علوم العرب قبل الإسلام
تمهيد في جزيرة العرب وأهلها
جزيرة العرب شحيحة المياه كثيرة الصحاري والجبال، فلم يشتغل أهلها بالزراعة لجدب الأرض، والإنسان وليد الإقليم الذي ينشأ فيه، وقد نشأ العرب على ما تقتضيه البلاد المجدبة من الارتزاق بالسائمة والرحيل في طلب المرعى، فغلبت البداوة على الحضارة فيهم، وانصرف أكثر همهم إلى تربية الماشية وهي قليلة بالنظر إلى احتياجاتهم منها، فنشأ بينهم التنازع عليها، وجرهم التنازع إلى الغزو، واضطرهم الغزو إلى الانتقال بخيامهم وأنعامهم من نجع إلى نجع، ومن صقع إلى صقع، ليلًا ونهارًا، وجوهم صافٍ وسماؤهم واضحة، فعولوا في الاهتداء إلى السبل على النجوم ومواقعها، واحتاجوا في مطاردة أعدائهم إلى استنباط الأدلة للكشف عن مخابئهم، فاستنبطوا قيافة الأثر، وألجأهم ذلك أيضًا إلى توقي حوادث الجو من المطر والأعاصير ونحوها، فعنوا بالتنبؤ عن حدوث الأمطار وهبوب الرياح قبل حدوثها، وهو ما يُعبرون عنه بالأنواء ومهاب الرياح.
ودعاهم الغزو من الناحية الأخرى إلى العصبية لتأليف الأحزاب، فاهتموا بالأنساب التي يترابطون بها، والارتحال في الغزو ونحوه يقتضي العناية بالسلاح والخيل، ولو كانوا أهل حضارة لأتقنوا صنع السلاح، وأما الخيل فبرعوا في تربيتها وانتقائها ومعالجة أمراضها.
والعرب إخوان الكلدانيين والبابليين والفينيقيين وغيرهم من أركان التمدن القديم، فهم أهل ذكاء وتعقل، لو سكنوا وادي الفرات، أو وادي النيل لكان منهم ما كان من أولئك، أو ما كان من جيرانهم التبابعة، ولكنَّهم أقاموا في بادية صفا جوها وأشرقت سماؤها، فصفت أذهانهم وانصرفت قرائحهم إلى قرض الشعر، يصفون به وقائعهم أو يبينون به أنسابهم أو يُعبرون به عن عواطفهم، وقويت فيهم ملكة البلاغة، فبرعوا في إلقاء الخطب يستنهضون بها الهمم، أو يدعون إلى الحرب أو السلم أو للمفاخرة أو المنافرة … ولولا ما في فطرتهم من الذكاء والتعقل لما ظهر منهم أكثر مما ظهر من جيرانهم سكان صحراء العدوة الغربية من البحر الأحمر، فإنَّهم ما زالوا من حيث المدنية على نحو ما كانوا عليه منذ قرون، وشأن جاهلية العرب من هذا القبيل شأن جاهلية اليونان في عصر هوميروس، فلما تمدَّن العرب أتوا بمثل ما أتي به أولئك.
على أنَّ العرب لم يسلموا مما وقع فيه معاصروهم من الأمم العظمى، من الاعتقاد في الكهانة والعرافة وزجر الطير وخط الرمل وتعبير الرؤيا، مما ينجم عن جهل أسباب الحوادث مع رغبتهم في تعليل بواعثها، ولذلك فقد كثر عندهم الكهان والعرافون ونحوهم.
فالعلوم التي كانت شائعة في جزيرة العرب قبل الإسلام ضرورية باعتبار طبيعة ذلك الإقليم وطبائع أهله، وقد سميناها علومًا بالقياس على ما يُماثلها عند الأمم الأخرى في عصر العلم، وإلا فالعرب الجاهليون لم يتعلموها في المدارس ولا قرأوها في الصحف ولا ألفوا فيها الكتب؛ لأنَّهم كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون، وإنَّما هي معلومات تجمعت في محفوظهم بتوالي الأجيال بالاقتباس والاستنباط، وتُنوقلت في الأعقاب وما زالت تنمو وتتزايد حتى بلغت عند ظهور الإسلام بضعة عشر علمًا، بعضها من قبيل الطبيعيات والبعض الآخر من قبيل الرياضيات أو الأدبيات، أو الكهانة أو ما يتعلق بذلك، ولو أردنا التوسع في وصفها لضاق بنا المقام فنذكرها على سبيل الاختصار.
وإذا أمعنا النظر في مصادر تلك العلوم رأينا بعضها خاصًّا بالعرب وقد نشأ عندهم، والبعض الآخر دخيل اقتبسوه من الأمم الأخرى … فالعلوم العربية هي: الأنساب، والشعر، والخطابة، والدخيلة هي: النجوم، والطب، والأنواء، والخيل، ومهاب الرياح، والميثولوجيا، والكهانة، والعيافة، والقيافة، وغيرها كما سترى فيما يلي:
(١) علم النجوم عند العرب
الكلدان أساتذة العالم في علم النجوم، وهم وضعوا أسسه ورفعوا أعمدته، ساعدهم على ذلك صفاء سمائهم وجفاف هوائهم واستواء آفاقهم، فرصدوا الكواكب وعينوا أماكنها ورسموا الأبراج ومنازل القمر والشمس، وحسبوا الخسوف والكسوف بآلات فلكية منذ بضعة وأربعين قرنًا، وعنهم أخذ اليونان والهنود والمصريون وغيرهم من أهل التمدن القديم.
