الحكومة في عهد الدولة القديمة
(١) المملكة الطينية وإداراتها (٣٤٠٠–٢٩٨٠ق.م)
كانت الحكومة في العهد الطيني حكومة ملكية مطلقة قوامها ملك مؤله، ولذلك يجب البدء بالملك عند درس المدنية المصرية في هذا العهد.
ألقاب الملك
والذي نعرفه أن الملك في هذا العصر كان يمثل الإله الأعظم للقطر، أي الإله «حور» وهذا هو السبب في أن أول اسم ملكي هو الحوري، وكان يكتب في داخل رسم قصر يعلوه صورة إله الصقر «حور»، ولما تم اتحاد القطرين كانت هذه الحادثة تخلد ذكرها برمز ديني؛ فكان يوضع الملك تحت حماية إلهتين كانتا تقدسان في عاصمتي البلاد القديمتين، وهما إلهة النسر التي كانت في الكاب «نخبت» وإلهة السل في «بوتو» و«إزيت» وبذلك أصبح له اسم آخر وهو «نبتي» كما سبق ذكره.
الاحتفال بتتويج الملك
- (١)
ظهور ملك الوجه القبلي، وملك الوجه البحري.
- (٢)
ثم اتحاد المملكة الثنائية.
- (٣)
والطواف حول الجدار.
وكانت هذه الاحتفالات تقام في مصر طوال كل عصور التاريخ المصري.
أما الاحتفال بهذه المراسيم فكان كما يأتي؛ أولًا: كان الملك يلبس التاج الأبيض لمصر العليا ثم يصعد إلى رصيف وضع عليه تاج، وكان هذا المنظر يطلق عليه (طلعة ملك الوجه القبلي). ثم يلبس الملك التاج الأحمر للوجه البحري ويصعد كذلك على الرصيف وهو لابس التاج الأحمر، وكان يطلق على هذا المنظر (طلعة ملك الوجه البحري)، واحتفال اتحاد المملكة الثنائية يتكون من دق وتد في الأرض، وحوله يزرع نبات رمز الوجه القبلي ونبات رمز الوجه البحري (البردي والبشنين)، أما احتفال الطواف حول الجدار فتفسيره غامض بعض الشيء، ولكن يظن أن من أهم الأمور التي قام بها ملوك طينة هو إقامة جدار بالقرب من المكان الذي أسست عليه منف، حماية للجنوب من هجمات أهل الدلتا، ويقال إن الملك عندما كان يلف حول هذا الجدار يحيي ذكرى الظروف التي بعثت على إقامته، أي انتصار الجنوب على الشمال واتحاد البلاد. ومنذ ذلك العهد كانت المملكة المصرية تجدد جزءًا عظيمًا من قوتها في تذكر الماضي ومما كانت عليه البلاد من التقاليد.
الاحتفال بعيد «سد» وسببه
ومن المحتمل جدًّا أن يكون الاحتفال بعيد «سد» من التقاليد القديمة؛ لأنه يظن أن السلطة الملكية كانت لا تعطَى في الأصل للفرعون إلا لمدة ثلاثين عامًا، يخلع عند نهايتها أو يقتل. ولذلك يعتقد أن العيد «سد» لم يكن إلا عادة وحشية بقيت لنا من تراث الأزمان القديمة، ولكنها أخذت صبغة أكثر إنسانية مما كانت عليه من قبل، فبدلًا من عزل الفرعون كان يظهر (بعد مضي الثلاثين سنة) كأنه ملك جديد للوجه القبلي والوجه البحري، وبهذا التجديد المصطنع كانت تنبعث فيه قوة جديدة، بها يمكنه أن يبدأ عهدًا جديدًا. وهذا الاحتفال الذي كان في الأصل يحدث كل ثلاثين عامًا يظهر أنه كان يقام منذ العصر الطيني في زمن أقل، ولكن الاسم بقي كما كان قديمًا.
