ازدهار الأدب المصري في العهد الإقطاعي
- (١) تحذيرات نبي: وقد اقتبسنا معظمها في الجزء الأول عند الكلام على أسباب سقوط الدولة القديمة.
- (٢) تعاليم الملك خيتي لابنه مرى كارع: وقد اقتبسنا منها بعض مقتطفات عند الكلام على العهد الأهناسي عند ذكر حالة البلاد السياسية (انظر جزء أول ص ٤٢٠) وتمتاز هذه الورقة بما جاء فيها من الأفكار الدينية، على أن مثل ذلك يكاد يكون معدومًا في كل التعاليم الأخرى. ومن الحكم الرائعة التي جاءت فيها:قيمة حسن الكلام والحكمة: كن حاذقًا في صناعة الكلام، لأن قوة الرجل لسانه، والكلام أقوى من أية محاربة … والحاذق لا يعارضه أحد. والذين يعرفون أنه عاقل لا يهاجمونه، ولا يلحقه مكروه أينما كان. ويأتي إليه الصدق بعد أن اختمر تمامًا،١ كما كان يتكلم به الأجداد.الله وبنو الإنسان: يمر الجيل من الناس، والله الذي يرعى الخلق قد أخفى نفسه …احترم الإله في طريقه (احتفاله) حتى الإله الذي سوي من أحجار كريمة، أو من نحاس، كالماء الذي حل مكان الماء.٢ ولا يوجد نهر يسمح لنفسه أن يبقى مختبئًا، إذ لا بد له من أن يحطم السد الذي قد أخفاه.والروح تذهب إلى المكان الذي تعرفه ولا تضل طريقها بالأمس، فاجعل منزلك في الغرب (الآخرة) جميلًا، ومكانك في الجبانة فاخرًا كالرجل العادل الذي عمل عملًا صالحًا فذلك هو المكان الذي يرتاح فيه قلبه.٣
إن الفرد الذي يحمل فضيلة الحق في قلبه أحب إلى الله من نور الظالم (أي الثور الذي يقدم قربانًا) اعمل شيئًا لله حتى يعمل لك المثل بقربان يوضع على المائدة ونقوش تخلد اسمك: إن الله عليم بمن يعمل له شيئًا.
وقد ختم هذا الملك الحكيم كلامه بتأملات تدل على اعتقاده بالوحدانية ووصف خالقه المسيطر على العالم نذكرها فيما يلي: إن الله قد عُني عناية حسنة برعيته، فقد خلق السموات والأرض طبق رغبتهم وخفف الظمأ بالماء وخلق لهم الهواء حتى تحيا به أنوفهم، وهم صوره التي خرجت من أعضائه، وهو يرتفع إلى السماء حسب رغبتهم، وخلق النبات والماشية والطيور والأسماك غذاء لهم، وهو كذلك يعاقب فذبح أعداءه وعاقب أطفاله بسبب ما دبروه حينما عصوا أمره.٤ ويضع النور حسب رغبتهم كذلك يجعلهم ينامون ويسمع عندما يبكون وجعل لهم حكامًا من الفرج.٥ - (٣) شجار بين إنسان قد سئم الحياة وبين روحه: (ورقة محفوظة بمتحف برلين) تعد محتويات هذه الورقة أقدم وثيقة في متناولنا عن موضوع روحي في تاريخ العالم وهي تشبه «كتاب يعقوب» الذي كتب بعدها بنحو ١٥٠٠ سنة. ولا نزاع في أن اختيار المؤلف لهذا الموضوع كان وفقًا لحالة الاضطراب والفقر والعوز التي كانت تسود البلاد في هذا العهد المظلم.
ومما يؤسف له جد الأسف أن مقدمة هذا الكتاب التي ذكرت فيها أسباب هذه الثورة الروحية قد فقدت، ولكن مما بقي لنا من الوثيقة يمكننا من أن نتلمس تلك الأسباب.
