العلوم المصرية
تحوت إله العلم
يعزو المصري كل ما وصل إليه من علوم ومعارف إلى الإله تحوت (إله القمر)، وبخاصة علوم الفلك والحساب والطب، ولا غرابة في ذلك فإن الكهنة كما يقال كانوا هم الطائفة المتعلمة في البلاد منذ فجر التاريخ، وقد بقوا كذلك طوال مدة التاريخ المصري، فكانوا ينسبون كل ما هو مشرف وكل ما هو عظيم لآلهتهم، ولكن كل ذلك كان من نسج خيال هؤلاء الطائفة رغم تبحرهم في العلوم.
الحاجة أم الاختراع
والواقع أن الحاجة وسنة الرقي والبيئة كانت الدافع الأكبر للتطور الذي نجده سائرًا نحو الكمال في الحياة المصرية العلمية والعملية على السواء، فنشاهد أن ما كانت تحتاج إليه البلاد من أعمال الري العظيمة وإقامة المباني الضخمة كالأهرام والمسلات والمعابد وقطع التماثيل الهائلة، كل هذا كان يتطلب تعمقًا في المسائل الميكانيكية العلمية، والهندسة التطبيقية، مما كان لازمًا لنقل الأثقال وإقامتها في أماكنها المخصصة لها. هذا إلى أن التفنن في صناعة المعادن، وعمل الفخار، والزجاج الملون، والقاشاني قد كشف للمصري عن خواص الأشياء الطبيعية والكيمائية مما جعله ينفرد عن باقي العالم بالنبوغ في العلم الذي اشتق اسمه من كلمة «كمي» المصرية، ولذلك كان المصري أول من حنط الأجسام وعرف تشريحها.
تفوق المصري في العلوم التطبيقية
ولم تكن النقود بالمعنى المتعارف بيننا معروفة عند المصريين حتى العصر الفارسي، ولكن كان يوجد لديهم معيار لتقدير قيمة الأشياء يسمى «شعت» للدفع به أو للمبادلة بما يساوي قيمته كما شرحنا ذلك.
(١) علم الرياضيات
تدل الوثائق التي في متناولنا على أن المصري كان يستعمل الأرقام في الحساب منذ فجر التاريخ، بل قبل عهد الأسرات بقليل، ولكن لم تصل إلينا وثائق مكتوبة عن الرياضيات إلا منذ زمن الأسرة الثانية عشرة.
ظهور الأرقام منذ فجر ما قبل التاريخ
الأوراق الرياضية التي وصلت إلينا
وسنترك أوراق الدولة الوسطى جانبًا الآن ونقتصر في كلامنا على ورقة (رند) التي يعتقد بعض المؤرخون أنها كورقة «إدون سميث الطبية» ترجع إلى عصور قديمة جدًّا قبل الدولة الوسطى.
وقد اشترى رند هذه الورقة عام ١٨٥٢ من أحد المباني الأثرية الواقعة بجوار معبد الرمسيوم بالأقصر، وكان معها ورقة «إدون سميث» الطبية التي نتكلم عنها فيما بعد. وقد ذكر كاتب الورقة أنها كتبت في السنة الثالثة والثلاثين من حكم الملك «أبو فيس» وهذه النسخة منقولة عن أصل من عهد الدولة الوسطى.
ورقة رند ومحتوايتها
وقد قسم الأستاذ «بيت» محتويات هذه الورقة إلى أربعة أقسام؛ الأول: المقدمة: وتحتوي على جداول لحل الكسور التي بسطها اثنان. والباقي ثلاثة كتب: الأول عن الحساب، والثاني عن المقاييس، والثالث عن مسائل حسابية، والكتاب الثاني قسم إلى ثلاثة أقسام هي: كتاب الأحجام والأحجام المكعبة، وكتاب المسطحات، وكتاب زوايا الميل الهندسية.
وقد عرض المؤلف بعض مسائل حسابية عن الدخل والخرج في مصالح خزينة الدولة وعن المبادلات.
