ذلك الكلب سبوت
لم أعد أُكِن لستيفن ماكاي الاحترام، بعدما كنت أُقسم بحياته. أعرف أني في تلك الأيام كنت أحبه أكثرَ مما أحبُّ أخي. ولكني إذا قابلتُ ستيفن ماكاي مرة أخرى، فلن أكون مسئولًا عما سأفعله معه. يتجاوز حدودَ إدراكي أن يتحوَّل رجلٌ شاركتُه الطعامَ والدِّثار، وسافرت معه بالزلَّاجة على منحدر تشيلكوت تريل الجليدي، كلَّ ذلك التحوُّل. كنت دائمًا أقيِّم ستيف على أنه رجلٌ واضح صادق، ورفيق لطيف، لا يعكِّر صفوَ طبيعته مِثقالُ ذرَّة من حُب الانتقام أو الخبث. لن أثق بحكمي في الرجال مرة أخرى. عجبًا! لقد تعهَّدتُ ذلك الرجلَ بالرعاية خلال مرضه بحمَّى التيفوئيد؛ وتضوَّرنا جوعًا معًا عند منبع نهر ستيوارت؛ وأنقذ حياتي عند خليج ليتل سالمون. والآن، بعد السنوات التي قضيناها معًا، كلُّ ما يمكِنني قوله عن ستيفن ماكاي هو أنه أحقرُ رجلٍ عرفته في حياتي.
بدأنا الرحلة إلى كلوندايك في مَطلع خريف عام ١٨٩٧، وكنا متأخِّرَين كثيرًا لدرجةٍ منعَتنا من عبور ممرِّ تشيلكوت قبل تكوُّن الجليد. حملنا معدَّاتنا على ظهورنا لمسافةٍ من الطريق، وعندما بدأت الثلوج تتساقط، اضطُرِرنا حينها لشراء كلاب حتى تسحب المعدَّات على الزلَّاجة لبقية الطريق. هكذا تهيَّأت الظروف لشراء ذلك الكلب سبوت. كان ثمن الكلاب غاليًا؛ إذ دفعنا مائة وعشرة دولارات مقابله. بدا ظاهريًّا أنه كان يستحقُّ ذلك المبلغ. أقول «بدا ظاهريًّا» لأنه كان من أجمل الكلاب التي رأيتها على الإطلاق. كان يَزِن ستين رطلًا، ولديه جميع السمات الدالة على أنه كلب مناسب لجرِّ الزلَّاجات. لكننا لم نتمكَّن قَط من تمييز سلالته. لم يكن كلبَ هاسكي، ولا ميلميوت، ولا من خليج هدسون، بل بدا هجينًا من هذه الكلاب دونَ أن يُشبِه أيًّا منها، وفوق كل ذلك، كان يحمل بعض سمات كلب الرجل الأبيض؛ إذ إنَّ على أحد جانبَيه، وفي وسط مزيج الألوان المنتشرة لديه من الأصفر والبُني والأحمر والأبيض المتَّسخ، ظهرت بقعةٌ لونها أسود فاحم بحجم دلو الماء. لذلك أطلقنا عليه اسم سبوت (وهي تعني بالعربية بُقعة).
كان مظهره جميلًا بالفعل. عندما يكون في حالة جيدة، تبرز كتلٌ من عضلاته في كافة أنحاء جسده. كان شكله يوحي بأنه أقوى كلب في ألاسكا، وكذلك أشدها ذكاءً. إذا ألقيتَ نظرة سريعة عليه، فستظن أنه يستطيع أن يسحبَ أكثرَ مما يسحبه ثلاثة كلاب مكافِئة له في الوزن. ربما كان يستطيع ذلك فعلًا، لكنني لم أرَ ذلك. ولم يكن ذكاؤه يُستثمَر في هذا الاتجاه. كان يجيد السرقة والبحث عن الطعام إجادةً تامَّة، وكانت لديه موهبة مخيفة إلى أبعدِ حدٍّ في استشعار الوقت الذي لا بدَّ أن يُنجَز فيه العمل، فيتسلَّل خُلسةً في هذا الوقت، وأقل ما يُقال عنه إنه كان مبهرًا في الشرود بعيدًا ثم العودة دونَ أن يضلَّ الطريق. لكن حينما يتعلَّق الأمر بالعمل، يتسرَّب الذكاء منه، ويتركه مجرَّد كتلة رخوة غبية مترنِّحة لدرجةٍ تُشعِرك بالأسى.
