحيط صخرتان كبيرتان تُعرفان باسم «صخرتا سباع البحر»؛ لأنهما تموجان بما عليهما من سباع البحر … وأمام «بيت الصخرة» في الشارع تمثال كبير لبوذا، لكنه بوذا بثياب الحرب! ولا أفهم لهذا معنًى إلا أن يكون المقصود أن هذه هي البوذية التي جاء بها الصينيون إلى هذه البلاد، بوذية كفاح أو شيء كهذا … وكذلك يقوم على جانب التمثال عمود طويل جدًّا يمثِّل الفن الهندي القديم (أعني فن الهنود الحمر، سكان البلاد الأصليين)، وهو عبارة عن أمساخ رُكِّبَ أحدها فوق الآخر حتى يتكون من سلسلتها عمود طويل.
وزرتُ الميناء حيث عشرات السفن أحجامًا مختلفة، وأردت أن أعود من الميناء إلى وسط المدينة بالترام؛ ففي سان فرانسسكو ترام «أثري» يحتفظون به ليكون مَعْلَمًا من معالم المدينة، وهو الترام الذي يُطْلَق عليه «عربات الحبل»؛ لأنه يُشَدُّ بحبل معدني ضخم ممتد تحت الأرض تسمع كركرته تحت القضبان، الحبل يتحرك تحت الأرض بقوة الكهرباء، ويكفي لسائق الترام أن يزيح مفتاحًا قابضًا لتمس العربة ذلك الحبل المتحرك، فيسير مع حركته.
ركبتُ هذا الترام في شارع صاعد فكنت كأنني في عربة من عربات «اللونابارك»، والشارع صاعد إلى قمة تُسمى «تل نُب»، وأصل التسمية أنه على هذه القمة كان يسكن أثرى الأثرياء الذين أنشئوا الخطوط الحديدية في أمريكا، ولما كانوا يسكنون القصور الفخمة هناك، أطلق الناس على هذه البقعة اسم «نابُب» (التي هي كلمة كانت تُطْلَق على أمراء الهند)، ثم اختُصِرَت الكلمة مع الزمن فأصبحت «نُب»، ولا يزال التل معروفًا بهذا الاسم، على الرغم من نزوح الأثرياء عنه.
عُدتُ إلى الفندق عصرًا لأستريح، وطلبتُ مفتاح غرفتي رقم ٥٦١، فبحث الرجل عنه ولم يجده، فلما أكدتُ له أني تركته عنده في الصباح أعطاني مفتاحًا احتياطيًّا، وطلعتُ إلى غرفتي — أو على الأصح ما ظننتها غرفتي — رقم ٥٦١، ودخلتُ فوجدتُ الأثاث مختلفًا في وضعه وترتيبه عن أثاث غرفتي كما تركتها، ثم لم أجد من أمتعتي شيئًا، ففزعتُ وأسرعتُ إلى الخادمة أسألها عن أشيائي في غرفة ٥٦١؛ فقالت: إن ٥٦١ غرفة سافر صاحبها اليوم وهي خالية، فهرولت جازعًا إلى المصعد، ونزلتُ إلى الإدارة، لكني فجأة رأيت أن أتأكد أن هذا هو رقم غرفتي، فوجدت بعد البحث أني أخطأت الرقم، وأن غرفتي هي ١٠٦١، فأخذتُ المفتاح الصحيح وطلعتُ لأجد غرفتي وأشيائي سالمة كاملة … فافرض — وهو فرض كان قريب الوقوع — أنني دخلت الغرفة ٥٦١ بالمفتاح الاحتياطي الذي أخذته، فوجدتُها مسكونة بأصحابها، فمَن يصدقني عندئذٍ أنني أخطأت رقم غرفتي؟ إن الحياة الواقعة فيها من المصادفات ما قد يظنه الواحد منا مستحيل الوقوع، ثم ترانا نأخذ في التحليل والتعليل، وكثيرًا ما يكون الواقع أبسط جدًّا من الظنون.