وما زال الكلدان أو البابليون أهل دولة وسلطان إلى أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، فسطا عليهم الآشوريون فلم يُؤثّر ذلك شيئًا في آدابهم الاجتماعية لتشابه الشعبين لغة ودينًا، فلما كان القرن الخامس قبل الميلاد سطا عليهم الفرس وفتحوا بلادهم وبدلوا آلهتهم واستبدوا فيهم، فثقل ذلك عليم وضاقت الأرض بهم، فهاجر كثيرون منهم إلى ما جاورهم من البلاد وخصوصًا بلاد العرب؛ لأنَّها كانت حمى المهاجرين من العراق ومصر والشام، لامتناعها على الجنود بالصحاري الرمضاء ولسهولة الإقامة عليهم هناك لقرب لسان العرب من لسانهم.
أسماؤها العربية | أسماؤها الكلدانية |
---|---|
الحمل والكبش | أمرا |
الثور | ثورا |
الجوزاء أو التوأمان | تامي |
السرطان | سرطان |
الأسد | أربا |
السنبلة | شبلتا |
العقرب | ماساثا |
الميزان | عقربا |
القوس أو الرامي | قشتا |
الجدي | كديا |
الدلو | دولا |
الحوت أو السمكة | نونا |
وأما منازل القمر والشمس فقد تبدل بعض أسمائها كما أصاب السيارات، ولكنَّ العبرة بالأكثر في قواعد هذا العلم ومصطلحاته، فإنَّها عند العرب كما كانت عند الكلدان تمامًا، حتى لفظ «منازل القمر» فإن هذا التعبير هو نفس ما كان يعبر به الكلدان عن هذه المنازل، وقد أبدلته الأمم الأخرى التي أخذت هذا العلم عن الكلدان بتعبير آخر، إلا العرب واليهود.
الثريا | الجبهة | الإكليل | سعد السعود |
الدبران | الزبرة | القلب | سعد الأخبية |
الهقعة | الصرفة | الشولة | الفرغ المقدم |
الهنعة | العواء | النعائم | الفرغ المؤخر |
الذراع | السماك | البلدة | بطن الحوت |
النثرة | الغفر | سعد الذابح | الشرطان |
الطرف | الزبانيان | سعد بلع | البطين |
ومع اعترافنا بما في ذلك من المبالغة، فإننا نستدل منه على توسع العرب في هذا العلم.
ولا غرابة في إتقانهم معرفة النجوم ومواقعها، فإنَّها كانت دليلهم في أسفارهم وأكثر أحوالهم، فكانوا إذا سألهم سائل عن الطريق المؤدي إلى البلد الفلاني قالوا: «عليك بنجم كذا وكذا» فيسير في جهته حتى يجد المكان، وربما استعانوا على ذلك أيضًا بذكر مهابِّ الرياح يعبرون بها عن الجهات، ومن أمثلة ذلك أنَّ سليك بن سعد سأل قيس بن مكشوح المرادي أن يصف له منازل قومه ثم هو يصف له منازل قومه، فتوافقا وتعاهدا ألا يتكاذبا، فقال قيس بن المكشوح: «خذ بين مهب الجنوب والصبا، ثم سر حتى لا تدري أين ظل الشجرة، فإذا انقطعت المياه فسر أربعًا، حتى تبدو لك رملة وقف بينها الطريق، فإنك ترد على قومي مراد وخثعم».
(٢) الأنواء ومهابُّ الرياح
يراد بالأنواء عندهم ما يقابل علم الظواهر الجوية عندنا، مما يتعلق بالمطر والرياح، ولكنهم كانوا ينسبون الظواهر المذكورة إلى طلوع الكواكب أو غروبها، ولذلك كان علم الأنواء فرعًا من علم النجوم، وكانوا يسمون طلوع المنزلة نوءها؛ أي نهوضها، وسموا تأثير الطلوع بارحًا وتأثير السقوط نوءًا، ومن طلوع كل واحدة منها إلى طلوع التي تليها ثلاثة عشر يومًا، سوى الجبهة فإنَّ بين طلوعها وطلوع التي تليها ١٤ يومًا، ومن أقوالهم في ذلك:
وكانوا إذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى تأثير النجم المتسلط في ذلك الوقت، فيقولون مثلًا: مطرنا بنوء المجرة، أو هذا نوء الخريف، مُطرنا بالشعرى، وقالوا: إنَّ النوء سقوط نجم ينزل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه في الشرق من أنجم المنازل، ولذلك كانت الأنواء ٢٨ نوءًا أو نجمًا، كانوا يعتقدون أنَّها هي علة الأمطار والرياح والحر والبرد، وفي أشعارهم أمثلة كثيرة تدل على علاقة أحوال الجو أو فصول السنة باقترانات الكواكب أو طلوعها، وقد نظموها شعرًا ليسهل حفظها على النَّاس لقلة الكتابة عندهم، من ذلك قولهم:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
- (١)
مهب الصبا من الشمال.
- (٢)
مهب الشمال من المغرب.
- (٣)
مهب الدبور من الجنوب.
- (٤)
مهب الجنوب من المشرق.