ولما كان الملك له صبغة إلهية فإن الأعياد التي كانت تقام تعظيمًا للآلهة أصبحت لها أهمية عظيمة جدًّا، فكانت سنتها تعتبر تاريخًا ثابتًا يؤرخ به، كما يمكن مشاهدة ذلك على حجر «بلرم». وأهم هذه الأعياد في بلاد يدعى الملك فيها أن متقمص الإله «حور» هو العيد الذي كان يقام تعظيمًا لهذا الإله، وكان يحتفل به كل عامين.
عيد الإله «سكر»
وكذلك كان يحتفل في فترات غير منظمة بعيد الولادة للإله «سكر» إله سقارة والإله «مين» رب قفط «وأنوبيس» و«سد» (يحتمل أنه لقب للإله «وبوات») وهو يمثل على أية حال كهذا الإله الأخير في شكل ابن آوى مرفوعًا على حامل. والإلهة «سشات» إلهة الكتابة، وأخيرًا يذكر لنا حجر بلرم عدة مرات عيدًا يدعى «زت»، وقد اختفى في العهد الطيني ولا نعرف عنه شيئًا.
كيفية وضع أساس المعبد
وقد كانت المعابد تقام لهذه الآلهة المختلفة، وعند بنائها ووضع أساسها كانت تعقد الاحتفالات، وقد حفظت لنا واجهة باب عثر عليها في هيراكنبوليس منظرًا لإحدى هذه الاحتفالات، ولكنه لسوء الحظ وجد متآكلًا ناقصًا، والمنظر ينقسم قسمين: ففي الجهة الشمالية يرى الملك قابضًا بيده على عصا عظيمة وعلى صولجان، وهو واقف أمام اثني عشر رجلًا من عظماء القوم ولكنهم رسموا بصورة مصغرة عنه. وهذه الشخصيات موزعة على ثلاثة صفوف في الرسم، ومن المحتمل أنهم يمثلون الشعب أو رجال البلاط. وفي الجهة اليمني تشاهد الإلهة «سشات» والملك وجهًا لوجه وهما يدقان بمطرقة وتدًا في الأرض. وهذا المنظر أصبح متبعًا في تأسيس المعابد إلى عهد البطالمة.
الملك يقيم لنفسه قصرًا في بداية حكمه
وكان الفرعون يعيش هو وأسرته ورجال حاشيته في القصر الفرعوني، وقد مثلت واجهة هذا القصر بكل عناية ودقة على لوحة الملك زت «ثعبان»، ويمكن الإنسان أن يأخذ فكرة عن هذا المبنى رغم أنه رسم رسمًا تخطيطيًّا، والواقع أنه كان يتألف في الأصل من بابين عظيمين، وهما يذكران بالمملكة المصرية الثنائية القديمة، ويحيط بهما أعمدة مرتفعة من الخشب، وكانت العادة المتبعة أن يقيم كل ملك لشخصه قصرًا جديدًا، والظاهر أن ابتداء إقامة هذا المسكن الجديد كان في السنة الرابعة من حكم الفرعون. وكان الملك يأمر بإقامة قصر جديد في السنة الرابعة بعد عيد «سد»، وتلك نتيجة منطقية، وذلك لأن العيد «سد» كان فاتحة حكم جديد.
أهمية الأختام في العصر الطيني
وكان الملك يحكم البلاد بموظفين مختلفي الدرجات، وهذا كل ما يمكننا أن نجزم به في العهد الطيني عن الإدارة. وليست لدينا معلومات عن هؤلاء الموظفين إلا ما وجد على الأختام التي كانوا ينقشون عليها أسماءهم وألقابهم واسم الملك الذي عاشوا في عهده. ولحسن الحظ وجد معظم هذه الألقاب فيما بعد مضبوطًا. وإذا اعتمدنا على هذه المعلومات التي حققناها فيما بعد عن هؤلاء الموظفين فإنه من الممكن بوساطتها أن نميز بين الإدارة الرئيسية والإدارة الإقليمية، ولكن الواقع أننا لا نعرف لقب الموظف الذي كان يشرف على الإدارة الرئيسية العامة. ويظن بعض المؤرخين أن وظيفة الوزير كانت قائمة في العهد الطيني، ويعتمدون في ذلك على الكتابة التي وجدت على لوحة «نعرمر» إذ يشاهد عليها شخصية صغيرة تتبع الفرعون مرتدية جلد فهد، وهذه الكتابة تقرأ «تيت» وهي لفظة معناها وزير، ولكن هذه مجرد نظرية لا يمكن الاعتماد عليها بصفة قاطعة، فإن أول وزير عرف لقبه بالتحقيق على الآثار هو «كا نفر» الذي عاش في بداية الأسرة الرابعة في عهد الملك سنفرو.