خرجتُ قُبيل الغروب قاصدًا إلى ما يسمونه بالقمتين التوءمين، وهما جبلان متجاوران متشابهان، تغطيهما البيوت إلا عند القمتين اللتين تُرِكَتَا خضراوين بما عليهما من شجر … صعدتُ الجبل بالسيارة العامة في طريق يدور صاعدًا حول السفح الصاعد، وعُدتُ بالسيارة نفسها؛ فقد اكتفيت أن أنظر منها إلى سان فرانسسكو في ضوء الغروب العنبري اللون: منظرٌ تنحبس له الأنفاس في الصدور؛ السفوح كلها مغطاة بالمنازل التي يغلب عليها اللون الأبيض؛ إن المنازل تموج مع موج الجبال ارتفاعًا وانخفاضًا … ها هنا إلى جانبي — وأنا على مقربة من القمة العالية — منازل صغيرة جدًّا، وفي هذا المكان المرتفع، ومن هذا المنزل الصغير المنعزل خرجتْ سيدة تحمل طاقة من الزهر لفَّتها بقرطاس من الورق … أقسم بالله أني عندئذٍ ما تمنيت في الدنيا إلا أن أسكن منزلًا من هذه المنازل سكنى الإقامة الدائمة، مهما يكن عيشي بعد ذلك من الشظف؛ لقد قال الخيام: إن أعز ما في دنياه هو ظل شجرة منعزلة في الفلاة، ليس معه فيه إلا رغيف وَدَن خمر وامرأة، وأنا أعدِّل قليلًا في أمنية الخيام: فأعز ما في الحياة عندي هو أن أعيش في بيت صغير كهذا، على هامش مدينة جميلة كهذه، ويكفيني بعد ذلك رغيف، ولست بحاجة إلى دَنِّ الخمر الذي اشتهاه الخيام، بل لست بحاجة إلى المرأة التي تمناها، إلا أن تكون امرأة أحبها، فما عادت كل امرأة تصلح للزمالة في مثل هذه الحياة البسيطة التي أرجوها لنفسي.
وقصدتُ بعد القمتين التوءمين إلى «برج كُويت» على قمة تُسمى «تل التلغراف» … وقصة هذه القمة والبرج الذي يقوم عليها هي أنه في أول نشأة المدينة — أعني عند أول انضمامها إلى الولايات المتحدة — كان على هذا الجبل مكان لمراقبة السفن الداخلة في الخليج، وحدث ذات يوم أن أقبلت على المدينة قافلة من السفن تحمل نزلاء جددًا، فأسرع المراقبون من فوق قمة الجبل إلى تبليغ أهل المدينة، فتنبَّه هؤلاء وصدُّوا الخطر الداهم، ومن ثَمَّ سُمِّي المرتفع بتل التلغراف، ثم جاءت بعد ذلك سيدة ثرية اسمها «كويت» وأقامت هذا البرج العالي فوق هذه القمة، فسُمِّي البرج باسمها … وفي البرج مصعد كهربائي يصعد إلى قمته حيث يمكن للرائي أن يشرف على سان فرانسسكو بأَسْرِها؛ لكني لما وصلت إلى مكان البرج كان الليل قد أقبل، فلم أصعد إلى قمته؛ لأن المصعد كان قد انتهت ساعات عمله، واكتفيتُ بوقفتي على قاعدة البرج حيث أطللت على سان فرانسسكو، فكانت بأضوائها بهجة أي بهجة، ورأيت من مرتفعي ذاك الجسرين العظيمين: كوبري أوكلاند يمتد على جانبيه عقدان طويلان من مصابيح؛ وفي الناحية الأخرى من المدينة رأيت كوبري البوابة الذهبية … إن هذين الجسرين لمن الأعمال الهندسية التي تشهد بجبروت الإنسان في هذا الكون.