والواقع أن هذا البائس كان رجلًا رقيق الروح، ولكنه رغم ذلك قد داهمه الحظ العاثر إذ أصبح مريضًا وابتعد عنه أصدقاؤه، وحتى إخوته الذين كان من واجبهم أن يواسوه في مرضه، ولم يجد بجانبه خلًّا وفيًا. وفي وسط تلك المصائب سرق جيرانه متاعه وما عمله من صالح بالأمس قد نسي اليوم، ورغم أنه كان صاحب حكمة فإنه قد أقصي عندما كان يريد أن يترافع عن حقه، وقد حكم عليه ظلمًا، واسمه الذي كان يجب أن يكون موضع الاحترام، «أصبح نتنًا في أنوف الناس».
وفي هذا الوقت العصيب عندما كان يسبح في الظلام واليأس صمم على أن ينتحر؛ فتراه وهو واقف على حافة القبر، على حين أن روحه كانت تفر من الظلمة في فزع وتأبى أن تتبعه، وبعد ذلك تجد في الورقة أن هذا التعس يكلم نفسه أي يتحدث إلى روحه كأنه يتحدث إلى شخص آخر.
وقد كان أول سبب في عدم إطاعة روحه في اتباعه إلى الآخرة خوفها من ألا تجد طعامًا في القبر بعد الموت، وقد يظهر ذلك غريبًا جدًّا لأول وهلة من رجل يشك كثيرًا في مثل هذه التحضيرات التي كانت تعمل للمتوفى في آخرته، ولعل هذا التعليل حيلة أدبية يريد الكاتب أن يتخلص منها إلى عدم فائدة هذه المعدات الجنازية. والظاهر أن الروح نفسها قد اقترحت عليه الموت حرقًا، ولكنها فرت بنفسها من هذه النهاية الفظيعة. ولما لم يكن من بين الأحياء لهذا التعس صديق أو قريب يقف بجانبه، ويقوم بالاحتفالات الجنازية، أخذ يستحلف روحه أن تقوم له بكل هذا، ولكن الروح على أية حال أبت الموت في أي شكل وأخذت تصف فظائع القبر: ثم فتحت روحي فمها وأجابت عما قلته: إذا تذكرت الدفن فإنه حزن، وذكراه تثير الدمع. وتفعم القلب حزنًا؛ فهو ينتزع الرجل من بيته ويلقي به على الجبل (الجبانة) ولن تخرج قط ثانية لترى الشمس. على أن هؤلاء الذين بنوا بالجرانيت الأحمر، وأقاموا حجر دفن في الهرم، وهؤلاء الجميلون الذين شيدوا هذا المبنى الجميل وأصبحوا مثل الآلهة، ترى موائد قربانهم هناك خاوية كموائد أولئك المتعبين الذين يموتون على الجسر من غير خلف لهم، فيبتلع الفيضان ناحية من أجسامهم وتلفحهم حرارة الشمس كذلك ويلتهمهم سمك شاطئ النهر ويعبث بهم. اصغ إليّ وإنه لجدير بالناس أن يصغوا، تمتع بيوم السرور وانس الهموم.
وهذا هو جواب الروح عندما تمثل أمامها منظر الموت، ولكن البائس قد أكد أن «من كان في هرمه ومن وقف بجوار سرير موته، أحد الأحياء، يكون سعيدًا، وقد سعى أن تقوم روحه بدفنه وبتقديم القرابين، وتقف عند القبر يوم الدفن، لتجهز السرير في الجبانة» ولكن كان مثله مثل ضارب العود في الأغنية التي ذكرناها فيما سبق، فقد تذكرت روحه قبور العظماء التي خربت، وموائد قربانهم التي أصبحت خاوية كموائد العبيد التعسين الذين ماتوا كالذباب في وسط الأعمال العامة، على جسور الري، وقد أصبحت أجسامهم عرضة للحر اللافح، والأسماك الملتهمة في انتظار الدفن، فلم يكن هناك إلا حل واحد لكل ذلك: «أن يعيش الإنسان جاعلًا الحزن نسيًا منسيًّا، وينغمس بكليته في السرور.
- المقطوعة الأولى: تصف لنا مقت العالم بغير حق لاسم هذا التعس.
- المقطوعة الثانية: نجد في هذا الشعر أن ذلك الشقي ينتقل من نفسه ليصف هؤلاء الذين كانوا سببًا في تعسه، فينظر إلى مجتمع عصره فلا يجد فيه إلا الغش والخيانة والظلم وعدم الوفاء حتى بين أقاربه.
