علوم العرب بعد الإسلام
- (١)
العلوم التي اقتضاها الإسلام، وهي علوم القرآن، والحديث، والفقه، واللغة، والتاريخ، ونُسميها العلوم الإسلامية أو الآداب الإسلامية.
- (٢)
العلوم التي كانت في الجاهلية وارتقت في الإسلام، وهي الشعر والخطابة، ونُسمِّيها الآداب الجاهلية أو الآداب الإسلامية.
- (٣)
العلوم التي نُقلت إلى العربية من اللغات الأخرى، كالطب والهندسة والفلسفة والفلك وسائر العلوم الطبيعية والرياضية، ونُسميها العلوم الدخيلة أو الأجنبية.
وقبل البحث في هذه العلوم وعلاقتها بالتمدن الإسلامي، نمهد الكلام بمقدمات لا بد من تدبرها قبل الخوض في الموضوع:
(١) مقدمات تمهيدية
(١-١) الإسلام والعلوم الإسلامية
كان العرب فيما ذكرناه من علومهم وأخبارهم وأطوارهم إذ جاءهم القرآن فبغتوا لما رأوه من بلاغة أسلوبه على غير المألوف عندهم؛ لأنَّه ليس من قبيل ما كانوا يعرفونه من نثر الكهان المسجع ولا نظم الشعراء المقفى الموزون وقد خالف كليهما، وهو منثور مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، فلا هو شعر ولا نثر ولا سجع، وفيه من البلاغة وأساليب التعبير ما لم يكن له شبيه في لسانهم، فسحروا بأسلوبه وبما حواه من الشرائع والأحكام والأخبار، فلما دانوا بالإسلام أصبح همهم تلاوته وتفهم أحكامه؛ لأنَّه قاعدة الدين والدنيا، وبه تتأيد السلطة والخلافة، ثم أشكل عليهم بعض ما فيه واختلفوا في تفسيره فعمدوا إلى ما أُثر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو استحسان أو استهجان يستوضحون بها ذلك الإشكال، فأصبح همهم جمع الأحاديث ممن سمعها أو رواها عن سامعها بالإسناد المتسلسل، فرأوا تباينًا في الروايات فاشتغلوا في التفريق بين صحيحها وفاسدها، فرجعوا إلى درس الأسانيد واستطلاع أخبار أصحاب الحديث، فجرهم ذلك إلى درس طبقات المحدثين والأحوال التي تناولوا تلك الأحاديث فيها.
ولما قامت دولتهم أخذوا في ضرب الأموال على البلاد التي فتحوها أو غنموها، وضرائبها تختلف شكلًا ومقدارًا باختلاف طريق الفتح، بين أن يكون عنوة أو صلحًا، وأمانًا أو قوة، فبحثوا في تحقيق أخبار الفتوح والمغازي وتدوينها، ولما فسدت الأحكام في أيام بني أمية، أكثر العلماء من ذكر المواعظ وإيراد أخبار السلف من الصحابة، وخصوصًا الخلفاء الراشدين، فاجتمع من ذلك تاريخ النبي والصحابة والتابعين.
والنظر في أحكام القرآن والسنة لا بد فيه من فهم العبارة وتدبرها، فنشأ من ذلك علم التفسير، وبإسناد نقله وروايته واختلاف القراء بقراءته تولَّد علم القراءات، وبإسناد السنة إلى صاحبها والتفريق بين طبقات الحديث والمحدثين تولدت علوم الحديث، ثم لا بد من استنباط هذه الأحكام من أصولها، على وجه قانوني يُفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط، وهو علم أصول الفقه ثم الفقه فالعقائد الإيمانية، ثُم علم الكلام.
ولما عمدوا إلى تلاوة القرآن والحديث وتفسيرهما، أشكل على غير العرب إعرابهما لأنَّ ملكة اللغة غير راسخة فيهم، فاضطروا إلى تدوين اللغة وترتيب قواعدها وتعيين معاني ألفاظها، ولذلك كان أكثر المشتغلين بعلوم اللغة من الأعاجم.
وتعيين معاني الألفاظ وضبط التلفظ بها دعاهم إلى البحث عن لغة قريش التي كُتب بها القرآن، وقد رأيت أنَّ مرجع التحقيق في ذلك إلى الأشعار والأمثال، فاشتغلوا في الأسفار إلى بادية العرب، وخالطوا الأعراب ونقلوا أشعارهم وأقوالهم وأمثالهم، ليدونوها ويرجعوا إليها في التحقيق، فرأوا مشقة في فهم معاني أشعارهم وأمثالهم إلا بالاطلاع على أنسابهم وآدابهم، فلم يكن لهم بد من درس ذلك كله، وهو ما يعبرون عنه بعلم الأدب، واختلفوا في فهم الأشعار، ووجدوا في روايتها اختلافًا وفي بلاغتها تفاوتًا، فعمدوا إلى البحث في طبقات الشعراء وأماكنهم وأشعارهم وأخبار قبائلهم.
وكان الراحلون في التقاط اللغة والشعر من أفواه العرب في مضاربهم يقفون على سائر علومهم، كالنجوم والأنواء والخيل والأنساب وغيرها، فلما عادوا لتدوين اللغة دونوا أيضًا كثيرًا من تلك العلوم، ولذلك كان أصحاب هذه العلوم غالبًا من علماء اللغة، وعثروا أيضًا على ألفاظ وأشعار يندر ورودها فألفوا النوادر.
وجملة القول أنَّ ما اشتغل به المسلمون في صدر الإسلام من العلوم مرجعه إلى القرآن، فهو المحور الذي تدور عليه العلوم الأدبية واللسانية، فضلًا عن الدينية، ولذلك سميناها العلوم الإسلامية.
(١-٢) العرب والقرآن والإسلام
كان الإسلام في أول أمره نهضة عربية، والمسلمون هم العرب، وكان اللفظان مترادفين، فإذا قالوا العرب أرادوا المسلمين، وبالعكس، ولأجل هذه الغاية أمر عمر بن الخطاب بإخراج غير المسلمين من جزيرة العرب، وأصبح أهل الجزيرة كلهم مسلمين وهم عرب.
وأساس الإسلام وقوامه القرآن، ففي تأييده تأييد الإسلام أو العرب، وتمكن هذا الاعتقاد في الصحابة، لما فازوا في فتوحهم وتغلبوا على دولتي الروم والفرس، فنشأ في اعتقادهم أنَّه لا ينبغي أن يسود غير العرب، ولا يُتلى غير القرآن، وشاع هذا الاعتقاد خصوصًا في أيام بني أمية، وقد بالغوا فيه حتى آل ذلك فيهم إلى نقمة سائر الأمم عليهم.
فتوطدت العزائم على الاكتفاء به عن كل كتاب سواه، ومحو ما كان قبله من كتب العلم في دولتي الروم والفرس، كما حاولوا بعدئذ هدم إيوان كسرى وأهرام مصر وغيرها من آثار الدول السابقة — فلا غرو إذا قيل: إنَّ العرب أحرقوا مكتبة الإسكندرية أو غيرها من خزائن العلم القديم.
(١-٣) إحراق مكتبة الإسكندرية وغيرها
- أولًا: قد رأيت فيما تقدم رغبة العرب في صدر الإسلام في محو كل كتاب غير القرآن، بالإسناد إلى الأحاديث النبوية وتصريح مقدمي الصحابة.
- ثانيًا: جاء في تاريخ مختصر الدول لأبي الفرج الملطي عند كلامه عن فتح مصر على يد عمرو بن العاص ما نصه: «وعاش (يحيى الغراماطيقي) إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه عمرو، وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها أنسة ما هاله، ففتن به، وكان عمرو عاقلًا حسن الاستماع صحيح الفكر، فلازمه وكان لا يفارقه، ثم قال له يحيى يومًا: «إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأصناف الموجودة بها، فما لك به انتفاع فلا نعارضك فيه، وما لا انتفاع لك به فنحن أولى به»، فقال له عمرو: «ما الذي تحتاج إليه؟» قال: «كتب الحكمة التي في الخزائن الملوكية». فقال عمرو: «هذا ما لا يُمكنني أن آمر فيه إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب». فكتب إلى عمر وعرفه قول يحيى، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: «… وأما الكتب التي ذكرتها، فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يُخالف كتاب الله فلا حاجة إليه، فتقدم بإعدامها». فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها، فاستنفدت في مدة ستة أشهر، فاسمع ما جرى واعجب».٤
وليس في نص هذه العبارة التباس، ولكن الذين يجلون العرب عن إحراق هذه المكتبة يطعنون في هذه الرواية وينسبون قائلها إلى التعصب الديني، وفي جملتهم جماعة كبيرة من مؤرخي الإفرنج، وقد ألفوا الرسائل والكتب في تجريحها، وخلاصة أقوالهم: إنَّ أبا الفرج المذكور هو أول من نَسب حريق مكتبة الإسكندرية إلى عمرو بن العاص، وإنَّه إنَّما فعل ذلك تعصبًا للنصرانية وتحقيرًا للإسلام، وإنَّه من أهل القرن السابع للهجرة، وكان أبوه يهوديًّا وتنصر، وشبَّ أبو الفرج على النصرانية وارتقى في رتب الأكليروس إلى الأسقفية، ثم ألف تاريخًا في السريانية استخرجه من كتب يونانية وفارسية وعربية وسريانية، واستخلص من هذا التاريخ كتابًا في العربية سمَّاه مختصر الدول — قالوا: «وهو أول كتاب ذكرت فيه هذه القصة، وتناقلها عنه الإفرنج إلى هذه الغاية». وإنَّ ما جاء في هذا الشأن من أقوال عبد اللطيف البغدادي والمقريزي وحاجي خليفة من مؤرخي المسلمين لا تعتبر مصادر مستقلة؛ لأنَّ المقريزي نقل عن عبد اللطيف حرفيًّا، وحاجي خليفة لم يذكر مدينة الإسكندرية وإنَّما أشار إلى أنَّ العرب في صدر الإسلام لم يعتنوا بشيء من العلوم إلا بلغتهم وشريعتهم، حتى قال: «ويروى أنَّهم أحرقوا ما وجدوه من الكتب في فتوحات البلاد». وأنَّ عبد اللطيف البغدادي ذكر حريق المكتبة في عرض كلامه عن عمود السواري بغير تحقيق، ويزعم أصحاب هذا الرأي أنَّ مكتبة الإسكندرية أحرقها الرومان قبل الإسلام، وأنَّها لو أحرقها العرب لذكرها مؤرخو المسلمين وخصوصًا كُتَّاب الفتوح والمغازي. ا.ﻫ.
لا ننكر أنَّ بعض هذه المكتبة احترق قبل الإسلام، ولكن ذلك لا يمنع احتراق باقيها في الإسلام، أما النصوص التي وردت في هذا الشأن فليس أبو الفرج أول من رواها كما توهم بعضهم، فإنَّ عبد اللطيف البغدادي طاف مصر وكتب عن مشاهدها وآثارها، وذكر إحراق العرب لهذه المكتبة قبل أن يولد أبو الفرج ببضع وعشرين سنة؛ لأنَّ أبا الفرج ولد سنة ١٢٢٦م (٦٢٢ﻫ) وعبد اللطيف زار مصر في أواخر القرن السادس للهجرة، وهاك نص عبارته: «ورأيت أيضًا حول عمود السواري من هذه الأعمدة بقايا صالحة، بعضها صحيح وبعضها مكسور، ويظهر من حالها أنَّها كانت مسقوفة، والأعمدة تحمل السقف وعمود السواري عليه قبة هو حاملها.
نعم إنَّ عبارة البغدادي مختصرة، وقد جاءت عرضًا، لكنَّها تدل على وثوق قائلها بصحتها، كأنَّه أخذها عن مصدر موثوق به ومعول عليه في ذلك العصر، كالذي أخذ عنه أبو الفرج.
أما أبو الفرج فقد أتم كتابه «مختصر الدول» في العربية في أواخر حياته (توفي سنة ٦٨٤ﻫ). وهو ليس مختصر تاريخه السرياني إلا من حيث أخبار الفتح؛ لأنَّه يزيد على النسخة السريانية بأخبار كثيرة، عن الإسلام والمغول وتاريخ علوم الروم والعرب وآدابهم، وأما السرياني فهو عبارة عن أخبار الفتح فقط، فإغفال ذكر إحراق المكتبة فيه لا يدل على أنَّه دخيل في النسخة العربية، أو دسَّه فيه بعض المتأخرين كما توهم بعضهم، وإنما ذكر في النسخة العربية؛ لأنَّه يتعلق بآداب الروم والعرب التي أدخلها المؤلف في هذه النسخة كما تقدم.
•••
وقد تبيَّن لنا بالبحث والتنقيب أنَّ أبا الفرج المذكور نقل تلك الرواية عن مؤرخ مسلم توفي قبله بنحو أربعين سنة، وهو جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم القفطي، وزير حلب المعروف بالقاضي الأكرم، ولد في قفط من صعيد مصر سنة ٥٦٥ وتوفي في حلب سنة ٦٤٦ﻫ، وللقاضي المذكور كتاب في تراجم الحكماء، عثرنا على نسخة منه خطية في دار الكتب المصرية مكتوبة سنة ١١٩ﻫ، وقرأنا فيها في أثناء ترجمة يحيى النحوي كلامًا في معنى كلام أبي الفرج وأكثر تفصيلًا منه، وفيه شيء عن تاريخ هذه المكتبة منذ إنشائها، وإليك نص قوله:
«وعاش (يحيى النحوي) إلى أن فتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلم واعتقاده وما جرى له مع النصارى، فأكرمه عمرو ورأى له موضعًا، وسمع كلامه في إبطال التثليث فأعجبه، وسمع كلامه أيضًا في انقضاء الدهر، ففتن به، وشاهد من حججه المنطقية وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم يكن للعرب بها أنسة ما هاله.
وكان عمرو عاقلًا حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكاد لا يفارقه، ثم قال له يحيى يومًا: «إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأجناس الموصوفة الموجودة بها، فأما ما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وأما ما لا نفع لك به فنحن أولى به، فأمر بالإفراج عنه». فقال له عمرو: «وما الذي تحتاج إليه؟» قال: «كتب الحكمة في الخزائن الملوكية، وقد أوقعت الحوطة عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها». فقال له: «ومن جمع هذه الكتب؟ وما قصتها؟»
فقال له يحيى: «إن بطولوماوس فيلادلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك حبب إليه العلم والعلماء، وفحص عن كتب العلم وأمر بجمعها وأفرد لها خزائن، فجمعت وولَّى أمرها رجلًا يعرف بابن مرة (زميرة) وتقدم إليه بالاجتهاد في جمعها وتحصيلها والمبالغة في أثمانها وترغيب تجارها ففعل، واجتمع من ذلك في مدةٍ خمسون ألف كتاب ومائة وعشرون كتابًا، ولما علم الملك باجتماعها وتحقق عدتها قال لزميرة: أترى بقي في الأرض من كتب العلم ما لم يكن عندنا؟ فقال له زميرة: قد بقي في الدنيا شيء في السند والهند وفارس وجرجان والأرمان وبابل والموصل وعند الروم، فعجب الملك من ذلك وقال له: دم على التحصيل، فلم يزل على ذلك إلى أن مات، وهذه الكتب لم تزل محروسة محفوظة يراعيها كل من يلي الأمر من الملوك وأتباعهم إلى وقتنا هذا».
بقي علينا البحث في المصدر الذي نقل عنه ابن القفطي، والغالب أنَّه نفس المصدر الذي نقل عنه عبد اللطيف البغدادي؛ لأنهما كانا متعاصرين وعبد اللطيف سابقه؛ لأنه ولد سنة ٥٥٧ وتوفي سنة ٦٢٩ﻫ، ولكن لسوء الحظ قد ضاعت تلك المصادر في جملة ما ضاع من مؤلفات العرب.
على أننا إذا تدبرنا ما ذكره ابن النديم في كتاب الفهرست عن أخبار الفلاسفة الطبيعيين من حكاية إنشاء مكتبة الإسكندرية، يتضح لنا أنَّ في جملة المصادر التي نقلت عنها تلك الرواية تاريخًا لرجل اسمه إسحاق الراهب، كان يبحث في أخبار اليونان والرومان وآدابهما.
وأما خلو كتب الفتح من ذكر هذه الحادثة فلا بد له من سبب، والغالب أنَّهم ذكروها ثم حذفت بعد نضج التمدن الإسلامي واشتغال المسلمين بالعلم ومعرفتهم قدر الكتب، فاستبعدوا حدوث ذلك في عصر الخلفاء الراشدين فحذفوه، أو لعل لذلك سببًا آخر، وعلى أي حال فقد ترجح عندنا صدق رواية أبي الفرج.
- ثالثًا: ورد في أماكن كثيرة من تواريخ المسلمين خبر إحراق مكتبات فارس وغيرها على الإجمال، وقد لخصها صاحب كشف الظنون في عرض كلامه عن علوم الأقدمين بقوله: «إنَّ المسلمين لما فتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين، فكتب إليه عمر (رضي الله عنه) أن «اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه، وإن يكن ضلالًا فقد كفانا الله تعالى» فطرحوها في الماء أو في النار، فذهبت علوم الفرس فيها».١٠
- رابعًا: إنَّ أحراق الكتب كان شائعًا في تلك العصور تشفيًا من عدو أو نكاية فيه، فكان أهل كل شيعة أو ملة يحرقون كتب غيرها، كما فعل عبد الله بن طاهر بكتب فارسية كانت لا تزال باقية إلى أيامه (سنة ٢١٣ﻫ) من مؤلفات المجوس، وقد عرضت عليه فلمّا تبين حقيقتها أمر بإلقائها في الماء، وبعث إلى الأطراف أنَّ من وجد شيئًا من كتب المجوس فليعدمه.١٣
- خامسًا: إنَّ أصحاب الأديان في تلك العصور كانوا يعدون هدم المعابد القديمة وإحراق كتب أصحابها من قبيل السعي في تأييد الأديان الجديدة فأباطرة الروم حالما تنصروا أمروا بهدم هياكل الأوثان في مصر وإحراقها بما فيها من الكتب وغيرها، وكان خلفاء المسلمين إذا أرادوا اضطهاد المعتزلة وأهل الفلسفة أحرقوا كتبهم، والمعتزلة كثيرًا ما كانوا يتجنبون ذلك تحت خطر القتل فيستترون ويجتمعون سرًّا والخلفاء يتعقبون آثارهم ويحرقون كتبهم، ومن أشهر الحوادث من هذا القبيل ما فعله السلطان محمود الغزنوي لما فتح الري وغيرها سنة ٤٢٠ﻫ، فإنَّه قتل الباطنية ونفى المعتزلة وأحرق كتب الفلاسفة والاعتزال والنجامة.١٧
- سادسًا: في تاريخ الإسلام جماعة من أئمة المسلمين أحرقوا كتبهم من تلقاء أنفسهم، منهم أحمد بن أبي الحواري، فإنَّه لما فرغ من التعلم جلس للناس فخطر بقلبه يومًا خاطر من قبل الحق فحمل كتبه إلى شط الفرات فجلس يبكي ساعة ثم قال: «نِعْمَ الدليل كنت لي على ربي، فلمَّا ظفرت بالمدلول فالاشتغال بالدليل محال» فغسل كتبه. وذكروا عن سفيان الثوري أنَّه أوصى بدفن كتبه، وأنَّ أبا عمرو بن العلاء كانت كتبه ملء بيت إلى السقف ثم تنسك وأحرقها.١٨
فيرجح مما تقدم أنَّ العرب أحرقوا ما عثروا عليه من كتب العلم القديمة في الصدر الأول تأييدًا للإسلام، فلما تأيد سلطانهم واشتغلوا بالعلوم عوضوا على العالم أضعاف ما أحرقوه، كما سترى.
(١-٤) الرومان والإسلام والعلم
من جملة ما يرمى به العرب من المطاعن «أنهم حتى في إبان تمدنهم لم يشتغلوا هم أنفسهم في العلم، وإنما كان المشتغلون به الفرس وغيرهم من الأمم الخاضعة لسلطانهم، بخلاف اليونان والرومان وغيرهما من دول التمدن القديم، فقد كانوا هم أنفسهم يشتغلون بالعلم، وقد وضعوا علومًا تناقلها الناس عنهم، وأما العرب فأكثر علومهم منقولة عن سواهم».
فأصحاب هذا القول يقابلون بين دولة الرومان ودولة العرب، والصواب أن يقابلوا بين الرومان والإسلام؛ لأنَّ العرب أسسوا دولة الإسلام كما أسس أهل رومية دولة الرومان، ودخل في دين الإسلام أمم كثيرة اختلطوا بالعرب فتألف منهم أمة الإسلام، كما اختلطت شعوب الممالك التي فتحها أهل رومية وصارت أمة واحدة تُعرف بأمَّة الرومان.
فإذا قابلنا بين الإسلام والرومان رأينا المسلمين أكثر اشتغالًا بالعلم والأدب من أولئك؛ لأنَّ كليهما نقلا العلم عن اليونان، المشتغلون به من الرومان لم يكونوا من أهل رومية، كما أنَّ المشتغلين به من المسلمين لم يكونوا كلهم من أهل جزيرة العرب، والسبب في اجتماع شعوب المملكة الرومانية باسم الرومان، وعدم اجتماع شعوب المملكة الإسلامية باسم العرب، أنَّ العرب فتحوا بلادًا أهلها عريقون في الحضارة، فلم يمكن اندماجهم وضياع جنسياتهم، وقد ساعد على ذلك تفرق المذاهب، ومبالغة العرب في تفضيل أنفسهم على سواهم من الأمم الخاضعة لسلطانهم.
أما اليونان فلا جدال في أنَّهم واضعو العلم والفلسفة، لما في فطرتهم من الاقتدار على ذلك — وإن كانوا قد بنوا علمهم وفلسفتهم على أسس أخذوا بعضها من المصريين القدماء، والبعض الآخر من الكلدان وغيرهم — ولكنهم يعدون واضعين، فهم يفضلون الرومان والعرب من هذا القبيل، ولكنهم أضعف منهما في إنشاء الحكومات وسن الشرائع؛ لأنَّ اليونان لم يطل أمر دولتهم ولا نظموا حكومة ثابتة، وإنما كانوا دولًا صغيرة متفرقة يتنازعون ويتنافرون ويتنافسون.
ثم إنَّ الرومان أخذوا العلم والفلسفة عن اليونان، وقلَّما زادوا فيهما، ولكنهم نظموا الحكومة ووضعوا الشرائع والقوانين، ونظموا دولة عظيمة مما لم يستطعه اليونان، فالرومان أهل فتح وسلطان، واليونان أهل تصور وخيال، وأما العرب فقد جمعوا الحَسَنتين؛ لأنَّهم أهل فتح وسلطان وأهل تصور وخيال؛ ولذلك فإنَّهم أنشأوا دولة بعيدة الأطراف، ووضعوا الشرائع والنظم (الفقه) ولم يكتفوا بنقل العلم عن اليونان واستبقائه على حاله، بل هم درسوه وزادوا فيه من نتائج قرائحهم وعقولهم، وبما نقلوه من علوم الفرس والهند والكلدان وغيرهم، فضلًا عمَّا وضعوه هم أنفسهم من العلوم الإسلامية واللسانية وما تفردوا فيه من قريحة الشعر، وليس هنا محل الإفاضة في ذلك.
(١-٥) حَمَلَةُ العلم في الإسلام أكثرهم العجم
قد تقدم أنَّ العلوم التي حدثت في التمدن الإسلامي صنفان: العلوم الإسلامية، والعلوم الدخيلة. فتغلب العلوم الإسلامية في غير العرب من المسلمين، سببه أنَّ العرب قاموا بالإسلام وفتحوا الفتوح وهم أهل بادية أميون، فانصرف همهم في بدء الدعوة إلى نشر دينهم وإنشاء دولتهم مما لا يحتاج إلى علم. وإنَّما كانت حاجتهم من العلم إلى القرآن، يدعون الناس به إلى الإسلام، وكانوا يستظهرونه ويتناقلونه بالتلقين. ولم يمضِ على ظهور الدعوة بضع وعشرون سنة حتى فتحوا الشام والعراق ومصر وفارس وإفريقية وغيرها، والمسلمون (العرب) يومئذ هم الجند الفاتح، وكانوا قليلين بالنظر إلى ذلك الملك الواسع، فضلًا عمن قتل منهم في الحروب والفتن.
ومع ذلك فقد كانوا مطالبين بحفظ تلك المملكة وحماية أهلها وتدبير شؤونها. فأصبح همهم الاشتغال بالرئاسة في الجند والحكومة. ونظرًا لفطرتهم الخيالية انصرفت قرائحهم إلى الاشتغال بالشعر والخطابة والأمثال — وهي آدابهم في جاهليتهم — وتحريض أبنائهم على إتقانها مع المثابرة على أسباب الرياضة البدنية بالفروسية والعناية بالخيل، مما أعانهم على الفتح ونشر الدين، وأصبحوا يخافون التحضر لئلا يذهب بنشاطهم وجامعتهم.
