في الغرب
الأربعاء ٣ فبراير
(من مدينة بلمان بولاية واشنطن في أقصى الشمال الغربي للولايات المتحدة؛ حيث أقمت أستاذًا زائرًا بجامعتها فترة الربيع.)
- أولًا: المدعوون هنا الليلة جميعًا كانوا مصحوبين بزوجاتهم، أما الدكتور «ش» في كولمبيا فلم يَدْعُ الزوجات، بل أكثر من هذا، وهو أن زوجته عندما كانت سمعت أول نقرة على الباب، وعرفتْ أن القادم هو من المدعوين، أسرعتْ إلى داخل الدار كأنها امرأة في حريم شرقي، مع أنها كانت موظفة إلى عهد قريب في الجامعة نفسها، وعلى علم تام بالأساتذة المدعوين، وإذَن فهناك في الجنوب تزمُّتٌ وطول تفكير وتدبير في مسألة اجتماع النساء بالرجال في الدعوات والحفلات، متى يكون ومتى لا يكون.
- ثانيًا: قُدِّم لنا الليلة أنواع الشراب المختلفة ليطلب مَنْ شاء ما شاء منها، وأما في كولمبيا، في الدعوات التي أقامها الدكتور «ش» في منزله، فلم يُقدَّم إلا القهوة فقط، كأنما تقديم الشراب يزيل الكلفة وهم هناك لا يريدون إزالة الكلفة بسرعة … هذا الفارق عندي هو من أهم الفوارق؛ فإن الكلفة والتكلُّف والمجاملة والتصنُّع لم تزل بيني وبين رجال الجامعة في كولمبيا حتى تركتها؛ لم يحدث أبدًا أني اندمجت مع أحد منهم، كما اندمجت هنا في بلمان مع أعضاء قسم الفلسفة منذ الدقيقة الأولى؛ فالناس هنا في الغرب يتصرفون التصرُّف الذي لا تكلُّف فيه.
- ثالثًا: كان الحديث تلقائيًّا حرًّا في اجتماع الليلة؛ وأما في اجتماعات كولمبيا فقد كان الحديث يدور دورانًا مدبَّرًا حول أسئلة عن مصر؛ ذلك لأنهم لم يريدوا هناك أن يجعلوها جلسة صداقة وود؛ فمثلًا كان يستحيل عليهم أن يتبادلوا النكات ما دمتُ غريبًا بينهم، مع أن اجتماع الليلة لم يَخْلُ من النكات المرحة، مثال ذلك: قال أحدهم إن في جامعةٍ سمَّاها تمثالين لأسدين على سُلم المدخل، وكانوا يقولون وهم في تلك الجامعة إن هذين الأسدين يزأران لو مرَّت بينهما فتاة عذراء (يعني أنه لا عذراء بين الفتيات) … فقال أستاذ آخر: هذا شبيه بما كنا نقوله كذلك في جامعتنا؛ فهناك تمثال لرجل جالس، وكنا نقول إن التمثال ينهض واقفًا لو مرَّت به فتاة عذراء … هذه نكات كانت تُقال في اجتماع الليلة مع وجود الزوجات، بل كان الزوجات يشتركن في التعليق والضحك.
- رابعًا: طبعًا دار حديث طويل عن الشرق الأوسط بمناسبة وجودي، فيكفي أن تسمع الأسئلة الدقيقة المستنيرة التي كانوا يسألونها، والتي تدل على أنهم ليسوا في عماء وجهالة كالتي رأيتها في كولمبيا بالنسبة للعالم الخارجي، لتعلم الفرْق البعيد بين إقليم وإقليم، بين الجنوب من ناحية والغرب من ناحية أخرى … يسألونك هنا مثلًا عن حركة الإخوان المسلمين، وعن حركة الدروز في سوريا، وعن قوة الشيشكلي أو ضعفه، وعن عزم الباكستان أن تكون دولة دينية، أعني دولة ثيوقراطية، وعن مصر هل تنوي أن تفعل ذلك في دستورها الجديد؟ وآثار ذلك إذا كانت له آثار؛ وإذا ورد ذكر الإسلام، فمنهم مَن كان يعلِّق تعليق الفاهم فيقول أحدهم مثلًا: إن الفرْق بين المسيحية والإسلام هو فرْق في المسيح لا في الله؛ فالديانتان إلههما واحد بعينه، لكن المسلمين يفهمون المسيح فهمًا يختلف عن فهْم المسيحيين … وهكذا وهكذا، فما أبعد هذا الجو المستنير عن مثيله في كولمبيا حين كان الناس يسألونني أسئلة كلها سذاجة وقلة اهتمام بأمور الدنيا الخارجية.
الخميس ٤ فبراير
ذهبتُ بعد الغداء مع الدكتورة سنثيا شستر — أستاذة الفلسفة — إلى مكان تسجيل الطلبة للنصف الثاني من العام الدراسي، فوجدته منظرًا يكاد يبعث على الضحك؛ ففي الملعب الكبير المسقوف مُدَّت مناضد على شكل حدوة الحصان، وجلس ممثلو الأقسام المختلفة في الجامعة، وكُتِبَ أمام كلٍّ منهم لافتة باسم القسم، مثلًا «فلسفة» أو «طبيعة» أو «لغة إنجليزية» … إلخ، ويأتي الطالب فيسأل ممثل القسم الجالس: ماذا أستطيع أن أتلقَّى عندكم من أشواط دراسية؟ فيوضح له ممثل القسم أنواع الدراسات التي عنده … والذي أضحكني هو أن المنظر كان أشبه بمنظر الدلالين الذين ينادون على بضاعة يريدون بيعها؛ فممثلو الأقسام حريصون كل الحرص على أن يلتحق الطلبة بأقسامهم؛ ولذلك هم يعرضون ما عندهم بشكل فيه إغراء للطالب … ويسأل الطلبة أحيانًا أسئلة تُضحك، فمثلًا جاء طالب إلى ممثلة قسم الفلسفة الدكتورة شُستر، وكنت واقفًا إلى جوارها، فسألها: ماذا في القسم من دراسات تصلح لي؟ فقالت له: كذا وكذا وفلسفة إسلامية؛ فسأل في دهشة: فلسفة إسلامية؟! ما هذه وما عساها أن تكون؟ (يُلاحظ أن الفلسفة الإسلامية أُضيفت إلى الدراسات هذا النصف الثاني من العام بمناسبة وجودي فقط وستزول بعد سفري) فقالت له الدكتورة شُستر: هي دراسات عن الإسلام، ومن المفيد لنا أن نعرف عن ثقافات العالم المختلفة … إلخ إلخ؛ فسألها الطالب: وما موعد هذه المحاضرات؟ فقالت له: أيام الإثنين والأربعاء والجمعة من الساعة الواحدة والثلث؛ فصفَّر الطالب وقال: واحدة وثلث! إني أكون عندئذٍ أنزلق على الجليد، لا، هذا لا ينفعني، ماذا عندكم غير هذا؟! وهكذا وهكذا، والطالب لا يعجبه شيء في قسم الفلسفة فيستعرض أقسامًا أخرى ليرى ماذا يروق له لينتقيه … وترى الأساتذة في قلق أضحكني، فمثلًا إذا كانت هناك مادة لم يتقدَّم إليها أحد، وجدتَ ممثل القسم مشغول البال، يبحث جادًّا عن طلبة لها، ويوصي زملاءه في الأقسام الأخرى أن ينصحوا الطلبة بالتقدُّم إلى هذه المادة المهجورة وهكذا.
الجمعة ٥ فبراير
دعانا الدكتور «د. و» وزوجته إلى مشاهدة رواية تمثيلية … المسرح غرفة من فندق، وهو شيء لم أشهد له مثيلًا، ولو أنه يُقال إنه نوع من المسارح انتشر في الولايات المتحدة وخصوصًا الولايات الغربية، ويسمونه «مسرح الحَلْبة»، وذلك أن تُصفَّ المقاعد صفوفًا على جوانبَ ثلاثةٍ من جوانب الغرفة، ويُترك الجانب الرابع مؤديًا إلى الأبواب التي يدخل منها الممثلون ويخرجون، والمسرح هو وسط الغرفة، فإذا انتهى فصلٌ أُطْفِئَت الأنوار كلها لحظة قصيرة ثم أُضيئت على الفصل الثاني.
أحسستُ بغرابة في أن يكون التمثيل قائمًا بين صفوف الجالسين، ولكني كذلك أحسستُ عمق الأثر وصدقه؛ لأنك سرعان ما تنسى أنك إزاء مسرح وتمثيل؛ لانعدام الوسائل المصطنعة؛ فالأمر في حقيقته لا يزيد ولا يقل عما لو كنت جالسًا في بهو فندق وأمامك الناس يتكلمون، هم في حالهم وأنت في حالك، لكنك تسمع ما يقولون وترى ما يصنعون لقربهم منك؛ وإذَن فهذا النوع الغريب من المسرح التمثيلي تنقصه ما في المسرح المألوف من جو مسرحي خاص، لكنه في مقابل ذلك يزيد عن المسرح المألوف في عمق الأثر وصدقه.
الرواية التي شهدناها رواية مشهورة، عنوانها «وُلِدَتْ بالأمس» وخلاصتها أن فتاة لعوبًا مغرية كانت جاهلة ساذجة، فاستغلها ثريٌّ يجمع ثراءه بالغش مستعينًا في ذلك برشوة عضو في الكونجرس، وعَنَّ للثري أن يُعَلِّمَ غانيته هذه حتى تصلح للمجتمع الذي يتحرك فيه؛ فجاءها بمُعلِّم خاص ظلَّ يعلمها حتى جاوزت الحد المطلوب إلى حدٍّ جعلها تفهم حقائق الأمور وتثور عليه وتفضحه … ويُقال إن للرواية أساسًا حقيقيًّا في عهد الحكومة الماضية؛ إذ استطاع رجل أن يثرى ثراءً ضخمًا برشوته لأصحاب النفوذ … وحدث أن أحبت الفتاة معلِّمها وأحبها المعلم فتزوجا، وإذَن فهي قائمة على نفس الأساس الذي تقوم عليه رواية «بجماليون» لبرناردشو؛ وعلى كل حال فالموضوع قديم قِدَم اليونان: حبُّ الفنان لفنه؛ ففي أسطورة بجماليون الأصلية أحب النحات تمثاله الذي نحته، وبعدئذٍ راح رجال الأدب يستمدون من الأسطورة تخريجات أخرى، من أشهرها أن يكون الفنان معلِّمًا وأن يكون الأثر الفني متعلمة، وأن يقع الحب بين الفنان وأثره؛ أي بين المعلم وتلميذته.
والممثلون والممثلات في مسرحية الليلة كلهم من الهواة، ولعل هذا أعجب ما في الأمر كله؛ لأن تمثيلهم قد بلغ حدًّا من الجودة يستحيل أن يبلغه إلا ممثلون وممثلات من الطراز الأول؛ وليس يخامرني شك في أن الفتاة التي مثَّلت دور الغانية سيكون لها في عالم التمثيل شأن كبير؛ وقد سألت فعلمت أنها تعمل بائعة في نادي الاتحاد — اتحاد الطلبة — وهي في الوقت نفسه طالبة.
ذهبنا بعد مشاهدة التمثيل إلى منزل الدكتور «د. و»، وظللنا نتحدث إلى قرب الساعة الواحدة بعد منتصف الليل؛ إنني كل يوم أزداد إيمانًا بالفارق البعيد بين الغرب والجنوب في وجهات النظر؛ فقد تحدثنا الليلة في مشكلة الزنوج، فوجدتهم يستبشعون الفصل اللوني السائد في ولايات الجنوب.
وسألني الدكتور «د. و» هل توقِّعون في مصر يمين الولاء؟ قلت له: ولاء لمن؟ قال: لبلادكم؛ قلت: ولاء المصري لمصر متضمَّن في كونه مصريًّا؛ فقال متهكمًا على ما هو سائد في أمريكا اليوم: نعم، وكان ولاء الأمريكي لأمريكا متضمَّنًا في كونه أمريكيًّا، ثم تبدلت الحال معنا وأصبح الأمريكي في حاجة إلى أن يوقِّع يمينًا بالولاء لبلاده.
السبت ٦ فبراير
قرأتُ في مجلة «العالم الأمريكي» مقالين كلٌّ منهما غاية في الامتياز، وكلٌّ منهما غاية في جرأة التفكير … أما أحدهما ففكرة جريئة فيما تعودتُ ألا أسمع عنه في ولايات الجنوب شيئًا إلا دلائل الخوف والجزع، هو مسألة «الولاء للوطن» التي حدَّثني عنها أمس الدكتور «د. و»؛ فكل أستاذ جامعي في هذه البلاد (وقد يكون كل موظف حكومي على الإطلاق) يوقِّع وثيقة ولاء لبلاده، يتعهَّد في الوثيقة أنه لم يكن في يوم من الأيام ولا هو الآن ولا ينوي أن يكون في المستقبل منتميًا إلى أي نشاط شيوعي، وبغير هذا «الولاء» لا يجوز أن يظل في منصبه.
أول المقالين الجريئين اللذين قرأتهما اليوم هو في هذا الموضوع، وعنوانه «الولاء والحرية»، يقول فيه كاتبه — وهو أستاذ في جامعة هارفارد: إن هذا «الولاء» حبسٌ للحرية الفردية، وقد قام الدستور الأمريكي — بل المجتمع الأمريكي بأسره — بادئ ذي بدء على حرية الفرد، وكل شيء بعد ذلك إنما يستمد وجوده من تلك الحرية الفردية، ولن تكون للأفراد حرية إذا سيقوا جميعًا في مجرًى فكري واحد تنطمس فيه أوجه الاختلاف بين الأفراد، وإلا فما الفرق بيننا وبين روسيا الشيوعية في ذلك؟
نعم، إني أعيد هنا ما لاحظته فيما مضى، وهو أن الأمريكيين في جزع وفزع ورعب وخوف من الشيوعية، ويستحيل على الأجنبي أن يحس إحساسهم هذا إلا إذا جاء ليعيش بينهم حينًا، ويرى كيف يتكلمون في هذا الموضوع همسًا، يتكلمون وهم يتلفتون يمينًا ويسارًا خشية أن يسمعهم سامع دخيل … قد لا يكون معنى ذلك أنهم راغبون في شيوعية، لكن معناه أنهم ساخطون على هذه الحركة العنيفة التي يقوم بها ماكارثي في البلاد كلها درءًا للشيوعية، مما اقتضاه أن يطغى على حرية الأفراد وكل حرية عزيزة على الأمريكي، ولا يرضى بغيرها بديلًا.
