الجيش والحروب
لقد حبت الطبيعة أرض مصر حدودًا طبيعية جعلتها في الأزمان الغابرة منعزلة عن العالم الذي يحيط بها، مما جعل إغارة جيرانها عليها من أشق الأمور وأصعبها، فقد كانت صحراء ليبيا سدًّا منيعًا لكل غارة من جهة الحدود الغربية، على حين أن سواحلها الشمالية لم تعرضها لأي خطر، إذ في ذلك العهد من تاريخها لم يكن لها أعداء لهم أساطيل تمخر عباب البحر، يخشى من غاراتها، أما الأقوام الذين يقطنون وراء حدودها الشرقية والجنوبية فإنهم كانوا أقل منها ثقافة ومدنية، فكان خطرهم على تهديد سلامتها شيئًا لا يحسب له حساب.
من أجل ذلك بقيت بلاد مصر فترة طويلة من الزمن هادئة مطمئنة في عقر دارها، مما جعل أهلها بطبيعة الحال يشتغلون بالزراعة، وسيظلون كذلك طول حياتهم، وأهم عمل لهم فلاحة الأرض واستثمارها، على أن كل ذلك لا يعني أن المصري لم يكن بالرجل المحارب عند الحاجة، إذ برهنت الأحوال على أن الجندي المصري في ساحة الوغى يعد من أحسن جنود العالم وأشجعها وأكثرها صبرًا، فقد جاء على مصر فترة من الزمن في تاريخها كانت هي سيدة ممالك العالم المتمدين، وذلك بقوة جيوشها وانتصاراتهم العظيمة التي وضعتهم في قمة أمم الشرق ردحًا من الزمن غير قصير.
(١) عصر ما قبل التاريخ
الحروب الأولى
على أن ما ذكرناه لا نقصد به أن مصر كانت معفاة من الحروب الداخلية والخارجية منذ ما قبل الأسرات، لأن ذلك ينافي طبيعة البشر وسنن الرقي؛ فقد عثر على بعض ألواح من عصر ما قبل التاريخ يستدل منها على قيام حروب بين المصريين وبدو الصحراء وأهل بلاد النوبة. وكذلك تدل الآثار على قيام حروب مستمرة بين سكان مصر أنفسهم، وبخاصة بين الوجه القبلي والوجه البحري، وبقي النزاع قائمًا إلى أن وحدت الأرضان في عهد الفرعون مينا على قول معظم المؤرخين.
الحرب بين الوجه القبلي والوجه البحري
وما لدينا من الوثائق القليلة يلقي بعض الضوء على اشتباك المصريين مع الآسيويين في حروب، وكذلك على قيام حرب بين مصر العليا ومصر السفلى، ولا أدل على ذلك من المناظر التي نشاهدها على لوحة الملك «نعرمر»، وكذلك على رأس دبوس الملك «عقرب» فعلى هذين الأثرين نجد مناظر تدل على اشتباك المصريين معًا في قتال عنيف. وكذلك اشتراك الآسيويين مع أحد الخصمين لمساعدته. يضاف إلى ذلك أنه عثر على رأس دبوس ممثلة عليه حملة قام بها ملك الكاب «نخن» (الوجه القبلي)، وتعد من الحملات الهامة جدًّا ضد بلاد الدلتا؛ فقد حطمت الكتائب المصرية التي جمعها ملك الوجه البحري لصد هذا الهجوم وكذلك قضت على جيش أنصاره من الآسيويين جيرانه وحلفائه. وقد عثر في «نخن» (هراكنبوليس) (جزء أول ص٨٥) على نقوش ملونة يرجع عهدها إلى ما قبل الأسرات وهي موجودة الآن في المتحف المصري؛ يشاهد عليها بعض المحاربين القدماء، وهم في ساحة الوغى، وتدل كيفية تسليحهم دلالة واضحة على تقدمهم في فنون الحرب مما يشعر بوجود جيش في البلاد.
إذ نجد أن المحارب كان مسلحًا بحربة في نهايتها قطعة من الظران الحاد المدبب، أو من العاج. وكان يحمي الجندي منهم زرد ودرع مصنوع من جلد الفهد.
وتدل المعلومات التي لدينا على أن بلاد القطر كانت مقسمة إلى مقاطعات تكاد تكون كل واحدة منها مستقلة، حتى وحد «مينا» القطرين وبقي هذا النظام شائعًا في عهد الأسرتين الأوليين حتى قضى عليه آخر ملوك الأسرة الثانية تدريجًا، وكان الفضل في القضاء على هذا النظام يرجع إلى الفرعون «خع سخموي»، منذ ذلك العهد أصبحت كل المقاطعات المصرية في يد الملك. ولهذا بدأ يكون للبلاد جيشًا ثابتًا منظمًا منذ أوائل الأسرة الثالثة، وليس لدينا من الآثار ما يدلنا على وجود جيش موحد لكل البلاد المصرية قبل عهد «زوسر» وذلك لقلة المصادر، ومما لا نزاع فيه أنه كان لملك الدلتا جيش، وكذلك كان لملك مصر العليا جيش، ولكن يغلب على الظن أن جنود كل جيش لم يكونوا خاضعين للملك. بل كانوا يجندون من المقاطعات، التي كانت مقسمة إليها البلاد في هذا العصر، وكان يقود جند كل مقاطعة حاكمها لمساعدة مليكه وقت الحرب.
(٢) الأسرة الثالثة
ولما تولى «زوسر» حكم البلاد، ووطد السلطة الإدارية في يده، كان لا بد له من جيش قائم في البلاد ليمكنه من القبض على ناصية الحال في داخل البلاد وخارجها، وفعلًا عثر على نقوش في عصره تثبت وجود مصلحة خاصة لإدارة شئون الجيش.
وكان أهم ما عني به هو حماية البلاد من الغارات الأجنبية، التي كانت تجتاح البلاد من أطرافها، وبخاصة أهل البدو، ولذلك قسم حدود البلاد إلى مناطق أطلق عليها اسم (أبواب المملكة) وجعل في كل منها حامية، وهذه التسمية تنم عما يقصد بها أي أنها كانت المواطن التي يمكن أن ينفذ منها العدو إلى داخل القطر. وقد نصب على كل من هذه المناطق حاكم خاص يلقب (مرشد الأرض) «سشم تا» وقد كان لهؤلاء الحكام، الكلمة العليا على حكام المقاطعات، وكان في يدهم إدارة الشرطة كل في منطقته، ولذلك كانوا مسئولين عن النظام والأمن في هذه المناطق التي لا يمكن البلاد أن تعيش في أمان إلا في ظلهما.
وفي أماكن أخرى كان يشاهد تعاقب منظم للعقود في طول الجدار ولم يعرف السر في إقامة هذه الجدران بهذا الشكل. وقد ظن البعض أن البناء بهذه الكيفية يكون أكثر مقاومة، عند حدوث زلزال أرضي، وكان هذا الحصن مبنيًّا على الطريقة التي ذكرناها. ولكن المقابر التي كانت تقام في هذه البقعة المقدسة، قد طغت على الحصن الأصلي حتى عهد الأسرة السادسة، ثم أقيمت أخرى مماثلة لها على بعد نحو مائة متر من الجنوب الشرقي منها. وهذا المبنى الجديد يعد من أحسن القلاع الحربية المحفوظة لدينا الآن، ويرجع تاريخ إقامتها إلى العهد الإقطاعي أي ما بين الأسرة السادسة والأسرة العاشرة.
والجزء الخارجي من هذا الحصن ليس فيه أبراج أو مبان بارزة من أي نوع كان. وهو على شكل مستطيل، ضلعاه الطويلان متوازيان ويبلغ طول الواحد منهما نحو ١٤٠ مترًا من الشرق إلى الغرب، والضلعان القصيران متوازيان كذلك، ويبلغ طول الواحد منهما نحو ٨٤ مترًا من الشمال إلى الجنوب. ويمتاز الجدار الخارجي بمتانته فهو مبني بمداميك أفقية مائلة بعض الشيء، ومزينة بأخاديد عمودية تعكس ضوءًا وظلًّا يختلفان باختلاف ساعات النهار. وهذه الجدران كان طولها لا يقل عن أربعين قدمًا تقريبًا.
وكان الممشى الذي يحدق بالسور متوجًا بمتراس صغير منخفض، له شرفات مستديرة، يصل إليه الإنسان بمراق مثبتة في الجدران بكل اعتناء.
