حكومة المقاطعات
(١) كيف استقل حكام المقاطعات
كانت مصر مقسمة إلى مقاطعات منذ فجر التاريخ كما ذكرنا، وكان تقسيم البلاد بهذه الكيفية الأساس في إدارتها، غير أن نظم الإدارة فيها كانت تتمشى بطبيعة الحال مع تطورات التقدم العمراني الذي يحدث في كل أمة ناشئة فتية تسير نحو الفلاح، ولذلك نشاهد بعد انقضاء العهد الطيني حدوث تغير محسوس في نظام الحكم. وأول شيء يلفت النظر في المقاطعات هو ازدياد سلطان حاكم المقاطعة وذلك أمر طبعي، إذ أُعطي سلطة واسعة في عهد الفراعنة الضعفاء، ولهذا بدأ يعمل على استقلاله من التاج. وهذه المحاولات كانت سهلة كلما كانت المقاطعة بعيدة عن العاصمة، لأن طرق المواصلات لم تكن تسمح للسلطة الرئيسية بأن تقوم بتحقيقات مستفيضة. وقد كانت الطريقة الوحيدة عند الفرعون لتجنب استقلال حكام المقاطعات أن يعتبرهم حكامًا قابلين للنقل عدة مرات في أثناء خدمتهم، غير أن هذا الحق لم ينفذ فعلًا، ومنذ ذلك العهد أصبح حاكم المقاطعة بمثابة موظف ثابت في مقاطعته، ولذلك كان من الطبعي أن ينفصل شيئًا فشيئًا عن التاج. وأول ظاهرة لذلك أن أخذ حاكم المقاطعة يقطع صلته بالبلاط الملكي، فأصبح لا يكون جزءًا منه، وبعد أن كان يدفن في الجبانة الملكية بالقرب من العاصمة أصبح يقيم لنفسه مصطبة في مقاطعته ليدفن فيها وحوله رجال بلاطه. ولقد كان من نتائج هذا التغير أن أصبحت وراثة حكم المقاطعة أمرًا طبعيًّا، فأخذ حاكم كل مقاطعة يطالب العرش بأن يكون ابنه الأكبر هو الوارث لوظيفته بعد مماته. والظاهر أن الملك لم يمانع في ذلك بل سلم بسهولة. وهذا العطف أصبح فيما بعد عادة، ثم بعد مدة أصبح حقًّا، وبهذه الكيفية تكونت الأسرات الإقطاعية العظيمة. ويلاحظ أن ما ذكرناه لا ينطبق إلا على الصعيد إذ لا نكاد نعرف شيئًا عن النظام في مقاطعات الدلتا. على أن الوثائق المنقوشة التي تركها لنا «متن» في قبره الذي يرجع عهده إلى بداية الأسرة الرابعة، نفهم منها أنه لم يكن هناك في هذا العصر أي فرق بين الوجه القبلي والوجه البحري، ولكنه من الخطر أن نعتمد على وثيقة واحدة في تقرير نظام الحكم في الدلتا. وقد بقي حاكم المقاطعة يلقب «عز مر» (رئيس حفر الترع) كما كان الحال في العهد الطيني، ولكن لم يلبث أن أضيف له لقبان جديدان هما حاكم المقاطعة أو حاكم القصر «حكا حت» ومرشد الأرض «سشم تا». ومن منطوق هذين اللقبين يمكن الإنسان أن يلاحظ اتجاه حاكم المقاطعة نحو الاستقلال. ولأجل أن نفهم الفرق بين ما لحاكم المقاطعة المعين وبين حاكم المقاطعة الوراثي، سنورد هنا ما لكل من السلطة في إدارة المقاطعة.
مركز حاكم المقاطعة المعين
كان حاكم المقاطعة في عهد الأسرة الرابعة يعد موظفًا ويلقب «ساب عزمر»، وكان يعين بمرسوم ملكي وينتخب من بين «الكتاب» الذين تقلبوا في مختلف الوظائف، وكان ذلك لزامًا على كل كاتب يصل إلى مثل هذا المركز. ولم يكن حاكم المقاطعة ثابتًا في مقاطعة واحدة، بل كان ينتقل في مختلف مقاطعات القطر حسب الأحوال. وبعد وقت ما كان يأمل هذا الحاكم في أن يرقى إلى إحدى وظائف الحكومة المركزية في العاصمة، وذلك بأن يعين مديرًا لإحدى المصالح الحكومية الرئيسية، ثم تتوق نفسه في ختام حياته الحكومية إلى أن يكون عضوًا في مجلس محكمة الستة العليا أو مستشارًا سريًّا، أو نائب الفرعون في «نخن» أو وزيرًا.