ولما دعا فساد اللغة إلى ضبط قواعدها وجمع ألفاظها، كان العجم أحوج إلى ذلك من العرب، لاستغناء العربي بملكته الفطرية عن تعلم القواعد وحفظ الألفاظ، فاشتغل الأعاجم بعلوم اللغة وكان أكثر علماء الأدب واللغة منهم، كحماد الراوية وهو ديلمي، والخليل وسيبويه والأخفش والفارسي والزجاج وغيرهم من الفرس أو من في معناهم.
أما العلوم الدخيلة وهي العلم والفلسفة فالمشتغلون بها للعرب هم غير العرب وغير المسلمين؛ لأنَّ العباسيين لما أرادوا نقل كتب اليونان والفرس والهند إلى العربية، استخدموا عارفي هذه الألسنة من الكلدان والسريان والفرس وغيرهم لنقلها، وأكثرهم من النصارى كما سيجيء.
ولا بأس من اشتغال الموالي بالعلوم الإسلامية وهم مسلمون، على أننا لا نعد العرب الذين تحضروا في الدولة العباسية عربًا خلصًا لاختلاطهم بالموالي والمماليك بالمصاهرة والمعاشرة والمساكنة، حتى الخلفاء فإنَّ أكثر أمهاتهم من غير العرب، وسنعود إلى هذا البحث في جزء آخر.
(١-٦) تدوين العلم في الإسلام
أما ما خلا ذلك من التفسير والحديث والأشعار والأخبار والأمثال فقد كانوا يتناقلونها في صدورهم، وأكثرهم يقرأون ولكنَّهم لا يكتبون، وقد يكون بعضهم حافظًا ومفسرًا وهو لا يقرأ، كما كان شأنهم في الجاهلية: يشعرون ويخطبون ولا يقرأون.
وظلوا — حتى بعد اشتغالهم بالتأليف — يحرضون النَّاس على الحفظ والتعويل على السماع، وكان أحوج العلوم إلى ذلك علم الدين ثم الشعر، لما فيه من الألفاظ الغريبة واللغات المختلفة والكلام الوحشي وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه؛ لأنَّ الكتابة في القرون الأولى للإسلام كانت بلا نقط، فلا تفرق في شعر الهذليين إذا أنت قرأته بين «شابة» و«ساية» وهما موضعان. ولا تثق بمعرفتك في تمييز أمثالهما مما تتشابه صوره بدون إعجام. وقرئ يومًا على الأصمعي في شعر ابن ذؤيب: «بأسفل ذات الدير أفرد جحشها» فقال أعرابي حضر مجلس القارئ: «ضل ضلالك أيها القارئ … إنما هي ذات الدبر (بالباء) وهي ثنية عندنا» فأخذ الأصمعي بذلك فيما بعد. ومن يرى شعر المعذل في وصف الفرس:
فظل المسلمون زهاء قرن وليس عندهم كتاب مدَّون غير القرآن، مع أنَّ الكتابة كانت شائعة يومئذ، وقد نبغ جماعة من مفسري القرآن ورواة الحديث وعلماء النحو واللغة وناظمي الشعر ورواته، وإنَّما كانت الكتابة العربية مستخدمة لكتابة القرآن أو الرسائل إلى القواد، ولتدوين الحساب في دفاتر الحكومة بعد أن انتقلت الدواوين إلى العربية، أما سائر العلوم فكانت تتناقل بالسماع وتُحفظ في الصدور، وربما دُوِّن بعضها في صحف غير مرتبة، وأما تأليف الكتب فلم يكن معروفًا عندهم.
(١-٧) الخط العربي
(أ) تاريخه
ليس في آثار العرب بالحجاز ما يدل على أنَّهم كانوا يعرفون الكتابة إلا قُبيل الإسلام، مع أنَّهم كانوا مُحاطين شمالًا وجنوبًا بأمم من العرب خلفوا نقوشًا كتابية كثيرة، وأشهر تلك الأمم حمير في اليمن كتبوا بالحرف المسند، والأنباط في الشمال كتبوا بالحرف النبطي، وآثارهم باقية إلى الآن في ضواحي حوران والبلقاء، والسبب في ذلك أنَّ الحجازيين أو عرب مُضر كانت البداوة غالبة على طباعهم، والكتابة من الصناعات الحضرية.
على أنَّ بعض الذين رحلوا منهم إلى العراق أو الشام قُبيل الإسلام تخلقوا بأخلاق الحضر، واقتبسوا الكتابة منهم على سبيل الاستعارة، فعادوا وبعضهم يكتب العربية بالحرف النبطي أو العبراني أو السرياني، ولكنَّ النبطي والسرياني ظلا عندهم إلى ما بعد الفتوح الإسلامية، فتخلف عن الأول الخط النسخي (الدارج) وعن الثاني الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة، وكان الخط الكوفي يُسمَّى قبل الإسلام الحيري نسبة إلى الحيرة، وهي مدينة عرب العراق قبل الإسلام وابتنى المسلمون الكوفة بجوارها.
والخلاصة على أي حال أنَّ العرب تعلموا الخط النبطي من حوران في أثناء تجاراتهم إلى الشام، وتعلموا الخط الكوفي من العراق قبل الهجرة بقليل، وظلَّ الخطان معروفين عندهم بعد الإسلام. والأرجح أنَّهم كانوا يستخدمون القلمين معًا: الكوفي لكتابة القرآن ونحوه من النصوص الدينية، كما كان سلفه السطرنجيلي يستخدم عند السريان لكتابة الأسفار المقدسة النصرانية، والنبطي لكتابة المراسلات والمكاتبات الاعتيادية، ومما يدل على تخلف القلم الكوفي عن السطرنجيلي — فضلًا عن شكله — أنَّ الألف إذا جاءت حرف مد في وسط الكلمة تُحذف، وتلك قاعدة مطردة في الكتابة السريانية، وكان ذلك شائعًا في أوائل الإسلام، وخصوصًا في القرآن فيكتبون «الكتب» بدل «الكتاب»، و«الظلمين» بدل «الظالمين».
- (١)
قلم الجليل.
- (٢)
قلم السجلات.
- (٣)
قلم الديباج.
- (٤)
قلم أسطورمار الكبير.
- (٥)
قلم الثلاثين.
- (٦)
قلم الزنبور.
- (٧)
قلم المفتح.
- (٨)
قلم الحرم.
- (٩)
قلم المدمرات.
- (١٠)
قلم العهود.
- (١١)
قلم القصص.
- (١٢)
قلم الحرفاج.
فزادت الخطوط على عشرين شكلًا، وكلها تعد من الكوفي، وأما الخط النسخي أو النبطي فقد كان شائعًا بين الناس لغير المخطوطات الرسمية، حتى إذا نبغ ابن مقلة المتوفى سنة ٣٢٨ﻫ أدخل في الخط المذكور تحسينًا جعله على نحو ما هو عليه الآن وأدخله في كتابة الدواوين، والمشهور عند المؤرخين أنَّ ابن مقلة نقل الخط من صورة القلم الكوفي إلى صورة القلم النسخي، والغالب في اعتقادنا أنَّ الخطين كانا شائعين معًا من أول الإسلام: الكوفي للمصاحف ونحوها، والنسخي (أو النبطي) للرسائل ونحوها كما تقدم، وأنَّ ابن مقلة إنَّما جعل الخط النسخي على قاعدة جميلة حتى يصلح لكتابة المصاحف.
وقد شاهدنا في معرض الخطوط العربية القديمة في دار الكتب الخديوية (دار الكتب المصرية الآن) عقد نكاح مكتوبًا في أواسط القرن الثالث للهجرة سنة ٢٦٤ﻫ على رق مستطيل في أعلاه صورة العقد بالقلم الكوفي المنتظم، وتحتها خطوط الشهود بالقلم النسخي بغاية الاختلال — فابن مقلة حسن هذا الخط تحسينًا وأدخله في كتابة المصاحف.
(ب) الحركات
(ﺟ) الإعجام
وقد شاهدنا في معرض الخطوط في دار الكتب المصرية كتابة عربية على صفحة من البردي (البابيروس) مؤرَّخة سنة ٩١ﻫ وفيها إعجام، لكنه قاصر على الصور المشابهة للباء للتمييز بين الباء والياء والتاء، وصورة حرف الشين لتمييزه من السين بثلاث نقط موضوعة على استواء واحد، وشاهدنا أجزاء من مصاحف أخرى مكتوبة على رقوق صغيرة وعليها نقط حمراء للحركات ونقط سوداء للإعجام، وقد تجد خطوطًا قديمة منقطة ومحركة وخطوطًا حديثة بلا تنقيط ولا تحريك.
فيؤخذ من ذلك أنَّ العرب استخدموا الحركات والإعجام من أواسط القرن الأول، ولكنهم ظلّوا مع ذلك يكرهونهما إلا حيث يريدون التدقيق بنوع خاص كالمصاحف ونحوها، أما فيما خلا ذلك فكانوا يفضلون ترك النقط، لا سيما إذا كان المكتوب إليه عالمًا. وقد حُكي أنَّه عُرض على عبد الله بن طاهر خط بعض الكتاب فقال: «ما أحسنه لولا كثرة شونيزه (أي نقطه)». ويقال: «كثرة النقط في الكتاب سوء ظن في المكتوب إليه».
(د) أدوات الكتابة
(٢) العلوم الشرعية الإسلامية
- (١)
العلوم الشرعية وهي العلوم الدينية الإسلامية.
- (٢)
العلوم اللسانية وهي التي اقتضاها الإسلام ضمنًا، فاحتاجوا إليها في ضبط قراءة القرآن أو تفسيره أو تفهمه وتفهم الحديث.
- (٣)
التاريخ والجغرافيا.
(٢-١) العلوم الشرعية الإسلامية
(أ) القرآن — جمعه وتدوينه
لا غرو إذا اهتم المسلمون بجمع القرآن وحفظه؛ لأنَّ عليه يتوقف دينهم ودنياهم، وأول أسباب حفظه تدوينه، والقرآن لم ينزل مرة واحدة، وإنَّما نزل تدريجيًّا في أثناء عشرين سنة على مقتضى الأحوال، من أول ظهور الدعوة إلى وفاة النبي، بعضه في مكة وبعضه في المدينة، فكان كلَّما تلا آية أو سورة كتبوها على صحف الكتابة في تلك الأيام، وهي الرقاع من الجلود، والعريض من العظام كالأكتاف والأضلاع، وعلى العسب وهي قحوف جريد النخل، واللخاف وهي الحجارة العريضة البيضاء، فتُوفي النبي ﷺ سنة ١١ﻫ، والقرآن إما مُدوَّن على أمثال هذه الصحف، أو محفوظ في صدور الرجال، وكانوا يُسمُّون حفظته «القراء».
وفي أيام عثمان اتسعت الفتوح وتفرق المسلمون في مصر والشام والعراق وفارس وإفريقية، وفيهم القراء وعند بعضهم نسخ من القرآن، وقد رتبها كل منهم ترتيبًا خاصًّا، فعول أهل كل مصر على من قام بينهم من القراء.
على أنَّ الخلفاء والأمراء كانوا يبذلون جهدهم في جمع الكلمة على مصحف عثمان والتشديد في إعدام ما سواه، وفي جملة مساعيهم أنَّ الأمراء كانوا يكتبون نسخًا من ذلك المصحف يضعونها في المساجد ليتلوها الناس ويرجعوا إليها في تصحيح ما بين أيديهم من المصاحف الخاصة. وربما كتب الأمير عدة مصاحف وفرقها في الأمصار، ولكنهم كانوا يعدون قبول مصحف الأمير في الجامع إقرارًا بسيطرته عليهم، وكان الحجاج في مقدمة من كتب المصاحف من الأمراء وفرقها في الأمصار، فبعث منها مصحفًا إلى مصر والوالي عليها يومئذ عبد العزيز بن مروان فغضب وقال: «أيبعث إلى جند أنا فيه بمصحف؟» وأمر فكتبوا له مصحفًا آخر بالغ في ضبطه، وأعلن بعد الفراغ من كتابته أن من وجد فيه حرفًا خطأ فله رأس أحمر، وثلاثون دينارًا.
قراءة القرآن
كان للقراءة شأن عظيم في أول الإسلام، لقلة الذين يقرأون يومئذ، فسموا الذين كانوا يحفظون القرآن «قراء» تمييزًا لهم عن سائر المسلمين؛ لأنَّهم كانوا أميين، وقد تقدم أنَّ السبب الذي حمل عثمان على جمع القرآن وكتابته ما بلغه من اختلاف الصحابة في قراءته، على أنَّه لم يمضِ على إرسال مصاحفه إلى الأمصار زمان قصير، حتى أصبح لأهل كل مصر قراءة خاصة يتبعون فيها قارئًا يثقون بصحة قراءته، وتنوقل ذلك واشتهر، ثم استقر منها سبع قراءات معينة تواتر نقلها بأدائها، واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها، فصارت هذه القراءات السبع أصولًا للقراءة، ويعدها بعضهم عشرًا.
تأثير القرآن
إنَّ قراءة القرآن وحفظه من أول واجبات المسلمين، وخصوصًا في أوائل الإسلام، فانطبعت أوامره ونواهيه في أفئدتهم، وارتسمت عباراته على ألسنة أدبائهم، وأصبح هو المرجع في الشرع والدين واللغة والإنشاء وفي كل شيء، فاقتبسوا أساليبه في خطبهم وكتبهم، وتمثلوا بآياته في مؤلفاتهم، وظهرت آدابه وتعاليمه في أخلاقهم وأطوارهم، مع تباعد الأمم التي اعتنقت الإسلام في أصولها ولغاتها وبلادها، واستشهدوا بأقواله ونصوصه في علومهم اللسانية، فضلًا عن العلوم الشرعية، فقد كان في كتاب سيبويه وحده ٣٠٠ آية من القرآن، وأصبح أهل البلاغة لا تروق لهم الكتابة أو الخطابة إلا إذا رصعوها بشيء من آي القرآن، كما سترى في باب الخطابة في الإسلام، وفي باب البلاغة من اقتباس الآيات وإدخالها في عبارات الخطب والرسائل والتوقيعات.
وأبلغ من ذلك حكاية سديد الملك وتشديد نون «إنَّ» وقد ذكرناها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي إعادتها هنا تكرار.
وقد عني المسلمون في كتابة القرآن وحفظه عناية ليس بعدها غاية، فكتبوه على صفائح الذهب والفضة، وعلى صفائح العاج، وطرزوا آياته بالذهب والفضة على الحرير والديباج، وزينوا بها محافلهم ومنازلهم، ونقشوها على الجدران في المساجد والمكاتب والمجالس، ورسموه بكل الخطوط وأجملها على كل أصناف الرقوق والجلود والكواغد بالأدراج والكراريس والرقاع بأصناف المداد وألوانها وملأوا بين الكلام بالذهب، وكان الخلفاء والأمراء والسلاطين يتبركون بكتابة المصاحف بأيديهم ويختزنونها في المساجد أو نحوها، وفي دار الكتب الخديوية (المصرية) بالقاهرة أمثلة كثيرة من المصاحف المخطوطة بمعظم الأشكال المذكورة من القلم الكوفي الخالي من الشكل والإعجام إلى إتمام الإعجام والشكل وما بينهما.
تفسير القرآن
كان العرب عند ظهور الدعوة كلما تُليت عليهم سورة أو آية فهموها وأدركوا معانيها بمفرداتها وتراكيبها؛ لأنَّها بلسانهم وعلى أساليب بلاغتهم، ولأنَّ أكثرها قيلت في أحوال كانت كالقرائن تسهل فهمها، وإذا أشكل عليهم شيء منها سألوا النبي ﷺ فكان يبين لهم المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ، فحفظ أصحابه عنه ذلك وتناقلوه فيما بينهم، وعنهم أخذ من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين.
ولما صار الإسلام دولة واحتاجوا إلى الأحكام والقوانين كان القرآن مصدر استنباطها، فزادت العناية في تفسيره وأصبح القراء والمفسرون مرجع المسلمين في استخراج تلك الأحكام أو هم الفقهاء لأول عهد الإسلام، وكانوا يتناقلون التفسير شفاهًا إلى أواخر القرن الأول، فكان أول من دون التفسير في الصحف مجاهد المتوفى سنة ١٠٤ﻫ، ثم اشتغل فيه سواه وهم كثيرون حتى انتهى ذلك إلى الواقدي سنة ٢٠٧ والطبري المتوفى ٣١٠ﻫ وغيرهما.
فكانت كتب التفسير في القرون الأولى محشوة بالأخبار، وفيها الغث والسمين مما نقل إليها من الأديان الأخرى التي كانت شائعة قبلها في جزيرة العرب أو حولها، كما أصاب النصرانية عند أول ظهورها، إذ دخلها كثير من عادات الأمم الوثنية ومعتقداتهم وتقاليدهم، مع سهر الآباء الأولين على تخليصها من ذلك.
فلما نشأت العلوم اللسانية واشتغل المسلمون بها واطلعوا على كتب المنطق والفلسفة، تعودت عقولهم على طلب الدليل والقياس، فأعادوا النظر في تلك التفاسير ونظروا في مروياتها ومَحَّصُوها وسَبَرُوها بمسبار العقل.
وأشهر من فعل ذلك منهم ابن عطية والقرطبي وجار الله الزمخشري صاحب الكشاف وغيرهم.
(ب) الحديث
وضع الأحاديث
إسناد الحديث
ولما صار الحديث علمًا مدونًا انصرفت العناية إلى الإسناد المتسلسل في تحقيق السماع، أي تعلم تلك الكتب أو بعضها، كأن يقول أحدهم: سمعت الحديث (أي تعلمته) من فلان وهو تعلمه من فلان إلى البخاري أو غيره.
وتطرق المسلمون في طريقة الإسناد من الحديث إلى غيره من العلوم النقلية كالتاريخ والأدب كما هو مشهور، وتتبعوا طريقة الإسناد المتسلسل في كثير من العلوم الإسلامية، مما لا يسبق له مثيل في البلاد الأخرى أو الأمم الأخرى، فهم إذا ذكروا عالِمًا في علم فيها، أسندوا تعلمه إلى أستاذه وأستاذ أستاذه إلى واضع ذلك العلم، كقول ابن خلِّكان في ترجمة فخر الدين ابن الخطيب إنَّه اشتغل في الأصول على والده ضياء الدين، ووالده على القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي، وهو على الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، وهو على الشيخ أبي الحسن الباهلي، وهو على شيخ السنة أبي الحسن الأشعري، وهو على أبي علي الجبائي أولًا ثم رجع عن مذهبه ونصر مذهب أهل السنة والجماعة.
عدد الأحاديث
(ﺟ) الفقه
مصدره
لما صار الإسلام دولة احتاج أمراؤه إلى ما يقضون به بين رعاياهم في أحوالهم الشخصية ومعاملاتهم المدنية، فرجعوا إلى القرآن والحديث، فاستخرجوا منهما شريعة نظموا بها حكومتهم وحكموا بها بين رعاياهم، وذلك طبيعي في الدول الكبرى، فاليونان قلَّما عنوا بوضع الشرائع والأحكام الدولية أو القضائية؛ لأنَّهم لم يكونوا أهل دولة كبرى إلا زمنًا قصيرًا فانصرفت قرائحهم إلى الفلسفة وفروعها، وأما الرّومان فقد اتسعت مملكتهم كما اتسعت مملكة العرب، وامتد سلطانهم وقويت شوكتهم فلم يكن لهم بد من وضع الشرائع، لكنها لم يتم نضجها عندهم إلا بعد تأسيس دولتهم ببضعة عشر قرنًا على يد جستنيان صاحب القانون المشهور سنة ٥٣٣م، وهي عبارة عن عادات واعتبارات واعتقادات تجمعت بتوالي الأحقاب من الشعب اللاتيني والصابني وغيرهما ممن دانوا لرومية بالتدريج حتى صارت شريعة كاملة على عهد جستنيان المذكور.
وأما المسلمون فإنَّهم استخرجوا أحكامهم من القرآن والحديث، وقد علمت ما كان لهم من العناية في حفظهما ودرسهما من أول الإسلام، ولذلك لم يمضِ على المسلمين قرنان والثالث حتى نضجت شريعتهم وتكون فقههم، وهو من أفضل شرائع العالم، وقد أسرعوا في ذلك مثل سرعتهم في تأسيس دولتهم ونشر دينهم.
قلنا إنَّ القرآن أساس الفقه الإسلامي، وكان المسلمون على عهد النبي يتلقون الأحكام منه وهو يبينها لهم شفاهًا، فلم يكن ذلك يحتاج إلى نظر أو قياس، فلَّما تُوفي رجع الصحابة إلى القرآن والسنة، فأصبح القراء أول فقهاء المسلمين أو حاملي شريعتهم، وكانوا يرجعون إليهم في الإفتاء والأحكام لقلة الذين يقرأون في الصدر الأول. فلما عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب وكمل الفقه وأصبح صناعة، بدلوا باسم الفقهاء العلماء.
الفقهاء
وفي أوائل الإسلام كان الفقه والقراءة والتفسير والحديث علمًا واحدًا، ثم أخذت هذه العلوم تستقل بعضها عن بعض عملًا بناموس الارتقاء، فلما استقل الفقه سموا أصحابه الفقهاء كما تقدم، وكان لهم تأثير كبير في الدولة لما يترتب على الإفتاء من الأمور الهامة، كالعزل والتنصيب والقتل والعفو.
ففي أيام بني أمية كان المرجع في الفقه والإفتاء إلى أهل المدينة، فكان الخلفاء لا يقطعون أمرًا دونهم، وقد علمت مما فصلناه في الجزأين الماضيين من هذا الكتاب ما كان من تعصب بني أمية للعرب واحتقارهم غير العرب من المسلمين وغيرهم، وأهل المدينة مع تحيزهم لأهل البيت وإنكار الخلافة على بني أمية كان الأمويون يسعون في إرضائهم وإكرامهم، وخصوصًا أهل الورع من الخلفاء كعمر بن عبد العزيز فإنَّه كان لا يقطع أمرًا مهمًّا إلا بعد مشورتهم.
الرأي والقياس
فلما نصر المنصور أبا حنيفة وأصحابه، وهم المعروفون بأهل الرأي أو القياس، ازداد مالك تمسكًا برأيه وتبعه فقهاء الحجاز وهم أهل الحديث.
وانقسم الفقهاء إلى قسمين: أهل الحديث، وأهل الرأي، وزعيم الأول مالك وأنصاره من أهل الحجاز، وأصحاب الشافعي وأصحاب سفيان الثوري وأصحاب أحمد بن حنبل وغيرهم من أهل التقليد، وعرفوا بأصحاب الحديث؛ لأنَّ عنايتهم مبذولة في تحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجلي أو الخفي ما وجدوا خبرًا أو أثرًا، ويدلك على شدة تمسكهم بذلك قول الشافعي: «إذا وجدتم لي مذهبًا ووجدتم خبرًا على خلاف مذهبي فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر».
وجاء بعد مالك من أصحاب مذهبه محمد بن إدريس المطلبي الشافعي، فرحل إلى العراق وخالط أصحاب أبي حنيفة وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق واختص بمذهب خالف فيه مالكًا في كثير من مذهبه، ثم جاء بعده أحمد بن حنبل وكان من علية المحدثين، وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصوا بمذهب آخر، ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، وتولد منهم مذاهب الإسلام الأربعة وهي: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي.
وللفقه فروع وشروح يضيق المقام عنها هنا، فنترك الكلام فيها وفي غيرها من فروع العلم إلى تاريخ آداب اللغة العربية.
منزلة العلماء عند الخلفاء
يراد بالعلماء، في عرض الكلام عن العلوم الإسلامية، علماء الحديث والقرآن والفقه، وقد علمت ما كان من منزلة هذه العلوم في الخلافة، فلا عجب بعد ذلك إذا رأيت الخلفاء يكرمون الفقهاء وأصحاب الحديث والزهاد والعلماء، وقد رأيت أنَّ بني أمية كانوا يستشيرون فقهاء المدينة في الأمور الهامة.
(٢-٢) العلوم اللسانية
(أ) النحو
(ب) وضع النحو العربي وواضعه
وقيل بل السبب في وضعه أنَّ بنت خويلد الأسدي دخلت على معاوية وقالت: «إنَّ أبوي ماتا وتركا لي مالًا» (بالإمالة) وبلغ ذلك عليًّا فرسم لأبي الأسود باب «إنَّ» وباب الإضافة وباب الإمالة، ثم سمع أبو الأسود رجلًا يقرأ: أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ بخفض رسوله، فصنف باب العطف والنعت، ثم إنَّ بنته قالت له يومًا: «يا أبتِ مَا أَحْسَنُ السَّماءِ» على طريق الاستفهام، فقال: «نُجومها». فقالت: «إنَّما أتعجب من حسنها». فقال: «قولي: ما أحسنَ السماءَ … افتحي فاك».