ويزيد عليها أصحاب القول الأول: النكباء بجانب الشمال، والمحوة بجانب الجنوب، وإليك قول ذي الرمة في ذلك:
(٣) الميثولوجيا
ومما يلحق بعلم النجوم أيضًا ما يعبر عنه الإفرنج بالميثولوجيا، وهي عبارة عمَّا كانوا يزعمون وقوعه بين الكواكب — أو هي الآلهة عندهم — من الحروب أو الزواج أو نحو ذلك مما يجري على البشر على نحو ما ذكروه عن آلهة اليونان، فالعرب ألَّهوا الأجرام السماوية وعبدوها، وقلَّما ضاع خبر ذلك لعدم تدوينه، على أننا نستدل عليه من بعض ما وصل إلينا من أسماء أصنامهم وعبادة بعض رجالهم، فاللات اسم للزهرة، وقد اشتهر كثيرون بعبادتها وعبادة الشمس والقمر والشعرى، وكانوا يتناظرون في أفضلية بعضها على بعض، قالوا: «وأبو كبشة أول من عبد الشعرى، وكان يقول: الشعرى تقطع السماء عرضًا، ولا أرى في السماء شمسًا ولا قمرًا ولا نجمًا يقطع السماء عرضًا غيرها».
(٤) الكهانة والعرافة
هما لفظان لمعنى واحد، وفرق بعضهم بينهما فقال: إنَّ الكهانة مختصة بالأمور المستقبلة، والعرافة بالأمور الماضية، وعلى كل حال فالمراد بهما التنبؤ واستطلاع الغيب، على أنَّ العرب كانوا يعتقدون في الكاهن القدرة على كل شيء، فكانوا يستشيرونه في حوائجهم، ويتقاضون إليه في خصوماتهم، ويستطبونه في أمراضهم، ويستفتونه فيما أشُكل عليهم، ويستفسرون منه رؤاهم، ويستنبئونه عن مستقبلهم، وبالجملة: فالكهان عندهم هم أهل العلم والفلسفة والطب والقضاء والدين، شأن تلك الطبقة من البشر عند سائر الأمم القديمة في بابل وفينيقية ومصر وغيرها.
فالعرب كانوا يعتقدون في الكهنة العلم بكل شيء، وأنَّ ذلك يأتيهم بواسطة الأرواح، فمن كان منهم يعتقد التوحيد نسب ذلك إلى استطلاع الغيب عن أفواه الملائكة، وإذا كان من عبدة الأصنام اعتقد حلول الأرواح في الأصنام وبوحها بأسرار الطبيعة للكهان والسدنة، فيقول العرب: إنَّ الأصنام تدخلها الجن (أي الأرواح) وتخاطب الكهان، وإنَّ الكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وربما عبروا عنه بالهاتف، ومن أقوالهم: «الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب».
فكل ما كان يصنعه الكاهن إنَّما مصدره الغيب، فإذا استطبه مريض من ريح أو صداع عالجه بالرقى، وإذا استُشير في معضلة خط في الرمل أو نفث في العقد، وإذا حكمه متخاصمان رمى لهما بالقداح، وإذا استطلع عن سرقة أخذ قمقمة جعلها بين يديه ونفث فيها، ونحو ذلك من الحركات الوهمية، وإذا استفسر عن رؤيا تمتم وتظاهر باستطلاع الغيب.
قلنا: إنَّ الكهانة أتت العرب من بين النهرين، فالكُهان القدماء كانوا في الغالب كلدانيين (أو صابئة في قولهم) وكان العلم كله عندهم، ثم تعدد الكهنة من اليهود وغيرهم، ثم ما لبث العرب أنفسهم أن أخذوا ذلك عنهم، فنشأ الكهان منهم، على أنَّ بعض العرب اقتصروا فيما تناولوه على علم دون آخر، فكان بعضهم يتعاطى الطب فقط، وبعضهم تعبير الرؤيا أو القيافة أو القضاء.
الكهان
واشتهر في بلاد العرب جماعة كبيرة من الكهان والكواهن، أقدمهم شق وسطيح وحكايتهما أشبه بالخرافات منها بالحقائق، فعندهم أنَّ الأول كان شق إنسان (أي نصفه) بيد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، وأن سطيحًا كان لحمًا يطوى كما يطوى الثوب، لا عظم فيه غير الجمجمة ووجهه في صدره، ويزعمون أنَّ هذين الكاهنين عاشا بضعة قرون، إلى غير ذلك من الأوهام، ومن الكهان الذين نبغوا في النهضة العربية قبل الإسلام خنافر بن التوأم الحميَري، وسواد بن قارب الدوسي، وفيهم من يعرفون بما ينسبون إليه من البلاد أو القبائل، كقولهم: كاهن قريش، وكاهن اليمن، وكاهن حضرموت، وغيرهم.
ويقال نحو ذلك في العرافين، وأكثرهم ينسبون إلى بلدانهم وقبائلهم، كعراف هذيل، وعراف نجد، وأشهرهم عراف اليمامة، شهره عروة بن حزام ببيت قاله فيه — وكذلك الشعراء يشهرون ممدوحيهم — وهو قوله:
وكان للكهان عند العرب لغة خاصة، تمتاز بتسجيع معين يُعرف بسجع الكهان، مع تعقيد وغموض، ولعلهم كانوا يتوخون ذلك للتمويه على النَّاس بعبارات تحتمل غير وجه، كما يفعل بعض مشايخ التنجيم في هذه الأيام، حتى إذا لم يصدق تكهنهم جعلوا السبب قصور الناس في فهم قول الكاهن.