وقد استعمل في العمليات الحسابية الجمع والطرح والضرب والقسمة، غير أنه كان يستعمل في الضرب والقسمة طريقة الجمع، فمثلًا لإيجاد حاصل ضرب ٨×٨ كانت المسألة تحل بالكيفية الآتية:
مسألة ضرب
١ | ٨ | ٨ (مرة واحدة) يساوي | ٨ |
٢ | ١٦ | ٨ (مرتين) يساوي | ١٦ |
٤ | ٣٢ | ٨ (أربع مرات) يساوي | ٣٢ |
٨ | ٦٤ | ٨ (ثماني مرات) يساوي | ٦٤ |
مسألة قسمة
١ | ٧ |
٢ | ١٤ |
٤ | ٢٨ |
٨ | ٥٦ |
فاستعمل نفس الطريقة الأولى في الضرب وجعل يأخذ من جهة اليسار الأرقام التي يكون مجموعها ٧٧ فكانت ٧ و١٤ و٥٦ ثم أخذ ما يقابل هذه الأرقام من جهة اليمين فكانت ١و ٢ و٨ أي مجموعها رقم ١١
حساب الكسور
(٢) علم الفلك عند قدماء المصريين
ولا بد أنه كانت توجد بين البلدين علاقات قبل هذا الوقت ولكنها كانت ضئيلة.
وتنحصر مميزات الفلك المصري على وجه خاص باختراع النتيجة المصرية التي تكلمنا عنها في (الجزء الأول ص١٥٢)، على أن بعض علماء الفلك عارض أخيرًا في البحوث التي قام بها العلماء في موضوع النتيجة المصرية قائلًا إنها لا ترتكز على أساس علمي.
رصد الشمس
والواقع أن المصري القديم كان يمتاز عن باقي أمم العالم بقوة ملاحظاته وميله إلى الأشياء العملية وبعده عن الفلسفة ونظرياتها كما نرى ذلك في بحوثه في علم الرياضة والطب والهندسة وغيرها.
ولا أدل على ذلك من أنه كان في (عين شمس) كاهن خاصّ لمراقبة سير الشمس يسمى الرائي العظيم، وكذلك كان في المعابد جماعات كهنة لمراقبة سير النجوم. على أن تقسيم السنة إلى أشهر قمرية كل منها ثلاثون يومًا، أكبر دليل على معرفة تامة بمنازل القمر.
أنواع الأجرام السماوية عند المصري
أسماء الشهور ظهرت في العصر المتأخر
رصد النجوم
وقد كان يوجد بجانب علم الفلك الحقيقي علم التنجيم وكان يعتقد فيه المصريون كثيرًا. إذ كان لكل شهر ولكل يوم ولكل ساعة إله حارس يتدخل في أقدار الناس وحظوطهم سعيدة كانت أو شقية. وقد وقعت بعض حوادث الآلهة في تواريخ معينة فكان منها ما هو سعد وما هو بؤس. وكان من فائدة بني البشر أن يعرفوا هذه الأوقات، ولذلك ألف الكهنة والسحرة كتبًا في هذا الموضوع وأقدمها يرجع إلى عهد الدولة الوسطى، وقد عدد فيها أيام الشهر ونعت بعضها بكلمة (خير) أو بكلمة (شر) أو (خير وشر) معًا حسب الوقت، فنجد في الشهر تسعة أيام شرًّا وثلاثة أيام خيرًا وشرًّا معًا وما بقي خيرًا.
علم التنجيم
ولدينا ثلاث ورقات من عهد الدولة القديمة تشمل كل منها أيام السنة وتمتاز بأنها عرفتنا السبب الخرافي للسعد أو النحس، والخير أو الشر، وقد كان الأخير يكتب بالمداد الأحمر لون الإله «ست» رب الشر.
(٣) الطب
ذكرنا عند الكلام على الطقوس الدينية للدفن في عصر ما قبل الأسرات أن المصريين كانوا أحيانًا يشرحون الأجسام الآدمية وينتزعون ما عليها من لحم ثم يلفون العظام بكل دقة وعناية ويضعونها في المقابر (انظر جزء أول ص٧٧) وفي هذا دليل على أن المصري كان منذ الأزمان المتوغلة في القدم يعرف تشريح الجسم وفصل أجزائه المختلفة بعضها عن بعض.
