(١) نظام الفردية في عهد الأسرتين الثالثة والرابعة
أصل العالم في نظر الكهنة
أقدم الوثائق التي نتبئ عن كيفية تأسيس الأسرة المصرية يرجع عهدها إلى عصر متون
الأهرام؛ إذ نقرأ في نقوشها أن الكهنة المصريين القدماء عندما أرادوا أن يمثلوا للشعب
تكوين العالم مثلوه في صورة مما يحدث أمام أعينهم، ويقع تحت حسهم وأضفوا عليها ثوبًا
دينيًّا عليه مسحة من الغموض والرهبة، وإن كان في أصله لا يخرج عن دائرة الحس والمحسوس.
لذلك يقول علماء اللاهوت في أصل العالم: إنه كان يطفو على سطح المحيط الأزلي (نون) بيضة
خرج منها الإله آتوم، وهو المسمى في التوراة والإنجيل والقرآن آدم عليه السلام. ثم تقص
علينا الأسطورة أن الإله «آتوم» وفي رواية أخرى الإله «رع» عطس وتفل فنشأ من ذلك ذكر
وأنثى وهما الإله «شو» (ولفظه يمثل صوت العطس) إله الفضاء، والإلهة «تفنت» (وتمثل صوت
التفلة) وهي إلهة الندى. ثم تناسل هذان الإلهان «جب» إله الأرض و«نوت» إلهة السماء
وكانت السماء والأرض رتقًا ثم فتقتا. ثم كان منهما نسل فرزقا الإله «أوزير» والإله «ست»
ثم الإلهتين «إزيس» و«نفتيس». ويجد الباحث في الديانات المختلفة ما يشبه ما ورد في هذه
الأسطورة. وقد جاء في أقاصيص المصريين أن العالم كان يحكمه الآلهة قبل أن يحكمه بنو
البشر، وينسبون ملوك مصر إلى سلسلة النسب الإلهي الذي ذكرناه آنفًا.
نظام الأسرة حسب ما جاء في متون الأهرام
وتدل متون الأهرام على أن الآلهة كان يرث بعضها بعضًا كبني البشر. وثبت ذلك من نصوص
الأهرام إذ جاء فيها ما يأتي:
١ «يا أوزير أنت ابن «جب» الأكبر وبكره ووريثه ثم يقول: «إنه ابني وعزيزي
وأول من ولد لي، وهو الذي يجلس على عرش «جب»، وهو الذي قد ارتاح إليه «جب»، وهو الذي
أعطاه ورثه أمام التاسوع الإلهي العظيم.» ومدلول هذا المتن يقرر بصراحة نظامًا للأسرة
يظهر فيه الابن الأكبر بأنه هو وارث والده بعد وفاته، وإن كان لا يمكن بالضبط أن نقرر
في أي عصر أصبحت متون الأهرام معمولًا بها. ومهما يكن من شيء فإن بعضها يرجع إلى عصور
سحيقة أعرق في القدم من عهد بناء الأهرام التي نقشت عليها، وبعضها حديث كتب في عهد بناء
الأهرام، من أجل ذلك يتعذر اتخاذ هذه المتون أساسًا لمعرفة بداية تكوين الأسرة في عهد
الدولة القديمة.
أهمية نصوص متن من الوجهة الشرعية
وأقدم وثيقة شرعية وصلت إلينا لها علاقة بحقوق الأسرة هي ترجمة حياة العظيم
«متن»،
٢ الذي عاش في عهد أواخر الأسرة الثالثة وبداية الرابعة وهو ابن «إنبو إم
عنح» الذي كان موظفًا قضائيًّا، أما أمه فتسمى «نبسنت» والمطلع على تاريخ حياة هذا
الرجل العظيم يجمع معلومات هامة جدًّا عن توارث العقار في أسرته. وعلى ما يظهر أنه ورث
جزءًا من أملاك والده يشتمل على أرض وفلاحيها وعلى ماشية فيقول: «الموظف القضائي «إبنو
إم عنخ»، وقد وهب عقاره ولم يكن من محتوياته حبوب أو أثاث منزل بل كان يشمل ماشية
وفلاحين.»
أما أمه «نبسنت» فقد كتبت وصية لأولادها كان نصيب «متن» فيها ١٥٠ أرورا من الأرض.
ويعتقد الأستاذ «موريه» أن «متن» قد وهب أولاده مدة حياته ١٢ أرورا من أطيانه. والواقع
أننا لا نعرف من أولاده بالضبط إلا ولدًا واحدًا ورد ذكره عرضًا، ولا يبعد إذ إن أولاده
الآخرين كانوا من الإناث. وهذه المعلومات كافية في وصف الموقف الشرعي للأسرة في أواخر
الأسرة الثالثة.
مساواة المرأة للرجل في عهد الأسرة الثالثة
فنرى أولًا أن أم «متن» قد تصرفت بكامل حريتها في ملكها، إن بالوصية أو بالهبة، مما
يدل على أنها كانت تملك في يدها سلطة شرعية مطلقة، فلم تكن تحت سلطان زوجها أو تحت
وصاية ابنها أو أي إنسان آخر، وكذلك لم تختلط أملاكها بأملاك زوجها أو أملاك أولادها
الذين قسمت أملاكها بينهم. ولم يذكر لنا «متن» زوجته في نقوش قبره مما يدل على أنها
كانت مستقلة عنه شرعًا، ومن المحتمل أنه كان لها مدفن خاص وشعائر خاصة.
المساواة في الورث بين الأولاد
ويلاحظ هنا أننا لم نر ميزة خاصة للابن الأكبر أو حق وراثة الأولاد، ولكن من جهة أخرى
لم يذكر لنا «متن» أنه هو الابن الأكبر، ولم يذكر لنا إخوته الذكور أو الإناث، وذلك
طبيعي لأن ثروته لم تختلط بثروتهم. نستنتج من هذا أن الأولاد كانوا يرثون عقار والديهم
بالتساوي من غير تفرقة في أنصبتهم. وهذه النتيجة تظهر لنا شرعية إذا علمنا أن «متن» من
جهته قد وهب أولاده أملاكه دون أن يميز بين الذكر والأنثى.
ولدينا وثيقة لأحد العظماء من عهد «خوفو» تثبت حق وراثة الذكور والإناث أملاك والدهم،
وأعني بذلك وصية الوزير والأمير «ني كاو رع» ابن «خوفو»، وذلك أنه خلافًا لما أوصى به
لزوجته قسم عقارًا بين أولاده بوصية على وجه التساوي تقريبًا، فأعطى كلًّا من ولديه
ثلاث ضياع وأعطى بنتًا وطفلًا آخر لم نعرف اسمه ضيعتين
٣ منهما، ومن هذا المتن الأخير يتبين نظام الوراثة بين أفراد الأسرة المالكة،
وقد نظم وفق مبادئ الحقوق العامة.
نصيب الزوجة من أملاك بعلها
ولا يبعد أن ذلك التقسيم كان في وقت عقد الزواج بين الرجل وزوجته، وأنه قد حددت فيه
أملاك كل منهما، هذا لا يمنع الزوج من أن يوصي لزوجته بشيء من ممتلكاته تفوق غالبًا
نصيب أحد أولاده، كما تدل على ذلك الوصايا التي عثرنا عليها من عهد الدولة القديمة،
فمثلًا الأمير «ني كاو رع» السالف الذكر قد أوصى لزوجته بأربع ضياع. وهذا أكبر نصيب
أخذه كل واحد من أولاده وهو ثلاث ضياع. وكذلك نشاهد أن «نكعنخ» أحد كبار رجال الدولة
في
عهد الملك «وسر كاف» من الأسرة الخامسة قد جعل زوجته تشاطره في جزء هام من دخل
٤ إقطاعاته الجنازية. وكذلك أوصى الكاهن «إدو» الذي عاش في عهد كل من الملك
«بيبي الأول» و«مرن رع» و«بيبي الثاني» لزوجته «دسنك» بضيعة كاملة.
الفردية في الأسرة
ولا يخفى إذن أن حقوق الأسرة في عهد الأسرة الثالثة قد ظهرت أمامنا متميزًا بعضها
عن
بعض، وأن الأسرة نفسها تجلت في أضيق حدودها، إذ كانت تتالف من الأب والأم والأطفال
فحسب، ويعزز هذا الرأي أننا لم نجد فروع نسب في مصاطب الأسرة الثالثة؛ إذ اقتصر المتوفى
على أن ينقش على جدران قبره تاريخ حياته أو يذكر لنا أسماء والديه وزوجته وأولاده، كما
نشاهد ذلك في مقبرتي «رع حتب» و«حسي»، ولكن من جهة أخرى يذكر لنا المتوفى ألقابه غالبًا
كاملة، ولا نزاع في أن هذه أمارات تدل على فكرة الفردية، إذ إن الرجل كان يظهر نفسه قبل
كل شيء بمظهر المستقل المنعزل لا عضوًا من أسرة مترابطة العناصر، فلم يفاخر بأجداده بل
كان كل فخره ينحصر في دائرة نفسه ومحيط ذاته. وفوق هذا فإن الأسرة في هذا التكوين الضيق
الأفق لم تكن تؤلف وحدة شرعية، بل كانت مؤلفة من شخصيات مميزة مستقلة، فالزوج والزوجة
على قدم المساواة المطلقة، ولكل منهما ملكه الخاص يديره ويتصرف فيه بكل حريته والسلطة
الزوجية معدومة ولا رقابة على النساء، ونشاهد في قبور الأسرة الثالثة أن النساء لم يدفن
مع الرجال، فلم يذكر لنا العظيم «متن» في نقوشه اسم زوجته التي كانت على ما يظهر مدفونة
في قر غير قبره، ولئن دفن الكاهن الأعظم «حسني» في عين شمس من عهد الأسرة الثالثة في
مقبرة واحدة مع زوجته «حتحور نفر حتب» فإن شعائر كل منهما كانت على حدة، وهذا يدل على
استقلال الشخصية حتى في الدار الآخرة، على أننا نشاهد أحيانًا أن الزوجة كانت ترسم على
قبر زوجها في عهد الأسرتين الثالثة والرابعة بالحجم نفسه الذي كان يرسم به الزوج، مما
يبرهن على أنها كانت مماثلة له في الشرف كما كانت مماثلة له في الحقوق.
انعدام تعدد الزوجات والحظيات بين عامة الشعب
ومن المحتمل جدًّا أن الزواج كان يعقد في عهد الدولة القديمة، وإن لم تصل إلينا أية
وثيقة من هذا النوع، ولكن إذا كانت المرأة تملك عقارًا خاصًّا بها، فلا بد أن ممتلكاتها
كانت تدون في وقت الزواج، وعلى أية حال نجد أن الزوجة كانت تفوز بجزء من أملاك زوجها
ويكون نصيبها في العادة أكبر من نصيب أحد أولاده أخذًا من الوصايا التي ذكرناها. ومن
الحق أن نبين هنا أننا لم نعثر للآن على حظيات لعظماء القوم في عهد الأسرة الثالثة،
ولكن يحتمل أن الملك كانت له حظيات، وإن كان تعدد الزوجات معدومًا بين عظماء القوم
وعامة الشعب. ومن الجائز أن المصري كان يتزوج مرتين كما هو الحال مع «شري»
٥ بن «مر إيب» مدير كهنة الملك «بر إيب سن» في الجبانة الملكية من عهد الأسرة
الرابعة، وكذلك «دوا كا» كاهن الملك «خقرع»، فإنه قد رسم على نقوش مقبرته زوجتين، ولكن
لم يكن له إلا زوجة شرعية واحدة. والواقع أننا لم نجد في رسوم القبور ما يشعر بأي نوع
من الحظيات كما سنرى في الأسر التي تلت الأسرة الرابعة. أما الولدان الذين يذكرون في
النقوش سواء أكانوا ذكورًا أم إناثًا فإنهم شرعيون، وكانوا على قدم المساواة في الحقوق
فيرثون متاع والدهم وأمهم ويتمتعون مدة حياتهم بهبات آبائهم.
عدم وجود السلطة الأبوية على الأولاد البالغين
وبديهي بعد هذا البيان أن المرأة كانت مساوية للرجل تمامًا في الحقوق كما كانت قادرة
مثله على تملك عقار، مما يؤكد الاستنتاجات التي استخلصناها من المركز الشرعي للزوجة.
ولا يفوتنا بيان أنه لا وجود للسلطة الأبوية على الأولاد البالغين، إذ كان لهؤلاء أملاك
خاصة منفصلة عن أملاك الأب والأم، ولذلك كان في مقدورهم أن يستفيدوا من كل هبة منهما،
ويمكنهم أن يتعاقدوا معهما، وهذا مما كان يجعل في يدهم كفاءة شرعية تامة مستقلة عن
والديهم. وحالة الإناث كحالة الذكور فلم يكن تحت رقابة الأب أو أية رقابة أخرى وذلك
يثبت عدم وجود سلطة زوجية على المرأة.