وعُدتُ إلى الفندق مارًّا في طريقي بميدان بور تسموث، وله أهمية تاريخية وأهمية أدبية، فأما أهميته التاريخية فهي أنه أول مكان نُصِبَ فيه العَلَم الأمريكي عند استيلاء الولايات المتحدة على سان فرانسسكو سنة ١٨٤٦م على يدي رجل يُدْعَى مونتجومري؛ وأما أهميته الأدبية فهي أن روبرت لويس ستيفنسن — مؤلف جزيرة الكنز — كان كثيرًا ما يقيم هناك؛ ولذلك أقاموا له تمثالًا في الميدان (وبهذه المناسبة أذكر أن الصخرة التي تتوسط كوبري أوكلاند فيرتكز عليها جانبا الكوبري في توازن وتساند، تُسمَّى جزيرة الكنز) … وكذلك أوحت سان فرانسسكو إلى أديب أمريكي عظيم بكثير من أدبه، وأعني به «مارك توين».
سأخلِّف سان فرانسسكو صباح الغد وفي القلب حسرة؛ إنها مدينة تُحَبُّ، هي كالمرأة الجذابة في غير عهر، كالمرأة حيث تضحك فتملأ المكان مرحًا دون أن تقهقه في تسفُّل مرذول، كان يُخيَّل إليَّ دائمًا وأنا سائر في طرقاتها ذات الأضواء البهيجة أن أهلها في عيد؛ إذ لا يمكن أن تكون هذه هي الحياة الرتيبة الكئيبة التي ألِفها الناس في سائر أنحاء الدنيا خلال ساعات العمل والكفاح، ومع ذلك فهي المدينة الثانية — بعد نيويورك — من الوجهة المالية في أمريكا كلها، بها حيٌّ مركزه شارع مونتجومري ويُسمَّى — على سبيل المجاز — شارع وول، ليقابل بذلك نظيره شارع وول في نيويورك، هذا مركز المال على الساحل الشرقي، وذلك مركز المال على الساحل الغربي.
الأحد ٣١ يناير
تركتُ الفندق في سان فرانسسكو في الصباح الباكر؛ لأن القطار يغادرها قبل الساعة الثامنة، وبيني وبين المحطة مسافة طويلة فيها عبورٌ للخليج … كان القطار الذي جئت به من لوس أنجلس إلى سان فرانسسكو يُدْعَى «البومة»، ولعل هذه التسمية راجعة إلى أنه يقطع الطريق في ظلمة الليل؛ إذ يغادر لوس أنجلس ساعة الغروب ويصل إلى سان فرانسسكو ساعة الشروق، أما القطار الذي سأسافر به اليوم من سان فرانسسكو قاصدًا إلى مدينة سياتل فاسمه «شاستا في ضوء النهار»، و«شاستا» اسم بحيرة في الطريق، وكذلك اسم سلسلة جبلية من أعلى الجبال في روكي، و«ضوء النهار» جزء من الاسم مقصود؛ لأن عربات القطار قد صُمِّمَت على أساس أن يرى المسافر كل ما تُمْكِن رؤيته من الطريق الجبلي الذي سنمر فيه.
وصلتُ إلى مكاني من القطار، وهو في العربة الأخيرة التي تُسمى «الصالون»، والعربة كلها عبارة عن شرفة من زجاج لاتساع نوافذها، وليس بها مقصورات ولا حواجز، كل ما فيها صفَّان من المقاعد ذوات الأذرعة، تدور على محاور في قواعدها، فبأقل جهد يستطيع الجالس أن يدور بكرسيه ليتجه به إلى أي وجهة شاء؛ حتى يرى المنظر كله من يمين وشمال وأمام ووراء.
غادرنا سان فرانسسكو حين كان ضباب الصبح الكثيف يحُول دون الرؤية؛ لكن ما هي إلا أن طلعت الشمس رويدًا وانجاب الضباب، وتمتعنا بنهار مشرق كالبلور الصافي، فكانت فرصة نادرة مكنتني من رؤية الطريق الجبلي الذي كنت أتوق إلى رؤيته.