وإذا فرضنا أنه لم يكن في هذا العصر الذي نحن بصدده وزير، فإنه من المحتمل جدًّا أن يكون الملك نفسه على رأس الإدارة الرئيسية ولا نزاع في أن جعل موظف كبير صلة بين مصالح الإدارة العامة المختلفة وبين الفرعون لا يمكن إلا أن تكون نتيجة وجود حكومة راقية تستدعي أعمالها المتشعبة وجود هؤلاء الموظفين الذين يقومون بجميع مرافقها.
وظيفة حامل الخاتم
ويجب علينا أن نعرف أن الملك كان يشرف على كل مختلف المصالح، أي على الوزارة والإدارة العامة الرئيسية. وكان يعاونه حاملا الخاتم وهما حامل خاتم الإله (أي ملك الوجه القبلي) وحامل خاتم الوجه البحري، وكانا يشرفان على الخزينة الثنائية (مصر السفلى ومصر العليا) ومن ذلك نلاحظ أن الإدارة المزدوجة كانت لا تزال قائمة من حيث المبدأ وإن لم تكن في الواقع، ونجد هذا النظام قائمًا في الألقاب الفخرية للشخصيتين العظيمتين نائب الملك في نخن (هيراكليوبوليس) ونائب الملك في ب (بوتو)، على أن وجود الموظف نفسه حاملًا هذين اللقبين برهان على أن هذه الحكومة الثنائية في المملكة الطينية لم تتعد العرف والتقليد فحسب.
حفظ السجلات
وكان يتبع الإدارة الرئيسية مكاتب السجلات الملكية، التي كان لا بد من وجودها لإيداع الوثائق وحفظها، وإلا لما بقيت لدينا سجلات تاريخية مثل حجر بلرم الغني بالمعلومات عن الأزمان السحيقة، وهي التي دونت فيما بعد في عهد الأسرة الخامسة. أما اللوحات التي من العاج — والتي يحتمل أن تكون بطاقات أو أواني — فإنها تدل على أن الملوك كانوا متعودين على أن يدونوا بالكتابة سنة فسنة الحوادث الهامة في عهد حكم كل منهم.
تقدم نظام الري
والآن نتكلم عن الإدارة في الأقاليم أو المقاطعات في هذا العصر، وإن كانت لا تزال معلوماتنا عنها ناقصة، على أن تقسيم البلاد إلى مقاطعات في هذا العهد أمر مؤكد، بل ويرجع إلى أقدم عهود التاريخ وإلى عهد ما قبل التاريخ؛ ففي بلاد مثل مصر حيث تكون الزراعة أهم ثروة للبلاد وحيث الحياة نفسها تتوقف على فيضان النيل، فإنه من المستحيل ألا يتقدم نظام طرق الري تقدمًا سريعًا نحو الكمال. ومن أجل ذلك يرجح أنه في هذه الفترة التي بدأ فيها العصر التاريخي في البلاد قد انتشرت فيها الترع العدة التي كان يُعتنى بصيانتها. ولا بد أنه كان في كل مقاطعة موظف مكلف بالتفتيش على هذه الترع وتعهد صيانتها والعمل على رقيها. ومن المحتمل أن يكون هذا هو الأصل في وجود وظيفة حاكم المقاطعة، وقد اشتق اسمه من نوع عمله الهام، فمنذ العصر الطيني ظهر أمامنا لقب «عز مر» ومعناه حرفيًّا (المشرف على حفر الترع) وهذا اللقب كان أهم ألقاب حاكم المقاطعة في بداية الدولة القديمة. والظاهر أن لقب «عز مر» الذي نشاهده على آثار العهد الطيني كان يطلق على حاكم المقاطعة، وكان عمله ينحصر في الحصول من الأرض بالطرق المتبعة على كل ما يمكن الحصول عليه ليزيد من الثروة العامة وبخاصة الخزينة الملكية. وكذلك كان يقع على كاهل حاكم المقاطعة الإحصاء، وقد شوهدت هذه العملية لأول مرة في عهد الفرعون «عز إب»، ومنذ بداية الأسرة الثانية قد اتبعت هذه العملية بانتظام في كل عامين مرة، بل وقد استعملت لعد سني حكم الفرعون، فيقال السنة س إحصاء أو السنة بعد س إحصاء.