القيافة
ومن قبيل الكهانة أيضًا القيافة، لكنَّها تختص بتتبع الآثار والاستدلال منها على الأعيان، وهي قسمان: قيافة الأثر، وقيافة البشر، والأولى تختص بتتبع آثار الأقدام أو الحوافر أو الأخفاف، والاستدلال من آثارها في الرمال أو التراب على أصحابها، والفائدة من ذلك الاهتداء إلى الفارِّ من النَّاس أو الضالِّ من الحيوان، وقد أتقن العرب ذلك حتى فرق بعضهم بين أثر قدم الشاب والشيخ، وقدم الرجل والمرأة، والبكر والثيب، وأما قيافة البشر فهي الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب والولادة وسائر أحوالهما، وهي من قبيل الفراسة.
وكانت القيافة شائعة في العرب ثم اختصت بعض القبائل بها دون البعض الآخر، وأشهر العرب بقيافة الأثر بنو مدلج وبنو لهب، ولا تزال هذه القيافة شائعة إلى اليوم في بعض قبائل نجد، ويقال: إنَّهم بنو مرة وهم أعلم الناس بها، حتى لقد يعرف أحدهم الإنسان من أثره، وربما نظر إلى أثر بعير فقال: هذا بعير فلان، وكثيرون منهم يميزون بين العراقي والشامي والمصري والمدني.
والفراسة كانت شائعة في العرب، وكانت لهم فيها براعة يستدلون بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله على أخلاقه ومناقبه، وهي من قبيل الذكاء وسرعة الخاطر وسجية طبيعية.
ومن هذا القبيل زجر الطير وخط الرمل، وقد أغضينا عنهما لضيق المقام.
(٥) الطب في الجاهلية
الطب من جملة العلوم التي وضع أساسها الكلدان كهنة بابل، وهم أول من بحث في علاج الأمراض، فكانوا يضعون مرضاهم في الأزقة ومعابر الطرق، حتى إذا مر بهم أحد أصيب بذلك الداء فيعلمهم بسبب شفائه، فيكتبون ذلك على ألواح يعلقونها في الهياكل، ولذلك كان التطبيب عندهم من جملة أعمال الكهان.
وعن الكلدان أخذت الأمم القديمة وفي جملتها العرب، وهو متشابه عند تلك الأمم في مصر وفينيقية وآشور، ثم تناوله اليونان فأتقنوه ورتبوا أبوابه، وعنهم أخذ الرومان والفرس، ونظرًا لمعاصرة العرب لهذه الدول فقد اقتبسوا شيئًا من طبها أضافوه إلى ما جاءهم به الكلدان، وإلى ما استنبطوه من عند أنفسهم بالاختبار، فتألف من ذلك ما عبرنا عنه «بالطب في الجاهلية» ولا يزال كثير منه باقيًا إلى اليوم في قبائل البادية.
وكان للتطبيب عندهم طريقتان: الأولى، طريقة الكهان والعرافين، والثانية: طريقة العلاج الحقيقية، فالكهان كانوا يعالجون بالرقى والسحر كما تقدم، أو بذبح الذبائح في الكعبة والدعاء فيها، أو بالتعازيم أو نحو ذلك.
وكان التطبيب بالرقى شائعًا في الأمم القديمة كلها، وقد وجدوا في الآثار المصرية كثيرًا من العزائم، التي كانوا يصفونها لمعالجة المرضى، وجاء من أخبارهم أنَّ كاهنهم كان إذا سار لمعالجة مريض صحبه خادمان أحدهما يحمل كتاب العزائم، والثَّاني يحمل صندوق العقاقير الطبية، وهم يعالجون بالاثنين جميعًا.
وكان اعتقادهم من هذا القبيل أنَّهم إذا خافوا وباءً نهقوا نهيق الحمار، يزعمون أنَّ ذلك يمنعهم من الوباء، وأنَّ دماء الملوك تشفي من الخبل.
الأطباء
وأما الأطباء فقد كانوا في أول الأمر من الكهنة، ثم تعاطى الطب جماعة من العرب ممن خالطوا الروم والفرس وأخذوا الطب عنهم فاشتهروا بهذه الصناعة، وأكثرهم من أهل النهضة الأخيرة قبل الإسلام حوالي القرن السادس للميلاد، على أنَّ بعضهم أقدم من ذلك كثيرًا، وأقدم أطبائها لقمان وهو حكيمهم وفيلسوفهم، وفي أصله وزمن وجوده اختلاف، يليه رجل من تيم الرباب يقال له ابن حذيم، ويضربون به المثل بالحذق في الطب فيقولون لمن أرادوا وصفه بذلك: أطب من ابن حذيم، وفيه يقول أوس بن حجر:
ومن أحدث أطباء الجاهلية الحارث بن كلدة تُوفي سنة ١٣ للهجرة، وهو من بني ثقيف من أهل الطائف، رحل إلى أرض فارس وأخذ الطب من جنديسابور، وتعاطى صناعة الطب هناك واكتسب مالًا ثم عاد إلى بلاده وأقام في الطائف ونال شهرة واسعة، وقد أدرك الإسلام وكان النبي يأمر من كانت به علة أن يأتيه فيستوصفه — ومنهم ابن أبي رومية التميمي، والنضر بن الحارث بن كلدة.