- المقطوعة الثالثة: أنشودة في مدح الموت. على أننا نجد فيها تأملات في ميزات الموت كما سنجد بعد ذلك بنحو ١٥٠ سنة فيما ذكره أفلاطون عن أستاذه سقراط ولكنها أول شكوى لرجل حاق به الظلم. ومن المدهش أنها لا تحتوي على أفكار عن الإله، بل تنحصر في خلاصة من آلام الماضي التي لا تحتمل. ولا تنظر قط للمستقبل. هذا من مميزات العصر الذي عاش فيه. ولا نزاع في أن الصورة التي رسمها هذا الكاتب قد أخذت من الحياة اليومية في وادي النيل في تلك الفترة.
- المقطوعة الرابعة: يختم هذا البائس كلامه بالالتجاء إلى العدالة في الآخرة وبذلك قد جعل من الموت مدخلًا إلى قاعة المحاكمة، وكان عليه أن يذهب إليها بأسرع ما يمكن.
-
الشعر الأول: انظر إن اسمي ممقوت، أكثر من رائحة اللحم النتن، في أيام الصيف عندما تكون
السماء حارة.
انظر إن اسمي ممقوت، أكثر مما يمقت صيد السمك، في يوم صيد تكون السماء فيه حارة.
انظر إن اسمي ممقوت، أكثر من رائحة الطيور، وأكثر من تل من الصفصاف مليء بالأوز.
انظر إن اسمي ممقوت، أكثر من رائحة السماك، وأكثر من شواطئ المستنقعات عندما يصاد عليها.
انظر، إن اسمي ممقوت، أكثر من رائحة التماسيح. وأكثر من الجلوس … حيث التماسيح.
انظر، إن اسمي ممقوت، أكثر من زوجة عندما يقال عنها الأكاذيب لزوجها.
انظر، إن اسمي ممقوت، أكثر من صبي شديد قد قيل عنه إنه … لمن يكرهه٦انظر، إن اسمي ممقوت، أكثر من … مدينة، أكثر من ثائر ولى الأدبار.
-
الشعر الثاني: لمن أتكلم اليوم؟ الأخوات شر. وأصدقاء اليوم ليسوا جديرين بالحب لمن أتكلم
اليوم؟ الناس شرهون. وكل إنسان يغتال متاع جاره.
لمن أتكلم اليوم؟ اللطف قد باد، والوقاحة صارت في كل القوم.
لمن أتكلم اليوم؟ فإن من كان ذا وجه باش أصبح خبيثًا، وأصبح الخير ممقوتًا في كل مكان.
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الذي يستفز غضب الرجل الطيب بأعماله الشريرة يسر منه الناس،٧ ويضحكون كلما كانت خطيئته شنيعة.لمن أتكلم اليوم؟ الناس يسرقون وكل إنسان يغتصب متاع جاره.
لمن أتكلم اليوم؟ فقد أصبح الرجل المريض هو الصاحب الذي يوثق به، أما الأخ الذي يعيش معه فقد صار العدو.٨لمن أتكلم اليوم؟ إذ لا يذكر أحد الماضي، ولن يفعل أحد الخير لمن يسديه إليه.
لمن أتكلم اليوم؟ الأخوات شر، والإنسان صار يعامل كعدو رغم صدق ميوله.
لمن أتكلم اليوم، إذ لا نرى الوجوه، وأصبح كل إنسان يلقي بوجهه في الأرض إعراضًا عن إخوانه.٩لمن أتكلم اليوم؟ والقلوب شرهة. والرجل الذي يعتمد عليه القوم لا قلب له.
لمن أتكلم اليوم؟ فالصديق الذي يعتمد عليه معدوم، وأصبح يعامل الإنسان كأنه فرد مجهول رغم أنه قد جعل نفسه معروفًا.١٠لمن أتكلم اليوم؟ إذ لا يوجد أحد في سلام، والذي ذهب معه لا وجود له (؟).
لمن أتكلم اليوم؟ فإني مثقل بالشقاء وينقضي خل وفي.
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الخطيئة التي تصيب الأرض لا حد لها.