في هذا القطار وسائل كثيرة للراحة والمتعة، فعدا «الصالون» الفخم الذي كنا نجلس فيه، كانت هناك طبعًا عربة المطعم، ثم عربة للشراب، ثم عربة ثالثة يسمونها المقصف حيث تُشْرَب القهوة وتُؤْكَل الوجبات الخفيفة لمن أرادها … هذا القطار هو «أمريكا» من نواحٍ كثيرة، من حيث العلم والراحة في الحياة والفخامة والغنى.
ظللنا مسافة طويلة بعد مغادرتنا لسان فرانسسكو ومياه الخليج عن يسارنا وحافة الجبل عن يميننا؛ وبعد قليل كنا ننساب في أرض زراعية إلى مدى البصر، لا أثر فيها للجبال ولا ما يشبه الجبال؛ فالمنظر شبيه بما يراه المسافر في الدلتا المصرية، ألسنا في جبال روكي؟ أين هي جبال روكي؟!
فلما قضينا أربع ساعات أو خمسًا تغيَّر المنظر، وبدأنا نزحف في وسط الجبال إلى نهاية الرحلة … الجبال أول الأمر يغطي قممها قليل من بياض الثلج كأنه جير متناثر، وبقية السفوح تغطيها أشجار الصنوبر … اقتربنا من بحيرة شاستا، والجبال تطوقها من كل أقطرها، من أمام وخلف ويمين وشمال، وكلها أخضر بما عليها من شجر يغطي السفوح كلها من القمة إلى الوادي؛ نفذنا خلال الجبل في نفق معتم طويل، وخرجنا منه لنعبر بحيرة شاستا على كوبري قيل إنه أعلى كوبري في العالم؛ إذ يزيد ارتفاعه على ستمائة قدم … المنظر ونحن على الكوبري عبْر البحيرة ومن حولها الجبال من كل ناحية — بعضها مثلوج القمم — منظر سويسري صِرْف، وانتهينا من البحيرة لننفذ خلال جبل آخَر من نفق يخترقه، ولم نخرج من النفق إلا لندخل نفقًا ثانيًا فثالثًا.
هذه هي جبال روكي كما كنت أتمنى أن أراها؛ فالقطار يزحف عليها زحفًا ويخترق بعضها اختراقًا، كل الفرْق بين ما تخيلتُه وما رأيته هو أنني كنت أتخيل جبال روكي صلعاء الصخور، فوجدتها مغطاة بالشجر في معظم أجزائها.
القطار لا يستقيم له الطريق خمس دقائق كاملة؛ فهو يتلوى كالثعبان، ينثني ثم يعتدل لينثني من الناحية الأخرى؛ الانثناء قد يبلغ أحيانًا من الحدة أن يتقابل طرفا القطار، فتكون القاطرة مقابِلَة للعربة الأخيرة التي هي عربة الصالون التي أجلس فيها، خصوصًا في موضع عند منبع نهر ساكرامنتو … كنا على فترات متقاربة نقطع نهرًا ضيقًا سريع الجريان هو نهر ساكرامنتو، يعبره القطار من يمينه إلى يساره ثم من يساره إلى يمينه.
إنني في نشوة مما أرى، فكم مرة رأيت هذا المنظر وأشباهه في السينما وفي الصور، لكنه لم يحرِّك النفس جزءًا من ألف ألف جزء مما تحركها الطبيعة الحية، ذلك هو الفرق بين الطبيعة الحية الطازجة والطبيعة المحفوظة في العلب، ولأنحرف قليلًا عن وصف رحلتي لأقول إن هذا هو بعينه الفرْق بين ثقافتنا وثقافتهم، وعقليتنا وعقليتهم؛ هم يفكرون «على الطبيعة» — كما يقول المهندسون — ونحن نفكر تفكيرًا «مجففًا»، ومن ثَمَّ كانت الأصالة عندهم والتقليد عندنا؛ ثقافتنا طبيعة محفوظة في علب تعفَّنت من طول ما حُفظت، وثقافتهم تساير الطبيعة وتواجهها فتتجدد معها في كل ربيع.