علم التشريح منذ عصر ما قبل الأسرات
وفي العصر الطيني رأينا المصري يحنط الجسم منذ الأسرة الثانية، وهذا دليل آخر نعلم منه أن المصري كان يعرف تشريح الجسم ومعالجته ظاهرًا وباطنًا، وإن كان بعض العلماء يعتقد أن المحنطين كانوا طبقة خاصة غير طبقة الأطباء كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.
وعلى أية حال فإن المصري منذ فجر التاريخ كانت عنده فكرة واضحة عن الأمراض وأسبابها وطبائعها.
مهنة الطب في عهد الدولة القديمة
وتدل النقوش على أن وظيفة الطبيب كان يتناقلها الابن عن الأب كباقي صناعات مصر في ذلك العهد.
وكلمة طبيب بالمصرية «سنو» ربما كان معناها المصلح أو الشافي. والظاهر أن هذه الوظيفة كانت في بدايتها دينية إذ نجد غالبًا أن صاحبها الذي يحمل لقب طبيب كان في الوقت نفسه كاهنًا لإلهة مثل الإلهة «سلكت» أو الإلهة «نيت».
نشأة الطب في الوجه البحري
وتدل النقوس التي وصلت إلينا على أن أقدم كتاب في الطب يرجع تاريخه إلى عصر الملك «أوسافيس» (دن) من الأسرة الأولى كما جاء ذكر ذلك في فاتحة ورقة «إيبرس» (أول كتاب خاص بشفاء الأمراض هو الذي وجد بالكتابة القديمة في صندوق من عهد الملك «أوسافيس».) ولدينا من جهة أخرى وثيقة من الدولة القديمة (انظر الجزء الأول ص٣٤٢) تدل دلالة واضحة على أن الملك «نفر إركارع» قد أحضر المخطوطات الطبية من مكانها الخاص لإسعاف مهندسه العظيم الذي كان يحتضر، وعلى ذلك يمكننا القول بأنه كانت توجد كتب طبية منذ بداية الأسرة الخامسة (منذ ٢٨٠٠ ق.م.) ولكن لم يصلنا منها شيء بخط هذا العهد.
الأوراق الطبية التي وصلت إلينا
- (١)
ورقة برلين ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
- (٢)
ورقة أيبرس الموجودة الآن في متحف ليبزج ويحتمل أنها كتبت في القرن السابع عشر ق.م.
- (٣)
ورقة هرست وهي الآن في جامعة كاليفورنيا.
- (٤)
ورقة لندن وربما يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
- (٥)
وأهم من كل هذه الأوراق بردية إيدون سميث وقد ثبت من الفحص اللغوي أنها ترجع إلى عهد الدولة القديمة، رغم أن النسخة التي عثر عليها يرجع تاريخها إلى عصر الهكسوس أو على وجه التقريب في عهد تحتمس الأول.
ورقة إدون سميث ومحتوياتها
وتنقسم مواد هذه البردية إلى ثلاثة أقسام ظاهرة كل منها مأخوذ من منبع مختلف عن الآخر:
- القسم الأول: يحتوي على سبعة عشر عمودًا مكتوبة على وجه الورقة وتنحصر أهمية هذه الورقة المنقطعة القرين من الوجهة العلمية في محتويات هذه الأعمدة، وهي بحث في الجراحة وطب الجراحة ومعالجة الأمراض الظاهرة والتشريح.
- القسم الثاني: يشتمل على تعويذة لإبعاد الهواء في سنة الطاعون.
- والقسم الثالث: تعويذة لإرجاع الشيخ إلى صباه، فنرى أن القسمين الأخيرين هما تعويذتان سحريتان تشبهان في نوعهما الوثائق الطبية التي بقيت لنا من الطب المصري القديم.