ويحيط بهذا السور جدار حاجز، له نوافذ ويبلغ ارتفاعه نحو خمسة أمتار تقريبًا وبينه وبين السور نحو أربعة أقدام. والدخول إلى الحصن من بابين، هذا إلى أبواب سرية وفي نقط مختلفة بين البابين العظيمين. وكانت وقفًا على خروج رجال الحامية. وكان الباب الرئيسي تخفيه كتلة عظيمة من المباني في النهاية الجنوبية من الواجهة الشرقية. أما المدخل المقابل لذلك في الجدار الحاجز فكان فتحة ضيقة تغلق بأبواب صخمة من الخشب. وخلف هذا الباب مكان لحفظ الأسلحة، في نهايته فتحة ثانية تماثل الأولى في ضيقها، تؤدي إلى ردهة مستطيلة محصورة بين السور الخارجي وبين البرجين البارزين، وهناك باب آخر يوضع في أحد أركان الردهة، وكان ينتخب لهذا الغرض، الركن الذي يكون بعيدًا عن الأنظار. ولا شك في أن مثل هذا الحصن كان يعد من المناعة بدرجة تكفي لصد أي هجوم لأقوى جيش في هذا العصر. على أن الطرق التي كان يمكن بها الاستيلاء على أي حصن ثلاثة: الأولى أن يتسلق العدو الجدران. والثانية أن يقوض الحصن. والثالثة أن يقتحم الأبواب. أما تسلق الجدران فكان من الصعوبة بمكان، وذلك لارتفاع الجدران. يضاف إلى ذلك أن طلائع الجيش المهاجم كانوا يضطرون إلى الابتعاد عن الحصن بمسافة بعيدة؛ لأن جنود الحصن الذين يرابطون في الأبراج كانوا يفوّقون عليهم سهامهم وغيرها من آلات الحرب، ولكن إذا أحدث العدو ثلمة في البرج فإن الممرات الضيقة التي خارج الأسوار كانت تمكن المحصورين من قهر العدو بالأحجار والمزاريق والحراب، كلما تقدموا في هجومهم. ومن جهة أخرى تجعل هدم مباني الحصن من الأمور المتعذرة. وإذا حدث أن سلم حراس الباب الأول للمهاجمين، فإن جماعة الأعداء عندئذ يزدحمون في الردهة كأنهم محصورون في حفرة، لأنه من العسير على الفاتحين أن يقتحموا المكان كلهم دفعة واحدة، ولذلك يكون لزامًا عليهم أن يهاجموا الباب الثاني تحت وابل من قذائف رجال الحصن، وإذا ساعدهم الحظ وأفلحوا في ذلك فإنهم يتكبدون خسائر فادحة في هذا السبيل.
وفي هذا الوقت لم يعرف سكان وادي النيل شيئًا عن المنجنيق، ولم يعثر للآن على أي رسم للمنجنيق الذي يدار باليد في كل الآثار المصرية. وذلك لأنهم كانوا يقتحمون أي معقل، بكسر أبوابه بالبلط أو بحرق الأبواب نفسها، وفي الوقت الذي يكون فيه الجنود المكلفون بهدم أسوار الحصن منهمكين في عملهم، يبذل الرماة من الجنود جهد طاقتهم في تصويب سهامهم إلى العدو المتحصن لإخراجه من مخبئه، وفي ذلك الوقت يعمل الجنود المختبئون خلف أستار متحركة بكل ما في وسعهم لكسر وقاياتهم وهدم شرفاتهم بحراب معدنية الأطراف. وإذا هوجمت حامية من الشجعان المستميتين فلا تتغلب عليهم طريقة من هذه الطرق اللهم، إلا إذا حوصروا وضيق عليهم الخناق حتى يموتوا جوعًا، أو إذا حدثت خيانة تجعلهم يسلمون.
وكان إعداد الجنود المصريين ناقصًا من جهة النظام والانسجام، فكان الجنود المسلحون بالمقلاع، أو بالقوس والنشاب، أو الحراب، أو السيوف المصنوعة من الخشب، أو العصي، أو الحجارة، أو البلط المصنوعة من المعدن، يحاربون جنبًا لجنب. أما لباس الرأس فكان قبعة محشوة بالقش، ويحمي الجسم درع صغيرة للمشاة الخفاف، وعظيمة العرض لجنود الصف. وتتوقف نتيجة الواقعة على مبارزات فردية بين المتحاربين المسلحين بنوع مشترك من السلاح. والظاهر أن الجنود الذين يحملون الحراب هم الذين كانوا يقومون بالهجوم في خط واحد مختفين خلف درقة ضخمة، وكانت جراح الجنود في العادة خفيفة، وذلك راجع إلى أن المهارة التي كان يظهرها المحارب في استعمال درعه قللت من خطر الجروح، ولكن هذا لا يمنع الحربة من أن تصوب أحيانًا إلى صدر المحارب فترديه، والسيوف أو العصي تهوي على أم رأسه فتهشمها وتلقيه على الأرض لا حراك به. ولهذا السبب لم نجد إلا عددًا قليلًا من المجروحين في ساحة الوغى بعد انتهاء المعركة، وقد أطلق عليهم المصريون الأسرى المضروبين، وهذا يدل على كيفية أسرهم.
ومما يدل على حرص فراعنة هذه الأسرة على حفظ النظام في داخل البلاد والقضاء على الخصومات التي كانت تقوم بين الوجه القبلي والوجه البحري، ما أقامه ملوكها من الحصون لكبح جماح أي عصيان أو ثورة داخلية، ولا أدل على ذلك من القلعة التي بناها «زوسر» وأطلق عليها اسم «بطولة الأرضين».
ولا جدال في أن الجيش في هذا العهد كان في تكوينه ملكيًّا. وكانت الفرق «عبر» في عهد كل الأسر المنفية تتألف من شباب يقودهم رئيس «خرب»، وهذا اللقب كان يحمله في الإدارة المصرية كل من له وظيفة يسيطر بها على عدد من الموظفين.
ورغم قلة المصادر التي عثر عليها عن النظام الحربي في مصر فإن ما لدينا من الأسرة الثالثة كاف لنتحقق به من أن النظام الذي وجدناه في الأسرة الرابعة كان متبعًا في الأسرة الثالثة، فكان يشمل (مناطق حدود) يحكم كل منطقة موظف خاص بلقب (مرشد الأرض). وكانت كل منطقة يحميها حصن وحامية ثابتة، وجيش ملكي بقيادة قائد أعلى، وهذا الجيش مقسم إلى فيالق كل فيلق يقوده قائد جيش «إمرا مشع» وهذه الفيالق كانت مقسمة إلى فرق حربية «عبرو» يشرف على كل منها رئيس «خرب». أما إدارة الجيش العامل المؤلف من شبان الأمة فكان لها ديوان خاص مقسم إلى مصالح أهمها مصلحة مخازن الغلال الحربية، وإدارة الأسلحة، وإدراة مصانع بناء سفن الأسطول.
(٣) الجيش في عهد الأسرة الرابعة
تدل الألقاب الحربية التي عثرنا عليها في عهد الأسرة الرابعة على أن المعلومات التي وصلت إلينا من عهد الأسرة الثالثة صحيحة في جملتها، ففي عهد الأسرة الرابعة كان على رأس الجيش البري قائد الجيوش «إمرا مشع» وكان في العادة ابن ملك، ويجلس بين أعضاء المجلس الأعظم للعشرة، مثل الأمير «مرإيب» بن الفرعون «خوفو».
وكذلك «تنتي» فإنه كان يحمل في وقت واحد لقب قائد الجيش وقائد الأسطول، ومن ذلك يمكننا أن نفهم السر في أنه كان يحمل لقب مدير البعثات الملكية. وكان «متن» أحد عظماء الدولة في نهاية الأسرة الثالثة يحمل لقب مدير البعثات في المديريات القريبة من الدلتا في عهد الفرعون «سنفرو»، وقد خولت له هذه الوظيفة أن يعلن أن حكام مقاطعات تلك الأقاليم تحت قدميه. وقد كان «متن» يحمل كذلك لقبًا لم نعثر عليه في المتون المصرية وهو «كبير المدينة في كل أماكنها». ولا يبعد أن يكون بصفته قائد الجيش ومدير البعوث الملكية صاحب السيادة على كل الموظفين في كل المدن التي كان سلطانه ووظائفه تجعله مسيطرًا عليها.
ولا نزاع في أن اختصاصات موظفي بيت الأسلحة كانت تختلف عن اختصاصات «كتاب الفرق»، وذلك أن بيت الأسلحة كما يظهر من الاسم نفسه كانت مهمته الرئيسية تنحصر في تجهيز الجيش بمعداته الحربية، أما كتاب الفرق فكانوا يؤلفون مصلحة إدارية ويهتمون بالإدارة الحربية، فيعملون على تجنيد الجنود اللازمة. وسنرى أن التجنيد كان في الواقع يقوم به في الأقاليم المختلفة حاكم كل إقليم، ومن المحتمل جدًّا أن «عاخي» الذي كان يحمل لقب «مدير كتاب الفرق» كان مكلفًا بتجنيد العساكر وإدراة شئونهم في إقليم نفوذه، وذلك لأنه كان حاكم المقاطعة «ساب عزمر».
(٤) الجيش في عهد الأسرة الخامسة
لم يطرأ على تأليف الجيش في عهد الأسرة الخامسة تغيير يذكر عما كان عليه في عهد الأسرتين الثالثة والرابعة، إذ كان مؤلفًا من مجندين كان يطلق على الواحد منهم في هذا العهد «الشاب الجميل»، وتتألف منهم وحدات «عبر» كل منها تحت إمرة ضابط يحمل لقب رئيس الوحدة أو الفرقة «خرب عبر»، ومن هذه الفرق مجتمعة كانت تتألف كتائب الجيش «عبر مشع»، وعلى رأسها قائد يحمل لقب قائد كتائب الجيش.
وقد كانت العناية بالمجندين عظيمة جدًّا لتدريبهم على الأعمال الحربية، فكان الجنود (الشباب الجميل) يتلقون دروسًا حربية قد خصصت لها مصلحة قائمة بذاتها كان يشرف على إدراتها العليا القائد الأعظم للجيش، ونذكر هنا على سبيل المثال «كا إم ثننت» الذي كان يحمل لقب قائد جيوش البر والبحر ومدير التعليم للجيش.
وكان الجيش في ذلك الوقت مؤلفًا من فرق تتألف منها فيالق، كلها تحت إمرة القيادة العامة، وكانت كل فيالق الجيش تخضع لقائد الجيوش العام الذي كان على ما يظهر هو القائد الأعظم لكل جنود مصر.
وسنرى أن الجيش المصري منذ عهد الأسرة السادسة كان يشمل غير فيالق المجندين، عساكر مرتزقة، وكان يقود الكل قائد الجيوش العام. ومع ذلك فإن الجيش الوطني كان يؤلف وحدة تحت إمرة قائد «إمرا خبر إن نفرو» لقبه مدير رؤساء المجندين. وهو لقب لا يمكن أن يطلق إلا على قيادة الجيش النظامي المؤلف من كتائب جنود مصريين.