يضاف إلى ذلك أن ارتفاع النيل كان يدون سنويًّا، وبسبب هذه العناية كان من السهل أن يعرف الإنسان مقدمًا على وجه التقريب ما ستكون عليه ثروة البلاد حتى تتخذ الاحتياطات إذا حدث انخفاض في النيل تجنبًا لحدوث قحط أو مجاعة. وكان في عاصمة كل مقاطعة مجلس يدعى «زازات» موكلة إليه الأمور القضائية، وذلك مما يوحي بوجود قانون مدني لم يصل إلينا منه أي شيء بكل أسف.
الجيش
أما نظام الجيش في هذا العهد فإنه سر غامض. وأنه يكاد يكون من الصعب أن يعرف الإنسان إذا كان في البلاد جيش قائم أو أن الجنود كانت تجند وقت الحاجة فحسب. وكل ما يمكن أن نؤكده أن لقب قائد كان موجودًا منذ نهاية الأسرة الأولى، وسنتكلم عن الجيش بالتفصيل في خلال الدولة القديمة.
(٢) الحكومة في العهد المنفي (٢٩٨٠–٢٤٧٥ق.م)
كان نظام الحكومة المنفية نظامًا ملكيًّا ثابت الأركان، فقد كان الملك هو القوة الرئيسية في البلاد، وكان القوم يعدونه إلهًا أكثر منه إنسانًا، ولذلك كان يطلق عليه اسم (الإله الطيب)، وكان قصره يدعى (البيت العظيم) «برعا»، وقد اشتق منها فيما بعد كلمة فرعون التي استعملت في اللغات السامية، وقد تكلمنا عن ألقابه فيما سبق.
وإنه لمن الأمور الصعبة جدًّا أن نعرف كيف كان الفرعون يدير شئون البلاد. حقًّا إن النقوش المصرية في العهد المنفى كثيرة جدًّا غير أنها غامضة؛ إذ يتألف معظمها من الألقاب والعلاقات التي يتمتع بها حامل هذه الألقاب عند الملك، فنقرأ في النقوش قول الموظفين: «إنهم قاموا بواجبهم حسب رغبة الملك ولهذا كوفئوا.» غير أنهم لم يعنوا قط بذكر عملهم، ولذلك ليس لدينا طريقة أو سند نتوكأ عليه في إعطاء فكرة عن إدارة البلاد في هذا العهد إلا «الألقاب» التي نقرؤها على جدران المقابر غير مشفوعة بتفسير ما.
تحديد سلطة الملك
والظاهر أنه كان في يد الملك السلطة التنفيذية والسلطة القضائية في عهد الأسرة الثالثة، ولكن كان يساعده في القيام بهما موظفون كثيرون، ليسوا أشرافًا، والظاهر أنه لم يكن بين المصريين في عهد الأسرة الثالثة (خلافًا للفرعون) من يمكنه أن يتصرف في أي سلطة سياسية بحق الوراثة، وقد كانت الوظائف التي يمنحها الملك لموظفيه هي مصدر السلطة الوحيد. غير أنه لا يفوتنا أن نذكر هنا أن الملك رغم ما لديه من قوة، لم يكن يعين في هذه الوظائف بمحض رغبته، بل كان خاضعًا لنظام قائم ليس هناك من يستطيع التحوير فيه.