هناك في جوف الوادي بيت قائم وحده؛ إنني لأستغني عن كل ما لديَّ من حبي لوطني واعتمادي على وظيفتي وما أملك من مال قليل بل من ثياب وأثاث، لأعيش في هذا البيت المعتزل؛ أنا صادق في هذه الرغبة، فإذا مررت بمدينة كبيرة لا يطوف ببالي أمنية كهذه، لكنها أمنية تطوف كلما رأيت بيتًا قائمًا في الخلاء وحده بعيدًا عن كل آهل ومأهول.
تصور روح الكشف التي دفعت نفرًا قليلًا من الناس إلى ارتياد هذا الجزء الغربي الجبلي من القارة الأمريكية، ولم تكن بهم حاجة إلى مال؛ فقد كانوا ذوي ميسرة في أوطانهم من الساحل الشرقي، لكنه الكشف وروح المغامرة … لهذا أتوقَّع أن أجد اختلافًا كبيرًا في أخلاق الناس هنا في الغرب عنها في شرق الولايات وجنوبها … أهل الغرب لا يزال يُطْلَق عليهم حتى الآن اسم «رواد الحدود»؛ لأنهم ارتادوا هذه الأصقاع، فكان عليهم أن يقاتلوا الهنود الأصليين من سكان البلاد، كما كان عليهم أن يذللوا هذه الطبيعة المستعصية إلا على ذوي الإرادة الحديدية القوية.
إنه لا عجب في أن يكون من أقوى ما يطبع الروح الأمريكي روح المغامرة، فكيف بدءوا حياتهم؟ ألم تكن بدايتهم هجرة من أوروبا فرارًا من الاضطهاد الديني وحرصًا على حريتهم؟ جاءوا إلى هذه الأرض الجديدة لينشئوا لأنفسهم حياة جديدة في بلد جديد كانوا يجهلونه، وكان عليهم أن يرتادوه وأن يمهدوه … بدأت المغامرة في الخلق الأمريكي منذ البذور الأولى، أتمها هذا النفر من رواد الحدود الذين زحفوا من شرق البلاد إلى غربها، وفي أقل من مائة عام صنعوا هذا كله.
وأعود فأقول ما أبعد الفرْق بين الرائد الكاشف وبين مَن يمشي بعد ذلك في الطريق الممهدة! إن الإنسان ليقاتل الطبيعة أول الأمر حتى إذا ما أذعنت له عاد بدوره فأذعن لها وسكن إليها سكون العابد في محرابه، فذلك البيت الصغير المعتزل هناك في جوف الوادي لا يكون إلا لعابد خشع للطبيعة وهي متشحة بكل هذا الجلال.
القطار ما يزال ينثني ويعتدل ثم ينثني؛ إنه يدور حول السفح في شبه دائرة كأنه لعبة الطفل.
الثلج يزداد كثافةً كلما سرنا نحو الشمال، كان المنظر بادئ ذي بدء أكثره خضرة وأقله بياض، فأصبح الآن أكثره بياض وأقله خضرة.
أمامي الآن جبل يختلف عن كل ما مررنا به من جبال؛ لأنه جبل عاري الصخور مدبب القمم، في أعلاه قمم ثلاث كلٌّ منها مربع الشكل مدبب الأطراف، إنه يشبه أن يكون قلعة من قلاع العصور الوسطى … سألت إن كان لهذا الجبل اسم، فقيل لي إن اسمه «جبل القلعة» … القطار الآن ينثني أحدَّ انثناءة له في الطريق حتى ليكاد ينطبق على بعضه نصفين، وتُسمى هذه الانحناءة «بالقنطرة»، وهي عند منبع نهر ساكرامنتو، وليس ببعيد أن تكون «القنطرة» كلمة مأخوذة من مثيلتها في اللغة العربية، جاءت إلى هنا على ألسنة الإسبان.