وكان قواد الجيوش دائمًا ينتخبون من بين الشخصيات العظيمة جدًّا، وقد لاحظنا ذلك عند الكلام على الجيش في عهد الأسرة الرابعة، إذ كانوا ينتخبون من بين أمراء البيت المالك، وفي عهد الأسرة الخامسة دلتنا الآثار على أنهم كانوا من حملة الألقاب الملكية العظيمة جدًّا، فكانوا هم كلهم يحملون لقب حامل الخاتم الملكي والمقرب من الإله العظيم، وكذلك كانوا يتحلون بأعظم الألقاب الفخرية مثل: «الذي في قلب الملك» (أي صديقه الحميم).
ومما تجدر ملاحظته هنا أن الفرعون في هذه الألقاب يسمى الإله، ولذلك لا يستبعد أن لقب «حامل الخاتم الإلهي (الملكي)، الذي شاهدنا كل الضباط العظام كانوا يحملونه، من الألقاب التي لها علاقة بالإدارة الحربية، وقد دلت البحوث الجديدة على أنه فعلًا لقب حربي.»
الأسطول
كان الأسطول الحربي مجهزًا ببحارة يطلق عليهم اسم (عبر) ولم يلقبوا باسم «عبر نفرو» كتيبة مجندة. ومن المحتمل أن نستنتج من ذلك أن البحارة ليسوا كجنود الجيش البري مجندين، بل إنهم كانوا جنودًا محترفين.
وقد كانت كل سفينة «دبت» على ما يظهر تحت إمرة ضابط. أما لقب «الضابط المدير العظيم» فيظهر أنه كان يمنح لضابط عالي الرتبة تحت إمرته كثير من الضباط، وهذا الضابط الكبير لا بد أنه كان «رئيس أسطول».
على أننا نجد كذلك لقب «مدير الأسطول ورئيس الأسطول» وهذه الألقاب كان يحملها ضباط ذوو رتب عالية جدًّا.
والظاهر أن الأسطول الحربي كان مؤلفًا من سفن عظيمة «دبت عات» ولا بد أنه كانت منها السفن التي كان يبلغ طولها نحو ٥٠ مترًا، وقد جاء ذكرها في حجر بلرم في عهد «الملك سنفرو».
وتدل النقوش على أن الجيش كان منفصلًا تمامًا عن السلطة المدنية، وقد كان القائد الأعلى إلى الأسرة الخامسة عضوًا في مجلس العشرة العظيم، مثل «رع حتب» من الأسرة الثالثة «ومر إيت» من الأسرة الرابعة، ولا نزاع في أنهما كانا ضمن أعضاء هذا المجلس من الوجهة الحربية فقط، إذ لا نجد أنهما كانا يقومان بأداء أي عمل إداري أو قضائي مثل الأعضاء الآخرين لهذا المجلس، والواقع أن وجودهما بين أعضاء مجلس العشرة العظيم كان بمثابة رابطة بين الجيش والإدارة. وفي عهد الأسرة الخامسة فصلت الإدارة المدنية عن الإدراة الحربية فصلًا تامًّا، وذلك بعد الإصلاح الذي أدخل، وبمقتضاه قسمت الإدارة والجيش إلى قسمين واضحين: لمصر العليا ومصر السفلى. ومن أجل ذلك لم نعد نرى أن قواد الجيش كانوا يجلسون ضمن أعضاء مجلس العشرة العظيم. ولكن في مقابل ذلك أصبح كل منهم يلقب مثل الوزير «مدير كل أوامر الملك». وقد ظهروا بذلك معادلين للوزير، أي أنهم كانوا هم الممثلين للفرعون على رأس الجيش كما كان الوزير الممثل للملك على رأس الحكومة، هذا إلى أن مدير الإدراة الحربية كان يجلس في المجلس التشريعي الملكي، فكان «سشمو» مدير بيت الأسلحة والأشغال والمخازن الحربية يظهر اسمه بين الموظفين الملكيين الذين يحملون لقب «رئيس الأسرار لأوامر الفرعون». ويلاحظ هنا أنه لم ينتخب من بين العشرة العظام للجنوب مثل رؤساء الأسرار، مستشارًا سريًّا لكل أوامر الملك، بل كانت مهمته قاصرة على أن يستشيره الفرعون في المسائل الحربية فحسب.
الإدراة الحربية
كان جيش مصر الثابت وجماعة ضباطه المحترفين، وقلاعه، وأسطوله يستلزم قيام إدارة هامة لتصريف الأمور، وهي بيت الأسلحة الذي عرفناه منذ الأسرة الثالثة، وقد كانت إدارته دائمًا موكلة في هذا العهد — مثل الجيش نفسه — إلى أمير ملكي أو لزوج أميرة ملكية، فكان بذلك بعيدًا كل البعد عن الإدراة المدنية، وفي عهد الأسرة الخامسة أصبح بيت الأسلحة مزدوجًا مثل الجيش: بيت للوجه القبلي وآخر للوجه البحري. وقد استمر موظفوه ينتخبون من أعلى طبقات الموظفين وغالبًا ما يكونون من قواد الجيش الذين كانوا من أعلى طبقة من أشراف البلاد. ولذلك نرى أن «سشمو» كان في وقت واحد القائد الأعلى لجيوش البر والبحر ومدير إدارة الحربية، مما يدل على أن ديوان إدارة الجيش كانت تحت سلطان القائد العام مباشرة، رغم أنها كانت تابعة مثل الإدارة المدنية لسلطة الوزير العليا.
ويشمل بيت الأسلحة عدة مصالح وبخاصة مصلحة الأشغال (انظر إدارة مصالح الحكومة وتسييرها/مصلحة الأشغال العمومية) لذلك نجد أن كل قائد أعلى للجيش كان يحمل لقب مدير أشغال الفرعون، ولا شك في أن هذه المصلحة هي التي كانت تقوم ببناء المعاقل وصنع سفن الأسطول وكان يدير الأخيرة مهندس السفن. وكان من اختصاص هذه المصلحة كذلك إدارة شئون الغلال التي كانت معدة لتموين مصلحة الأعمال الحربية ولتقوم بخزن كل ما يلزم من المؤن في القلاع، على أن اسم هذه المصلحة «بيت الأسلحة» كما ذكرنا يدل على أنها كانت تجهز الجيش بالسلاح والملابس. ومن أهم أعمال هذه المصلحة ضمان حسن سير مصلحة وكلاء الجيش، وهي التي كانت تمد الجيش بالمأكولات والمعدات اللازمة لرجاله. والواقع أن الجيش المصري لم يقم على السخرة ولا على السلب، بل كان حتى في وقت الغزوات يعتمد في عدته وعتاده وطعامه على الإدارة الحربية. وقد قص علينا «وني» أثناء الحملات التي كان يقودها في نهاية الأسرة السادسة أي في وقت تدهور الدولة المصرية وتمزيق شملها؛ أن تموين الجيش كان على أحسن ما يرام حتى إنه لم يوجد جندي قد أخذ خبزًا أو نعلًا ممن كانوا في طريقه اغتصابًا، ولم يكن من بينهم من أخذ عمدًا ملابس من أي بلدة كانت، ولا من اغتصب معزًا من أي شخص كان (انظر جزء أول ص ٣٧٨) ومن جهة أخرى نجد أنه في خلال حملة شبه حربية أرسلت إلى خليج العرب في عهد الفرعون «إمحوتب»، أحد ملوك الأسرة السادسة قد وضعت إدارة الجيش تحت تصرف الجنود والعمال نحو ٥٠ ثورًا و٢٠٠ من الماعز لمئونتهم.
وكانت إدارة الجيش هذه قد بلغت من الكمال حدًّا عظيمًا من الدقة. يدل على ذلك وثيقة غريبة في بابها وصلتنا في هذا الصدد. وهو خطاب كتبه قائد الجنود الذين كانوا في محاجر طرة بالقرب من منف، فقد وصل إلى هذا القائد أمر الوزير بإرسال كتيبة إلى منف لتأخذ أهبتها هناك، ولكن هذه الكتيبة كانت قد مضت ستة أيام في منف منذ زمن قصير، فاحتج القائد على ذلك قائلًا: إنه كان يجب تموين الجيش مدة إقامته في العاصمة، بدلًا من ضياع يوم كامل إذا أرسل إلى هناك ثانية. وذلك مما يعطل سير العمل ويؤخره. وقد تدل هذه الوثيقة من جهة أخرى على أن الكتيبة أضاعت ستة أيام لتأخذ مئونتها وعدتها بدون جدوى (؟)، على أن حسن سير العمل في مصالح الجيش كان مضمونًا لوجود كاتب لبيت الأسلحة وللمصالح الإدارية التابعة لوحدات الجيش، وذلك أنه كان لكل جيش موظفوه، وهم كتاب الجيش الملكي، وكل فرقة كان لها كتابها وهم كتاب الوحدات، وكلهم تحت إمرة مدير كتاب الوحدات الحربية.
وكان الجيش كما نعلم مؤلفًا من مجندين غير أننا لا يمكننا أن نعرف كيفية تجنيدهم إلا من متون يرجع عهدها إلى الأسرة السادسة، إذ نجد في المرسوم الثالث من عهد الفرعون «بيبي الثاني» الموجه إلى مدير الجنوب، ما يشير إلى كيفية ذلك. وفي هذا الوقت أخذت مصر تنقسم إلى مقاطعات مستقلة تقريبًا.
ويظهر لنا من نقوش «وني» عند وصفه كيفية تجمع الجيش الملكي أن حكام المقاطعات والمراكز كانوا يأتون بالعساكر المجندين من الحصون والمدن التي كانوا يحكمونها.