على أنَّ ما وضعه أبو الأسود من القواعد لم يكن ليسد الحاجة المستعجلة لضبط القراءة، فعمد إلى ضبطها بعلامات يتميز بها المنصوب من المرفوع، أو الفعل من الاسم، فوضع علامات كانت عند السريان يدلون بها على الرفع والنصب والجر، أو يميزون بها الفعل من الاسم، كما تقدم في كلامنا عن تاريخ الخط العربي.
وكانوا إذا قالوا: «الكتاب» أرادوا كتاب سيبويه، وكان الناس يتهادونه كأفخر التحف.
(ﺟ) الأدب واللغة
لما أخذ المسلمون في تفسير القرآن احتاجوا إلى ضبط معاني ألفاظه وتفهم أساليب عباراته، فجرهم ذلك إلى البحث في أساليب العرب وأقوالهم وأشعارهم وأمثالهم، ولا يكون ذلك سالمًا من العجمة أو الفساد إلا إذا أخذ عن عرب البادية الذين كانت قريش في الجاهلية تتخير من ألفاظهم وأساليبهم، فعني جماعة كبيرة من المسلمين بالرحلة إلى بادية العرب والتقاط الأشعار والأمثال وسؤال العرب عن معاني الألفاظ وأساليب التعبير، وسموا الاشتغال بذلك مع ما يتبعه من صرف ونحو وبلاغة بعلم الأدب.
علماء الأدب بالبصرة والكوفة
فأبو زيد كان من الأنصار تُوفّي سنة ٢١٤ﻫ، وهو من رواة الحديث ثقة في اللغة وأخذ عنه سيبويه، وأبو عبيدة كان أعلم الجميع بأيام العرب وأخبارهم وأجمعهم لعلومهم، ومن أقواله: «ما التقى فرسان في جاهلية أو إسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسيهما» توفي سنة ٢٠٩ﻫ، والأصمعي غلبت عليه اللغة وحفظ الشعر ونقده، توفي سنة ٢١٣ﻫ.
وكان الحفاظ والرواة يُدققون فيما يأخذونه عن العرب من شعر أو مثل أو غير ذلك، وما يسمعونه من معانيها؛ لأنَّ عليها يتوقف تفسير القرآن.
فإنَّهم اتبعوا في نقل اللغة طريقة الإسناد المتسلسل، كما كانوا يفعلون في رواية الحديث، وعني الناس بحفظها مثل عنايتهم بحفظه، لاعتبارهم أنَّ ناقل اللغة يجب أن يكون عدلًا كما يشترط في ناقل الحديث؛ لأنَّها واسطة تفسيره وتأويله، على أنَّهم لم يستطيعوا ذلك تمامًا.
علماء الأدب في بغداد
وما زال هذان المصران مصدر العلوم الإسلامية حتى بنيت بغداد وانتقل العلم إليها، وغلب ورود أهل الكوفة إلى بغداد لقربهم منها، وكان العباسيون يكرمونهم؛ لأنَّهم نصروهم لمَّا قاموا لطلب الخلافة، فقدمهم الخلفاء على أهل البصرة واستقدموهم إليهم ووسعوا لهم، ورغب الناس في الروايات الشاذة وتفاخروا بالنَّوادر، وتباهوا بالترخيصات وتركوا الأصول واعتمدوا على الفروع، واشتهر منهم في عصر الفراء عبد الله بن سعيد الأموي، وأبو الحسن الأخفش الكوفي، وأبو عكرمة الضبي، وأبو عمرو الشيباني وغيرهم.
- (١)
كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة.
- (٢)
كتاب الكامل للمبرد.
- (٣)
البيان والتبيين للجاحظ.
- (٤)
كتاب النوادر للقالي.
ولما قدَّم العباسيون أهل الكوفة ارتقوا في عين أنفسهم وأرادوا مسابقة أهل البصرة ومفاخرتهم، فقامت المجادلات بين البلدين في مسائل كثيرة في النحو والأدب واللغة، أشهرها مسألة الزنبور والنحلة التي انتشبت نارها بين سيبويه من البصرة والكسائي من الكوفة. وكان الكسائي يُعلِّم الأمين ابن الرشيد، فكان الأمين ينصره كأن على انتصار أحد النحويين يتوقف انتصار أهل بلده جميعًا، ولا بأس من إيراد خلاصة المسألة ليظهر مقدار اهتمام الخلفاء بالمسائل العلمية.
وذلك أنَّ الكسائي كان مُقيمًا في بغداد يُعلِّم الأمين، واتفق أنَّ سيبويه قدم إليها من البصرة، فجمع الأمين بينهما في مجلس فتناظرا في أمور كثيرة من جملتها مسألة الزنبور، فذكر الكسائي من أمثال العرب مثلًا رواه على هذه الصورة: «كنت أظن الزنبور أشد لسعًا من النحلة فإذا هو إياها» فقال سيبويه: «ليس المثل كذلك، بل: فإذا هو هي» وتحاورا طويلًا، واتفقا على مراجعة عربي خالص لا يشوب كلامه شيء من كلام أهل الحضر. وكان الأمين شديد العناية بالكسائي لكونه معلمه فاستدعى عربيًّا وسأله، فقال كما قال سيبويه، فقال له: «نريد أن تقول كما قال الكسائي» فقال: «لساني لا يُطاوعني على ذلك فإنَّه ما يسبق إلا إلى الصواب» فقرروا معه أنَّ شخصًا يقول: «قال سيبويه كذا، وقال الكسائي كذا فالصواب مع من منهما؟» فيقول العربي: «مع الكسائي» فقال: «هذا يمكن». ثم عقد لهما المجلس واجتمع أئمة هذا الشأن، وحضر العربي وقيل له ذلك فقال: «الصواب مع الكسائي وهو كلام العرب» فعلم سيبويه أنَّهم تحاملوا عليه وتعصبوا للكسائي، فخرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما جرى عليه وقصد بلاد فارس.
وكانت علوم اللغة في أول أمرها مشتركة مختلطة، ثم تميزت وتشعبت فصارت علومًا عديدة، كل منها مستقل عن الآخر، كالنحو والصرف واللغة والمعاني والبيان والاشتقاق والعروض والقوافي وأخبار العرب وأمثالهم والجدل وغيرها، وقد يطلقون عليها علم الأدب، ولكل منها تاريخ وشروح هي من شأن تاريخ آداب اللغة.
(د) بلاغة الإنشاء
البلاغة في الإنشاء مما اقتضاه القرآن؛ لأنَّه مثال البلاغة والفصاحة عند العرب، يتخذونه نموذجًا في خطبهم ورسائلهم وإنشائهم، وإذا لم يقصدوا إلى الاقتباس منه عمدًا فشيوع حفظه بينهم أكسبهم ملكة البلاغة، مع ما كانوا فيه من أسباب الحماسة والأنفة في إبان دولتهم، فدخلت لغة العرب بعد الإسلام في طور جديد من البلاغة والفصاحة، ظهر في عبارتها على اختلاف طرق تأديتها خطابة أو كتابة، أمَّا بلاغة الخطابة فسيأتي الكلام عليها، وأما الكتابة فينظر فيها من عدة وجوه ترجع إلى كتابة الرسائل وكتابة الكتب.
إنشاء الرسائل
فالرسائل كانت عبارتها عندهم مثل عبارة الخطابة، من حيث التفنن في أساليب الخيال بالتهديد أو الوعيد أو النصح أو الاستنهاض أو الاستعطاف أو نحو ذلك من المعاني، وكانوا في أوائل الإسلام يتوخون الاختصار فيها على قدر الإمكان، عملًا بالحديث القائل: «أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا». فكانوا يجمعون المعنى الكبير في اللفظ القليل، حتى تكاد ترى المعنى مجردًا من اللفظ، وكان لتلك الرسائل تأثير مثل تأثير الخطب البليغة، كأنَّهم استعاضوا بعد زمن الفتح ببلغاء الكتَّاب عن بلغاء الخطباء.
ومن أمثلة الرسائل المختصرة البليغة أنَّ عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص أمير مصر، وكان الحجاز في ضنك عام الرمادة: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، أما بعد فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي … فيا غوثاه ثم يا غوثاه!» فكتب إليه عمرو: «لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عبد الله عمرو بن العاص، أما بعد فيا لبيك ثم يا لبيك! وقد بعثت إليك بِعيرٍ أولها عندك وآخرها عندي، والسلام عليك ورحمة الله».
ومن أمثلة تأثير المكاتبة البليغة أنَّ عبد الملك بن مروان بنى بابًا في بيت المقدس باسمه، وأمر الحجاج فبنى بابًا باسمه هو، فاتفق أنَّ صاعقة وقعت فاحترق بها باب عبد الملك فقط، فعظم ذلك عليه وتشاءم منه فكتب الحجاج إليه: «بلغني أنَّ نارًا نزلت من السماء فأحرقت باب أمير المؤمنين ولم تحرق باب الحجاج، وما مثلنا في ذلك إلا كمثل ابني آدم إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر» فسُرِّي عن عبد الملك بذلك.
وكان الخلفاء يختارون كتَّابهم من البلغاء، ويتوخون جهدهم في الاختصار مع البلاغة، ومن أمثلة ذلك أنَّ المأمون استكتب كاتبه عمرو بن مسعدة كتابًا إلى بعض العمال بالوصية عليه والاعتناء بأمره فكتب: «كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه، معني بمن كتب له، ولن يضيع حامله بين الثقة والعناية».
وكثيرًا ما كانوا يُجيبون على الكتاب بعبارة مختصرة، وخصوصًا إذا أرادوا التهديد أو نحوه، كما أجاب الرشيد نقفور ملك الروم، وكان قد كتب إليه ينذره بقطع ما كان يحمله الروم إلى بغداد من الأموال، ويطلب إليه إرجاع ما كان قد قبضه منها إلى أن قال: «وافتد نفسك بما تقع به المصادرة، وإلا فالسيف بيننا وبينك». فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب بعد البسملة: «قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه!» وأجاب مثل ذلك الجواب يوسف بن تاشفين للأذفونش ملك الإفرنج لما هدده بكتاب، فكتب يوسف على ظهر الكتاب: «الذي يكون ستراه».
التوقيعات
ويعد من هذا القبيل أيضًا التوقيعات، وهي ما كان يوقعه الخلفاء على ما يرفع إليهم من القصص بما يُشبه (التأشير) في دواوين هذه الأيام، وكانوا يتفننون في التوقيع تفننًا بديعًا، ويغلب أن يجعلوا أجوبتهم آيات من القرآن، أو جملًا من الحديث، أو أشعارًا مشهورة. ومن أمثلة ذلك أن سعد بن أبي وقاص كتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في بنيان يبنيه، فوقع عمر في أسفل الكتاب: «ابنِ ما يُكِنُّك من الهواجر وأذى المطر». ووقع عثمان بن عفان في قصة قوم تظلموا من مروان بن الحكم وذكروا أنَّه أمر بوجأ أعناقهم: «فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون». وكتب سلمان الفارسي إلى علي بن أبي طالب يسأله كيف يُحاسَب الناس يوم القيامة، فوقع على جوابه: «يُحاسبون كما يُرزقون».
وكتب عبد الله بن عامر إلى معاوية في أمر يُعاتبه فيه، فوقع في أسفل الكتاب: «بيت أمية في الجاهلية أشرف من بيت حبيب في الإسلام، فأنت تراه». وكتب إليه ربيعة بن عسل اليربوعي يسأله أن يعينه في بناء داره بالبصرة باثني عشر ألف جذع، فوقع في أسفل الكتاب: «أدارك في البصرة أم البصرة في دارك؟!» وكتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يُخبره بسوء طاعة أهل العراق وما يُقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم، فوقع له: «إن من يُمن السائس أن يتألف به المختلفون، ومن شؤمه أن يختلف به المتألِّفون». ووقع عبد الملك في كتاب ابن الأشعث:
•••
وقس على ذلك سائر توقيعات بني أمية وبني العباس، وهي كثيرة وكلها بليغة، كتوقيع المهدي لعامله على خراسان لأمر جاء عنه: «أنا ساهر وأنت نائم …» وتوقيع الرشيد إلى عامله على مصر: «احذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف، فيأتيك من لا قبل لك به ومن الله أكثر منه». وتوقيع المأمون إلى ابن هشام في أمر تظلم فيه: «من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من تحته، فأي الرجلين أنت؟»
وكان الأمراء والوزراء أيضًا يوقعون مثل توقيعات الخلفاء فيما يرفع إليهم من القصص، فتظلم أحدهم إلى زياد بن أبيه من بعض عماله بكتاب فوقع له: «أنا معك». ووقع الحجاج في كتاب أتاه من صاحب الكوفة يُخبره بسوء طاعة أهلها وما يُقاسي من مداراتهم: «ما ظنك بقوم قتلوا من كانوا يعبدونه؟!» ووقع جعفر بن يحيى في قضية محبوس: «ولكل أجل كتاب». ووقع لآخر: «الجناية حبسته والتوبة تطلقه». وقد اقتبس العرب التوقيع على هذه الصورة من الفرس؛ لأنهم سبقوهم إلى ذلك.
إنشاء الكتب
ونريد بها الكتب المؤلفة في الموضوعات الأدبية أو العلمية أو التاريخية أو نحوها، وهي تختلف بلاغة وفصاحة باختلاف موضوعاتها، وكتب الأدب أحوج إلى البلاغة لما تقتضيه الموضوعات الأدبية من التخيلات الشعرية والكنايات ونحوها، والغالب في كُتَّاب الأدب أن يُطالعوا آداب العرب ويُخالطوهم ويحفظوا أساليبهم في أشعارهم وخطبهم وأقوالهم، فتحصل فيهم ملكة البلاغة العالية، ولذلك كان الفقهاء وأهل العلوم الطبيعية قاصرين في البلاغة لاستغناء هذه العلوم عن الخيال، فيتعودون التعبير بعبارات بسيطة بعيدة عن أساليب الأدباء، وإذا حاولوا الكتابة في الأدب أو نظم الشعر جاء كلامهم ضعيفًا ركيكًا.
فلغة الكتاب، قبل انتشار الفقه ونقل العلوم الطبيعية إلى العربية، كانت أقرب إلى البلاغة مما صارت إليه بعد ذلك؛ لأنَّها كانت مصوغة على مثال القرآن وهو عنوان البلاغة، لكنَّه أقرب إلى التعبير الشعري منه إلى الكلام المرسل، فالذين حذوا حذوه في صدر الإسلام أجادوا في الخطب والمراسلات؛ لافتقارها إلى ذلك الأسلوب بما فيه من أسباب التأثير في النفوس، فلمَّا أقدم المُسلمون على تأليف الكُتب، وكان معظم المؤلفين من الفرس اصطبغت بلاغة العربية بشيء من أسلوب الفرس فنشأ عنها الكلام المرسل المتناسق، وأحسن أمثلته عبارة ابن المقفع في كتاب كليلة ودمنة، فإنَّها لا تزال عنوان البلاغة والسهولة إلى هذا اليوم.
ابن المقفع
كان ابن المقفع عريقًا في الفارسية عالمًا بآدابها متمكنًا من أساليبها؛ لأنَّها لغته ولغة آبائه، وكان يعرف اللغتين الفهلوية واليونانية، وقد نشأ في البصرة في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة وهي حافلة بالأدباء والشعراء، فبرع في اللغة العربية وآدابها، وكان سليم الذوق ذا قريحة إنشائية، فلمَّا أقدم على نقل كتاب كليلة ودمنة من الفارسية إلى العربية جاءت عبارته شاملة للبلاغة والسهولة، وقد سار على نهجه من جاء بعده؛ لأنَّه أقدم من حفظ إنشاؤه في الموضوعات الأدبية باللغة العربية (توفي سنة ١٤٣ﻫ).
على أنَّ سائر كُتَّاب الأدب نحو ذلك العصر قلما أنشأوا شيئًا من عند أنفسهم؛ لأنَّ أكثر ما كانوا يكتبونه قطعٌ كانوا يروونها عن أهل البادية أو عن بلغاء الخطباء بنصها، وربما وصلوا بينها بفقرات لا تتجاوز قولهم: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، أو خطب فلان فقال كذا وكذا، وكتب فلان إلى فلان كذا وكذا، مما لا يعد من قبيل الإنشاء المرسل، حتى ما كتبه أركان علم الأدب في أواسط القرن الثالث للهجرة، كالجاحظ والمبرد وابن قتيبة وغيرهم، فإنَّ كتبهم عبارة عن قطع من أقوال العرب أو مروياتهم منقولة بالإسناد إلى أصحابها، وشأنهم في ذلك شأن كُتَّاب المغازي والفتوح والسير والأخبار والأشعار، كحماد والأصمعي وأبي عبيدة ومحمد بن إسحاق، فإنَّهم كانوا يقولون ويسندون أقوالهم إلى الرواة، وأكثرهم من أهل البادية. ويُقال نحو ذلك فيما جمع بين هذه الفنون، ككتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وغيرهما، فإنَّها عبارة عن أخبار مُسندة إلى أصحابها، ويندر فيها الكلام المرسل من عند المؤلف.
فكتاب كليلة ودمنة أقدم ما وصل إلينا من الإنشاء المرسل من لغة رجل واحد، وهو عالم من علماء الفرس وقد نقل الكتاب عن لغة الفرس، ونظرًا إلى ما يمتاز به الكتاب المذكور من السهولة والرشاقة عن سائر ما كُتِب في عصره أو ما بعده من كُتُب الأدب، يغلب على ظننا أنَّه اكتسب ذلك من تأثير أساليب اللغات الأخرى التي كان يعرفها الكاتب، أو لاقتدار خاص في الكاتب نفسه على مثل ذلك الأسلوب، وقد قلَّ من جاء بمثله بعده ولم يأت أحد بأحسن منه، مع ما بلغ إليه العلم من الرُّقي في العصر العباسي وما نبغ فيه من علية الكُتَّاب المشاهير، مما يدلك على أنَّ الإنشاء قريحة خاصة مثل قريحة الشعر لا تتقيد بالزمان أو المكان إلا قليلًا.
وما زالت الكتب تُؤلَّف بالإسناد والرواية، حتى كثرت المؤلفات العربية في كل فن أو علم، وعمد الكتاب إلى التلخيص والاختصار في القرن السادس أو السابع، فأخذوا يحذفون الأسانيد أو يختصرونها إلا لأسباب خاصة كما سترى في باب التاريخ.
السجع
والتسجيع في الكتب أنبى على السمع مما في الرسائل، وخصوصًا فيما لا يحتاج إلى تنميق أو إطناب أو رنة أو خيال ككتب التاريخ والعلم، فمن يطالع كتاب قلائد العقيان للفتح بن خاقان المتوفى سنة ٥٣٥ﻫ، أو الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الأصبهاني المتقدم ذكره، أو تاريخ آل سلجوق لعماد الدين أيضًا؛ يرَ ثقل الأسجاع على الأسماع في التاريخ وإن حسنت أحيانًا في الرسائل والخطب.
(٢-٣) التاريخ والجغرافية
(أ) التاريخ
بقي الإنسان أحقابًا لم يُدوِّن فيها التاريخ؛ لأنَّه لم يكن يعرف الكتابة، ولأنَّ أحواله لم تكن تستدعي التدوين لسذاجتها، مع انصراف همه في تلك العصور إلى ضروريات الحياة، على أنَّه ما لبث أن أُصيب بطوارق الحدثان، فحفظ أكثرها تأثيرًا في أحوال معائشه، كالطوفان والقحط والحرب ونحوها، وتنوقلت تلك الأخبار في أعقابه أدهارًا، وهي تتعاظم وتتكيف على ما تطلبه طبيعة الإنسان من التلذذ باستماع الغريب، واجتهاد الراوي في التأثير على السامع بما يلقيه من الأخبار المنمقة المستغربة، فوصلت أخبار الأوائل إلى زمن التاريخ وهي أشبه بالخرافات منها بالحقائق، واتخذ بعضها وجهة دينية، والبعض الآخر وجهة حماسية، واصطبغ بعضها صبغة شعرية أو خيالية، ويختلف ذلك باختلاف الأمم والعصور، فنشأ من ذلك كله ما يُعرف بالخرافات القديمة، كالميثولوجيا اليونانية في الإلياذة، وأخبار الهنود في المهابهارتة، وأخبار الفرس القدماء في الشاهنامة، وأخبار القبائل البائدة التي كان العرب يتناقلونها، فإن ما ينسبونه إلى عاد وثمود وطسم وجديس من الحوادث المستغربة لا يخلو من أصل تاريخي تعاظم وتضاعف على مر الأيام، وكذلك حديث سيل العرم وبلقيس وغيرهما.
ويلي ذلك طبقة من الأخبار أقرب إلى التاريخ من تلك، كالمهاجرات القديمة والحروب القديمة، ومنها أيام العرب وحروبهم قبل الإسلام، وعام الفيل ونحوها مما أشرنا إليه في باب علوم العرب قبل الإسلام، فجاء الإسلام وليس عند العرب من قبيل التاريخ غير أنسابهم وشذرات من تلك الأخبار والخرافات، ولا علم لهم بأحوال الأمم الأخرى إلا ما له علاقة بهم، غير ما كانوا يسمعونه من حوادث التوراة والتلمود من أحبار اليهود أو قسس النصارى، ولا يخرج ذلك كله عن أخبار متقطعة يقتصر الخبر منها على حادثة أو واقعة لا علاقة لها بالحوادث الأخرى.
فالعرب قبل الإسلام كانوا يعدون من أضعف الأمم المتمدنة في التاريخ. فلما ظهر الإسلام اشتغلوا بالفتوح والحروب، حتى إذا استتب لهم الأمر وفرغوا من الفتح تدرجوا في وضع التاريخ مثل تدرجهم في سائر العلوم الإسلامية، وقد عددنا التاريخ من هذه العلوم، لا لأنَّه خاص بالإسلام بل لأنَّ الإسلام دعا إلى وضعه كما سترى.
قد تَقدَّم في كلامنا عن «حَمَلَة العلم في الإسلام أكثرهم العجم» أنَّ العرب كانوا يتنزهون عن الاشتغال بالعلم إلا الأخبار؛ فإنَّهم كانوا يشتغلون بها ويعنون بحفظها وسماعها وتناقلها، وخصوصًا أخبار الفرسان والشجعان والفصحاء والخطباء والشعراء، لما في ذلك من بواعث القدوة واستنهاض الهمم وترويض النفوس.
وسماع أخبار العظماء يستنهض الهمم إلى الاقتداء بهم، ولذلك كان أكبر القواد العظام الراغبين في العلا، من العرب وغير العرب، يستتلون أخبار من سبقهم من مشاهير القواد، وإذا وقع أحدهم في مشكلة سياسية تدبر ما حدث من أمثالها قبله تسهيلًا لإبداء حكمه فيها، يُقال: إنَّ المنصور لما هم بقتل أبو مسلم الخراساني تردد بين أن يمضي في قتله أو يشاور فيه، لِما كان لأبي مسلم من السعي الحميد في قيام الدولة العباسية، فتزيد بلباله حتى أرق، فلما أصبح استدعى إسحاق بن مسلم العقيلي، وقال له: «حدثني حديث الملك الذي أخبرتني عنه في حران»، فقصَّ عليه الحديث وخلاصته أنَّ سابور ملك الفرس أنفذ وزيره إلى خراسان يدعو أهلها إلى طاعته، فمضى وسعى في تحبيب الناس به ودعاهم إلى طاعة نفسه، فلما استفحل أمره صمم سابور على قتله عند رجوعه إليه بأعين خراسان، فلما رجعوا بغتهم فلم ينتبهوا إلا ورأس الوزير بين أيديهم، فاضطروا إلى طاعة سابور — فلما سمع المنصور تلك الحكاية بما فيها من المشابهة بحكاية أبي مسلم أطرق مليًّا ثم رفع رأسه وهو يقول:
مصادر التاريخ الإسلامي
للتَّاريخ الإسلامي مصادر كثيرة تدرج فيها على مقتضى الأحوال، وإليك تمثيل ذلك:
ولما اشتغل المسلمون في ضرب الخراج على البلاد، اختلفوا في بعضها: هل فتح عنوة أو صلحًا أو أمانًا أو قوة، وفي شروط الصلح أو الأمان. فاضطروا إلى تدوين أخبار الفتح باعتبار البلاد، فألفوا كتبًا في فتح كل بلد على حدة، كفتوح الشام للواقدي المتوفى سنة ٢٠٧ﻫ وكتابه مشهور لكنه مملوء بالمبالغات بما يشبه الحكايات، وفتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم المتوفى سنة ٢٥٧ﻫ، وفتوح بيت المقدس ونحوها، ثم جمعوا فتوح البلاد معًا في كتاب واحد كفتوح البلدان للبلاذري المتوفى سنة ٢٧٩ﻫ، وهو أوثق كتب الفتح وأشملها وأقدم ما بين أيدينا منها، إلا الواقدي.