يسير القطار مع نهر ساكرامنتو عند منبعه في انعراجاته وانثناءاته؛ إذ لا يسعه غير هذا؛ فالنهر عند منبعه مجرًى ضيق في وادٍ عميق، تحفُّ به جدران الجبل من ناحيتيه، فليس أمام القطار إلا بطن الوادي عند مجرى النهر …
زادت كثافة الثلج حتى لترى أطراف الأشجار العليا بارزة من أكداس الثلج كرءوس الحراب، وبقيتها غريق في الثلج، كما يحدث لأعواد الذرة في مصر حين يدركها فيضان النيل، فيغرقها الماء إلى شواشيها … عجيب منظر الثلج يملأ الدنيا عاليها ووطيئها رغم إشراق الشمس بكل هذا الصفاء والوهج؛ إنني لا أكاد أصدِّق أن الدنيا خارج القطار باردة كل هذا البرد الذي يملأ الأرض والجبال ثلجًا؛ إن بيني وبين الثلج المتراكم لوح من زجاج، أرى الثلج خلال زجاج النافذة وأنا في مكاني الدافئ، ألا إنه لبرهان أقوى برهان على أن رؤيتك للشيء لا علاقة لها بإحساسك بذلك الشيء، فهكذا الغنى والفقر والصحة والمرض؛ الغني يرى الفقير ويعلم أنه موجود، ويعلن أنه شاعر بشعوره حاسٌّ بإحساسه، مع أن ذلك ضرب من المحال، إلا أن يُوهب الإنسان عبقرية لا حدَّ لها في مشاركة الناس مشاعرهم وإحساسهم، وإلا فهل يمكن لي الآن في مكاني هذا الدافئ أن أرتعش من البرد لمجرد أنني أرى الثلج خارج زجاج النافذة؟ هذا مستحيل، مهما حدَّقت النظر في الثلج الذي لا يبعد عني إلا بوصات قليلة.
القطار يغطس في الأنفاق المظلمة ثم يطفو ثم يغطس ويطفو، كأنه الطائر على سطح البحر يطير ثم يهبط لينغمس في الماء لحظة ثم يعود إلى الظهور ليطير … على شفة بارزة من سفح الجبل امتد طريق السيارات، تراها جارية واحدة بعد واحدة تلمع في ضوء الشمس … ليس في أمريكا كلها مكان مهجور مهما بَدَا في الظاهر أنه كذلك.
القطار ما ينفك في انثنائه ودورانه؛ إنني لا أحب لونه الأحمر لأنه شبيه بلون قطارات البضائع في مصر، ولولا هذا لقلتُ إن الإنسان حين يحلم برحلة في قطار تبلغ حد الكمال الذي ليس بعده كمال، فلا يمكن أن يطير به خيال الأحلام إلى ما هو أبلغ من هذا وأروع وأبدع … كيف يمكن في الدنيا أن تكون الرحلة بالقطار أجمل من هذه الرحلة: هذا الصالون ذو المقاعد الدوارة وجدران الزجاج، وعربة المطعم وعربة الشراب وعربة المقصف وجزء من عربة للمكتبة، ثم المناظر التي نخوض فيها خوضًا منذ ساعة الظهر حتى أظلم الليل! ثم هذه الشمس الساطعة التي جعلت الهواء شفافًا لامعًا كأنه كتلة من البلور، وهذا الثلج وهذا الشجر الغارق في أكداس الثلج … إنَّ تصوُّرَ ما هو أروع من ذلك مستحيلٌ على الخيال، إلا أن يكون خيالًا يشبه خيال هؤلاء الذين خلقوا هذه الأشياء من عدم: فالجبال كشفوها وشقوها ومهدوها، والقطار صمموه وأعدوه وأَجْروه باسم العلم والعقل المفكر منسابًا في أمنٍ وثقة وطمأنينة نفس وراحة جسم.
