مفاجأة غير متوقعة
كان الشياطين يفكرون: إن هذه مغامرة عادية، قاموا بمثلها عشرات المرات، ولهذا ستكون مغامرة بسيطة. وإذا كانت مسافة الخمسين كيلومترًا سوف تحكم المغامرة هذه المرة، فهذه ليست مسألة شاقة ولا شائكة، فهم يستطيعون أن ينهوا المغامرة قبل أن تنتهيَ المسافة … قطع أفكارهم صوت رقم «صفر» يقول: إن المغامرة فيها جانب إنساني هام. هو وجود ابنه «جون»، وابنته «جان ماري» في السيارة. فالعصابة تستطيع أن تضغط على د. «مازني»، عن طريق ابنه وابنته. وهو كأبٍ لن يستطيع إلا الخضوع لطلبات العصابة. إن أي إنسان يمكن أن يضحيَ بنفسه ببساطة، لكنه لا يستطيع أن يضحيَ بأولاده، بنفس البساطة!
سكت رقم «صفر» قليلًا، ثم أضاف: تصوَّروا معي لو أن العصابة طلبَت من «مازني» أن يسلِّمها نتيجةَ أبحاثه الخاصة بالأرض نفسها، كأن يضع فيها موادَّ كيماوية، يمكن أن تغسل الأرض، أو تؤثِّر على الناس. ماذا يمكن أن يفعل د. «مازني»؟ إنه ببساطة يمكن أن يرفض، تبعًا لأمانته العلمية، وحتى لو عذبوه، فإنه يستطيع أن يرفض أيضًا. تصوروا معي كذلك، لو أنهم عذَّبوا ابنه «جون» أو ابنته «جان ماري»، أمام عينيه. هل يستطيع أن يتحمل صورتهما؟ لا أظن!
صمت رقم «صفر»، وترك هذه الكلمات تفعل فِعْلها في الشياطين، الذين تأثَّروا بالصورة التي رسمها رقم «صفر» لهم. بعد قليل، أكمل رقم «صفر»: أريد أن أكمل لكم صورة الموقف كله، خصوصًا فيما يتعلق بالدكتور «مازني» وابنه «جون» وابنته «جان ماري»، وقد سأل «مصباح» في حواره معكم، وقال إنه يبدو أن أم الطفلين ليست موجودة، وهذا صحيح، فهما يعيشان مع والدهما، وجدتهما أمُّ د. «مازني»، أمَّا والدتهما فقد تُوفِّيت منذ فترة. وهذا ما يجعل د. «مازني» يصحبهما معه كثيرًا، حتى يُسرِّيَ عنهما.
عندما سكت رقم «صفر»، كان الشياطين يشعرون بحزن عميق من أجل «جون» و«جان ماري»، ربما أكثر من حزنهم من أجل د. «مازني»، لقد رأى رقم «صفر» علامات الحزن على وجوه الشياطين؛ ولذلك أسرع يقول: إنَّ هناك نقطة هامة خاصة بالدكتور «مازني». وأنتم أيضًا قد تعرَّضْتم لها في حواركم. بجوار أنها جاءت على لسان الجَدَّة في حديثها إلى د. «مازني». فقد تحدثت عن أزمات تصيب الدكتور، وقالت: إن الطبيب يمنعه من ممارسة قيادة السيارات … حتى لا تفاجئه الأزمة وهو يقود السيارة، فتكون كارثة. أنتم طبعًا تحدثتم عن أزمات صحية كثيرة يمكن أن تصيب الإنسان. والمسألة بالتحديد، أن د. «مازني» قد تعرَّض لمرض في القلب، جعله يصاب بأزمات قلبية. صحيح أنه عُولج منها. لكنه لا يزال مُعرَّضًا لخطرها. ولذلك فالطبيب يمنعه من أيِّ انفعال؛ لأن أيَّ درجة عالية من الانفعال يمكن أن توديَ بحياته …
سكت رقم «صفر» مرة أخرى … ومرَّت دقائق، كان الشياطين خلالها ينظرون إلى بعضهم وكانت نظراتهم تعني أنها فعلًا مسألة شائكة. قطع أفكارَهم صوت رقم «صفر» يقول: إن د. «مازني» لو وقع في أيدي العصابة فمن المؤكد أنه سوف يتعرَّض لدرجة انفعال عالية، قد تكون سببًا في نهاية حياته. الأمر الثاني — وهو الخاص بكم — أن تُؤمِّنوا طريق د. «مازني» حتى تنتهيَ رحلته إلى «فيينا» دون أن يشعر بشيء …
سكت لحظة، ثم أضاف: إن لديكم أسلحتكم التي تستطيعون بها إنهاء المغامرة، دون صوت لطلقة رصاص واحدة … لأنه إذا سمع صوت طلقات رصاص … فإنه سوف يتعرض لأزمة قلبية …
مرة أخرى، انتظر رقم «صفر» بعض الوقت، ثم قال: أظنكم الآن قد عرفتم كل تفاصيل المغامرة. وهي مغامرة — كما أرى — شديدة الصعوبة. وإن كانت ليست صعبةً على الشياطين. ومرة أخرى أقول: إن نسبة الخطأ ليست واردةً أبدًا في أيِّ تصرُّف؛ لأن الخطأ يعني فشل المغامرة!