وأما ثانية المقالتين، فكانت هجمة عنيفة على الذوق الفني في أمريكا؛ إذ يزعم الكاتب أن الفن لا يجري في عروق الأمريكيين، بل هم يضيفونه إلى حياتهم إضافة الزائدة.
دُعِيت إلى القهوة عصرًا في منزل الدكتور بُتَر مع السيد «ش» وزوجته الدكتورة الفيلسوفة «س. ش» … والدكتور بُتَر كان رئيسًا لقسم الفلسفة فيما مضى، وهو الآن متقاعد، يبلغ من السن حول الخامسة والسبعين، وكذلك زوجته تبلغ ما يقرب من هذه السن.
منزل الدكتور بُتَر أمنية يتمناها أي إنسان في الدنيا له شيء من الثقافة وحسن الذوق؛ رأيت منه بهوًا وغرفة المكتب وهي التي جلسنا فيها … البهو فسيح نوعًا ما ومؤثث في بساطة وجمال ليس بعدهما زيادة لمستزيد؛ وأما غرفة المكتب فصغيرة بُطِّنَت جدرانها بالخشب، وفي هذه البطانة الخشبية ذاتها رفوف تدور مع جدران الغرفة الأربعة، مُلِئَت كلها بالكتب، وأربعة مقاعد أو خمسة مختلفة الشكل واللون والحجم اختلاف التباين الجميل؛ وقد أُوقدتْ نار المدفأة وأُضيئت المصابيح الخافتة ذات المظلات المنقوشة في هدوء ورقة.
السيدة بُتَر — مثل زوجها — غزيرة الثقافة جدًّا، فلا همَّ لهذين الزوجين الكهلين سوى القراءة وخدمة الدار! إي والله، فلا خادم عند هذين الكهلين ولا خادمة، تراهما يسعيان في أنحاء دارهما يُعِدَّان للضيوف ما يُعِدَّانه، وينظفان ويغسلان ويمسحان ثم … يقرءان! ومن لطيف ما قالته السيدة بُتَر أنها تعلمت من خبرة الحياة أن بعض الرجال يؤذيهم أن تأمرهم امرأة، فإذا أرادت امرأة من رجل أن يؤدي عملًا فعليها أولًا أن تستوثق من أن الرجل ليس من أولئك الذين لا يحبون الائتمار بأمر أنثى … وهنا علَّق السيد «ش» بأنه رجل من أولئك، مع أنه المثل الوحيد الذي شهدته في حياتي لرجل يقيم في المنزل بلا عمل إلا أن يُعِدَّ الطعام وينظف الدار، على حين تقوم زوجته الدكتورة «س. ش» بكسب الرزق لهما معًا!
وبعد أن فرغنا من زيارة الدكتور بُتَر وزوجته، انتقلنا — السيد «ش» وزوجته وأنا — إلى دار هذين حيث دعواني على العشاء … لهما قط يعزانه إعزازًا يدعو إلى العجب، وقد أجلسته الدكتورة «س» على حجرها، وراحت تربِّت له بكفها، وتقص عليَّ قصة القط العزيز … أخذته صغيرًا ولما شبَّ وعرف لذائذ الحياة الليلية أخذ يموء ويصرخ لنطلق سراحه بالليل، فأشفقنا عليه وفتحنا له الباب وذهب إلى ما لست أدري أين، والظاهر أنه في الليلة الأولى قد غرق في المتعة طيلة الليل فلم يَعُد إلينا إلا مع الصبح، وعاد متعبًا ورقد على الأرض منهوكًا يغط في نعاسه طول النهار، وما هو إلا أن ظهرت عليه بعد حين كل الدلائل الدالة على «عقدة أوديب» — أي الدالة على حبه لأمه حب الذكر للأنثى — فقد حاول مرات عدة أن يتصل بأمه، لكن أمه استعصت عليه وكانت تفلت منه هاربة إلى حيث لا يستطيع اللحاق بها، ولم يلبث أن دارت معارك دامية بينه وبين أبيه، كان يعود بعدها دائمًا مهزومًا يقطر الدم من جراحه … (وهنا تنظر الدكتورة الفيلسوفة إلى قطها مخاطبة إياه قائلة: كان ينبغي أن تتعلم بالخبرة بعد معركة أومعركتين) …
هنا سألتُ الدكتورة الفيلسوفة إن كانت حقًّا ترى أن «عقدة أوديب» لها أثرها في الآدميين (وبالطبع لم أفهم حديثها عن القط إلا على سبيل المزاح) فهل تدل مشاهدة الحياة اليومية على أن الرجل يشتهي المرأة التي هي على طراز أمه؟ أم هي نظريات لا تتفق والواقع الملحوظ؟ فقالت الدكتورة «س»: إن العجيب في هذه النظرية هو أنها تتأيد بالإيجاب والنفي معًا، فإذا كان الرجل يشتهي الأنثى على غرار أمه كانت النظرية صادقة، وإذا هو اشتهى الأنثى من طراز مختلف كانت النظرية صادقة أيضًا؛ لأنه في هذه الحالة يشعر بتحريم شديد نحو أمه ونحو سائر مَن يشبهها من نساء، إلى حدٍّ يُفقِده الرغبة في طرازها، وما التحريم الشديد إلا دليل على وجود الرغبة الشديدة في أول الأمر، رغبة لم يقتلعها من نفسه إلا تحريم شديد … ولذلك نرى بعض الناس تشتد شهوتهم للغرباء عن جنسهم، بمعنى أن تتقرر رغبة الرجل لامرأة من وطن غير وطنه، إمعانًا منه في البعد عن طراز أمه، وكذلك قد تشتد شهوة الرجل إلى امرأة تختلف عنه لونًا، ومن ذلك ما يُقال عن جورج واشنطن أن في أوراقه الخاصة ما يدل على أنه في الوقت الذي لم يستطع فيه الاقتراب من امرأة بيضاء — مع شدة إعجابه بكثير منهن — أشبع شهوته الجنسية في نساء سوداوات.
الأحد ١٤ فبراير
جاءتني في الصباح السيدة «ج» لتأخذني إلى «مدرسة الأحد — ففي الكنائس أيام الآحاد يجتمع الأطفال في أعمار مختلفة ليتلقوا دروسًا، ويُسمون هذا النظام في الكنيسة «بمدرسة الأحد» — فهي متطوعة للتدريس في كنيستها أيام الآحاد، وأرادت أن تعرضني على أطفالها نموذجًا لرجل جاء من أرض الإنجيل أو ما يجاورها … الأطفال في فرقتها تقع أعمارهم في التاسعة أو العاشرة، وكان هناك أربعة من رجال وسيدات — عدا السيدة «ج» — كلهم منوط بهم الإشراف على هذه الفرقة الدراسية … الغاية في جمع الأطفال هذا في الكنيسة هي تعويدهم ارتياد الكنيسة منذ الصغر؛ ولما كانت الصلاة أمرًا قد يتعذر أداؤه وفهمه وتقديره على هذه الأعمار الصغيرة، رأيتهم يجمعون الأطفال في فصول دراسية ملحقة ببناء الكنيسة ذاتها، بل رأيت كنائس ملحقًا بها أبهاء للعب الأطفال الذين هم دون سن الدراسة، فترى هناك الكرات والعرائس والعجلات وما إلى ذلك، ومجموعة الصغار يلعبون ويصيحون.
وقفت السيدة «ج» أمام مجموعة أطفالها — وكانوا حول الثلاثين طفلًا، ويجلسون على تخوت مدرسية — وأعلنتهم أن زائرًا معهم اليوم، جاءهم من مصر القريبة من الإنجيل، وأن هذا الزائر سيحدثهم عن بعض ما رآه بنفسه في البلاد المقدسة.
وعندئذٍ بدأ مدرس يعرض الصور بالفانوس السحري عن القدس وتل أبيب ويافا وغيرها من بلاد فلسطين، وكنت كلما طاف برأسي شيء خاص بإحدى هذه الصور مما قد يلذ للأطفال أن يعلموه تحدثت عنه … ومن الصور التي عُرِضَت صورة أسماها «البوابة الذهبية»، وقال لهم مدرسهم إن هذه البوابة مغلقة، أغلقها المسلمون، وهم يقولون إن الوادي الذي ينتهي إلى هذه البوابة مشدودٌ فيه سلكٌ رفيع، وسيمشي الناس على هذا السلك يوم القيامة، وعندئذٍ ستنفتح البوابة لمن يستطيع الوصول … فأثارت هذه القصة اهتمام الأطفال، وأخذوا يسألونه: أين هو السلك؟ هل مشى على السلك أحد؟ مَن الذي أغلق البوابة؟ وكيف ستُفْتَح البوابة حين تُفْتَح؟ وما سُمك السلك على وجه الدقة؟ … إلخ إلخ. فلما أزهقوا المدرس بأسئلتهم وهو في كل رد يرد به على سؤال يقول لهم: هذه عقيدة المسلمين وعلينا أن نحترم عقائد الناس؛ أقول: إنهم حين أزهقوا المدرس بأسئلتهم قال لهم: مهما يكن من أمر هذه القصة فنحن باعتبارنا مسيحيين لا شأن لنا بها، وكل ما يجوز لنا أن نقوله إزاءها هو أنها عقيدة المسلمين، وأننا نحترم عقائد الناس، لكننا لا نلتزم بها.
فلما انتهى من عرض صوره قال لهم: ربما تفضَّل زائرنا الآن بالتحدُّث إليكم؛ فقمت وقلتُ لهم: ما دامت قصة السلك قد أثارت اهتمامكم فأحب أن أقول لكم إن السير على سلك رفيع أو ما يشبه السلك الرفيع، يُراد به الرمز إلى العمل الصالح؛ وانفتاح البوابة لمن يستطيع الوصول رمزٌ لدخول الجنة جزاء العمل الصالح؛ فالعمل الصالح كثيرًا ما يكون عسيرًا صعبًا؛ لأن الإنسان يقاوم به شهواته ورغباته؛ ولذلك شبهوا أداءه بالمشي على سلك رفيع … فوقفت السيدة «ج» وقالت: إذَن فهذا شبيه جدًّا بما قاله المسيح ووردَ في الإنجيل، وهو أن الطريق إلى الجنة ضيق، وأما الطريق إلى جهنم فواسع عريض.
وأخذ الأطفال بعد ذلك يمطرونني بأسئلة عن مصر: عن الهرم وأبي الهول والجِمال والصحراء والجيزة، وأرواق البردي ومقابر القدماء … إلخ.
ثم جاءني مدرِّس يلح عليَّ في أن أصعد معه إلى الطابق الأعلى لأتحدث إلى تلاميذه، وهم أعمار تتراوح بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة، وقد علمت أن هؤلاء الأيفاع يُعَدُّون لمهمة التبشير … لفت نظري في هذا المدرس أنه رثُّ الثياب إلى درجة لم أرها على أمريكي آخر، فحذاؤه ممزق فعلًا، وبدلته بالية، ووجهه يدل على إهمال وفقر، ولغة كلامه لا تدل على أن صاحبها قد ظفر بشيء من التثقيف.
صعدتُ إلى فرقته وقوامها ستة أولاد وأربع بنات؛ أما البنات فقد جلسن هادئات في ركن من الغرفة، وأما الأولاد فعجب من العجب هم شرذمة من المجرمين! كل واحد منهم بغير استثناء جلس جلسة فيها كثير جدًّا من الشذوذ والتحدي، فوقفت أمامهم أبتسم، فأي نبات يا تُرى سيخرج من هذه البذور؟ أهو النبات الصالح الذي يعدُّونه للتبشير بالمسيحية بما فيها من سماحة وحب؟ إنهم فريق من الأطفال المشردين الذين بدءوا حياتهم بالجريمة، وإن كانت خبرتي الطويلة بالتلاميذ قد علَّمتني شيئًا، فلا شك عندي في أن هؤلاء الأولاد الستة جميعًا ستنتهي حياتهم بالجريمة كما بدأت … ومع ذلك فشتان بين أسئلتهم التافهة وأسئلة الأطفال الصغار في الطابق الأسفل.
ولما فرغتُ من هؤلاء وأردت الخروج جاءتني فتاتان من الفتيات الأربع اللائي كُنَّ في هذه الفرقة وسألنني سؤالًا عجيبًا — وكان مدرسهن واقفًا معي — وهو: إذا كان آدم وحواء قد أنسلا ولدَيْن هما قابيل وهابيل، ثم قتل قابيلُ هابيل، فمن أين أتى قابيل بزوجةٍ يتزوجها ليستمر النسل ويتكاثر البشر؟ … فضحكتُ وقلت لهم: إني لستُ حُجة ولا شبه حُجة فيما ورد في الإنجيل من قصص، فربما يكون هذا الذي أشرتما إليه نقصًا في تكوين القصة، ولكني أرجِّح أن هذه الأسماء: «قابيل» و«هابيل» … رموز لقبائل بأسرها لا أسماء لأفراد، وقتلُ قابيل لهابيل معناه فتك قبيلة بقبيلة، وإذَن فبقاء قابيل هو بقاء قبيلة بأسرها فيها الرجال والنساء يتزاوجون ويتناسلون … فبهذا التفسير ننقذ القصة التي وردت في كتابكم وكتابنا.
الثلاثاء ١٦ فبراير
دعاني السيد «ﻫ. ﻫ» وزوجته أن أقضي معهما المساء، فذهبتُ إليهما في صحبة السيد «ش»؛ فتحت السيدة «ب. ﻫ» الباب ورحَّبت، وكان زوجها واقفًا على مقربة منها مرحبًا، كلاهما في سن الخامسة والثلاثين أو ما يقرب منها؛ أما السيدة «ب» فمن أجمل وأروع نساء الدنيا أجمعين، هي أمْيَل إلى الطول، مليئة الجسم إلى حد الكمال، لها بشرة شفافة رائقة، ووجه باشٌّ سمح، ثم هي كثيرة الضحك في خفة دم ونشوة روح.
جلسنا نتحدث، وما هي إلا أن قدَّمت لنا «ب» ما صنعته من قهوة وشاي وكعك … بدأ حديثنا بالهنود الأصليين وما بقي منهم في المحابس التي تحصرهم هنا وهناك، وذلك بمناسبة ذكرنا لبعض البلاد التي تحمل أسماء هندية؛ فالكثرة العظمى من البلدان والأنهار والجبال لا تزال تحمل الأسماء الهندية القديمة؛ فسألتهم: أين آثار هؤلاء الهنود الأصليين؟ فكان السؤال غريبًا عليهم، وقالت السيدة «ب» إنه من العجب أن هذا السؤال لم يطرأ لها من قبل، وأجمعوا على أنه ليس للهنود الأصليين من أثر؛ فسألتُ قائلًا: وكيف يمكن عقلًا أن يترك نظراؤهم في المكسيك آثار مدنية لا بأس بها، والهنود في هذه البلاد لا يتركون شيئًا؟ فعلَّلت السيدة «ب» هذه الظاهرة بكثرة الخيرات في أرض الولايات المتحدة، مما صرف سكان البلاد الأصليين عن كل أوجه النشاط، كما هي الحال — مثلًا — في القبائل البدائية في أفريقيا الوسطى.