ولكن القسم الأول من الورقة هو كما ذكرنا وثيقة فريدة في بابها قد قلبت كل الآراء التي كانت معروفة حتى الآن عن الطب المصري رأسًا على عقب، إذ تحتوي على معلومات مرتبة ترتيبًا علميًّا منطقيًّا، فقد فحص مؤلفها الجسم الإنساني من الرأس إلى القدمين ورتب مادتها بطريقة دقيقة، وهي أوصاف طبية وبحوث عن حالات خاصة بجراحة العظام والعلاج الظاهري، وهذا يذكرنا بدقة المشاهدات التي نجدها في الطب الحديث.
- (١)
العنوان العام الذي ينطبق على الحالة وهو: تعليمات لأجل (يتلو ذلك اسم المرض).
- (٢)
يأتي بعد ذلك الفحص الطبي ويعبر عنه بالصيغة الآتية: إذا فحصت إنسانًا عنده (يتلو ذلك وصف أعراض المرض).
- (٣)
تشخيص المرض ويبتدئ بالكلمات التقليدية الآتية: أما فيما يختص بذلك فإنه مريض يتألم من (اسم المرض).
- (٤) رأي الطبيب أو كما تترجم اللفظة المصرية (الحكم) وبعبر عن رأي الطبيب في الورقة بثلاث حالات فيقول:
- (١)
مرض يمكنني معالجته (رأي حسن).
- (٢)
مرض يمكنني محاربته (رأي فيه شك).
- (٣)
مرض لا أعالجه (رأي يدل على اليأس).
- (١)
- (٥)
يعرض الطبيب العلاج وبعد ذلك تأتي شروح تفسيرية وعددها سبعون.
ولسنا في حاجة أن نذكر هنا أن الطبيب الذي ألف هذه الورقة كان صافي الذهن منظم الفكر منطقي القول، فلم يكتف بجمع تعاويذ سحرية ووصفات طبية متخبطًا في ذلك خبط عشواء، كما هو الحال في الأوراق الطبية الأخرى التي عثر عليها حتى الآن، وقصارى القول نجد في هذه الورقة بحثًا علميًّا رجع فيه المؤلف إلى مصادر أصلية كانت لا تزال مجهولة، فأبرزها أمامنا بطريقة واضحة لأول مرة في تاريخ البشر، ولا غرابة إذن إذا اعتبرناه الجندي المجهول في تاريخ الطب في العالم.
والخلاصة أن محتويات هذه الورقة قد وضعت الطبيب المصري في أول صحيفة الأطباء في العالم من الوجهة العلمية. والظاهر أنه كان يوجد في مصر في عهد الدولة القديمة، بل في كل عصور التاريخ المصري القديم أطباء يعالجون بالطرق العلمية وبجانبهم طبقة ثانية من الأطباء يعالجون بالسحر والطب معًا، وسبب ذلك طغيان العقائد الدينية وتدخلها في الأمور الدنيوية، هذا إلى تمسك المصري بالمعتقدات القديمة الخرافية التي ورثها عن أجداده منذ عصر ما قبل الأسرات، ولا تزال آثارها باقية إلى الآن عند عامة الشعب المصري، إذ نجد أن الجم الغفير لا يزال يعتقد في قوة التعاويذ السحرية مع وجود الأطباء الذين يعالجون بالطرق العلمية بين ظهرانيهم.
(٤) التحنيط
وقد ذكر بعض العلماء أن المصري لم يكن نابغة في علم التشريح لأن جراحة الجسم كانت محرمة في العقائد الدينية، ولذلك كان المحنطون يؤلفون طبقة خاصة ليست لها علاقة بالأطباء، وكان أفراد هذه الطبقة أقل درجة من الأطباء لأنهم كانوا مختصين بالجثث الآدمية وتحنيطها فحسب، غير أن ورقة «إدون سميث» برهنت على أن الجراحة الطبية كانت متقدمة تقدمًا عظيمًا منذ الدولة القديمة. وعلى أية حال فإن ذلك لا يمنع من أن المحنطين كانوا يؤلفون هيئة خاصة على علم تام بأجزاء الجسم وتركيبه من الوجهة التشريحية، كما سنرى في سياق الكلام عن طرق التحنيط منذ أقدم العصور إلى نهاية عهد البطالسة.