حق الوراثة
الأولاد هم الوراث الشرعيون
كان عقار كل من الزوجين منفصلًا، وكذلك كان كل منهما لا يرث الآخر إذ إن الوارثين
هم الأولاد الشرعيون، فقد وجدنا أن «متن» قد استولى على عقار والده من غير وصية
فامتلكه وفق القانون. وإذا كان «متن» قد أعطى أولاده هبة مدة حياته، فإنه لم يكتب
بذلك وصية فتملك عقاره أولاده بمقتضى القانون. على أن «متن» لم يرث عن أبيه فحسب،
بل كذلك ورث عن أمه ٥٠ أرورا من الأرض. ومن ذلك نرى أن الذكور والإناث كانوا يرثون
دون أن تكون هناك أية رابطة أسرية واضحة تجمعهم. ولم يكن لزامًا على الأب أو الأم
أن يترك لأولاده كل عقاره، إذ لم نجد بين ما تركه «إنبو إم عنخ» والد «متن» أي أثاث
أو رياش، ولا شك في أنه ترك هذا لزوجته إما بوصية وإما ضمن عقد الزواج.
ونجد في عقد أوقاف تركه لنا أحد كبار رجال الدولة في بلاط «خفرع» أنه اشترط حرمان
خدام الروح «حموكا» الموكل بهم إدارة الأوقاف حق التصرف في أنصبتهم في الوقف لا
بالوصية ولا بالهبة ولا بطريقة العوض. بل يجب عليهم أن يتركوها لأولادهم وأحفادهم
من بعدهم إلى الأبد، فإذا كان هذا العقد يحتم هذه الشروط على حرية والد الأسرة
(مدير الوقف) أي بعدم التصرف في أملاكه الموقوفة مدة حياته فإن في ذلك ما يدل على
أنه كان من حقه قانونًا أن يتصرف فيها لولا هذه الشروط. ومن ذلك يتضح أنه لم يكن
هناك عقار أسرة غير مجزأ أجزاء مستقلة، أي أن عقار الأب كعقار الأم كان كل منهما
منفصلًا عن الثاني، وأن وجود ذرية لهما لا يفرض أي قيد على حقوق ملكية أحدهما، وأن
حقوق الأولاد لا تكون شرعية إلا عند وفاة الأبوين، وحينئذ تكون القسمة بينهما
بالتساوي.
نظام الورث في عهد الأسرة الثالثة
ومن ثم نوضح نظام الوراثة في عهد الأسرة الثالثة، فقد كانت تنفذ الوراثة عند
الموت الطبيعي. أما ترتيب الورثة فقد نظمه القانون فالشرعيون منهم لهم الحق المطلق
في عقار المتوفى،
٦ ولم يراع القانون في توزيع الإرث أصل العقار أو طبيعته. فلا يصح ملكًا
للوارثين إلا مشفوعًا بالتزامات واتفاقات وعهود كانت تفرض عليه وبخاصة الأوقاف
الجنازية، كما يتبين هذا في وصية «ثنتي» أحد أعضاء مجلس العشرة العظيم للجنوب ورئيس
البعوث.
٧ وكان العقار الموروث يسلم لأولاد المتوفى، ومن تناسل منهم، فإذا انعدم
هؤلاء آل الإرث إلى إخوتهم وأخواتهم. وكانت أنصبة الأولاد ذكورًا وإناثًا متساوية،
اللهم إلا إذا كانت هناك وصية تنص على التفرقة. وكان أولاد المتوفى يحلون محل
والدهم في عقاره، على أن الورثة لم يكن لهم الحق في أملاك والدهم إلا بعد وفاته
فحسب. أما توزيع الإرث فكان يمكن عمله بوصية من المتوفى وكان من حقه أن يورث
أفرادًا ليسوا بوارثين له كزوجته، وكذلك كان يمكنه أن يميز أحد أبنائه عن إخوته كما
ذكرنا آنفًا. والظاهر أن التصرف الأخير كان لا يجرم أي ولد نصيبه الشرعي في إرث
أبيه أو أمه، فسنرى في عهد الأسرة السادسة أن «حرخوف» يقول: «إني لم أفصل بين أخوين
بطريقة تجعل الابن يحرم من ميراث والده». وفي هذا النص دلالة على أن كل أولاد
المتوفى كان لهم الحق في عقار والدهم
٨ولا توارث بين الزوج والزوجة إلا بوصية.
الشعائر الدينية واستمساك الأسرة بعروبتها
وحدة الأسرة في العهود القديمة والتفافها حول جد مشترك
إن إقامة الشعائر الدينية ترجع إلى بداية التاريخ المصري. وتدل الدلائل على أن
الأسرة في الأصل كانت تؤلف وحدة متماسكة متجمعة لإقامة الشعائر الدينية للجد الأكبر
البعيد، ولما اختفى هذا المظهر أصبحت إقامة الشعائر فردية مستقلة في الأسرة، فلم
تعد تربط أفرادها بعضهم ببعض إقامة شعائر الجد المشترك القديم، بل كان لكل مصري
شعائر دينية مستقلة، مما يدل على أن نظام الأنساب التناسلية قد زال منذ زمن بعيد
جدًّا. ولا نزاع في أن التفكك في روابط ديانة الأسرة وإقامة شعائرها يرجع إلى أزمان
سحيقة.
آثار هذه الوحدة وظهور نظام الفردية في الأسرة
ويمكن أن نشاهد آثار ذلك في الأسرة الأولى، فمن ذلك أن ملكات مختلفات من هذه
الأسرة قد دفن في القبر الملكي، وربما كان ذلك علامة على اشتراك الملكة في شعائر
الملك، ومن ناحية أخرى نعلم أن إحدى الملكات قد دفنت في «نوبت» (نقاده وبلاص) وهي
بلا شك تعتبر من الأسرة المالكة عابدة الإله «ست»، وهي لم تدفن مع زوجها بل مع
أجدادها، لأن الوحدة الأسرية قد اضمحلت ولم يكن لزامًا على المرأة أن تقيم شعائر
زوجها، وذلك لأن سلطة الزوج كانت قد أفل نجمها، أما شعائر الأسرة العامة فقد بقي
منها القليل، وهذا هو سبب دفن المرأة في جبانة أجدادها.
ظهور الفردية في الشعائر الدينية
ومن الطبيعي أن يحدث تفكك الأسرة تطورًا في الشعائر الدينية، وذلك بالتوجه شطر
الفردية التي وجدناها في الأسرتين الثالثة والرابعة، فنشاهد أن لملكات الأسرة
الرابعة قبورًا منفصلة عن قبور الملوك، وفي المقبرة الملكية على مقربة من هرم
«خوفو» مقابر عدة للملكات ولأبناء الملك وبناته،
٩ وكان لكل من هؤلاء الملكات والأمراء شعائر خاصة تقام منفصلة عن شعائر
الملك، وقد ذكر في نقوش «متن» ما يدل على وجود أوقاف خصصت لإقامة شعائر الملكة «ني
معات حاب»، على أن هذا لم يكن قاصرًا على الملكات فحسب، إذ تنبئنا النقوش بأن
«حتحور نفر حتب» زوجة «خع باوسكر» وهو أحد رجال الدولة في عهد الملك «خع با» الذي
يقال عنه إنه أحد أخلاف «زوسر» على العرش، كان لها شعائرها وقرابينها
الخاصة،
١٠ ومن ذلك يتضح أن الفردية المستقلة قد امتدت حتى وصلت إلى إقامة شعائر
الأموات، وهذه الشعائر كان يحتفل بإقامتها أولاد المتوفى الذكور والإناث، وهذا كان
آخر أثر للرابطة الأسرية، وإن لم يكن ذا صبغة خاصة.
أصل الوقف
وسنرى أن المتوفين كانوا يجتهدون في أيام حياتهم أن يضمنوا استمرار إقامة
شعائرهم، وذلك بإنشاء وقف دائم. على أن الحكومة كانت تأخذ على عاتقها هذا العمل في
بادئ الأمر، فكانت تمنح موظفيها مرتبات ضخمة مدة حياتهم، ومن جهة أخرى تضمن لهم
الاحتفال بإقامة شعائرهم، فتحبس علهيم دخلًا جنازيًّا خاصًّا، ولا أدل على ذلك من
أن «متن» قد خصص لنفسه دخلًا جنازيًّا يشتمل على اثنتي عشرة ضيعة. أعطاها إياه
التاج بصفته موظفًا، ولم يمنح هذا الدخل على أنه وقف، ولكن قد ضمنته الحكومة
مباشرة، ومن هذا نرى أن الحكومة كانت هي القائمة بتقديم القرابين الضرورية لإقامة
شعائر موظفيها. ولدينا متون من عهد الأسرة السادسة تبرهن على أنه عندما كان ينقطع
نسل المتوفى تقوم الحكومة نفسها بتأدية شعائره. مثال ذلك أن «كارابيبي نفر» حاكم
مقاطعة أدفو يعلن: «أنه دفن كل رجل لم يعقب ولدًا في مقاطعته وجهزه بأكفان من
الأوقاف الدائمة.»
١١ وكذلك يقول الوزير «رع نفر سشم»: «لقد دفنت من لا ابن له.»
١٢
مصلحة القربان «بر زت»
وقد كان هناك إدارة خاصة تسمى (بيت الأبدية) «بر زت» متصلة بمصلحة القربان، وكان
واجبها القيام بهذه الأعمال الخيرية. وليس لدينا أية وثيقة تشبه هذه من عهد «متن»،
ومن المحتمل أن تدخل الحكومة في موضوع إقامة شعائر الأسرة كان موجودًا في هذا
العصر. حقًّا أن «متن» قد ذكر لنا حقوق الالتزامات الجنازية التي كانت له من
الاثنتي عشرة ضيعة التي كان يسيطر عليها بحكم وظيفته، غير أنه لم يبين لنا إن كان
لهذه الالتزامات موظف خاص يديرها، كما لم يبين لنا الطريقة التي كانت تؤدى بها
الشعائر، ويمكننا أن نستنتج أن هذه الالتزامات كانت تنفذ حسب قواعد موضوعة. وسنجد
أن هذه القواعد كانت في قبضة حاكم المقاطعة وهو الذي أصبح أميرًا إقطاعيًّا.
(٢) تطور نظام الأسرة في عهد الأسرة الخامسة
أصل لقب المقرب
كان من نتائج أهمية إقامة الشعائر الدينية للملك في عهد الأسرة الرابعة، أن تألف
طائفة من الكهنة الملكيين كبيرة العدد قوية السلطان. وكانوا ينتخبون من بين موظفي
البلاط وعظماء رجال الدولة والإدارة، ولذلك كانوا يؤلفون طبقة خاصة في البلاد يطلق
على كل مهم لقب (مقرب) «إمخ».
ميزات المقرب
وكان الملك يهب كلًّا منهم ضيعة وامتيازًا، فكانوا يتمتعون من دخل كهانتهم الذي
كان في الغالب عظيمًا، كما كانوا يتمتعون بدفن جثثهم في الجبانة الملكية بصفتهم
مقربين، وكذلك كانوا يشاطرون بعد موتهم (حسب اعتقادهم) الملك في حياته الأخرى
الإلهية، والواقع أن الملك الإله كان يمنح كهنته المقربين ميزات عدة، إذ كان يغدق
عليهم دخلًا جنازيًّا ويهبهم لوحات مأتمية ومقابر وضياعًا دخلها كاف لإقامة شعائر
المتوفى. وهذا العقار صغر مقداره أو كبر فإنه يدخل ضمن أملاك الموهوب له، وبذلك كان
من حقه أن ينقله إلى ورثته
أوقاف المقرب وما يشترط فيها
غير أن الهبات التي كان يعطاها الكاهن بصفته من المقربين كانت مقيدة بشرطين؛
أولهما: أن يكون الشخص الذي وهب له هذا العقار حاملًا لقب «مقرب». وثانيهما: أن
تحبس هذه الهبة لإقامة شعائر الموهوب له. وقد كانت هذه الهبات في أغلب الأحيان تزيد
على ما يحتاج إليه المتوفى لإقامة شعائره. أما الزائد على دخلها فيعد ملكًا حقيقًا
للشخص الذي وهب له العقار. وهذان الشرطان اللذان لا بد من توافرهما قد جعلا الورثة
من كهنة الملك لأنهم من المقربين.
أولاد المقربين يربون في القصر مع أولاد الملك
هذا إلى أن هؤلاء (المقربين) أصحاب المنزلة الرفيعة كانوا يتمتعون بتربية أولادهم
في القصر الملكي مع أنجال الملك، فكانوا منذ نعومة أظفارهم يتحلون بالشعائر،
ويقلدون الألقاب ويمنحون الوظائف الفخرية التي تجعلهم (مقربين) إلى الملك، فمن ذلك
أن الأمير «كارابيبي نفر» الذي كان لا يزال طفلًا في عهد بيبي الأول قد تربى في
القصر الملكي مع الأمراء وأولاد حكام المقاطعات، وكان يحمل لقب السمير الوحيد،
ومدير الضياع الملكية، وذلك يدل على أنه رغم حداثة سنه كان في طليعة «المقربين».
وهكذا أصبح المقربون «إمخو» في عهد الأسرة الخامسة طبقة وراثية، ولكن على الرغم من
ذلك كان تقليد الملك لا يزال ضروريًّا لحامل هذا اللقب.