-
الشعر الثالث: إن الموت أمامي اليوم، كمثل المريض حينما يشفى وكمثل الذي يمشي في الخارج بعد
المرض.
إن الموت أمامي اليوم كرائحة بخور المر، وكمثل إنسان يقعد تحت الشراع في يوم شديد الريح.١١إن الموت أمامي اليوم كرائحة زهرة السوسن وكما يقعد الإنسان على شاطئ السكر.١٢
إن الموت أمامي اليوم كطريق معبد، وكما يعود الرجل من الحرب إلى بيته.
إن الموت أمامي اليوم كسماء صافية وكرجل … لمن لا يعرفه.
إن الموت أمامي اليوم كرجل يتوق إلى رؤية بيته بعد أن مضى سنين عدة في الأسر.
-
الشعر الرابع: إن الذي هنالك،١٣ سيقبض على (المذنب) كإله حي، ويوقع عقاب الإجرام على من
اقترفه.
إن الذي هنالك، سيقف في سفينة الشمس ويجعل أحسن القرابين هناك تقدم للمعابد.
إن الذي هنالك سيكون رجلًا عاقلًا لم ينبذ.١٤ مصليًا «لرع» حينما يتكلم.هذا ما قالته روحي لي: اترك العويل ظهريًّا يا خلي ويا أخي … سأسكن هنا إذا كنت ترفض الغرب، ولكن حينما تصل إلى الغرب ويتحد جسمك مع الأرض فإني سأنزل عندئذ بعد أن تستريح، دعنا إذن نسكن معًا.
(١) شكاوى الفلاح الفصيح١٥
لدينا أربع نسخ من كتاب أطلق عليه علماء الآثار «شكاوى الفلاح» ويرجع تاريخ كتابتها إلى عهد الدولة الوسطى. وهذا الكتاب مثال للفصاحة، فتعابيره غاية في الرشاقة والبلاغة، وموضوعه: هو أن شخصًا فصيحًا ألقى تسع خطب في ثوب شكاوى من أبدع وأروع ما قيل بسبب حادث ظلم وقع له. ومحور هذه الخطب مدح العدل وذم دناءة الموظفين، ولكن التعابير التي كانت تتدفق من فم الخطيب جعلتنا نكاد ننسى الغرض الذي قيلت من أجله، ولا شك أن هذه الخطب قد تظهر للقارئ الحديث مملة متشابهة، غير أنها ربما كانت في الحقيقة حسنة الوقع في أذن المصري، يحس بما فيها من رشاقة وحذق مما يتعسر علينا إدراكه، وبخاصة إذا عرف أننا لم نفهم هذا الكتاب إلا بشكل ناقص جدًّا.
وقد وقعت حوادث هذه القصة في عهد الملك «نب كاورع» أحد ملوك هرا كليوبوليس (أهناس المدينة الحالية) ويحمل لقب «خيتي» وقد حكم البلاد في نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد (انظر جزء أول ٤١٤ إلخ) وتتلخص القصة في أن فلاحًا من مقاطعة الفيوم من إقليم وادي النطرون كان يسكن ببلدة تسمى حقل النطرون. واتفق أن هذا الفلاح وجد مخازن غلاله تكاد تكون خاوية، فحمل حميره محصولات قريته واتجه نحو أهناس طلبًا للمبادلة بالغلال. وقد كان عليه أن يمر في طريقه إلى العاصمة بمنزل «تحوتي نخت» أحد موظفي «رنزي»، الذي كان المدير العظيم لبيت الملك. وقد راقت هذه الحمير في عين «تحوتي نخت» فدبر حيلة للاستيلاء عليها عنوة هو وأتباعه، فاتخذ من أكل أحد الحمير بضع سيقان من القمح سببًا لضرب الفلاح ضربًا مبرحًا واغتصاب حميره، وقد مكث بباب «تحوتي نخت» أربعة أيام يرجو فيها إرجاع حميره ولكن بدون جدوى. ولما علم هذا الفلاح بشهرة عدالة «رنزي» المدير العظيم لبيت الملك، ولى وجهه شطر المدينة ليشكو إليه ما حاق به، ولحسن حظ الفلاح صادف المدير العظيم لبيت الملك وهو يتأهب لركوب قاربه، فأخذ يقص عليه ما أصابه بلغة فصيحة مما استرعى سمعه، فأرسل أحد خدمه ليسمع قصة