وانتقل الحديث إلى المقارنة بين الاستعمار الفرنسي والاستعمار الإنجليزي بمناسبة ما قلته لهم مما كنت أقرؤه لتوِّي قُبيل زيارتهم من أن الفرنسيين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة خالطوا الهنود الحمر وتزوجوا منهم في أول الأمر، ثم وقفت هذه الحركة حين تمَّت السيادة للإنجليز … وجعلتُ أحدِّثهم في استفاضة عن الاستعمار الإنجليزي وكيف أنه أنكبُ ما نُكِب به تاريخ البشر، فوجدتهم متشككين في صواب هذا الحكم، وكان الحديث عندئذٍ بيني وبين السيدة «ب»، فقلت لها: خذي أي قبيلة بدائية مما خضع للإنجليز مائة عام أو مائتين، ثم اختاري أي مقياس للتقدُّم تشائين، اختاري المستوى الاقتصادي أو الثقافي أو ما يحلو لكِ أن تختاري، وطبِّقي مقياسك هذا على هؤلاء الناس؛ لتعلمي أنهم اليوم كما كانوا عند أول استيلاء الإنجليز عليهم عريًا وجهلًا وفقرًا وهمجية، فماذا صنع لهم الإنجليز إذَن؟ … ولم أدَعِ الفرصة تمضي حتى شرحتُ لهم كذلك فظائع الفرنسيين في بلاد المغرب؛ ليعلموا كيف يمنع حماة الحرية الإنسانية دخولَ الصحف العربية والكتب في بلاد المغرب، بل كيف منعت فرنسا إعانة القمح التي أرسلتها مصر إلى مراكش منذ بضع سنين حين اجتاحتها مجاعة؛ لأن الفرنسيين يفضِّلون أن يموت المراكشيون جهلًا وجوعًا على أن يشعروا بأواصر القربى بينهم وبين سائر البلاد العربية.
وانتقل الحديث بعد ذلك إلى نقد التربية والتعليم في أمريكا، وكان السيد «ش» من أقسى الناقدين، زاعمًا أن المستوى الجامعي في أمريكا أدنى منه بكثير في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وهي بلاد عاش فيها سنوات طويلة جدًّا من عمره … وقد ذكروا جميعًا أن حكومة الولايات المتحدة قلقة من الضعف العلمي بين الطلاب؛ فهنالك سطحية علمية بين المتعلمين لا شك فيها … ثم عاد السيد «ش» إلى الحديث، وقارن الأمريكيين بالألمان وعمقهم في البحث قائلًا: إن الألمان لا يزالون يحافظون على النظرية التي سادت العصور الوسطى — وهي النظرية الصحيحة في رأيه — من أن واجب رجال العلم أن يبحثوا للعلم في ذاته، بغضِّ النظر عن جانبه التطبيقي، أما هنا في أمريكا فقد ألهاهم التطبيق وسرعته عن التعمُّق في البحث النظري لذاته.
فاعترضتُه قائلًا: وكيف يمكن التطبيق بغير سابق علم نظري؟ لكننا لم نوفِّ هذا الاعتراض حقه من الحديث؛ ثم سألت قائلًا: بماذا نعلل نزوع الألمان إلى التعمُّق العلمي؟ فأجابني السيد «ش» بقوله: إنها في الحقيقة نزعة إلى التصوف؛ فلماذا يزهد الحكيم الهندي عندكم (السيد «ش» يعلم جيدًا أني مصري ولست بهندي، لكن الشرق كله كثيرًا ما يختلط في الأذهان بعضه مع بعض) فينصرف عن شواغل الدنيا إلى جمع الحكمة لذاتها؟
ولعل أعلى قمة ارتفع إليها حديثنا كانت حين انتقلنا إلى الأدب الأمريكي، وهل له مميزات خاصة به؛ وقد سألني هذا السؤال السيد «ﻫ. ﻫ» بمناسبة قولي لهم إن الفن الأمريكي لا يتميز عن الفن الأوروبي، فهو امتداد لمدارسه واتجاهاته؛ فقلتُ: إني في الحقيقة لم أقرأ من الأدب الأمريكي إلا مجموعة من قصص قصار، بالإضافة إلى التعليقات النقدية التي تُنْشَر عن الكتب الجديدة، وأستطيع أن أقول في حدود هذا العلم الضئيل إن الأدب الأمريكي له مميزاته، التي من أهمها أن يدور التحليل حول أشخاص عاديين في ظروف عادية من الحياة، وسرعان ما انتقل الحديث إلى المسرحية؛ لأنني ذكرت شيئًا مما قرأته عن مسرحيات يوجين أونيل، وهنا دارت المناقشة الجيدة بين السيد «ش» في ناحية، وبيني أنا والسيد «ﻫ. ﻫ» وزوجته «ب» في ناحية أخرى؛ فنحن نقول إن المأساة قد أصبح لها معنًى جديد يختلف عن معناها على يدي شيكسبير، وهو أن يكون البطل رجلًا عاديًّا أو امرأة عادية، ولم تَعُد هناك ضرورة إلى أن يكون البطل ذا مكانة عالية في المجتمع؛ نتيجة للديمقراطية السائدة التي سوَّت بين الأشخاص في القيم إلى حدٍّ كبير، حتى إن اختلفوا في المناصب والثروة … لكن السيد «ش» أجاد الدفاع عن وجهة نظره إجادة منقطعة النظير قائلًا: إننا لم نعُد نكتب المأساة على نحو ما كتبها شيكسبير عجزًا منَّا لا بسبب تغيُّر الظروف الاجتماعية؛ إنه يستحيل على المأساة أن يتم معناها الأدبي إلا إذا كان البطل «نبيلًا» ثم هوى: فليست المسألة مسألة اختلاف في معنى الكلمة بحيث نقول إن كلمة «مأساة» كان معناها كذا أيام شيكسبير، وأصبح معناها كذا في أيامنا؛ بل لب المسألة هو أن في الفطرة الإنسانية نزوعًا غريزيًّا نحو «النُّبْل» تعجب به ثم تأسى له حين يهوي؛ إنني إذا قرأت مأساة عن رجل مثلي فكل ما يحدث هو أن أعطف عليه وأشاركه الشعور بالحزن، لكن الوجدان الأساسي في المأساة هو سقطة الرفيع — وليس ذلك مجرد عطف على ما أصابه ومشاركته في حزنه — بل هو ميل في الطبيعة الإنسانية نحو أن ترتفع وأن تأسى إذا هَوَتْ … إننا نحن المسيحيين قدسنا المسيح؛ لأنه أشبع بقصته ميلًا فطريًّا فينا، وهو رغبة التكفير عن الخطيئة، وكذلك بطل المأساة يشبع فينا ميلًا فطريًّا على هذه الصورة عينها … لقد أجاد شيكسبير تصوير فولستاف — مثلًا — كما أجاد تصوير هنري الرابع في مسرحية واحدة، فلماذا لم يجعل فولستاف بطل الرواية؟ كان هذا مستحيلًا عليه؛ لأنه ينقض فكرة المأساة في صميمها؛ فمصير فولستاف مهما ساء لا يشبع فينا ما يشبعه مصير هنري الرابع، كأنما المتفرج على الرواية يقول لنفسه: أنا مثل فولستاف؛ فليس مصيره بما يهمني، لكن أين أنا من هنري الرابع؟ فلأتعقبه بنظري إلى حيث هو في ارتفاعه، حتى إذا ما هوى كان لهويه حسرة تختلف في طبيعتها عن مشاركة فولستاف في أساه إذا تأسَّى لسوءٍ أصابه.
فقال السيد «ﻫ. ﻫ»: خذ مثلًا رواية «من هنا إلى الأبد»، فالبطل في هذه الرواية جندي بسيط، وأصابه ما أصابه من عَنَت، فترى المتفرِّج يحزن لمصابه أشد الحزن؛ لأن ذلك الجندي رياضي ونحن شعب يمجِّد الرياضة؛ وإذَن فمعنى العظمة قد تغيَّر في أنظارنا، نتألم للرياضي يصيبه السوء أكثر مما نتألم لمَلِك يهوي عن عرشه … فوافقتُه أنا بقوة؛ لأنني شاهدت الرواية وأدركت فيها هذا المعنى؛ أما السيد «ش» فقال إنه لم يشهدها؛ ولذلك يحسُن بنا أن نبحث عن مَثَل آخَر.
ثم أضفتُ أنا نقطة نظرية إلى الموضوع، فقلت: إن التحليل النفسي منذ فرويد قد ساعدنا على كشف الخبيء من النفس البشرية، فكنَّا بمثابة مَنْ هَتَكَ الستر عمن كانوا موضع رفعة، وبهذا يسقط جانب هام من مقومات المأساة عند شيكسبير، حين عرفنا أن الرفيع في ظاهره قد يكون مدفوعًا في حياته بأحط الدوافع … لكنَّ أحدًا لم يعلق على هذا الرأي، وانتقلنا بالحديث إلى مصر في ثورتها الحاضرة.
الأحد ٢١ فبراير
أزحتُ الستار عن النافذة فرأيت سحابًا من فوقه سحاب، وفوق السحاب سحاب … ظللت في غرفتي حتى جاءني الدكتور «ﻫ. و» ظهرًا ليستصحبني إلى داره في سيارته حيث دعاني إلى الغداء مع أسرته، وقد كانت جاءتني الدعوة عن طريق زوجته التي تحضُر لي محاضراتي في الفلسفة الإسلامية.
وجاء مع الدكتور «ﻫ. و» ابنه الصغير، في نحو التاسعة من عمره، أعجبني طلاقته في الحديث وجرأته؛ قال لي حين ركبت معهما السيارة إن مدرستي بالقرب من منزلك، وأنا أقطع الطريق بين منزلنا والمدرسة مشيًا؛ فسألته وكم من الزمن يستغرق منك هذا الطريق؟ فقال: خمس عشرة دقيقة لو كنت ماشيًا، وخمس دقائق لو كنت جاريًا، وأكثر من خمس عشرة لو قابلني في الطريق أحد أصدقائي واستوقفني ليتحدَّث إليَّ في شيء! … فلم يسعني إلا أن أضحك لهذه الإجابة العجيبة يجيب بها هذا الطفل الصغير.
قال لي الدكتور «ﻫ. و» — مشيرًا إلى ولده هذا — عندما وصلنا إلى داره واستقبلتنا زوجته: عندنا ثلاثة أطفال، هذا أوسطهم؛ وأصغرهم مريض في الفراش؛ وأما أكبرهم فمشغول الآن في بيع الجرائد، وعشمي أن يوفَّق إلى الحضور في موعدٍ يتيح له أن يراك … هذا الولد الأكبر الذي يبيع الجرائد عمره اثنا عشر عامًا، هو تلميذ في مدرسة ابتدائية، لكنه يستغل فراغه في توزيع الجرائد، فإذا لاحظنا أنه ابن أستاذ — بل رئيس لقسمٍ بأسره من أكبر أقسام الجامعة — لمسنا فارقًا من أهم الفوارق وأعمقها بين هذا الشعب العامل النشيط وبين أي شعب آخَر.
كان مدعوًّا معي مدرِّس في الجامعة شاب وزوجته، وكان أهم ما تحدَّثنا فيه بعد الغداء الروح الفنية بين الأمريكيين بالقياس إلى شعوب أخرى كأهل الصين واليابان، وقد كان الدكتور «ﻫ. و» يدرس في الصين لبضع سنوات ومعرفته بالشرق الأقصى واسعة عميقة دقيقة.
فذكرتُ لهم فيما ذكرت من ملاحظاتي أن الأمريكيين لم يُنْشِئوا فنًّا خاصًّا بهم، وأنهم تابعون للاتجاهات الفنية الأوروبية، بل اجترأت — بعد طلب المعذرة من السامعين — أن أكون صريحًا، فقلت إن الفن لا يتغلغل عميقًا في حياة الأمريكي؛ فالأمريكيون — بصفة عامة — يضيفون الفن إلى حياتهم إضافةً من خارج دون أن تمس منهم القلب والصميم، فترى الرجل منهم وقد أثرى وجمع الملايين، دون أن يعيش حياةً فيها التفات جاد إلى الفن، تراه يشتري بكذا مليونًا من الدولارات صورًا أو تماثيل يهديها إلى هذا المتحف أو ذاك، كأنما يكفِّر بهذا عن خطيئة إهماله الطويل للفن في حياته العادية اليومية، وضربت مثلًا آخَر يوضح هذا الاتجاه، وهو إقامة «المناسك» في شمال مانهاتن في نيويورك؛ إذ جاءوا بجدرانها وسقوفها وسائر أجزائها من مواضعَ مختلفةٍ بأوروبا وأقاموها على أرضهم ليكون لهم كما للبلاد القديمة أثرٌ قديم! وكذلك ذكرت نبأ الدير القديم الذي اشتراه ثريٌّ أمريكيٌّ من إسبانيا ونقله حديثًا جدًّا إلى فلوريدا بعد أن فُكَّت أجزاؤه حجرًا حجرًا ونُقِلَت وأُعِيدَ بناؤها، ثم جُعِلَت متحفًا يدخل إليه الزائرون بأجرٍ معلوم ليستعيد الثري ماله وزيادة … وسألت الحاضرين قائلًا: هل وجود هذين البناءين على أرضٍ أمريكية يدل على روح فني في أمريكا؟! إنهما أُضيفا إليها من الخارج، ولم تنبع من نفوسهم الداخلية تعبيرًا عن خوالجهم ومشاعرهم، وهكذا الفن في أمريكا يُشْتَرَى أكثر مما يكون جزءًا من الحياة؛ إنه لا يُستساغ شفطة شفطة مع أيام الحياة وساعاتها، بل يُجتلب اجتلابًا بالجملة كأنه سلعة من السلع التي تُباع في أسواق الجملة.