وقف المقرب لا يتجزأ
وكان قانون الوراثة المصري يقضي بتقسيم ممتلكات الوالدين بين أولادهما. والضياع
الجنازية الموهوبة لمن يحمل لقب المقرب خاضعة كذلك لقواعد وراثة الحقوق العامة، إذ
لا بد أن تقسم بين أولاد المقرب. ولما كان هذا التقسيم يؤثر على تقديم القربان
وإقامة شعائر المتوفى، وجدنا أن المصري قد لاحظ هذا منذ بداية الأمر وأوقف الضياع
التي وهبها إياه الملك وجعلها غير قابلة للتجزئة، كما فعل أحد عظماء عصر الملك
«خفرع» السالف الذكر، وكما فعل العظيم «سنو عنخ». وكانت هذه الأوقاف تفصل عن أملاك
الواقف، وتوضع تحت تصرف طائفة من الكهنة بشروط خاصة تضمن بقاء تقديم القرابين على
الدوام، وهذا التعاقد الذي أصبح به الكهنة ملاكًا للضياع أو الإقطاعات قد جعل هذه
الممتلكات غير قابلة للتجزئة بل موقوفة أبديًّا. ويتضح مما تقدم أن هذه العقارات قد
أصبحت عينًا موقوفة عليها التزامات أبدية للمتوفى. أما ورثة صاحب هذه الأوقاف فلم
يكن لهم حق في هذه العقارات الموقوفة، اللهم إلا المراقبة على الكهنة في تنفيذ شروط
الواقف، فإذا تراخوا في تنفيذها عادت الضياع الموقوفة إلى أسرة المتوفى. الواقع أن
نظام حبس عقار على إقامة شعائر المتوفى بهذه الكيفية كان يضمن استمرار تقديم
القربان وإقامة الشعائر، ولكنه من جهة أخرى حرم أسرة المتوفى مورد دخل هام.
انتقال وقف المقرب إلى يد أسرته بإدارة ابنه الأكبر
وفي أواخر الأسرة الرابعة ظهر نظام جديد في موضوع الوقف، وذلك لأن الأوقاف
الجنازية أصبحت توضع في يد جماعة من أسرة المتوفى. وهذا النظام قد ضمن للمتوفى
إقامة شعائره، ومن جهة أخرى حفظ للأسرة دخل المتوفى الذي كان يتمتع به غيرهم. وعقد
أوقاف «حتى»
١٣ والد «نكعنخ» من الأسرة الرابعة ويلقب مدير البيت، قد جاء بهذه
الكيفية، إذ وكل «حتى» إدارة دخله الجنازي إلى رئيس إقامة شعائره، وهو ابنه الأكبر
الذي لم يكن لديه أي لقب يخول له هذا الإرث، وكذلك نصب أولاده الآخرين كهنة له
مشاركين الابن الأكبر في الملكية وفي دخل العقار الجنازي «الذي كان تحت يد الابن
الأكبر».
سلطة الابن الأكبر كانت تنحصر أولًا في إدارة العقار الموقوف فقط
غير أنه لم يكن في مقدور واحد منهم أن يتصرف في هذا العقار لا بالوصية ولا بالهبة
ولا يمكن تجزئته، غير أنه كان من حق كل أن يترك نصيبه لابنه من بعده، ولكن تحت سلطة
الابن الأكبر للمتوفى، وسلطان الابن الأكبر لم يكن في هذه الفترة حقًّا شرعيًّا،
ولا يحل إلا إذا اشترط المتوفى ذلك في عقد الوقف. ومن ذلك نرى أن «حتى» قد أنشأ
شخصية مدنية مميزة كما فعل كل من عظيم بلاط خفرع السالف الذكر و«سنوعنخ»،
١٤ وقد كان «حتى» يمتاز في وقفه بأن الطائفة المشرفة على هذا الوقف من
أولاده، وعلى رأسهم الابن الأكبر. بخلاف «سنو عنخ» الذي جعل المشرفين طائفة من
الكهنة الذين لا يمتون إلى أسرته بقرابة. وبعمل «حتى» تم تأليف جماعة أسرية لا
ينفصم عراها يتوارثها جيل عن جيل. وتمتد سلطة الابن الأكبر فيها إلى كل فروع الأسرة
الأصلية، وهذه الجماعة الأسرية كانت قاصرة على ملكية الضياع الجنازية، وقد اشترط
«حتى» صراحة أن تكون سلطة ابنه الأكبر نافذة على إخوته الذكور والإناث فيما يختص
بإدارة الإقطاعات الجنازية، أما في أملاك الأسرة الأصلية فلم يكن للابن الأكبر
عليها أي سلطان. وكانت ضياع الأسرة تتسع وتنمو من الهبات الملكية حتى أصبحت واسعة
الأطراف، فنشاهد في عهد الأسرة السادسة أن الملك وهب أحد عظماء بلاطه «إبي» ضيعة
مساحتها ٢٠٤ أرورا. وهذا يوضح لنا أن العقار الجنازي مضافًا إليه العقار الموروث عن
الأجداد كان يزداد ازديادًا مطردًا. ولما كانت هذه الضياع توضع تحت تصرف جماعة من
الأسرة فقد زادت بطبيعة الحال في ربط أواصر الأسرة، وأصبح كل فرع منها يؤلف وحدة
يمثلها الابن الأكبر. وهذه الفروع التي كانت تؤلف للمحافظة على الضياع العظيمة كانت
تجمع في الوقت نفسه طبقة الأغنياء والعظماء الذين كانوا يزدادون قوة على كر الأيام
وتوالي الأعوام.
المقربون كونوا طبقة الأشراف في البلاد
ويجب أن نذكر هنا أنه في عهد الأسرة الخامسة كان المقربون للملك يؤلفون طبقة
أشراف حقيقية لها امتيازاتها؛ إذ لم يستولوا من الملك على مدافن وأوقاف جنازية
فحسب، بل استولوا كذلك على ضياع جنازية مثمرة. وقد كان لقب المقرب يجلب معه دائمًا
ضيعة ملكية، وهذه الأوقاف الأسرية كانت تجري على وجه خاص في الأسر الشريفة الغنية،
ومن ذلك نرى أن سلطة الابن الأكبر ستصبح ميزة لأولاد الأشراف.
المقربون يحتكرون أوقاف الآلهة أيضا
ولم يكن المقربون يستحوذون على الضياع الملكية فحسب، بل كان لهم دخل الكهانة
أيضًا. ولما أصبح أفراد هذه الطائفة في عهد الأسرة الخامسة من الوارثين احتكروا
إقامة الشعائر الجنازية للملك وللإلهة «حتحور» وللإلهة «نيت» وللإله «رع» والإله
«فتاح» والإله «مين»، فحولوا بذلك دخل أوقاف هذه الآلهة إلى عقار أسري يتصرفون فيه.
ونتج عن نظام الأوقاف الحرة والأوقاف الملكية أمران:
- أولهما: ازدياد العقار الموقوف وانتشاره في طول البلاد وعرضها.
- ثانيهما: : تجمع كل الأوقاف في يد أسر الكهنة فأصبحوا من الأشراف وتمتعوا
بخيرات الأوقاف كلها.
ولما أصبحت التزامات وظيفة الكاهن وما تبعها من الضياع وراثية، استحال كل ذلك إلى
أملاك عقارية للكهنة وأصبح نقلها مقصورًا على أحد أولاد الكاهن.
أهمية وصية العظيم «نكعنخ» من الوجهة الشرعية
كما كان لكل أولاد المتوفى الحق في وراثة هذه العقارات، وهذا بلا شك هو السبب
الذي دعا «نكعنخ» أن يضع التزاماته بصفته كاهنًا أعظم للإلهة «حتحور» صاحبة قوص في
يد جماعة من أسرته نظمت تحت إدراة ابنه الأكبر، وبذلك جعل كل أولاده يستفيدون من
دخل للكهانة لا يقبل التجزئة.
١٥ ووصية «نكعنخ» لها أهمية خاصة في درس تطور الحقوق في عهد الأسرة
الخامسة؛ إذ تبرهن على أن الجماعة الأسرية قد نظمت لا لتحافظ على عدم تجزئة عقار
خاص بإقامة شعائر الواقف فحسب، بل لتحفظ لكل أفراد الأسرة دخل وظيفة دينية أصبحت
وراثية. وقد كان «نكعنخ» هذا كما سبق ذكره الكاهن الأكبر للإلهة «حتحور» مالكًا
لضيعيتين هامتين؛ الأولى: مساحتها ٥٠ أرورا حبست على إقامة شعائره الجنازية، وقد
منحه إياها جده «خنوكا». أما الضيعة الثانية: فكانت خاصة بالتزامات كاهن الإلهة
«حتحور» الأكبر وقد منحه إياها الملك ومساحتها كذلك ٥٠ أرورا. ولما أراد أن يحافظ
«نكعنخ» على وحدة الضيعة الأولى دون أن يحرم أولاده دخلها أوصى بها جماعة من أسرته.
أما الضيعة الثانية فبدلًا من أن يضعها تحت تصرف واحد من أولاده جعلها كذلك تحت
إشراف جماعة أخرى من أسرته، وكان ضمن أعضائها زوجته وأولاده، وقد عين لكل نصيبه من
الدخل، كما حدد الواجب الذي يقوم به كل في الاحتفال بإقامة شعائر الإلهة «حتحور»
خلال مدة معينة من السنة.
وإذا كان «نكعنخ» قد تمكن من التصرف بوصية في التزاماته باعتباره كاهنًا أعظم
للإلهة «حتحور» فإن ذلك دليل على أنه كان يعد الضياع التي تصرف فيها ضمن أملاكه بلا
نزاع. وقد كانت جماعة الأسرة التي تتصرف منذ الآن في كهنوت الإلهة «حتحور» تتألف من
زوجة «نكعنخ» وبعض أولاده وكاهنين أجنبيين عن الأسرة. وكان كل واحد من هؤلاء يخدم
فترة معينة خلال مدة محدودة الأمد في معبد «حتحور» كما جاء في الوصية بوصفه كاهنًا،
وكان يتسلم في مقابل ذلك جانبًا من دخل وظيفة الكهنوت بالنسبة لمدة عمله. وكان
الابن الأكبر يتمتع بمكانة ممتازة، فكان رئيس جماعة الأسرة ووارث والده (في مكانه
ككاهن) ومدير كل دخله. ولا نزاع إذن في أنه هو المدير لجماعة الأسرة. أما ضيعة
«خونكا» الجنازية فكانت تديرها جماعة من الأسرة تتألف من زوجة وبعض أولاد صاحب
الوصية. ولكن إذا كان «نكعنخ» قد نصب على أوقاف جده «خنوكا» جماعة أسرية فإنه لم
يدخل في ذلك إقامة شعائره الخاصة، بل خصص لإقامتها أوقافًا مستقلة، ووكل أمرها إلى
أربعة من أولاده لم يذكروا في الوصيتين السابقتين، ويظهر أنهم من أم ثانية، أما
بقية أملاكه فقد وصى بها ابنه الأكبر «حن حتحور»، ومع أن المتن ممزق عن هذه النقطة
ففي مقدورنا أن نفهم منه أن «نكعنخ» قد خص زوجته بمعاش فوق ما تركه لها في الوصيتين
السابقتين. ولكنها بدورها قد أوصت بكل ممتلكاتها لابنها الأكبر «حن حتحور» الذي كان
له أن يجمع في يده عقار والده ووالدته حسب الوصية على ما يظهر. وأسرة «نكعنخ» أسرة
عريقة في الشرف، ويحمل أعضاؤها منذ عدة أجيال لقب «رخ نيسوت» (المعروف لدى الملك)
وكلهم يحملون كذلك لقب «المقرب». والواقع أن الضياع التي كانت تملكها هذه الأسرة
كانت لها أهمية عظمى، إذ إنها تؤلف ثروة ضخمة، فمساحتها ١٢٠ أرورا أي نحو ٩٠
فدانًا، وكانت كافية منذ «خنوكا» لإقامة شعائره الدينية وشعائر والده، وأمه وكل
الأسرة.
بقاء إقامة الشعائر فردية رغم الصرف عليها من ضيعة واحدة
وهكذا أخذت إقامة شعائر الأسرة الجنازية تنظم شيئًا فشيئًا حول الضياع الوراثية
الموقوفة. ولكنا من جهة أخرى نلاحظ أن «نكعنخ» لم يضم إقامة شعائره إلى بيت جده
«خنوكا»، ويتضح لنا كذلك أن إقامة الشعائر بقيت فردية مستقلة وإن كانت في الواقع
ضيعة واحدة قد استخدمت لإقامة شعائر مختلفة. وهذا يدلنا على أن الضيعة كانت في
الأصل مركز إقامة الشعائر، لأن الذين يتصرفون في دخلها كانوا يستغلونهم لمنفعتهم
الشخصية، ولكن الضيعة أصبحت بالتدريج عقارًا للأسرة تحت سيطرة الابن الأكبر، وتوحدت
إقامة شعائر الزوجة التي كانت يصرف عليها من ضياع زوجها، وقد ضمها لنفسه الابن
الأكبر.
ونرى في وصية «نكعنخ» أن الابن الأكبر قد نصب وارثًا لكل أملاك والده ووالدته،
وكان بصفته رئيسًا لإقامة الشعائر مكلفًا كذلك بإدراة ضياع الأسرة، ولكن أهمية هذه
الضياع قد زادت واتسع نفوذ الابن الأكبر حتى شمل عقار الأسرة الخاص. على أن الابن
الأكبر لم يكن الوارث المطلق لوالديه ولكن أصبح بحكم العادة يكلف بوصية لإدارة كل
عقار الأسرة كما فعل «نكعنخ»، وبقي مركز الزوجة على حاله لم يحدث فيه تغيير، فقد
أوصى «نكعنخ» حسب العادة المتبعة بدخل، ولكن ابنه الأكبر أصبح وارثه الأوحد، ولا
يمكن أن يسلم هذا الدخل للأرملة إلا ابنها الأكبر، ولما كانت عضوًا في كل من جماعتي
الأسرة التي كان يدير شئونها الابن الأكبر كانت هذه الزوجة الأرملة تحت إدراة ابنها
الأكبر وتعتبر خاضعة لسلطانه من أجل ذلك.