في بعض الأوقات، كنت أعتقد أن ذلك لم يكن غباءً منه. بل ربما كان، مثل بعض الرجال الذين أعرفهم، شديدَ الذكاء لدرجةِ أنه يتعمَّد التملُّص من العمل. وأتصوَّر أنه خَدعنا جميعًا بذكائه. ربما قد فهم الوضع برُمَّته، وقرَّر أن يُضرَب من حين لآخَر ولا يعمل، أفضل له بكثير من أن يعمل طَوال الوقت ولا يُضرَب. كان ذكيًّا بما يكفي ليتوصَّل إلى هذا التقدير للموقف. أؤكِّد لك أني قد جلست ونظرت في عينَي هذا الكلب، فسَرَت رجفةٌ في جسدي بسبب الذكاء الذي رأيتُه يشعُّ منهما. أعجز عن التعبير عن ذلك الذكاء. لن تُسعِفني الكلمات. لكني رأيته فحسب. في بعض الأحيان، كان النظر في عينَيه يضاهي النظر في عينَي نفسٍ بشرية، وما رأيته فيهما أخافني، وأثار في ذهني كافةَ أنواع الخواطر عن تناسُخ الأرواح وما إلى ذلك. أؤكِّد لك أنني شعرتُ بشيء كبير في عينَي هذا الحيوان؛ ثَمَّة رسالةٌ تنطقان بها، لكنني لم أكن ذكيًّا بما يكفي لأفهمها. وأيًّا كانت هذه الرسالة (أعلم أني أُظهِر نفسي بمَظهر الأحمق)، فقد حيَّرَتني. لا يمكِنني أن أُعطي فكرة ولو بسيطةً عما رأيت في عينَي هذا الحيوان؛ لم تكن لمعة، ولم يكن لونًا، كان شيئًا يتحرَّك بعيدًا في الخلف، في حين أن العينَين أنفُسهما لا تتحرَّكان. ولا أعتقد أنني رأيت ذلك الشيء يتحرَّك، إنما شعرتُ بحركته فحسب. كان تعبيرًا … هكذا كان … وتكوَّن لديَّ انطباعٌ عنه. لا، بل كان مختلفًا عن مجرد تعبير، كان أكبر من ذلك. لا أعرف ماهيته، لكنه منَحني شعورًا بالقرابة على أي حال. أوه، لا، ليست قرابةً وجدانية. بل كانت، بالأحرى، قرابةً نابعة من النِّدِّية. هاتان العينان لم تتوسَّلا قَط كعينَي الغزال. كانتا توحيان بالتحدِّي. لا، لم يكن تحدِّيًا. كان فقط إقرارًا هادئًا بالنِّدِّية. ولا أعتقد أنه كان مقصودًا. بل كان، من وجهة نظري، إحساسًا لا شعوريًّا لديه. كان موجودًا لأنه موجود فحسب، ولم يملك إلا أن يلمع في عينَيه. لا، لا أقصد أنه يلمع. فهو لم يكن يلمع، بل يتحرَّك. أعلم أنني أهذي، لكنك لو كنتَ نظرت في عينَي هذا الحيوان كما نظرتُ، لَفهمتَ. كان ستيف متأثرًا بالطريقة نفسها التي تأثَّرتُ بها. حاولت بالفعل قتل ذلك الكلب سبوت ذاتَ مرة؛ إذ إنه لم يكن مُجديًا في أي شيء، لكنني أخفقت. قُدتُه إلى غابة، فأقبل ببطءٍ وتردَّد. كان يدرك ما أفعل. توقَّفت في مكانٍ مناسب، ووضعت قدمي على الحبل، وسحبت