ذكرتُ في هذه المناسبة مقالًا قرأته عنوانه «أمريكا والفن» لكاتب أمريكي ناقد اسمه «لويس كرونِنْبِرْجَر» يقول فيه إن الأمريكيين ليسوا شعبًا فنيًّا كأهل الصين واليابان وفرنسا؛ وذلك لأن الأمريكي منبسط وليس هو بالمنطوي على نفسه؛ فانبساطه النفسي يُخْرِجه من حدود نفسه، ومن ثَمَّ يكون رجل أعمال ولا يكون فنانًا، يكون مخترعًا للآلات لكنه لا يكون راسمًا للصور ولا ناحتًا للتماثيل، فذلك أمر طبيعي ما دام الأمريكي يرى أمامه قارة واسعة تنتظر مَن يكشف كنوزها ويستغل مكنونها، وإذَن فهو مشغول بالمغامرة والكشف في خارج نفسه، وليس هناك ما يدعوه إلى الانطواء على دخيلة نفسه … إن الفن لا يوجد إلا حيث تقلُّ الموارد الطبيعية، فعندئذٍ «يتفنَّن» الإنسان في القليل الذي عنده؛ خذ مثلًا المرأة الفرنسية، فهي أقدر نساء الدنيا اختيارًا للزينة والثياب؛ وذلك لأن الطبيعة قد سلبتها جمال الفتيات الطبيعي الذي تراه مثلًا عند الإنجليزيات والأمريكيات، فراحت «تتفنَّن» في القليل الذي عندها … عند الأمريكيين وفرة طبيعية، فليسوا هم بحاجة إلى أن يستعيضوا عن الطبيعة فنًّا، وعن المادة الحقيقية صورة، وعن الموضوع الحي خيالًا ووهمًا.
فوافق الحاضرون على ضحولة الحياة الفنية في أمريكا، وأخذ الأستاذ الداعي وزوجته يشرحان لنا كيف يكون الفن جزءًا من حياة الصيني أو الياباني، ومما يدل على هذا الاندماج التام بين الحياة والفن أنهم يكتبون كتاباتهم العادية بفِرْجَون الفنان، فإذا اشتريت من الدكان شيئًا، وكتب لك البائع «فاتورة» بما اشتريت، كتبها بفِرْجَون وبنوع من المِداد يستحيل إزالته وتكاد تكون القاعدة أن يخطَّ الكاتب خطوطه بالفِرْجَون دون أن يخطئ في خط واحد … إن الصيني إذا رسم فلا يأخذ ألوانه وعُدَّته ليجلس بها أمام ما يريد تصويره، بل تراه يجلس وحده في المنظر الذي يريد تصويره، يجلس هناك ناظرًا متأملًا أيامًا بل أسابيع، حتى إذا امتلأ بموضوعه، رسم الصورة في بضع دقائق، فتراه يجلس على الأرض في غرفته، ويخطط بالفِرْجَون، فإذا الصورة هناك، صورة الطبيعة التي شربها شربًا، لا كما هي في الواقع المُحَس، بل كما امتزجت في نفسه.
وجاء ذكر الفن العربي، فقال لي الشاب مدرِّس التاريخ: إنني زرتُ إسبانيا ولَفَتَ نظري في الآثار الفنية العربية هناك أنْ ليس بينها رسومٌ تصوِّر الحياة؛ أعني أنني لم أرَ على الجدران أو السقوف رسمًا لطائر أو حيوان، وكل ما رأيته هناك من الطبيعة المرسومة النجومُ وما إليها، فبماذا تعلِّل ذلك؟ فقلت: أولًا كان الدين يحرِّم إخراج الأحياء في نحت أو تصوير، وثانيًا — وهو الأهم — لم يكن العرب بأصحاب ذوق فني إلا في شعرهم، كانوا صُنَّاعًا ولم يكونوا بفنانين، يستخدمهم السلطان أو الغني ليبنوا له المسجد أو المنزل ويزخرفوه له، فلم يكن عند الفنان شيء خاص يضطرب في نفسه ويريد التعبير عنه، كان الفنان «يصنع» كأي صائغ أو نجار … نعم، كانت صناعته على درجة كبيرة جدًّا من المهارة، لكنها صناعة على كل حال، تتم في الخارج ولا ترنُّ بأصداء النفس الداخلية.
الجمعة ٢٦ فبراير
قرأتُ في مجلة «أتلانتك» لشهر مارس مقالًا جيدًا جدًّا في موضوعه، كتبه «هارولد ستوك» الذي كان مديرًا لجامعتَي نيو هامبشير ولويزيانا، وهو الآن عميد لكلية الخريجين في جامعة واشنطن بمدينة سياتل؛ والموضوع هو موقف الجامعات إزاء الطلبة الذين يشتركون في الألعاب الرياضية اشتراكًا يصرفهم عن المحاضرات العلمية.
وقبل أن ألخِّص هذا المقال الممتاز من حيث طرافة الفكرة لا بد أن أذكر ما يستحيل أن يعرفه مَنْ لم يأتِ إلى هذه البلاد، وهو مدى اهتمام الناس بالمباريات الرياضية؛ سيقول القائل: لكن أليست هذه هي الحال في إنجلترا مثلًا؟ فأجيب قائلًا: لا وألف مرة لا؛ فقد كتبتُ في يومية سابقة، يوم أن قامت مباريات الكرة بين جامعة كارولاينا الجنوبية في كولمبيا وبين كلية كِلِمْسُن في نفس الولاية، كيف وجدتُ الناس يومئذٍ في المطاعم والدكاكين والشوارع يتحدثون عن المباراة ونتيجتها كأنهم يتحدثون عن أخبار حرب قائمة، أو كما يتحدث المصريون في القرى عن أسعار القطن وقت حصاد القطن …
ففي هذه البلاد ملاعب عامة يجتمع فيها المتبارون من الجامعات، وأهم هذه الملاعب يقع في ولايات الجنوب؛ وذلك لدفئها في الشتاء، فبذلك تجتذب ألوان الناس من أنحاء أمريكا كلها ليقضوا عطلة فيها متعة الجو الدافئ ومتعة التفرُّج على المباريات؛ ومن أهم هذه الملاعب أربعة: وعاء الورد، ووعاء السكر، ووعاء القطن، ووعاء البرتقال. وإنما يُطلِقون على الملعب «وعاء»؛ لأنه يشبه الوعاء في تكوينه؛ فله قاع هو أرض اللعب، وجدران منحدرة حول القاع هي التي تُرَصُّ على جنباتها صفوف المقاعد؛ ثم يصفون «الوعاء» بأهم محصول في منطقته، ومن ثَمَّ يصفون الملاعب بقولهم «وعاء القطن» و«وعاء البرتقال» … إلخ. ومما يُعِين على تقدير أهمية المباريات الرياضية بين الجامعات أن مدرِّب الفرقة يتقاضى عادةً أكبر راتب في الجامعة كلها، قد يساوي في راتبه مدير الجامعة وقد يفوقه أحيانًا؛ ذلك لأن الجامعة تعلِّق أهمية كبرى على كسبها للمباريات؛ لما فيها من كسب مالي وذيوع للشهرة؛ ولذلك ترى الجامعات تتنافس منافسة حامية على اجتذاب الرياضيين المعروفين إليها حتى لقد يصل الأمر إلى رشوة هؤلاء اللاعبين بالمال.
كتب هذا الكاتب مقالته الجريئة في تفكيرها؛ ليَرُدَّ بها على ألسنة النقد التي لا تفتر في كل جامعة بين الأساتذة والطلاب جميعًا، معبرة عن القلق الشديد الذي يساورهم: لماذا يُعامَلُ اللاعبون في الجامعة معاملةً فيها محاباة؟ لماذا تتساهل الجامعة معهم عند تقدير مستوياتهم العلمية؟ وهكذا … فقال هذا الكاتب ما خلاصته: إننا يجب أولًا أن نضع أمامنا مقدمة أولية نبني عليها تفكيرنا، وهذه المقدمة هي أن اللاعبين الرياضيين في الجامعة قد تغيَّر وضعهم عن ذي قبل، فبدل أن كانت المباريات المدرسية مقصودًا بها تربية الطلاب ورفاهيتهم، أصبحت اليوم وسيلة لتسلية الجمهور، كأي فرقة مسرحية … الجمهور الأمريكي الآن يدفع ملايين الدولارات ليتفرَّج على المباريات بين الجامعات، وأصبحت هذه الملايين جزءًا رئيسيًّا في الإنفاق على التعليم، ثم أصبح من واجبات الجامعة الاجتماعية أن تقدِّم للجمهور هذه التسلية، وإذَن فالنتيجة هي أن نفرِّق في أذهاننا تفرقة تامة بين اللاعبين الرياضيين في الجامعة وبين سائر الطلبة؛ أعني أن اللاعبين الرياضيين لا يُعَدُّون طلابًا وإن كانوا يُعَدُّون من أبناء الجامعة التي ينتسبون إليها؛ فليس كل مَن ينتمي إلى الجامعة طالبًا، فهناك الأستاذ وهناك الإداري وهناك مَن يقوم بأبحاث علمية دون أن يكون في هيئة التدريس ولا في جماعة الطلبة، وهنالك الرياضي الذي يلعب باسم الجامعة ليشهد الجمهور اللعب فتكسب الجامعة مالًا من جهة، وتهيئ للجمهور تسليةً يحبها من جهة أخرى.
إن موقف الجامعة من الرياضيين يختلف فعلًا عن موقفها من الطلبة الآخرين، فلماذا نحاول جعل الفريقين نوعًا واحدًا؟ تقبل الجامعة الطالب العادي لتعلِّمه ما لم يكن يعلم، لكنها تقبل الرياضي لأنه بالفعل يعلم ما يعلمه من مهارة في اللعب؛ الطالب العادي يتعلَّم في الجامعة شيئًا سيفيده ويفيد المجتمع بعد تخرُّجه لا أثناء وجوده طالبًا في الجامعة، أما الرياضي فيمارس شيئًا ينفع المجتمع أثناء وجوده في الجامعة لا بعد تخرُّجه، بل قد يبطل النفع بعد التخرُّج؛ وظيفة الجامعة هي أن تخدم الطلبة العاديين، أما الرياضيون فهم الذين يخدمون الجامعة التي ينتسبون إليها، فنتيجة هذه الفوارق كلها هي أن الطلبة العاديين نوع، والرياضيين نوع آخَر، تراعي في النوع الأول مبادئ التربية، وتراعي في النوع الثاني مبادئ الأعمال في سوق التجارة؛ إن الألعاب الرياضية مورد كسب كبير لمعاهد التعليم، فقد كسبت معاهد التعليم هذا العام (١٩٥٣-١٩٥٤م) من المباريات مائة مليون من الدولارات؛ إن الجمهور لا يعلم، وربما هو لا يريد أن يعلم مَن الذي عُيِّن مديرًا للجامعة في بلده، لكنه يهتم كل اهتمام لمن يُعيَّن مدربًا للفرقة الرياضية؛ الفرقة الرياضية في الجامعة كأي فرقة مسرحية مثلًا، تلعب للناس فتكسب الشركة التي تلعب الفرقة باسمها، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا تعقد الجامعات الأمريكية أكبر مبارياتها في ملاعب الجنوب في فصل الشتاء؟ أليس معنى ذلك أنها تضع عينها على المشاتي التي يقصدها الناس فتلعب لهم هناك في مشاتيهم لتستدرَّ منهم مالًا؟ إذَن فهي تنظر إلى الأمر نظرة مدير الملهى حين يتعقَّب المتفرجين في مصايفهم أو مشاتيهم؛ فخطأ كبير أن نطالب القائمين بهذه «الملاهي» الرياضية باسم الجامعة بتحقيق شروطٍ هي نفسها الشروط التي نطالب بها الطلبة العاديين.
فإذا كان رجال التربية قد حيَّرَهم التوفيق بين مقتضيات التربية وبين حياة الرياضيين من طلاب الجامعات؛ فذلك لاضطرابهم في التفكير وغموضهم في تحديد الأغراض، أما إذا وضحوا الأمر لأنفسهم على هذا الوجه زال الإشكال؛ فالتربية ومبادئها للطلبة العاديين، والمطلوب مبادئ أخرى لنوع آخَر من الناس هم اللاعبون الرياضيون؛ إنهم يظنون أنه ما دام اللاعبون قد أتوا مع سائر الطلاب من المدارس الثانوية، ودخلوا معهم جامعة واحدة، وهم يتساوون مع هؤلاء في السن، فلا بد إذَن أن يكون الجميع صنفًا واحدًا خاضعًا لشروط بعينها؛ لكن لا، فبين النوعين فرْق في العمل الذي يؤدَّى وفي الغاية المقصودة، إن كان المطلوب من الطلبة العاديين أداء امتحانات والحصول على درجات … إلخ؛ فالرياضيون لم يأتوا إلى الجامعة طلبًا للعلم كسواهم، إنهم ليسوا بحاجة إلى علم بل إلى تدريب … لماذا يقلقنا المستقبل العلمي لشاب دخل الجامعة ليلعب الكرة؟ قَبِلَته الجامعة على هذا الأسس، وهو التحق بالجامعة على هذا الأساس، فالجامعة والطالب متفقان معًا على الهدف، فما مبرر القلق على تحصيله العلمي؟ فلنتذرَّع بالشجاعة في تفكيرنا، ونعترف بأن الجامعة قد قَبِلَت اللاعب الجيد لأنه لاعب جيد لا لأنه طالب جيد، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تكون معاملته بغير قلق أو تردُّد.
ولو أراد لاعب رياضي أن يكون طالبًا علميًّا إلى جانب ذلك فلا مانع طبعًا، لكننا عندئذٍ نحمِّله تَبِعة ذلك، سنطلب منه ما نطلبه من اللاعبين، فإذا وجد أن التدريب المطلوب يستحيل أن يساير المحاضرة والمذاكرة، فعليه أن يختار: إما لاعب أو طالب، وقد يقول قائل: ماذا تريد؟ أتريد أن نقبل هؤلاء اللاعبين بغير شرط؟ والجواب هو: الشروط لقبولهم يضعها مدربو الألعاب ومنظمو المباريات، ولا شأن لهيئة التدريس بها.
الطبيب المُجِيد هو الذي يراجع تشخيصه للمرض إذا وجد أن الدواء لم يفلح، والعالِم المُجِيد هو الذي يراجع النظرية العلمية إذا وجد أنها لا تفسِّر الظواهر التي يريد تفسيرها، وكذلك رجل التربية المُجِيد هو الذي يغيِّر رأيه في قواعد التربية إذا وجد أن ظروف الحياة قد تغيَّرت؛ وقد تغيَّرت الظروف في أمريكا من حيث إن الفِرَق الرياضية أصبحت فِرَقًا لتسلية الجمهور؛ فعلى هذا الأساس الجديد ينبغي أن نعيد إليها النظر.