الأولاد والزوجة يصبحون كهنة مقربين لرب الأسرة منذ أواخر الأسرة
الرابعة
والواقع أن إقامة الشعائر وإن حافظت على صبغتها الفردية فإنها كانت تتمشى مع تطور
الأسرة وهذا طبيعي. وأن الأوقاف الوراثية التي أعادت تماسك الأسرة بجمع شملها حول
الهبات قد أحدثت من جهة أخرى بإقامة الشعائر صلة وثيقة تربط أعضاء الأسرة برباط
متين، فإن دخل كل فرد منها كان كافيًا في الأغلب لإقامة شعائر الأسرة كلها أو كثير
من أفرادها، فقد كانت الزوجة والأولاد الذين كانوا كهنة جنازيين لوالدهم يرون أن
إقامة شعائرهم مشتركة مع شعائره، وذلك بفضل الجزء الذي يمنحه إياهم من دخله
الجنازي، وهذا ما فعله «خنوكا». والواقع أن مركز هؤلاء بالنسبة لوالد الأسرة في هذه
الحالة كمركز المقرب بالنسبة للملك، فكما أن (المقرب) كان يحتفل بشعائر الملك
ويتسلم جزاء هذا هبة خاصة، كذلك كانت الزوجة والأطفال كهنة والد الأسرة يحتفلون
بإقامة شعائره ويتقاضون جزءًا من إيراد أوقافه. ومنذ ذلك العهد أصبحوا يسمون مقربين
له «إمخو»، ولذلك نجد الزوجة تعترف بأنها «مقربة» لزوجها والابن الأكبر كذلك «مقرب»
لوالده. وهذه الألقاب بدأت تظهر في نهاية الأسرة الرابعة، وأقدم مثل عثر عليه حتى
الآن هي «حنوكا»
١٦ التي عثر على مقبرة زوجها «إي» (مدير البيت) في حفائر الجيزة بمنطقة
الأهرام. على أن وظيفة المقربة من زوجها أو المقرب من والده كانت لا توجد إلا في
الأسر الشريفة التي تمتلك أوقافًا محبوسة. وقد انمحى لقب (المقرب) بين أفراد الأسرة
في عهد الأسرة السادسة لأنه في عهد الأسرة الخامسة لم تكن وحدة الأسرة وحدة
قانونية، بل كانت تأتي من طريق الوصية للابن الأكبر بالإشراف على أملاك
الأسرة.
وصية «وب إم نفرت» وأهميتها من الوجهة القانونية
ومن جهة أخرى لم تكن الزوجة تحت سلطان الزوج ولم تشاطر في إقامة شعائره شرعًا،
ولذلك عندما كان الزوج يعترف بأنها مقربة له كانت تسارع إلى إعلان ذلك على نقوش قبر
زوجها، لأنها حظيت منه بعطف يماثل ما يحبو به الملك المقربين له. وكانت تنال إزاء
ذلك مرتبًا من أوقافه، ولدينا وثيقة من أهم الوثائق التي عثر عليها في عهد الأسرة
الخامسة تفسر لنا مركز أفراد الأسرة بالنسبة لأملاك الأب وبالنسبة لارتباطهم كوحدة
أسرية. والمتن هو وصية للسمير الوحيد عظيم «نخب» ومدير القصر الملكي «وب إم
نفرت»،
١٧ وقد تزوج من إحدى بنات الملك «نو سر رع» وتسمى «مريس عنخ» وابنهما
الأكبر «إبي»، وقد ترك لنا «وب إم نفرت» وصية في مقبرة ابنه «إبي»، وهي تؤلف جزءًا
من مقبرته، فيشاهد على الجدار الغربي لمقصورة «إبي» صورة والده «وب إم نفرت» وأمامه
ابنه يقبض بيده على ملف من البردي، ويشير الوالد بيده إلى نص الوصية المنقوشة على
الجدار وهذه ترجمتها: «سنة ضم الأرضين لحكم الملك في الشهر الثالث من فصل الشتاء
واليوم التاسع والعشرين. السمير الوحيد «وب» يقول: لقد أعطيت ابني الأكبر المرتل
«إبي» أوقاف حجرة الدفن الشمالية وكذلك مقصورة القرابين الشمالية، وهما في بيت
الأبدية في الجبانة، على أن يدفن هو فيها وتقدم له القرابين على الدوام هناك بصفته
مقربًا لي، وليس لأحد الحق في ادعائه لنفسه أخًا كان أو زوجة أو والدًا اللهم إلا
ابني الأكبر الكاهن المرتل «إبي».» وقد كتب أمام وجه «وب إم نفرت»: «عملت الوصية في
حضرته وهو على قيد الحياة.» وعلى يمين نقش الوصية صورة خمسة عشر رجلًا متربعين على
الأرض مولين وجوههم شطر الوصية، وقد كتب اسم كل منهم وصناعته في أعلى صورته. وكذلك
نقش بخط كبير فوق الشهود العبارة الآتية: «كتبت في حضرة شهود كثيرين ودونت بيده.»
ولا نزاع في أن هذه الوصية تعد من أعظم الوثائق التي وصلت إلينا من عهد الأسرة
الخامسة، بل في الدولة القديمة كلها من الوجهة القانونية والاجتماعية بالنسبة
للأسرة، فهي تدلنا على علاقة أفرادها بعضهم ببعض، إذ نجد أن صاحب الوصية يعين لابنه
الأكبر جزءًا من أملاكه الجنازية على أن يكون دخله وقفًا على شعائر «إبي» نفسه، وأن
يكون وحده المشرف على هذا الجزء لأنه «مقرب» من والده. وقد أبعد من الوقف إخوته
وزوجته وأولاده الذكور والإناث، ويفهم من ذلك أنه كان لهم الحق في إرث أملاكه
الأخرى، لأن تحديد هؤلاء الأشخاص بالذات يشعر بحقهم في هذا الوقف لولا وجود هذه
الوصية. يضاف إلى ذلك أن دفن الابن الأكبر في مقبرة خاصة به يوحي بأن نظام استقلال
الأسرة كان لا يزال قائمًا، وأن الصلة بين الابن الأكبر وبين والده من هذه الناحية
كونه «مقربًا له»، ومن المستغرب أن زوجة «وب إم نفرت» لم تدفن معه في مقبرة واحدة
على حين أنها مثلت معه في المقبرة بحجم واحد ووجد لها أربعة تماثيل من الحجر الجيري
الأبيض في سرداب زوجها. ويحتمل أن الملك والدها قد أهداها هذه التماثيل الجميلة
فوضعتها في قبر زوجها كما رسمت معه على جدران مقبرته. ومما يستوقف النظر في هذه
الوصية وجود شهود على صحة العقد، وهذا لم يكن متبعًا قط في نقوش الدولة القديمة على
ما نعلم، فهو دليل واضح على أن الوصية كانت لها أهمية بالنسبة إلى «إبي» الابن
الأكبر الذي كان يخاف منازعات أفراد أسرته، ولذلك قال في الوصية إنها: «كتبت وهو حي
(يمشي) على قدميه.»
الأسرة تكون وحدة شرعية بإشراف الابن الأكبر في عهد الأسرة السادسة
أما في عهد الأسرة السادسة فكانت الأسرة تؤلف وحدة شرعية إذ للابن الأكبر الحق
الشرعي في الإشراف على ثروة الأسرة، والزوجة خاضعة لسلطان زوجها وتخول لها صفتها
الزوجية حق الاشتراك في إقامة شعائر زوجها، مما لم يكن في مقدورها الحصول عليه في
عهد الأسرة الخامسة إلا بوصية. وحق اشتراكها في إقامة شعائر زوجها يجعلها زوجته
الخاضعة لسلطانه فتصيب جانبًا من أملاكه وإن كانت وصية «وب إم نفرت» تشير بأن
للمرأة الحق في ميراث زوجها بعد وفاته في غير ما أوصى به، ولكن من جهة أخرى نشاهد
في بعض الأحايين أن الزوج كان يمنح زوجته هبة كمؤخر صداق. وحدث مثل ذلك في عهد
الأسرة السادسة في عهد «بيبي الثاني» فذكر لنا «المقرب» «إدو»
١٨ ما يأتي: «إن الضيعة التي أعطيتها زوجتي المحبوبة «دسنك» تعتبر ملكها
الخاص وذلك لأني أحببتها كثيرًا.» والواقع أننا نعلم أن الضيعة التي أعطاها «إدو»
زوجته هي إقطاعية ملكية وقد أيدت ذلك «دسنك» نفسها بقولها: «إذا اغتصب أحد هذا
الصداق المؤجل سأرفع ضده دعوى، أمام الإله العظيم.» أي أمام محكمة المقربين التي
يرأسها الفرعون نفسه، وهي المحكمة التي يتقاضى فيها الأشراف في الخصومات التي لها
علاقة بعقارهم (انظر السلطة القضائية/محكمة المقربين). نخرج من كل ذلك بنتيجة أن
الأسرة قد أعيد تنظيمها على قاعدة إشراف الابن الأكبر شرعًا على أملاك والده، وأن
الزوج كان يستولي على كل حقوق المرأة ويجعلها خاضعة تمام الخضوع لسلطانه، وحقوق
الابن الأكبر لم تكن أمرًا ضروريًّا أو على الإطلاق، فهو إنما نصب وصيًا لتحصيل مال
الوقف ولم يكن في يده غير إدارة عقار والديه. وقد شاهدنا في أوقاف الأسرة أن كل فرع
منها كان يمثله الابن الأكبر، وهذه القاعدة قد جرت كذلك على عقار الأسرة الخاص.
وقامت «مس مري»
١٩ بفحص انتقال العقار في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة فوصلت إلى
النتائج الآتية: أن العقار الموروث يمكن وقفه ويمكن تجزئته في عهد الأسرة الخامسة،
إذ في الواقع أن الإرث كان يتغير من جيل إلى جيل، فكان يقسم أحيانًا وأحيانًا يزداد
بإضافة ضياع جديدة. هذا إلى أن العقار الموروث قد استمر يقسم بين الوارثين حتى في
فروع الأسرة، وكذلك كانت المرأة تأخذ حصتها في ميراث الأسرة، ويلاحظ أن الضياع
الكبيرة كانت تتزايد باستمرار منذ الأسرة الرابعة حتى نهاية الأسرة الخامسة.
ظهور الحظيات في الوقت الذي بدأت تكون المرأة فيه تحت سيطرة الرجل
ولقد كان من جراء تغيير مركز المرأة من الوجهة الشرعية أن حدث تغيير عظيم من
الوجهة الخلقية، وذلك أننا لم نجد قبل الأسرة الخامسة تمثيل حظيات على المصاطب،
ولكن منذ الأسرة الخامسة نجد أن الأشراف كان لهم حظيات وكانوا فخورين بهن، ومن
هؤلاء العظيم «تي»
٢٠ زوج الأميرة الملكية «نفر حتبس» فكانت له حظيات يرقصن له وقد استعرضهن
على جدران قبره، وسنعرف فيما بعد أن نساء «الحريم» كن يمثلن كثيرًا في عهد الأسرة
السادسة، ونجد الرقص الخليع في مقبرة الوزير «مرا»
٢١ في عهد الملك «تيتي» يحيط به شيء من أسرار الحريم، وكذلك في مقبرة
الكاهن «دوا كا»
٢٢ حيث نجد امرأة ترقص في وسط راقصين وراقصات عارية الجسد. ونشاهد كذلك
منظرًا في مقبرة «فتاح نفر سشم»
٢٣ مثلث فيه جنازة مارة أمام باب «الحريم» والنساء يولون ويعولون أثناء
مرورها قائلات: «يا أيها الأب الوديع يا سيد الجميع». وفي المتحف
البريطاني
٢٤ يوجد رسم من عهد الدولة القديمة تظهر فيه صورة امرأة متمنطقة بحزام
لتطمئن سيدها على عفافها. ولا شك في أنها كانت إحدى حظياته. وقد كان نساء الحريم
يمثلن بمفتاح يتبعه ثلاث نسوة فالحظيات كن مخدرات، كما جاء ذكره في «تحذيرات نبي»
إذ يقول: «إن النساء اللاتي لم يرين النور قط قد ظهرن في العالم»، ومن ذلك يتضح أن
الحظيات لم يظهرن إلا في الوقت الذي بدأت تكون فيه المرأة تحت سيطرة الرجل، فلم تعد
بعد سيدة البيت الشامخة بأنفها المستقلة بحقوقها، حقًّا إنها استمرت زوجة تتمتع
بسلطان عظيم، إذ كانت تشغل وظيفة كاهنة لزوجها أو للإله «حتحور» أو الإلهة «نيت»،
غير أنها لم تعد مساوية لزوجها ولو كانت أعرق منه نسبًا. وأصبحت المرأة سيدة البيت
بحكم القانون لا غير، وأصبح الرجل يعطف عليها بعد أن سلبها حقوقها، أكثر من قبل،
فكان «تي» يلقب زوجته «بالزوجة المشغوف بها زوجها».