ابتداء التحنيط منذ الأسرة الثانية
طرق التحنيط كما ذكرها «هردوت»
فذكر لنا هردوت أن المصريين كانوا يستعملون ثلاث طرق مختلفة للتحنيط؛ ففي الأولى وكانت باهظة الثمن: كان نخاع المخ يستخرج بعضه بآلة خاصة والباقي بعقاقير لم يذكر لنا اسمها، أما محتويات الجوف فكانت تستخرج (وربما كان المقصود من ذلك أن يشمل محتويات الصدر ما عدا القلب والكليتين) وبعد تنظيف الجوف بنبيذ البلح والتوابل، كان يملأ بالمر وخيار شنبر وغير ذلك من المواد العطرية ولم (تعرف أسماؤها)، ولم يكن الكندر منها، وكان الجزء الذي يفتح من الجسم لأجل التحنيط يخاط ثانية. ثم بعد ذلك يعالج كل الجسم بالنطرون، ثم يغسل ويلف في لفائف من الكتان كانت تلصق بالصمغ.
أما في الطريقة الثانية: فكان يستعمل زيت خشب الأرز الذي كان يحقن به الجسم ثم يعالج بالنطرون. والطريقة الثالثة، وهي أرخصها: كانت للفقراء وتتلخص في تنظيف الأحشاء البشرية ثم بعد ذلك يعالج الجسم بالنطرون.
ما ذكره ديور عن التحنيط
أما ما كتبه «ديدور» عن التحنيط فإنه يعطينا بعض تفاصيل لم يذكرها لنا «هردوت». فإنه وإن كان قد ذكر لنا ثلاث درجات للاحتفال المأتمي إلا أنه لم يذكر لنا إلا طريقة واحدة للتحنيط، وهي إزالة الأحشاء ما عدا القلب والكليتين، وذكر لنا أيضًا تنظيف الأحشاء بنبيذ البلح ومعه توابل مختلفة (لم يعين أسماءها) ثم بعد ذلك يدلك الجسم بزيت خشب الأرز، ثم يمسح بالمر والقرفة ومواد مماثلة وذلك لتعطير الجسم وحفظه. وفي مناسبة أخرى ذكر لنا «ديدور» عندما كان يصف قار البحر الميت «أنهم كانوا يحملون هذا القار إلى مصر ويبيعونه هناك لتحنيط الموتى، لأنهم إذا لم يخلطوا هذه المادة بتوابل عطرية أخرى، فإن الأجسام لا يمكن أن تحفظ مدة طويلة دون تعفن.
ويجب أن نلفت النظر هنا إلى أن وصف كل من «هردوت» «وديدور» متأخر جدًّا، وإن المدة التي تقع بين أول بداية استعمال التحنيط وما كتبه هذان الكاتبان تبلغ نحو ٣٠٠٠ سنة، ولا بد أنه في خلال هذه الفترة قد تغيرت طرق التحنيط تغيرًا عظيمًا، ولذلك لا يمكننا أن نعد وصفهما دقيقًا في تفاصيله … وسنلخص هاتين الطريقتين ونفحص ما فيهما من الأغلاط، ونتكلم كذلك عن المواد التي استعملت في التحنيط حسب ما وصلت إليه البحوث العلمية الأخيرة.
نتائج فحص مواد التحنيط
بعد ذلك كان يدهن الجسم، بزيت خشب الأرز، ومسوح أخرى ثمينة ثم يدلك بالمر والقرفة وما شابهها من التوابل، ولم يأت ذكر ذلك إلا في «هردوت» ولكن نظرًا للدور العظيم الذي تلعبه الزيوت والمسوح عند الأحياء، فإن دهان الأموات لم يكن أمرًا مستغربًا.
وقد ذكر لنا «هردوت» في الطريقة الثانية حقن الجسم بزيت خشب الأرز، ثم منع الحقنة من التسرب حتى نهاية معالجة الجسم بالنطرون.