الطبقات والمغازي
وقد رأيت فيما تقدَّم من كلامنا عن القرآن والحديث والنحو والأدب، أنَّ العلماء اضطروا لتحقيق مسائل هذه العلوم إلى البحث في أسانيدها والتفريق بين ضعيفها ومتينها، فجرَّهم ذلك إلى النظر في رواة تلك الأسانيد وتراجمهم وسائر أحوالهم، حتى أصبح من شروط الاجتهاد في الفقه معرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها، والإحاطة بأحوال النَقَلَة والرواة: عدولها وثقاتها ومطعونها ومردودها، والإحاطة بالوقائع الخاصة بها فقسموا رواة كل فن إلى طبقات، فتألف من ذلك تراجم العلماء والأدباء والفقهاء والنحاة وغيرهم، مما يعبرون عنه بالطبقات، ومنها: طبقات الشعراء، وطبقات الأدباء، وطبقات النحاة، وطبقات الفقهاء، وطبقات الفرسان والمحدثين واللغويين والمفسرين والحفاظ والمتكلمين والنسابين والأطباء، حتى الندماء والمغنين وغيرهم، وألفوا في كل باب غير كتاب؛ ولذلك كان المسلمون أكثر أمم الأرض كتبًا في التراجم لأفراد الرجال.
ثم طبقات الشعراء لابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦ﻫ، وقد طُبع في ليدن في هذا العام بعناية الأستاذ دي خويه المستشرق الهولندي الشهير، ثم ألف النَّاس طبقات كثيرة في أزمنة مختلفة، ومنها استخرجوا كتب التراجم الكبرى، كوفيات الأعيان، والوافي في الوفيات، وفوات الوفيات، وغيرها مما سيأتي ذكره، غير التراجم الدخيلة في تواريخ البلاد، كتاريخ دمشق لابن عساكر في ثمانين مجلدًا، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي في نحو ذلك وفيهما تراجم كثيرة.
ولمَّا استبد بنو أميه بالخلافة واعوجُّوا في أحكامهم عن سبل الخلفاء الراشدين، كثر تحدث الناس بأخبار الراشدين وتذكر أعمالهم المؤسسة على العدل والرفق، وذلك طبيعي في هذه الأحوال، ثم ألف بعضهم كتبًا في تاريخ الخلفاء الراشدين، ثم في الخلفاء على الإجمال، وأقدمهم الدينوري المتوفى سنة ٢٨١ﻫ، ويقال نحو ذلك في تأليف تراجم الوزراء، وتواريخ عمال الشرطة وتواريخ الأذكياء والبخلاء والعشاق وغيرهم.
التواريخ العامة
فانقضى القرن الثاني للهجرة ونصف الثالث وكتب التاريخ عند المسلمين الطبقات والمغازي والسير والفتوح على ما تقدم، أما التواريخ العامة مثل تواريخ الأمم أو البلاد قديمًا أو حديثًا فلم يشتغلوا بها إلا بعد ذلك، وأقدم من كتب في التاريخ العام ابن واضح المعروف باليعقوبي، وكتابه مطبوع في جزأين: جزء في التاريخ القديم كاليهود والهنود واليونان والروم والفرس وغيرهم، والثاني في تاريخ الإسلام من ظهوره إلى أيام المعتمد العباسي الذي تولى الخلافة سنة ٢٥٦ﻫ، ويليه ابن جرير الطبري المفسر الشهير المتوفى سنة ٣١٠ﻫ، وتاريخه كبير مرتب على السنين ينتهي إلى حوادث سنة ٣٠٢ﻫ، وقد ألف الفرغاني عليه ذيلًا ينتهي إلى سنة ٣١٢ﻫ، وكلاهما مطبوع، ثم المسعودي المتوفى سنة ٣٤٦ﻫ صاحب «مروج الذهب» وفيه وصف البلاد والبحار والحيوانات وغيرها، فضلًا عن التاريخ، وهو مبوب حسب الدول أو الأمم ومطبوع. وللمسعودي كتاب سماه «أخبار الزمان» قد ضاع ولم يقف له أحد على أثر، ولكن يظهر مما ذكر عنه في مروج الذهب أنَّه مُطوّل جدًّا، يليه حمزة الأصفهاني صاحب «تاريخ سني ملوك الأرض» فرغ من تأليفه سنة ٣٥٠ﻫ.
وظلَّ النَّاس على هذه التواريخ وقليل غيرها إلى القرن السابع للهجرة، إذ انقضت الدول الإسلامية العربية: العباسية في العراق، والفاطمية في مصر، والأموية في الأندلس. وقامت دول الأتراك والأكراد والبربر، فانتقل الناس إلى عصر جديد، فعمدوا إلى تدوين تاريخ العصر المنقضي، فاستعانوا بالكتب التي تقدم ذكرها فاختصروا مطولها وبوبوا مشوشها وجمعوا بين موضوعاتها وأضافوا ما لم يدركه أصحابها، وألفوا عدة تواريخ مطولة، أشهرها وأوعاها وأضبطها كتاب «الكامل» لابن الأثير المتوفى سنة ٦٣٠ﻫ فقد ضمَّنه تاريخ الطبري كله بعد حذف الأسانيد واختصار النصوص المطولة، وزاد عليه ما حدث بعده وما حدث في زمن الطبري في الأندلس وغيرها، ورتب ابن الأثير كتابه على السنين، مثل كتاب الطبري، فجاء ١٢ مجلدًا كبيرًا، وهو مطبوع، وجاء بعده أبو الفداء صاحب حماة، المتوفى سنة ٧٣٢ﻫ، فأخذ الكامل فلخصه وأدخل فيه كثيرًا من أخبار الأدباء والعلماء، وتوسع في أخبار العرب الجاهلية وأبقاه على حوادث السنين، فجاء في ثلاثة مجلدات، وهو مطبوع ومنشور، وجاء بعده عمر بن الوردي المتوفى سنة ٧٤٩ﻫ فاختصر تاريخ أبي الفداء.
ثم نبغ العلامة ابن خلدون المتوفى سنة ٨٠٨ﻫ والعرب قد ذهبت دولهم تمام الذهاب واتضحت عبرة التاريخ، وكان ابن خلدون عالمًا دقيق النظر صحيح القياس، فألف تاريخه المشهور ورتبه على الدول بدل السنين، وأفاض خصوصًا في أخبار المغرب والأندلس مما لم يسبقه إليه أحد. ويمتاز هذا التاريخ عما سبقه بمقدمة فلسفية لم ينسج أحد على مثالها قبلها، حتى علماء اليونان والرومان وغيرهم من الأمم القديمة، وفي شهرتها ما يغني عن وصفها.
ونهج بعض المؤرخين في تآليفهم منهجًا آخر، فجعلوا مؤلفاتهم بأسماء المدن فضمنوا كتبهم وصف تلك المدن وتراجم الذين عاشوا فيها، وأطول المؤلفات من هذا الصنف تاريخ بغداد للخطيب البغدادي المتوفى سنة ٤٦٣ﻫ وتاريخ دمشق لابن عساكر المتوفى سنة ٥٧١ﻫ في ثمانين مجلدًا وقد تقدم ذكرهما، وكلاهما لم يُطبعا، والثاني أكثر وجودًا من الأول، ومن هذا القبيل خطط مصر للكندي ثم للقضاعي ثم للمقريزي وهذه الأخيرة مشهورة ومثلها أخبار مصر القاهرة لأبي المحاسن والسيوطي.
التراجم والمعجمات
وأما التراجم فكانت في القرون الأولى تدون في الطبقات، باعتبار المهن أو العلم الذي يجمع كل طبقة كما تقدم. فلما نضج العلم وأخذ العلماء في الترتيب والتبويب، نبغ جماعة من المؤرخين استخرجوا من الطبقات وغيرها كتب التراجم ورتبوها على حروف المعجم وأشهر تلك الكتب «وفيات الأعيان» لابن خلِّكان المتوفى سنة ٦٨١ﻫ، ثم «فوات الوفيات» لصلاح الدين بن شاكر الكتبي المتوفى سنة ٧٦٤ﻫ، استدرك فيه ما فات ابن خلكان ذكره، وكلاهما مطبوعان ومشهوران، وكتاب «الوافي في الوفيات» لصلاح الدين الصفدي سنة ٧٦٤ﻫ، وهو كبير لكنه لم يوجد مجموعًا في مكتبة واحدة ولا جمعوه بعد، فهو لم يطبع ومنه أجزاء متفرقة في مكتبات أوربا. ومثله كتاب «مرآة الزمان» لسبط ابن الجوزي المتوفى سنة ٦٥٤ في ٤٠ مجلدًا، وهو مشتت. وفي تراجم أهل الأندلس كتب كثيرة منها كتاب «الصلة» لابن بشكوال المتوفى سنة ٥٧٨ وكتاب «المعجم» لابن الأبار وغيرهما.
ومن هذه المعجمات التاريخية ما هو خاص بفئة من الناس أو طبقة من طبقاتهم ككتاب «أسد الغابة» في أخبار الصحابة لابن الأثير صاحب الكامل، وهو في خمسة أجزاء كبيرة وخاص بالصحابة، وهو مطبوع ومنشور. و«تراجم الحكماء» لابن القفطي غير مطبوع.
على أنَّ كثيرًا من التراجم والأخبار التاريخية منتشر في كتب الأدب، ككتاب الأغاني، والعقد الفريد، والكشكول، والمستطرف، والبيان والتبيين، وقد تجد فصولًا تاريخية مهمة في كتب العلم الطبيعي، ككتاب حياة الحيوان للدميري فإنَّ فيه فصولًا تاريخية قلما نعثر عليها في كتب التاريخ.
ويمتاز التاريخ عند العرب على سواه عند سائر الأمم التي تحضرت قبلهم بكثرة ما كتبوه من التراجم، وأكثره بشكل القواميس وهم السابقون في ذلك وعنهم أخذ أهل العالم تأليف المعجمات التاريخية، فعندهم من قواميس التراجم بضعة صالحة، هي كنوز في التاريخ والجغرافية والأدب والعلم. فوفيات الأعيان معجم يزيد عدد الترجمات فيه على ٨٢٠ ترجمة مرتبة على أحرف الهجاء، غير ما جاء عرضًا في أثناء الكلام على الآخرين. ومن مزاياه أنَّه يضبط الأعلام من أسماء الرجال والأماكن، ويذكر سني الوفاة والولادة، ويُضمّن التراجم كثيرًا من الفوائد الأدبية والعلمية مما يندر في سواه، ويقال نحو ذلك في قواميس التراجم الأخرى، كفوات الوفيات وفيه أكثر من ٤٥٠ ترجمة لم يذكرها ابن خلّكان، وكتاب الوافي في الوفيات، وأسد الغابة في أخبار الصحابة، وكتاب تراجم الحكماء، غير كتب التراجم المرتبة على غير الهجاء، ككتب الطبقات للشعراء والفقهاء والأطباء، ومن أحسنها كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة المتوفى سنة ٦٦٨ﻫ، فإنَّه جامع تاريخ الطب والأطباء والعلم والعلماء والفلسفة والفلاسفة عند اليونان والفرس والهنود والكلدان، فضلًا عن العرب والمسلمين، وهو مرتب بحسب العصور والبلاد، ناهيك بما يتخلل ذكر مؤلفاتهم ووصفها من العادات والآداب الاجتماعية وغيرها، وهو مطبوع ومشهور.
عدد كتب التاريخ
فالمسلمون ألفوا في التاريخ كتبًا لا تُحصى، وما من أمة قبل العصر الحديث بلغت في هذا العلم ما بلغ إليه المسلمون، فإنَّ كتب التاريخ الواردة أسماؤها في كشف الظنون فقط تزيد على ١٣٠٠ كتاب، غير الشروح والاختصارات وغير ما ضاع من تلك الكتب وأهمل ذكره وهو كثير جدًّا. يدلك على ذلك ما تراه في مقدمات بعض كتب التاريخ أو الجغرافية، إذ يذكر المؤلف كتبًا عديدة نقل عنها أو اعتمد عليها في تأليف كتابه، فإذا بحثت عنها رأيت أكثرها ضاع ولم يرد ذكره في كتب الفهارس ككشف الظنون أو غيره. فالمسعودي ذكر في مقدمة كتابه «مروج الذهب» عشرات من الكتب التي كانت شائعة في أيامه، وقد نقل عنها ولم يذكر منها صاحب كشف الظنون إلا القليل، فلو بقيت الكتب التي ألفها العرب في التاريخ كلها لزادت على بضعة آلاف، وفيها كتب كبيرة يدخل الواحد منها في أربعين مجلدًا أو خمسين أو ثمانين، ومنها في عشرة أو خمسة أو أقل أو أكثر.
ومن كتب التاريخ العام ما هو مُرتّب أحسن ترتيب باعتبار السنين، كالطبري وابن الأثير وأبي الفداء، أو باعتبار الأمم أو الدول كالمسعودي والفخري وابن خلدون، أو بحسب المدن أو الملوك مما لا يُحصى، وأكثرها حسن العبارة بليغها مع إسهاب ربما زاد في بعض الأحوال حتى يخرج عن موضوع الكتاب. ويغلب الصدق في روايات كتَّاب المسلمين، لما تعودوه من الإسناد في تناقل الأخبار، إلا ما دخل تواريخهم في العصر الأول لأغراض بعض ذوي المطامع أو الأهواء والعرب لا يزالون على سذاجتهم.
عيوب المؤرخين المسلمين
وإنَّما يُعاب المؤرخون المسلمون لاقتصارهم في التواريخ على إيراد الحوادث على عواهنها كما بلغت إليهم، وقد يسندونها إلى راوٍ أو عدة رواة بلا انتقاد ولا تمحيص ولا قياسٍ اكتفاءً بالإسناد. وقد فاتهم أنَّ بعض الأخبار المسندة موضوع في الصدر الأول أو ما بعده لأغراض سياسية، كما وضع كثير من الأحاديث لأسباب تقدم بيانها.
ومما ينتقد عليهم أيضًا أنَّهم يصرفون عنايتهم في التواريخ إلى تدوين أخبار الحرب والفتح والعزل والولاية والولادة والوفاة، وقلما يذكرون تاريخ الآداب أو العلوم، أو أحوال الدولة من الحضارة وأسبابها، وتعليل الحوادث وما نجم عنها، وقياس بعضها على بعض إلا ما يجيء عرضًا. فيندر أن ترى لمؤرخ منهم رأيًا في حادثة، أو انتقادًا على خليفة أو أمير، أو ملاحظة على نكتة، حتى في الأحوال التي يعلم أنه لا يسيء فيها إلى الخليفة، بل قد يكون في انتقاده ما يسر ذلك الخليفة، كما كانت حال مؤرخي الدولة العباسية في شؤون الدولة الأموية، فإنَّ شدّة العباسيين على الأمويين مشهورة، ومع ذلك فإنَّ المؤرخين الذين كتبوا في عهد الدولة العباسية قلما ذكروا شيئًا من مساوئ بني أمية، إلا ما قد يجيء عرضًا. ولعل السبب في ذلك السكوت أنَّ حوادث التاريخ الإسلامي أكثرها متصل بأسباب دينية أو شرعية بين فرقة وأخرى أو مذهب وآخر. فإذا انتشبت حرب بين خليفتين أو أميرين مسلمين، لا يخلو أن يكون أحدهما ظالمًا والآخر مظلومًا، فالمؤرخ المسلم يتحاشى الطعن في أحدهما احترامًا لمقام الدين، فينقل الخبر على علاته ويترك الحكم فيه للقارئ، وهذا هو السبب فيما نقاسيه من العناء في استخراج حقائق التمدن الإسلامي من كتب التاريخ.
ويندر أن ترى من بعض المؤرخين تصريحًا بمساوئ أحد الخلفاء أو الأمراء أو غيرهم من أولي الأمر. وأكثر ما عثرنا عليه من أمثال ذلك في كتاب الفخري والآداب السلطانية لابن طباطبا، وتاريخ ابن خلدون. أما ابن طباطبا فقد صرح بذلك انتصارًا لآل علي، كقوله على أثر حكاية وقعت للرشيد مع أبي نواس إذ أورد قول أبي نواس في الرشيد:
ثم قال: «ولم يكن الرشيد يخاف الله وأفعاله بأعيان آل علي (عم) أولاد بنت نبيه بغير جرم … إلخ»، وهذا تصريح لم نرَ له شبيهًا في كتب مؤرخي المسلمين إلا ما قد يقوله الشيعة في أعمال أهل السنة أو بالعكس. وأما ابن خلدون فقد انتقد أعمال بعض الدول أو الخلفاء مدفوعًا بالقياس الصحيح والحكم الفلسفي.
ومما يؤاخذ به مؤرخو المسلمين أيضًا — بالنظر إلى آداب هذه الأيام — أنَّهم إذا عرض لهم في بعض الأخبار ألفاظ بذيئة، أو واقعة يخجل سماعها الأديب فإنهم يذكرونها بألفاظها، كما يذكرون سائر الحوادث، ويدخل في ذلك كثير من الأشعار السفيهة، وهم يسمون ذلك أحماضًا. وقد يتبادر إلى الذهن أنَّه من مقتضيات تلك العصور، أو أنَّه لم يكن منكرًا عندهم. والحقيقة أن أهل الأدب الصحيح من أولئك المؤرخين كانوا يتحاشون الوقوع في ذلك، وفي جملتهم ابن خلكان فإنه من أبعدهم عن الفحش في القول، ومن الأدلة على أدبه أنه لما ترجم لحسين بن محمد المنعوت بالبارع، وهو من الشعراء المشهورين، ساقه الحديث إلى قصيدة نظمها أحدهم للبارع المذكور وقصيدة أجابه البارع بها، فذكر ابن خلكان البيت الأول من القصيدة ثم قال: «لولا ما أودعها من السخف والفحش لذكرتها».
(ب) الجغرافية أو تقويم البلدان
لفظ الجغرافية وحده كافٍ للدلالة على أنَّ هذا الفن ليس من موضوعات العرب، ولكننا ذكرناه هنا لارتباطه بالتاريخ، ولأن العرب كتبوا في وصف الطرق والبلاد والمدن قبل نقل الجغرافية إلى العربية لأسباب خاصة بالإسلام.
لم يُقدم البشر على وضع علم أو فن إلا لأسبابٍ حَمَلَتْهم على ذلك؛ لأنَّهم يساقون في شؤونهم وأعمالهم بالحاجة، ولذلك قالوا: الحاجة أم الاختراع. واضطرارهم إلى الجغرافية لم يأتِ دفعة واحدة، بل جاء بالتدريج فنما واتسع عملًا بناموس الارتقاء، وأهم الأسباب التي دعت إلى نشوء هذا العلم احتياج الناس قديمًا إلى معرفة الطرق والبلاد والأبعاد بينها، إما للتجارة أو للفتح، فجمعوا معلومات التجار والفاتحين بتوالي الأزمان، وجعلوا يتداولونها ويتدارسونها للعمل بها، حتى أتيح لها مَن رَتَّبَ أبوابها وضبط أجزاءها وجعلها علمًا.
وأول من وضع أساس هذا العلم الفينيقيون؛ لأنَّهم أقدم تجار العالم وأكثرهم أسفارًا، فقد رادوا شواطئ البحر الأبيض واستعمروا بعضها منذ بضعة وثلاثين قرنًا. وكانت مدينة صور مركز العالم التجاري في تلك الأيام، تجتمع حاصلات الأمم ومصنوعاتهم فيها وتتفرق منها حتى الهند، فقد كانوا يحملون منها العاج والطيب والقردة وغيرها. وأسماء هذه السلع الباقية في الفينيقية والعبرانية تدل على أصلها الهندي. فاطلع الفينيقيون في أثناء أسفارهم على أحوال كثير من البلاد وعرفوا المسافات بينها وأخبار أهلها …
ولما حمل الإسكندر بجيوشه على العالم واخترق آسيا إلى بلاد الهند برًّا وبحرًا، اطلع رجاله على أحوال أواسط آسيا وأعاليها فاشتغلوا في جمع الأخبار والأوصاف لغرابتها. وفعل البطالسة نحو ذلك بشواطئ البحر الأحمر إلى الحبشة، ثم الرومان وغيرهم.
الجغرافية عند المسلمين
ولكن المسلمين بدأوا بوضع الجغرافية قبل اطلاعهم على كتاب بطليموس؛ لثلاثة أسباب غير السببين اللذين دعوَا اليونان أو غيرهم إلى وضعها؛ لأنَّ العرب من أكثر الأمم فتحًا وغزوًا، وقد تفرقوا بعد الإسلام في أربعة أقطار المسكونة. وهم — وخصوصًا أهل الحجاز — كانوا تجارًا من زمن الجاهلية ثم اتسعت تجارتهم في الإسلام باتساع مملكتهم. أما الأسباب الثلاثة التي يمتاز بها العرب على سواهم:
فأولها الحج؛ لأنَّ المسلمين على اختلاف بلادهم وأقاليمهم يحجون إلى مكة، والحج فريضة على المسلم ولو كان في الهند أو الصين أو غيرهما، والقدوم إلى مكة يستلزم معرفة الطرق والمنازل.
والسبب الثالث أنَّ العرب فتحوا العالم واختلفوا في طرق الفتح باختلاف البلاد بين أن تكون قد فتحت صلحًا أو عنوة أو أمانًا أو قوة، ولكل من ذلك حكم في قسمة الفيء وأخذ الجزية وتناول الخراج واجتناء المقاطعات والمصالحات وإنالة التسويفات والإقطاعات لا يسع الفقهاء جهلها فضلًا عن الأمراء. فأصبح علم ذلك عندهم من قبيل الدين، ولا يتوصل إليه إلا بالتاريخ والجغرافية.
ولما ترجمت الجغرافية إلى العربية واطلع العرب عليها أخذوا في تأليف الكتب على مثالها، وتوسعوا في ذلك وزادوا عليه ما عرفوه من قبل. ولم يكتفوا بالنقل والسماع، ولكنهم ركبوا البحار وجابوا الأقطار شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وكتبوا ما شاهدوه أو تحققوه وصححوا كثيرًا من أخطاء بطليموس. والظاهر أنَّ علم الجغرافية عند العرب لم ينضج إلا في القرن الرابع للهجرة، فتهافت النَّاس على التأليف فيه مثل تهافتهم على تأليف التاريخ العام في ذلك القرن.
وأول من دوَّن الجغرافية منهم على نحو ما عند اليونان الشيخ أبو زيد البلخي، ألف في أول القرن الربع كتابًا في الجغرافية سماه «صور الأقاليم» ذكر فيه أمثلة منها بعد أن قسمها إلى عشرين جزءًا، ثم شرح كل مثال ولكنه اختصره وترك كثيرًا من أمهات المدن. وكان من معاصريه رجل من علماء الفرس اسمه أبو إسحاق الفارسي الإصطخري المعروف بالكرخي، وكان محبًّا للأسفار فسافر وحقق بنفسه كثيرًا من البلاد والبحار والمدن وعوّل فيما بقي على كتاب البلخي، وألف كتابًا سماه «مسالك الممالك» وهو مطبوع ومنشور. وأما كتاب البلخي فقد ضاع.
وجرى الإصطخري في كتابه على تقسيم البلخي، فجعل بلاد المسلمين عشرين قسمًا بدأ بديار العرب وانتهى إلى ما وراء النهر (تركستان) ووصف كل قسم على حدة، وذكر البلاد وحرفها وتجارتها وغير ذلك.
ونبغ نحو ذلك الزمن ابن حوقل، فألف كتاب «المسالك والممالك» وقد سار بنفسه أيضًا لمشاهدة البلاد. قال في مقدمة كتابه: «فبدأت سفري هذا من مدينة السلام يوم الخميس لسبع خلون من شهر رمضان سنة ٣٣١ﻫ» فلما أتم رحلته كتب الكتاب المذكور ووضحه بالخرائط الكثيرة، لكل إقليم من أقاليم الإسلام خريطة أو غير خريطة، ورسم المدن والأنهار والجبال والبحار والجزر وغيرها، وتقسيمه كتقسيم الإصطخري، والعبارة تكاد تكون واحدة في كثير من الأماكن.
ثم ألف ابن الفقيه الهمذاني والمقدسي والمسعودي وغيرهم، وقد رحل المسعودي رحلات عديدة بلغ بها إلى أقاصي الهند وذكر ما شاهده وخبره في كتبه الجغرافية والتاريخية. وجميع هؤلاء من أهل القرن الرابع للهجرة وكتبهم مطبوعة الآن إلا الخرائط فقد ضاعت ولم يبق غير ذكرها أو الإشارة إليها.