الحظيات لم يؤلفن جزءا من الأسرة
أما نساء الحريم فلم يكن زوجات شرعيات، إذ لم نجد في القبور أسماء حظيات ولا
أسماء أولادهن قط. والحقيقة أنهن لم يؤلفن جزءًا من الأسرة، لأن أولادهن لم يكونوا
شرعيين ولا ينسبون إلا إلى أمهاتهم.
ومن كل ما تقدم يمكن معرفة تكوين طبقة أشراف لها امتيازات، فقد استولت على كل
الوظائف الدينية والإدارية في البلاد وجمعت في قبضتها ثروة مالية تتزايد على
التدريج، وكان من نتائجها أن أخذت تقضي على الاستقلال الفردي في الأسرة رويدًا
رويدًا، وحل محله توحيد أواصر الأسرة، بالتفافها حول الهبات الملكية التي أصبحت
عقاراتها موقوفة، وبقوة الروح في إقامة الشعائر، وبالمركز الهام الذي أصبح يشغله
الابن الأكبر، وبانتقاص حقوق الزوجة تدريجًا حتى ذهب استقلالها شرعًا. كل هذه
الأشياء قد تمت بسبب إعادة نظام تأليف الأسرة، غير أنه يجب أن نلاحظ أن تجمع الأسرة
الذي نراه في الوصايا وفي المؤسسات الجنازية وفي شجرة الأنساب التي تظهر في القبور،
كان من عمل العادة والعرف والتقاليد لا من عمل القانون.
(٣) تطور مركز الأسرة في عهد الأسرة السادسة
مركز الابن الأكبر في عهد الأسرة السادسة
تكلمنا فيما سبق عن كيفية بداية تطور الأسرة في عهد الأسرة الخامسة وتجمعها تحت سلطان
فرد واحد، وقد صار هذا التطور نحو الوحدة الأسرية يزداد على كر الأيام حتى وصل إلى قمة
الكمال في عهد الأسرة السادسة، وقد كانت بداية هذه الوحدة ما كسبه الابن الأكبر من حقوق
الإشراف على أوقاف والده الجنازية، وكذلك إدارة عقار والده الخاص بوصية. وعلى مر الأيام
أصبح هذا الإشراف حقًا مكتسبًا يسري على كل أملاك الأسرة، ومن جهة أخرى نجد تطورًا
رجعيًّا في حقوق الزوجة؛ فأصبحت مكانتها ثانوية ونقص استقلالها الشرعي تدريجًا حتى
فقدته نهائيًا، وأصبحت آخر الأمر تحت سلطة الزوج، وبعد مماته كانت تصير تحت سلطان الابن
الأكبر، أو تحت إدارة وصي يعينه الزوج قبل مماته بوصية. وقضية «سبك حتب» التي شرحناها
فيما سبق لا تدع مجالًا للشك في إمكان تعيين وصي أجنبي (ص ٥٩) إذ منها نعلم أن السلطة
الزوجية والسلطة الأبوية قد تطورتا، فقد صارت أملاك الأسرة واحدة لا تتجزأ سواء أكانت
في يد «سبك حتب» الوصي أم في يد الابن الأكبر «تاو». وهذه الوحدة كانت تئول بحكم الشرع
إلى الابن الأكبر، ولكن كان للوالد الحق في أن ينصب وصيًّا كما يختار هو. ويثبت هذا
الرأي نقوش «مري عا» أمير المقاطعة العاشرة من الوجه القبلي،
٢٥ إذ يعلن ابنه «أنه صاحب كل أملاكه ورئيس أولاده». على أنه من المحقق أن كل
ولد كان يحتفظ لنفسه بحقه بعد ممات أخيه الأكبر. ولا شك في أن الابن الأكبر أو الوصي
الذي كان يعينه المتوفى، لم يكن مالكًا حقيقيًّا لعقار الأب، بل كان في الواقع الأمين
على أملاك الأسرة من ذكور وإناث، وهذا يؤكد لنا ما قاله حرخوف في هذا الصدد (انظر
الأسرة في عهد الدولة القديمة/نظام الفردية في عهد الأسرتين الثالثة والرابعة/حق
الوراثة)، أما نوع الأملاك التي كان يدير شئونها الابن الأكبر من عقار الأسرة فيمكن
استنتاجها من نقوش «إبي» أمير طينة، إذ يقص علينا إنشاء مؤسسة جنازية لإقامة شعائره
الخاصة فيقول: «إني أسستها من قرى ضيعتي ومن الهبة الجنازية التي منحني إياها الملك،
ولا يدخل في ذلك أملاك والدي.» ومن ذلك نفهم أنه قد أقام مؤسسة من ماله الخاص وترك
أملاك والده، لأنه لم يكن له الحق في التصرف فيها، إذ كانت ملكًا لأفراد الأسرة كلها.
وعلى أية حال سنجد مثل هذا القول يتكرر في نقوش الأسرة السادسة، أي أن كل واحد أقام
شعائره من ماله الخاص، يضاف إلى ذلك أنه يمكننا أن نستنتج من قضية «سبك حتب» أن الزوج
أصبح له سلطان شرعي على زوجته، إذ مجرد تعيين وصي عليها وعلى أولادها لإدارة أملاكه
يفهم منه أنه كان المسيطر على أملاكها مدة حياته، وبذلك تكون قد فقدت استقلالها الشرعي،
وكذلك فقدت الرقابة التي كانت لها على أولادها في حداثة أسنانهم، وانتقلت هذه الرقابة
إلى الابن الأكبر أو الوصي، ويؤيد هذه الاستنتاجات خطاب كتبته أرملة تدعى «نفر سفخي»
لزوجها المتوفى. ومن هذا الخطاب نعلم أن «نفر سفخي» كانت لها ابنة أقيم عليها وصي، وقد
رفض الأخير أن يعطي الأرملة مالًا لتربية ابنتها مما تستحقه من دخلها. ولذلك كتبت
الأرملة لزوجها المتوفى خطابًا تضرع إليه أن يتدخل في أمرها في عالم الآخرة حتى تنال
حقها.
٢٦ ومن هذا الخطاب نعرف أن الأم لم يكن لها حق الوصاية على ابنتها، ولم يكن
لديها المال لترفع به دعوى ضد هذا الوصي، ولذلك لجأت إلى الابتهال لزوجها في عالم
الآخرة ليكون لها شفيعًا أمام القضاء الإلهي.
الأسباب التي دعت إلى تماسك الأسرة
ولا شك أن التطور التشريعي كان السبب الوحيد في تماسك أعضاء الأسرة وتكوين وحدة منها،
بل إن عدم استتباب الأمن في هذا العصر والحاجة لحماية الأرامل واليتامى كان من العوامل
التي ساعدت على تقوية أواصر الأسرة وتماسك أفرادها وتضامنهم أمام أي خطر يهددهم.
والواقع أن مصر أخذت تفكك وحدتها في عهد الأسرة السادسة، إذ بدأت إدارة البلاد تنحل
وتلاشت سلطة الملك وأخذت العقارات تتجمع بازدياد مطرد في أيدي طائفة خاصة، فقد جمع
الأشراف في أيديهم الغنى والقوة، وأصبح حكام المقاطعات الأقدمون أمراء وارثين كل منهم
يفخر في مقاطعته بأنه لم يعتد على الملاك وأنه حامي الضعفاء، فنجد مثلًا «كارابيبي نفر»
أمير إدفو في أوائل حكم الأسرة السادسة يفاخر بأنه خلص الفقير من يد من هو أكثر منه
ثراء،
٢٧ وكذلك يقول «خنوكا» أمير المقاطعة الثانية عشرة من الوجه القبلي: «إني لم
أعتد قط على أملاك أي فرد … ولم يوجد قط في المقاطعة رجل يخاف آخر لأنه أغنى
منه.»
٢٨
والواقع أن مثل هذا الإعلان لا يدل إلا على عدم الاستقرار وبخاصة من جانب الضعفاء
كالأرامل والفقراء واليتامى، ولذلك كانت الوصاية على المرأة في مثل هذه الأحوال
المضطربة وسيلة لحمايتها.
نظام الأسرة الشرعي في أواخر الأسرة السادسة
ازدياد نفوذ الأب
لقد كان للتطورات التي ذكرناها فيما سلف أثر في تغيير مركز الأسرة بالنسبة
للمجتمع المصري، إذ أصبحت وحدة اجتماعية تحت سيطرة الأب، وكذلك صارت المرأة بعد
زواجها تحت السلطة المطلقة لزوجها، وبعد وفاة الزوج كانت تحت سلطان الابن الأكبر أو
وصي يعينه الزوج. وبذلك لا يمكن المرأة المتزوجة أن تقف أمام القضاء في أي موضوع
إلا بإذن من زوجها أو الوصي عليها، إذا كان الزوج متوفى، كما أن سلطان الأب على
أولاده قد ازداد فهو الذي يتولى أمور أملاكهم ويديرها ويتصرف فيها، ومن حقه أن يعين
عليهم وصيًّا. أما إذا لم يترك وصية فالابن الأكبر بحكم القانون والعرف هو الوصي
الشرعي عليهم وعلى أملاكهم، يدير شئونها لهم دون أن يتصرف فيها لحسابه
الخاص.
تفضيل الذكر على الأنثى
وإن مركز الأولاد الآخرين قد يغير من أساسه، فقد كانوا في عهد الأسرة الثالثة
متساوين شرعًا، ولكن مراكزهم الشرعية في الأسرة السادسة كانت متفاوتة؛ فإن الذكور
كانوا متفوقين على الإناث، إذ كان الذكر يعتبر الأكبر بالنسبة لأخته مهما كانت هي
أكبر منه سنًّا، ولذلك لم نجد قط أن البنت قامت بدور الابن الأكبر، هذا فضلًا عن أن
الأخير كان هو الفرد الوحيد الذي يمثل الأسرة، فكان يعد رئيس إخوته الذكور والإناث
كما أعلن ذلك الأمي «مري عا».
علاقة الأسرة بالابن الأكبر
على أن حقوق الابن الأكبر كانت لا تزال مقيدة، إذ يقضي الواجب عليه أن يسهر على
مصالح إخوته حتى يكفل لهم أمرهم، وقد كان يفاخر بكونه رب الأسرة ويباهي بالحب الذي
تكنه له أمه وإخوته، فيقول «كارابيبي نفر» أمير مقاطعة إدفو: «إني أنا المحبوب من
والده والممدوح من والدته، والذي يحبه إخوته.»
٢٩ على أن السلطة التي كانت في يد الابن الأكبر على أمه وإخوته لا تنفصم
عن الحقوق الواجبة لهم عليه. وفي ذلك يقول الوزير «نفر سشم رع»: «كنت أرهب والدي
وكنت مؤدبًا مع والدتي وأطعمت
٣٠ أولادهما.» وكذلك يخبرنا «سنف عنخ»
٣١ بأنه أقام مقبرة لإخوته فقال: «لقد بنيت هذا القبر لوالدي وإخوتي.»
وتدل ظواهر الأحوال على أن الأسرة كانت متجمعة تحت لواء واحد، وهو لواء الابن
الأكبر الذي كان يعد المحيي لذكرى والده، فقد أعلن «زاو»
٣٢ أمير مقاطعتي طينة و«زوف» متكلمًا عن والده بأنه هو الابن الأكبر
المخلوق من صلبه، وعلى هذا فالرابطة الأسرية لم تكن بين الأحياء فحسب بل كانت تمتد
إلى الأجيال التي خلت. ولا غرابة في ذلك فإن هذا الجيل قد ورث الشرف والامتيازات
والثروة العظيمة عن أجداده. وقد ظهرت الأسرة وحدة قائمة بذاتها، وأعضاؤها هم
الممثلون لهذه الوحدة، وهذا ما يفسر وجود فروع أنساب مفصلة في النقوش التي على
جدران المقابر منذ الأسرة الخامسة، وعلى الأخص في عهد الأسرة السادسة. ويلاحظ أنه
في عهد الأسرة الثالثة كان يكتب على جدران قبر الميت تاريخ حياته فقط، ولكن في عهد
الأسرة السادسة كان يدون نسبه قبل أن يدون ترجمة نفسه بأن يكتب: «إنه المحيي لذكرى
أسرته ونسلها، والأمين على عقارها والكاهن الذي يقيم شعائرها.»
أول ظهور سلسلة النسب وأسبابها
ومن الأمور التي تسترعي النظر أن أول ظهور سلسلة نسب كانت في عهد الأسرة الرابعة،
ويرجع السبب في ذلك إلى تأليف طبقة أشراف جديدة. حقًّا أن أعضاء الأسرة المالكة
كانوا عند ذكر أنسابهم يفخرون بنسبهم العظيم. وفي الجملة فإن نسب الأسرة الرابعة
المالكة معلوم لدينا، ولكن عدا الأسرة الملكية كانت الأنساب قليلة ولا يرجع أقدمها
إلى أكثر من عهد الملك «سنفرو»، وتنحصر هذه الأنساب في بعض الأسر التي تحمل لقب
«المعروف لدى الملك»، ولا يرجع تاريخ أقدمها إلى أكثر من ثلاثة أجيال.
وفي عهد الأسرة الخامسة أصبحت طبقة الأشراف وراثية وأخذت إيرادات الأسرة تتكون،
يضاف إلى ذلك أن الأشراف بدءوا يعرفون أنسابهم التي من أجلها أصبحوا أشرافًا وصار
لهم سلطان ومال عظيمان.
