إدارة مصالح الحكومة وتسييرها
(١) بيت الملك «برنيسوت»
وعلى الرغم من ارتباك هذه الألقاب والوظائف واشتباك بعضها ببعض فإن الدرس الدقيق أثبت أنه كان للحكومة نظام قائم غاية في الدقة وحسن التنسيق منذ أقدم العهود. وقد كان الفضل الأول في إبراز هذا النظام الدقيق من بين آلاف الألقاب والوظائف التي ورثناها عن الدولة القديمة يرجع إلى الأستاذ «بيرن» القانوني البلجيكي وإلى بعض علماء الآثار المصرية ونخص بالذكر منهم الأستاذ جردنر والأستاذ زيته والمرحوم الأستاذ برستد.
- أولًا: بيت التحريرات الملكية «برع» أو إدارة القيودات، وهي مكلفة بتوثيق الروابط بين الإدارات الحكومية وضمان توصيل حركة نقل الأوامر، وكان على رأسها الوزير. وقد كان هناك موظفون يحمل الواحد منهم لقب «مدير كتاب التحريرات الملكية» كالوزير نفسه، مما يدل على أن الوزير كان رئيس شرف فحسب. وكان مديرها ينتخب من بين أعضاء مجلس العشرة العظيم.
- ثانيًا: بيت المكاتبات أو إدارة المحفوظات. وتودع فيه العقود المسجلة والمكلفات في سجلات الزمامات. وكان مديرها يحمل لقب مدير كتاب السجلات (أمراسك ع). ولا شك في أن الوزير كان مديرها كما كان مديرًا للمحفوظات. والظاهر أن وظيفة بيت المحفوظات الأصلية هي نسخ كل العقود التي تحررها إدارة العقود المختومة؛ وكذلك ضمان حفظ كل الأوراق التي تحدد حالة كل شخص وحقوقه، وعقار كل مواطن مصري.
- ثالثًا: بيت العقود المختومة (برخر ختم). وينقسم إلى إدارتين إحداهما للوجه القبلي والثانية للوجه البحري، ويديرها مدير إدارتي العقود المختومة وينتخب من بين أعضاء مجلس العشرة العظيم في عهد الأسرة الخامسة. وهذا البيت يقابل عندنا إدارة السجلات ووظيفته تسليم العقود ونقل التكليف، والسندات، والوصايا، وإعطاؤها صبغة رسمية وجعلها تأخذ صورة شرط ملكي، وذلك بطبع خاتم الحكومة عليها، وكذلك كانت تحافظ على نسخها في دفاتر السجلات الخاصة بالزمامات، هذا إلى أنها كانت مكلفة بتسلمين العقود والأوامر التي كان يجب نسخها وتسجيلها في الدفاتر إلى أصحابها.
- رابعًا: بيت رئيس الضرائب أو التوزيع (؟) «بر حرى وزب» وهو يكون مصلحة قائمة بذاتها من أهم مصالح الحكومة، وأهم عمل لها جباية الضرائب، وسنتكلم عنها فيما يلي:
مصلحة التوزيع أو الضرائب١ «بر حرى وزب»
وهذه المصلحة كانت تعد من أعظم مصالح الحكومة في عهد الدولة القديمة وكانت مقسمة في عهد الأسرة الخامسة إلى إدارتين، تحت سلطان موظف كبير يلقب مدير إدارتي التوزيع أو الضرائب. ومديرو هذه المصلحة كانوا دائمًا من أعضاء المجلس التشريعي الملكي، ومن أعضاء مجلس العشرة العظيم. والمراسيم التي تصدر بتقرير مقدار الضرائب والقواعد التي يعمل بها يصدرها موظف كبير إلى «رئيس الضرائب» ليقوم بتنفيذها. وهذا الموظف الكبير ينتخب دائمًا من مجلس العشرة العظيم.
والواقع أن مصلحة التوزيع أو الضرائب تشمل إدارتين منفصلتين، مهمة إحداهما جباية الأموال المستحقة على أهل المدن «رخيت»، والثانية لجمع ما يستحق على الفلاح «مريت». وقد كان هذا النظام قائمًا في عهد الأسرة الخامسة مما يدل على أن سكان مصر كانوا ينقسمون إلى نوعين مميزين هما مدنيون وفلاحون.
والواقع أن الضرائب المصرية كانت لها صبغة مزدوجة، فمن جهة كانت تفرض على كل شخص نوعًا من الضرائب يشبه جزية الرءوس، وهي بعض أعمال سخرة يقوم بها الشخص، كان يعفى منها الكهنة ومن يماثلهم في عهد الأسرة الخامسة، ومن جهة أخرى كانت هناك ضرائب تفرض على دخل التركة، والجزية على حسب قيمة العقار.