ويمكننا أن نستنتج أنه في عهد الأسرات السالفة كان حكام المقاطعات مكلفين بفحص المجندين وتسجيل أسمائهم. غير أننا لا يمكننا أن نقرر مع ذلك أنه كان في قبضة أيديهم قيادة هؤلاء الجنود كما كان الحال في عهد الأسرة السادسة، والواقع أننا لم نعد نجد في ختام الأسرة السادسة لقب القائد العام «إمرا مشعو»؛ إذ سيستولي على القيادة الحربية في هذا العهد حكام المقاطعات الذين أصبحوا أمراء إقطاعات، على أن هذه السلطة نفسها لم يقبلها هؤلاء إلا بسبب الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، بوصفهم حكامًا ملكيين، ومن هذه الامتيازات أن يجندوا الجنود في مقاطعتهم بمحض إرادتهم لخدمة مليكهم أو لتنفيذ مآربهم. ويجب أن نستخلص من نظام هذا الجيش الوطني المؤلف من مجندين، أن سكان القطر كانوا خاضعين إلى إدارة حربية. ولا يمكننا أن نقطع بأن هذا التجنيد ينطوي تحت لوائه كل السكان أو بعضهم. ولكن من جهة أخرى يمكننا أن نمس الحقيقة عن نوع الرجال الذين كانوا ينخرطون في سلك الجندية من اللفظ الذي يعبر به عن الرجل الذي كان ينتخب للجندية، إذ كان المصري يعبر عن المجندين بكلمة «نفرو» ومعناها «الشباب الغض أو الجميل». ومن ذلك نعلم أن الطبقة التي كانت تتميز بهذه الصفة كان رجالهم هم الذين يجندون فحسب، على أن هذا الاستنتاج لا يخرج عن حد النظريات.
جيش الجنود المرتزقة
- (١)
الأمراء حاملو خاتم ملك الشمال.
- (٢)
السمار الوحيدون، والرؤساء العظام أصحاب الحصون العظيمة.
- (٣)
حكام الحصون.
- (٤)
السمار مديرو القوافل.
- (٥)
رؤساء الكهنة.
- (٦)
قائد الجيوش المرتزقة.
ثم يقول لنا المتن: إن كلًّا من هؤلاء كان يقود جنودًا من الجنوب ومن الشمال من الحصون، ومن المدن التي يسيطرون عليها ومن «النحسي» أي الجنود المرتزقة الذين جلبوا من البلاد النائية. (انظر الجزء الأول ص٣٨٠ إلخ).
ومما سبق يتضح أن قواد الجنود المرتزقة كانوا مثل الضباط الآخرين الذين ذكرنا أسماءهم، يقودون جنودهم إلى ساحة القتال. على أن قواد الجنود المرتزقة لم يكونوا حكامًا لمقاطعات ولا مدن، ولا ضياع ملكية معفاة من الضرائب مثل رؤساء الكهنة. كما أن حكام الأقاليم والمدن لم يكن تحت إمرتهم جنود من النوبيين في جيوشهم، إذ لم نجد حاكم مقاطعة واحدًا في عهد الأسرة الخامسة يحمل لقب رئيس الجنود المرتزقة. ومن ذلك نستخلص أن مصلحة الجنود المرتزقة هي التي تدير شئون هؤلاء الموالين من النوبيين الموزعين في طول البلاد وعرضها، وقد كانوا في الحقيقة يؤلفون قوة من رجال الشرطة وحامية ثابتة قد وكل إليها المحافظة على الأمن في مناطق الحدود والمقاطعات وحراسة الجبانات والأهرام الملكية التي كانت دائمًا مهددة بناهبي القبور.
وكان الجيش مكلفًا بحراسة البعوث التي كانت ترسل إلى مناجم سيناء وحمامات، وكانت الكتائب البرية والسفن الحربية ترافق البعوث التي يرسلها الفرعون «أسيسي» إلى شبه جزيرة سيناء لإحضار حجر الدهنج. وكان يصحب هذه البعثة ضابط بحري وثلاثة صباط جنود برية.
وفي عهد الفرعون «بيبي الأول» قامت حملة إلى سيناء تصحبها كتيبة من الجنود بإمرة قائد جيش ومعه عدد من الضباط البحريين وضباط الجنود البرية، وكذلك أرسلت في عهد نفس الفرعون حملة إلى حمامات، غير أنه لم يذكر في نقوشها قائمة بأسماء ضباط الحملة، ولكن ذكر عرضًا فيها اسم ضابط سفينة، وقد ذكر في متن يرجع تاريخه إلى أواخر الأسرة السادسة أن أمراء الفنتين قد قاموا بإحدى عشرة بعثة بحرية إلى جبيل (ببلوص) وبلاد « بتت» (انظر الشئون الاجتماعية/تجارة مصر الخارجية وعلاقتها بالأقاليم المتاخمة/علاقة مصر بالبحر الأحمر وبلاد بنت في عهد الدولة القديمة).
(٥) الجيش في عهد الأسرة السادسة
بقيت القيادة الحربية وراثية في الجيش المصري حتى أواخر عهد الفرعون «بيبي الأول». وقد حاول فراعنة أول الأسرة السادسة أن يستبقوا السلطة المباشرة على الجيش في أيديهم بجعل القيادة في أيدي أشخاص من الأسرة المالكة، يدل على ذلك أن قائدين للجيش في أوئل الأسرة السادسة كانا من أقرباء الفرعون الحقيقيين.
ولم يطرأ تغيير في نظام الجيش في عهد الملك «تيتي»، بل بقي تحت إمرة القائد الأعلى الذي كان ينصب عادة من أقرباء الفرعون، وكان تحت أوامره ضباط فرق من المجندين ويهيمن على شئونهم «بيت الأسلحة» الذي كان تحت سلطان الوزير المباشر في ذلك الوقت.
وقد جاء في مرسوم دهشور في عهد «بيبي الأول» أن مدير القوافل كان تحت إمرة رئيس مديري القوافل. وتدلنا النقوش على أنه كان هناك مديرو قوافل من درجات مختلفة، ففي نقش من حكم «بيبي الأول» عثر عليه في سيناء نجد مذكورًا عليه أسماء جماعة ممن يحملون لقب مديري قوافل تحت إمرة غيرهم في نفس الحملة، غير أن أهميتهم أخذت تعظم ونفوذهم يزداد بسرعة، وسنرى أن عددًا منهم سيصير قريبًا من بين أعظم الموظفين الملكيين، ويصبح لهم الحق في تقلد اللقب الفخري «السميري الوحيد»، وكذلك ظهروا بين الذين يحملون لقب «المدير الأعلى لأوقاف القصر».
ومن ذلك نلاحظ أن القيادة العليا كانت في سبيل التغيير، فنجد أن لقب القائد العام للجيش أخذ يختفي، وكذلك أصبح تجنيد الجنود بإشراف الفرعون ضربًا من المستحيل، ويرجع ذلك إلى قيام الإمارات الإقطاعية، فأخذ الجيش الذي كان يجنده الفرعون من داخل البلاد يتضاءل تدريجًا حتى اختفى نهائيًا، ومن ذلك العهد لم يبق في يد الفرعون إلا جيشه المرتزق الذي كان يقوده مدير القوافل. وقد أصبح قواد هذا الجيش من القوة في عهد «بيبي الثاني» إلى درجة أنهم صاروا أمراء إقطاعيين في الفنتين وأصبحوا من أهم حكام الإقطاع في الجنوب ومن أعظمهم نفوذًا.
البعوث الفرعونية
- (١)
بعوث لأغراض جنازية للفرعون نفسه.
- (٢)
بعوث تجارية.
- (٣)
حملات حربية.
فالنوع الأول من البعوث كان يرسله الفرعون إلى شبه جزيرة سيناء في وادي مغارة، وكان يصحب كل بعثة حرس عظيم من الجنود، وكذلك كانت ترسل بعثات إلى محاجر حمامات و«حتنوب»، والظاهر أن كل رجالها مدنيون. والنوع الثاني بعوث بحرية إلى شاطئ البحر الأحمر وفلسطين الغرض منها التجارة. أما النوع الثالث فكانت حملات حربية محضة للغزو والفتوح في بلاد النوبة وغيرها، ويستخلص من الوثائق التي لدينا عن هذا العهد أن البعوث التي زارت وادي مغارة إلى عهد الفرعون «بيبي الأول» كان لواؤها معقودًا لقائد جيش «إمرا مشع»، أو ضابط بحارة الأسطول وتحت إمرة كل منهما عدد من ضباط الجيش: ضباط كتائب ورؤساء تراجمة أي جنود مرتزقة «إمراعا» وضباط بحريين وقواد سفن.
أما الموظفون المدنيون فكانوا يتألفون من المستخدمين ويعرفون بوظائفهم مثل مدير كذا أو رئيس كذا، وكان من بينهم موظف أو أكثر من السلك القضائي مثل «القاضي الكاتب» و«القاضي المدير»، وكذلك كان من بينهم عامل من مصلحة الأشغال الملكية مثل كاتب النحاس، ومدير أشغال الحجر.
وتدل الوثائق التي في متناولنا منذ عهد الملك «مر نرع» أن العنصر المدني والعنصر الديني كان لهما أهمية تتزايد؛ حتى إن البعوث التي كانت ترسل إلى سيناء كان يدير شئونها أحد عظماء رجال الملك مثل حامل الخاتم الإلهي (الملك) يساعده موظفون مدنيون وبرفقتهم كتيبة من الجنود، يشرف عليهم ضباط فرق وضباط بحريون ومديرو جنود مرتزقة.