مسدسي الكولت الكبير. فجلس ذلك الكلب ونظر إليَّ. أؤكِّد لك أنه لم يتوسَّل. لكنه اكتفى بالنظر إليَّ. ورأيت كلَّ تلك الأشياء غير المفهومة تتحرَّك، أجل، كانت تتحرَّك في عينَيه. لم أرَها حقًّا تتحرَّك، لكنني ظننتُ أنني رأيتها؛ لأنني، كما قلت من قبلُ، أعتقد أنني شعرت بها فحسب. وأريد أن أقول لك الآن إن الموقف كان أكبر مني. كان أشبهَ بأن تقتل رجلًا يقِظًا شجاعًا ينظر بهدوءٍ إلى مسدسك وكأنه يقول: «مَن الذي يشعر بالخوف؟» ثم بدَت الرسالة قريبة جدًّا، فبدلًا من الضغط على الزناد بسرعة، توقَّفت لأرى إذا كنت أستطيع فهمها. كانت أمامي تمامًا، تلمع في عينَيه. ثم كان الوقت قد تأخَّر للغاية. وخِفتُ. كان جسدي بأكمله يرتجف، ومَعِدتي تتحرَّك مضطرِبة لدرجةٍ جعلَتني أشعر بالدُّوار. فما كان مني إلا أن جلست ونظرت إلى ذلك الكلب، فنظر إليَّ، حتى ظننتُ أنني سأُصاب بالجنون. هل تريد أن تعرف ماذا حدث؟ ألقيتُ المسدس وركضت إلى المخيَّم مستشعرًا في قلبي خوفًا من الله. فسَخِر ستيف مني. لكني لاحظت أن ستيف بعد أسبوع قاد سبوت إلى الغابة للغرض نفسه، ثم عاد وحدَه، وبعد قليل عاد سبوت أيضًا.
على أي حال، لم يكن سبوت ليبذل جهدًا. دفعنا فيه مائة وعشرة دولارات ممَّا ادَّخرناه، ولم يؤدِّ عملًا. حتى الحبال لم يشدَّها. تحدَّث ستيف إليه حين وضعناه في اللجام أول مرة، وأقصى ما فعله أنه ارتجف. ولم يسحب حتى أُوقيَّة واحدة. وقف فحسبُ وارتعش مثل كتلة ضخمة من الهُلام. لمسه ستيف بالسَّوط. فنبَح، لكن دونَ أن يحرِّك أُوقيَّة واحدة. فلمسه ستيف مرَّة أخرى بضربةٍ أقوى قليلًا، فعوى عُواءً طويلًا كعُواء الذئاب. ثم جُن جنون ستيف فضربه ستَّ ضربات، فجئتُ إليه مهرولًا من الخيمة. أخبرت ستيف أنه تصرَّفَ بوحشية مع الكلب، فتجادلنا، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يحدث بيننا ذلك. ألقى السوط في الثلج، ومشى بعيدًا وهو غاضب. التقطتُ السوط وذهبت إلى الكلب. ارتجف سبوت واهتزَّ وانكمش مرتعِدًا قبل أن ألوِّح بالسوط، ومع أوَّل لسعة منه عوى كأنه يَلفِظ أنفاسه. بعد ذلك استلقى على الثلج. بدأتُ في تحريك بقية الكلاب، فسحبوه على طول الطريق، في حين كنت أضربه بالسوط. انقلب على ظهره واصطدم، وارتفعَت أرجُله الأربع في الهواء، وهو نفسه كان يَعوي كأنه سيدخل في ماكينة النقانق. عاد ستيف وسَخِر مني، واعتذرتُ عما قلتُه.