لقب (المقرب) في الأسرة السادسة
وقد وجدنا أن بعض الأسر يرجع نسبها إلى أربعة أجيال من أسر الأشراف الذين كان
منهم الوزراء أو الذين كانوا يحملون لقب «المعروف لدى الملك». وفي عهد الأسرة
السادسة كان لقب «المقرب» في الأسرة هو الذي يجمع أعضاءها حول رئيسها الذي كان يمثل
في أكبر فروع الأسرة. ومنذ ذلك العهد لم يذكر في سلسلة الأنساب الفرع الأصلي فقط بل
كذلك الفروع الثانوية.
«الوراثة»
وفي عهد الأسرة السادسة كانت الملكية قد تطورت بدورها تطورًا عظيمًا، فبعد أن
كانت فردية مستقلة أصبحت أسرية. حقًّا إن الابن الأكبر كان هو الذي يدير شئون أملاك
الأسرة، غير أنه لم يكن في مقدوره أن يتصرف فيها لحسابه، إذ لم يكن في الواقع إلا
أمينًا عليها، وبهذه الكيفية قد وجد تمييز ظاهر بين العقارات لم يكن معروفًا في عهد
الأسرتين الثالثة والرابعة. وقد كانت الثروة التي يرثها الابن الأكبر تتألف من
أوقاف الأسرة ومن العقار الذي تركه له والده، غير أنه لم يكن إلا أمينًا عليها كما
ذكرنا. وكان له الحق هو وإخوته الذكور في أن يكون لكل عقار خاص جديد يؤلف ملكًا
منفصلًا عن أملاك الأسرة يتصرف فيه كما يشاء.
سبب تعدد الابن الأكبر على المقبرة
والظاهر أن أملاك الأسرة الخارجة عن الوقف كانت قابلة للتجزئة ونفصل هنا بعض
التفصيل نظام التوريث لهذا العقار: ذكرنا أن وراثة إقامة الشعائر كانت تنتقل لابن
المتوفى الأكبر ثم لأخيه الذي يليه سنًّا قبل أن تعود لابنه. والواقع أننا نلحظ أنه
قد ذكر على مصاطب عدة عدد من أولاد المتوفى يلقب كل منهم الابن الأكبر، وأن أولادًا
مختلفين يلقب الواحد منهم بالابن الأكبر على نقوش مصطبة الوالد، ولا بد أن نستخلص
من ذلك أنه عند وفاة الابن الأكبر كان ينتقل الميراث للابن الأكبر الذي بعده، وبهذه
الكيفية يمكن أن يقوم أولاد كثيرون بدور الابن الأكبر.
تقسيم أملاك الأسرة بين فروعها
وعندما يكون الأمر خاصًّا بإقامة الشعائر فإن الإرث ينقل للابن الأكبر من فرع
الأسرة الأكبر. وعلى أنه لو كان هذا النظام يسري على عقار الأسرة الخاص فإن أملاكها
كانت تبقى دائمًا موحدة، ولكن البحوث التي قامت بها «مس مري» حتى نهاية الأسرة
الخامسة تدل على أن أملاك الأسرة لم تكن وحدة، بل كانت تقسم من جيل إلى جيل بين
فروع الأسرة المختلفة عندما يختفي آخر أخ. والظاهر أن هذا النظام بقي معمولًا به
حتى الأسرة السادسة. ولكن على الرغم من ذلك نقرر هنا أن عقار الوالد كان يقسم بين
الأخوة، ولم تدخل فيه الأوقاف كما تدل على ذلك العبارات التي جاءت في نقوش كل من
«حرخوف» و«بيبي نخت» وغيرهما (انظر الأسرة في عهد الدولة القديمة/نظام الفردية في
عهد الأسرتين الثالثة والرابعة/حق الوراثة). ومن ظاهر هذه النقوش نرى أن الذكور
كانوا يقتسمون أملاك والدهم مع إغفال حقوق البنات.
البنات كان لهن حق الورث في العقار الموقوف
والظاهر أن الوحدة الأسرية كانت لا توجد إلا في مدة حياة الأخوة الذكور والإناث
ثم تختفي بعدهم؛ إذ على أثر وفاة آخر ابن كان العقار الذي يشرف عليه يقسم إلى فروع
حسب عدد الأخوة الذكور ومن المحتمل الإناث أيضًا،
٣٣ أما الإناث فيغلب على الظن أنه كان لهن الحق كالذكور في أن يكن أعضاء
في الوقف مثل الذكور، وعلى ذلك كن يأخذن نصيبًا من إيراده. ولا أدل على ذلك من نقوش
مصطبة «نكعنخ» التي كان فيها تمثال أقامته ابنة المتوفى لوالدها وهي (المقربة)
«إياخ نبت» وابنة المقرب «ني عنخ سسي». وكذلك نجد ابنة ثانية للعظيم «نكعنخ» تسمى
«رع إنت» كانت ضمن أعضاء جماعتي الأسرة اللتين ألفهما هذا العظيم، إحداهما لإقامة
شعائر الإلهة «حتحور» والثانية لإقامة شعائر جده «خنوكا».
البنت ترث الأملاك غير الموقوفة ولكن يدير شؤنها زوجها أو
ابنها
أما فيما يختص بإرث البنت في عقار والدها غير الموقوف، فمعلوماتنا عنه ضئيلة ولا
يمكن أن نستنتج منها شيئًا قاطعًا، غير أنه بعد الدرس الدقيق قد وصلنا إلى أن
المرأة يمكنها أن ترث إقطاع والدها عند اختفاء نسل الذكور، على أنها في الواقع كانت
لا تدير هذا الإقطاع باسمها، بل كان يتولى ذلك زوجها بما له من السلطة عليها. وإذا
كانت أرملة فإن ابنها الأكبر يدير شئونها على أثر بلوغه السن القانونية إذا كان
قاصرًا.
وسنكتفي هنا لقلة المصادر بأن نتصور أن ميراث المرأة في عقار والدها كان يجري على
حسب القواعد المتبعة فيما يختص بالعقار الموقوف. ويظهر أن المرأة لم تكن محرومة
تمام الحرمان من إرث والدها، ولم يكن الذكور وحدهم هم الذين كانوا يتمتعون
بذلك.
الأملاك الخاصة لا تدخل في عقار الأسرة
وقد كان العقار مقسمًا إلى أملاك الأسرة والأملاك الخاصة، والأول كان ملك الأسرة
الخاص، وكان الثاني ملكًا خاصًّا لمن اشتراه، لا يدخل في عقار الأسرة. وقد أعلن
«إبي»
٣٤ في صراحة أنه ترك كل الأملاك الموروثة من والده سليمة، ولكن من جهة
أخرى تصرف بكامل حريته في أملاكه الخاصة وتقدر بنحو ٢٠٣ أرورا منحها إياه الملك
ليصبح من أثرياء الناس.
إرث البنت في العقار المنقول
أما البنت فلم يكن هناك من الأسباب ما يدعو لحرمانها عقار والديها، على أنه كان
هناك عقار منقول غير الأرض عند الأسرة الشريفة، ولكن مما يؤسف له أن معلوماتنا عنه
محدودة، وتنحصر كلها في الرسوم التي نجدها ممثلة في المقابر وبخاصة المجوهرات
والذهب، وقد كان لها شأن عظيم في حياة البلاد الاقتصادية، فمن ذلك أننا نشاهد في
الضياع العظيمة الممثلة على قبور العظماء صناعًا لطرق الذهب وسبكه، وهؤلاء في
الواقع لا يعلمون إلا لأغراض جنازية، هذا إلى أن الملك كان يوزع على كبار رجاله
عطاءهم من الذهب، وقد بقيت هذه العادة شائعة مدة الأسرة السادسة، فيقول المهندس
المعماري «مري رع فتاح عنخ» عند انتهائه من أي عمل كلفه إياه الملك «بيبي الثاني»
كان يعطيه ذهب الحياة «نبو عنخ»، ويقصد من هذا مكافأة من الذهب، ولا نزاع في أن
الذهب كان يؤلف جزءًا من عقار الأسرة، وهذا هو السبب الذي من أجله نشاهد طائفة طيبة
من الحلي كالقلائد والأسورة من الذهب مصفوفة كأنما رصت على رف قد رسمت في كثير من
مقابر هذا العصر.
وقد لاحظنا في المقابر التي كشف عنها حديثًا في منطقة الجيزة أن كلًّا من المرأة
والرجل كان يزين جثته كالأحياء بحلي من الذهب والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة،
ولا بد من أن المرأة كانت ترث هذا المتاع من والديها، ويغلب على الظن أن معظم
العقار المنقول كان يئول إلى المرأة، إذ دل الكشف على أن الحلى الثمينة من الذهب
والأحجار الكريمة كانت توجد عادة مع الإناث أكثر من وجودها مع الرجال.
٣٥ ومما يلفت النظر ما نلاحظه في رسوم القبور من أن كبرى بنات المتوفى
كانت لها مكانة خاصة منذ الأسرة الرابعة، فنشاهد أن «مر إيب» ابن الملك خوفو في
مقبرته مع ابنه الأكبر، ولكن في الوقت نفسه وجدناه مرسومًا مع ابنته الكبرى وهي
قابضة بيدها على عصاه. أما الابن الأكبر فكان في يده قرطاس من البردي،
٣٦ وهذا هو المثل الوحيد الذي شاهدنا البنت تمثل في موقف من مواقف الابن
الأكبر، ومن المحتمل إذن أن والدها أراد أن تكون هي وريثة إذا قطع نسل الذكور، على
أننا من جهة أخرى نشاهد كثيرًا في نقوش المصاطب البنت ممثلة وهي قابضة على ساق
والدتها. وهذا المنظر يرى في مقابر الأسر الرابعة والخامسة والسادسة.
٣٧
مكانة البنت الكبرى
ولا شك في أن تمثيل البنت بهذه الكيفية ينبئ عن أنها ستقوم مقام أمها، وربما كان
في هذا العصر تشريع للبنت الكبرى يشبه تشريع الابن الأكبر. والمنظر الذي نشاهده
ممثلًا في مقبرة «هنقو» حاكم مقاطعة «زوف» يعزز هذا القول؛ إذ نجد فيه زوجته «خنتت
كا» جالسة أمام مائدة قربان وبنتها تقترب منها مقدمة القرابين، مما يشعر بأن البنت
تقوم بدور خاص في إقامة شعائر والدتها، وربما كان أوضح مثال لدينا في هذا الموضوع
ما نشاهده في مقبرة رئيس كهنة الروح «فيفي».
٣٨ فنجد ممثلًا على الباب الوهمي كلًّا من «فيفي» وزوجته «حتب حرس» أمام
مائدة قربان، وقد رسم خلف الأب ابنه الأكبر ورسم خلف الأم بنتها الكبرى، وكل منهما
يقدم قربانًا للأب والأم، على التوالي، ومما يلاحظ في هذا الرسم أن كل زوج قد رسم
بحجم واحد، فالابن والبنت رسما متساويين والزوج والزوجة رسما بحجم واحد، فإذا كانت
البنت تقوم بدور خاص في إقامة شعائر والدتها فلا بد من أنها كانت تستولي على جزء
معين من عقار الأسرة الموقوف لإقامة الشعائر الجنازية.
ومهما يكن من شيء فإن نظام الوراثة الفردي الذي لاحظنا وجوده حتى عهد الأسرة
الخامسة، وهو الذي يخول لكل الأولاد في الأسرة أن يقسموا فيما بينهم أملاك آبائهم،
قد حل محله نظام جديد ينطبق في معناه على نظام وراثة الملك.
تأثير العقائد الدينية في تكوين طبقة الأشراف ووحدتها
والواقع أن تكوين طبقة من الأشراف، كان أفراد كل أسرة منها ملتفين حول الأوقاف
الجنازية الخاصة بها، قد جعل وراثة الأملاك الخاصة بإقامة الشعائر ضمن أملاك الأسرة
تدريجًا. وقد طبق هذا النظام على عقار الوالدين الخاص. ويلاحظ هنا أنه كلما انمحى
نظام الفردية، وتدهورت السلطة الملكية، ازداد نفوذ المعتقدات الجنازية ازديادًا
مطردًا، إذ إن أصل نشأة طبقة المقربين يرجع إلى العقائد الدينية، وهي المنبع الأصلي
الذي انبعثت منه فكرة الإقطاع والضياع الجنازية التي كان من جرائها إعادة تجمع
أفراد الأسرة بالتفافها حول هذه الضياع الجنازية الموقوفة. وأخيرًا نجد أن قاعدة
الوارثة التي كانت متبعة في انتقال الالتزامات الكهنوتية قد أوجدت نظامًا قانونيًّا
جديدًا للوراثة حل محل نظام الحقوق القديم. ويلاحظ أنه في الوقت الذي كان ينمحي فيه
نظام الفردية، وقد كان أصلًا للحقوق الشخصية، ويتلاشى فيه تجمع السلطة الملكية وهي
الأساس للحقوق العامة قبل الإصلاح الاستبدادي الذي كان في عهد الأسرة الرابعة، أصبح
كذلك يختفي تدريجًا ذلك النظام الدنيوي الذي يسير على نهجه كل من الحكومة
والأسرة.