وفي الطريقة الثالثة التي وصفها «هردوت» لم يذكر لنا طبيعة الشربة التي كانت تستعمل لتنظيف الأحشاء، بل قال إن أي سائل حتى ولو كان ماء فإنه لو حقن به الجسم بكمية كافية لأتى بنتيجة.
والمواد التي كانت تستعمل في تحنيط الجسم كما ذكرها «هردوت» و«ديدور» و«بليني» وما وصلت إليه البحوث الحديثة هي على وجه التقريب ما يأتي:
شمع النحل، والقار والخيار شنبر، وزيت خشب الأرز والقرفة، والصمغ والحناء، وحب العرعر، والنطرون، والمراهم والبصل، ونبيذ البلح، والراتينج، (ويشمل ذلك صمغ الراتينج والبلاسم) والملح، والنشادر، والتوابل وقطران الخشب، أو الزفت وسنتكلم عن معظمها.
والظاهر أن الخطأ في ذلك نشأ من أن كثيرًا من هذه المادة — وبخاصة ما وجد منها في موميات العصر المتأخر — كانت سوداء وتظهر كالقار، وكذلك لم تعمل تحاليل منظمة على يد كيميائيين مهرة. وقد قام «لوكاس» وغيره وأثبتوا فعلًا أن هذه المادة السوداء ليست قارًا.
والظاهر أن زيت هذه الحبوب كان يستعمل لمسوح المتوفى.
وبعد لف الجثة كان يصب عليها سائل أو شبه السائل الراتينجي. ولكن كنهه لم يعرف بالضبط. الظاهر من بعض التحاليل التي عملت أنه يحتوي على قار الأرز المخلوط بالطين وبعض الروائح العطرية.
(٥) الكتابة
إن الرأي السائد بين علماء اللغات القديمة في العالم أن المصريين هم أول من اختراع نظامًا للكتابة. والمتفق عليه حتى الآن أن الفينيقين قد نقلوا عن المبصريين نظام كتابتهم ومن ثم إلى أوروبا بعد تحوير وتبديل في شكل الحروف الأبجدية.
والواقع أن اختراع مصر للكتابة قد وضعها في مكانة ممتازة عن باقي أمم العالم وجعل الحياة العقلية تنمو وتزدهر فيها، في وقت كانت الأمم الأخرى في أنحاء العالم قاطبة لا يزال أهلها يعيشون مع الحيوانات المفترسة في الغابات والأحراج، ولذلك كان لزامًا علينا أن نتكلم بالإجمال هنا عن الكتابة المصرية وكيفية نشوئها، لأنها أقدم كتابة معروفة، وتدل كل الظواهر على أن نظام الكتابة في مصر قد بدأ بالصور كما فعل غير المصريين، وهذه الطريقة في الواقع غير محكمة وقد استعملت ليتذكر بها الإنسان شيئًا ما في ذهنه، ويصعب على شخص آخر يكشف الفكرة المراد التعبير عنها بالصور.
خذ مثالًا خياليًّا لذلك: إذ اتفق شخصان على أن يورد أحدهما للآخر في مدة ثلاثة أشهر ثورًا، وفي مقابل ذلك يعطيه الطرف الآخر خمس جرات من عسل النحل، فيكفي لتفاهم كليهما رسم القمر ليعبر به عن الشهر، والثور والنحلة والجرة ثم يضاف إلى ذلك ثلاث شرط أفقية لتدل على عدد الأشهر. وإذا وضعت أمام شخص آخر هذه الإشارات فإنه لا يمكنه أن يفهم بالتحقيق المراد منها.
وعلى ذلك كان لا بد لهذا التركيب الأولي من أن يرتقي كثيرًا. وقد حاول كل قوم على حدتهم بطرقهم الخاصة ذلك حتى وصلوا إلى كل أنواع الكتابات والكلمات والمقاطع.
وكان للمصريين وحدهم الحظ في أن اتبعوا طريقة مجدية وصلوا بها إلى خير شكل للكتابة: الحروف الأبجدية.