نظام التوظف
وكان الموظفون الذين ينتخبون من بين المتعلمين يعينون بمرسوم. وكان الواحد منهم يبتدئ بوظيفة كاتب، ثم يتقلب في عدة وظائف إدارية حددها القانون، ثم بعد ذلك يعين الواحد منهم بمرسوم آخر ليقوم بعمل إداري هام يرمز له بحمل العصا. ويطلق عليه (نائب الملك) أولًا في القرية ثم في المدينة. وقد كان الموظف الذي يتقلب في هاتين المرحلتين الإدارية والتنفيذية له الحق فيما بعد أن يشغل أعظم مناصب الحكومة، فيكون إما حاكمًا لمنطقة، أو مديرًا لإحدى مصالح الحكومة الرئيسية أو أمينًا للملك إلخ.
- أولًا: ألقاب الشرف وهي ألقاب حقيقية
بطل استعمالها فيما بعد. من ذلك نرى أن إقامة شعائر الملك الدينية
قد جعلت بين الملك وكهنته علاقة وطيدة مما جعل لهم مقامًا عاليًا.
وكذلك نشاهد أن أهم الشخصيات المكلفة بإقامة هذه الشعائر قد أغدق
عليهم الملك أعظم الألقاب الفخرية في الدولة. فكان يطلق مثلًا لقب:
رئيس المرتلين، والكاتب الإلهي، ورئيس كل الوظائف الإلهية، على
أولاد الملوك. ومنذ عهد الأسرة الثالثة كان كهنة الملك يمنحون
اللقب الفخري «رخ نيسوت» أي قريب الملك أو «المعروف لدى الملك» وفي
عهد الأسرة الرابعة كان المرتلون الأول يلقب كل منهم «إري بعت» أي
أمير، وقد كان هذا اللقب لا يطلق في عهد الأسرة الثالثة إلا على
الكاهن الأكبر للإله رع فحسب، الذي كان يعد أكبر شخصية في الدولة
بعد الفرعون. ولكن الملك عندما أصبح يطلق عليه لقب الإله العظيم
(أي أن رع تقمص فيه)، منح بسبب ذلك مرتله الأعظم الذي كان ينتخب من
بين أولاد الملك، لقب «إري بعت»، الذي لم يكن يتمتع به إلى هذا
العهد أحد غير كاهن «رع» الأعظم.
وكذلك نشاهد أن الإله «تحوت» إله العلم قد أخذ مكانة عالية حتى إن وظيفة إقامة شعائره قد منحت الوزير الذي كان دائمًا من أولاد الملك، وقلده لقب «إري بعت» أيضًا.
وأخيرًا نرى أن كاتب الملك الإلهي الخاص «سش نتر» قد أصبح كذلك مساويًا للكاهن الأعظم للإله رع وللإله تحوت والملك؛ لذلك لقب «إري بعت» (أمير). ومن ذلك يتضح أن لقب «إري بعت» قد فقد صبغته القديمة وأصبح لقبًا فخريًّا. وكذلك في كثير من الألقاب كالسمير الوحيد ولقب «حاتي عا» (أمير)، ولقب «قريب الملك» وغيرها، فقد كانت كلها قاصرة على أفراد معينين، ثم أصبحت فيما بعد تمنح ألقابًا فخرية لجم غفير من كبار رجال الدولة.
- ثانيًا: ألقاب خاصة بالملك وقصره من أهمها: مدير القصر، وحارس التاج، وحاكم القصر، ومدير مالية القصر، ومنذ الأسرة الخامسة كان يطلق على القصر لفظة «خنو» (أي الداخل) ويظهر أن هذا الاسم كان خاصًّا ببيت الملك الخاص، وهو الذي كان يربى فيه مع أولاد الملك أولاد أمراء بعض المقاطعات، وكانت له مالية خاصة وموظفون معينون. وكان للملك حامل نعل، ومرجل شعر، وطبيب خاص وغسال ومنظف أظافر «منكير» إلخ.