•••
تقع بين محاضرتيَّ ساعة من فراغ، قضيتها في نادي الأساتذة أشرب فنجانًا من القهوة، فلما كنت في طريقي إلى هناك، قابلت الدكتور «ف. ب» هذا العالِم الجليل الشيخ الذي كان رئيسًا لقسم الفلسفة ثم تقاعد، وهو يحضُر لي محاضراتي بغير تخلُّف، قابلته في طريقي إلى نادي الأساتذة، فدعوته أن يحتسي معي فنجانًا من القهوة … وكان بين ما قاله لي ونحن جالسان في النادي: إننا نحن الأمريكيين نعيش تحت ضغط فكري لم نشهد له مثيلًا؛ إن رجلًا واحدًا مثل ماكارثي بمحاكماته وتحقيقاته قد أحدث فينا جميعًا نوعًا من الرعب والفزع، فأصبح كل إنسان منَّا جبانًا في تفكيره السياسي، فلا يجرؤ أحد مثلًا أن ينطق بكلمة عن الشيوعية؛ ثم مضى الدكتور الفيلسوف يوجِّه النقد المر للحالة الفكرية التي تسود أمريكا، ووصفها بالتفاهة والسطحية، قال: إن نفسي لتموع كل صباح حين أقرأ الصحيفة اليومية، تموع نفسي مما أرى في الصحيفة من تفاهات وسخافات … ثم أشار إلى صحيفة في يده، وكان في صدرها عنوان بالخط الكبير، وهو: «لنعد إلى الله، هكذا يقول أيزنهاور» (وهي عبارة وردت في خطبة ألقاها أيزنهاور أمس)، قال الدكتور: انظر مثلًا إلى هذا العنوان «لنعد إلى الله، هكذا يقول أيزنهاور» وحلِّلها تجد سخف العقل كامنًا وراءها، فهل نعود إلى الله لأن أيزنهاور يقول لنا ذلك؟ هل ترجح كفة الإيمان بالله؛ لأن أيزنهاور قد آمن؟ أم ماذا يريد هذا الصحفي الذي نشر عنوانًا ضخمًا كهذا يستوقف به الأنظار؟ بل ماذا يريد أيزنهاور نفسه بعبارة كهذه يسوقها في خطاب سياسي؟ أهو حاكم أم قسيس واعظ؟ أم أن الأمر كله تهريج في تهريج؟!
وقلت للدكتور «ف. ب» في مناسبة أخرى من سياق حديثنا: إنني أزداد إيمانًا بأن المرأة أقوى من الرجل شخصية مهما بدا من الظواهر التي تدل على غير ذلك، وبرهاني هو: افرض أن رجلًا وامرأة يحب أحدهما الآخر بقدْر متساوٍ، ثم اختلفا على أمر، أليس الأرجح جدًّا أن يذعن الرجل آخِر الأمر للمرأة في رأيها؟ فقال الدكتور ضاحكًا: حدث منذ قريب أن اختلفت مع زوجتي على لون السجادة التي نشتريها: هي تريدها خضراء، وأنا أريدها حمراء، واشتد الخلاف بيننا واحتدَّ العناد رغم تفاهة الموضوع، فلما رأيت الأمر بيني وبينها يسير من سيئ إلى أسوأ؛ وافقتها على اللون الأخضر، وسمَّيت تصرفي هذا عندئذٍ «توفيقًا بين وجهتَي النظر» مع أنه لا توفيق هناك، فهزيمتي صريحة ونصرها قاطع.
السبت ٢٧ فبراير
يوم مشمس جميل، جلست ساعة الضحى مع شاب أمريكي في مقصف نادي الاتحاد، فأنبأني بأنهم افتقدوني ليلة أمس في الاجتماع الأسبوعي الذي ينعقد في منزل الدكتور «ف. ب»؛ فأسفت لذلك أسفًا شديدًا؛ لأني نسيت الموعد، فلم يكن أحب إليَّ من هذا الاجتماع بما يسوده من دفء العاطفة وارتفاع التفكير … سألته: وماذا كان موضوع المناقشة ليلة أمس؟ فقال: قرأ علينا أستاذ الاجتماع بحثًا في ضرر الموجة الماكارثية التي تطغى على البلاد الآن وتهدِّد حرية الرأي فيها تهديدًا خطيرًا، وهنا تحدثت مع الشاب — هو مدرس ويحضِّر في الوقت نفسه رسالة الدكتوراه — في مدى الحرية التي يجوز أن يُسمح بها لسواد الناس في تبادل الآراء، وكنت متحفظًا في رأيي لأنني ضيف على البلاد، فلا يجوز أن أقول ما عساه أن يُعدَّ نقدًا خارجًا، غير أني ذكرت له مقالة قرأتها في مجلة «بوست» لهذا الأسبوع، كتبها المحرر نفسه ليفتتح بها العدد، ورد فيها أن أستاذًا في جامعة مِنِسوتا قد ألقى بحثًا علميًّا في الاقتصاد انتهى فيه إلى أن الأسعار يجب أن تُحَدَّد في بعض الحالات، فشَمَّ بعض أولي الأمر في هذا البحث رائحة الشيوعية، فقدَّموه إلى لجنةٍ جامعية تحاكمه، لكن الجامعة انتهت من المحاكمة بإعلان براءة الأستاذ الباحث، معلنةً بأنها تريد أن تجعل نفسها مركزًا لحرية البحث العلمي، وبعد أن انتهى محرر المجلة من عرض الأمر على هذا النحو أدلى برأيه ورأي مجلته، وهو أن الجامعة قد خلطت الأمور وضلَّت سواء السبيل؛ فحرية الرأي — في نظر المحرِّر — حق مباح ندافع عنه، لكن لا إلى الحد الذي يجعلنا نعتنق مبادئ تنتهي آخر الأمر إلى هدم الحرية نفسها التي ندافع عنها؛ ولهذا فرأي المحرر هو أن الأستاذ كان ينبغي فصله من الجامعة جزاء ما أذاع من نتائج خطيرة على الحرية!
لا شك عندي أن هذا تعنُّت وتزمُّت، وقد كان آخر ما أتصوره عن أمريكا أن يُقيَّد فيها الرأي العلمي إلى هذا الحد البعيد.
•••
جاء إلى غرفتي ساعة العصر الدكتور «ك» وهو صاحب المنزل الذي أسكن فيه، وسألني إن كنت أحب أن أرافقه هو وزوجته في رحلة بالسيارة إلى مدينة لِوِسْتُن — وهي تبعُد عن مدينة بلمان ثلاثين ميلًا — فرحَّبتُ بالدعوة شاكرًا.
هذه أول مرة يحدثني فيها الدكتور «ك» منذ قدومي، مع أنني أسكن معه في منزل واحد! إنه شاذ بغير شك، وكنت قد بدأت أكرهه؛ لأنه لم يتعمَّد زيارتي طول هذه المدة، بل كنت ألاحظ أنه يتجنب لقائي إذا وجد أن المصادفات قد تؤدي إليه! … هو خنزيريُّ الملامح، يقفز في مشيته قفزًا لا رشاقة فيه، وكنت حكمتُ عليه من هيئته بالغباء، لكني وجدته اليوم أثناء حديثي معه خلال رحلتنا بالسيارة من أحدِّ الناس التفاتًا إلى ثنايا الحديث، ودقة في المعلومات، ومنطقًا في الرد والاعتراض.
جلسنا — الدكتور «ك» وزوجته وأنا — في الكرسي الأمامي من السيارة، والشمس لا تزال مشرقة والجو ما زال شفافًا، والرؤية فسيحة الأفق؛ الأرض أمواج من تلال هي رءوس الجبل، والذي لم أكن أتخيله قبل أن أراه هو أن تكون هذه الأمواج الجبلية كلها مزروعة قمحًا، ولم تألف عيني أن ترى القمح مزروعًا على سفوحٍ جبلية ليس فيها أدوات الري ولا قنوات الصرف؛ فالمنظر يختلف اختلافًا بعيدًا عن منظر حقول القمح عندنا في مصر.
تحدثنا في موضوعات عدة، منها أن سألني الدكتور «ك» عن رأيي في إنجلترا وسياستها، قائلًا إنه شخصيًّا من المدافعين المتحمسين عن كل ما هو إنجليزي، فقلت له في انفعال شديد إن إنجلترا في سياستها الاستعمارية هادمة للمدنية، وأخذتُ أعرض الأمر كما أراه، لولا أن زوجته انحرفت بالحديث؛ ولا أدري أكانت متعمدة أم جاء ذلك عفوًا، فسقط الموضوع وبدأنا غيره وغيره.
انتهزتُ فرصة إدراكي لدقة هذا الرجل في معلوماته، وسألته عن أمرٍ كنت أحب أن أزداد به علمًا، وهو: إذا كان الأمريكيون خليطًا من مهاجرين أوروبيين، فما الذي جعل المهاجرين الفرنسيين والهولنديين والإسبان يتكلمون الإنجليزية، بحيث أصبحت الإنجليزية هي لغة الأمريكيين قاطبة؟ فقال: جاء الأمر تدريجًا، فمر على ثلاث درجات: خطوة كان كل قبيل يتكلم لغته الأصلية؛ وخطوة ثانية كان الأطفال يتعلَّمون فيها الإنجليزية في المدارس ويتكلمون اللغة الأصلية في المنازل، وإنما يتعلَّمون الإنجليزية في المدارس لكثرة المهاجرين الإنجليز كثرة عددية بالنسبة لسائر المهاجرين؛ وخطوة ثالثة أصبحت الإنجليزية فيها هي لغة المدارس والمنازل في آنٍ معًا … على أن هناك بعض جماعات ظلت إلى زمن قريب جدًّا تتكلم اللغة الأصلية، وقال: سأشير لك الآن في طريقنا إلى بلد سنمر عليه اسمه «يونْين تاون»، سكانه من المهاجرين الألمان، ظلوا يتكلمون الألمانية إلى أن كنتُ أنا طالبًا في المدرسة الثانوية، والناس في ولاية نيومكسكو إلى الآن يتكلمون الإسبانية في كثير من المواضع، بل إن قانون ولاية نيومكسكو يجعل الإسبانية لغة رسمية إلى جانب الإنجليزية، كذلك في ولاية لويزيانا لا يزال كثيرون هناك يتكلمون الفرنسية وخصوصًا الكهول.
أشرفنا فجأة على حافة وادٍ عميق جدًّا واسع، يلتقي فيه نهران: نهر «سنْيك» (الثعبان) ونهر كلير ووتر (الماء الصافي)، فترى من الارتفاع الذي كنا عليه التقاء النهرين، كما ترى مدينة «لوِسْتُن» في قاع الوادي؛ الفرْق بين المرتفع الذي كنا عليه وجوف المنخفض الذي سنهبط إليه ألفا قدم، والانتقال في المنظر مفاجئ حتى ليدهش الرائي الذي لا يتوقع أن يرى ما رآه؛ والنزول من القمة إلى الوادي يكون على طريقٍ هو معجزة في تعبيد الطريق: طريق يدور مع السفح في دوائر وانثناءات، هابطًا تدريجيًّا مع دورانه وانثناءاته حتى تصل إلى بطن الوادي، وعندئذٍ تدرك انتقالًا مفاجئًا في درجة الحرارة؛ ففي الوادي دفء شديد بالنسبة إلى القمة التي هبطنا منها.
ودُرْنَا بالسيارة في أنحاء البلد؛ كانت «لوِستن» غريبة في عيني حتى لقد أحسست أني انتقلت إلى عالَم آخَر لا إلى بلد قريب، ولعل هذا الشعور مصدره طريقة النزول إليه منزلقين على طريق يذهب ويجيء في حضن الجبل، ووقوعه في جوف إناء من الأرض فسيح القاع جدرانه جبال محيطة بقاعه … مدينة لوستن قريبة جدًّا من أحد محابس الهنود الأصليين؛ فالهنود الأصليون محصورون في محابس منتثرة هنا وهناك في أرجاء الولايات المتحدة، وليس معنى انحصارهم في محابسهم أنهم محرَّم عليهم الخروج والسفر، بل معناه أن الحكومة قد اختصت كل مجموعة من مجموعات الهنود الأصليين بمساحة من الأرض يستغلونها دون أن يلتزموا بالضريبة، ولا يجوز لأحد من البِيض أن ينافسهم في أرضهم تلك ولا ما يقع فيها من أنهار وأشجار وغيرها؛ وفي مقابل هذه الحقوق يضيع على الهنود حقهم في التصويت، أو بعبارة أخرى: يضيع عليهم حقهم في أن يكونوا مواطنين؛ غير أن لكل هندي — كما أفهمني الدكتور «ك» في هذه الرحلة — الحق في التنازل عن امتيازاته تلك إذا أراد أن يكون مواطنًا له ما للأمريكيين وعليه ما عليهم، والكثرة الساحقة منهم يؤثرون امتيازاتهم على أن ينخرطوا في سلك المواطنين.
رأيت ونحن ندور بالسيارة في أنحاء البلد أفرادًا من الهنود يسيرون في الطرقات، لكني رأيتهم بالثياب العادية المألوفة نساءً كانوا أو رجالًا، وكنت أظن أن الهنود الأصليين لا يرتدون إلا الملابس التي أراهم فيها حين أراهم في السينما مثلًا، فسألت الدكتور «ك»: أين الريش الذي يتميزون به على رءوسهم كما ألِفناهم في الصور؟ فضحك وقال: إنهم لا يلبسون ثيابهم الوطنية الأصلية إلا في مناسبات، وهم عادةً لا يلبسونها إلا إذا تقاضوا أجرًا لقاء ذلك، كأن يلبسوها مثلًا لمخرج سينمائي أو نحو ذلك، وإذَن فهي مورد كسب لا أكثر ولا أقل.
وعُدْنا فصعدنا بالطريق المنثني إلى القمة التي هبطنا منها، وسرنا في مرتفعنا شطر مقرِّنا «بلمان»؛ وفي طريق عودتنا فتح الدكتور «ك» موضوع الإنجليز واستعمارهم مرة أخرى، فحدثت بيني وبينه طوال الطريق مناقشةٌ بَدَتْ فيها سرعة البديهة بالنسبة لكلينا؛ فالدكتور «ك» — على غبائه البادي في ملامح وجهه وطريقة مشيته — عسير في مناقشته، غير أني أعتقد أنني كنت أقوى منه حجة، لا بسبب ضعفه في المناقشة، بل بسبب ضعف القضية التي يدافع عنها، وقضيته هي أن الإنجليز قد بلغوا في استعمارهم حدَّ الكمال، ومن أضعف جوانب مناقشته المَثَل الآتي، أسوقه لأدل به على مدى التحيُّز في نظرة الإنسان مهما كان عالِمًا كالدكتور «ك».
قال: سأترك الآن قناة السويس؛ لأن عاطفتك متصلة بها ولا تصح فيها المناقشة، وأنتقل إلى جبل طارق، فهل يُنكِر أحد أن إنجلترا قد صانت هذه النقطة الهامة لصالح العالم كله؟
قلت: أنا لا أحب الكلمات العائمة المبهمة، فما معنى «العالم» في هذا السياق؟ أيشمل «العالم» الصين والروسيا مثلًا؟
قال: لا، بل الولايات المتحدة.