(٦) الشعر في الجاهلية
الشعر عن العرب الكلام المقفى الموزون، وهذا في الحقيقة تعريف النظم وليس تعريف الشعر؛ لأنَّ النظم غير الشعر، إذ قد يكون الرجل شاعرًا ولا يحسن النظم، وقد يكون ناظمًا وليس في نظمه شعر — وإن كان النظم يزيد الشعر طلاوة ووقعًا في النفس. فالنظم هو القالب الذي يسبك فيه الشعر، وأما الشعر بأعم معانيه فيصعب الاختصار في تعريفه، لما ينطوي تحته من أساليب التعبير وتأثيره في النفس، مما لا يستطيع أن يؤثر تأثيره الكلام المرسل، والفرق بينهما أننا نعبر بالكلام المرسل عما نشاهده أو نستنتجه من أعمال الحياة بالقياس أو البرهان، وأما الشعر فنعبر به عن شعورنا بالانفعالات النفسية بلا قياس ولا برهان، فالكلام المرسل «لغة العقل»، والشعر «لغة النفس أو القلب». وقال بعضهم: «الشعر صورة ظاهرة لحقائق غير ظاهرة».
ولذلك فالشعر قديم لم تخل منه أمة من أمم العالم قديمًا ولا حديثًا، وهو مرآة آداب الناس، وصحيفة أخلاقهم، وديوان أخبارهم، وسجل عقائدهم؛ لأنَّ الإنسان ارتقت نفسه وتحرك قلبه قبل أن يرتقي عقله وتتهذب مداركه، فتكلم بالشعر قبل أن تكلم في العلم، ولذلك كان أقدم أخبار النَّاس من قبيل الخيال، وأقدم المحفوظ من مدونات الأمم كتب الشعر، وقد دونوا فيها مشاعرهم الدينية والأدبية أو الحماسية أو غير ذلك من صور الانفعالات النفسية، فالمهابهاراتة والرامايانة عند الهنود، والإلياذة والأوذيسة عند اليونان، والإنيادة عند الرومان، وبعض أسفار التوراة عند اليهود، والشاهنامة عند الفرس، إنَّما هي شعر حفظت فيها عادات تلك الأمم وأخلاقهم وأخبارهم، وخصوصًا من حيث العبادة والآلهة، وذلك طبيعي؛ لأنَّ الشعر كما قلنا لغة النفس تعبر به عن انفعالها وتطلب به مشتهاها، لا تقدم على ذلك برهانًا ولا تطلب دليلًا، والدين أكثر أعمالها حاجة إلى التسليم والإيمان العاطفي القلبي.
الشعر العبراني
والشعوب السامية أكثر الأمم إعراقًا في عالم الخيال، ولذلك كانوا أميل الناس إلى اعتقاد التوحيد والتدين بما لا يقع تحت الحواس، ولهذا السبب أيضًا كانوا أقرب الناس طبعًا إلى التصورات الشعرية، وترى ذلك واضحًا فيما خلفوه من الآثار الشعرية، وأقدم آثار الساميين من هذا القبيل التوراة، وقد وجدوا التصورات الشعرية في أقدم أسفارها، فما كلام «لامك» لامرأتيه «عادة» و«صلة» في سفر التكوين (ص٢٣٥٤) إلا جزء من نشيد ضاع ولم يبق منه إلا مطلعه، وفي أصله العبراني ما يدل على أنَّه شعر موزون ومقفى، فهو أقدم منظومات العبرانيين، بل أقدم الشعر المقفى في العالم على الإطلاق.
وفي التوراة أمثلة كثيرة من التصور الشعري، كقول يشوع لموسى لما سمع جلبة الشعب عند نزول موسى من الجبل ولوحا الشهادة معه (خروج ٣٢ : ١٧): «صوت حرب في المحلة» فقال موسى: «ليس ذلك صياح ظفر ولا صياح هزيمة، بل صوت غناء أنا سامع». والمظنون أنَّ هذه الفقرة بيت قديم تمثل به موسى في تلك الحال. وقس عليه.
وهناك أسفار كلها شعر، كسفر أيوب، ويُقال: إنَّ أصله عربي، وسفر أشعيا ومزامير داود وغيرها مما هو مشهور، وقد بلغ الشعر العبراني أسمى درجاته في أيام سليمان الحكيم، لاستتباب الأمن وسعة الملك ورخاء العيش، وهو العصر الذهبي عند اليهود مثل عصر المأمون عند العرب. وكان سليمان نفسه حكيمًا وشاعرًا كما كان المأمون أيضًا.
الشعر العربي
والعرب كالعبرانيين في استعدادهم الفطري لقرض الشعر والاستغراق في عالم الخيال؛ لأنَّهم ساميون مثلهم، واللغة العربية أكثر استعدادًا للتعبير الشعري من العبرانية لما فيها من المترادف والمتوارد وأساليب المعاني والبيان، وإذا اعتبرنا الإقليم والبيئة رأينا العرب أولى بالتصوير الشعري من اليهود، نظرًا لانطلاقهم في الصحاري واستقلالهم في أحكامهم وأفكارهم وسائر أحوالهم، ولذلك كان شعرهم أكثره من قبيل الحماسة والفروسية، وأما اليهود فالذل والانكسار والتدين هي الصفات المميزة لأشعارهم.
ولا ريب أنَّ للوزن والقافية رنَّة تزيد المعنى الشعري تأثيرًا في النفس، لا أنَّها هي تجعله شعرًا، فالخطابة تؤثر في النفوس وتهيج العواطف، وكلامها غير موزون ولا مقفى، وهي من قبيل التصورات الشعرية، وسيأتي الكلام عليها.