الجيش والبلاد الأجنبية
لم يكن في مقدور حكومة كل من الملكين «تيتي» و«بيبي الأول» أن تقف التيار الذي كان يدفع البلاد المصرية نحو الانحلال والانقسام، وإن كانت قد ضمنت إلى حد ما، ما يظهر هيبتها الحربية واستمرار سيادتها على أقوام بدو الشرق حتى فلسطين، وكذلك على سكان بلاد النوبة الخاضعين لمصر.
والواقع أنه كان في قبضة الحكومة في ذلك العهد جيش حسن الإدارة، فكان «بيت الأسلحة» تحت سلطان الوزير، أما بناء السفن الحربية في «عهد» «بيبي الأول»، فكان موكلًا إلى حاكم مقاطعة «ون» القوي «تيتي عنخ».
وكان للملك جنود تحت إمرة ضباط فنيين يقومون بالحملات خارج حدود البلاد. وقد بقي لقب «القائد العام للجيوش» يستعمل في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة إلى عهد حكم «بيبي الأول». إذ أرسلت في حكمه بعثة إلى محاجر «حتنوب» على رأسها «إبدو» ويحمل لقب قائد الجيش، وأمير الأسطول، وهو ابن قائد الجيش «مرى رع عنخ»، ومن هذا نرى أن قائد البعثة كان سلطانه ينتظم جنود البر والبحر الذين كانوا يرافقونها.
وقد حافظ الجيش على وحدته الحربية حتى عهد «بيبي الثاني» إذ نجد في نقوش سيناء ما يثبت لنا وجود لقب رئيس المجندين، ولقب رئيس فرق المجندين. وقد ظلا يستعملان حتى نهاية حكم هذا الملك، غير أنه رغم ذلك كان تأليف الجيش قد تغير تغيرًا عظيمًا في عهد «بيبي الأول»، ويمكننا أن نفهم هذا من نقوش «وني».
وكان «وني» هذا يحمل لقب مدير أوقاف القصر أي أنه كان كبير رجال البلاط، وقد نصبه «بيبي الأول» على رأس جيشه ليقوم بغزوة ضد البدو.
- (١)
الأمراء.
- (٢)
وحاملي أختام ملك الوجه البحري.
- (٣)
والسمار الوحيدين، ورؤساء الحصون العظيمة.
- (٤)
والرؤساء حكام الحصون.
- (٥)
والسمار مديري القوافل.
- (٦)
ورؤساء الكهنة.
- (٧)
مديري الجنود المرتزقة «إمرا جس بر».
والمتن يوضح ذلك إذ يقول: «وكان كل واحد منهم على رأس كتبية من جنود الجنوب وجنود الشمال، والحصون والأوقاف (ويقصد بهذا الضياع العظيمة التي كانت معفاة من الضرائب وتابعة للمعبد)، الذين يقودونهم، هذا إلى الجنود الموالين (نحسى) الذين جندوا من هاتيك البلاد النائية (أي بلاد النوبة).» وأول ملاحظة تلفت النظر في هذا النص هي أن الجيش لم يعد تحت إمرة «قائد جيش عام» بل كان يقوده كبير رجال البلاط «وني».
أما الجيش نفسه فيتألف من الجنود الذين أحضرهم رؤساء المقاطعات حسب ترتيبهم في المكانة وعلو المرتبة.
وكانت المقاطعات محكومة بأمراء أو بحكام حصون، والفرق بين حكام حصون المقاطعات، وحكام الحصون الذين كانوا ينصبون على أجزاء المقاطعات، هو أن الحكام في الحالة الأولى يحملون لقب حامل خاتم ملك الوجه البحري، أما في الثانية فإنهم لا يحملون هذا اللقب. ولذلك نجد أن «وني» كان يقصد بلفظة «إمرا» أي أمراء المقاطعات، وحاملو خاتم ملك الوجه البحري، أي حكام المقاطعات الذين لم ينالوا بعد رتبة أمير، فهم بذلك حكام حصون وحاملو أختام ملك الوجه البحري فحسب.
وتدل الوثائق على أن السمار الوحيدين للحصون الكبيرة كانوا حكام مقاطعات الدلتا. أما نواب الحصون فكانوا هم الذين يحكمون مراكز المقاطعات. وعلى ذلك فإن كل حكام المقاطعات ونواب الحصون الذين كانوا تحت سلطانهم، كانوا يظهرون في الجيش على رأس الفرق التي جندت من رجال أقاليمهم. وقد كان بجانب الجنود التي جمعت من المقاطعات آخرون جندهم رؤساء الكهنة أي كبار كهنة المعابد. وذلك أن المعابد كان لها ضياع عظيمة قد أعفيت من الضرائب منذ نهاية الأسرة الخامسة، وقد كان من نتائج ذلك أن الإدارة العامة للحكومة وحكام المقاطعات، لم يكن لهم الحق في أن يتدخلوا في شئون هذه الضياع الخاصة. ولذلك كان الكاهن الأعظم يتمتع بالسلطة التي خولتها له الحكومة دون أي تدخل من جانبها، وقد كان الكاهن الأعظم منذ ذلك العهد هو الذي يجند الفرق الحربية من ممتلكاته ويقودها بنفسه للاشتراك مع عامة الجيش.
وأخيرًا نجد بجانب هذا الجيش المصري، أن مديري البعوث التي كانت توجه إلى بلاد الجنوب، يحضرون على رأس جنودهم المتحالفة، المؤلفة من أهالي «إيام» و«إرثت» و«واوات» وكلها أقاليم واسعة في جنوبي الفنتين، وكذلك كان قواد الجنود المرتزقة يظهرون على رأس جنودهم.
وإذا اتخذنا نص «وني» أساسًا لحالة الجيش في عهد الأسرة السادسة فإنا نشاهد أن شكل نظام الجيش قد تغير تغيرًا تامًّا عما كان عليه منذ عهد الأسرة الخامسة، إذ لم يعد مكونًا من وحدات حربية بإمرة ضباط فنيين ليس لهم أي سلطان مدني، بل أصبح الآن جيشًا إقطاعيًّا محضًا. ولذلك لم تعد الوحدة الحربية هي الفرقة «عبر» بل أصبح الجيش مقسمًا إلى فصائل «تس» مجموعة حسب تعداد الإقليم الذي جندت فيه على رأسها أمير المقاطعة، ونائب الحصن أو الكاهن الكبير الذي يحكم هذا الإقليم من الوجهة الدينية. أما جيش المرتزقة فقد بقي تحت قيادة رؤساء مختصين وهم قواد الجنود المرتزقة «إمرا جس بر» الذين نعرفهم منذ الأسرة الخامسة، وقواد القوافل الذين لم يظهروا إلا في عهد الأسرة السادسة. على أن الجيش وإن كان قد أخذ صبغة إقطاعية محضة فإنه مع ذلك كان تحت إمرة الملك مباشرة، وكان هو الذي يعين رئيسه الذي كان أعظم أشراف البلاط مكانة. وتدل نقوش «وني» أن نظام مجلس تموين الحملة كان كما يظهر موكلًا إلى «وني» نفسه، إذ نجده يفاخر بأنه لم يقم بوضع خطط الحملة وقيادة الجيش فحسب، بل كان يسهر على حاجته وعلى نظام الجنود حتى لا يسرق واحد منهم دقيقًا، أو نعلًا من سائح أو يغتصب ملابس من أية بلدة كانت. على أن الحملة التي نظمها «بيبي الأول»، وقادها «وني»، تشعر بأن الملك كان لا يزال في يده وسائل قوية، لأن هذا الجيش قد نقل بحرًا من مصر إلى سواحل فلسطين مما يتطلب نفقات وتدابير خاصة.
ولم نجد في النقوش أي أثر في عهد «بيبي الثاني»، لجيش إقطاعي جمعه الفرعون ووضعه تحت إمرة قائد معين من قبله، بل وجدنا أن رؤساء الحملات الحربية في عهد هذا الفرعون وهم مديرو القوافل أي رؤساء جماعات من النحسي (النوبيين)، قد جندوا من بين الأقوام النوبيين الخاضعين لحكم مصر وبخاصة بين أهل «إيام» ويحيط بهم جنود مصريون. وهؤلاء القواد (إمراعا) معروفون منذ حكم «بيبي الأول»، ولقد ظهر لقب مدير القوافل في المتون المصرية لأول مرة في نقوش «وني» وسيناء التي تروي قصة بعثة أرسلت في السنة ١٨ من عهد الملك «بيبي الأول»، وقد لاحظنا أن موظفيها كانوا تحت إمرة قائد «إمرا مشع»، ويلوح أنهم كانوا في المرتبة التي بعد ضابط البحرية للأسطول، غير أنهم كانوا أعلى مقامًا من كل الضباط الآخرين الذين يرافقون الحملة. ونجد في الجيش الذي وصف لنا «وني» تأليفه فيما سبق أنهم ذكروا مباشرة بعد الأمراء ونواب المقاطعات وقبل الكهنة العظام ومديري الجيوش المرتزقة، يضاف إلى ذلك أنهم كانوا يحملون اللقب الفخري «السمير».
وعثر على نقش ساذج الصنع في «توماس» من أعمال النوبة السفلية، الواقعة عند تفرع طريق القوافل الذي يؤدي من جهة الشاطئ الأيسر للنيل إلى الواحات الكبيرة، جاء فيها ذكر ثلاثة بعوث إلى بلاد «إرثت» والأقاليم الأخرى الجنوبية، وكان يقود كلًّا منها «مدير قوافل». وكان كل من المديرين في البعثتين الأوليين يحمل لقب «الرئيس الأعلى لأملاك أوقاف القصر»، وفي الحملة الثالثة كان رئيسها يحمل لقب «مدير أملاك أوقاف القصر» زيادة على لقبه الأصلي، وكان مساعده يحمل لقب «مساعد مدير القوافل». ومن ذلك يتضح أن أمراء القوافل الذين ذكرت أسماؤهم على نقوش «توماس» كانوا من الشخصيات العظيمة الذين يحملون أعلى درجات الشرف في البلاط الملكي.