لم يُنتفَع بأي عملٍ من سبوت، بل إنه كان يعوِّض ذلك بكونه أكثر كلب شَرِه رأيته في حياتي. وفوق ذلك، كان أكثر اللصوص ذكاءً. لم يكن هناك ما يمنعه من ذلك. كم من إفطار تناولناه دونَ لحم الخنزير المقدَّد؛ لأن سبوت كان قد سبقنا إليه. وبسببه كدنا نموت جوعًا عند نهر ستيوارت. اكتشف طريقةً لاقتحام مخبأ اللحوم الخاص بنا، وما لم يأكله يتولَّى بقية الفريق أكله. لكنه كان منصِفًا. فكان يسرق من الجميع. كان كلبًا كثير الحركة، منشغِلًا دائمًا باختلاس النظر هنا وهناك، أو الذهاب إلى مكانٍ ما. ولم يكن هناك مخيَّم يقع ضمن مسافة خمسة أميال إلا داهَمه. الأسوأ من ذلك أنهم كانوا يعودون إلينا دائمًا لندفع لهم حساب ما أكله، وهو أمر عادل؛ إذ إن هذا هو القانون الساري في تلك المنطقة، لكنه كان شاقًّا للغاية علينا، خاصةً في ذلك الشتاء الأول في تشيلكوت، عندما أفلَسْنا، نتيجةً لدفعِ ثمن لحم الخنزير واللحم المقدَّد الذي لم نأكله قَط. كان ذلك الكلب سبوت يستطيع القتال أيضًا. كان يستطيع القيام بأي شيء عدا العمل. لم يجرَّ رطلًا واحدًا، لكنه كان زعيم الفريق بأكمله. أمَّا الطريقة التي جعل بها تلك الكلابَ تلتفُّ من حوله، فكانت طريقةً تُدرَّس. كان يستأسِد عليهم، وكان هناك دائمًا واحد أو أكثر منهم يَظهر عليه أثرٌ جديد لأنيابه. لكنه كان أكثر من مجرد مستأسِد. فلم يكن يخاف من أي شيء يمشي على أربع، ولقد رأيته يهاجم بمفرده مجموعةً لا يعرفها، دونَ أن يستفزَّه أيٌّ منها بأيِّ شكلٍ من الأشكال، ويتغلَّب عليها بالكامل. هل تحدَّثتُ عن مقدرته على الأكل؟ لقد أمسكته يأكل السوط ذات مرة. هذا صحيح. كان قد بدأ بالفعل في أكله، وعندما أمسكتُ به كان قد وصل إلى المقبض، وظلَّ مستمرًّا.
لكنه كان يتمتَّع بمظهرٍ جيد. في نهاية الأسبوع الأول، بِعناه إلى الشُّرطة الخيَّالة بخمسة وسبعين دولارًا. كان لديهم قائدو كلاب ذوو خبرة، وكنَّا نعلم أنه خلال الفترة التي سيقطع فيها مسافةَ الستمائة ميل إلى داوسون، سيصبح كلبَ زلَّاجات ماهرًا. أقول «كنا نعلم»، لأننا كنا لا نزال نتعرَّف ذلك الكلب سبوت. لكننا بعد فترة قصيرة، لم نكن لنتجرَّأ على أن نقول إننا نعلم أيَّ شيء يتعلَّق به. بعد أسبوع، استيقظنا في الصباح على أعنفِ قتالٍ بين الكلاب كنا قد سمعناه. فقد عاد ذلك الكلب سبوت ولقَّن فريقَ الكلاب كلَّه درسًا لن ينساه. ويمكِنني أن أخبرك أننا تناولنا الإفطار في حالةِ اكتئابٍ شديد، ولكن انشرحَت صدورنا بعد ساعتَين عندما بِعناه لساعي بريد حكومي، متَّجه إلى داوسون حاملًا رسائلَ حكومية. ولم يَمضِ سوى ثلاثة أيام حتى عاد الكلب، وكالعادة، أُعلِن عن وصوله بشِجار عنيف.
قضينا فصلَي الشتاء والربيع في نقل معدَّات الآخَرين، بعد أن كنَّا قد نقلنا معدَّاتنا عبر الممر، وحقَّقنا مكاسبَ ضخمة. وحقَّقنا كذلك مَكسبًا من سبوت. إذا كنَّا بِعناه مرة، فقد كرَّرنا بيعَه عشرين مرة. إذ دائمًا ما كان يعود إلينا، ولم يطلب أحدٌ أن يستعيد ماله. لم نكن راغبَين في المال. بل كنا سندفع مبلغًا سخيًّا لأي شخص حتى يأخذه منَّا نهائيًّا. كان علينا التخلص منه، ولم نستطع بيعَه بلا مقابل؛ لأن ذلك كان سيثير الشكوك. لكن مَظهره كان جذَّابًا، حتى إننا لم نواجِه قَط أيَّ صعوبة في بيعه. كنا نقول إنه «غير مدرَّب»، وكانوا يدفعون أيَّ سعر، مهما كان، لشرائه. بِعناه مرةً بثمنٍ بخسٍ قدْرُه خمسة وعشرون دولارًا، ومرةً بمائة وخمسين دولارًا. ذلك الشخص عينُه أعاد إلينا الكلبَ بنفسه، ورفض أن يستعيد أمواله، وكانت الطريقة التي أهاننا بها فظيعة. أخبرنا بأن ما دفَعه يعطيه الحقَّ لأن يُفصِح عن رأيه فينا، شعرنا بأنه معذور تمامًا لدرجةِ أننا لم نردَّ عليه قَط. لكن حتى اليوم، لم أستعِد بتاتًا احترامي القديم لذاتي الذي كنت أشعر به قبل أن يتحدث هذا الرجل إليَّ.