وكثير من العلامات التي كانت تستعمل في معنى واحد انتقلت إلى كلمات كثيرة على مر الأيام، حتى أصبح من النادر أن تستعمل هذه الكلمات في معان خاصة، وصارت لا تدل إلا على إشارات ساكنة (أي أنها صارت تكون جزءًا من كلمات أخرى تشترك معها في بعض حروفها) فمثلًا عصفور الجنة لم يعد يستعمل كما في المثال الأول ليدل على «ور» بمعنى عظيم فحسب، بل ليدل أيضًا على الحرفين الساكنين و، ر إذا دخلا في تركيب كلمات أخرى مثل حور، سور، ورس، وريت إلخ. ومن هنا اكتسبت الكتابة إشارات مركبة من حرفين ساكنين.
تأليف الحروف الأبجدية
والكتابة التي تمت بهذه الطريقة كان من الممكن لكل مصري أن يقرأها بسهولة وأن يفهم معناها على وجه التحقيق، ويدلك على ذلك أن المصري لم يبذل أي مسعى لتغيير هذا النظام وجعله كله حروفًا أبجدية. ولا شك في أن لهذا النظام نقائصه لأننا نشعر بصعوبة كبيرة في فهم كتب المصريين، وسأعود إلى هذه النقطة ثانية.
أنواع الخط المصري
تعودنا على عادة الإغريق أن نسمي الكتابة المصرية «الإشارات المقدسة» (هيروغليفي) وأن نسمي نوعًا آخر خاصًّا «الهيراطيقي» والاسمان مستعملان في لغتنا، وليس هناك استعداد عند أي شخص لمحوها وإن كان كل منهما سخيفًا بعض السخف وبخاصة الأخير، لأنه — وهو الذي ترجم عنه معظم ما في الكتب — ليس بكتابة خاصة مطلقًا ولا يخرج عن كونه «خط رقعة» للكتابة الهيروغليفية والفرق بين الاثنين كالفرق بين حروف المطبعة وخط اليد.
ومما ساعد الأدب المصري بوجه عام الأدوات التي كان يستعملها الكتاب في الكتابة. ولم يكن عملهم كعمل زملائهم البابليين وهو طبع إشاراتهم على ألواح من الطين، فهذه طريقة أنتجت أشكال الخط المسماري القبيح الشكل.
استعمال البردي للكتابة
استعمال الخزف للكتابة عليه
أما الفرد الذي لم يكن في مقدوره الحصول على ورق البردي فكان يجد في قطع الخزف ما يسد حاجته. وهي مادة رخيصة الثمن تحل محل الورق. وقد يطلق هذا الاسم على قطع من الأواني الفخارية أو من الحجر الجيري الناعم، ونشاهد هذه الآثار الكتابية ملقاة على الأرض في أي مكان من مصر. ولما كانت هذه القطع الخزفية يستعملها تلاميذ المدارس لكتابة تمارينهم فإن كثيرًا من المتون المصرية قد نقل عنها.
فهمنا للمتون المصرية
إن الطالب الذي يوازن بين ترجمتين لمتن صعب من المتون المصرية إحداهما قديمة العهد والأخرى حديثة، قد يشك في أن هاتين الترجمتين المتباينتين هما لقطعة واحدة. والسبب في ذلك هو نقص نظام الكتابة عند المصريين القدماء، فالألفاظ المصرية لم توضع فوقها حركات تبين بالضبط موقعها من الجملة، ونتيجة ذلك أنه يمكن نطق الكلمة بأشكال مختلفة تعطيها معاني متباينة: مثال ذلك «سزم» فإنها تحتمل معنى من المعاني الآتية: سماع، يسمع، سمع، سامع، مسموع إلخ، وليس لدينا طريقة لتحقيق المعنى المقصود بالضبط إلا سياق الكلام. على أننا لا نجد صعوبة حينما نبحث في متن بسيط؛ فإننا نجد من السياق ومن الاستعلامات المعروفة لدينا حق المعرفة ما يعيننا على سهولة البحث. ونجد الأمر على عكس ذلك إذ كان المتن يحتوي على غير المألوف من الجمل والأفكار، فهنالك يترك المترجم الأمين هذه الجمل من غير ترجمة غالبًا أو يترجمها، ويعترف بأن هناك تراجم أخرى لها يمكن اتباعها.