وفي عهد الملك «مرن رع» نجد أن مدير قوافل كان مرءوسًا في حملة أرسلت إلى وادي مغارة. ومن ذلك يتضح أن لقب مدير القوافل يدل على وظيفة ضباط مختلفي الرتب. وقد عرفنا من مرسوم دهشور أنه كان يوجد لقب «مدير أعلى للقوافل» كان يمتد سلطانه على أقطار «مجا» و«إيام» و«إرثت»، ومن المحتمل جدًّا أنه كان تحت سلطانه عدد من مديري القوافل، وكذلك عرفنا من منطوق هذا المرسوم أن مدير القوافل كان يقود جنودًا من المرتزقة قد جندوا من بلاد النوبة وعرفوا باسم «نحسي» (ربما كانت كلمة النخاسة مشتقة من هذا الاسم) وكان الملك يمونهم من ضياعه الخاصة حيث كانوا يقطنون، وكان لهم الحق في أن يستولوا على جزء من المحصول.
وكان مديرو القوافل يحملون ألقابًا فخرية وألقاب شرف وذلك طبقًا للسلطة التي كانت في أيديهم. وقد ذكرنا فيما سلف أن بعض مديري القوافل لا يحملون ألقابًا فخرية، ولكن في نقوش «وني» نجد أنهم كانوا يحملون لقب «السمير» كما نجد آخرين يحملون لقب الشرف «خنت شي» قضية «سبك حتب» (انظر السلطة القضائية/الإجراءات القضائية/قضية «سبك حتب») نجد أن هذا الرجل العظيم وابنه «تاو» كان كل منهما يحمل لقب «مدير قوافل» مع لقب قريب الملك وراثيًّا في وقت واحد.
وقد كان مديرو القوافل مكلفين على وجه خاص بالقيام ببعوث إلى بلاد النوبة. منذ عهد الفرعون «مرن رع» نجد أمراء قوافل قد استوطنوا الفنتين بصفتهم حراس الحدود الجنوبية. ويظهر أن أقدم مدير قوافل في هذه الجهة هو «إري» من عهد الملك «مرن رع» ويحمل لقب السمير الوحيد، ومدير القوافل، والواقع أنه كان شخصية ممتازة، عظيم الاحترام لدى الفرعون إذ كان يقوم بوظيفة مرتل في الصلاة الملكية. ومن ذلك يتضح أنه لم يكن من أشراف الأقاليم بل كان موظفًا ملكيًّا، وقد خلفه ابنه «حرخوف»، وكان معاصرًا للملكين «مرن رع» ثم «بيبي الثاني». وكان يلقب كذلك مدير القوافل، ولكن نجم سعده قد علا بسرعة إذ قلده الملك أعظم الألقاب التي تدل على حظوته لديه: «المحبوب من سيده»، «الذي في قلب سيده»، ثم رقي إلى رتبة أمير، ونائب الملك في «نخن»، هذا إلى أنه كلف بعمل مرتل الفرعون وهي الوظيفة التي كان يشغلها والده.
وقد وكل الفرعون إلى «حرخوف» أمر حماية الحدود الجنوبية في مصر العليا، ولما كان هو حاكم الأقطار التابعة للملك فإنه استوطن في وسط جنوده بالقرب من الفنتين حيث وجد قبره (انظر جزء أول ص ٣٨٨ إلخ) وأشهر مديري القوافل بعد «حرخوف» في الفنتين هو «بيبي نخت». والظاهر أنه ابن أحد الشخصيات العظيمة من الأجانب «حكا إيب» الذي وصل إلى قمة المجد، ويلوح أنه رقي على ما يظهر بعد والده «بن إدب خو» أمير الفنتين.
وقد دفن «حكا إيب» في أسوان ولكن ملامحه لا تدل على أنه كان مصريًّا، فقد مثل على جدران مقبرته مجعد الشعر أسمر الجلد وفي منطقته خنجر. وكان بصفته مدير القوافل يقود الجنود المرتزقة من النوبيين المسلحين بالقوس والنشاب ويتقدمهم اللاعبون على القيثارة. ولا شك في أنه كان من نسل أحد المرتزقة النوبيين، ولا يبعد أنه كان رئيس قبيلة دخل في خدمة الجيش المصري ثم أظهر براعة ورقي إلى أعلى درجة في قيادة الجنود المرتزقة حتى حصل في النهاية من الفرعون على مقاطعة الفنتين ولاية وراثية، وقد بقيت الفنتين منذ ذلك العهد إقطاعية لمدير القوافل حتى أتى «مخو» ثم ابنه «سبني» وتركا ظاهريًّا لقب رئيس الجنود المرتزقة، ولم يحافظا إلا على لقب إمارة الفنتين التي وضعتهما في صف أقوى أمراء الإقطاعات المصرية. وتاريخ رؤساء هؤلاء الجنود له أهمية خاصة؛ إذ نجد أن قداماهم كانوا رؤساء جنود مرتزقة. ولم يكونوا أمراء مقاطعات بل كانوا موظفين ملكيين. وكانوا يقومون بحملات في بلاد النوبة في جهة أقاليم «إيام» و«إرثت» و«مخو» و«تررس» و«سيثو» و«واوات» وكلها في جنوب الفنتين، ويعودون بثروة طائلة، وقد كانوا يبسطون حمايتهم على رؤساء تلك الأقاليم التي كانت تعد بمثابة مستعمرة مصرية. وكانت جيوشهم مؤلفة من مجندين من أهالي هذه الأقاليم وبخاصة من أهالي إقليم «إيام» ومعهم بعض الجنود المصريين. وهذه الحملات الاستعمارية كانت تقوم بغزوات تأديبية ضد السكان والرؤساء العصاة.
وكان لأمراء القوافل أهمية خاصة عند الفرعون. وذلك أنه في اللحظة التي كانت مصر تتمزق فيها إلى ولايات مستقلة، وكانت السلطة الملكية تنكمش بسرعة، وكانت فيها موارد التاج تنقص يومًا بعد يوم، كان الملك يحفظ مباشرة تحت حمايته الأقاليم الجنوبية، فكان يجبي منها جزية هامة ويجند منها جيش الجنود المرتزقة الذي كان يتألف منه في عهد «بيبي الثاني» آخر نواة للجيش الملكي (على الأقل في الوجه القبلي). وتذكر لنا إحدى النقوش التي على صخور الشلال الأول أن الملك «مرن رع» ذهب بنفسه هناك ليتقبل خضوع رؤساء «مجا» و«إرثت» و«واوات».
ورؤساء المرتزقة كانوا أكبر سند لسلطان الفرعون، إذ كانوا ينصبون أمراء نائبين عن الفرعون في «نخن» ثم بعد ذلك لقبوا أنفسهم أمراء، وبذلك أصبحوا أمراء مقاطعات وأسيادًا لمقاطعة الفنتين، وهي الحصن الجنوبي الذي يحمي مصر ضد غارات الأقوام النوبيين، ويضمن حماية الطرق التي تؤدي إلى الأقاليم التابعة لمصر. وتدل النقوش على أن رؤساء الجنود المرتزقة هؤلاء كانوا من أعظم حكام المقاطعات في الوجه القبلي في خلال النصف الأول من حكم «بيبي الثاني».
ولا نزاع في أن أمراء مقاطعة الفنتين قد وصلوا إلى مرتبتهم هذه عن طريق وظائفهم رؤساء قوافل «إمراعا». ولم تفتأ النقوش التي دونت تاريخ حياتهم تذكرنا بالحملات التي قاموا بها للملك في بلاد النوبة وفي جهات بلاد «بنت»، وكذلك تحدثنا عن شدة البأس والقوة والشجاعة التي بها أخمدوا ثورات أهالي «إيام» و«إرثت» و«وواوات» و«مجا». ولقد كانوا دائمًا في نضال، وكثيرًا ما كانوا يقومون بعصيان، وكان «حرخوف» يتدخل في حروبهم للمحافظة على سلطان الفرعون، فكان يساعد فريقًا ليقضي على فريق آخر. وقد أخضع «بيبي نخت» عدة رؤساء قبائل وساقهم معه أسرى تحت أقدام الملك في منف. هذا إلى أن هذه الحملات كانت منبع ثروة عظيمة إذ أحضر حرخوف من حملة ثلاثمائة حمار محملة بالبخور والأبنوس والعاج وكل المنتجات الطبية … كالثيران والحيوانات الصغيرة. وكان كل من «حرخوف» و«بيبي نخت» يفتخر بأنه حمل إلى الملك جزية أقاليم الجنوب، على أن المركز الذي كان يشغله أمراء الفنتين عند الحدود الجنوبية لمصر باعتبارهم رؤساء طوائف المرتزقة جعلهم الأسياد الحقيقيين للأقاليم الجنوبية. وكان كل منهما فوق ذلك يلقب «برئيس أسرار كل حدود الجنوب» على حين أن «بيبي نخت» و«سبني» كان كل منهما فضلًا عن ذلك يحمل لقب مدير الأقطار الأجنبية.
والحقيقة أن إدارة الجيش الملكي والأقطار الأجنبية الجنوبية أصبحت في أيدي رؤساء المرتزقة الأقدمين الذين أصبحوا أمراء المقاطعة (الفنتين) وقد بقوا رغم ذلك الحلفاء المخلصين للملك، ولكن عندما تحولت ولايتهم إلى مقاطعة وراثية تقلص سلطان الفرعون عليهم، وبذلك انتزعوا من يد التاج البقية الباقية له من السلطان الفعلي، إذ تلاشى نفوذه على جيش المرتزقة مما قضى على الدخل الذي كان يجبيه الفرعون من ممتلكاته الأجنبية بقوة هذا الجيش.