وظل الناس على هذه الكتب وقليل غيرها، حتى نهض المسلمون لتأليف التاريخ وترتيبه وجمعه على ما بيناه في مكانه، فنهض جماعة ألفوا في الجغرافية كما ألفوا في التاريخ، فوضعوا المعجمات الجغرافية على أحرف الهجاء، وأشهر من فعل ذلك ياقوت الحموي المتوفى سنة ٦٢٦ﻫ فقد ألف كتابًا ضخمًا سماه «معجم البلدان» أتى فيه على وصف البلدان والجبال والأودية والقيعان والقرى والمحال والأوطان والبحار والأنهار والأصنام والأبداد والأوثان، وضمَّن ذلك كثيرًا من تراجم الناس في أثناء ذكره للبلاد التي ولدوا فيها أو نسبوا إليها. فهو قاموس جغرافي تاريخي أدبي. ولأبي الفداء صاحب حماة أيضًا كتاب في تقويم البلدان ولغيره غيرها، فضلًا عن الرحلات الكثيرة التي خدم العرب بها الجغرافية، فنكتفي بالإشارة إليها ونترك التفصيل لتاريخ آداب اللغة العربية.
(٣) الآداب العربية الجاهلية
(٣-١) الخطابة بعد الإسلام
وزادت الخطابة بعد الإسلام قوة ووقعًا في النفوس، بنهضة العرب للحروب وانتصارهم في أكثر مواقعها، فازدادوا أنفة وسمت نفوسهم فسما بها ذوقهم في البلاغة، وشحذت قرائحهم بما شاهدوه من البلاد الجديدة والأمم الجديدة والألسنة الجديدة، فبلغت الخطابة عندهم مبلغًا قلما سبقهم فيه أحد من الأمم التي تقدمتهم بلاغة وإيقاعًا وتأثيرًا حتى اليونان والرومان، لا ننكر ما كان من تفوق هاتين الأمتين في الخطابة، وما نبغ بين رجالهما من الخطباء الذين لا يشق لهم غبار كديموستنيس وأشينس وهيبريدس من خطباء اليونان، وشيشرون ويوليوس قيصر وسالوستس ولوكيرتس من خطباء الرومان، ولكنَّ العرب لم يأتوا بأقل مما أتى به أولئك بلاغة ووقعًا. وربما كان الخطباء في الإسلام أكثر عددًا وخطبهم أوفر وأبلغ، مع اعتبار الفرق بين الأمتين لغة وخلقًا وأدبًا.
•••
فالحجاج بن يوسف كان خطيبًا بليغًا زادته الخطابة عظمة وسطوة. كان العراق متمردًا على عبد الملك، فلما أعجزه أمره ولى عليه الحجاج، فدخل الحجاج الكوفة وصعد المنبر متلثمًا متنكبًا قوسه واضعًا إبهامه على فمه، فاحتقره الناس وكادوا يرمونه بالحصي كما كانوا يفعلون في الولاة قبله، فوقف وأزاح لثامه عن وجهه وألقى خطبته التي قال في مطلعها:
إلى أن قال: «أما والله لأحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله. أما والله إني لأرى رءوسًا قد أينعت وحان قطافها، وكأني أرى الدماء بين العمائم واللحى:
•••
وقس على ذلك خطبته في السقيفة، وخطب من تولى بعده من الخلفاء الراشدين، وأخطبهم بلا خلاف علي بن أبي طالب، وفي كتاب «نهج البلاغة» المنشور بين ظهرانينا أكبر شاهد على ذلك، وإن لم تصح نسبة كل تلك الخطب إليه، فأكثرها من أقواله، وفيها أمثلة من كل ضروب الخطب، ومنها الدينية والأدبية والعلمية والحماسية والفخرية.
وأما الأمراء والقواد فكانوا يخطبون في الجند قبل الإغارة على العدو فيحرضونهم على الثبات. وكثيرًا ما كانت الخطبة سببًا للنصر، كخطبة خالد بن الوليد في وقعة اليرموك، وخطبة المغيرة في وقعة القادسية، وخطبة خليد بن المنذر في غزوة فارس، وخطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس، ونحو ذلك مما لا تسعه المجلدات.
ويعد من قبيل الخطابة عند العرب البلاغة في المكاتبات، فقد كان الخلفاء — وخصوصًا في صدر الإسلام — إذا كاتبوا أميرًا في أمر تعمدوا البلاغة كأنَّهم واقفون على منبر الخطابة، والغالب في قوى العارضة في الخطابة أن يكون بليغًا في الكتابة. وقد مر الكلام على ذلك.
(٣-٢) الشعر بعد الإسلام
(أ) الشعر وبنو أمية
لما ظهر الإسلام ودهش العرب بأساليب القرآن وبالنبوة والوحي، واشتغلوا بالغزو والفتح ونشر الإسلام، انصرفت قرائحهم الشعرية إلى الخطابة لحاجتهم إليها في استنهاض الهمم وتحريك الخواطر للجهاد واستحثاث القلوب على العبادة. فانقضى عصر الراشدين والعرب في شاغل عن الشعر، حتى إذا طمع بنو أمية في الخلافة مع كثرة المطالبين بها من أهل البيت واحتاجوا إلى من يؤيدهم، استنفروا الناس لنصرتهم وابتاعوا الأحزاب بالأموال واستخدموهم بالدهاء، فكان الشعر في جملة ما تَساعدوا به على ذلك لما قدمناه من تأثير في النفوس. وكان خلفاؤهم يبالغون في إكرام الشعراء، إما ليرغبوا الناس في خلافتهم أو ليقطعوا ألسنتهم فيسكتوا عن هجوهم، ولذلك عبروا عن إجازة الشاعر بقطع لسانه.
•••
وقد يتبادر إلى الأذهان أنهم كانوا يفعلون ذلك رغبة في الأدب وتنشيطًا لأهله؛ لأن الشعر سجية في العرب ودولة الأمويين عربية بحتة فلا يبعد أن يكون لذلك يد في الأمر، ولكن الأغلب أنَّهم كانوا يفعلونه للاستعانة بألسنة الشعراء على مقاومة أهل البيت، لعلمهم أنَّ الجمهور يعتقد أن الحق في الخلافة لهؤلاء. وكثيرًا ما كان الشعراء المغمورون بنعم بني أمية لا يتمالكون عن التصريح بذلك في بعض الأحوال.
فالفرزدق مثلًا امتدح بني أمية ونال جوائزهم، وكان متشيعًا في الباطن لبني هاشم، والأمويون يعلمون ذلك ويسترضونه. ومن جملة أخباره أنَّ مروان بن الحكم، وكان عاملًا لمعاوية على المدينة، بلغه عن الفرزدق قول أوجب حده فطلبه ففر الفرزدق إلى البصرة، فقال الناس لمروان: «أخطأت فيما فعلت، فإنك عرضت عرضك لشاعر مضر» فوجه وراءه رسولًا ومعه مائة دينار وراحلة خوفًا من هجائه. ومع ذلك اتفق أنَّ الخليفة هشام بن عبد الملك ذهب إلى الحج، وبينما هو في الطواف شاهد علي بن الحسين وأنكره، فسأل عنه. وكان الفرزدق حاضرًا، فنظم قصيدته المشهورة في مدح أهل البيت ومطلعها:
(ب) الشعر وبنو العباس
وتزاحم الشعراء بباب المهدي والرشيد والمأمون، ونبغ بشار بن برد العقيلي وأبو نواس وأبو العتاهية وغيرهم.
(ﺟ) الشعر ودول العرب
والشعر كما قدمنا من العلوم العربية، فلما تغلب العنصر الأعجمي في دولة بني العباس وصارت الأمور إلى أيدي الأتراك ضعف أمر الشعراء، حتى إذا قامت دولة بني حمدان، وهم عرب، عاد الشعر إلى رونقه وتزاحم الشعراء بباب سيف الدولة، حتى قيل إنه لم يجتمع بباب خليفة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر ما اجتمع ببابه. وكان هو أديبًا شاعرًا، فاشتهر في عصره أبو فراس والمتنبي والسري الرفاء وأبو العباس أحمد بن محمد النامي وأبو الفرج عبد الواحد الببغاء وأبو الفرج الوأواء وغيرهم.
فلما انقضت تلك الدولة العربية عاد الشعر في الشرق إلى الخمول، وكان قد أينع في دولة بني أمية بالأندلس وراجعت سوقه واتسع نطاقه وكثرت فنونه على ما سيجيء.
أما دول المسلمين غير العرب، فقد كان فيهم من يحب الشعر ويكرم الشعراء، ولكن الغالب فيهم أن يفعل الملك منهم ذلك على سبيل القدوة أو المباهاة، وهو لا يفهم ما يقرأه من مدائحه. ومما يضحك من هذا القبيل أن الشعراء وفدوا على يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين وكان من بربر قبيلة لمتونة البربرية بالمغرب ونظموا القصائد في مدحه بواسطة المعتضد بن عباد، فلما أنشدوه قصائدهم قال له المعتمد: «أيعلم أمير المسلمين ما قالوه؟» قال: «لا أعلم، ولكنهم يطلبون الخبز …» ولما انصرف المعتمد إلى ملكه كتب إلى ابن تاشفين رسالة قال في جملتها:
(د) جمع الشعر ورواته
وقال أبو عمرو بن العلاء: «ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا وهو:
•••
(ﻫ) طبقات الشعراء
العرب مطبوعون على الشعر، ولكنه يختلف فيهم معنى وأسلوبًا باختلاف العصور والأقاليم. فالبدوي الذي كان ينظم القصيدة وهو يسوق بعيره في عرض البيداء لا يرى حوله إلا رمالًا أو أطلالًا، إذا لذعته الشمس أو جنَّهُ الظلام أوى إلى بيت من الشَّعر أو الوبر، أنيسه فيه البعير والفرس، وطعامه اللبن والتمر، وضجيعه السيف والرمح، يتوسد على حذر من عدو يبغته أو حشرة تلسعه، وإذا واعد حبيبته فموعدهما الرقمتان أو العقيق فيلتقيان على أكمة أو في واد، يعبد آلهة من الحجارة أو الأخشاب أو يصنعها من التمر، وإذا جاع أكلها … فالبدوي الذي هذه حاله لا يكون خياله الشعري مثل خيال رجل نشأ بين القصور الشماء والحدائق الغناء، ولبس الحرير وتوسد الديباج وتعود أبهة الدولة وجلال الملك، وعاشر الخلفاء والوزراء وعانى أسباب التأنق وانغمس في الترف والبذخ. فإنَّ الشعر تختلف طبقاته باختلاف هذه الأحوال. ولذلك كان الشعر الجاهلي أقرب إلى الخشونة والمتانة، مع خلوه من زخرف الكلام وأساليب الكتابة والمجاز.
فالجاهليون طبقة أولى، تليهم طبقة الإسلاميين إلى أواخر دولة بني أمية وهم المخضرمون، ثم طبقة ثالثة في الدولة العباسية هي طبقة المولدين، تليها طبقة المحدثين، ولا يسعنا تعيين حد فاصل بين كل طبقة وما تليها؛ لأنَّ كثيرين من الشعراء أدركوا أواخر إحدى هذه الطبقات وأوائل التي تليها. فمن شعراء الجاهلية من أدرك الإسلام، ومن المخضرمين من أدرك زمن المولدين، وقس على ذلك.
- فالطبقة الأولى: شعراء الجاهلية، والمراد بهم من كان شعره جاهليًّا أو نظم أكثره قبل الإسلام. ومزية الشعر الجاهلي البساطة والخشونة، فإذا وصفوا عاطفة مثلوها بطبيعتها، أو وصفوا أسدًا أو بيتًا أو ظبيًا لم يكن في عبارتهم تكلُّف ولا تعمُّل أو مبالغة. وأشهر أهل هذه الطبقة أصحاب المعلقات.
- والطبقة الثانية: وهي المخضرمون، تشبه الأولى من حيث بقاء أهلها على البداوة في عهد الأمويين، ولكنها أسمى منها في البلاغة للأسباب التي قدمناها، وعليها مسحة من الحضارة. ومن أشهر الشعراء المخضرمين حسان بن ثابت وكعب بن زهير وجرير والأخطل والفرزدق.
- والطبقة الثالثة: المولدون، وشعراؤها من معاصري الرشيد والمأمون، في عصر الزهو
العباسي، عصر الترف والبذخ والتأنق والرخاء، فرقت طباعهم
وارتقت أذواقهم بالمعاشرة والمخالطة، فظهر ذلك في أشعارهم
فعمدوا إلى وصف الخمر ومجالس الأنس وحدائق القصور ونحو
ذلك.
فشعر المولدين يمتاز عن الطبقتين السابقتين بالرقة والخلاعة، وأشهر المولدين بشار العقيلي وأبو العتاهية وأبو نواس وأبو تمام والبحتري.
- وأما الطبقة الرابعة: فنريد بها الشعراء الذين نبغوا بعد انتشار الفلسفة اليونانية وعلوم اليونان وشيوع علم الكلام، وفي شعر أهل هذه الطبقة صبغة فلسفية حكمية جدلية، كشعر المتنبي والمعري والشريف الرضي والصفي الحلي.
(و) الشعراء في الإسلام وأشعارهم
تكاثر الشعراء في العصر الإسلامي فوق تكاثرهم في العصر الجاهلي، لرواج سوق الشعر في القرون الأولى. على أنَّ إحصاءهم بالضبط غير متيسر لضياع أكثر أخبارهم، لكننا نستدل من بعض النصوص على أنَّ عددهم كان عظيمًا جدًّا، فقد ذكر ابن خلكان: «أنَّ هارون بن علي المنجم البغدادي صنف كتاب البارع في أخبار الشعراء المولدين وجمع فيه ١٦١ شاعرًا، وافتتحه بذكر بشار العقيلي وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح»، والفترة بينهما قصيرة، وذكر المؤلف أنَّه اقتصر على خيرة الشعراء ونخبتهم. فقس على ذلك الشعراء المخضرمين والمحدثين من أهل الطبقة الرابعة، ناهيك بشعراء الأندلس فإنهم يعدون بالمئات.
أما مقدار ما نظمه أولئك الشعراء من القصائد والدواوين فمما لا يحصيه عد، وقد فقد معظمه في الفتن وغيرها في العصور الإسلامية الوسطى، فنكتفي منها بما ذكره صاحب كشف الظنون، فإنَّه ذكر نحو ستمائة ديوان لستمائة شاعر من المشاهير، أورد أسماءهم وألقابهم وسني وفاتهم، وهم من أهل العراق والشام وفارس وخراسان ومصر والأندلس وغيرها.
وإذا اعتبرت الدواوين التي ضاعت وفاتَ صاحب كشف الظنون ذكرها، والشعراء الذين لم تجمع أشعارهم ولم يكن لهم دواوين، زاد استغرابك من كثرة الشعر العربي وتعداد شعرائه مما لا تجد له مثيلًا في لغة من لغات العالم القديم أو الحديث.
(ز) عروض الشعر
ولا مشاحة في أنَّ عروض الشعر ارتقت وتفرعت بتوالي القرون، شأن كل ما هو من قبيل الأحياء (أي كل ما هو من صنع البشر)، فتولد في النظم ضروب من القصائد كالأصمعيات والشعر البدوي والحوراني وغيرها.
ثم استحدث أهل الأمصار في المغرب فنًّا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة، نظموه بلغتهم الحضرية وسموه «عروض البلد» استنبطه ابن عمير الأندلسي. وشاع هذا الفن بفاس فنوعوه أصنافًا سموها: المزدوج، والكاري، والملعبة، والغزل وغيرها، كما شاعت الآن أنواع الزجل المصري في مصر، والقريض اللبناني، والمعنى في الشام.
(ح) الشعر والدولة
(ط) الشعر والخلفاء والأمراء
فكان الغرض من تقريب الشعراء في أول دولة بني أمية سياسيًّا، ثم صار أدبيًّا يندفع الخلفاء والأمراء إليه تلذذًا بالشعر وآدابه. ولذلك كانوا يجالسون الشعراء ويقترحون عليهم نظم القصائد أو الأبيات، أو يستقدمونهم للسؤال عن بيت استغلق عليهم فهمه أو نسوا بعضه، وقد يكون بينهم وبين الشاعر بعد شاسع. فقد بعث هشام بن عبد الملك بدمشق إلى أميره على العراق يوسف بن عمر الثقفي أن يوجه إليه حمادًا الراوية ويدفع له خمسمائة دينار وجملًا مهريًّا، فسار حماد إلى الشام في ١٢ ليلة، ولما وصلها وسأل عن سبب استقدامه قال له هشام: «خطر ببالي بيت لا أعرف قائله وهو:
وكان الرشيد من أكثر الخلفاء بحثًا في الشعر وقائليه، فقد سأل أهل مجلسه مرة عن صدر هذا البيت: «ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه» فلم يعرفه أحد، وكان الأصمعي مريضًا لا يقدر على المجيء، فأرسل إليه إسحاق الموصلي وبعث معه ألف دينار لنفقته، فجاء الجواب أن البيت من قصيدة لأبي النشناش النهشلي، وهذا صدره:
وكثيرًا ما كان الرشيد يعقد المجالس للبحث في معنى بيت، وقد سأل أهل مجلسه يومًا عن معنى هذا البيت:
(ي) تأثير الشعر في الدولة
ويقال بالإجمال إنَّ الشعر كان عند العرب كل آدابهم، يتناشدونه ويتسامرون به ويتذاكرون فيه، ولم يكن ذلك مقصورًا على الخلفاء أو الأمراء أو الأدباء، ولكنَّه كان عامًّا في الرجال والنساء. وكانوا لكثرة ما يحفظونه منه يرمزون باسم الشاعر إلى بيت من أبياته مشهور بمعنى ويريدون ذلك المعنى، كما اتفق لرجل كان قاعدًا على جسر بغداد فوجد امرأة بارعة في الجمال قادمة من جهة الرصافة، فاستقبلها شاب فقال: «رحم الله علي بن الجهم». فقالت له المرأة: «رحم الله أبا العلاء المعري» وما وقفا بل سارا مشرقًا ومغربًا. قال الرجل: «فتبعت المرأة وقلت لها: والله إن لم تقولي لي ما أراد وما أردت لأفضحنك!» فقالت: أراد بعلي بن الجهم قوله:
وأردت بأبي العلاء قوله:
فلا غرو بعد ما تقدم إن رأيت للشعر تأثيرًا شديدًا في نفوس كبار القوم، حتى يترتب على إنشاد البيت الواحد إيقاد نار الحرب أو قتل جماعة أو إنقاذهم من القتل.
ومن أمثلة ذلك أن أبا العباس السفاح أول خلفاء بني العباس، لما استوثق له الأمر بالخلافة تتبع بقايا بني أمية ورجالهم ووضع السيف فيهم. ولكن جماعة من كبارهم كانوا قد استأمنوا وصاروا يحضرون مجلس السفاح، فاتفق مرة أنَّ أحدهم سليمان بن هشام بن عبد الملك كان في مجلس السفاح وقد أكرمه، فدخل سديف بن ميمون الشاعر وأنشد:
فالتفت سليمان وقال: قتلتني يا شيخ! ثم أخذ سليمان فقتل. ودخل على السفاح شاعر آخر، وقد قدم الطعام وعنده نحو سبعين رجلًا من بني أمية فأنشده:
ثم ذكر مظالم بني أمية إلى أن قال:
ويقال نحو ذلك في القصيدة التي هاجت الرشيد لمحاربة نقفور ملك الروم ومطلعها:
وكثيرًا ما كان ينجو الرجل من القتل ببيت يعجب به الخليفة فيخلي سبيله، وحكاية مالك بن طوق مع الرشيد مشهورة، فإنَّه بعد أن استوجب القتل وركع على النطع قال القصيدة التي مطلعها:
إلى أن قال:
وكم من قائد رجع عن الهزيمة ببيت تذكره فتحمس. قال معاوية يرغب الناس في الشعر: «… فإنَّ فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهزيمة وقد عزمت على الفرار فما ردني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري:
وقس على ذلك كثيرًا من أمثال هذه الحوادث في الجاهلية والإسلام.
(٤) العلوم الدخيلة
فرغنا من الكلام فيما اقتضاه التمدن الإسلامي من العلوم الإسلامية، وفي الأسباب التي دعت إلى نشوئها، وفي الآداب العربية الجاهلية ما بلغت إليه في الإسلام، ونحن متقدمون فيما يلي إلى الكلام في العلوم الدخيلة التي نقلها المسلمون إلى العربية، ونريد بها العلوم القديمة التي كانت شائعة عند ظهور الإسلام في الممالك التي عرفها المسلمون. وهي عبارة عن خلاصة أبحاث رجال العلم والفلسفة والأدب في ممالك التمدن القديم، على اختلاف الأمم والدول والأماكن والأصقاع في القرون المتوالية، من أقدم أزمنة التاريخ إلى أيامهم، وفيها زبدة علوم الآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين والهنود والفرس واليونان والرومان. ولا يراد بذلك أن العرب أخذوا علم كل أمة عن أهله رأسًا، ولكنهم جاءوا والعلوم قد تحلبت بتوالي العصور وتفاعل العناصر، واجتمع معظمها لليونان فبوبوها ورقَّوها وظهرت النصرانية فأثرت فيها، وبقي بعضها في بقايا الدول القديمة كالفرس والكلدان والهنود وغيرهم، ممن دانوا للمسلمين وانتظموا في خدمتهم، فأخذوا من هؤلاء جميعًا؛ لذلك كان من جملة أفضال التمدن الإسلامي على العلم أنَّه جمع شتات تلك العلوم اليونانية والفارسية والهندية والكلدانية إلى العربية وزاد فيها ورقَّاها كما سيأتي.
فلنبحث أولًا في حال العلم والأدب في البلاد التي عرفها المسلمون، وهو يتناول النظر في آداب اليونان والفرس والهنود والكلدان على ما يأذن به المقام. ثم نتقدم إلى الكلام فيما نقله العرب من ذلك والأسباب التي دعت إلى نقله.
(٤-١) آداب اللغة اليونانية
أصل اليونان من القبائل الآرية التي نزحت قبل زمن من التاريخ من أعالي الهند واستقرت في الأرخبيل اليوناني وما يُقابله من شواطئ آسيا الصغرى حول بحر إيجه. وللشعوب الآرية آداب مشتركة وأخلاق متشابهة.
فنزل اليونان هناك ومعهم كثير من معتقدات أسلافهم وعاداتهم التي نزل بها إخوانهم الآريون إلى بلاد الهند، ودونوا معظمها في كتبهم الدينية السنسكريتية «البرهمية» في أقدم أزمنة التاريخ.
- (١)
عصر الآداب اليونانية القديمة، ويبتدئ قبل زمن التاريخ إلى سنة ٥٢٩ للميلاد، وهي السنة التي أمر فيها القيصر جستنيان بإغلاق المدارس الوثنية في مملكة الروم.
- (٢)
العصر البيزنطي أو القسطنطيني، ويبتدئ سنة ٥٢٩م، وينتهي بفتح العثمانيين القسطنطينية سنة ١٤٥٣م.
- (٣)
العصر الحديث، يبتدئ بذلك الفتح ولا يزال.
ولا يهمنا في هذا المقام إلا العصر الأول وبعض الثاني.
(٤-٢) الآداب اليونانية القديمة من قبل التاريخ إلى سنة ٥٢٩م
- (١)
دور الشعر وينتهي سنة ٤٧٥ قبل الميلاد.
- (٢)
دور الروايات التمثيلية والتاريخ والفلسفة من سنة ٤٧٥–٣٠٠ قبل الميلاد.
- (٣)
دور العلم بعد نضجه أو الدور الإسكندري، ويقسم إلى عصرين: العصر اليوناني، والعصر الروماني.
(أ) الشعر اليوناني
ويغلب على الظن أنَّ اليونان نظموا الشعر قبل تشتت قبائلهم، وأقدم أشعارهم «أناشيد الفصول»، تليها أشعار وصفوا بها الآلهة أو الحروب على شكل الحكايات المتقطعة كانوا يتناشدونها بالآلات الموسيقية. فلما تفرقوا اختص اليونيون بالشعر القصصي، فألفوا من تلك الحكايات الملاحم، وأقدم الملاحم الإلياذة والأوذيسة نظمهما هوميروس في القرن التاسع قبل الميلاد، وصف بهما الأيام العشرة الأخيرة من حصار طروادة.
وقد زها الشعر القصصي عند اليونان قبل سائر ضروب الشعر؛ لأنَّه يصف وقائعهم وحروبهم. وكانوا في أوائل أحوالهم مثل قبائل العرب، وكان أمراؤهم يحبون سماع أخبار أسلافهم من الأبطال وأنصاف الآلهة، فحببوا إلى أصحاب القرائح نظم تلك الأخبار في الملاحم. وفي أواسط القرن الثامن قبل الميلاد أخذت السلطة الاستبداية في الأفول، وأخذ اليونان يتمتعون بحريتهم الشخصية استعدادًا للحكم الجمهوري. فنما شعورهم الاستقلالي، وأحس كل منهم بذاتيته، وتولد فيه الميل إلى وصف عواطفه وميوله، فنظمها شعرًا هو الشعر الغنائي، وأكثر المشتغلين به الأيوليون والدوريون، وله عند كل منهما مميزات، وأشهر نوابغ الشعر الموسيقي عند اليونان سميونيدس وبندار. الأول يوني الأصل دوري النظم، وأكثر منظوماته في وصف أحوال الحرب بين اليونان والفرس، والثاني دوري المولد والمنشأ وأسلوبه ونظمه دوريان.