قلت: كأن تعريف العالَم عندك هو بلدك الذي تعيش فيه؟
قال: وما الضرر في أن أنظر إلى الموضوع من وجهة نظري؟ ألا يجوز أن تكون هي أيضًا وجهة نظر «العالم»؟
قلتُ: إنك تذكر كلمة «العالم» مرة أخرى، هل تظن أن الإسباني ينظر بنفس هذا المنظار؟
قال: لا، استثنِ الإسبان، تجد غرب أوروبا كله يرى الرأي نفسه.
قلتُ: ولماذا تجعل غرب أوروبا والولايات المتحدة هما «العالم»؟
وانتقل بنا الحديث إلى الهند، فقال: إن هنودًا ممن كانوا يسخطون على الإنجليز وهم يحكمونهم، يعترفون الآن أن الفضل في تقدُّم الهند راجع إلى الإنجليز.
فقلتُ له: لستُ هنديًّا لكني لا أوافق على رأي هؤلاء الهنود؛ لأنه يكفي أن تذهب إنجلترا إلى الهند وهي وحدة تاريخية جغرافية، وتخرج منها وهي شعبان يتقاتلان: الهند وباكستان؛ فقد أبرزت إنجلترا ما بينهما من خلاف ديني، وأغرقت ما بينهما من نقط اتفاق لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى.
قال: لكن هل من شك في أنهم تركوا هناك القانون الإنجليزي؟
قلتُ: كأن المدنية عندك مرهونة بالقانون الإنجليزي، وإذَن فالولايات المتحدة نفسها بهذا المقياس ليست متمدينة ولا فرنسا متمدينة كذلك؟
وهنا وصلنا إلى المنزل، فشكرتُ لهما هذه الرحلة التي كانت في الحق ممتعة من حيث مناظر الطريق، لكنني لا أستخف دمَّهما، وخصوصًا الدكتور «ك» وقد حدَّ هذا بالطبع من متعة الرحلة.
الأحد ٢٨ فبراير
مر عليَّ في الصباح الدكتور «ج» ليأخذني إلى الكنيسة المنهجية التي دُعيت أن أقول فيها للمجتمعين «موعظة» الأحد، وكانت «موعظتي» هي شرح مبادئ الإسلام! وطريقتي دائمًا في كل الأماكن التي شرحتُ فيها مبادئ الإسلام أن أبيِّن بوضوح أن اليهودية والمسيحية والإسلام كلها فروع من جذع واحد؛ حتى لا يخلط السامعون — كما هم يخلطون — بين الإسلام والديانات الهمجية، ظانين ألا ديانة جديرة بالاحترام إلا المسيحية أولًا واليهودية ثانيًا؛ وبعد أن أشرح كيف تتشابه هذه الديانات الساميَّة الثلاثة، أبيِّن كيف أن الإسلام إنما جاء يسد النقص الذي في الديانتين الأخريين، من حيث أنه جَعَلَ الدين عامًّا لا خاصًّا كما هو عند اليهود، ثم جعل الله واحدًا لا ثلاثة كما هو عند المسيحيين.
ودارت مناقشة بعد الفراغ من كلمتي، فسألتني سيدة في نحو الأربعين من عمرها، سمحة الوجه وعليها بساطة الطهر ونقاؤه (وقد علمتُ بعد خروجنا من الكنيسة أنها فقدت زوجها منذ خمس سنوات، ولها خمسة أطفال، وهي مدرِّسة لمادة التدبير المنزلي في أحد أقسام الجامعة لتعول هذه الأسرة الكبيرة) سألتني قائلة: إذا كان الإسلام قريبًا كل هذا القرب من المسيحية كما شرحتَ لنا، فكيف تعلِّل هذا التفاوت البعيد بين الثقافة المسيحية والثقافة الإسلامية؟ فقلت لها: إنني يا سيدتي رجل فلسفة بصفة عامة، ورجل منطق بصفة خاصة، ومدقق في معاني الألفاظ بصفة أخص، فماذا تعنين بعبارة «ثقافة مسيحية»؟ الثقافة مُركَّبٌ من علم وفن وموسيقى وأسلوب عيش وطريقة بناء للبيوت وارتداء لملابس … إلخ إلخ، فهل تريدين أن تَصفي كل هذا المُركَّب المعقد بكونه مسيحيًّا؟ ثم ماذا يكون المعنى بعد ذلك؟ أما إذا أردتِ أن تقولي إن هناك اختلافًا في المُركَّب الثقافي بين البلاد التي أُضيفت إليها العقيدة المسيحية والبلاد التي أُضيفت إليها العقيدة الإسلامية، أجبتك بأنه خلاف لا دخل للمسيحية أو للإسلام فيه، فلو بدَّلنا الموقف وأعطيناكم الإسلام وأخذنا المسيحية؛ لظلت خيوط المُركَّب الثقافي في الجانبين على ما هي عليه تقريبًا؛ أنا لا أقول ألا أثر للدين في تشكيل وجهة النظر، بل أقول إن المسيحية والإسلام في هذا سواء، فلا اختلاف في النتيجة بين أن يشرب المجتمع جرعة من مسيحية أو جرعة من إسلام، ما دام كلٌّ منهما في أساسه دينًا يعتقد في إلهٍ ذي صفات متَّفَق عليها بين العقيدتين.
قالت: لكننا نلاحظ أن المسيحية دفعت الشعوب المسيحية إلى رفع مستوى معيشتها، على حين أن الإسلام لم يفعل ذلك في شعوبه؛ فقلت لها: أي شعوب مسيحية تقصدين هذه التي دفعتها العقيدة المسيحية إلى رفع مستوى معيشتها؟ أتكونين مسيحية أكثر من المسيح ذاته؟ والمسيح لم يأبه بمستواه الاقتصادي! إنه لم يفكِّر في أن تكون له ثلاجة كهربائية وسخان كهربائي وسيارة! أم المُثُل العليا المسيحية كما تمثَّلت في الرهبان والزُّهاد والأديرة والصوامع؟ وهؤلاء بالطبع هم المسيحية في أصفى وأنقى صورها؟ فهل كانت العقيدة دافعة لهم أن يرفعوا مستوى معاشهم؟ وأنتِ طبعًا تقصدين برفع مستوى المعيشة هذه البحبوحة المادية من مالٍ ومتاع، إنني لأكاد أقول إنكِ تزدادين مسيحية كلما نزلتِ بمستوى معيشتك! تزدادين مسيحية كلما خشنت ثيابك وهزل مسكنك وقلَّ طعامك كمًّا وكيفًا، تزدادين مسيحية كلما قاومتِ رغبات الجسد — هكذا قال قادة المسيحية من رسل وفلاسفة — وما إشباع رغبات الجسد إلا ما تسمينه أنتِ رفعًا لمستوى المعيشة … إن مستوى المعيشة في أمريكا قد ارتفع لعواملَ في أرضها من معادن ونبات وحيوان، لا لأن أهل أمريكا مسيحيون.
إذَن يا سيدتي فلا الإسلام أفْقرَ أهله ولا المسيحية أغنَتْ أصحابها، بل العكس أولى؛ فالمسيحية إن دعت إلى شيء من ذلك فهي تدعو إلى الزهد والرهبانية، والإسلام إن دعا إلى شيء من هذا القبيل فهو يدعو ألا رهبانية، وأن الدنيا جديرة أن ينظر إليها الإنسان كأنما هو سيعيش فيها أبدًا.
قالت: وماذا تقول في أثر الإسلام في معاملة المرأة من حيث الحجاب وما إلى ذلك؟ أليس ذلك ثقافة إسلامية؟
فقلت: لا، هذه ثقافة اجتماعية، كان الأمر كذلك قبل الإسلام، وكان يكون كذلك بغير الإسلام؛ إنكِ لو رأيتِ مسيحيًّا يأكل بالشوكة والسكين فلا تقولين إن المسيحية دعته إلى ذلك، بل تقولين إنه أسلوب عيش اجتماعي يأتي عليه أي دين فلا يغيِّره … وعلى كل حالٍ فاعلمي أنْ ليس في أصول الإسلام سطر واحد يقضي حتمًا بحجاب المرأة، وأن زوجة النبي قد خرجت معه للقتال، فليس الإسلام مسئولًا عن أصولٍ اجتماعية لم يُقِرَّها بل عمل على زوالها.
فاعترضت سيدة أخرى، راجعة بالحديث إلى نقطة رفع المستوى المعاشي بسبب العقيدة، قالت: لكنكَ أفهمتنا أن الزكاة من أصول الإسلام، وهي إعطاء نسبة معينة للفقير، فإذا لم يكن الدين عاملًا على رفع المستوى الاقتصادي، فلماذا نعطي الفقير إذَن؟
فقلت لها: إن أقل ما أجيب به هنا هو — على رأي أرسطو — ألا أخلاق بغير حدٍّ أدنى من ظروف مادية؛ فلكي يصلِّي المتدين فلا بد له من أنفاس يرددها في الصلاة، وهذه لا تكون بغير طعام ولا شراب، فهذا الحد الأدنى هو الذي نراعيه حين نحث على طعام المسكين.
وانتهى الاجتماع وكان لكلمتي ومناقشتي وَقْع عميق جدًّا في نفوس السامعين رأيته في نظرات الدهشة، وفي تحية الإعجاب التي حيوني بها وأنا منصرف.
الجمعة ١٩ مارس
كنا في منزل الدكتور «ف. ب» عصر اليوم، في الاجتماع الأسبوعي الذي يعقده في داره كل أسبوع؛ ومتكلمة الاجتماع اليوم هي الدكتورة «س. ش» وموضوعها «العقيدة المسيحية»؛ وذلك ليحدث شيء من التقابل والتوازن مع كلمتي التي ألقيتها في الاجتماع نفسه يوم الجمعة الماضية عن مبادئ الإسلام … دارُ الدكتور «ف. ب» كعهدي بها قد بلغت حد الكمال من حيث الروح التي تشيع فيها أثاثًا وكتبًا وسقوفًا وجدرانًا، كل شيء فيه فوَّاح بالعاطفة الإنسانية في أسمى معانيها وفي شتى نواحيها؛ فيه دفء القلب إلى جانب الفكر والدراسة، فإذا نسيت تجاربي كلها فلن أنسى السيدة «ب» وقد أحنت الأيام ظهرها تجلس على كرسيها كأنه العرش، وأمامها أدوات القهوة والشاي، ونتقاطر إليها هذا يطلب قهوة، وذلك يطلب شايًا، والدكتور الكهل العالم المتواضع «ف. ب» يدور على الحاضرين بوعاء الفطائر التي خبزها هو اليوم بيديه!
كانت الدكتورة الفيلسوفة «س. ش» غاية في جرأة التفكير في كلمتها عن المسيحية؛ فبدأت بقولها إن المسيحية ديانةُ تعدُّد لا ديانة توحيد، وهي لا تعني فقط تثليث المسيحية، بل أضافت إلى ذلك كيف يتحدث المسيحيون عن قديسيهم؛ فهذا قديس خاص برعاية الزرع، وآخَر بالملاحة وهكذا، ثم أخذتْ تشرح أساس الأخلاق المسيحية كما كانت في العصور الوسطى — وهي أنقى عصورها — وهو الزهد والتواضع وحب الإنسان لأخيه، وسألتْ قائلة: هل هذا هو ما يتخلَّق به المسيحيون فعلًا؟ وهنا راحت تذكر نتائج المسيحية على الحضارة الإنسانية، فبدأتْ بقولها إنها كانت سببًا في الحروب أكثر منها سببًا في السلام، وأخذتْ تذكر الحروب والشناعات التي حدثت في أوروبا باسم الدين، ثم انتقلت إلى أثرها على العلوم فقالت إنها كانت نكبة على التقدُّم العلمي، وراحت تذكر أمثلة تفصيلية للاضطهاد في دائرة العلم والعلماء، ثم شرحت فكرةً ذكرها فرويد في أحد مؤلفاته، وهي أن ثلاثة أرباع القوى العقلية عند الناس قد ضاعت بسبب الدين؛ ذلك أن الطفل يندفع إلى السؤال عن شيئين في طفولته، وهما: الله والجنس، فيصده الدين عن المضي في كليهما مضيًّا صريحًا؛ فلا هو يبيح حرية السؤال عن الله بصراحة، ولا هو يبيح له حرية السؤال عن العلاقة الجنسية وأعضائها، وبهذا تنطمس الرغبة الطبيعية عند الطفل في السؤال والبحث، ويتعلم منذ طفولته — بسبب التضييق الديني — أن ينخرط مع الناس في خرافاتهم؛ واستطردت الدكتورة في ذكر رأي فرويد من أن الدين قد سبَّب للناس من الشقاء بقدْر ما سبب لهم من السعادة ألف مرة؛ لأنه كان سببًا في الكبت الجنسي وما يترتب عليه من آثار عميقة تحطِّم الشخصية وتلويها … لكن الدكتورة المتحدثة عادت فذكرت للدين بعض فضائله، ومنها أن الكنيسة قد أتاحت للإنسان فرصة انضمامه إلى جماعة تتعاطف ولو إلى حين، فيكسبه ذلك شعورًا بالطمأنينة، ثم كانت العقيدة الدينية حافزة أحيانًا على البحث العلمي، بدليل ما ذكره نيوتن في كتابه «أصول الطبيعة» من أنه إنما أدى بحثه هذا ليكشف به عن خصائص الله، ثم كان للعقيدة الدينية أثر في الفنون تراه في كاتدرائيات العصور الوسطى وتصويرها ونحتها … ثم عادت الدكتورة إلى هجومها مرة أخرى، قائلة وهي تختم كلمتها: إن المسيحية قد علَّمت الناس النفاق، بأن جعلتهم يعتقدون أنهم ذوو أخلاق معينة، مع أن حياتهم العملية هي أبعد ما تكون عن هذه المبادئ، ولو عاش المسيح اليوم في أمريكا لحُكِمَ عليه بالسجن متهمًا بعشرين تهمة؛ لأن أخلاقه ستكون متضادة مع القانون الأمريكي في كثير من نواحيه؛ والكنيسة المسيحية فوق هذا كله تمنع تطور الأخلاق؛ لأننا إذا اعتقدنا أن هناك مبادئ خلقية معينة لا تتغير، أنكرنا بالتالي ما يقتضيه تطور المجتمع من تطوُّر خلقي، وكذلك الكنيسة عقبة في سبيل الديمقراطية الحقيقية، وضربت مثلًا لما تعنيه ما يجري في الانتخابات الأمريكية من أن المرشح الفلاني لا أمل له في الدائرة الفلانية لأنه كاثوليكي وأهل الدائرة بروتستانت، أو لأنه بروتستانتي وأهل الدائرة من الكاثوليك وهكذا؛ وإذَن فالمواطن الأمريكي متأثر في أداء واجبه الانتخابي بأشياء لا علاقة لها بكونه مواطنًا أمريكيًّا، وذلك بسبب عقيدته الدينية.