كيف توصلوا للنظم
-
(١)
لأنَّهم ساميون أهل خيال من فطرتهم.
-
(٢)
لأنَّهم سكنوا البادية وتعودوا الحرية والاستقلال.
-
(٣)
لأنَّ شؤونهم البدوية قضت بينهم بالتنازع والتنافر والتفاخر مما يشحذ الأذهان ويستحث البدائِه.
-
(٤)
لأنَّ لغتهم تُساعدهم على النظم.
والعرب أمة قديمة ولذلك فلا بد أن تكون قد نظمت الشعر من قديم الزمان، والواقع أنَّ أقدم ما وصل إلينا من أشعارهم لا يتجاوز القرن الثاني قبل الهجرة، فهل كان العرب قبل ذلك ينظمون؟
الغالب في اعتقادنا أنَّهم نظموا كما نظم العبرانيون، ولا يبعد أن يكون سفر أيوب من بقايا شعرهم القديم، وقد حفظ في العبرانية وضاع أصله العربي، ولو لم يحفظ في العبرانية لضاع كما ضاع غيره من منظومات العرب، لجهلهم الكتابة، ولانقطاعهم عن الأمم التي كانت تعرفها في ذلك العهد.
كثرة شعر العرب
وزد على ذلك أنَّ العرب نظموا الشعر الكثير وأبدعوا فيه، وهم يكادون يكونون فوضى لا دولة لهم ولا جامعة ولا دين ولا شيء مما حمل اليونان أو الهنود أو غيرهم على النظم وإنَّما اندفعوا إليه بفطرتهم، ولولا ذلك لتأخروا في النظم حتى قامت دولتهم ونضجت قرائحهم، كما حدث للرومانيين فإنَّ الشعر لم ينظم بلسانهم إلا بعد تأسيس دولتهم ببضعة قرون، ولم يبلغ الشعر اللاتيني عصره الذهبي إلا في أيام أوغسطس وطيباريوس نحو القرن الثامن من تأسيس رومية (القرن الأول للميلاد) ثم أخذ في التقهقر، ويقال نحو ذلك في دول أوربا الحالية، فإنَّ الشعر لم ينضج عندهم إلا بعد نشوء دولهم وتقدمهم في العلم والأدب.
أقسام الشعر
والشعر من حيث موضوعه ينقسم إلى قسمين كبيرين: الأول ما يُعبّر به الشاعر عن عواطفه وعواطف ذويه، والثاني ما يصف به أحوال الآخرين.
وأما الشعر الوصفي أو القصصي فلا نقول إنه معدوم في العربية ولكنه قليل، وخصوصًا في الجاهلية، وأكثر ما عثروا عليه منه لا يخرج عن وصف بعض الأدوات أو الحيوانات أو بعض الوقائع القصيرة، وأمَّا الشعر القصصي — على نحو ما في إلياذة هوميروس أو شاهنامة الفردوسي — فلا وجود له عندهم، ولا يدل ذلك على أنَّهم لم ينظموا مثلهما، بل ويغلب على ظننا أنَّهم نظموا كثيرًا من أخبار حروبهم المشهورة بين قبائلهم، ونظرًا لعدم تدوينها ضاعت من محفوظهم إلا قطعًا بقيت إلى زمن تدوين الشعر في الإسلام، تقتصر القصيدة منها على وصف وقعة أو بعض وقعة من تلك الحروب، والمقام لا يُساعدنا على زيادة البحث.
منزلة الشعر
فمن شعرهم استخرج الناس أخبار أيامهم وحروبهم، ومنه ألَّف السجستاني «كتاب المعمرين»، ومنه استخرجوا أحوال الشعراء المتقدمين، وألَّفوا الكتب كابن قتيبة وغيره، ومن شعرهم استخرجوا وصف البلاد والجبال والأودية والوهاد، ومنه ألفوا ما ألفوه في الحيوان والنبات، ككتاب الحيوان للجاحظ، والنبات لأبي حنيفة الدينوري، ومن أشعارهم استطلعوا أديانهم في أيام جاهليتهم، وقس على ذلك كل ما عرفوه من عاداتهم وآدابهم في الضيافة والفروسية والأعراس والمآتم وغيرها.
المعلقات
تأثير الشعر
أما تأثير الشعر في حماية الأعراض فسببه ما فطر عليه العرب من الحماسة والخيال فيتأثرون بالكلام البليغ، وربما أقامهم البيت الواحد وأقعدهم.
فكانوا يبذلون قصارى الجهد في أن يمدحهم الشعراء، ومن مدحوه ارتفعت منزلته وإذا كانت له بنات تزوَّجن،كما فعل الأعشى الأكبر بالمحلَّق إذ مدحه الأعشى بقصيدة أنشدها في سوق عكاظ فاشتهر وخُطِبَتْ بناته.
وكما فعل مسكين الدارمي في إنفاق الخُمُر السود بعد كسادها ببيتين وصف بهما مليحة عليها خمار أسود وهما:
ألقاب الشعراء
وكان الشاعر يُلَّقب بلفظٍ ورد في بعض أشعاره، فعوف بن سعد بن مالك لقب بالمرقش لقوله:
وجرير بن عبد المسيح الضبعي لقب بالمتلمس لقوله:
وزياد بن معاوية الذبياني لقب بالنابغة لقوله:
وبالجملة فقد كان الشعر شائعًا في العرب، ولم تخلُ قبيلة من شاعر أو أكثر يحمي ذمارها ويصف عواطفها، وكان الشعر عندهم مستودع الأخبار وخزانة الآداب والأخلاق، ولذلك قيل: الشعر ديوان العرب، ومن قبيل الشعر الأمثال، فإنَّها مرآة العادات والأخلاق والآداب وقد استخرج الناس كثيرًا من آداب العرب الجاهلية من أمثالها.