عندما ذاب الجليد في البحيرات والنهر، وضعنا معدَّاتنا على قارب في بحيرة بينيت، وانطلقنا إلى داوسون. كانت لدينا مجموعة ماهرة من الكلاب، وبالطبع كوَّمناها فوق المعدَّات. رافقَنا ذلك الكلب سبوت، فلم يكن هناك أملٌ في التخلص منه؛ وفي اليوم الأول، ولمرات عديدة، كان يُسقِط كلبًا أو آخَر من القارب أثناء شجاره معها. كانت المساحة ضيِّقة، ولم يكن يحب أن يبقى محشورًا.
قال ستيف في اليوم الثاني: «ما يحتاجه هذا الكلب هو مكان متَّسِع. فلْنتركه إذن.»
هكذا فعلنا، وجَّهنا القاربَ حتى أوقفناه في منطقة كاريبو كروسينج ليقفز إلى الشاطئ. وتَبِعه كلبان آخَران كانا ماهرَين، وأضعنا يومَين كاملَين في محاولة العثور عليهما. ولم نرَ هذين الكلبَين مرة أخرى، لكن السَّكينة والراحة اللتين استمتعنا بهما جعلتانا نقرِّر، مثل الرجل الذي رفض استرداد المائة والخمسين دولارًا، أن فقْدَ هذين الكلبَين كان ثمنًا بخسًا. لأول مرة منذ شهور، نضحك أنا وستيف ونصفِّر ونغنِّي. كنا في قمَّة السعادة. ها قد انتهت تلك الأيام الكئيبة. وانقشع الكابوس. ورحل ذلك الكلب سبوت.
بعد ثلاثة أسابيع، في صباح أحد الأيام، كنَّا — أنا وستيف — واقفَين على ضفة النهر في داوسون. وثَمَّة قاربٌ صغير كان قادمًا لتوِّه من بحيرة بينيت. رأيت ستيف ينتفِض فزِعًا، وسمعته يقول شيئًا لم يكن لطيفًا ولا بصوتٍ منخفض. ثم نظرت، فإذا سبوت جالس هناك في مقدمة القارب، بأُذنَين مرفوعتَين. تسلَّلنا أنا وستيف على الفور، مثل كلاب منهزمة، كالجبناء، كالهاربين من العدالة. وكان هذا التشبيه الأخير هو ما ظنَّه فينا ملازمُ الشرطة عندما رآنا نتسلَّل خُفيةً. فظنَّ أنَّ هناك ضُباطًا في القارب يطاردوننا. لم ينتظر لمعرفة الحقيقة، لكنه أبقانا تحت نظره، وحصرَنا في زاويةٍ في حانة «إم آند إم». قضينا وقتًا طريفًا نوضِّح فيه موقفنا؛ إذ إننا رفضنا العودةَ إلى القارب ومقابَلة سبوت، وأخيرًا وضعَنا تحت حراسةِ شرطيٍّ آخَر في الوقت الذي ذهب فيه إلى القارب. بعد أن تخلَّصنا منه، انطلقنا إلى الكوخ، وعندما وصلنا، كان سبوت جالسًا على درجة الكوخ الأمامية في انتظارنا. والآن، كيف عرف أننا نعيش هناك؟ كان في داوسون في ذلك الصيف أربعون ألف شخص، فكيف تعرَّف على كوخنا من بين جميع الأكواخ؟ كيف عرف، على أي حال، أننا في داوسون؟ سأترك الإجابة لك. ولكن لا تنسَ ما قلته عن ذكائه، وعن ذلك الشيء الذي رأيته يلمع في عينَيه ولا يخبو.