كنت أتوقَّع بعد كلمة الدكتورة «س. ش» أن أسمع مناقشة حامية، لكن الذي أدهشني هو أن كل مَنْ تكلَّم بعد ذلك من الحاضرين، إنما تكلَّم ليضيف إلى مساوئ العقيدة الدينية سيئة جديدة، ومن أحسن مَن تكلموا شابٌّ اتهم الديانات بأنها تجعل من الناس مرضى في نفوسهم؛ لأنها تصيبهم بالعلل العصبية بما تخلق فيهم من عُقَدٍ نفسية بالخطيئة، فتراهم يمتنعون عن العيش عيشًا سعيدًا بما غَرَسَ فيهم الدين من تحريمات لا مبرر لها.
•••
كانت الليلة موعد الحفلة الراقصة الكبرى التي أقامها طالبات السنة الثالثة من الجامعة بشتى أقسامها لانتخاب ملكة الجمال فيهن، وبالبداهة مَن ينتخب هم الطلاب الذكور، وقد تمَّت عملية الانتخاب أمس، لتعلن النتيجة في هذه الحفلة التي تُقام الليلة، إنها حفلة مشهورة بين حفلات العام كله بأنها لا تقتصر على الجامعة بل تشمل ألوفًا جاءوا من أنحاء الولاية كلها، وأنا أستعمل «ألوفًا» لأعنيها؛ فقد قدَّروا أن مَن جاء إلى الحفلة الليلة عشرة آلاف راقص وراقصة.
كان لمن شاء أن يشتري تذكرة للفرجة دون الرقص، على أن يجلس في شرفة الصالة الفسيحة، فاشتريت تذكرة وجلستُ في الشرفة أنظر من أعلى إلى هذه الألوف المتزاحمة من فتيات وفتيان في أبهى حُلة يرقصون … منظر نادر الوجود في الدنيا بأسرها؛ الفتيات كلهن بغير استثناء قد لبسن فساتين السهرة أشكالًا وألوانًا، والكثرة العظمى من تلك الفساتين تكشف عن نصف الظهر بالكتفين وجزء كبير من الصدر، وفي ضوء المكان الخافت ظهرت هذه الأعالي العارية من ظهور وأعناق وصدور وأذرعة كأنها شهدٌ وورد! بل لا أدري ماذا أقول، فما الشهد وما الورد حتى نقارن به هذه الأجساد البشرية الجميلة الشفافة التي تتدفق شبابًا وحياةً وفتنةً وروعةً؟! وكان معظم الطلاب قد ارتدوا حُلل السهرة أيضًا … حين كانت تعزف الموسيقى أنغامًا ناعمة خافتة، كنت أسمع حفيف الفساتين يضيف إلى الموسيقى نغمًا آخَر هو في ذاته أجمل من الموسيقى، لكن الأدوار الموسيقية العالية كانت تُغرِق ذلك الحفيف، وتستبدل به فتنة أخرى، هي حركة الرقص السريعة التي تذكِّرك — إن كنتَ قد نسيتَ — أنك من هذه الشرفة إنما تطلُّ على شباب في عز الشباب! … كان «نيتشه» عليل البدن قصير النظر، وقد وقف ذات يوم إلى جانب الطريق حين مرَّت أمامه فرقة من الجيش الألماني تدق الأرض دقًّا بأقدامها القوية، فتحسَّر على نفسه وعلى بدنه العليل الهزيل، الذي لا يستطيع أن يمشي مثل هذه المشية الفتية العنيفة، وعندئذٍ تمنَّى للإنسان ألا يكون إلا هكذا قويًّا، ومن ثَمَّ نبتت في رأسه فكرة فلسفته كلها؛ وأعني بها فكرة «الإنسان الأعلى» … وقد تذكرت ذلك وأنا أنظر من شرفتي إلى هذه المئات من الشباب الجميل يتلاصق حبًّا، وتنظر العيون إلى العيون غرامًا، تذكَّرت وتحسرت أنني لست واحدًا من هؤلاء، ثم تمنيت للدنيا كلها ألا تكون إلا هكذا شباب وجمال وحب؛ قارن هذه المجموعة بأية مجموعة أخرى في أي وجه آخَر من أوجه الحياة: عمال في مصنع مع عاملات، طلبة في جامعة مع طالبات، متفرجون في مسرح مع متفرجات، شارون في متجر كبير مع شاريات … فلن تجد ما هو أروع في هذه الجماعات كلها من هذه المجموعة: مجموعة الراقصين والراقصات في هذه الثياب وفي هذا الشباب … إن الذي قال إن الدنيا قد خُلِقَت للعمل قد كذب، أو خُلِقَت للدراسة قد كذب، إنما خُلِقَت الدنيا للحب، الحب في إبَّانه، على شرط أن يكون المحبون من أصحاب الجمال وصاحباته.
وقفت الموسيقى، وصاح صائح مع ضربات طبلة دوَّت في المكان: «ملكة السنة الثالثة لهذا العام …» أنصتت الآذان لتسمع مَن ذا يُعلَن عنها «ملكة» … ثم أكمل الصائح صيحته ناطقًا بالاسم، هي «مارثا» فدوَّى المكان بتصفيقٍ حادٍّ كادت ترتج له الجدران، طبلٌ يدوِّي وزمارات تزمر في انفعال؛ الجو كله قد امتلأ بالفرح كأن نبيًّا جديدًا قد أرسلته السماء ليهدي الناس فوق الأرض!
وعجبتُ أنا حينًا كيف لم تُنتَخب «سوزان»؟ أنا لا أعرفها فليست من طالباتي، لكن رأيت إعلاناتها في الأسبوعين الأخيرين تسدُّ الفضاء، تعترضك في الطريق وعلى الجدران وفي فصول الدراسة وعلى موائد المقصف والمطعم، وفي المذياع تسير به السيارات تشق به سكون مدينة بلمان الهادئة: «صاحب الوجدان ينتخب سوزان»، وغير ذلك من العبارات التي أجادت صياغتها لتجيء مجموعة منغومة، جاعلة من اسمها «سوزان» مرة و«سوزي» مرة أخرى و«سو» مرة ثالثة … فمَن ذا قد تحجَّر قلبه بعد هذا كله ولم ينتخب «سوزان»؟ إذَن فلأرقب لأرى كيف تكون «مارثا» الظافرة بعرش الجمال …
ها هم الراقصون والراقصات قد أفسحوا طريقًا، وفجأة رأيت عربة العرش مارقة من وسط الزحام، لست أدري من أين جاءت؛ عربة زخرفوها بستائر من قماش مرصع باللوامع وزينوها بالزهور، وجلست «مارثا» على حافتها الخلفية عالية ظاهرة، وجلس أمامها أربع وصيفات ممن كُنَّ ينافسنها أمس في عرش الجمال، وكان يدفع العربة من الخلف شابان بثياب السهرة السوداء؛ البنات الخمسة كلهن بثياب السهرة البيضاء؛ الكل يصفِّق لمارثا وهي مارة في الطريق الذي أفسحوه لعربتها التي سارت بغير صوت كأنها صُنِعَت من الهواء! دارت العربة حول القاعة حتى ذهبت إلى حيث فرقة الموسيقى، وهنا أخذ المذيع يذيع اسمها من جديد، ثم وضع على رأسها تاجًا جميلًا من الزهر الأبيض ثم ناولها أشياء مختلفات، الواحد تلو الآخر؛ هذه كأس وهذا ما لست أدري ماذا، ودقَّت الطبلة دقات اهتزت لها القلوب، وعلا صوت الموسيقى، وبدأت العربة في دورة جديدة حول القاعة، هذه المرة كانت الملكة قد تم تتويجها، «مارثا» في هذا الجمال النادر هي الليلة ربة الجمال؛ ضع هذا الجمال الإلهي في ثوبٍ غاية في الرونق، ثم ضع على هذا كله تاجًا جميلًا من الزهر الأبيض، وأجلس أمامها أربع فتيات هُنَّ فتنة لكنهن دونها؛ لأنهن جلسن عند قدميها، وهن اللائي كُنَّ منذ يوم واحد يسابقنها وينافسنها في الجمال، رأيت هذه المرة «سوزان» بين الوصيفات، رأيتها بكل إعلاناتها وصخبها قد جلست الآن ساكنة عند قدمَي «مارثا» خضوعًا لجمالها وخشوعًا.
وانتهت الدورة وعاد الرقص إلى مجراه، وكانت الساعة قد بلغت منتصف الليل، فخرجتُ وتركتُ هذه الدنيا الزاخرة الحافلة بالشباب وبالجمال وبالفن الذي تبدَّى في الشباب وفي الرقص وفي الموسيقى والغناء، وستظل الحفلة قائمة إلى الثانية بعد منتصف الليل، خرجتُ وشاء الله أن يبدأ المغني أغنية وأنا في طريقي إلى الباب، بدأت بهذه العبارة: «أنَّى لي امرأة تقبِّلني، امرأة تضمني إليها ضمًّا لصيقًا، ثم تسرق قلبي وتمضي!»
الجمعة ٧ مايو
كنتُ في نادي الأساتذة صباحًا أجلس مع أستاذين كانا يتحدَّثان عن سقوط «ديان بيان فو» (في الهند الصينية)؛ وانتهى الحديث إلى ذكر «أخلاق الحرب» والاختلاف في فهمها بين الشرقيين والغربيين، فقال أحدهما — وهو شاب: إن أخلاق الحرب تختلف في نظر أهل الشرق الأقصى عنها في نظر الغربيين (ولعله صبَّ حديثه على الشرق الأقصى لوجودي، وإلا لجعل حديثه عامًّا على الشرق أقصاه وأدناه معًا)؛ فالشرقيون — في رأيه — لا يفهمون أبدًا ما معنى أن يكون عليهم واجب نحو أسرى الحرب، قال: إنني عندما كنت هناك تحدثتُ إلى كثيرين منهم فوجدتهم جميعًا يعتقدون بأن الحرب قتلٌ، فلماذا يشغلون أنفسهم بعبء الأسرى طعامًا وثيابًا ورعاية، مع أنهم من الأعداء؟ فأجاب زميله قائلًا: نعم، إن الشرقيين لا يفرِّقون بين الجندي باعتباره إنسانًا والجندي باعتباره عضوًا في جيش محارب، وإنه إذا ما كان في موقف يزيل عنه العضوية في الجيش المحارب ويجعله إنسانًا صرفًا وجب عندئذٍ تغيير النظرة إليه … فعاد الأستاذ الشاب إلى الحديث فقال: إن أخلاق المدنية الغربية المسيحية هي أنه إذا قابلك قاطع طريق مسلح ورفعت له ذراعيك استسلامًا امتنع عن قتلك، فإن كان هذا هكذا، فالحصن الذي يستسلم أو الطائرة التي ترسل إشارة إلى أرض العدو بأنها ستهبط عجزًا واستسلامًا، وجب الامتناع عن إيقاع الأذى بجنود الحصن أو ملاحي الطائرة؛ إنني لما كنت أتحدَّث في ذلك إلى أهل الشرق الأقصى، وجدتهم يجيبونني بالقنبلة الذرية التي ألقاها الأمريكيون فوق هوريشيما، ويذكرون لي كيف فتكت تلك القنبلة بمئات الألوف دفعة واحدة، وهم يذكرون ذلك ليدلوا على أننا نحن الغربيين كذلك نقتل الناس غير المحاربين ما دمنا في قتال، وهم لا يدركون أنه بدل أن نرسل جنديًّا يحارب جنديًّا، فقد اكتفينا بإرسال جندي ليحارب مدينة بأسرها؛ وذلك لأنهم لا يزالون يتصوَّرون أن الحرب هي نزال بين جندي وجندي … وهنا توجَّه الأستاذ الشاب إليَّ يطلب رأيي في هذا كله — ولم يكن لي رغبة ساعتئذٍ في الحديث — فقلت له: إن مسألة «أخلاق الحرب» بأسرها مسألة اعتبارية، فلم ينزل وحي من السماء يقول إنه ينبغي أن تكون للحرب أخلاق هي كذا وكذا، وما دام الأمر كذلك فقولوا أنتم ما شئتم ولأهل الشرق الأقصى أن يقولوا ما يشاءون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنت تتحدث كأنما الأمر من ناحية الغربيين كله براءة وشهامة، واتخذت هوريشيما علامة على عدم فهم الشرقيين لروح القتال الحديث، وفي موقفك تناقض صريح؛ لأنه إن كان الغرب يساير روح القتال الحديث في أن يرسل جنديًّا واحدًا كما تقول ليُهلِك مدينة بأسرها، فيها المحاربون وغير المحاربين، إذَن فالغرب باتجاهه هذا قد ناقض «أخلاق الحرب» التي تزعم أنها من مبادئه، ولم يصبح فرْقٌ بينكم وبين أهل الشرق الأقصى في فهْمهم للقتال بأنه قتلٌ … وانتهى الحديث فجأة لبدء موعد الدروس.
الجمعة ٢١ مايو
بعد الظهر بقليل بدأنا الرحلة إلى مصيف رجال الجامعة، وأصفه بهذه الصفة لأنه مكان منقطع في غابة بعيدة، ليس فيه إلا كابينات للأساتذة، بدأنا الرحلة، والراحلون هم: الدكتور «و» وزوجته وطفلاهما، وشاب هندي يحضِّر للدكتوراه في الكيمياء الزراعية وأنا؛ والجهة المقصودة هي «بريست ليك» (أي بحيرة القسيس، وسُمِّيَت كذلك لأن قسيسًا معروفًا عاش هناك معتزلًا وذاع اسمه وصوته، فنُسِبَت إليه البحيرة والنهر الذي يخترقها)، وبحيرة القسيس هذه تقع في الطرف الشمالي من ولاية أيْداهو الملاصقة لولاية واشنطن، والبحيرة قريبة جدًّا من حدود كندا.