(ب) الأدب والعلم والفلسفة عند اليونان من سنة ٤٧٥–٣٠٠ق.م
الأدب والتاريخ
ويسمى هذا الدور أيضًا الدور الأتي أو الأتيكي نسبة إلى أتيكا في جزائر اليونان، وسكانها مزيج من اليونيين والدوريين. فبعد أن اشتغل اليونيون والأيوليون والدوريون في إنشاء الشعر ودونوا به أخبارهم ووصفوا حروبهم وعبروا به عن عواطفهم وعواطف ذويهم، استحثتهم قرائحهم الوقادة إلى ما يمثلون به تلك الأخبار ويشخصون به العواطف؛ ليراها الناس رأي العين أو يشعروا بها كأنها بين جنبيهم فأحدثوا فن التمثيل «الدراما» ومنه التراجيديا والكوميديا، وأجادوا في كليهما، ونبغ منهم مشاهير عظام من أهل هذا الفن مما يطول بنا الكلام فيه، وهو خارج عن موضوعنا. وإنما يقال بالإجمال: إنَّ اليونان أتقنوا الشعر على اختلاف ضروبه وموضوعاته قبل أن يعتنوا بالنثر المرسل لاستغنائهم عنه بالشعر القصصي. وأقدم آثارهم النثرية وأكملها كتابات هيرودوتس الرحالة الشهير المتوفى سنة ٤٠٦ق.م، وهي بالنظر إلى نثر اليونان مثل إلياذة هوميروس بالنظر إلى شعرهم.
على أن هيرودوتس ليس أول من كتب النثر المرسل عندهم، فقد ظهر قبله جماعة من العلماء دونوا به آراءهم في الفلسفة أو الميثولوجيا أو التاريخ أو غيرها من العلوم النثرية. وأما هيرودوتس فتغلب نثره على نثرهم لحسن أسلوبه وأهمية الموضوعات التي كتب فيها. فقد كتب رحلته قبل سنة ٤٣١ق.م، وهي التاريخ المعروف باسمه، بيَّن فيه أسباب الحروب التي نشبت بين الفرس واليونان في القرن السادس وأول الخامس قبل الميلاد. ولا يزال كتابه فريدًا في بابه إلى اليوم، ولذلك لقبوه بأبي التاريخ. وبعده بقليل نشبت بين أهل أثينا وأهل المورة حرب أهلية هائلة، هي الحرب المورية أو البيلوبونيسية من سنة ٤٣١–٤٠٤ق.م فأرخها ثوسيدس، وكان معاصرًا لهيرودوتس وأصغر منه. ثم ظهر جماعة من كتاب التاريخ عندهم كخينوفون وغيره، ثم اشتغل اليونان بالخطابة ونبغ منهم ديموستنيس وأشينس وهبريدس وغيرهم، واشتغل آخرون في وضع الشرائع مثل صولون، وآخرون بوضع قواعد اللغة أو غيرها مما لا يهمنا البحث فيه هنا.
العلم والفلسفة
على أنَّ اليونان تنبهوا إلى النظر في الموجودات الطبيعية وأحوالها قبل تلك النهضة، على أثر احتكاك الأفكار في أثناء حروبهم مع الفرس. وإنَّما كان نظرهم فيها مقصورًا على تفهم نواميسها على نحو ما نعبر عنه اليوم بالطبيعيات، وأقدم من وصل خبره إلينا من الفلاسفة الطبيعيين طاليس المليطي، ولد في مليطة من بلاد يونيا سنة ٦٤٠ قبل الميلاد، وقد أخذ علمه من فينيقية ومصر وكريت ويونيا، وغلب عليه النظر في النجوم والهندسة، وله آراء في الوجود والموجودات وأصل العناصر، ووضع كثيرًا من القواعد الرياضية لاستخراج الكسوف والخسوف وقياس الأجسام المرتفعة بالنظر إلى ظلها، ونبغ بعده جماعة من تلامذته وتلامذتهم، ومنهم أرخيلاوس وهو الذي نقل الطبيعيات من يونيا إلى أثينا، وهناك تتلمذ له سقراط المولود سنة ٤٦٩ق.م، وفي أيام هذا الفيلسوف حدثت الحروب المورية، فامتزجت الطباع وتحاكت الأفكار فهاجت القرائح وثارت العواطف، وأصبح الناس متضاغنين متنافسين، وربما كان للرجل عدو من قبيلته وأهله.
•••
فلما أصيبت أثينا بالذل بعد تلك العظمة أصاب أهلَها اضطرابٌ وانكسارٌ، والإنسان إذا أصيب بنكبة لا حيلة له في دفعها اشتغل عنها بالتعليلات الفلسفية عن الوجود وأصله ليخفف وطأة تلك المصيبة عليه، خصوصًا في مثل ما أصيبت به أثينا بعد عزها ورفعة شأنها، وأصبح أهلها بعد سقوطها يتلفتون إلى الوراء آسفين وينظرون إلى الأمام خائفين، وقد ذهبت أسباب مفاخرتهم القديمة ولم تنتظم حكومتهم الجديدة، فتنبهت أذهانهم وانصرفت قرائحهم إلى النظر في شؤون الإنسان على الجملة وشؤونهم هم على الخصوص. فكانت وجهة تلك النهضة الأدب والفلسفة، فدخل القرن الرابع قبل الميلاد والناس يتناقلون آراء بعض المتقدمين من العلماء على ما يوافق أحوالهم، ونفوسهم تشتاق إلى الزيادة.
سقراط
وكان النَّاس في ذلك إذ نبغ سقراط الحكيم، ورأى النظر في الفلسفة الطبيعية لا يجدي نفعًا في تلك الأحوال، فانصرفت عنايته إلى الفلسفة الأدبية فَدَرَسَهَا جيدًا، وخلصها مما كان يعتورها من الرموز والغوامض، وطبقها على حاجات الأثينيين يومئذ، وقسم شرائعه إلى ما يتعلق بالإنسان من حيث هو إنسان، وإلى ما يتعلق به من حيث هو أب ومدبر، وإلى ما يتعلق به من حيث هو عضو في الجماعة، وذهب إلى خلود النفس. ويعتبره اليونانيون واضع الفلسفة الأدبية العلمية، أو هو محول الفلسفة القديمة من الخيال إلى العمل، قال شيشرون: «إنَّ سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض».
ويندر أن ينجو النوابغ وأصحاب الآراء الجديدة من حُسَّاد يتمنون أذيتهم أو يسعون فيها. وقد كان في تعاليم سقراط ما يخالف اعتقاد الأثينيين يومئذ، فقاموا عليه واتهموه بإفساد عقول الشباب وحكموا عليه بالموت، فشرب السم ومات.
أفلاطون
مات سقراط ولم يدون شيئًا من تعاليمه، فدوَّنها تلامذته من بعده، ولكنهم اختلفوا في تفسير أقواله فانقسموا إلى ثلاث فرق تعرف بالكيرينية والكلبية والإشراقية. وهذه الأخيرة أشهرها وتسمى أيضًا الأفلاطونية نسبة إلى صاحبها أفلاطون المولود سنة ٤٢٨ قبل الميلاد. ومذهبه مقتبس من ثلاثة مذاهب قديمة، فإنه تبع هيرقليطس في الطبيعيات، وفيثاغورس فيما وراء الطبيعة والنقليات، وتبع سقراط في الفلسفة الأدبية والأخلاق. وقال بثلاثة أصول هي: الإله، والمادة، والإدراك. والآلهة عنده ثلاث طبقات: علويون، ومتوسطون، وسفليون، وعلم بتناسخ الأرواح. وكتب أفلاطون على أسلوب المحاورات، وسيأتي ذكرها في كلامنا عما نقله المسلمون من كتب الفلسفة إلى العربية.
أرسطو
وانقسم تلامذة أفلاطون أيضًا إلى فرق، أهمها فرقة المشائين وصاحبها أرسطو أو أرسطوطاليس الذي أجمع العلماء على أنه أقدر الفلاسفة القدماء، ويسميه العرب المعلم الأول. ولد سنة ٣٨٤ وتوفي سنة ٣٢٢ق.م، وعنه نقل العرب أكثر كتب الفلسفة والمنطق. جمع أرسطو في كتبه زبدة ما بلغ إليه العلماء في عصره ببلاد اليونان من الفلسفة والعلم. أما الفلسفة فأخذها عن أستاذه أفلاطون، ويدخل فيها الأبحاث المنطقية والعقلية والنفسية والسياسية. وأما العلم، ويراد به الحقائق المبنية على المشاهدة والاختبار كالرياضيات والطبيعيات ونحوها، فقد كانت من جملة ما طالعه من علوم القدماء وما اختبره بنفسه، وكان غرض أرسطو إيضاح الفلسفة بالعلم وإخضاع كل بحث عقلي أو نظري إلى النواميس الطبيعية. ولم يكن يهمه تزويق العبارة أو برقشة الألفاظ، وإنما كان يهمه الغرض الأصلي من الموضوع، فكان يبذل جهده في تجريد عبارته من الخيالات الشعرية التي مازجت فلسفة أفلاطون.
فلما أظهر أرسطو فلسفته شغف الناس بها، وكان يلقيها في أروقة حول هيكل أبولو قرب أكاديمية أفلاطون، وكان يتلو دروسه وهو يمشي هناك فسمي تلامذته المشائين أو الرواقيين. ومن حظ أرسطو أنَّ الإسكندر المقدوني ظهر في أيامه وتتلمذ له وأمدَّه بالأموال لأبحاثه في الطب والحيوان وغيرهما. ولما سافر الإسكندر للفتح ظل أرسطو في أثينا، فلما جاء الخبر بموت الإسكندر سقط حزبه وفي جملتهم أرسطو. وكانت فتوح الإسكندر قد هزت القرائح اليونانية كما هزتها حرب المورة من قبل، فنهضت نهضة ثانية والعقول أكثر استعدادًا وأقوى على الأبحاث. ولا يبعد أن يكون الإسكندر قد نقل إلى أثينا بعض علوم فينيقية وبابل وفارس، كما سيأتي، فأدخلها أرسطو في فلسفته وألف في كل موضوع عقلي وطبيعي وفلسفي ومنطقي ولغوي. ومؤلفاته كثيرة، وينسبون إليه كتبًا لم يؤلفها هو. وأما الكتب التي ثبتت نسبتها إليه فنحو ١٩ كتابًا، نقل المسلمون أكثرها إلى العربية وسيأتي ذكرها.
والكتب المنسوبة إليه خطأ أكثرها في الميكانيكيات والبلاغة والأدبيات والرياضيات، مما لا حاجة إلى ذكره، وإنمَّا نذكر منها كتابين مشهورين له وهما: كتاب المقولات «قاطيغورياس» في المنطق، وكتاب التفسير.
قد جاء أرسطو في أواخر عصر الزهو اليوناني، فجمع ما ولدته العقول اليونانية إلى أيامه من الآراء والأبحاث والاختبارات في العلم والفلسفة، ورتبها في كتب تعليمية توخى فيها الوضوح والسهولة، فعاشت تعاليمه أدهارًا ولم تستغن عنها أمة من الأمم التي تمدنت في عصر اليونان أو بعدهم كالرومان والفرس والعرب وغيرهم، ولا يزال كثيرٌ منها مرعيًّا إلى اليوم.
مؤلفات أرسطو
ولمؤلفات أرسطو تاريخ غريب لا بأس من إيراده: لمَّا دنَا أجلُه عَهِد بكتبه ومسوداته إلى أكبر تلامذته ثيوفراستوس، وبعد ٣٥ سنة توفي هذا وقد عهد بها وبكتبه هو إلى تلميذ اسمه نيليوس. فرحل هذا إلى وطنه سبسس في آسيا الصغرى فبقيت عنده حتى توفي، فخاف ورثته عليها من ملك برجامس حينئذ فأخفوها في مغارة بقيت فيها ١٨٧ سنة. فلما استخرجوها في رأس المائة الأولى قبل الميلاد، وجدوا بعضها قد تهرأ بالعفونة والرطوبة والبعض الآخر أكله الدود والعث، فباعوها صفقة واحدة إلى كتبي اسمه أبليكون فأرجعها إلى أثينا. فلما استولى سولا الروماني على أثينا سنة ٨٦ق.م، كانت مكتبة هذا الرجل في جملة غنائم الرومانيين فنقلوها إلى رومية فتوصل إليها بعض اليونانيين المقيمين هناك فاشتغلوا في نسخها وضبطها. وأول المشتغلين في ذلك تيرانيون صاحب شيشرون. ثم تولى أندرونيكوس الرودسي تصحيحها وترميمها، ثم تناقلها الناس. فكل ما وصل إلى العالم من مؤلفات أرسطو إنَّما هو من تصحيح أندرونيكوس المذكور في أواسط القرن الأول قبل الميلاد.
على أنها ما لبثت أن ظهرت في العالم حتى تناولها الناس واشتغلوا فيها بين درس ونقل وترجمة وتلخيص وشرح ونقد. بدأ بذلك اليونان أنفسهم، ثم الرومان فالفرس فالعرب، فأهل العصور الوسطى في أوربا. فأهل أوائل التمدن الحديث، وخصوصًا فلاسفة القرون الأولى لهذه النهضة. وكانت مدرسة الإسكندرية الآتي ذكرها تعلم الفلسفة بكتب ينسبونها إلى أرسطو وكتبه لا تزال مدفونة. فلما فتح الرومان الإسكندرية — وكانوا قد وقفوا على نسخ أندرونيكوس — اعتمدوا عليها دون سواها وأصبحت عمدة التعليم في رومية والإسكندرية على السواء. حتى ظهرت النصرانية، فبطل تعليمها في رومية وظل في الإسكندرية. ولما سعى قياصرة الروم في إزالة الوثنية من مملكتهم، بحثوا عن العلوم الوثنية وأبطلوها ومن جملتها كتب أرسطو إلا بعض كتبه المنطقية. على أنهم كانوا يعلمونها سرًّا، حتى جاء الإسلام وانتقل التعليم من الإسكندرية إلى أنطاكية أيام عمر بن عبد العزيز، فانتقلت إلى هناك وظل تعليمها محظورًا لا يتعلمها إلا بعض اليهود أو الحرانيين لتقوى بها حجتهم على النصرانية.
الطب والنجوم
والطب أيضًا من ثمار تلك النهضة على أثر الحرب المورية، وكان اليونان قبل ذلك يعالجون مرضاهم بالكهانة، وينسبون الأمراض إلى أعمال الشياطين والعلاج إلى أعمال الآلهة. وكان الفلاسفة يتكلمون في الطب باعتبار أنه فرع من العلم الطبيعي، ولم يستقل أحد منهم بالبحث فيه. وأول من رتب الطب وبوبه وبناه على أسس صحيحة أبقراط المتوفى سنة ٣٥٧ق.م، ولذلك سموه أبا الطب. وهو من نتاج الحرب المورية، فقد نشأ في أثنائها ونبغ بعد انقضائها وسافر إلى سوريا، ولعله اطلع على طب البابليين والمصريين فأضافهما إلى طب اليونان وألف فيه الكتب. وأساس علاجه الاعتماد على الطبيعة، وكان يفصد ويحجم ويكوي ويحقن ويشخص الأمراض بالسماعة ويصف المسهلات النباتية والمعدنية. وله كتب في الطب كثيرة، ذكروا منها ٨٧ كتابًا ولم يثبت له منها إلا نحو العشرين، وسيأتي ذكرها فيما نقله المسلمون من كتب الطب إلى العربية. وما زالت كتب أبقراط معول الأطباء إلى العصر الحديث، وفيهم مَنْ شَرَحها أو فسّرها أو ترجمها أو علق عليها. وممن اشتغل من اليونانيين في ترقية العلوم الطبية بعد أبقراط أرسطو وغيره من الفلاسفة العظام، فلما أنشئت مدرسة الإسكندرية على عهد البطالسة كان للطب شأن كبير فيها كما سيجيء.
وعلم النجوم — أو علم الفلك — قديم عند سائر الأمم، كما قد رأيت في كلامنا عن علوم العرب قبل الإسلام. أخذ اليونان مبادئ هذا العلم عمن سبقهم من أمم التمدن القديم، على يد الفينيقيين وتوسعوا فيه من عند أنفسهم. وكان النظر فيه من جملة أبحاث الفلاسفة، وأقدمهم طاليس المتقدم ذكره، وقلّ من جاء بعده من فلاسفة اليونانيين ولم يتعرض لهذا الفن، وأشهرهم فيه أنكسيمندر وأنكسيمينس وأنكساغوراس. وكان للقسم الإيطالي من بلاد اليونان عناية كبرى في النجوم، ومقدم فلاسفتهم فيه فيثاغورس الشهير المتوفى سنة ٥٠٠ق.م، أخذ بعض هذا العلم من مصر وتوسع فيه وتبعه في ذلك كثيرون. ولا يكاد يخلو فيلسوف من فلاسفة اليونان من النظر في النجوم وأحكامها مما يطول شرحه. على أنَّ هذا العلم بلغ قمة مجده في مدرسة الإسكندرية. ويُقال نحو ذلك في سائر العلوم الرياضية كالحساب والهندسة، فقد اشتغل فيها الفلاسفة لكنها لم تنضج إلا في مدرسة الإسكندرية على يد أوقليدس.
(ﺟ) الدور الإسكندري
مدرسة الإسكندرية ومكتبتها
لم يكد اليونان يتخلصون من مصائبهم بالحروب المورية حتى انقض عليهم الرجل المقدوني العظيم «الإسكندر» فغلبهم على ما في أيديهم، ثم حمل بهم على العالم المتمدن في ذلك العهد، ففتح مصر وبنى فيها الإسكندرية واكتسح الشام والعراق وفارس إلى بلاد الهند. فأصاب العالَمَ بتلك الحروب هزةٌ انتفضت لها أعصابه واختلطت عناصره، فالتقى اليوناني بالفينيقي والمصري والفارسي والكلداني والهندي، وتحاكت الأفكار وتلامست المطامع وتقاطعت المصالح، وكان من أقل نتائجها:
- أولًا: نشر علوم اليونان وآدابهم وتمدنهم في أمم الأرض.
- ثانيًا: نقل علوم الفرس والكلدان وغيرهم إلى بلاد اليونان أو مصر. فقد ذكروا أنَّ الإسكندر لما فتح إصطخر عاصمة الفرس خرب أبنيتها وشوه نقوشها ونسخ ما كان مجموعًا من ذلك في الدواوين والخزائن هناك ونقله إلى اللسان اليوناني والقبطي. وبعد فراغه من نسخ حاجته منه أحرق ما كان مكتوبًا بالفارسية، وأخذ ما كان يحتاج إليه من علم النجوم والطب والطبائع وبعث به وبسائر ما أصاب من العلوم والأموال والخزائن والعلماء إلى بلاد مصر.١٨٩
ولما مات الإسكندر سنة ٣٢٣ق.م، انقسمت مملكته بين قواده، فانتقل علماء اليونان من بلادهم للإقامة في مستعمراتهم الجديدة في مصر والشام والعراق، فابتنوا المدارس في الإسكندرية وأنطاكية وبيروت وغيرها، وكان حظ البطالسة في الإسكندرية أوفر من حظوظ سائر الدول اليونانية في الشرق في ترقية شؤون العلم والفلسفة. وكان بطليموس الأول — الملقب بسوتر — أول البطالسة عادلًا محبًّا للعلم «حكم من سنة ٣٠٦–٢٨٥ق.م» فتقاطر إليه العلماء والفلاسفة من بلاد اليونان على اختلاف القبائل والأماكن، فأكرم وفادتهم ونشطهم في مواصلة البحث والدرس، وأطلق لهم الأموال فزادوا احترامًا له ورغبة في العلم.
وكان البطالسة خلفاء سوتر يقتفون أثره في تنشيط العلم، وأكثرهم من العلماء وخصوصًا فيلادلفوس «من سنة ٢٨٥–٢٤٧ق.م» فإنَّه أضاف إلى المكتبة ما لم يكن فيها من كتب العلم اليونانية وغير اليونانية، فابتاع الكتب وجمع كثيرًا من مؤلفات اليهود والمصريين القدماء حتى لا ينقص هذه المكتبة علم ولا خبر، وخلفه بطليموس أورجيتس «سنة ٢٤٧–٢٢٢ق.م» فأضاف إلى المكتبة كثيرًا من كتب الأدب والشعر والتمثيل مما وجدوه في خزائن أثينا، وفرض على كل من يقيم في الإسكندرية أو يمر بها من رجال العلم أن يقدم للمكتبة نسخة من كل ما يملكه من الكتب، فزهت الإسكندرية بالعلم ونبغ فيها العلماء في كل موضوع، حتى فاقت كل ما تقدمها أو عاصرها من مدن العالم القديم، وما زالت رافلة بالعلم والعلماء إلى ظهور الإسلام، أي عبارة عن نيف وتسعمائة سنة تقسم إلى مدتين:
- الأولى: يونانية تبتدئ بولاية سوتر وتنتهي بدخول مصر في حوزة الرومان سنة ٣٠ قبل الميلاد.
- والثانية: رومانية تبتدئ من هذه السنة وتنتهي سنة ٦٤٠م، لما فتحها ابن العاص.
وكان غرضها في المدة الأولى علميًّا أدبيًّا، وغايتها ترقية العلوم اليونانية وتوسيع نطاقها، وكانت المرجع العلمي الوحيد في تلك العلوم إلى أواخر القرن الثاني للميلاد، فأخذت تتقهقر لأسباب كثيرة، أهمها فساد الحكومة واعوجاج الأحكام وظهور مدارس أخرى من نوعها في سوريا ورودس وغيرهما، فتحولت همم رجال العلم إلى بلاد العدل والحرية. فلما دخلت الإسكندرية في حوزة الرومان اتسعت شهرتها باتساع دولتهم، ولكن رغبة رجال العلم تحولت عنها إلى رومية. واتفق ظهور الديانة المسيحية واشتغال ذوي القرائح في إثباتها أو نفيها. ونظرًا لتوسط الإسكندرية وقربها من ميدان الجدال اتخذت مدرستها خطة فلسفية دينية. فلمدرسة الإسكندرية بهذا الاعتبار عصران:
- الأول: يوناني علمي أدبي.
- والثاني: روماني فلسفي ديني.
العصر الإسكندري اليوناني من سنة ٣٠٦–٣٠ق.م
زهت الإسكندرية في عصرها الأول بمن انتقل إليها من جالية اليونان، على أثر ما أصاب بلادهم من الذل بعد ذهاب استقلالهم، وحملوا معهم كتب العلم والفلسفة والطب والشعر والأدب واللغة والتاريخ، غير ما جمعه البطالسة من الكتب الأخرى كما تقدم، فأقام اليونانيون في الإسكندرية على الرحب والسعة في ظل حكومة يونانية وعادات وآداب يونانية، لكنهم كانوا قد أضاعوا أنفة الاستقلال وروح الحرية، لتقيد عواطفهم وشعائرهم بالحكم المطلق الذي لا يقترب منه إلا المتزلفون، ففسدت القرائح وضاقت العقول، فاشتغل يونانيو الإسكندرية في الشعر والخطابة والتاريخ والميثولوجيا، لكنهم لم يجيدوا شيئًا منها مثل إجادتهم في أثينا والمورة وساقس وغيرها، ناهيك بانصراف الأذهان إلى العلوم الطبيعية والرياضيات، وقد كان لهذه العلوم حظ وافر في تلك المدرسة، فنبغ فيها جماعة من علماء الفلك والطب والهندسة والجغرافية، وإنْ كانت مؤلفاتهم في الغالب مبنية على مؤلفات القدماء أو شروحها لها.
الرياضيات
نبغ إقليدس الصوري المولود سنة ٣٢٣ق.م، وقد طلب العلم في بلاد اليونان وأتقن الرياضيات بنوع خاص، وكانت الإسكندرية قد دخلت في حكم البطالسة وأفضت الحكومة إلى بطليموس فيلادلفوس، فاستقدمه إليه في جملة من استقدمهم من رجال العلم، ووسع له الرزق وأمره بتدريس الهندسة وكان فيلادلفوس أول من تلقاها عنه، وهناك ألف كتابه المعروف بأصول إقليدس ولا يزال عليه المعول في هذا الفن إلى اليوم، وقد نُقل إلى كل لغات العالم المتمدن.