الفلاح. ولما عاد وأخبر «رنزي» بسرقة «تحوتي نخت» للحمير، عرض المدير العظيم لبيت الملك الموضوع أمام زملائه من الموظفين، وقد حذق المؤلف في جعل جوابهم يتفق مع ما يحدث في مثل هذه الأحوال، وهو تحامل الموظف على الفقير في الدوئر الحكومية مهما كان الحق في جانبه، ولذلك نرى أن زملاء المدير الكبير لبيت الملك قد انحازوا إلى جانب «تحوتي نخت» وأجابوا «رنزي» بفتور عظيم بأن المسألة ربما كانت تنحصر في موضوع فلاح قد دفع ما عليه من الضرائب خطأ لرئيس غير رئيسه، وأن «تحوتي نخت» قد استولى بحق على ما يستحقه من الضرائب. ثم تساءلوا في غضب: هل سيعاقب «تحوتي نخت» من أجل قليل من النطرون وقليل من الملح؟ فليطلب إليه أن يعيدها وهو لا يتأخر. ويلاحظ أنه من خصائص هذه الطبقة أنهم يتجاهلون الحمير التي هي بيت القصيد والتي يسبب ضياعها موت هذا الفلاح وأسرته جوعًا. وعندما سمع الفلاح بذلك تقدم إلى «رنزي» وأخذ يقص عليه شكايته بفصاحة ولباقة:
الشكوى الأولى
مقدمة الشكوى الثانية
وقد اتفق أن هذا الفلاح قد ألقى هذه الخطبة في عهد الملك «نب كاورع».
وقد ذهب المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو» أمام جلالته وقال: «سيدي لقد عثرت على أحد هؤلاء الفلاحين، وفي الحق إنه فصيح، وهو رجل قد سرق متاعه، وانظر إنه قد حضر ليتظلم لي من أجل ذلك.»
عندئذ قال جلالته: «بقدر ما تحب أن تراني في صحة دعه يتباطأ هنا دون أن تجيب عن أي شيء قد يقوله. ولأجل أن تجعله يستمر في الكلام الزم الصمت. ثم مر بأن يؤتى لنا بذلك مكتوبًا حتى نسمعه ولكن مد زوجته وأطفاله بالمئونة، ثم انظر لا بد أن يأتي أحد الفلاحين إلى مصر وذلك بسبب فقر بيته. وزيادة على ذلك مد هذا الفلاح نفسه، فلا بد من أن تأمر بإعطائه الطعام دون أن يعلم أنك أنت الذي أعطيته إياه». وعلى ذلك أعطى عشرة أرغفة وإبريقين من الجعة كل يوم. وقد تعود رب البيت العظيم «رنزي» بن «مرو» أن يعطي تلك الأشياء أحد أصدقائه وكان هذا يعطيها إياه (الفلاح). ثم إن المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو» أرسل إلى شيخ بلدة «سخت حموت» ليصنع الطعام لزوج ذلك الفلاح ومقداره ثلاثة مكاييل من القمح كل يوم.
الشكوى الثانية
ثم إن هذا الفلاح قد أتى ليتظلم له مرة ثانية وقال: يا أيها المدير العظيم للبيت الملكي، يا سيدي. يا عظيم العظماء، يا أغنى الأغنياء، يا من عظماؤه لهم واحد أعظم منهم، يا من أغنياؤه لهم واحد أغنى منهم. أنت يا سكان السماء، ومثقال ميزان الأرض، ويا خيط الميزان الذي يحمل الثقل، يا أيها السكان لا تنحرف. ويا مثقال الميزان لا تتحول، ويا خيط الميزان لا تتذبذب. إن السيد العظيم يأخذ (فقط) مما ليس له مالك وينهب واحد (فقط). إن أودك في بيتك، قدحًا من الجعة وثلاثة رغفان. وما الذي يمكمن أن تصرفه لإطعام عملائك؟ على أن الإنسان سيموت مع خدمه، وهل ستكون رجلًا مخلدًا؟
والعمل الطيب يعود ثانية إلى مكانه بالأمس. والواقع أن الحكمة تقول: «عامل الناس بما تحب أن تعامل به»، وذلك كشكر إنسان على ما يعمله، وكمنع شيء قبل تشكيله مع أن الأمر قد أعطى للصانع.