الأولاد غير الشرعيين
أولاد الحظيات لا يؤلفون جزءا من الأسرة
لم تذكر لنا النقوش مقابر الدولة القديمة أولادًا غير شرعيين، ولكن على الرغم من
ذلك نظن أن هذا العنصر من الأولاد كان ذائعًا؛ فمنذ الأسرة الخامسة نجد أنه كان
يمثل على مقابر بعض العظماء طائفة من النساء لم يذكرن بأسمائهن قط إلا مرة واحدة في
أواخر الأسرة السادسة، ومع ذلك كن يعتبرن في هذه الحالة نساء شرعيات كما سنوضح ذلك
في حينه، أما النساء الحظيات فإنهن لسن زوجات ولا يؤلفن جزءًا من الأسرة، ويجب أن
نعتبرهن من طبقة الراقصات والقيان اللاتي يتخذهن أصحاب اليسار خليلات، ولم نجد لهن
أولادًا ممثلين على جدران المقابر، مما يدل على أن الآباء كانوا ينكرونهم، وبالرغم
من صمت النقوش عن هذا الموضوع، فإنه في الاستطاعة أن نصل إلى مركز الطفل غير الشرعي
منذ أواخر الأسرة السادسة. ويرجع الفضل في ذلك إلى خطاب عثر عليه في جبانة، كتب على
قطعة من القماش. وقد أرادت كاتبته «إرتي» أن يخاطب حبيبها «س عنخ إن فتاح» لكي تشرح
له المأساة التي حاقت بطفلهما المولود سفاحًا.
الابن غير الشرعي لا يرث وإن اعترف به والده
والواقع أن متن الخطاب مبهم وكل ما يمكن استخلاصه ما يأتي: كانت الخادمة «إرتي»
حظية لسيدها «س عنخ إن فتاح» وقد رزقت منه ولدًا. وأوصى «س عنخ إن فتاح» وهو على
سرير الموت أخاه «بحستي» أن يحافظ على أملاكه حتى يبلغ ابنه سن الرشد ويسلمها إياه.
ولكن الأخ نقض عهده مع أخيه وانتهى الأمر بأن قسمت أملاك المتوفى بين ورثته
الشرعيين. ولما لم يكن للحظية أية وسيلة لجأت إلى كتابة خطاب لمحبوبها والد ابنها
تشكو فيه سوء معاملة أسرته لها ولابنها لعله يساعدها في الآخرة فيرد حق ابنها إليه.
وقد دل فحص هذه الوثيقة على أن الأولاد الذين يولدون عن طريق غير شرعي ليس لهم أي
حق في وراثة أملاك والدهم، وأن الاعتراف بابن غير شرعي وجعله وارثًا والده بوصية أو
بشرط، كان على ما يظهر أمرًا بعيدًا. والسبب في ذلك هو عدم إمكان تجزئة عقار الأسرة
في حالة وجود ورثة شرعيين، وهذا يدل على أن عمل الوصية كان مقيدًا. وقد دلت هذه
الوثيقة على أن رابطة الأسرة كانت عظيمة إلى حد أن جعلت الأخوة وأولاد الأخ وارثين
عندما تسمح بذلك أحوال الأسرة.
٣٩
إقامة شعائر الأسرة
كان من جراء النظام الجديد الذي ظهرت به الأسرة في عهد الأسرة السادسة أن حدث
تطور في إقامة الشعائر الجنازية، ففي عهد الأسرة الخامسة كان قوام أداء الشعائر
الجنازية الأوقاف التي كان يهبها الملك الأشراف، فمثلًا كان «ثنتي»
٤٠ يتصرف في أوقاف والدته «بيبي» الجنازية لإقامة شعائره هو، وقد كان نصيب
كليهما مستقلًّا، ولكن الأوقاف المحبوسة على إقامة شعائرها معًا كانت واحدة، فكانا
بذلك مرتبطين برابطة لا انفصام لها، ولكن من جهة أخرى نشاهد أن زوجة «ثنتي» كان لها
شعائر خاصة منفصلة عن زوجها.
وفي بداية الأسرة الخامسة نجد أن «مرسو عنخ»
٤١ قد أقام بابًا وهميًّا لوالدته في قبره، وكذلك نرى أولاده الثلاثة وعلى
رأسهم ابنه الأكبر يقدمون له القربان، وتدل النقوش على أن شعائر الزوج والزوجة كانت
في أكثر الأحوال موحدة، إذ نشاهد كثيرًا تمثيل الزوج والزوجة على جدران المقبرة
جالسين أمام مائدة قربان واحدة. وهذا المنظر قد شوهد كثيرًا منذ عهد الملك «خفرع»
ولكن في الغالب كانت الزوجة تفصل إقامة شعائرها عن زوجها، فمثلًا نجد أن زوجة
(المعروف لدى الملك) «أخت حتب»،
٤٢ على الرغم من أن لها بابًا وهميًّا في مقبرة زوجها قد كان لها قربانها
الخاص.
إقامة الشعائر بقيت رغم الدفن في مقبرة واحدة
والواقع أنه في هذه الفترة قد أخذت مقابر الأسرات تزداد ازديادًا مستمرًّا. ولكن
يلاحظ أنه كان لكل عضو من أعضاء الأسرة في القبر باب وهمي ومائدة قربان في الأغلب
الأعم. ونلفت النظر هنا إلى أن دفن أفراد الأسرة في مقبرة واحدة لم يحدث إلا من
جيلين، ومن ذلك يمكننا أن نستنتج أن إقامة الشعائر قد بقيت فردية في جملتها، وإن
كنا أحيانًا نرى أن أعضاء الأسرة المختلفين يتحدون جميعًا في إقامة شعائرهم، وذلك
إما بإقامة قبر واحد أو بتجمعهم حول وقف واحد مشترك.
تفرع الأسرة
وكان لزامًا على الوارث أن يقيم شعائر المتوفى بعد استيلائه على أملاكه ويبني
قبره. على أننا لم نجد حتى الآن أثرًا لإقامة شعائر الأسرة بصفتها وحدة تقيم شعائر
الجد الأكبر لها. وهذا ينطبق تمامًا على نظام الأسرة في هذا العهد، إذ إنها رغم
تملكها عقارًا أسريًّا لا يتجزأ وجمعها برابطة قوية تتمثل في سلطة الوالد ثم الابن
الأكبر من بعده، فقد لاحظنا أن الأسرة لا تصطبغ بصبغة رابطة الأجداد، بل كانت في كل
جيل تنقسم إلى فروع بقدر ما فيها من الأولاد الذكور، وعلى ذلك نجد أن حقوق الأسرة
وإقامة الشعائر يسيران حسب تطور واحد.
ونضيف إلى ذلك أن إقامة شعائر الأسرة قد لعب دورًا عامًّا في التقدم الاجتماعي
الذي قامت به طبقة الأشراف بما حصلوا عليه من السيادة في البلاد. وهذه السيادة تشبه
تمام الشبه المكانة التي أخذتها إقامة الشعائر الملكية، وما نتج عنها من تغيير في
الحقوق الأصلية والمجتمع في مصر منذ الأسرة الرابعة إلى السادسة. وتفسير ذلك كما
ذكرنا آنفًا أنه قد نشأ في عهد الأسرة الخامسة مقربون للأسرة ومقربون للأشراف،
فالمقربون للأسرة هم الذين كانوا يقيمون شعائر المتوفى من أرملته وأولاده وكانوا في
مقابل ذلك يستغلون ضيعته الموقوفة على الشعائر.
«مقربو» الأشراف
أما المقربون للأشراف فكانوا يعملون على الأساس نفسه، فمثلًا في الضياع الجنازية
الكبيرة مثل ضياع «تي» أو «فتاح حتب» كان كتاب الحسابات للضياع يشتركون في إدارة
إقامة الشعائر، وذلك بتقديم القربان الذي كان الأساس لأداء الشعائر. وكانوا نظير
هذا يحملون لقب المقربين لأسيادهم مدة حياتهم، ولا نزاع في أنهم كانوا يحملون هذا
اللقب بعد موتهم لتقام شعائرهم من دخل ضياع سيدهم.
ومن كل ذلك نرى أن تماسك الأسرة والنظام الاجتماعي الذي حدث في الضياع العظيمة
كان يدور حول إقامة شعائر المتوفى.
تمثيل الأسرة على جدران المقابر في عهد الأسرة السادسة
كبرى البنات تقدم لوالدتها القربان
إن النظام الذي ظهر به أفراد الأسرة على جدران المقابر في عهد الأسرة السادسة يدل
على أنه قد حدث فيها تطور يساير مبادئ سلطة الزوج والأب والابن الأكبر من بعده ثم
إخوته الذكور بعد وفاته، فنجد أن إقامة شعائر المرأة تشترك مع إقامة شعائر زوجها،
فتكون شطرًا آخر منها، أو تكون وحدة معها. مثال ذلك أن «سش سشات» كبرى بنات الملك
وزوجة «نفر سشم فتاح» كان لها مائدة قربان صغيرة موضوعة تحت مائدة قربان زوجها
الكبيرة الحجم، وقد جلست أمام مائدتها متربعة على الأرض مطوقة بذراعها ساق زوجها
كأنها ابنته الأصلية، وعلى الرغم من أنها البنت البكر للملك فإنا نشاهد أن إقامة
شعائرها قد اندمجت في شعائر زوجها بصفة ثانوية.
٤٣ وعلى العكس من ذلك نرى أن ثلاث أميرات لمقاطعة «زوف» كانت كل منهن
ممثلة وهي جالسة على مائدة قربان واحدة مع زوجها مرسومة بحجمه،
٤٤ والظاهر أن كبرى البنات كانت تقوم بدور في إقامة شعائر أمها، إذ نجد أن
كبرى بنات «خنت كا» قد مثلت حاملة القربان لوالدتها التي مثلت جالسة وحدها أمام
المائدة. وهذا الدور بذاته قد لعبته كبرى البنات في عهد الأسرة الخامسة.
على أننا نجد نساء لم يمثلن في قبور أزواجهن وعلى الأخص في عهد الفرعون «بيبي
الأول» كزوج الوزير «عنخ ما حور».
٤٥ وربما كان السبب في ذلك أنها بنت منسوبة إلى الأسرة المالكة وأن إقامة
شعائرها من أجل ذلك تابعة لإقامة شعائر الملك.
مركز الابن الأكبر في مناظر تمثيل الأسرة يشعر بسيطرته على أمه
الأرملة
وكان رئيس الأسرة في عهد الأسرة السادسة هو الأب، وبعد وفاته يحل محله الابن
الأكبر، وهذا يفسر لنا السبب في تمثيل الابن الأكبر على مقربة من أبيه، بطريقة
تميزه بجلاء عن إخوته الذكور وأخوته الإناث؛ فيشاهد قابضًا على عصا والده
٤٦ أو يتبعه وهو ممسك بيده، أو يرسم بجانبه بهيئة تشعر بالاحترام، وفي
الغالب يمثل واقفًا بين عصا والده وساقه أو على رأس إخوته الذكور والإناث في وضع
يظهره كأنه أرفع منهم ومن أمه ذاتها مقامًا.
٤٧ ويصبح الابن الأكبر على أثر وفاة والده رب الأسرة. وقد ذكرنا أن أم «رع
ور» قد مثلت واقفة أمامه في هيئة تشعر بالاحترام وهو جالس، ولا شك في أن خضوع الأم
لسيادة ابنها الأكبر كانت من أهم التطورات التي تشاهد في تماسك الأسرة ووحدتها وقد
أخذت هذه الظاهرة تتجلى بارزة في عهد الأسرة السادسة.
الزوجة تمثل بحجم زوجها في غير المناظر الرسمية
والواقع أنه منذ الأسرة السادسة حتى نهاية الأسرة الثانية عشرة كانت الأم ترسم
غالبًا جالسة على الأرض عند قدمي ابنها.
٤٨ وعلى الرغم من أن الأم كانت تحفظ لنفسها كل سلطان الأم، فإنها كانت من
الوجهة الشرعية خاضعة لسلطان الزوج أو بعبارة أخرى كانت على قدم المساواة مع
أولادها، اللهم إلا الابن الأكبر الذي كان يمتاز في الحقوق، لأنها بعد وفاة زوجها
ستكون تحت إشرافه. وأظهر صورة تمثل لنا ذلك هي صورة أسرة أمير مقاطعتي «زوف»
و«تاور»،
٤٩ ويشاهد في مقبرة الوزير «مري»
٥٠ وفي مقبرة «فتاح شبسس» أن الزوجة ممثلة بحجم صغير جدًّا راكعة عند قدمي
زوجها، رغم أنهما أميرتان من دم ملكي، ومثلهما غيرهما من نساء عظماء القوم.
والقاعدة العامة هي أن الزوجة كانت تمثل صغيرة بالنسبة لزوجها في كل أوضاعها. ولكن
أحيانًا نشاهدها ممثلة في حجم الزوج. وإذا فحصنا الأوضاع التي تكون فيها الزوجة
مماثلة للزوج في حجمه نلاحظ أن ذلك لا يكون إلا في المناظر الخاصة، أما في معظم
المواقف الرسمية فإن صورة الزوجة تصغر وتتضاءل، بجانب صورة زوجها. على أننا لم
نصادف إلا أمثلة قليلة رسمت فيها بحجم زوجها في المواقف الرسمية؛ فزوجة أمير إدفو
«كارا بيبي نفر» قد رسمت بجوار زوجها بحجمه تمامًا، وهو ممسك بيده عصا الإمارة، وفي
منظر آخر نجدها مرسومة بحجم صغير واقفة تحت عصاه.