كيفية وضع الضرائب
أما مركز الممولين، ومقدار ما يدفعونه فتقرره السلطات المحلية وهم مجلس السراة وذلك بمقتضى أمر. وهذا الأمر يجب أن يكون وفقًا للقانون من كل الوجوه، حتى يكون نافذ المفعول، وهذ الأمر يعرض على حاكم الجنوب. الذي يعطيه صبغة رسمية لينفذ، بعد أن يتحقق من قانونيته، وذلك بوضع خاتمه عليه. على أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، إذ بعد ذلك يسلم حاكم الجنوب هذا الأمر إلى «بيت الملك» حيث يسجله مدير العقود المختومة حسب نوعه في سجلات المحفوظات. وبيت الملك يحدد لكل ممول مقدار العقار الذي يدفع عليه الضرائب. متخذًا أساسًا له في ذلك دفاتر الحكومة ودفاتر الزمامات، وذلك ليكون على تمام الأهبة إذا اقتضى الحال أي تحقيق مباشر.
أنواع الضرائب
- الأولى: إدارة التحصيل وهي التي تجمع الضرائب بالمعادن الثمينة، أو المحاصيل الطبيعية.
- والثانية: مكان السخرة وهو المكلف بتنفيذ أعمال السخرة. وقد كان الوزير والحكام مكلفين بوضع الشرطة، وإذا اقتضت الأحوال، الجيش تحت تصرف الإدارة ليضمن تطبيق الأوامر، ولضمان تحصيل الضرائب بنظام.
(٢) مصلحة الحقول (الضياع)
وكذلك في عهد الأسرة الثالثة وجدنا لقب «مدير الحقول». وفي عهد الأسرة الرابعة نجد أن مصلحة الحقول كان يديرها موظف يسمى مدير كتاب الحقول. وفي عهد الأسرة الخامسة قسمت هذه المصلحة كباقي مصالح الحكومة قسمين، وكان مديرها يلقب «بمدير كتاب الحقول في البيتين (الإدارتين)، وكان مدير هذه المصلحة عضوًا في مجلس العشرة العظيم. وكان تحت إدارته عدد من كبار الموظفين منهم: مديرو ضياع الوجه القبلي والوجه البحري ومديرو بيت زراع الوجهين القبلي والبحري».
تقسيم مصلحة الحقول
- (١)
بيت المحراث «بر شنو» وهو مكلف بإدارة الأراضي الزراعية.
- (٢)
بيت الراعي ومن اختصاصه المراعي.
- (٣)
بيت حيوانات الإنتاج.
- (٤)
بيت حيوانات التربية.
وكانت كل ضيعة مهما اتسعت مساحتها (وفي الغالب تكون صغيرة الحجم) توضع تحت إدارة مدير خاص، فمثلًا نجد أن «بيبي الثاني» قد منح بمرسوم لمعبد «مين» في قفط عقارًا يبلغ نحو ثلاثة أرورا، وقد أنشأ لإدارته «بيت زراعة» خاصًّا تحت إدارة مدير كهنة «مين». ومما يسترعي النظر أن الحكومة أحيانًا كانت تقسم جزءًا من أراضيها إلى مساحات صغيرة مستقلة لتستثمرها مباشرة، ومن ذلك يتضح أنها كانت تستعمل نظام المزارع الصغيرة المساحة، التي تستوجب مصاريف كثيرة ولكنها عظيمة الإنتاج، وذلك ما يشعر بإدارة فنية مرنة.
المزارع الصغيرة
مصلحة الري
(٣) مصلحة المالية
وهذا الاحتياطي من الذهب على أي حال كان على ما يظهر من ألزم ما يكون للبلاد لتحقيق الأعمال الضخمة التي كانت قائمة في هذا العهد، وهي التي كانت تحتاج إلى موارد عظيمة، وكان لا يمكن أن يدفع أجرها بالمواد الطبيعية فحسب، يضاف إلى ذلك أن مصر في هذا العهد كان لها أسطول عظيم مصنوع من خشب الأرز الذي كان يجلب من جبيل (ببلوص) منذ الأسرة الثالثة بكميات وافرة، فمن المحتمل جدًّا أن الذهب كان يستعمل لدفع ثمنه، وعلى أية حال فإن الذهب كانت له مكانة عظيمة في الحياة الاجتماعية في عهد الأسرة الخامسة؛ إذ نشاهد في نقوش معبد الملك «سحورع» أنه كان يوزع أشياء من الذهب على موظفيه، ولا بد من أن نرى في منح المكافآت بهذه الطريقة نوعًا جديدًا من صرف المرتبات، وبخاصة أنه كان يطلق عليها لقب «توزيع الذهب». وإذا كانت نقوش القبر الملكي تمثل الذهب وهو يوزع، فإن هذا التوزيع كان يجري من غير شك بطريقة منظمة قبل ذلك العهد.