(٦) الجيش في العهد الأهناسي
كانت حروب مصر في عهد الدولة القديمة ضد اللوبيين في الشمال الغربي من حدودها، والنوبيين في الجنوب وبدو سيناء في الشرق؛ تختلف اختلافًا بينًا عن حروب الشعوب المجاورة لها كأمم غرب آسيا، إذ كانت الأخيرة تشن الغارات للحصول على القوت أو لاستغلال الأراضي. أما حروب الفراعنة فكانت في هذه الفترة لصد غارات القبائل المجاورة وتأديبهم، أو للحصول على غنائم. ولا شك في أن مصر كانت القاهرة المنتصرة في هذه الحروب، بسبب تقدمها في الحضارة، وما لديها من الأسلحة وحسن نظام فنونها الحربية، التي كانت تفوق بكثير جيرانها الذين كانوا لا يزالون على الفطرة في كل مرافق الحياة. وكان يفوق مصر رغم تنظيم جيوشها وما لديها من عدد القتال، شعوب غربي آسيا، وقد بقيت تمتاز عنها في هذه الناحية، حتى بداية عهد الدولة الحديثة كما سنفصله فيما بعد.
في أواخر عهد الأسرة السادسة انهار آخر سلاح للملك في صعيد البلاد، وذلك بانحلال جيشه في المرتزقة، وتفكك سلطانه بقيام الإمارات المستقلة. الظاهر أن الفرعون كان لا يزال محتفظًا ببعض السلطان في بلاد الدلتا. ولكن على وجه عام ساءت الأحوال في جميع البلاد، وانتهز الآسيويون هذه الفرصة، وعزوا البلاد وخربوا الدلتا تخريبًا ذريعًا، واستوطنوا البلاد كما تدل النقوش على ذلك. وقد سادت الفوضى في مصر خلال الأسرتين السابعة والثامنة، حتى إننا لم نقف على حوادث ثابتة في هذه الفترة يمكن الاعتماد عليها من الوجهة التاريخية، ولكن سلطان حكام المقاطعات والبلاد العظيمة كان لا يزال قائمًا.
وقد دلتنا النقوش على أن اليقظة كانت شديدة والحراسة ساهرة في هذه المعاقل، إذ يقول لنا «سنوهي» عندما فر من معسكر الجيش موليًا الأدبار: «ثم أسلمت الطريق إلى قدمي متجهًا نحو الشمال ووصلت إلى «جدار الأمير» الذي أقيم لصد الآسيويين. وقد خبأت نفسي في شجيرات خوفًا من أن يراني حارس النهار فوق الجدار، وعند الغروب مررت، ولما طلع فجر النهار كنت قد وصلت إلى «بتن» ووقفت عند جزيرة «قمور» (اسم للبحيرات التي عند برزخ السويس).»
وكذلك عند عودة «سنوهي» إلى مصر وجد نفس اليقظة إذ قال: «ثم سرت نحو الجنوب ووقفت عند ممرات «حور» (على حدود مصر، على الفرع البلوزي للنيل، ومنها كانت الجيوش المصرية تتحرك للغزو). وأرسل القائد الذي كان مكلفًا بالحراسة هناك رسالة إلى مقر الملك تحمل الأخبار، فأرسل جلالته أحد ملاحظي الفلاحين ممن يثق بهم، ومعه سفن محملة بالهدايا من الفيض الملكي للبدو الذين تبعوني وأرشدوني إلى ممرات «حور»، وقد ناديت كلًّا منهم باسمه (لكي يقدمهم إلى الموظفين المصريين).» ولدينا كذلك لوحة معروفة في مقابر أمراء بني حسن تمثل جماعة الساميين الرحل وقد أتوا إلى مصر بهدايا هي التي خولت لهم اجتياز الحدود، وهذه اللوحة تضع أمامنا صورة واضحة لدقة الحراسة، وحسن النظام؛ فنشاهد فيها أن الذي يتقدم الجماعة هو الموظف الذي نراه دائمًا في كل مناسبة، وهو كاتب ملفات الفرعون. وهنا يقدم بيانًا عن سبعة وثلاثين آسيويًّا، ثم نرى بعد ذلك رئيس الحامية، وهو الموظف المسئول ويحمل لقب رئيس الصيادين.
ومما يدل على مقدار الهمة والنشاط واليقظة التي بذلها ملوك الأسرة الثانية عشرة، ووسائلهم الناجعة في تحصين مصر، ما قاموا به من تحصين حدودهم الجديدة في الجنوب، إلى ما بعد الشلال الثاني بإقامة القلاع في كل بلاد النوبة، إلى جزر «بجه» والفنتين حتى تمكن مراقبة جميع الوديان والسبل الموصلة إلى وادي النيل. وقد بقي هذا النظام قائمًا حتى عهد الدولة الحديثة، أما داخلية البلاد فكان التحصين فيها قد أوقف منذ القضاء على عهد استقلال المقاطعات في عهد الأسرة الثانية عشرة. والواقع أن عواصم كل المقاطعات كانت محصنة بقلاع، وذلك لصد غارات جاراتها إذا اعتدت إحداها عليها. ولقد كان هذا النظام بعينه متبعًا في غربي آسيا حيث كانت كل عواصم المدن الكبيرة محصنة تحصينًا قويًّا، على أنه كان لمقر الملك وللمعابد جدران تحيط بها، ولكنها كانت تقام لأسباب أخرى اقتصادية وقانونية، إذ كانت تعد في هذا الوقت معفاة من الضرائب.
الخدمة العسكرية
وتدل كل الأحوال أن النظام كان سائدًا، في فصائل الجنود الحربية، منذ عهد الدولة القديمة. هذا إذا اتخذنا ما وجدناه على آثار هذه الفترة مقياسًا؛ إذ عثرنا في الرسوم التي على جدران الطريق الجنازي لهرم الفرعون «وناس» أن كل فصيلة من الجنود كانت تحت إمرة ضابط معين، فكان من بينهم ضابط الخمسة، وضابط العشرة، وقد ظن بعض المؤرخين أن هذا النظام لم يظهر إلا في عهد الدولة الحديثة، على أن نماذج الجنود التي عثر عليها في مقابر جبانة أسيوط تشعر بأن مثل هذا النظام كان متبعًا في تلك الفترة أيضًا. ولا غرابة في ذلك فإن الروح الحربية في هذا العهد الذي بلغ فيه نظام الإقطاع أوجه كانت شديدة نامية، ويرجع السبب الحقيقي في ذلك إلى الحروب التي كانت متفشية بين حكام المقاطعات أنفسهم، أو بينهم وبين الفرعون، وذلك للاستيلاء على أراض زراعية، من الأراضي التي يرويها ماء النيل. ولا غرابة إذا كنا في خلال الأسرتين التاسعة والعاشرة نجد نقوشًا هامة في مقابر أسيوط، عن أخبار الحروب الطويلة التي نشبت في هذه المدة، ولعب فيها أمراء أسيوط دورًا هامًا بجانب الفرعون، وكذلك نجد رسومًا تدلنا على مبلغ تنظيم الجيش وفرقه وتسليحه، هذا إلى أننا نجد في مقابر الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة في بني حسن والبرشا وغيرهما مناظر تدلنا على اعتناء القوم بتمرين الشباب على الألعاب الرياضية، وكذلك على مناظر تمثل مواقع حربية، وحصار الحصون والقلاع، وغير ذلك مما يدل على انتشار الروح الحربية، ولا شك في أن كل هذا كان موروثًا عن الدولة القديمة، فقد وجدنا مناظر تشبه ذلك في هذا العهد، وبخاصة التمرين على الألعاب الرياضية (مقبرة «تي»). وقد جادت الصدف بأن عثر في عام ١٨٩٥ على بعض نماذج من الجنود مصنوعة من الخشب في إحدى مقابر علية القوم في جبانة أسيوط.
وهذه المجموعة من النماذج تنقسم إلى قسمين، فالتي على اليمين تمثل مشاة الصف، وحاملي الحراب. التي على اليسار تمثل المشاة الخفاف والرماة. ويلاحظ أن هؤلاء الجنود قد مثلوا سائرين صفًّا صفًّا، كل صف مؤلف من أربعة جنود عرضًا وعشرة جنود طولًا. ويشاهد أن حاملي الحراب برغم أنهم لم يجهزوا بعدة واحدة مشتركة لكل الجنود كان ارتفاع قامة كل جندي منهم فوق المتوسط. أما لونهم الأحمر فينم عن أصلهم المصري الصميم، ويضعون على رءوسهم شعرًا مستعارًا قصيرًا يقوم مقام القبعة، وكان في الحقيقية يحمي الرأس من ضربات العدو، كما كانوا يلبسون على أجسامهم قميصًا قصيرًا مقام القبعة، وكان في الحقيقية يحمي الرأس من ضربات العدو، كما كانوا يلبسون على أجسامهم قميصًا قصيرًا من النسيج الأبيض مشدودًا على وسط الجندي بشريط رفيع مكشوف بعض الشيء من الإمام ومسدول على منتصف الجسم حتى منتصف الفخذ فيه كيس مدلى ليستر عضو التناسل.