- ثالثًا: ألقاب كهنوتية. كان القصر الملكي، والهرم ومعبد الشمس، هي الأماكن الرئيسية المقدسة التي كانت تقام فيها الشعائر الدينية بكل عظمة وفخامة، فكانت تقام في القصر للملك الحاكم، وفي الهرم للملك المتوفى، وفي معبد الشمس للإله «رع» الذي كان يعتبر والد كل الفراعنة، على أن توحيد الملك مع إله الشمس جعله مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالشعائر التي كانت تقام للتاسوع في معبد عين شمس المشهور الذي يطلق عليه اسم «برسنوت».
تقديس الملك في معبدي «نخب» و«بوتو»
ولما كان الملك هو الوارث لفراعنة الوجهين القبلي والبحري فقد استمر خلافًا لما ذكرنا يقدس في الهيكلين العظيمين التاريخين، وهما معبد «نخب» (الكاب) ويسمى «بر ور» (المعبد العظيم)، ومعبد «بوتو» ويسمى «برنسر» (معبد النار). وقد كان الفراعنة يفردونهما بعناية خاصة ويهبونهما الهدايا العدة والقرابين الكثيرة.
ثم أصبحت إقامة شعائر الفرعون أهم الشعائر، ولم تكن يحتفل بها فقط في الهياكل الملكية، بل في كل معابد آلهة البلاد حيث كانت تقام فيها مذابح وموائد قربان للإله رع والآلهة حتحور والملك، يشيدها ملوك الأسرة الخامسة.
وقد كان من الضروري لإقامة هذه الشعائر خدم كثيرون، وعلى رأس هؤلاء كان يشرف عدد من أعظم كبار الدولة. وأقدمهم كهنة معبدي «نخب» و«بوتو». وقد كان معبد «نخب» تحت إشراف رئيس كهنة «نخب». ولم نجد في عهد الأسرة الخامسة ذكر كهنة أرواح «نحن» الكوم الأحمر الحالية، ولا كهنة أرواح «بوتو» وهم الذين كانوا يحتفلون بإقامة الشعائر الجنائزية لملك الشمال والجنوب، مع أننا وجدنا ذكرهم في عهد الأسرة السادسة، ولكن ربما يعثر في المستقبل على آثار تدل على وجودهم في الأسرة الخامسة أيضًا.
أما الرئيس الأعظم لكهنة الملك فكان له مقام عظيم ربما كان أعظم من كهنة «نخب» و«بوتو»، وقد كان مثلهم رئيس «إقامة الشعائر» ويحمل لقب أمير، أو لقب الذي في القلب (أي قلب الملك) وفي عهد الأسرة الرابعة نلاحظ أن لقبي رئيس كهنة نخب، ورئيس المرتلين، لا يلقب بهما إلا أولاد الملك، أما في الأسرة الخامسة فلم نجدهما، وسبب ذلك أنه قبل هذا العهد كانت شعائر الملك الدينية لها صبغتان، صبغة إلهية وصبغة جنائزية، وهذا من غير شك هو السبب الذي جعل كهنة الملك ينتخبون من بين أولادهم؛ لأن انتسابهم إليه جعل من الطبيعي أن يكونوا كهنته الجنائزيين كما هو الحال في أفراد الشعب، وعلى العكس في عهد الأسرة الخامسة لم تعد إقامة شعائر الملك أسرية، بل أصبحت عامة ورسمية. وذلك أن القوم كانوا يعتقدون أن روح الإله «رع» تتقمص الملك فهو إذن إله حي، ولهذا أصبح كباقي الآلهة يجب أن يعبده الشعب ويقيم شعائره. يضاف إلى ذلك أن أمراء البيت المالك لم يصبحوا المحتكرين لوظيفة (المرتلين) وغيرها من الوظائف الدينية التي كانت وقفًا عليهم في الكهنوت الملكي؛ إذ أخذ يشغل هذه الوظائف عظماء رجال الدولة كالوزير وغيره.
لقب «خر حب»
وفي عهد الأسرة الخامسة ظهر بجانب الكهنة المرتلين «خرحب» طائفة أخرى من الكهنة تسمى «حنك نيسوت» وهم الذين كانوا يقومون بالقربان للملك وليس من بينهم من أولاد الملك من يحمل هذا اللقب، ولا بد أنهم كانوا أقل من المرتلين.