سلطة حاكم المقاطعة الوراثية
أما الأمير «حاتي عا» حاكم المقاطعة فإنه لم يكن موظفًا بل كان من علية القوم وأشرافهم، وكان يتسلم بالوراثة حكومة مقاطعة معلومة هبة له، وعلى ذلك كان أمير المقاطعة يرثها حقًّا مكتسبًا، وكان من الضروري أن يكون من كبار رجال الملك حتى يتسلم إرث والده. وكان لا بد من أن يوافق الفرعون على هذا التعيين بمرسوم. وهذا المرسوم لا يشمل أمر تعيين فحسب، بل كذلك يتضمن إطلاق يده في ريع هذه المقاطعة. وكان يقام عند صدور هذا المرسوم احتفال، (يدشن) فيه الحاكم الجديد في حضرة أقرانه. ومنذ تلك اللحظة يصبح الحاكم الجديد مطلق التصرف في كل أمور المقاطعة ويحكم كيف شاء.
وكان أمير المقاطعة يقسم منطقة نفوذه بين أفراد أسرته كحكام قلاع أو نواب له، على أن يكون الفرعون هو الذي يصدر أمر تعيينهم. وقد أصبحت هذه الوظيفة وراثية في عهد الملك «دمزي با توي» من أواخر ملوك الدولة القديمة.
(٢) علاقة الفرعون بموظفيه
وفي عهد الدولة القديمة كانت علاقة الملك بموظفيه في بادئ الأمر علاقة فرد يؤدي واجبه، وفي مقابل ذلك كان الموظف يأخذ ما يقتات به ويحفظ كيان حياته. أما الموظفون أصحاب الكفايات فكانوا يوضعون في مناصب تليق بهم حسب أهمية كل منهم، وكان ذلك كل مكافأتهم. ولكن بعد زمن قليل أخذت محبة الملك لهم وعطفه عليهم يظهران بمظاهر أخرى، وبخاصة في منحهم مكافآت جنازية. وذلك أن المصري لما كان يعتقد أن الحياة في الآخرة مثل الحياة الدنيا مع الفارق في كون الثانية أبدية، فإنه كان في كل الأزمنة يرغب في أن يكون له قبر عظيم جميل مجهز بكل الأثاث المأتمي، وكان الفرعون في مثل هذه الأحوال يعطف على كبار موظفيه، فيمنح الفرد منهم تابوتًا أو لوحة أو مائدة قربان. والواقع أنه كان من الصعب على موظف بسيط أن يقطع لنفسه من المحاجر النائية الكمية الكافية من الأحجار لبناء قبره، وأن يتعهد نقلها من المحجر إلى الجبانة، فكان الملك يقوم بهذا العمل، وقد كان ذلك أول عطف يظهره لخدامه. على أن الحصول على قبر جميل لم يكن كافيًا بل كان من الضروري أن يضمن صاحب المقبرة استمرار الترحم على قبره، وإقامة الاحتفالات الخاصة به، مما حتم أن يكون للقبر دخل ثابت، جزء منه يوقف بوثيقة للمحافظة على الشعائر الدينية اللازمة لصاحب المقبرة، والجزء الآخر كان يقسم بين الكهنة الذين يقومون بالصلاة وإقامة الشعائر الدينية اللازمة. وقد كان الملك كذلك في هذه الناحية يعطي موظفيه «المقربين» أراضي كان القصد منها أن توقف للأغراض السابقة. وهذه المنح من الأرض كانت أحيانًا عظيمة، على أن الموظفين لم يكونوا هم الطائفة الوحيدة الذي كانوا يتمتعون بكرم الفرعون، بل كان الكهنة كذلك يطلبون دخلًا عظيمًا لمعابدهم. وكان من جراء ذلك أن الضياع الملكية أخذت في النقصان شيئًا فشيئًا، وبخاصة إذا علمنا أن معظم الأراضي التي كانت تمنح للمعابد بمراسيم كانت تعفى من كل أنواع الضرائب.
سبب انحلال الدولة القديمة
وهذا الانتقاص في أملاك الفرعون كان بداية انحلال السلطة الرئيسية من يد الملك. وإذا لم تظهر بوادر هذا الانحلال بشكل خطر في خلال الأسرة الخامسة فإن الحالة أصبحت تهدد بالخطر، وإذا أضفنا إلى ذلك استقلال حكام المقاطعات الذي كان في ازدياد علمنا السبب الرئيسي الذي من أجله سقطت المملكة المنفية في نهاية الأسرة السادسة.