ونبغ من الرياضيين بعد إقليدس أرخميدس — أو أرشميدس — الصقلي المولود سنة ٢٨٧ قبل الميلاد، وجاء مدرسة الإسكندرية وتلقى فيها الرياضيات وعاد إلى بلاده، وكان ملكها يحترمه فقربه إليه، وكان في حرب ضد الرومان فأعانه من علمه بما لم يستطعه القواد بسيوفهم، ولكنه ذهب ضحية تلك المساعي، فقتله بعض جنود الرومان في أثناء الفتح وهو لا يعرفه.
ثم نبغ أبولونيوس المولود سنة ٢٥٠ق.م صاحب الأبحاث في قطع المخروط، وهيبارخوس المتوفى سنة ١٢٥ق.م مؤسس الرأي الفلكي للسماوات، واشتغلوا في أثناء ذلك بالجغرافية الرياضية، وأول من كتب فيها أراتستين المتوفى سنة ١٩٥ق.م، وهو أول من وضع جداول أسماء الملوك الفراعنة وأول من قاس الأرض.
واشتغل علماء الإسكندرية خصوصًا برصد الأفلاك واستخراج الأزياج، وكان عندهم مرصد يرصدون منه الأجرام، وظل هو المرصد الوحيد في العالم إلى أيام الإسلام.
الطب
أما الطب فقد كان يُعلَّم في مدرسة برجامس، فلما زهت مدرسة الإسكندرية توجهت الأنظار إليها وكثر طلبة الطب فيها، وكانت عمدة التدريس فيها على مؤلفات أبقراط، لكنهم اشتغلوا خصوصًا في فن التشريح حتى فاقوا فيه سائر مدارس الطب في ذلك العهد، واشتهر فيها أثناء العصر اليوناني طبيبان لكل منهما مذهب في الطب والعلاج وهما: هيروفيلوس، وأراسستراتس. الأول من خلقيدونة، وتلقى العلم في مدارس اليونان واشتغل خصوصًا في التشريح، وألف كُتُبًا وافق أبقراط في أكثرها، ويُعدونه في المنزلة الأولى بعده. أما الثاني فكان مُعاصرًا لهيروفيلوس، وهو من أنطاكية وجاء الإسكندرية للتبحر في علم التشريح، وله مؤلفات ذهب فيها مذهبًا غير مذهب هيروفيلوس، فكان لكل من هذين الطبيبين تلامذة يؤيدون رأيه، وأصحاب هيروفيلوس ينصرون أبقراط والآخرون ضده. وظل المذهبان إلى القرن الثاني بعد الميلاد، وقد مهد الأرستراتيون الطريق للتدجيل الذي شاع بعدئذ في الأجيال المظلمة.
انقضى عصر مدرسة الإسكندرية اليوناني وبعض العصر الروماني والأطباء فئتان لهما مذهبان متناقضان، حتى ظهر جالينوس القلوذي المولود في برجاموس سنة ١٣٠م. تلقى أصول العلم على أبيه ثم شرع في درس الطب هناك، وسافر سنة ١٥٠م إلى أزمير، ثُمَّ قَدِمَ إلى الإسكندرية لإتقان فن التشريح، وطاف بلادًا أخرى في طلب العلم حتى عاد سنة ١٥٨م. إلى برجاموس وسافر سنة ١٦٤ إلى رومية وهي آهلة بالعلماء، واتفق له معالجة بعض كبار القوم وشفاؤهم على يديه فذاع صيته وسموه «الطبيب العجيب»، فحسده زملاؤه فرجع إلى بلاده سنة ١٦٨، ثم تمكن من الرجوع إلى رومية وخدم بعض أباطرتها حتى توفي سنة ٢٠٠م، وله مؤلفات عديدة في الطب أشهرها يُعرف بالكتب الستة عشر، وبعضها يعرف بأسماء خاصة حسب موضوعاته، وسيأتي ذكرها في جملة ما نُقل من كتب الطب إلى العربية. وجالينوس ليس من أهل العصر الإسكندري اليوناني الذي نحن بصدده، وإنَّما ذكرناه استيفاء للكلام في تاريخ الطب.
العصر الإسكندري الروماني من سنة ٣٠ق.م–٦٤٠م
هو العصر الإسكندري الثاني، ويبتدئ في الحقيقة قبل الفتح الروماني بنصف قرن، أي منذ دخول أثينا في حوزة الرومان في القرن الأول قبل الميلاد، فإنَّ قائدهم «سولا» — بعد أن فتح أثينا — حمل منها إلى رومية أحمالًا من كتب العلم والفلسفة كما تقدم، فانتقل العلم من ذلك الحين من أثينا إلى رومية، ولما أسس أوغسطس قيصر المكتبة الشهيرة في رومية قسمها إلى قسمين: لاتيني ويوناني. ولم ترث رومية كتب أثينا فقط ولكنها ورثت علماءها وفلاسفتها أيضًا، فأصبح اليونان أنفسهم إذا أرادوا التبحر في العلم رحلوا إلى رومية، وليس من شأننا الآن البحث في آداب الرومان …
ومما اختصت مدرسة الإسكندرية في ترقيته من العلوم:
- أولًا: التشريح؛ لأنَّ المصريين كانوا يفتحون الجثث لأجل تحنيطها فسهل عليهم درس فن التشريح بها.
- ثانيًا: علم الكيمياء؛ لأنَّه كان في مصر قبل دخولها في سلطة اليونان، ولما أنشئت مدرسة الإسكندرية اشتغل علماؤها في درس هذا العلم وجمعوا ما كان عند الأمتين في علم واحد.
العصر البيزنطي من سنة ٥٢٩–١٤٥٣م
سُمِّي هذا العصر بالبيزنطي نسبة إلى بيزنتيوم (القسطنطينية)؛ لأنَّ آداب اللغة اليونانية هناك كان لها فيه شأن خاص، فلا بأس من الإشارة إلى ما يهمنا منه. ويقال بالإجمال إن الآداب اليونانية قلَّما تقدمت في تلك العاصمة، مع أنَّ العلم كان في خزائنها كما كان في خزائن الإسكندرية، وخصوصًا بعد موت جستنيان. فلما قامت الخصومة على الأيقونات كان من جملة نتائجها إعدام الكتب وإهمال العلم، واقتصر النوابغ فيها على ما لا يحتاج إلى مواهب خاصة، أو إلى بحث أو نظر، فكانوا إذا نشأ أحد القياصرة وأراد التشبه بمنشطي العلم القدماء رغب الناس في المطالعة والتأليف. وتأليفهم عبارة عن تلخيص القديم أو شرحه أو جمعه على شكل الموسوعات، وقد يفعل القيصر نفسه ذلك. فإنَّ قسطنطين السابع (٩٠٥–٩٥٩م) كان محبًّا للعلم مشتغلًا بالتأليف، فألف كتبًا متسلسلة في تاريخ الحكومة ونظامها. وكذلك كانوا يفعلون في سائر الموضوعات الأدبية، كالتاريخ والشعر واللغة، بدون نقد ولا نظر كما فعل مؤلفو العرب بعد ذلك مثل هذه الحال. أما الفلسفة فتحولت عندهم إلى اللاهوت؛ لأنَّ علماء النصرانية استخدموا الأدلة الفلسفية لإثبات العقائد أو الآراء الدينية في مجادلاتهم أو في مواعظهم، على نحو ما قدمناه عن الفلسفة الأفلاطونية الجديدة. وممن اشتهر في هذا الشأن يُوحنَّا الدمشقي (٧١٨–٧٤١م) صاحب المؤلفات الكثيرة في الدين والفلسفة وغيره مما لا حاجة بنا إلى ذكره.
(٤-٣) آداب اللغة الفارسية قبل الإسلام
الفرس من الشعوب الآرية إخوان الهنود واليونان، وهم أمة قديمة حاربت اليونان قبل المسيح ببضعة قرون، فجردت على بلادهم جيشًا قد يمتنع على أعظم دول الأرض اليوم حشده ونقله بمهماته ومؤونته من أواسط آسيا إلى البحر الأبيض، فكيف منذ بضعة وعشرين قرنًا؟ فالدولة التي هذا مبلغ قوتها لا تخلو من أدب وعلم، والفرس أهل ذكاء وتعقل، وفيهم استعداد فطري لأسباب التمدن، فلا بد من إجادتهم نظم الشعر على نحو ما فعل إخوانهم الهنود في المهابهاراتة ونحوها، وإن كان ما وصل منه إلينا قليلًا. ناهيك بالعلوم القديمة التي هي من قبيل الطبيعيات والرياضيات كالنجوم والأنواء، فقد أحرزوا شيئًا منها وخصوصًا لأنَّهم ورثوا البابليين والآشوريين واحتكوا باليونان وهم في إبان تمدنهم واختلطوا بجيرانهم الهنود، وكانوا يعرفون الكتابة وينقشونها على الأحجار باللغة الفهلوية، ويؤيد ذلك ما جاء في كتب الأخبار عن فتح الإسكندر بلاد فارس، وما عثر عليه في عاصمتهم إصطخر من خزائن الكتب فاستنسخها وأحرقها كما تقدم، وفيها ما كان قد جمعه الفرس من علوم الهند والصين إلى تلك الأيام.
والظاهر أنَّ عادة حبس الكتب في المغارات أو نحوها كانت شائعة في ذلك الزمان. قال ابن النديم: «والذي رأيته أنا بالمشاهدة أنَّ أبا الفضل بن العميد أنفذ إلى هنا في سنة نيف وأربعين (وثلاثمائة) كتبًا متقطعة أصيبت بأصفهان في سور المدينة في صناديق، وكانت في اليونانية فاستخرجها أهل هذا الشأن مثل يُوحنا وغيره، وكانت أسماء الجيش ومبلغ أرزاقهم … إلخ».
وجملة القول أنَّ الفرس اشتغلوا قبل الإسلام في الفلسفة والطب، وتثقفت عقولهم وذاع صيتهم وكان لهم اطلاع خاص في علم النجوم وأحكام الأفلاك، مما توارثوه عن أسلافهم أو نقلوه عن جيرانهم. وقد زها العلم عندهم في أيام أنوشروان العادل، والعلم لا يزهو إلا في ظل العدل والحرية.
(٤-٤) آداب اللغة السريانية قبل الإسلام
السريان بقايا الكلدان أو البابليين القدماء، الذين أنشأوا تمدنًا ووضعوا علومًا هامة ورصدوا الكواكب واخترعوا المزاول ووضعوا أسس الطب قبل الميلاد بقرون، ثم دالت دولتهم واستولى الفرس على بلادهم فذهب علمهم بذهاب حريتهم، حتى إذا قامت النصرانية وانتشر دعاتها في البلاد وافترقت إلى طوائف ومذاهب، كان للسريان حظ كبير من كل ذلك وكان لهم تأثير ذو شأن في تاريخ النصرانية.
وإنما يهمنا في هذا المقام ما كان عندهم من العلم والفلسفة. وهم في ذلك تلامذة اليونان؛ لأنَّهم تعلموا فلسفتهم وطبهم وسائر علومهم، كما تعلمها الرومان قبلهم واقتبسها الفرس معهم وكما تعلمها المسلمون بعدهم. والسريان أهل ذكاء ونشاط، فكانوا كلما اطمأنت خواطرهم من مظالم الحكام وتشويش الفاتحين انصرفوا إلى الاشتغال بالعلم، فأنشأوا المدارس للاهوت والفلسفة واللغة، ونقلوا علوم اليونان إلى لسانهم وشرحوا بعضها ولخصوا بعضًا. ومنهم خرج أكثر الذين ترجموا العلم للعباسيين وأكثرهم من النساطرة كما سيجيء. ونقتصر هنا على ذكر اشتغالهم بالعلم لأنفسهم.
كان للسريان فيما بين النهرين نحو خمسين مدرسة، تعلم فيها العلوم بالسريانية واليونانية، أشهرها مدرسة الرها وفيها ابتدأ السريان يشتغلون بفلسفة أرسطو في القرن الخامس للميلاد. وبعد أن تعلموها أخذوا في نقلها إلى لسانهم، فنقلوا المنطق في أواسط القرن المذكور. ثم أتم دراسة المنطق سرجيس الرأس عيني الطبيب المشهور، وفي المتحف البريطاني بلندن نسخ خطية من ترجمته الإيساغوجي إلى السريانية، وكذلك مقولات أرسطو لفرفوريوس، وكتاب النفس وغيرها، وقد نشر بعضها من عهد قريب.
وفي أوائل القرن السابع للميلاد اشتهرت مدرسة قنسرين على الفرات بتعليم فلسفة اليونان باللغة اليونانية، وتخرج منها جماعة كبيرة من السريان وفي جملتهم الأسقف ساويرس، فقد انقطع فيها لدرس الفلسفة والرياضيات واللاهوت. ولمَّا تمكَّن من تلك العلوم نقل بعضها إلى السريانية، ولا تزال بعض ترجماته في الفلسفة محفوظة في المتحف البريطاني. وقد أتمها بعده تلميذه يعقوب الرهاوي واضع علم النحو السرياني ومن تلامذة أثناسيوس جورجيوس المعروف بأسقف العرب (٦٨٦م) فقد ترجم بعض كتب أرسطو. واشتغل جماعة آخرون في ترجمة كتب أفلاطون وفيثاغورس وغيرهما مما يطول شرحه. واشتهرت هناك مدارس أخرى كمدرسة نصيبين التي كان عدد تلامذتها نحو ثمانمائة، وكانت تعلم فيها كل العلوم العقلية والنقلية.
أما الطب فقد كان لهم فيه حظ وافر أثر إنشاء مارستان جنديسابور، واشتهر فيهم من أهل هذه الصناعة كثيرون، منهم سرجيس الرأس عيني المتقدم ذكره، وأتاتوس الآمدي، وسمعان الطيبوتي، والأسقف غريغوريوس، والبطريرك ثيودوسيوس، وغيرهم من الأطباء الذين أدركوا الدولة العباسية وخدموها.
ولهم في النجوم مؤلفات كثيرة، لتسلسل هذا العلم فيهم عن آبائهم الكلدانيين، فإنَّ البرديصاني له كتاب في النجوم لم يصل إلينا غير خبره، وألَّف الرأس عيني في تأثير القمر وحركة الشمس. وألف السبكتي في صور الأبراج. وممن ألف في النجوم أيضًا يعقوب الرهاوي المتقدم ذكره، وداود البيت رباني وموسى بن كيفا وعمونيل البرشهاري وغيرهم.
واشتغل السريان أيضًا في الكيمياء والحساب والرياضيات، فضلًا عن اشتغالهم في لغتهم وضبط قواعدها وحركاتها. والمشهور أنَّهم اقتبسوا قواعد النحو عن اليونان، وحركات أحرفهم عبارة عن أحرف يونانية صغيرة توضع فوق الحروف أو تحتها. وقد استغرقوا في آداب اللغة اليونانية وشعرها، فترجموا الإلياذة والأوذيسة إلى لسانهم. ترجمها ثيوفيل الرهاوي سنة ٨٧٥م وقد ضاعت الترجمة ولم يبق منها إلا بيتان. ويقال إنَّهم تنبهوا لاستخدام الحروف اليونانية مكان الحركات لما أراد ناظم الإلياذة ضبط الأعلام اليونانية فيها. وذلك غير النقط التي كانت تقوم عندهم مقام الحركات، وقد تقدم ذكرها في كلامنا عن حركات الخط العربي. ولا تزال الحركات عند السريان النقط والأحرف اليونانية إلى اليوم، الأولى شائعة عند السريان الشرقيين، والثانية عند الغربيين.
(٤-٥) آداب اللغة الهندية قبل الإسلام
الهنود أمة قديمة، والطبقة العليا منهم إخوان الفرس واليونان، وقد نظموا الملاحم ودونوا الأخبار شعرًا من قديم الزمان، ولهم آداب خاصة وتواريخ خاصة تولدت عندهم بتوالي القرون، كما يستدل من مراجعة تواريخهم ودرس أحوالهم. حتى أنَّه كثيرًا ما كان ملوك الفرس يستعينون بأطباء الهنود، كما فعل أنوشروان في مارستان جنديسابور، وكما وقع للخلفاء العباسيين في أوائل نهضتهم، فإنَّهم كانوا يستقدمون الأطباء من الهند ويستشيرونهم في أمراضهم، بعد أن تفرغ حيل أطباء الفرس والسريان في معالجتهم؛ لأنَّ للطب الهندي طرقًا غير ما للطب اليوناني أو الفارسي، وقد اشتهر منهم عدة أطباء ألفوا في الهندية، ونقل المسلمون بعض كتبهم إلى العربية كما سيجيء، ومنهم كنكة وصنجهل وشاناق وغيرهم.
(٥) الخلاصة
هذه حال العلوم في العالم وبعض نواحي المملكة الإسلامية لما عزم المسلمون على نقلها إلى العربية، وقد رأيت أنَّ أكثرها يونانية الأصل، وضعها اليونان في أيام وثنيتهم مع ما اقتبسوه من الأمم التي تمدنت قبلهم. ثم تنوعت بالنصرانية وبانتقالها إلى الفرس والسريان، على مقتضيات آداب تلك الأمم وعاداتهم.
وكان العراق على الخصوص حافلًا بالعلماء، وفيهم الأطباء والفلاسفة والمنجمون والحسَّاب وغيرهم، ممن تجمَّعوا من بلاد فارس وما بين النهرين، وفيهم السريان والفرس والروم والهنود. فلما أراد الخلفاء نقل تلك العلوم إلى لسانهم وجدوا بين ظهرانيهم من يُلبي الطلب ويفي بالغرض.
(٥-١) العلوم الدخيلة (ما الذي حملهم على طلبها؟)
(٥-٢) أول من اشتغل بها
(٦) نقل العلوم في العصر العباسي
(٦-١) المنصور والنجوم والطب
أول الخلفاء العباسيين السفاح، ولم يُعْنَ بشيء من العلم لقصر مدة حكمه، ثم أفضت الخلافة إلى أخيه المنصور (سنة ١٣٦–١٥٨ﻫ) وكان شديدًا حازمًا كثرت في أيامه الفتوح فاضطر إلى حروب كثيرة، وقد طالت مدة حكمه لكنَّه قضى معظمها في تثبيت دعائم دولته وبناء مدينته «بغداد».
(أ) النجوم
(ب) الطب
وكان جورجيس محبًّا للتأليف كما رأيت، وكان يعرف اللغة اليونانية فضلًا عن السريانية والفارسية والعربية. فلما رأى وثوق المنصور به نقل له كتبًا طبية من اليونانية إلى العربية، غير ما ألفه في السريانية. أما التأليف في الطب فقد سبقه إليه أكثر الأطباء الذين خدموا المسلمين على عهد بني أمية. وكان الطبيب إذا خدمهم ألف لنفسه أو لولده أو لأحد تلامذته كتابًا أو غير كتاب في الفن الذي يتعاطاه. والغالب أن يؤلفوا الكنانيش، كالكناش الذي ألفه ثياذوق المتوفى سنة ٩٠ﻫ طبيب الحجاج، ألف لابنه وألف له أيضًا كتابًا في الأدوية ومعالجتها. وتوالى آل بختيشوع في خدمة العباسيين وخدموا الطب والعلم في ظلهم خدمة نافعة.
فالمنصور أول من عني بنقل الكتب القديمة، ولكنَّه اقتصر منها على النجوم والهندسة والطب. وفي أيامه ترجم ابن المقفع كليلة ودمنة. وأما الفلسفة والمنطق وسائر العلوم العقلية فترجمت في أيام المأمون. وقد ذكر صاحب الفهرست أنَّ ابن المقفع نقل من الفارسية إلى العربية كتبًا في المنطق والطب كان الفرس قد نقلوها عن اليونانية. فلعله نقلها لنفسه.
(٦-٢) المهدي والرشيد
أما المهدي (١٥٨–١٦٩ﻫ) فإنَّه اشتغل عن العلم بما ظهر في أيامه من البدع الدينية، وما انتشر من كتب ماني وابن دميان ومرقيون مما نقله ابن المقفع وغيره وترجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنفوه في تأييد هذه المذاهب في العربية، فكثر الزنادقة وظهرت آراؤهم في النَّاس، فأمر المهدي أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب لإبطال تلك المذاهب. أما الهادي، فلم تطل أيامه ولم يأت أمرًا يذكر.
وفي أيامه نقل المجسطي إلى العربية، وأول من عني بنقله يحيى بن خالد البرمكي، ففسره له جماعة لم يتقنوه فندب لتفسيره أبا حسان وسلمًا صاحب بيت الحكمة، فأتقناه واجتهدا في تصحيحه.
(٦-٣) المأمون والفلسفة والمنطق
فالكتب الفلسفية لم يقدم المسلمون على ترجمتها إلا في أيام المأمون، لسبب متصل بالمأمون نفسه، وذلك أنَّ المسلمين تعودوا من أول الإسلام حرية الفكر والقول والمساواة فيما بينهم، فكان إذا خطر لأحدهم رأي في خليفة أو أمير لا تمنعه هيبة الملك من إبداء رأيه. وكان ذلك شأنهم أيضًا في الدين، فإذا فهم أحدهم من الآية أو الحديث غير ما فهمه الآخر صرح برأيه وجادله فيه. فلم ينقضِ عصر الصحابة حتى أخذ المسلمون يفترقون في المذاهب، ولم يدخل القرن الثاني حتى تعددت الفرق وتفرعت، وفي جملتها المعتزلة. والمعتزلة طوائف كثيرة، أساس مذهبهم تطبيق الأحكام العقلية على النصوص الدينية، ولو طالعت مذاهبهم لرأيت بعضها يوافق أحدث الآراء الانتقادية في الدِّين مع مرور الأجيال على تمحيصها. ولذلك فهم يسمون أصحاب العدل والتوحيد.
(٦-٤) المأمون والاعتزال
فلما أفضت الخلافة إلى المأمون (١٩٨–٢١٨ﻫ) تغير وجه المسألة؛ لأنَّه كان مع فطنته وسعة علمه شديد الميل إلى القياس العقلي. وقد تعلم وتفقه وطالع ما نقل إلى عهده من كتب القدماء، فازداد رغبة في القياس والرجوع إلى أحكام العقل، فتمسك بمذهب الاعتزال وقرب إليه أشياخه كأبي الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام، وجالس المتكلمين فتمكن من مذهب الاعتزال. فأخذ يناصر أشياعه وصرح بأقوال لم يكونوا يستطيعون التصريح بها خوفًا من غضب الفقهاء، وفي جملتها القول بخلق القرآن أي أنَّه غير منزل. وكان المسلمون في أيام الرشيد يخافون في ذلك؛ لأنه ظهر فيه قبل توليه الخلافة، وكان الفضيل بن عياض يتمنى طول عمر الرشيد لما تبين له من أمر المأمون من هذا القبيل …
(٦-٥) المأمون ونقل الكتب
واقتدى بالمأمون كثيرون من أهل دولته، وجماعة من أهل الوجاهة والثروة في بغداد، فتقاطر إليها المترجمون من أنحاء العراق والشام وفارس، وفيهم النساطرة واليعاقبة والصابئة والمجوس والروم والبراهمة، يترجمون من اليونانية والفارسية والسريانية والسنسكريتية والنبطية واللاتينية وغيرها. وكثر في بغداد الوراقون وباعة الكتب، وتعددت مجالس الأدب والمناظرة، وأصبح همُّ الناس البحث والمطالعة، وظلت تلك النهضة مستمرة بعد المأمون إلى عدة من خلفائه، حتى نقلت أهم كتب القدماء إلى العربية.
(٦-٦) نَقَلَةُ العلم في العصر العباسي
رأيت فيما تقدم أنَّ السريان كانوا في نهضة علمية قبل الإسلام، وأنَّهم أخذوا في نقل كتب اليونان إلى لسانهم، ودرسوا كثيرًا منها وخصوصًا الفلسفة والطب، وبرزوا في هذه الصناعة حتى تولى بعضهم رئاسة مارستان جنديسابور كما تقدم، وأن اللغة اليونانية كانت تعلم في مدارسهم. فلما انتقل كرسي الخلافة إلى بلادهم «العراق» وعمرت بغداد بالوافدين من أطراف المملكة الإسلامية وغيرها، كان أولئك السريانيون من جملة الوفود التماسًا للرزق، فتعلموا لسان العرب كما نتعلم نحن لغة الإنجليز اليوم لهذا السبب. وطاب لهم الاختلاط بالعرب — أو المسلمين — لما آنسوه من عدل العباسيين في أول دولتهم، وإطلاق حرية الأديان لرعاياهم، حتى كثيرًا ما كانوا يوسطونهم في فض الخلاف بين طوائفهم أو أساقفتهم. ولهذا السبب أيضًا انتقل جماعة من الفرس إلى بغداد، وكانوا أهل دولة وحكومة، فاستخدمهم الخلفاء في إدارة شؤون حكومتهم، وفيهم جماعة كبيرة من أهل العلم والأدب، واستقدم الخلفاء أيضًا جماعة من أطباء الهند للانتفاع بطبهم.