ولا يدهش القارئ عندما يرى أن يعض المتون قد ترك من غير ترجمة في كثير من الوثائق المصرية.
جهل الكاتب
وهناك عقبات أخرى غير العقبات التي نصادفها بسبب غموض نظام الكتابة تعترضنا وربما أثارت من ضحكًا، وهي ناشئة عن خفة الكاتب وجهله: على أن كثرة الأغلاط الكتابية في كل مخطوط كتابي تكاد تكون لسوء الحظ أمرًا عاديًّا. وليست هناك مخطوطات يعد الخطأ الكتابي فيها خطرًا كما في الكتابة الهيروغليفية، فإنه يكتفي للكاتب أن يضيف (خطأ) مخصصًا إلى كلمة فيتغير معناها إلى معنى مختلف كل الاختلاف عما يقصده الكاتب، وقد تؤدي غلطة من هذا النوع إلى خطأ في الترجمة، وتسرب أمثال هذه الأغلاط أمر سهل الوقوع، وذلك لغموض طبيعة الكتابة، وهذا الخطأ في الترجمة نتيجة طبعية لهذا النظام الغامض. على أن المصريين القدماء كانوا أقل احتفالًا منا بأمثال هذه الأغلاط، فكانوا يصححون هذا الخطأ أثناء القراءة، ومن الواجب أن نفترض حصول ذلك منهم، وإلا فإنه لا يصدق أن فردًا كان ينقل كتابًا لاستعماله الشخصي ثم يغض النظر عما فيه من أخطأء كثيرة.
أغلاط التلاميذ في نقل المتون
ولنتكلم الآن عما خلفه لنا تلاميذ المدارس في عهد الدولة الحديثة، وأعني بذلك أوراق البردي وقطع الخزف التي كانوا يسطرون عليها واجباتهم اليومية التي يأمرهم بها معلموهم. يظهر أن هؤلاء التلاميذ كانوا لا يؤدون واجباتهم دائمًا عن طيب خاطر لذلك كثرت الأغلاط الشنيعة التي كانوا يرتكبونها في مثل هذه المتون. ولم تخل أساس المتون عبارة من بعض الأغلاط، وعلى ذلك لا نشك في أن جزءًا كبيرًا من متن موقعة «قادش» كان مصيره الغموض، لو لم نستند في تصحيحه إلى النقوش التي ساعدتنا على إصلاح كثير من أغلاطه، وما كانت نسخة «بنتاور» لتغنينا عن ذلك شيئًا.
وكان التلميذ عندما يكلف نقل كتاب يصعب عليه فهمه لما فيه من التعبيرات اللغوية القديمة يغير فيه تغييرًا يضيع من المعنى، وإذا كانت الحال كذلك فإننا نشكر الله إذا استطعنا أن نلمس الصواب في بعض أنحاء الموضوع الذي يتحدث عنه الكتاب، ومما يؤسف له أن كتابًا قيمًا كتعاليم «دواوف» قد وقع فريسة في يد تلاميذ مدارس الأسرة التاسعة عشرة، ولا يعزينا عن ذلك أن نرى بعد بضعة قرون تلاميذ مدارس الأسرة الثانية والعشرين قد أساءوا من ناحيتهم — على النحو السابق — نقل كتابات الأدب المصري الحديث. ونقرر هنا أننا مدينون بالشكر للمدارس المصرية، فقد حفظت لنا كثيرًا من هذا الأدب من الضياع، غير أن الشكر الذي يهديه مترجم أمثال هذه الكتابت المحشوة بالأغلاط لهذه المدارس سيكون دائمًا ممزوجًا بشيء من الفتور.
هوامش
Moret, Le Nil, p. 315.