أما الرماة فكانوا خليطًا من المصريين واللوبيين الذين جندوا من بين القوم الذين يعيشون على حافة الصحراء، وهم في الغالب أقصر قامة من حاملي الحراب، ويلاحظ أن بعضهم كان غاية في القصر، وكان بعضهم يرتدي على رأسه القبعة التي يلبسها حاملو الحراب، وبعضهم يلبس شعرًا مستعارًا مختلفًا وبخاصة أصحاب الشعر المجعد الذي مثل مصفوفًا فوق بعضه. أما ملابسهم فكانت لا تتعدى شريطًا أبيض من النسيج مثبتًا على وسط الجندي بحزام من الجلد يتدلى منه شريط آخر مزين بألوان، ويستر عضو التناسل. وهؤلاء القوم كان لون بشرتهم يميل إلى السمرة المائلة إلى السواد، وهذا يرجع إلى فعل تأثير الشمس.
ويتسلح الجنود المشاة بحربة وخنجر ودرع، ويبلغ طول الحربة قامة الرجل المتوسط الطول أي نحو 170 سنتيمترًا، وتنتهي كل حربة بسلاح مدبب على شكل ورقة الصفصاف، وكان الجندي يحمل الحربة مرفوعة إلى نصفها وقت المسير، ويكون جسم الجندي مع ذراعه الذي يقبض على الحربة زاوية قائمة. أما الدرقة فشكلها مستطيل من أسفل، ومقوس من أعلى، ومادتها خشب خفيف كُسِيَ سطحه الظاهر بجلد ثور حيك بسير من الجلد، وكانت تلون رقعة الدرقة باللون الأبيض ثم تزين برسوم مختلفة، ولا يوجد للدرقة إلا مقبض واحد من الخشب مثبت في وسطها الداخلي حتى ثلثي ارتفاعها. وكان الجندي يحملها بذراعه المنعطف نحو الجهة اليسرى وقت المسير، أما في ساعة الحرب فكان يستعمل حربته ودرقته كأهالي قبائل أفريقيا الذين لا يزالون يستعملون نفس هذا السلاح. فكانت الدرقة توضع أمام الجندي كأنها جدار متحرك، وكانت تخفي الجزء الأعلى من فخذيه، والجزء الأسفل من البطن والصدر والكتفين، أما الجزء المقوس منها فكان يمكن الجندي من أن يرى منه خصمه، ويتتبع حركاته بكل دقة، مع أنه كان يغطي وجهه في الوقت نفسه. أما الحربة فكانت ترفع إلى محاذاة ارتفاع الرأس، مع انحناء طرفها قليلًا نحو الأرض. وكان لا يستعملها الجندي كما تستعمل الآن، بل كان يجعلها تنزلق بين أصابع يده عند الطعن بها لتنطلق كما ينطلق المزراق، ثم لا يلبث أن يقبض بيده عليها قبل أن تصل إلى نهاية مقبضها وذلك ليدك الضربة ويجعلها تغوص في جسم العدو.
أما الرماة فلم يكن لديهم من آلات الحرب إلا القوس وبضعة سهام لا تتجاوز الأربعة. وقد ذكرت لنا قوائم القرابين المأتمية في الدولة الوسطى أنواعًا عدة من الأقواس بأجهزتها، وهذه القائمة تحدد لنا بصفة قاطعة معنى العلامة الهيروغليفية التي أراد بعض الأثريين أن يروا فيها المقلاع. والواقع أنها حبل قوس؛ أي كان مصنوعًا من خيوط من الجلد المجدول، أو من ليف أو كتان أو قنب، أو الشعر المجدول. أما حزمة السهام التي تجدها في غير هذا المكان فموضوعة في جلد ثعبان أو جلد أو قطعة من النسيج أو الكتان، أما الكنانة فيقال إنها لم تسعمل إلا في عهد الهكسوس، وذلك لأنها من أصل آسيوي، كما يدل على ذلك اسمها. أما السهام فأطرافها مصنوعة من الظران وهي حادة في الغالب، وكذلك كانت تصنع من النحاس، وهذا يبرهن على أن النحاس والظران كانا يستعملان معًا رغم وفرة الأول ومتانته.
ولا نزاع في أن السبب في وجود مثل هذه الجيوش المنظمة في المقاطعات هو قيام الاضرابات التي استمرت عشرات السنين في داخل البلاد، بين الأمراء أنفسهم وبينهم وبين الفرعون، كما أوضحنا ذلك في حينه عند الحروب التي كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها في تلك الفترة، ولذلك كان يرى كل أمير مقاطعة عظيمة أنه لا يمكنه الاحتفاظ بكيانه إلا بتأليف جيش يعتمد عليه من أتباع مخلصين من المصريين وغيرهم من النوبيين واللوبيين، والساميين الذين كانوا يتخذون هذه المهنة حرفة لهم، حتى إن أحد حكام المقاطعات كان يفخر بأن جنوده على أحسن ما يكون من شدة العناية بالأهلين، والأمن في إقليمه. إذ يقول: «وجاء الليل وكان كل سابل في أثناء الليل يشكرني، لأنه كان آمنًا كمن كان في منزله لأن رهبة جنودي قد حمته.»
على أن هذا الخليط من المجندين لم تجمعهم جامعة الوطنية بل جمعتهم رابطة المنفعة المحضة، فإذا تراخى أمير المقاطعة في إطعامهم أو ملاحظتهم عاثوا في الأرض فسادًا، والنصوص القليلة التي ورثناها للآن عن هذا العصر تمدنا رغم قلتها بمعلومات لا بأس بها عن حالة هذه الجيوش في هذا الوقت المضطرب، وترينا أنها كانت أحيانًا كابوسًا جاثمًا على الأهلين، وذلك إذا ما غفل عن راحتها ولي أمرها.
ومن أجل ذلك نجد أن ابن حاكم مقاطعة هرموبوليس (الأشمونين في هذه الفترة) كان يفاخر بأنه حمى الإقليم من ظلم الجنود (محاجر حتنوب). وقد كان طبيعيًّا أن تكون هذه الجيوش الإقطاعية سندًا للملك الحاكم عند قيام أي حرب، ولكنها في الوقت نفسه كانت دافعًا لحاكم المقاطعة لإعلان العصيان على سيده عندما تسنح له الفرصة اعتمادًا على ما لديه من قوة وسلطان.
أما أصحاب اليسار منهم فكانوا يؤجرون نصيبهم من الأطيان بأجر معتدل مما كان يزيد في دخلهم الذي ورثوه عن آبائهم، وفي ذلك يقول «ديدور الصقلي»: «كان الفلاحون يقضون حياتهم في زراعة الأراضي التي استأجروها بأجور معتدلة من الملك أو من الكهنة «أو من الجنود المحاربين» ولما كان يخشى نسيان هؤلاء الجنود الشروط التي تملكوا بها هذه الأراضي، أو أن يعتبروا أنفسهم ملاكًا حقيقيين كانت لا تترك نفس قطع الأرض في أيديهم مدة طويلة إلا ما ندر. وقد أكد هردوت أن أنصبتهم كانت تؤخذ منهم كل سنة، ويعطون غيرها في مثل مساحتها، وإنه لمن الأمور الصعبة جدًّا أن نعتقد دوام استعمال قانون تغيير الأراضي هذا، غير أن هذا لم يمنع طبقة الجنود أن يكونوا من أنفسهم فئة أرستقراطية فيما بعد. ولم يكن في مقدور الملوك وأمراء المقاطعات التغاضي عنها، وكانت تدون أسماؤهم في سجلات خاصة، مع بيان ممتلكات كل واحد منهم في وقته، وكان هناك كاتب حربي خاص بهذا السجل في كل مقاطعة ملكية أو ولاية إقطاعية، وكانت وظيفته توزيع الأراضي وتسجيل الامتيازات، يضاف إلى ذلك أنه كان في زمن الحرب يقود الجنود الذين كانوا يجندون من الإقليم الخاص بسجله، وفي هذه الحالة كان له مساعد يقوم نائبًا عنه في الحرب إذا قضت الضرورة بذلك.
ولم تكن الخدمة العسكرية وراثية، ومهما ظهرت فوائدها ضئيلة في نظرنا فإنها كانت في أعين الفلاحين عظيمة، في حين أن معظم الذين أدوها كانوا يخرطون أولادهم في سلكها. وقد كان يؤخذ المجند وهو صغير السن إلى الثكنات حيث كان يتعلم كيفية الرماية بالقوس والنشاب، واستعمال بلطة الحرب، والدبوس، والحربة والدرقة، وكذلك كانوا يتمرنون على الألعاب الرياضية التي تجعل الجسم مرنًا، وتدربهم على فنون الحرب والسير العسكري، والكر والفر والقفز، والمصارعة بأيديهم مفتوحة أو بالملاكمة، وكانوا يعدون أنفسهم للموقعة على شكل رقص حربي منظم أو بالوثب واللف، والتلويح بالقوس والنشاب في الفضاء، وعند الفراغ من تعلمهم كانوا يدمجون في الفرق المحلية ويمنحون امتيازاتهم، وعندما تكون الحاجة ماسة إلى أحد منهم كان يطلب بعضهم أو كلهم للانخراط في سلك الجيش، وكانت الأسلحة التي في بيت السلاح توزع عليهم، ثم يحملون في سفن إلى ميدان القتال، ولم يكن المصري في هذه الفترة بطبعة حربيًّا لأن الحاجة لم تكن ماسة إلى ذلك، ولأنه كان بطبعة زارعًا.
والواقع أن العصر الأهناسي هو أول مظهر من مظاهر النشاط والرجولة الحربية التي أخذت تنمو في البلاد تدريجًا، وكان النواة التي نشأ منها جيش مصر من رجال مدربين بالوراثة، وهم الذين كان من نسلهم الجنود الذين أسسوا ملك «أمنمحيت» وقاموا بحروب «سنو سرت الثالث» في بلاد النوبة، وطردوا الهكسوس من مصر وتوغلوا في آسيا حتى دجلة والفرات بقيادة «تحتمس الثالث».