وصلنا البحيرة بعد خمس ساعات في السيارة أو يزيد، وهناك عند نقطة التقائنا بالبحيرة تركنا السيارة لنركب زورقًا بخاريًّا يملكه أيضًا الدكتور «و»، ونقلنا إلى الزورق معظم ما حملناه معنا من طعام، وقد حملنا مقدارًا كبيرًا يكفينا أربعة أيام في ذلك المكان النائي المنعزل، وأبحرنا في الزورق البخاري شمالًا نحو ساعة كاملة، قطعناها في أجمل مكان شهدته عيني؛ فالبحيرة ضيقة طويلة، طولها ثلاثون ميلًا، ولا يزيد عرضها فيما أظن عن ميل واحد، وتحفُّها من جميع جهاتها جبال مشجورة بكثيف الصنوبر الفارع، والقمم لم تزل معمَّمة بثلوجها … إني لأعجز عجزًا تامًّا عن وصف هذا الجمال الطبيعي الذي لا يطوف بأحلام حالم … ماذا أقول؟ يستحيل أن يوجد في الدنيا مكان يدنو من هذا المكان جمالًا، وإني لأقارنه بمنطقة البحيرات في شمالي إنجلترا فأجده يفوقها؛ لأن الجبال هنا تغطيها أشجار الصنوبر الكثيفة، أما هناك فالجبال إما عارية أو تغطيها خضرة خفيفة …
في هذه الجنة لبثنا أربعة أيام كنت فيها كالحالم … وعُدْنا يوم الثلاثاء ٢٥ مايو والمطر هاطل والبحيرة هائجة مائجة والسماء ملتفة بالضباب؛ إن الجبال عند رحيلنا قد اتخذت صورة أخرى غير الصورة التي استقبلتنا بها حين كان الجو رائقًا صافيًا؛ الجبال عند رحيلنا كانت كأنها من ظلال، لا أرى منها إلا سوادها، فلا خضرة الأشجار بادية، ولا أبيض الثلج عند القمم ظاهر.
الأربعاء ٢٦ مايو
المطر نازل طيلة النهار، ثم تحوَّل إلى ثلج مدة ساعتين أو ثلاث من ساعات الظهر؛ عجيب أن ينزل الثلج في آخر مايو! جلست طول الصباح في نادي الأساتذة أقرأ مقالًا ممتعًا في مجلة نيويوركر الصادرة يوم ١٥ مايو، نبَّهتني إليه السيدة «ت» التي تحضُر لي محاضراتي في الفلسفة الإسلامية … هو مقال يقارن فيه الكاتب الأصل العبري للإنجيل بترجماته إلى اللغات الأوروبية، قائلًا: إن للغة العبرية خصائصَ يستحيل ترجمتها إلى الإنجليزية مثلًا، مع أنها خصائص دالة وهامة في تلوين اللغة تلوينًا معبِّرًا. وراح يحلِّل هذه الخصائص، وإذا بي ألاحظ انطباقها على اللغة العربية، وهي لَفتاتٌ من الكاتب قوية جدًّا عميقة جدًّا، ولا بد أن أقرأ المقال مرة أخرى قراءة أدق … وأهم ما اهتممت له في المقال هو الفكرة التي عرضها الكاتب في علاقة اللغة وفكرة الناس عن الزمن؛ فليس في العبرية لحظة حاضرة، كل ما فيها ماضٍ أو مستقبَل؛ فلما قرأتُ ذلك أدركت من فوري أن ذلك أيضًا في اللغة العربية، ليس هناك «فعل» يدل على اللحظة الحاضرة؛ لأنه حتى الفعل المضارع عندنا لا يشير إلى اللحظة الحاضرة بمقدار ما يشير إلى فعل لم يتم بعدُ؛ فالمتحدِّث بالعربية لا يضع نفسه في لحظته الحاضرة ثم يُنسِب الحوادث الماضية والمستقبَلة بالنسبة إلى تلك اللحظة، كما نرى في اللغة الإنجليزية مثلًا حين نستخدم «الفعل المضارع الكامل» أو «الفعل الماضي الكامل» … على أن هذه ملاحظات سريعة لا تدل على شيء مفيد إلا إذا فكرت في الموضوع تفكيرًا مفصلًا شاملًا، فأرجو أن أتمكَّن من دراسته يومًا ما.
بعد أن فرغتُ من محاضرتي في الفلسفة الإسلامية اليوم، دعاني أعضاء الفرقة التي أحاضرها — بما فيها من طلبة ومستمعين — إلى حفلة صغيرة أعدُّوها توديعًا بمناسبة انتهاء الفصل الدراسي؛ وهناك قام الدكتور «ﻫ» أستاذ الأدب الإنجليزي — وقد حضر لي جميع محاضراتي بغير استثناء — فألقى كلمة تقدير اهتزت لها نفسي، ثم قدَّم لي هديةً كتابَ «محاورات ألفرد نورث وايتهد» الذي صدر هذا الأسبوع، وقد وقَّع الحاضرون على غلافه من الداخل، بعد أن كتب نيابةً عنهم الدكتور «ﻫ» عبارة على الغلاف سأعتز بها ما حييت … إنني والله كلما تذكرت ما لقيته في هذه البلاد من تقدير يكاد الدمع يسحُّ من عيني؛ فقد عشتُ في وطني ما عشتُ، وجاهدتُ فيه ما جاهدتُ، ولم أجد إلا بخسًا واستصغارًا واستخفافًا، حتى لقد فقدتُ الثقة في نفسي، وقد جئتُ إلى أمريكا فأعاد الناس إليَّ ما فقدته في أرض الوطن.
الأحد ٣٠ مايو
أراد لي الله أن أرى الجنة قبل أن أغادر مدينة بلمان، رأيتها مرة في «بريست ليك» ورأيتها اليوم مرة أخرى في صورة أخرى؛ إذ قضيتُ اليوم كله في مكانٍ يسمونه سويسرة الولايات المتحدة؛ حيث تنهض جبال يُطلِقون عليها اسم «الألب الصغيرة»، وهو مكان يقع في ولاية أورجون التي تجاور ولاية واشنطن من جهة الجنوب، ويبعد عنها ما تبعد الإسكندرية عن القاهرة.
فقد مرَّ عليَّ الأستاذ منو جرينوفلد بسيارته الساعة الخامسة صباحًا، فسرنا مارين أولًا بمدينة «لوستن» التي كنت قد زرتُها مرة وكتبت عنها، وأغرب ظواهرها أنك ترى نفسك فجأة قد أقبلتَ على حافة منخفض عميق واسع يهوي عن سطح المرتفع الذي أنت فيه ألفَي قدم؛ وفي هذا المنخفض تقع مدينة «لوستن»، تنظر إليها من أعلى فكأنك تنظر إلى مدينة في قاع بعيد؛ وطريق السيارات الهابط إلى هذا القاع يلف على سفح الجبل في ثنيات تروح وتجيء في حضن الجبل.
تركنا لوستن — وكنا لا نزال في ساعة مبكرة من الصباح — ولبثنا نسير على أرضٍ هي موجات ضخمة مغطاة بالخضرة التي لا شجر فيها؛ والخضرة هنا في معظم الحالات قمح في طريق النمو؛ فهذا الإقليم — كما قيل لي مرارًا — يُعَد أغنى بقاع أمريكا في محصول القمح.
وبعد مسيرٍ قليل صعدنا جبلًا على نفس الصورة التي هبطنا بها إلى لوستن؛ أعني أننا صعدنا في طريق يلتوي وينثني على سفح الجبل، ليصعد الصاعد متدرجًا حتى بلغنا القمة؛ والقمة هضبة مسطحة تنسيك أنك في منطقة جبلية؛ على هذه الهضبة المسطحة المستوية التي تمتد ما امتد البصر، والتي زُرِعَت كلها قمحًا، سِرْنا نحو ساعة، وصلنا بعدها إلى جنة الله على الأرض، ولبثنا في هذه الجنة سائرين في السيارة نحو ساعتين، حتى بلغنا المكان المقصود، وهو بحيرة «والوا» ومن حولها جبال الألب الصغيرة.
في هذه الجنة الأرضية مررنا على ما يُسمى «متنزه فيلد» وهي حديقة بستانيُّها هو الله! لم تنسِّقها يد البشر، ومع ذلك يستحيل أن تُقبِل عليها ولا ينفتح فوك من دهشة وتقول كما قلت أنا — دون سابق علم: إن هذا المكان فيه علامات التنسيق والتشذيب كأنه حديقة مصنوعة، لا جزء من الطبيعة المرسلة، وعندئذٍ تعلم — كما علمتُ أنا من زميلي — أنه فعلًا يُسمى «متنزه فيلد»؛ لأنه كالمتنزه الذي أُتْقِنَ تنسيقًا وتشذيبًا وتهذيبًا … وتدخل في مماشي هذه الحديقة الإلهية فترى الحكومة قد أضافت إلى الطبيعة إعدادًا ينفع المتنزهين؛ إذ أعدَّت مكانًا للطبخ ومكانًا للأكل وأمكنة للنوم وهكذا.
استأنفنا طريقنا في هذه الجنة الفيحاء؛ فطريق السيارة ممهَّد على السفح عند وسط الجبل، فعن يسارنا ينهض حائط الجبل إلى قمته، وهو مغطًّى كله بأشجار الصنوبر الضخمة العاتية؛ وعن يميننا مباشرة وادٍ عميق، وعبْر الوادي أمواج من الأرض الخضراء، لكن الخضرة هنا ليست قمحًا بل حشائش، وظهور الموج يلاحق بعضها بعضًا تبدو كأنها ظهور الخيل نُظِر إليها من الخلف وهي تعدو زُرافات، ولولا أن تشبيه الأرض الخضراء بالمخمل قد ابتُذِلَ حتى فقد معناه؛ لقلتُ إن المنظر عبْر الوادي شبيهٌ جدًّا بمساحة واسعة من المخمل الذي كأنما يغطي تحته أشياء ذات أطراف وزوايا؛ لأن المخمل ينثني هنا ويلتوي هناك، وعند انثنائه والتوائه يتغيَّر لون الخضرة كما يتغيَّر لون المخمل تمامًا حين ينثني ويلتوي … هذا الوادي الذي لم يخلق الله أجمل منه في الدنيا يُسمَّى وادي جراند روند … ها هو ذا طريق السيارات يهبط بنا إلى جوف الوادي، يهبط بنا درجةً درجةً على السفح، حتى بلغنا القاع لنبدأ في الصعود من جديد درجة درجة على السفح المقابل من الناحية الأخرى، وصعدنا إلى سطح هضبة مستوٍ، لكن الهضبة هنا مغطاة كلها بالشجر، وقد شقَّ طريق السيارات بين كتلة الشجر خطًّا مستقيمًا يمتد أميالًا، فتسير وعن يمينك ويسارك جداران من الشجر؛ وفجأة ينتهي جدار الشجر الذي على يسارنا، ونرى لوحةً تنبِّه المسافر إلى بقعة جميلة ينبغي الوقوف عندها فوقفنا.
هي نقطة بارزة تطلُّ منها على «وادي يوسف» فمَنْ يوسف هذا؟ هو زعيم من زعماء الهنود الحمر، حارب الأمريكيين حربًا يشهدون له فيها بالبراعة التي انقطع نظيرها في تاريخ الحروب، من حيث قدرته على الانسحاب السريع ثم الالتفاف السريع، ثم التفكير في مائة خدعة وخدعة يوقِع بها عدوه في حصارٍ مفاجئ لا يتوقعه.
عُدْنا فاستأنفنا الطريق بين جداري أشجار الصنوبر على هذا المنبسط الأرضي العالي، ويسمونه «متنزه والُوا»، حتى إذا ما خرجنا من هذه الغابة انبسطت أمامنا أمواج وطيئة من الأرض الخضراء، بما عليها من قمح … وبَدَتْ في الأفق البعيد جبال الألب الصغيرة التي ترتفع في بعض أجزائها اثني عشر ألفًا من الأقدام؛ لكن ساء حظنا فكانت القمم العالية ملتفَّة بالسحاب، فلم نرَ فيها إلا أسافلها الخضراء بشجر الصنوبر … كان السحاب أحيانًا يشف في بعض الفتحات الصغيرة، فيكشف عن بقعٍ مضيئة من القمم العالية الناصعة بثلجها الأبيض.
سِرنا متجهين نحو الألب الصغيرة، حتى بلغنا مدينة «إنتر برايز» وهي على ارتفاع خمسة آلاف قدم، وصلناها في الساعة العاشرة صباحًا؛ أي بعد خمس ساعات بالسيارة؛ نزلنا بها وشربنا قهوة ثم عُدْنا نسير عددًا قليلًا من الأميال مارين بمدينة صغيرة اسمها «يوسف»، وأخيرًا بلغنا بحيرة «والُوا» التي تحيط بها جبال الألب الصغيرة … ها هنا جنة الله التي وعد المؤمنين! ليس جمال المنطقة هنا من نوع الجمال الذي شهدته في «بريست ليك» على الرغم من أن التكوين واحد: بحيرة حولها جبال مشجورة بالصنوبر، ولكن «بريست ليك» جمالها في حوشيتها وعزلتها، وأما هنا فمقصد كثير من الزائرين؛ ولذلك تجد الطرق ممهدة معبَّدة، وتجد مطعمًا ودكانًا يبيع الصور التذكارية، وتجد الحكومة قد أعدَّت مكانًا للطهي ومكانًا للأكل وهكذا.
تركنا السيارة عند حافة الغابة، وتخلَّلنا نحو مسقط ماء مشهور؛ بين حين وحين يصادفك في قلب الغابة «كابينة» يسكنها مصطاف، ليست الكابينات متلاصقة بل ليست متقاربة، إنما تبعد الواحدة عن الأخرى مسافة بعيدة، ترى الكابينة قد أحاط بها الشجر، بل تراها هي نفسها خضراء كأنها نابتة من الأرض كالشجر الذي حولها، فتحسبها عشًّا للعصافير … أأقول «تحسبها» …؟ بل هي عشٌّ للعصافير، فانظر مَنْ ذا خرج من هذه الكابينة عند مرورنا … فتاتان رائعتان هما عصفورتان!
الأرض داخل الغابة طرية بما عليها من بلل؛ الدنيا كلها من حولنا مبللة ببقايا الندى أو بأوائل المطر … سِرنا محاذين نُهيرًا متدفقًا سريع الجريان جدًّا، رائق الماء كأنه البلور، ظهرت الصخور على قاعه كأنها تحت لوح من زجاج … وبعد ميل أو ميل ونصف قطعناها في صعود تدريجي داخل الغابة، وصلنا مسقط الماء؛ فهذا النُّهير يسقط ماؤه في الفضاء نحو ستين قدمًا خارجًا لا تدري من أين؛ لأن السحاب الذي يلف قمة الجبل يُخْفِي أجزاءه العليا كلها، فلا تستطيع أن تتعقَّب النُّهير إلى منبعه بالنظر، فيفجؤك ماؤه متدفقًا من بين الصخور والسحاب، هابطًا في الهواء ستين قدمًا، مُحْدِثًا بذلك صوتًا يملأ السمع.
وعُدْنا إلى بلمان ساعة الغروب، فكأنه آدم نزل من الجنة إلى الأرض.