إدارة (الشونة) المزدوجة
وقد كان للحكومة كذلك إدارة (شون) مزدوجة مثل إدارة بيت الذهب والبيت الأبيض. وكانت خاصة بخزن مواد الجزية التي كانت تقدم من المحصولات الطبيعية، ومن المحتمل أنها كانت كذلك لخزن محصولات أملاك الحكومة. وقد كانت وظيفة (الشونة) على الأخص تخزين الحبوب التي كانت تلعب دورًا هامًّا في حياة مصر الاقتصادية. وذلك أن الخبز كان أساس الغذاء في مصر، يضاف إلى ذلك أنه كان يؤلف جزءًا من مرتبات الموظفين وأجور العمال التي كانت تدفع حبوبًا أو خبزًا في عهد الدولة القديمة، كما تشير إلى ذلك نقوش الموظف «متن». ومن ذلك يلاحظ أن (الشون) كانت تحتل مكانة عظيمة في إدارة مالية البلاد.
وقد كانت مصلحة (الشون) مزدوجة منذ عهد الأسرة الخامسة يديرها مدير مصلحة (الشونة) المزدوجة. وقد كانت الرئاسة العليا كما هو الحال في الخزينة وبيت الذهب في يد الوزير. وكذلك نجد بين مديري (الشونة) المزدوجة أعضاء من مجلس العشرة العظيم، وحكام الجنوب.
أما (شون) غلال الإدارة الحربية فكانت مستقلة. وقد كانت هناك (شون) أخرى لتموين القصر يديرها مديرو التشريفات الملكية وليس لها علاقة بالخزينة العامة.
إدارة التموين
وتشتمل إدارة (الشون) على إدارة خاصة «إست زفا» تسمى إدارة التموين، وهي تضمن المحافظة على المحاصيل القابلة للعطب التابعة للمالية العامة. وقد أصبحت مزدوجة في عهد الأسرة الخامسة ويديرها مدير إدارة التموين المزدوجة. وقد كان لهذه الإدارة فروع تدير المخازن المحلية يطلق على رئيس كل منها «مدير محل التموين»، أما القصر فكان له كذلك إدارة للتموين خاصة تابعة للقصر الملكي مباشرة.
على أن (الشون) ومخازن التموين لم تكن مقسمة إلى إدارات محلية فحسب، بل كان يعين وظيفة كل منها إذ نجد منذ الأسر الأولى مخازن الشعير ومخازن القمح، وموظفين مكلفين بالمحافظة على البلح، والعسل والخضر. وفي مرسوم «بيبي الأول» يذكر لنا إدارة الخبز.
الجمارك والتجارة الخارجية
أهمية التجارة في دخل البلاد
حسابات الخزينة
وهذه الحسابات كانت قائمة على نظام معقول تمامًا، فنجد الجزء الأول منها كان خاصًّا بالتحصيل. وقد وضح ذلك في أعمدة عمودية ومجموعة في عمودين أفقيين، واحد منهما يدل على مجموع المال الذي يجب أن يجبى والثاني على الخراج الذي أخذ، وقد دون الحساب بالمداد الأسود، في كل ما يختص بتفاصيل الدفع، أما المجاميع فقد دونت بالمداد الأسود.
وهناك جزء آخر يدل على المنصرف، ونجد فيه أسماء المنتفعين وأهمية الجرايات التي تعطى. ويجوز أن الصحيفة بقيت لنا من دفتر حسابات إدارة ضياع أو من مصلحة المالية نفسها. ولا شك في أنها قد سهلت علينا فهم مقدار الدقة في مسك الدفاتر في عهد الدولة القديمة، ومنها نفهم أن كل فرد كان مفروضًا عليه ضريبة معينة يدفعها للحكومة.
(٤) مصلحة الأشغال العمومية
ومنذ الأسرة الرابعة أخذت أهمية الأشغال العامة تحتل مكانة أعظم مما كانت عليه من قبل، إذ في عهدها أقيمت الأهرام الضخمة وتوابعها من معابد ومدن كما أسلفنا الكلام عنه. وكذلك اتسعت مساحة العاصمة بسرعة اتساعًا عظيمًا يدل على مقداره مساحة جبانتها المترامية الأطراف (هذه الجبانة تمتد من أهرام الجيزة إلى دهشور وما بعدها).