لا يزال الثلج يزداد انتشارًا وكثافةً كلما سرنا نحو الشمال، كان المنظر عند أول دخولنا جبال روكي — عند مدينة «ردِنْج» الزراعية — أخضر صرفًا، ثم أصبح أخضر مبقعًا بأبيض كأنه جير، وهو الآن أبيض مبقع بنقط خضراء هي رءوس الشجر الغارق في أطباق الثلج الكثيف.
الظاهر أننا قد هبطنا الآن بعد ارتفاع؛ لأننا دخلنا فجوة كالصحن الكبير، تخلو من الثلج أو تكاد؛ فها هنا قلَّ الشجر وزادت الصخور الكالحة الجرداء، فجوة الصحن الكبير تحتنا هناك عميقة بعيدة، وقد تكونت على فوهتها أشرطة من سحاب أبيض كأنها مجاري الماء … إن هذه الفجوة الكبيرة من الأرض المنخفضة وعليها هذا السحاب شبيهة بوعاء كبير يغلي به ماء، ثم انكشف عن الوعاء غطاؤه فجأة فتكوَّرت فوقه لفائف صاعدة من البخار المتكاثف، وبطانة الصورة عند الأفق الخلفي هي سلسلة الجبال التي خلَّفناها وراءنا بثلوجها على القمم والسفوح.
وأعود فأقول إنني لا أتصوَّر كيف يمكن أن تكون الدنيا خارج القطار بهذا البرد كله، إن عربات هذا القطار ليست فقط مُدفَّأة تدفئة صناعية، بل أُعِدَّت على نحو يجعلها تحتفظ بدرجة واحدة من أول الرحلة إلى آخرها؛ فآلة التدفئة في القطار تزيد من درجة التدفئة أو تقلِّل كلما نقصت درجة الحرارة الخارجية أو زادت … ومما هو جدير بالذكر أيضًا أن زجاج النوافذ في هذا القطار مُعَدَّة بحيث يستحيل أن يتراكم عليها ضباب لكي تكون الرؤية واضحة دائمًا.
جاء الليل ولم يَعُد ما نراه، وبدأ الملل يدبُّ في نفسي بسرعة لأن الرحلة طويلة، وقد كانت المناظر الطبيعية أثناء النهار تلهيني عن طول الطريق، أما وقد أقبل الليل بسواده، فلم يَعُد إلا أن أنصرف بنظري إلى الداخل، إلى داخل نفسي، فأتتبع الملل وهو يزداد … وصلنا بورتلاند في منتصف الثانية عشرة مساءً، بعد أن قضينا في القطار ست عشرة ساعة، فانتقلتُ إلى القطار الآخر الذي سيقلُّني إلى «سياتل»، بحيث يصل إليها في ساعة مبكرة من صبح الغد، وكان لي بهذا القطار الثاني «غُرَيْفَة»، فلم أكد أنتقل إليه حتى أنزلتُ سريري في غُرَيْفَتي ونِمْتُ نومًا عميقًا.
الإثنين أول فبراير
وصلت مدينة «سياتل» في الصبح المبكر، وظللت بها النهار بطوله؛ إذ غادرتها في التاسعة مساءً إلى «سبوكان» التي أصلها صبيحة الغد.
لما وصلتُ إلى «سياتل» ودخلت غرفة الانتظار بالمحطة، كانت الدنيا أشبه ما تكون بساعات الفجر، فضباب معتم ومصابيح موقدة … أين أذهب في هذه الساعة المبكرة؟ جلست في غرفة الانتظار أكتب مذكراتي، وما كادت أضواء الصبح تشيع في الفضاء حتى خرجت أسعى في المدينة طائفًا، وكان أول ما استوقف نظري لافتة كبيرة تضيء مصابيحها وتنطفئ، فإذا أضاءت أبانت بضوئها ما يدل على الوقت وعلى درجة الحرارة، وكان المكتوب عندئذٍ الساعة ٨٫٥٠ ودرجة الحرارة ٤٢ (فهرنهايت، وهي تساوي ٥ مئوية).