لم يَعُد لدينا أمل في التخلُّص منه بعد الآن. ثَمَّة أناسٌ كثيرون في داوسون كانوا قد اشترَوه في تشيلكوت، وما لبثت القصَّة أن انتشرت. ولستِّ مرات وضعناه على متن بواخر متَّجهة نحو يوكون، لكنه كان ينزل إلى الشاطئ في أول مرسًى، ثم يركض عائدًا على ضفة النهر. لم نتمكَّن من بيعه، وعجزنا عن قتله (فقد حاولنا أنا وستيف)، ولم يَقدِر أيُّ شخصٍ آخَر على قتله. كان محظوظًا. رأيتُه مقبِلًا على شِجارٍ بين الكلاب عند الشارع الرئيسي، حتى صار فوقه خمسون كلبًا، وعند تفرُّقِها، ظهر سالمًا على أرجُله الأربع، في حين مات كلبان من الكلاب التي كانت فوقه.
رأيته يسرق من مخزن ميجور دينويدي قطعةً من لحم الأَيِّل كانت ثقيلة لدرجةِ أنه تمكَّن بالكاد من أن يقفز قفزةً واحدة أمام الطاهية الهندية التي تعمل لدى السيدة دينويدي، التي كانت تطارده بفأس. عندما صعد التل، بعد أن استسلمَت الطاهية الهندية، خرَج الرائد دينويدي بنفسه وأطلق وابلًا من الرَّصاص من بندقيته وينشستر في إثره. أفرَغ مخزنَ بندقيته مرتَين دونَ أن تلمس سبوت رَصاصةٌ واحدة. ثم جاء شرطي وألقى القبض عليه بتهمة إطلاقِ نارٍ من سلاحٍ ناري داخل حدود المدينة. دفَع الرائد دينويدي غرامتَه، ودفعنا له — أنا وستيف — ثمنَ لحم الأَيِّل الذي كان دولارًا لكل رطل، شاملًا العَظم وكل شيء فيه. هذا ما كان قد دفعه السيد دينويدي مقابله. فقد كان اللحم مرتفعَ الثمن في تلك السنة.
لا أحكي إلا ما رأيته بعينيَّ. والآن سأخبركم بشيءٍ آخَر أيضًا. رأيت سبوت يسقط في حفرة ماء. كان سُمك الجليد يصل إلى ثلاث أقدام ونصف قدم، ومع ذلك سقط فيها وسحبه التيار إلى أسفل. على عُمق ثلاثمائة ياردة، كانت حفرة الماء الكبيرة التي يستخدمها المستشفى. وتسلَّل سبوت خارجًا منها، ثم لعق الماء على جسده، وقضم الجليد الذي تكوَّن بين أصابع قدمَيه، ثم ركض عائدًا إلى الضفة، وهزم كلبًا كبيرًا من سلالة نيوفاوندلاند، كان مِلكًا لمُفوَّض الذهب.
في خريف عام ١٨٩٨، سِرنا أنا وستيف بالقارب في نهر يوكون الضحل، متَّجهَين نحو نهر ستيوارت. أخذنا الكلابَ كلها معنا ما عدا سبوت. رأينا أننا كنا نُطعِمه لفترة طويلة بما يكفي. وكان قد كلَّفَنا وقتًا وجهدًا ومالًا وطعامًا أكثر مما ربحنا من بيعه في تشيلكوت، ولا سيما الطعام. لهذا ربطناه — أنا وستيف — في الكوخ وجرَرنا حمولتنا. وخيَّمنا تلك الليلةَ عند مصبِّ نهر إنديان، وكنت أنا وستيف في غاية السعادة لتملُّصنا منه. كان ستيف رفيقًا مرِحًا، وكنت أنا جالسًا تحت الغطاء أضحك عندما أُثيرت زوبعةٌ في المخيَّم. إن الطريقة التي دخَل بها سبوت إلى تلك الكلاب ولقَّنها درسًا كانت مرعِبة. والآن كيف تمكَّن من حَل قيده؟ الإجابة متروكة لك. ليس لديَّ أيُّ فرضية. وكيف تمكَّنَ من عبور نهر كلوندايك؟ هذه مُعضِلة أخرى. والأدهى، كيف عرف أننا سِرنا في نهر يوكون؟ فكما تَعلم، لقد سِرنا بالقارب في المياه، ومن ثَم يستحيل عليه تشمُّم آثارِنا. بدأنا — أنا وستيف — نؤمن بأن ثَمَّة شيئًا خارقًا للطبيعة في ذلك الكلب. كان يضغط على أعصابنا أيضًا، ولا أُخفيك، كنا خائفَين قليلًا منه.