(٧) الخطابة في الجاهلية
الخطابة تحتاج إلى خيال وبلاغة، ولذلك عددناها من قبيل الشعر، أو هي شعر منثور وهو شعر منظوم، وإن كان لكل منهما موقف، فالخطابة تحتاج إلى الحماسة، ويغلب تأثيرها في أبناء عصر الفروسية وأصحاب النفوس الأبية طلاب الاستقلال والحرية، مما لا يشترط في الشعر، ولذلك تشابهت جاهلية العرب وجاهلية اليونان من هذا الوجه؛ لأنَّ كليهما أهل شعر وخطابة وأهل إباء واستقلال، ولذلك أيضًا كانت الخطابة رائجة عند الرومان، مع تأخر الشعر عندهم، ولنفس هذا السبب قصر العبرانيون في الخطابة مع تقدمهم في الشعر لغلبة الذل والضعف على طباعهم، فتحول خيالهم الشعري إلى الشكوى والتضرع وانصرفت قرائحهم إلى نظم المراثي والحكم.
أما العرب فقد قضى عليهم الإقليم بالحرية والحماسة، وهم ذوو نفوس حساسة مثل سائر أهل الخيال الشعري، فأصبح للبلاغة وقع شديد في نفوسهم، فالعبارة البليغة قد تقعدهم أو تقيمهم بما تثيره في خواطرهم من النخوة.
ومما يدل على تشابه الشعر والخطابة أنَّ الغالب في الشعراء أن يخطبوا والخطباء أن ينظموا، فيكون الواحد شاعرًا وخطيبًا، فإذا غلب عليه الشعر سموه شاعرًا، أو الخطابة سموه خطيبًا، والقبائل التي كثر خطباؤها هي غالبًا التي كثر شعراؤها.
موضوعات الخطب
أما إيفاد الوفود فقد كان شائعًا في تلك العصور، فكانت دول الروم والهند والصين والفرس يتبادلون الوفود لمبادلة العلاقات أو للمفاخرة، ولم يكن للعرب دولة تستوفد من قبلها، ولكن المناذرة ملوك العرب في العراق كانوا يذكرون فصاحة العرب بين يدي الأكاسرة، وخصوصًا كسرى أنو شروان فكان يميل إلى مشاهدتهم، فاتفق مرة أنَّ النعمان خاطبه في ذلك فطلب إليه أن يريه واحدًا منهم، فاستقدم جماعة من خطباء العرب اختار من كل قبيلة اثنين أو ثلاثة هم في الحقيقة حكماؤهم ووجهاؤهم، ومنهم أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة من قبيلة تميم، والحارث بن ظالم، وقيس بن مسعود من قبيلة بكر، وخالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل من بني عامر وغيرهم، فقدموا على كسرى وخطب كل منهم بين يديه خطابًا ذكره ابن عبد ربه مفصلًا في الجزء الثالث من العقد الفريد.
على أنَّ عرب اليمن وشرقي جزيرة العرب كانوا يقدمون على كسرى للشكوى من عماله هناك، وكان غيرهم من العرب يفدون عليه بالهدايا من الخيل ونحوها على سبيل الاستجداء، كما فعل أبو سفيان والد معاوية.
وكانوا يفدون على الأمراء من العرب وغيرهم، كوفود حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر بالحيرة وعلى آل جفنة في البلقاء، ووفود وجهاء قريش على سيف بن ذي يزن في اليمن بعد قتله الحبشة، فقد وفدوا عليه للتهنئة بالنصر، وكان في جملة خطباء ذلك الوفد عبد المطلب جدّ النبي ﷺ، ومن هذا القبيل وفود القبائل على النبي بعد أن استتب له الأمر، فقد جاءه من كل قبيلة وجهاؤها وخيرة بلغائها لاعتناق الإسلام أو للاستفهام أو غير ذلك، ومن هذا القبيل وفود العرب على الخلفاء للتسليم والتهنئة، كوفود جبلة بن الأيهم وعمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب، ووفود أهل اليمامة على أبي بكر وغيرهم مما يطول شرحه.
الخطباء
ومنهم سحبان وائل الباهلي الذي يُضرب المثل بفصاحته فيقال: «هو أخطب من سحبان وائل». وكان إذا خطب يسيل عرقًا، ولا يعيد كلمة ولا يتوقف، ولا يقعد حتى يفرغ، ومنهم جماعة كبيرة من حمير، كدويد بن زيد، وزهير بن خباب، ومرثد الخير، وغيرهم من سائر القبائل، كالحارث بن كعب المذحجي، وقيس بن زهير العبسي، والربيع بن ضبيع الفزاري، وذي الأصبع العدواني، وأكثم بن صيفي التميمي، وعمرو بن كلثوم التغلبي وكثيرين غيرهم.
(٨) مجالس الأدب وسوق عكاظ
كان العرب يعقدون المجالس لمناشدة الأشعار ومبادلة الأخبار والمسامرة أو البحث في بعض الشؤون العامة، وكانوا يسمون تلك المجالس الأندية، ومنها نادي قريش ودار الندوة كانت بجوار الكعبة، على أنهم كانوا حينما اجتمعوا على فراغ من العمل عمدوا إلى المناشدة والمفاخرة والمسامرة، وخصوصًا في المواسم المعبر عنها بالأسواق.