٥١
تعدد الزوجات
ويظهر أن النساء اللاتي كن يرسمن بحجم أزواجهن كن كلهن يحملن لقب «شبست نيسوت»
(شريفة ملكية). ويلاحظ أن النساء اللاتي يحملن هذا اللقب كان لهن الحق في أن
يستولين على إقطاع والدهن وينقلها إلى خلفهن. وقبل أن نختم موضوع تمثيل الأسرة في
الأسرة السادسة يجدر بنا أن نلفت النظر إلى أسرة حاكم مقاطعة «وازيت» (العاشرة)
التي كان على رأسها «مري عا»، إذ كانت زوجته «إسي»
٥٢ قد مثلت عدة مرات بحجم زوجها وهي واضعة يدها على كتفه أو حول وسطه
مستقبلة معه خضوع أفراد الأسرة. ولكن المدهش في هذه الأسرة أنها المثال الفذ
المعروف لدينا في الدولة القديمة الذي نرى فيه أن الرجل كان له خمس زوجات شرعيات
غير «إسي»، وكان لكل منهن أولاد من «مري وع» الأب. ومن ذلك نفهم أن «مري رع» كان له
حريم على غرار حريم الملك، من زوجات شرعيات، وليس من بينهن إلا واحدة تحمل لقب
الشرف، وقد امتازت بأن مثلت بجانب زوجها، أما البقية من نسائه فكن واقفات يقدمن
الخضوع لهما. وقد مثلت هاتيك النسوة بعد أولادهن بحجم بناتهن وأصغر من أولادهن
الذكور. ومنذ ذلك العهد نفهم المركز الذي كانت تشغله الزوجة العظيمة بتميزها في
الرسم عن بقية نسائه وأولادهن.
ويتضح مما سبق أن تمثيل أفراد الأسرة في عهد الأسرة السادسة وفي العصور التي
قبلها كان يجري حسب مركز كل منهم في الأسرة، فهو يماشي المركز الشرعي الذي كان
يستمتع به كل في محيط الأسرة.
(٤) البنوة في عهد الدولة القديمة
بدهي أنه عندما يدلي أحد كبار العلماء ممن يعتد بقولهم برأي في موضوع ما، ينفذ رأيه
إلى قلوب الناس بقوة ويتهالك تلاميذه على اتباعه والاحتفاظ به، وإن كان باطلًا لا ظل
له
من الحق، وقد يظل هذا الرأي متناقلًا عدة أجيال إلى أن يتصدى له من عنده الشجاعة
والجرأة لدحضه وهدمه من أساسه. وليس نقضه بالأمر الهين السهل، فلا بد من الصبر والأناة
والحكمة حتى يصل المحقق إلى إثبات رأيه، لأن نزع الرأي القديم من الأذهان وإحلال رأي
جديد صائب مكانه من أشق الأمور في التنفيذ.
والأمثلة على ذلك في التاريخ كثيرة. والآن لدينا مسألة من مسائل الاجتماع المصري
القديم من هذا القبيل ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، وربما كان سبب
انتشارها والتمسك بها هو غرابتها بالنسبة لمسائل الاجتماع الإنسانية. تلك الفكرة هي
سيادة الأمومة على الأبوة في نسبة الأولاد. إذ اعتقد بعض العلماء العظماء في الآثار
المصرية أن الابن كان ينسب إلى أمه في معظم الأحوال، ويرون في هذا أثرًا من آثار سيادة
الأمومة في مصر، وبذلك يكرر هؤلاء العلماء أن الوراثة عن طريق فرع الأم أقرب من الوراثة
عن طريق فرع الأب، وعلى ذلك يكون أولى الناس بالإشراف على تربية الولد هو خاله لا
والده. وهذا الرأي يرتكز في الواقع على متون قليلة جدًّا قد التقطت من بين كل نصوص
التاريخ المصري. وقبل أن نفحص عن هذا الموضوع فحصًا دقيقًا علميًّا نورد هنا ما قاله
المبرزون من علماء الآثار المصرية في هذا الصدد.
آراء العلماء في نسبة الأولاد للأم
ومن كل ما سبق يتضح أن الوثائق الوحيدة التي ذكرت في هذا الصدد ترجع إلى عهد الدولة
الحديثة، وهذه بلا شك وثائق متأخرة لا يمكننا أن نتلمس فيها أي أثر لقدم هذه الفكرة.
على أن الوثائق التي ذكرها «إرمن» ليس لها مناسبة قوية في موضوعنا، فأي شيء يمكننا أن
نستخلصه من متن ورقة «سلييه» الأدبية التي جاء فيها أن جدًّا من جهة الأم كان يتمتع
بنجاح حفيده في سلك خدمته الحكومية. أما ورقة «انستاسي» فإن المؤلف يحبذ فيها صناعة
الكاتب ويحقر مهنة سائق العربة. وعلماء الآثار يترجمون الفقرة التي يعنيها بما
يأتي:
«فكر في أن تكون كاتبًا، لتقود كل العالم. تأمل إني أحدثك عن تلك الحرفة التعيسة
وأعني قيادة العربة، فإنه قد قبل في المعسكر احترامًا لجده من جهة أمه …» أي لأنه كان
من أسرة عريقة. فماذا نستنتج من ذلك خاصًا بالبنوة من جهة الأم؟ على أن ترجمة المتن
مشكوك فيها إذ نجد أن «مسبرو» يترجمه بما يأتي:
وعندما التحق بالمدرسة (الحربية) بوساطة جده من جهة أمه …
٥٧ أما في متن دنكميلر جزء ٣ صفحة ١٢ فإنا نجد فيه أن رجلًا من عهد الدولة
الحديثة يقيم قبرًا من جهة أمه. حقًّا إن هذا المتن هام، ولكن ما الذي نستخلصه منه غير
ورع حفيد وعطفه على جده من جهة أمه؟ وكل ما يستنبط من هذا المتن هو أن القرابة من جهة
الأم كانت موجودة في هذا العصر فحسب. وأول ما يمكن تقريره في هذا الموضوع أن كل
استنتاجات المؤرخين الذين اقتبسنا آراءهم هنا فيما يختص بالدولة القديمة خاطئة. أعني
بذلك قولهم إن المصري في هذا العهد كان على وجه عام يعرف والدته، أما والده فينكره في
معظم الأحوال. ولكن الواقع يثبت ما ينقض هذا الزعم من أساسه. إذ دلت الإحصاءات التي
عملت في أنساب الأسر الرابعة والخامسة والسادسة أن في
٥٨ ٩٢ نسبًا من غير الأسرة المالكة، يوجد من بينها ٤٤ نسبًا ذكر فيه الأب
والأم على السواء، و٣٧ نسبًا فضل فيها نسب الأب على الأم، و١١ ذكر فيها نسب الأم
فقط.
وإذا فحصنا عن الأنساب التي يرجع عهدها إلى ثلاثة أجيال في قوائم الأنساب التي نحن
بصددها فإنا نجد عشرة منها تساوي فيها النسب للأب والنسب للأم، وعلى الأخص أنساب مقاطعة
أمراء «زوف» ومقاطعة «تاور» و«قوص»، فنجد أربعة يذكر فيها الجد من جهة الأب، والأب
والأم، والأولاد، وأربعة لم تذكر إلا النسل من الأب للابن، ولا يوجد إلا ثلاثة لم يذكر
فيها نسب الأب، واحد منها في نهاية الأسرة الرابعة وبداية الأسرة الخامسة، وهو نسب «زوز
ساويس» نساجة القصر الملكي،
٥٩ فقد ذكرت لنا خلفها: أي أولادها وأحفادها. ونسب آخر في عهد الأسرة الخامسة
وهو للوزير «بحنوكا» إذ نجد اسم أم الوزير وزوجته وأولاده. وأخيرًا في عهد الأسرة
السادسة نرى أن الوزير «مري» يعرفنا اسم والدته وأولاده. وهذه هي الأنساب التي يمكننا
أن نرى فيها عنصرًا للأمومة، ولكن الواقع أنه لا يوجد واحد من بينها يثبت تناسله من جهة
الأم، على أن الخال لم يذكر إلا في نسب واحد وهو نسب «حتيا»،
٦٠ «زوج بيبي عنخ» أمير قوص، ولكن «حتيا» ووالديها لم يذكرا إلا في مقبرة
زوجها «بيبي عنخ» الذي ذكر لنا عددًا من أخواته وأقاربه وخلفه وسلفه.
وعلى ذلك نكون في مأمن من الخطأ إذا عكسنا النتيجة التي وصل إليها علماء الآثار
المصرية وقلنا: إنه في عهد الدولة القديمة كانت تحفظ مكانة عظيمة للأب والأم اللذين
كانا في أغلب الأحيان معروفين. هذا على أن الأب والجد من جهة الأب كانا يذكران غالبًا
وحدهما، ولم تذكر الأم وحدها إلا نادرًا عند عدم وجود أب، والجدة من جهة الأب لم تذكر
إلا نادرًا جدًّا، ولكن لم نشاهد قط أن البنوة كانت تنسب لفرع الأم.
وقد ظهر مما سبق أن الابن الأكبر كان رئيس الأسرة بعد وفاة والده، ولكن البنت الكبرى
لم يكن لها شأن كبير يذكر، وكانت الزوجة تحت سلطان ابنها الأكبر بعد وفاة زوجها في عهد
الأسرة السادسة، ولذلك يتبين في كل المقاطعات أن الوراثة تكون كالبنوة تتبع فرع الأب.
والآن نتساءل أين سيادة الأمومة في البنوة، ومن أين أمكن علماء الآثار أن يكشفوا أثرًا
لنسب البنوة للأم؟ والواقع أن سبب هذا الخطأ الذي وقع فيه علماء الآثار هو الأخذ
بالظاهر دون التعمق في البحث عن الأسباب وبخاصة في مقاطعة «زوف»، إذ نجد أن الأمير «زوف
شماي» قد استولى من والدته على المقاطعة المذكورة، وكان يحكمها قبله جده من جهة أمه وهو
«رع حم إسي». ولكن فحص هذه الوراثة قد أظهر أنها لا تخرج عن تطبيق دقيق طبيعي لقانون
الوراثة في فرع الأب، وذلك أنه في أوائل الأسرة السادسة وقد ورث «هنوقو خيتيتا» ومن
بعده أخوه «رع حم إسي» إمارة هذه المقاطعة، وكان الأخير هو الابن الأكبر لأن ابنه «إسي»
كان يلقب «الشريف الملكي» (شبس نيسوت)، وهذا اللقب كان لا يحمله إلا ولى عهد المقاطعة.
والظاهر أن النسل من الذكور قد انقطع، لأن مقاطعة «زوف» آلت إلى أمير مقاطعة طينة «إبي»
زوج «رع حم» بنت «رع حم إسي». ولا شك في أن تلقيب «إبي» بأمير مقاطعة «زوف» يرجع سببه
إلى أن زوجته قد ورثت هذه المقاطعة. ومما لا شك فيه أن «رع حم» لا يمكنها أن ترث
المقاطعة إلا لسبب عدم وجود الوارث الأكبر، هذا إلى أنها من جهة أخرى كان لزامًا عليها
أن تسلمها إلى زوجها «إبي» بصفته مشرفًا على أملاكها حسب القانون المصري، فأخذ في يده
سلطة الأمير على المقاطعة، ومن هنا يتضح أن الأميرة «رع حم» قد نقلت مقاطعة زوف إلى
أسرة أمراء طينة.
وليس هناك من ريب بعد البحوث التي أدلينا بها في موضوع الأسرة في أن الوراثة والبنوة
وإقامة الشعائر كلها على حد سواء كانت مرتبطة بنسل الأب في عهد الدولة القديمة.
والمتن الرئيس الذي اتخذه علماء الآثار أساسًا لنظرية البنوة يرجع تاريخه إلى الأسرة
الثامنة عشرة أي لا يمت بصلة إلى الدولة القديمة في شيء. وهذا المتن هو نقوش
«بحري»،
٦١ وملخصه أن «أحمس» بن أمه «إبانا» ووالده «بابا» وكان «بابا» هذا ضابطًا،
وقد أصبح أحمس بدوره ضابطًا في سفينة والده ثم درج في الرقي حتى أصبح أمير بحر عظيمًا.
وكان من الأبطال الذين حاربوا ضد الهكسوس، ولم يكن يحمل لقب شرف، ولكن الملك أنعم عليه
بهبات عقارية عظيمة. وقد رزق ثلاثة أطفال: ولدين وابنة اسمها «قم»، وقد تزوجت من
«اتفرونا» مربي الأمير «وزمر» (ابن تحتمس الأول؟) فأنجبا ولدا اسمه «بحري» أصبح فيما
بعد ضابطًا في القصر، ومنح لقب الشرف، وتقلب في عدة وظائف سامية. وقد أظهر في نقوش قبره
بوضوح نسبه من جهة أمه وزوجته، والسبب في ذلك ظاهر هو أن «بحري» لم يكن له إلا جد واحد
عريق في النسب وهو «أحمس» والد أمه، فانتسب إليه للفخر به لا أقل ولا أكثر، ولما كان
قد
حظي بلقب الشرف في أيامه الأخيرة فإنه فاخر كذلك بأصل زوجته ذات المجد التليد المؤثل.
ويبدو للفاحص المدقق أن لا علاقة لهذا بالأمومة أو البنوة من جهة الأم، فلكل أمر
ملابساته وظروفه.