مصلحة الأشغال ليست مزدوجة
وفي عهد الأسرة الخامسة بدأ الملوك ينشئون معابد عظيمة للشمس «رع»، كل ذلك كان يستلزم نموًّا مطردًا في مصلحة الأشغال العمومية، ومن المدهش أن نظام الإدارة في عهد الأسرة الخامسة لم يجعل هذه المصلحة مزدوجة كباقي مصالح الحكومة، أي مصلحة أشغال للوجه القبلي ومصلحة أشغال للوجه البحري، بل جعلها مصلحة واحدة تحت إشراف الوزير الذي كان يحمل من بين ألقابه العدة لقب (مدير كل الأشغال الملكية) «إمراكات نبت ن نيسوت»، كما كان يحمل في الوقت نفسه لقب (مدير القيودات) «إمر سش ع نيسوت». ولكن الواقع أن مدير مصلحة الأشغال الفعلي كان أحد أعضاء مجلس العشرة العظيم الذي كان بدوره تحت مراقبة الوزير. غير أن عضو مجلس العشرة العظيم للجنوب الذي كان يشغل وظيفة مدير مصلحة الأشغال لم يكن يدير إلا شئون مصلحة الأشغال المدنية، وذلك لأنه كما سنذكر فيما يلي كان للجيش مصلحة للأشغال خاصة. وقد كان تحت إدارة مدير مصلحة الأشغال العمومية مديرون آخرون يقومون بإدارة مصالح خاصة أو فروع للمصلحة الرئيسية، وكان كل منهم يلقب مدير مصلحة الأشغال الملكية «إمراكات ن نيسوت».
وأهم هذه المصالح هي مصلحة المباني، التي كانت متصلة تمام الاتصال بالمباني الجنائزية للملك. ونشاهد في الألقاب أن رئيس المعماريين الملكيين «مدح نيسوت» كان منذ الأسرة الثالثة، من أهم شخصيات الحكومة المصرية، إذ كان يحمل الوزير هذا اللقب غالبًا، وكذلك كان يحمله أولاد الملوك وأعضاء مجلس العشرة العظيم.
وعلى وجه عام كان مهندس المباني الملكي في الوقت نفسه يحمل لقب «مدير كل أشغال الملك»، ولا غرابة في ذلك فإن وظيفته كانت في ترتيب المناصب الحكومية أعظم من منصب مدير كل أشغال الملك، إذ كان يحمل قانونًا لقب الشرف (السمير الوحيد)، وهذا اللقب لم يكن يلقب به «مدير كل الأشغال الملكية» قانونًا.
بعوث مصلحة الأشغال إلى المحاجر والمناجم
على أن هناك عددًا من كبار الموظفين يحمل لقب مهندس معماري «مدح» وأهمهم مهندس القصر المعماري «مدح ن بر عا» ومهندس السفن «مدح دبت». والظاهر أن الأول كان تابعًا لإدارة القصر، والثاني لإدارة الجيش.
ومنذ الأسرة الأولى كانت الحكومة المصرية ترسل البعوث لمناجم سينا، وقد عثر هناك على نقوش يرجع تاريخها إلى عهد الملك «سمر خت» من الأسرة الأولى، وإلى الملك «زوسر» من الأسرة الثالثة، وإلى الملكين «سنفرو»، و«خوفو» من عهد الأسرة الرابعة، ثم من عهد الملوك «سحورع» و«منكاوحور» و«زت كا إسيسي» وكلهم من الأسرة الخامسة، ومن عهد «بيبي الأول» و«بيبي الثاني» من الأسرة السادسة.
وقد أرسلت حملات في عهد «بيبي الأول» إلى محاجر حمامات، كان الغرض منها البحث عن الأحجار الكريمة والدهنج (حجر التوتيا الذي يستخرج منه النحاس) وأحجار البناء.
يضاف إلى ما سبق أنه كان من أعمال مصلحة الأشغال العامة استثمار المناجم والمحاجر، فقد ذكرنا فيما سبق أن الملك «منكاورع» قد أهدى مقبرة إلى المقرب «دبحن»، وقد أصدر جلالته الأوامر إلى مدير مصلحة الأشغال ليقطع الأحجار اللازمة لبناء هذه المقبرة من محاجر طرة.
ومن الجائز كذلك أن مديري الأشغال العمومية كانوا يستعملون بعض العمال المصريين، وبخاصة الذين كانوا يدفعون بدلًا عن الضرائب أعمالًا يؤدونها سخرة للحكومة، كما ذكرنا ذلك عند الكلام على مصلحة المالية.
هوامش
Gardiner. J.E.A.24 (1938), p86!!!!