طائفة كهنة «حنك نيسوت»
الكهنة المطهرون وكيفية انتخابهم
كهنة الروح المادية ووظيفتهم
وأخيرًا نجد نوعًا من كهنة يسمى «حم كا» أي خدام الروح المادية، وهم الذين كانوا يحتفلون بإقامة الشعائر الملكية في القصر وفي معابد الأهرام، وفي معابد الشمس، وفي الهياكل العظيمة، وكذلك في المعابد المحلية حيث يوجد للملك مذابح.
الكهنة ليسوا طبقة معينة
ومما سبق يتضح أن الكهنة بوجه عام لم يكونوا طائفة قائمة بذاتها، بل كانوا يعينون بطرق مختلفة من بين كبار رجال الدولة، ولذلك نجد الألقاب الكهنوتية مختلطة بالألقاب الأخرى الحكومية.
(٣) الألقاب الإدارية الرئيسية، وألقاب الإدارة الاقطاعية
لقد كان أهم مظاهر التجديد في الحكومة المصرية في عهد الأسرة الرابعة هو إنشاء وظيفة «وزير». وقد كان يشغلها دائمًا أحد أولاد الملك الذي كان في الوقت نفسه كاهنًا للإله «تحوت» وهو مع الإلهة «معات» إلهة العدل والإلهة «سشات» إلهة الإدارة، الآلهة الرسميين الذين كان في يدهم السلطة الحكومية. وقد كان أهمهم «تحوت» إله القانون، فكان الوزير كاهنه، وفي الوقت نفسه رئيس الحكومة. والوزراء المعروفون في عهد الأسرة الرابعة «كانفر» و«نفرمعات» وهما ابن «سنفرو» وحفيده على التوالي. ثم «حميون» بن «نفرمعات» ثم «ني كاورع» بن «خفرع»، إلخ.
وقد ظن البعض أن إمحوتب مهندس الفرعون «زوسر» كان يحمل لقب وزير، ولكن يجب هنا أن نفرق بين اللقب والوظيفة، فمن المحتمل جدًّا أن «إمحوتب» كان يقوم بأعمال الوزير ومهامه، ومع ذلك فإننا لا نعرف أن هذا اللقب قد منح له إلا من وثائق متأخرة، ولذا يعد من الخطأ أن نعتبره أول وزير مصري، بل على ما نعرف حسب ما جاء على الآثار هو «كانفر» ثم «نفر معات» إلخ، والواقع أن الوزير كان الرئيس الأعلى للإدارة المصرية، وكان لا بد له أن يدرس كل الأعمال الهامة في البلاد، يساعده في عمله رئيس البعوث، وهو الذي كان يحمل أوامره ويضع أمامه كل التقارير الخاصة بمصالح المقاطعات، وكذلك كان يشرف الوزير على السجلات الملكية التي كانت تحفظ فيها الأوراق الهامة كالمراسيم الملكية والعقود والوصايا.
أعمال الوزير
ومن أعمال الوزير أنه كان رئيس القضاة، ولذلك كان هو الرئيس لمحكمة الستة العليا كما سنشرح ذلك فيما بعد. ولما كان الوزير بحكم وظيفته يقوم بالأمور القضائية، فإنه كان يحب أن ينسب إلى الإلهين الحاميين للعدالة، فكان يلقب أحيانًا أعظم الخمسة القائمين على بيت «تحوت» إله القانون، وكذلك كان يدعى كاهن إلهة العدل «معات»، وذلك منذ ختام الأسرة الخامسة، وأخيرًا كان في يد الوزير إدارة مصلحتين من أهم مصالح الدولة، وهما الخزانة ووزارة الزراعة اللتان سنتكلم عنهما فيما بعد. ويجب هنا أن نلاحظ أن من بين ألقاب الوزير الرسمية الكثيرة، عددًا عظيمًا لا يعتبر وظائف حقيقية يقوم بها، ولكنها في الواقع ألقاب شرف تدل على سلطانه العظيم في طول البلاد وعرضها؛ فمنها أنه كان يلقب بمدير كل أعمال الملك، ورئيس بيت الأسلحة ورئيس حجر زينة الملك إلخ.