أخذت خريطة المدينة من إحدى محطات البنزين، ووقع نظري صدفةً على مبنى المكتبة العامة، فدخلتها ونشرتُ الخريطة على منضدة في قاعة المطالعة لأدبر لنفسي طريق السير أثناء النهار، ثم خرجت مستعينًا بالله على مشي متصل طول النهار.
سياتل! مَن ذا يسمع في مصر عن سياتل إلا المختصون في الجغرافيا؟ ومع ذلك تعالَ فانظر كيف تقف الأنفاس لما ترى! مدينة واسعة شاسعة نظيفة ليس بها بناء واحد لا يدل على العظمة والثراء، الثروة الثروة الثروة! هذا هو ما تنطق لك به سياتل: عشرات الألوف من الناس تسير مسرعة في الطريق؛ فهنا لأول مرة في أمريكا أرى ما يقولون عنه من أن الناس في هذه البلاد يسرعون الحركة ويشغل العمل رءوسهم وخواطرهم … عشرات الألوف من الناس ليس فيهم واحد أو واحدة على ثيابه أو ثيابها آثار البِلى أو ما يشبهه، حتى نيويورك لم تكن كذلك، واشنطن لم تكن كذلك … قف دقيقة هنا، على هذه الناصية، وانظر: عشرات الألوف من الناس تسير مسرعة، لا تسمع إلا وَقْع أحذيتهم على الأرض؛ معاطف، قفازات، قبعات؛ معاطف، قبعات، تلفيعات من الصوف حول الأعناق؛ معاطف، قبعات، مظلات في الأيدي؛ معاطف، قبعات، أقراط جميلة في الآذان … أريد أن أرى معطفًا واحدًا، قبعة واحدة، قفازًا واحدًا، تلفيعة واحدة، عليها آثار البِلى؛ أريد أن أرى من هذه الألوف شخصًا واحدًا مشعثًا ممزَّق الثياب … لا بد أن تكون الثروة هنا بالهيل والهيلمان.
مشيتُ ثلاث ساعات أو نحوها من شارع إلى شارع أنظر وأتعجب؛ الفنادق الفاخرة من الطراز الأول لا يكاد يحصرها عدد؛ المحلات التجارية العظيمة من الطراز الأول ليس لها حصر؛ كل شارع من هذه الشوارع التي تُعَدُّ بالمئات لا تعرف كيف يمكن أن يكون أكثر من ذلك دلالة على الغنى.
ركبتُ سيارة عامة قاصدًا إلى الجامعة — جامعة واشنطن — فمررتُ في طريقي ببحيرة الاتحاد؛ هي بحيرة تنحدر شواطئها، وتقوم المنازل على هذه الشطآن المنحدرة … لبثتُ في السيارة ساعة، ذهبتْ كلها في ركن صغير من أركان البلد، ومن هذا تعلم كم تمتد سياتل.
نسبة الجمال هنا مرتفعة إلى درجة نادرة، فضمَّ الجمال إلى الغنى في هذا البلد العجيب! أنا لا أعرف من الناحية الإحصائية كم يكون ثراؤها، لكني أكون أعمى البصر والبصيرة إذا لم تكفني نظرة واحدة هنا لأقول إن هذا البلد غارق إلى ذقنه في الذهب! وليس عندي شك — بعد أن تفرَّست في الوجوه ما تفرَّست — أن أهلها يختلفون عن الناس في البلاد الأخرى، هنا الجِد بادٍ كالشمس الواضحة: سرعة المشي في الشوارع، وانعدام التلكُّع والتسكُّع والتلكُّؤ؛ إنك لا ترى مَن يقف مسندًا ظهره إلى الحائط ناظرًا إلى المارة كما ترى في «لوس أنجلس»، ولا تجد مَن يبدو عليه أنه قد جاء للتنزه والتمتُّع كما تجد في «نيوأورلينز» أو «سان فرانسسكو» … هنا عمل عمل، هنا جِدٌّ جِدٌّ جِدٌّ، هنا ثروة ثروة ثروة … وهنا جمال فاتن في النساء؛ هذه هي «سياتل».