انتظر لحظة، ثم قال: إن د. «مازني» سوف يغادر بيته غدًا في الساعة الرابعة عصرًا وأمامكم ما يكفي للوصول في الموعد المناسب، فنحن ما زلنا أول النهار، وسوف تجدون خريطةً لبيت د. «مازني»، وخريطة أخرى للمنطقة. سكت لحظة أخرى، ثم قال: هل من أسئلة حول المغامرة!
انتظر بعض الوقت، لكن أحدًا من الشياطين لم ينطق بكلمة، فقد كانوا جميعًا مأخوذين، لطبيعة هذه المغامرة المثيرة، والغريبة معًا …
جاء صوت رقم «صفر» يقول: سوف يقوم بالمغامرة: «أحمد»، «عثمان»، «رشيد»، «قيس» أتمنى لكم التوفيق.
أخذ صوت أقدام رقم «صفر» يبتعد شيئًا فشيئًا، حتى اختفى تمامًا … نظر الشياطين إلى بعضهم، ثم أخذوا ينصرفون. وكان «أحمد» آخر من غادر القاعة، وفي الممر الطويل المؤدي إلى غرفهم، كان «عثمان» و«رشيد» و«قيس» في انتظاره. قال «أحمد» بسرعة: ينبغي أن نغادر المقر بعد ربع ساعة؛ فرحلة الطيران طويلة!
وبسرعة انصرفوا إلى غرفهم. عندما دخل «أحمد» الغرفة وجد مظروفًا على مكتبه … فعرف أنه يضمُّ الخرائط، وربما تعليمات جديدة للزعيم. فتح المظروف وألقى نظرة سريعة على ما بداخله … لم يكن هناك سوى خريطتين. فكَّر «أحمد» لحظة، ثم قال لنفسه: إن هذه منطقة باردة. وقد تهبُّ الرياح العاصفة. وقد تسقط الثلوج، لذلك ينبغي الحرص …
بسرعة رفع سماعة التليفون وتحدَّث إلى رفاق المغامرة يُحذِّرهم من الملابس الخفيفة. وقال في نهاية حديثه: ينبغي أن تكون الملابس بيضاء. فهذا سوف يعطينا فرصة التمويه أكثر.
وعندما وضع السماعة ابتسم؛ فقد تذكَّر «عثمان» بلونه الأسمر. وفي دقائق، كان قد جهَّز حقيبته السحرية … ووضع فيها الطلقات الصامتة الخاصة. وكرات الدخان، والإبر المخدرة. ابتسم وهو يغلق الحقيبة قائلًا: هذه أسلحتنا الصامتة …
ثم غادر الغرفة مباشرة. وعندما أغلق الباب. كان الشياطين الثلاثة؛ «عثمان» و«رشيد» و«قيس»، يمرُّون أمام الباب، فانضم إليهم، وفي الطريق إلى «الجراج» وقفوا عند أول مصعد، ثم استقلُّوه إلى طابَقٍ تحت الأرض. ومن هناك، خطَوْا خطواتٍ إلى حيث تقف السيارة. وفي دقائق، كانوا يغادرون «الجراج» منطلقين إلى خارج حدود المقر السري. فُتحت الأبواب في هدوء، فمرت السيارة بسرعة، وانطبقت الأبواب مرة أخرى، بلا صوت أيضًا … كان «رشيد» فقط الذي يراها في مرآة السيارة.
بدا الخلاء أمامهم ممتدًّا بلا نهاية. وكانت السيارة تنطلق في سرعة رهيبة. كان الشياطين مستغرقين في أفكارهم حول المغامرة، وذلك المعنى الإنساني الذي أحزنهم كثيرًا، غير أن «عثمان» قطع الصمت قائلًا: مغامرة مثيرة!
أضاف «رشيد»: مغامرة بلا صوت!
قال «قيس»: إذا كان الخطأ غير وارد بالنسبة لنا … فماذا نفعل بالنسبة لهم!
ردَّ «أحمد»: هذه هي صعوبة المغامرة. إن علينا أن نُنهيَ المغامرة في صمتٍ، وأظن أنها ليست صعبة، فنحن نستطيع أن ننتهيَ منها، فعلًا دون أية حركة، حتى دون أن يشعروا هم بشيء. لا د. «مازني» … ولا العصابة نفسها. إن ما تحمله من أسلحة يمكن أن يُنهيَ المغامرةَ كما نريد.
مرَّت فترة أخرى، لفَّهم خلالها الصمت، ولم يكن يصدر صوت سوى صوت الموتور الرتيب. لكن «رشيد» قال بنبرة حزن: لقد حزنت تمامًا من أجل «جون»، و«جان ماري»!