يتمنى الشر للأمير: ليت لحظة تخرب، فتجعل كرمك رأسًا على عقب، وتفتك بطيورك وتودي بدواجنك المائية. فالمبصر قد غشي بصره والمستمع قد صم، وذلك الذي كان يجب أن يكون مرشدًا أصبح مضللًا.
لا تقل الكذب، واحترس من الموظفين، إن قول الكذب نباتهم، ومن المحتمل أن يكون خفيفًا في قلوبهم، وأنت يا أكثر الناس علمًا، هلا تريد أن تعرف شيئًا عن أحوالي (؟) وأنت يا من تقضي حوائج الماء تأمل فإني أملك مجرى ماء من غير سفينة، وأنت يا مرشد كل غارق إلى البرنج من غرقت سفينته، نجني (؟) …»
الشكوى الثالثة
ثم حضر هذا الفلاح مرة ثالثة ليشكو فقال: يا أيها المدير العظيم للبيت، يا سيدي. إنك «رع» رب السماء في صحبة حاشيتك. إن أقوام بني الإنسان منك لأنك كالفيضان. وأنت كإله النيل الذي يخلق المراعي الخضراء ويمد الأراضي القاحلة. ضيق الخناق على السرقة، وارحم الفقير، ولا تكونن كالسيل ضد الشاكي، واحذر من قرب الآخرة. ارغب في أن تعيش طويلًا كما يقول المثل: إن إقامة العدل هو «نفس الأنف». عاقب من يستحق العقاب وليس هناك شيء يماثل الاستقامة. هل الميزان يتحول؟ وهل يميل لسانه إلى جهة؟ هل يظهر «تحوت» تساهلًا؟
تأمل إنك نوتي تعبر بمن معه الأجر؛ ورجل مستقيم في معاملته ولكن تلك الاستقامة أصبحت مذبذبة.
تأمل إنك رئيس مخابز لا يسمح لأحد خلو (مفلس) أن يمر إهمالًا (؟).
تأمل إنك صقر لعامة القوم يعيش على أحقر الطيور.
تأمل إنك مورد سروره الذبح، إذ لا يوقع عليه التقطيع.
وقد قال الفلاح هذا الكلام إلى المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو» عند مدخل قاعة المحاكمة، ثم أمر حاجبين أن يتعهداه بسياط وقد أثخناه ضربًا بالسياط في كل أجزاء جسمه.
عندئذ قال هذا الفلاح: «إن ابن «مرو» لا يزال مستمرًّا في غيه وإن حواسه قد عميت عما ينظر، وصمت عما يسمع، وقد ضل عما ينسب إليه.
انظر إنك حاكم يسرق وعميد قرية يقبل (الرشوة) ومفتش إقليم كان يجب عليه أن يقطع دابر التخريب لكنه أصبح نموذجًا للمجرم».
الشكوى الرابعة
الشكوى الخامسة
الشكوى الثامنة
وبعد ذلك أتى الفلاح ليشكو مرة ثامنة فقال: «يا أيها المدير العظيم للبيت الملكي، يا سيدي! إن الناس يتحملون السقوط بسبب الطمع، والرجل المغتال يعوزه النجاح ولكنه ينجح في الخيبة. إنك جشع وذلك لا يتفق معك، إنك تسرق وذلك لا يليق بك، أنت يا من يسمح للإنسان بأن تشرف على قضيته الحقة ذلك لأن ما يقيم أودك في بيتك، ولأن جوفك قد ملئ، ولأن مكيال القمح قد طفح، فإذا هز طفح وضاع على الأرض.
ثم يأتي بعد ذلك الشكوى التاسعة وهي لا تخرج عن هذه المعاني.
ونرى من هذه الشكاوى الفصيحة أنها تصف لنا ما آلت إليه البلاد في تلك الفترة الصعبة من تاريخ البلاد، كما وصفتها كل الوثائق الأدبية التي وصلت إلينا من هذا العصر.