الأسواق
والمراد بالسوق مكان يجتمع فيه أهل البلاد أو القرى في أوقات معينة، يتبايعون ويتداولون ويتقايضون، ولا تزال أمثال هذه الأسواق تقام إلى اليوم في القرى أو في البلاد البعيدة عن التمدن الحديث، على أنَّ في بعض المدن الكبرى — كالقاهرة مثلًا — أسواقًا تنعقد في بعض أيام الأسبوع وتعرف بها، كسوق السبت — أو السبتية — وسوق الثلاثاء أو الأربعاء، فيجتمع إليها الناس من الضواحي للبيع والشراء.
ومن هذه الأسواق ما ينعقد كل أسبوع، ومنها ما لا ينعقد إلا مرة في الشهر، أو في السنة، ومنها ما ينعقد مرة كل بضع سنين، فإنَّ للهنود سوقًا يقيمونها في هردوار على ضفاف الكنج كل سنة ويبلغ عدد المجتمعين هناك في الموسم ٣٠٠٠٠٠ نفس، ويقيمون في ذلك المكان حجًّا مرة كل ١٢ سنة يبلغ عدد الحجاج إليه نحو مليون نفس، وهو أكبر أسواق العالم، وكانت أمثال هذه الأسواق كثيرة في روسيا وبلاد الدولة العثمانية وفي ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وأمريكا، فقد كانت في روسيا سوق تُقام في مدينة نوفكرود مرتين في السنة يبلغ عدد الذين يؤمونها ١٢٠٠٠ نفس يجتمعون هناك من سائر بلاد روسيا ومن شرقي أوربا، ويقدرون قيمة ما يباع من البضائع في أسواق روسيا بنحو ١٢٠٠٠٠٠٠ روبل في العام، وقس على ذلك سائر الأسواق الكبرى.
وقد كان كثير من أمثال هذه الأسواق في العالم القديم، لكن الأقدام لا تتزاحم فيها إلا إذا كان الغرض من الاجتماع حجًّا دينيًّا، فإذا اجتمع الناس في مكان الحج وتكاثروا احتاجوا إلى من يبيعهم الأطعمة والأشربة وغيرها، فتقام الأسواق لهذه الغاية.. كذلك شأن العرب في سوق عكاظ وغيرها من أسواق الجاهلية.
أسواق العرب
سوق عكاظ
فقالت هند تجيبها:
فإذا كانت هذه حالهم في المفاخرة بالمصائب، فكيف بالأنساب والأحساب والشجاعة والفضل؟ ولذلك كثر الخصام هناك وانتشبت عدة مواقع لا محل لذكرها هنا.
(٩) الأنساب في الجاهلية
الأنساب
كان للأنساب في عصور الجاهلية عند الأمم القديمة شأن كبير، وكان للناس عناية عظمى في حفظ أنسابهم للتناصر على الأعداء أو التفاخر بالآباء، وقد بالغ اليونان في ذلك حتى حفظوا أنساب آلهتهم وكيفية تسلسلها بعضها من بعض، ثم نسبوا أنفسهم إليها، فلم يكن في جاهلية اليونان أسرة كبيرة من الأشراف ورجال السلطة إلا وحبل نسبها يتصل ببعض تلك الآلهة.
نسب العرب
(١٠) التاريخ
لم يكن عند عرب الجاهلية تاريخ من قبيل ما نفهمه من هذه اللفظة اليوم، ولكنهم كانوا يتناقلون أخبارًا متفرقة بعضها حدث في بلادهم والبعض الآخر نقله إليهم الذين عاشروهم من الأمم الأخرى، فمن أمثال أخبارهم حروب القبائل المعروفة بأيام العرب، وقصة سد مأرب، واستيلاء أبي كرب تبان أسعد على اليمن، وبعض من خلفه، وملك ذي نواس، وقصة أصحاب الأخدود، وفتح الحبشة لليمن، وقصة أصحاب الفيل وقدومهم الكعبة، وحرب ذي يزن الحميري إلى آخر ما انتهى إليه أمر الفرس في اليمن، وقصة عمرو بن لحي وأصنام العرب، وحكاية جرهم ودفن زمزم وتاريخ الكعبة إلى أيام قُصي بن كلاب، وولاية الحج وأمر عامر بن الظرب، ثم ما كان من غلب قصي على أمر مكة، وقصة حلف المطيبين وحلف الفضول، وحفر بئر زمزم وحرب الفجار وحديث بنيان الكعبة، غير أخبار عاد وثمود وغيرهما من العرب البائدة، وحكاية بلقيس وسُليمان ونحوهما من أخبار التوراة، وغير ذلك من الأخبار التي كان العرب يتناقلونها عند ظهور الإسلام.
الخلاصة
وجملة القول أنَّ ما سميناه علوم العرب قبل الإسلام يبلغ إلى بضعة عشر علمًا، فلما جاء الإسلام أهمل بعضها كالكهانة والعيافة والقيافة، وبقي بعضها عند أهله، ونشأ ما يقوم مقامه في عصر الحضارة، كالنجوم والأنواء ومهاب الرياح والطب والخيل، وارتقى الباقي واتسع عمّا كان في الجاهلية، كالشعر والخطابة والبلاغة، وكان الإسلام مساعدًا على ارتقائها بالقرآن الكريم.