تكاثَف الجليد عندما كنَّا عند مصبِّ خليج هندرسون، وقايضناه بشوالَين من الطحين مع فريق كان متَّجهًا إلى نهر وايت بحثًا عن النحاس. ثم فُقِد الفريق بأكمله. لم يُعثَر قَط على أيِّ أثر للرجال أو الكلاب أو الزلَّاجات، أو أي شيءٍ آخَر. اختفَوا تمامًا عن الأنظار. وأصبح اختفاؤهم لغزًا من الألغاز التي سرَت في البلدة. جاهدنا — أنا وستيف — للوصول إلى أعلى نهر ستيوارت، وبعد ستة أسابيع عاد ذلك الكلب سبوت إلى المخيَّم. كان هيكلًا عظميًّا يمشي على الأرض، استطاع بمشقَّة أن يُجرجر نفسه، لكنه في النهاية وصل. وما أريد أن أعرفه هو مَن الذي أخبره أننا وصلنا إلى أعلى نهر ستيوارت؟ كان بإمكاننا الذهاب إلى ألفِ مكانٍ آخَر. كيف عرف؟ أخبِرني، وسأخبرك.
لن نستطيع التخلُّص منه بأي طريقة. في قرية مايو بدأ شجارًا مع كلبٍ هندي. وحاول صاحب الكلب أن يضرب سبوت بفأس، لكنه أَفلت منه، وجاءت الضربة في كلبه، فقُتِل. حدِّثني عن السِّحر وتفادي الرَّصاص، بالنسبة إليَّ أنا، أرى أن الأصعب بكثيرٍ أن تتفادى فأسًا يُمسِك بنهايتها رجلٌ ضخم. لكني رأيته بعينيَّ يفعل ذلك. لم يُرِد ذلك الرجلُ أن يقتل كلبه. لكن هذا ما حدث.
أخبرتكم عن سرقة ذلك الكلب سبوت لمخزون اللحوم الخاص بنا. كدنا نموت نتيجةً لذلك. لم يتوافر مزيدٌ من اللحم لنصطاده، وكانت اللحوم كلَّ ما نعيش عليه. كانت الأيائلُ قد تراجعَت لمئات الأميال، وتراجَع الهنود معها. وها نحن أُولاءِ. كان الربيع قد هلَّ، وكان علينا انتظارُ ذوبان جليد النهر. صرنا نحيفَين للغاية؛ ومن ثَم قرَّرنا أن نأكل الكلاب، وقرَّرنا أن نبدأ بأكل سبوت أولًا. هل تعرف ماذا فعل ذلك الكلب؟ هرب. والآن كيف عرف أننا توصَّلنا إلى قرارِ أكله؟ بقينا مستيقظَين لياليَ طويلة في انتظاره، لكنه لم يَعُد قَط، وأكلنا الكلابَ الأخرى. أكلنا المجموعة بأكملها.
والآن دَعني أحكي لك ما حدث في النهاية. هل تعرف ماذا يعني أن يتكسَّر الجليد في نهر كبير، وتتزاحم مليارات الأطنان من الجليد معًا، ويصطدم بعضها ببعض وتنسحِق. في وسط كل هذا، عندما ذاب جليد نهر ستيوارت، وارتفع صوت هدير المياه وصخبها، رأينا سبوت واقفًا هناك في المنتصف. كان قد عَلِق وهو يحاول العبور من فوق مكانٍ ما. فصِحنا — أنا وستيف — وصرخنا وركضنا جَيئةً وذَهابًا على الضفَّة ونحن نرمي قُبعتَينا في الهواء. أحيانًا كنا نتوقَّف ونتعانق، كنا سعداء لتلك الدرجة؛ لأننا رأينا نهايةَ حياة سبوت. لم يكن محتمَلًا، ولو بنسبة واحد في المليون، أن يعيش. لم يكن هناك أيُّ احتمال على الإطلاق. بعد ذوبان الجليد، صعدنا في زورقٍ وجدَّفنا عائدَين إلى نهر يوكون، وسِرنا في يوكون حتى وصلنا إلى داوسون، وهناك توقَّفنا لمدة أسبوع حتى نتزوَّد بالطعام من الأكواخ التي كانت عند مصبِّ خليج هندرسون. وعندما وصلنا إلى ضفة النهر في داوسون، كان ذلك الكلب سبوت جالسًا في انتظارنا، وأُذناه مرفوعتان، يهزُّ ذيله، ويبتسم، مرحِّبًا بنا بحرارة. الآن كيف نجا من ذلك الجليد؟ وكيف عرف أننا سنأتي إلى داوسون، بالساعة والدقيقة، لينتظرنا هناك على ضفة النهر؟