حاملو الأختام وعملهم
ومن أهم الوظائف في الدولة القديمة وظائف حاملي أختام الإله (أي ملك الوجه القبلي) وحاملي أختام ملك الوجه البحري. وهذه الألقاب وجدت منذ عهد أواسط الأسرة الأولى وبقيت طوال الدولة القديمة، ولكن اللقب الثاني يظهر أنه أصبح لقب شرف، أما الأول فكان له شأن عظيم، والواقع أن هؤلاء الموظفين كانوا قبل كل شيء رؤساء بعثات؛ إذ كانوا ينظمون ويديرون البعثات في المناجم والرحلات التجارية في الخارج، ولهذا السبب كان لديهم غالبًا جنود مسلحون أو أسطول تحت إدارتهم، وكانوا يحملون أحيانًا لقب قائد الجيش أو أمير الأسطول، يضاف إلى ذلك أنهم ربما كانوا يديرون الأوقاف الملكية.
(٤) طائفة الكتبة
وعلى أية حال فإن الإدارة في العصر المنفي كانت مشتقة من إدارة العصر الطيني مع فارق هو حدوث تقدم محسوس في عهد ملوك منف وذلك أمر طبعي تتطلبه سنة الرقي، وبخاصة إذا علمنا أن مصر في عهد الدولة القديمة أصبحت من أعظم ممالك الشرق تقدمًا، ولذلك فإن نظام الإدارة البسيط الذي كان متبعًا في عهد ملوك الأسرتين الأوليين أصبح غير متكافئ مع مملكة قوية متحدة مثل المملكة المنفية. وربما كان هذا هو السبب في إنشاء وظيفة وزير، وزيادة عدد الموظفين، فقد ذكرنا أنه كان بجانب مدير المصالح وكلاء وكتبة كثيرون. وكانت وظيفة الكاتب في كل عصور تاريخ مصر وظيفة مرغوبًا فيها، ولذلك كانت المدرسة عندهم تسمى «بيت الحياة»، وهذا الاسم الجميل كاف في الدلالة على أهمية وظيفة الكاتب.
والواقع أن الكتاب كانوا فخورين بمعلوماتهم وبخاصة أنهم كانوا بحكم عملهم واقفين على كل القرارات الهامة جدًّا في مصالح الحكومة العظيمة. والظاهر أن أهمية الكتاب ومقامهم في إدارة حركة مصالح الحكومة حبتهم بألقاب خاصة ترفع من مكانتهم وتعظم من شأنهم. ولذلك نرى أن بعض الألقاب كانت تبتدئ بلقب رئيس الأسرار «حرى سشتا» وهذا اللقب يدل بطبيعة الحال على أن حامله عالم بالأسرار التي يرأسها، ولكن مما يؤسف له أن اللقب في بعض الأحيان لم تحدد وظيفته أو السر الذي هو مشترك في كتمانه. وقد وصلت إلينا من الدولة القديمة قائمة عظيمة بألقاب موظفين يبتدئ كل منها «رئيس أسرار» وسنعطي هنا بعض الأمثلة:
رئيس أسرار كل أوامر الملك، رئيس أسرار كل القرارات القضائية (لمحكمة الستة العليا)، ورئيس أسرار كل الأشياء التي يراها إنسان، ورئيس أسرار الأشياء التي يسمعها رجل واحد، ورئيس أسرار الملك في كل مكان، ورئيس أسرار الكلام المقدس، ورئيس أسرار محكمة العدل. وسنرى أن هذه الألقاب كانت لها معان خاصة في وظائف الدولة، ولا يبعد أن يكون هذا اللقب (رئيس الأسرار) في الأصل نعتًا يوصف به الكتبة ثم بعد ذلك عمم وأصبح يستعمل لتأليف عدة ألقاب تتميز بها ألقاب الشرف ومقدار علاقة كل لقب بالملك أو كبار رجال البلاط والدولة كما سنوضح ذلك كله في حينه.