فأضاف «قيس»: نعم، خصوصًا هذه الصورة التي رسمها رقم «صفر»، لإمكان وقوعهما في يد العصابة …
قال «عثمان»: هي احتمالات على كل حال!
ردَّ «رشيد»: لكنها احتمالات حزينة، ومؤلمة أيضًا.
ولم يكن هناك ما يقال بعد ذلك، فغرقوا في صمت جديد … وانقضت الساعات، حتى ظهر المطار من بعيد، وعندما وقفت السيارة في مكانها المعتاد، قفزوا منها إلى حيث صالة المطار. وفي شركة الطيران، كانت تذاكر السفر في انتظارهم. حصلوا عليها، ثم اندسُّوا بين جموع المسافرين، في انتظار عودتهم. ذهب «أحمد» كعادته إلى باعة الصحف، فاشترى ما يريده.
فجأةً تردَّد في صالة المطار، صوت المذيعة الداخلية تدعو المسافرين إلى «بودابست» فأسرعوا، وتجاوزوا الحاجز إلى حيث صالة المطار الداخلية ولم تمضِ دقائق، حتى كانوا يأخذون طريقهم إلى الطائرة. واختاروا مقاعد متجاورة. فلم يكونوا في حاجة لأحد. إن المغامرة كلها بتفاصيلها عندهم، ولا يحتاجون إلى المزيد.
دقائق، وبدأت محركات الطائرة في الدوران، ثم بدأت حركتها فوق الأرض، ثم إلى الفضاء، حتى أخذت مسارها فيه. نظر «أحمد» من النافذة، يرى صور الأشياء … من هذا الارتفاع، كانت تبدو البيوت وكأنها علب الكبريت. والسيارات وكأنها حشرات صغيرة تتحرك … والشوارع كأنها خطوط مرسومة بالقلم الرصاص. وعندما ارتفعت الطائرة تمامًا، وتجاوزت السحاب، لم يكن يظهر سوى قطع السحاب المتناثرة، وكأنها أكوام من القطن الأبيض سابحة في الفضاء. كانت الطائرة في هذه اللحظة على ارتفاع ٣٣ ألف قدم فوق سطح البحر. استغرق «أحمد» في قراءة الصحف. وتوقَّف عند تحقيق صحفي حول زراعة الصحراء، وتجاربها في أماكن كثيرة من العالم. أخذه التحقيق، حتى إنه لم يسمع «عثمان» الذي كان يجلس بجانبه، وهو يسأل: متى سنصل إلى «بودابست»؟
ولما لم يرد «أحمد» ابتسم «عثمان». ولم يكرِّر السؤال، فقد وقعت عيناه على عنوان التحقيق الصحفي: «كيف يتحول اللون الأصفر إلى لون أخضر» … أثاره العنوان، فتمنَّى لو أنه أخذ الصحيفة وقرأها … لقد أصبح الاهتمام بزراعة الصحراء واحدًا من اهتمامات الشياطين.
كان الوقت ينقضي بسرعة، بالنسبة ﻟ «أحمد» بالذات. فقد استمرَّ يقرأ. وكأنه لا يريد أن يترك نفسه لأي أفكار أخرى. في نفس الوقت استغرق «عثمان» هو الآخر في قراءة التحقيق الصحفي. وفجأةً جاء صوت مذيعة الطائرة تقول: أهنئكم بالوصول. وأرجو أن تربطوا الأحزمة، وأن تمتنعوا عن التدخين؛ لأننا سننزل مطار «بودابست» بعد قليل!
أخذ الركاب يربطون الأحزمة، ويميلون على النوافذ؛ ليروا منظر المطار من الجو. فجأةً، جاء صوت مذيعة الطائرة يقول: لقد تعرَّض المطار لعاصفة شديدة الآن، لن نستطيع الهبوط!
نظر الركاب إلى بعضهم. كان الخوف يملأ الوجوه. غير أن صوت المذيعة قال: أرجو ألا يصيبكم هذا بأي خوف، إن هذه مسألة عادية نتعرض لها كثيرًا …
نظر «أحمد» من نافذة الطائرة فرأى قطع الثلج الصغيرة، وهي تقطع ضوء النهار. في نفس الوقت، كان صوت ارتطام الثلج بجسم الطائرة يبدو واضحًا. ابتسم «أحمد» وقال لنفسه: مغامرة لم تكن لنا على بال.
ظلَّت الطائرة تدور حول مطار «بودابست». فكر «أحمد»: هل سيستمر ذلك كثيرًا؟
قال «عثمان» هامسًا، حتى لا يسمعه أحد من الركاب، فيصاب بالفزع: ماذا لو فرغ وقود الطائرة؟
نظر له «أحمد» وقال: أظن أنهم يفعلون ذلك الآن، حتى لا تصاب الطائرة فجأةً … وهذه على كل حال مسألة عادية!
ألقى «أحمد» نظرة على الركاب، كانوا جميعًا صامتين، وكأنهم قد تجمَّدوا فجأةً.