كلما فكَّرت في ذلك الكلب سبوت، ترسَّخَت قناعتي بأنَّ هناك أمورًا كثيرة في هذا العالَم تتجاوز حدودَ العلم. لا يمكِن تفسير حكاية ذلك الكلب سبوت على أساسٍ علمي. أعتقد أنها تمثِّل ظاهرة نفسية، أو حالة روحانية، أو شيئًا من هذا القبيل، وتحمل في طيَّاتها الكثيرَ من التصوُّف. إن كلوندايك بلدة جميلة. ربما كنت سأصل إلى هناك وأصبح مليونيرًا، لولا سبوت. لقد ضغط على أعصابي. لقد تحمَّلته طَوال عامَين كاملَين، ثم، أظن أن قوَّتي على الاحتمال انهارت. كان ذلك في صيف ١٨٩٩ عندما انسحبت. لم أخبر ستيف بأيِّ شيء. تسلَّلت فحسب. لكنني رتَّبت كلَّ شيء بشكلٍ جيد. كتبت رسالة قصيرة لستيف، وأرفقتُ معها عُلبةً من السُّم القاتل للفئران، وأخبرته فيمَ يستخدمها. لقد استنفدني ذلك الكلب سبوت حتى صرتُ جِلدًا على عظم، وأثار أعصابي لدرجةِ أنني كنت أقفز وأتلفَّت حولي عندما لم يكن هناك أيُّ شخص على مسافة قريبة. لكن كم كان مدهشًا أن تعافيت عندما هربت منه! استعدت عشرين رطلًا قبل أن أصل إلى سان فرانسيسكو، وبحلول الوقت الذي وصلتُ فيه بالعبَّارة إلى أوكلاند، كنت قد استعدتُ نفسي القديمة مرةً أخرى، حتى إن زوجتي بحثَت عبثًا عن أيِّ تغيير طرأ عليَّ.
كتب لي ستيف ذاتَ مرة، وبدا الغضب في رسالته. كان منزعجًا لأنني تركته مع سبوت. وقال كذلك إنه قد استخدم سُم الفئران حسب التعليمات، ولم يحدث أيُّ شيء. مرَّ عامٌ. عدتُ إلى العمل في المكتب، وكنت أحقِّق نجاحًا في جميع مناحي الحياة، حتى إني صرت بدينًا قليلًا. ثم وصل ستيف. لكنه لم يبحث عني. قرأت اسمه في قائمة القادمين على الباخرة، وتساءلت عن السبب. لكنني لم أتساءل طويلًا. استيقظت في صباح أحد الأيام ووجدت ذلك الكلبَ سبوت مربوطًا بسلسلةٍ في إحدى قوائم بوَّابتي، وكان يمنع بائعَ الحليب من الدخول. علمتُ في ذلك الصباح تحديدًا أن ستيف سافر شمالًا إلى سياتل. لم يَزِد وزني مطلقًا منذ ذلك الحين. حثَّتني زوجتي على أن أشتري له طوقًا وبطاقة، وفي غضون ساعة أظهَر امتنانَه لها بقتل قِطَّتها الفارسية الأليفة. لا توجَد طريقة للتخلُّص من ذلك الكلب سبوت. سيظل معي حتى أموت؛ لأنه لن يموت أبدًا. شهيتي ليست جيدة منذ وصوله، وتقول زوجتي إنني أبدو شاحبًا. الليلة الماضية، دخل سبوت إلى حظيرة دجاج السيد هارفي (هارفي هو جاري في المنزل المجاوِر)، وقتل تسع عشرة دجاجة من سلالة فاخرة. سأُضطرُّ لدفع ثمنها. تَشاجَر جيراني القاطنون في الجهة الأخرى مع زوجتي، ثم رحلوا عن المكان. كان سبوت هو السبب في ذلك. ولهذا السبب خاب ظنِّي في ستيفن ماكاي. لم يكن لديَّ أدنى فكرة عن مدى وَضاعة هذا الرجل.