- (١) آل بختيشوع: وهم من السريان النساطرة، وأولهم جورجيس بن بختيشوع طبيب المنصور، وقد تقدم ذكره، وخلفه عندهم ابنه بختيشوع ابن جورجيس استقدمه الرشيد من جنديسابور كما استقدم المنصور أباه قبله، فلمَّا دخل على الرشيد دعا له بالفارسية والعربية، فقال الرشيد لوزيره يحيى: امتحنه، فدعا يحيى الأطباء لامتحانه — وهم أبو قريش عيسى وعبد الله الطيفوري وداود بن سرابيون وغيرهم — فلما رأوه قال أبو قريش: «يا أمير المؤمنين، ليس في الجماعة من يقدر على الكلام مع هذا، لأنه كون الكلام وهو وأبوه وجنسه فلاسفة». ويدل ذلك على منزلة آل بختيشوع من العلم والفلسفة. فولاه الرشيد رئاسة الأطباء، وخلفه فيها ابنه جبريل وكان حظيًا عند الخلفاء ونال جوائزهم وعطاياهم. وكان له من الرواتب شيء كثير قد فصلناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وخلفه ابنه بختيشوع بن جبريل، وقد بلغ من عظم المنزلة والحال وكثرة المال ما لم يبلغه أحد من أطباء عصره. ومنهم جبريل بن عبيد الله بن بختيشوع خدم المقتدر العباسي. وخلفه عبيد الله بن جبريل. فهؤلاء ستة من آل بختيشوع، كلهم من مهرة الأطباء، ولم يعن بالترجمة منهم إلا جورجيس الأول. وإنما أوردنا ذكرهم لأنَّ أكثرهم ألَّف في الطب كتبًا مفيدة، وبعضهم استخدم التراجمة في نقل بعض كتب الطب إلى السريانية.٢٢١
- (٢) آل حنين: أولهم حنين بن إسحاق العبادي شيخ المترجمين، وهو من نصارى الحيرة. ولد سنة ١٩٤ﻫ وكان أبوه صيرفيًّا، ولما ترعرع انتقل إلى البصرة فتلقى فيها العربية، ثم انتقل إلى بغداد ليشتغل بصناعة الطب، فلقي في ذلك مشقة؛ لأنَّ الأطباء — وخصوصًا أهل جنديسابور — كانوا يكرهون أن يدخل في صناعتهم أبناء التجار. وكان أعمر مجالس الطب في بغداد يومئذ مجلس يوحنا بن ماسويه أحد متخرجي مارستان جنديسابور، فجعل حنين يحضره. فاتفق أنه سأله مرة مسألة مما كان يقرأه عليه، فغضب يوحنا وقال: «ما لأهل الحيرة وصناعة الطب؟ فسر إلى فلان قرابتك، حتى يهب لك خمسين درهمًا، تشتري بها قفافًا صغارًا بدرهم، وزرنيخًا بثلاثة دراهم، واشترِ بالباقي فلوسًا كوفية وفارسية، وزرنخ القادسية في تلك القفاف، واقعد على الطريق وَصِحْ: الفلوس الجياد للصدقة والنفقة! وبع الفلوس، فإنَّه أعود عليك من هذه الصناعة …» ثم أمر به فأخرج من داره …فخرج حنين باكيًا مكروبًا، وقد بعثه ذلك على زيادة النشاط للسعي في تعلم الطب بلغته الأصلية. فغاب عن بغداد سنتين، ثم عاد وقد تعلم اليونانية وآدابها في الإسكندرية وحفظ أشعار هوميروس٢٢٢ فأصبح أعلم أهل زمانه بالسريانية واليونانية والفارسية فضلًا عن العربية، وأصبح أطباء بغداد في حاجة إليه لنقل الكتب، حتى ابن ماسويه نفسه فإنَّه استخدمه في نقل بعض كتب جالينوس إلى السريانية وبعضها إلى العربية، واحتذى فيها حذو الإسكندرانيين.٢٢٣ وترجم أيضًا لجبريل بن بختيشوع كتاب التشريح لجالينوس، وكان جبريل يخاطبه بالتبجيل فيقول له: «ربن حنين» في اصطلاح السريان أي: «يا معلمنا حنين». ولما أراد المأمون نقل فلسفة اليونان إلى العربية سأل عمن يستطيع ذلك فأرشدوه إلى حنين؛ لأنَّه لم يكن ثمة من يضاهيه وهو لا يزال شابًّا، فأخرج المأمون جماعة من التراجمة وهم الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم وعليهم حنين المذكور ليصلح ما يترجمونه.
وكان المأمون يعطيه من الذهب زنة ما ينقله إلى العربية مثلًا بمثل، ولذلك فقد كان حنين يكتب الترجمة بحروف غليظة وأسطر متفرقة على ورق غليظ جدًّا لتعظيم حجم الكتاب وتكثير وزنه. وذكر أنَّ حنينًا رحل بنفسه في طلب الكتب من بلاد الروم لنقلها، وكان يترجم أيضًا لبني شاكر الآتي ذكرهم ولغيرهم.
وكان لحنين ولدان: داود وإسحاق، صنف لهما كتبًا طبية في المبادئ والتعليم، ونقل لهما كتبًا كثيرة من مؤلفات جالينوس، فأفلح إسحاق وتميز، واشتغل في الترجمة مثل أبيه من اليونانية إلى العربية، إلا أن عنايته كانت مصروفة إلى نقل كتب الحكمة، مثل كتب أرسطوطاليس وغيره من الحكماء.
أما أبوه فكان أكثر اشتغاله في نقل كتب الطب، وخصوصًا كتب جالينوس. ويندر أن يوجد من جالينوس كتاب إلا وهو بنقل حنين أو بإصلاحه، وما لم يكن كذلك لم يكن معتبرًا عندهم، لبراعة حنين في العربية فضلًا عن تمهره بصناعة الطب. واشتغل حنين في زمن المتوكل (تولى سنة ٢٣٣ﻫ) فاختاره لرئاسة الترجمة، فعين جماعة من التراجمة كإصطفان بن باسيل وموسى بن خالد، فكانوا يترجمون ويتصفح حنين ترجماتهم وينقحها. وكان يلبس زنارًا على عادة النصارى في تلك الأيام، وتوفي سنة ٢٦٤ﻫ.
واشتهر ابنه إسحاق أيضًا، وأكثر نقله من كتب أرسطو في الفلسفة وشروحها، وكان مع أبيه ثم انقطع للقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد، وكان يفضي إليه بأسراره، وله — فضلًا عن المنقولات — مؤلفاتٌ في الطب والصيدلة وغيرهما.
- (٣) حبيش الأعسم الدمشقي: هو حبيش بن الحسن الدمشقي ابن أخت حنين بن إسحاق، وقد تعلم صناعة الطب منه، وكان قد سلك مسلكه في الترجمة. وقيل من جملة سعادة حنين صحبة حبيش له، فإنَّ أكثر ما نقله حبيش نسب إلى حنين، وكثيرًا ما يرى الناس شيئًا من الكتب القديمة مترجمًا بنقل حبيش فيظنه لحنين وقد صحف، فيكشطه ويجعله لحنين.٢٢٤
- (٤) قسطا بن لوقا البعلبكي: وهو من نصارى الشام، وكان طبيبًا حاذقًا وفيلسوفًا نبيلًا، رحل إلى بلاد الروم في طلب العلم، وكان عالمًا باللغات اليونانية والسريانية والعربية ونقل كتبًا كثيرة من اليونانية إلى العربية، وكان جيد النقل وأصلح نقولًا كثيرة وألف رسائل عديدة في الطب، وكان حسن العبارة جيد القريحة. وفضلًا عما نقله فله مؤلفات كثيرة في الطب والتاريخ والفلسفة والجبر والمقابلة والهندسة والمنطق والأدب والدين، ما يزيد على مائة كتاب. قال أبو الفرج الملطي: «لو قلت حقًّا لقلت: إنَّه أفضل من صنف كتابًا، بما احتوى عليه من العلوم والفضائل وما رزق من الاختصار للألفاظ وجمع المعاني».
- (٥) آل ماسرجويه: أولهم ماسرجويه، متطبب البصرة، وهو يهودي المذهب سرياني اللغة. وكان ينقل من السرياني إلى العربي، وقد تقدم ذكره. ثم ابنه عيسى بن ماسرجويه، وكان يلحق بأبيه ولهما مؤلفات في الطب.
- (٦) آل الكرخي: أولهم شهدي الكرخي من أهل الكرخ، وكان قريب الحال في الترجمة، ثم ابنه وكان مثل أبيه في النقل ثم فاق أباه في آخر عمره، ولم يزل متوسطًا. وكان ينقل من السرياني إلى العربي.
- (٧) آل ثابت: أولهم ثابت بن قرة الحراني، وهو من الصابئة المقيمين في حران. وكان صيرفيًّا ثم تعلم الطب والفلسفة والنجوم، وكان مع ذلك يعرف اللغة السريانية جيدًا، وكان جيد النقل إلى العربية، وله تصانيف كثيرة في الرياضيات والطب والمنطق، وله في السريانية كتاب في مذهب الصابئة، وكان في خدمة المعتضد العباسي، وبلغ عنده أجل المراتب، حتى كان يجلس في حضرته في كل وقت، ويحادثه طويلًا ويضاحكه، فيقبل عليه دون وزرائه وخاصته. يليه ابنه سنان بن ثابت، وكان مقدمًا عند القاهر بالله، وله تصانيف كثيرة، وكذلك ابنه ثابت بن سنان، ولكنهما لم ينقلا شيئًا.
- (٨) الحجاج بن مطر: كان في جملة من ترجم للمأمون، وقد نقل كتاب المجسطي وإقليدس إلى العربية، ثم أصلح نقله فيما بعد ثابت بن قرة الحراني.
- (٩) ابن ناعمة الحمصي: هو عبد المسيح بن عبد الله الحمصي الناعمي، كان متوسط النقل وهو إلى الجودة أميل. ومن بيت الناعمة الحمصي أيضًا زروبا بن مانحوه، وكان أضعف من سابقه.
- (١٠) إصطفان بن باسيل: كان يقارب حنين بن إسحاق في جودة النقل، إلا أنَّ عبارة حنين كانت أفصح وأحلى.
- (١١) موسى بن خالد: ويعرف بالترجمان، نقل كتبًا كثيرة من الستة عشر لجالينوس، وهو دون حنين.
- (١٢) سرجيس الرأس عيني: هو من مدينة رأس العين في العراق، نقل كتبًا كثيرة، وكان متوسطًا في النقل، وحنين كان يصلح نقله.
- (١٣) يوحنا بن بختيشوع: هو من غير آل بختيشوع المتقدم ذكرهم، وكان ينقل الكتب من اليوناني إلى السرياني وليس إلى العربي.
- (١٤) البطريق: كان في أيام المنصور وقد أمره بنقل أشياء من الكتب القديمة، وله نقل كثير جيد إلا أنه دُون نقل حنين.
- (١٥) يحيى بن البطريق: كان في جملة الحسن بن سهل، وكان لا يعرف العربية حق معرفتها ولا اليونانية وإنما كان يعرف اللاتينية.٢٢٥
- (١٦) أبو عثمان الدمشقي: كان من النقلة المجيدين إلى العربية.
- (١٧) أبو بشر متى بن يونس: من أهل دير قنى، تفقه في مدرسة مارماري على أساتذة عظام، وإليه انتهت رئاسة المنطقيين في عصره.
- (١٨) يحيى بن عدي: هو من أهل المنطق في القرن الرابع للهجرة، قرأ على متى بن يونس وعلى أبي نصر الفارابي، وهو يعقوبي المذهب خلافًا لأكثر المترجمين السريان (إذ كانوا نساطرة) وكان سريع الخط يكتب في اليوم والليلة مائة ورقة.٢٢٦
هؤلاء أشهر نقلة العلم من اليوناني أو السرياني إلى العربي. وقد اكتفينا بما تقدم للاختصار.
وأما النقلة من الألسنة الأخرى، فمنهم من نقل من الفارسية إلى العربية كابن المقفع وآل نوبخت، وقد تقدم ذكر نوبخت كبيرهم ولابنه الفضل بن نوبخت نقل من الفارسي إلى العربي في النجوم وغيرها. ومنهم موسى ويوسف ابنا خالد، وكانا يخدمان داود بن عبد الله بن حميد بن قحطبة، وينقلان له من الفارسية إلى العربية، وعلي بن زياد التميمي ويُكنَّى أبا الحسن نقل من الفارسي إلى العربي كتاب زيج الشهريار، والحسن بن سهل وكان من المنجمين. والبلاذري أحمد بن يحيى، وجبلة بن سالم كاتب هشام، وإسحاق بن يزيد نقل سيرة الفرس المعروفة باختيار نامه. ومنهم محمد الجهم البرمكي، وهشام بن القاسم، وموسى بن عيسى الكردي، وعمر بن الفرخان وغيرهم.
ومن الذين نقلوا من اللغة النبطية (الكلدانية) إلى العربية ابن وحشية، نقل كتبًا كثيرة سيأتي ذكرها.
(٦-٧) السوريون ونقل العلم
إذا تدبرت ما تقدم من أخبار النقلة ومواطنهم ومللهم، رأيت معظمهم من السوريين سكان الشام والجزيرة والعراق. وللسوريين شأن كبير في نشر العلوم بين الأمم ونقلها من أمة إلى أخرى أو من لسان إلى لسان من أقدم أزمنة التاريخ، يساعدهم على ذلك نشاطهم وذكاؤهم وإقدامهم وتوسط بلادهم بين الشرق والغرب.
فالسوريون (أو الفينيقيون) هم الذين نشروا أحرف الهجاء في العالم قبل الميلاد ببضعة عشر قرنًا، فحملوها معهم في أثناء أسفارهم التجارية إلى بلاد اليونان والكلدان، ولا تزال صورها وأسماؤها عند سائر أمم العالم المتمدن شاهدة بذلك إلى اليوم. وهم الذين توسطوا في نقل العلوم والآداب بين المصريين والكلدانيين، ثم نقلوها إلى اليونان القدماء كما تقدم. وكانوا يدرسون اللغات اليونانية والقبطية والبابلية وغيرها من لغات ممالك الأمم المتمدنة في تلك العصور، كما يدرسون اليوم الإنجليزية والفرنسية وغيرهما من لغات ممالك التمدن الحديث، لنقل العلم أو الاتجار أو الانتفاع من الخدمة في مصالح تلك الدول.
ولما تمدن اليونان واستنبطوا الفلسفة والمنطق وغيرهما، ونضجت علومهم وانتقلت بفتوح الإسكندر إلى العراق والشام، تلقاها السوريون ونقلوها إلى لسانهم وأضافوا إليها بعد انتشار النصرانية الآداب النصرانية اليونانية، وحفظوها مع الفلسفة اليونانية في أديرتهم، ثم كانت مصدرًا للعلم والفلسفة إلى بلاد فارس والهند وغيرهما.
وكان السوريون في دولة الفرس الساسانية الواسطة الكبرى في نقل علوم اليونان وطبهم وفلسفتهم إلى الفرس. ولما بنى كسرى أنوشروان مارستان جنديسابور لتعليم الطب والفلسفة كما تقدم، كان جل معتمده في ذلك على نصارى العراق والجزيرة، ناهيك بما حفظ من الآداب السامية على صبغته الوثنية في حران؛ لأنَّ أهلها ظلوا على ديانتهم القديمة. غير ما حفظه أهل العراق من آداب قدماء الكلدان وعلومهم.
فلما ظهر الإسلام وأراد الخلفاء نقل العلوم إلى العربية، كان السوريون ساعدهم الأقوى في نقلها من اللغات المعروفة في ذلك العهد، وفيهم الحمصي والبعلبكي والدمشقي والحيري والحراني والبصري. ونقل العلوم من لسان إلى آخر لا يتيسر إلا باستيعاب تلك العلوم وتفهمها، فضلًا عن إتقان اللغات اللازمة لذلك. ولهذا كان أكثر أولئك المترجمين من أهل العلم الواسع فيما اشتغلوا بنقله، وفيهم من ألف في أكثر فروع العلم أو الفلسفة أو المنطق أو الطب وغيرها.
وذلك شأن السوريين أيضًا في علوم التمدن الحديث، فقد كانوا من أكثر الناس اشتغالًا في نقلها من لغات أوربا المختلفة إلى اللغة العربية، ولا يزالون في ذلك إلى اليوم.
(٦-٨) نقل العلم لغير الخلفاء
قد رأيت فيما تقدم أنَّ الخلفاء هم الذين سعوا في نقل كتب العلم على يد التراجمة، فَلَمَّا نقل بعض تلك الكتب واطلع عليها أهل بغداد، نهض جماعة من كبرائهم واقتدوا بالخلفاء في نقلها، واستخدموا التراجمة وبذلوا الأموال في البحث عنها وترجمتها.
•••
وممن بذلوا المال في نقل العلوم غير الخلفاء محمد بن عبد الملك الزيات، كان يقارب عطاؤه للنَقَلَةِ والنُّسَّاخِ ٢٠٠٠ دينار في الشهر، ونقل باسمه كتب عديدة. ومنهم علي بن يحيى المعروف بابن المنجم، كان أحد كتاب المأمون ونقل له كثير من كتب الطب، وكذلك محمد بن موسى بن عبد الملك.
(٧) الكتب التي ترجمت في النهضة العباسية
قد رأيت الأسباب التي حملت الخلفاء على نقل علوم القدماء في النهضة العباسية وقبيلها، وقد ذكرنا الذين اشتغلوا في ترجمتها من الألسنة المختلفة. بقي علينا أن نذكر الكتب التي نقلت وكان عليها معول علماء المسلمين فيما ألفوه بعد ذلك. وهي كثيرة تصعب الإحاطة بها لتشتت أخبارها وضياع كثير منها، على أننا نكتفي بما يبلغ إليه الإمكان.
وتسهيلًا للإحاطة بموضوعات تلك الكتب واللغات المنقولة هي عنها نقسمها باعتبار اللغات التي نقلت عنها وهي: اليونانية والفارسية والهندية (السنسكريتية) والنبطية والعبرانية واللاتينية والقبطية. ونقسم منقولات كل لغة إلى أقسام باعتبار الموضوعات على ما يقتضيه المقام:
(٧-١) الكتب المنقولة عن اليونانية
هي أكثر ما نقلوه إلى العربية في تلك النهضة، وأكثرها في الفلسفة والطب والرياضيات والنجوم وفروع العلم الطبيعي. وإليك كتب كل علم على حدة، مرتبة باعتبار المؤلفين، وبإزاء كل كتاب اسم المترجم الذي نقله:
(أ) كتب الفلسفة والأدب
كتب أفلاطون
-
(١)
كتاب السياسة: نقله حنين بن إسحاق.
-
(٢)
كتاب المناسبات: نقله يحيى بن عدي.
-
(٣)
كتاب النواميس: نقله حنين ويحيى.
-
(٤)
كتاب طيماوس: نقله ابن البطريق وأصلحه حنين.
-
(٥)
كتاب أفلاطن إلى أقرطن: نقله يحيى بن عدي.
-
(٦)
كتاب التوحيد: نقله يحيى بن عدي.
-
(٧)
كتاب الحس واللذة: نقله يحيى بن عدي.
-
(٨)
كتاب أصول الهندسة: نقله قسطا بن لوقا.
كتب أرسطوطاليس
-
(١)
قاطيغورياس، أي المقولات: نقله حنين بن إسحاق.
-
(٢)
كتاب العبارة: نقله حنين إلى السريانية وإسحاق إلى العربية.
-
(٣)
تحليل القياس: نقله ثيادورس وأصلحه حنين.
-
(٤)
كتاب البرهان: نقله إسحاق إلى السرياني ومتى إلى العربي.
-
(٥)
كتاب الجدل: نقله إسحاق إلى السرياني ويحيى إلى العربي.
-
(٦)
كتاب المغالطات أو الحكمة المموهة: نقله ابن ناعمة وأبو بشر إلى السرياني ويحيى إلى العربي.
-
(٧)
كتاب الخطابة: نقله إسحاق وإبراهيم بن عبد الله.
-
(٨)
كتاب الشعر: نقله أبو بشر من السرياني إلى العربي.
-
(٩)
كتاب السماع الطبيعي: نقله أبو روح الصابي وحنين ويحيى وقسطا وابن ناعمة.
-
(١٠)
كتاب السماء والعالم: نقله ابن البطريق وأصلحه حنين.
-
(١١)
كتاب الكون والفساد: نقله حنين إلى السرياني وإسحاق والدمشقي إلى العربي.
-
(١٢)
كتاب الآثار العلوية: نقله أبو بشر ويحيى.
-
(١٣)
كتاب النفس: نقله حنين إلى السرياني وإسحاق إلى العربي.
-
(١٤)
كتاب الحس والمحسوس: نقله أبو بشر متى بن يونس.
-
(١٥)
كتاب الحيوان: نقله ابن البطريق.
-
(١٦)
كتاب الحروف أو الإلهيات: نقله إسحاق ويحيى وحنين ومتى.
-
(١٧)
كتاب الأخلاق: نقله إسحاق.
-
(١٨)
كتاب المرآة: نقله الحجاج بن مطر.
-
(١٩)
كتاب أتولوجيا: نقله الحجاج بن مطر.
ولكتب أرسطو شروح وتعاليق لبعض تلامذته أو من جاء بعده، كثاوفرسطس وديدوخس برفلس والإسكندر الأفروديسي وفرفوريوس الصوري، وأمونيوس وتامسطيوس ونيقولاوس وفلوطرخس ويحيى النحوي وغيرهم. ولبعض هؤلاء مؤلفات خاصة. كلها في الفلسفة وفروعها، وقد نُقل كثير منها إلى العربية ولم يعلم ناقلها فأغضينا عن ذكرها، وقد ذكرها صاحب الفهرست.
وذكروا لجالينوس في جملة كتبه الطبية الآتي بيانها كتب في الفلسفة والأدب، وهي «كتاب ما يعتقده رأيًا» ترجمة ثابت، وكتاب «تعريف المرء عيوب نفسه» نقله توما وأصلحه حنين، وكتاب «الأخلاق» نقله حبيش، وكتاب «انتفاع الأخيار بأعدائهم» نقله حبيش، و«المحرك الأول لا يتحرك» نقله حبيش وعيسى، وغيرها …
(ب) كتب الطب وفروعه
كتب أبقراط
-
(١)
كتاب عهد أبقراط: نقله حنين إلى السريانية وحبيش وعيسى إلى العربية.
-
(٢)
كتاب الفصول: نقله حنين لمحمد بن موسى.
-
(٣)
كتاب الكسر: نقله حنين لمحمد بن موسى.
-
(٤)
كتاب تقدمة المعرفة: نقله حنين وعيسى بن يحيى.
-
(٥)
كتاب الأمراض الحادة: نقله عيسى بن يحيى.
-
(٦)
كتاب أبيذيميا: نقله عيسى بن يحيى.
-
(٧)
كتاب الأخلاط: نقله عيسى بن يحيى لأحمد بن موسى.
-
(٨)
كتاب قاطيطيون: نقله حنين لمحمد بن موسى.
-
(٩)
كتاب الماء والهواء: نقله حنين وحبيش.
-
(١٠)
كتاب طبيعة الإنسان: نقله حنين وعيسى.
كتب جالينوس
- (١)
التشريح الكبير: نقله حبيش الأعسم.
- (٢)
اختلاف التشريح: نقله حبيش الأعسم.
- (٣)
تشريح الحيوان الحي: نقله حبيش الأعسم.
- (٤)
تشريح الحيوان الميت: نقله حبيش الأعسم.
- (٥)
علم أبقراط بالتشريح: نقله حبيش الأعسم.
- (٦)
الحاجة إلى النبض: نقله حبيش الأعسم.
- (٧)
علوم أرسطو: نقله حبيش الأعسم.
- (٨)
تشريح الرحم: نقله حبيش الأعسم.
- (٩)
آراء أبقراط وأفلاطون: نقله حبيش الأعسم.
- (١٠)
العادات: نقله حبيش الأعسم.
- (١١)
خصب البدن: نقله حبيش الأعسم.
- (١٢)
المني: نقله حبيش الأعسم.
- (١٣)
منافع الأعضاء: نقله حبيش الأعسم.
- (١٤)
تركيب الأدوية: نقله حبيش الأعسم.
- (١٥)
الرياضة بالكرة الصغيرة: نقله حبيش الأعسم.
- (١٦)
الرياضة بالكرة الكبيرة: نقله حبيش الأعسم.
- (١٧)
الحث على تعليم الطب: نقله حبيش الأعسم.
- (١٨)
قوى النفس ومزاج البدن: نقله حبيش الأعسم.
- (١٩)
حركات الصدر: نقله إصطفان وأصلحه حنين.
- (٢٠)
علل النفس: نقله إصطفان وأصلحه حنين.
- (٢١)
حركة العضل: نقله إصطفان وأصلحه حنين.
- (٢٢)
الحاجة إلى النفس: نقله إصطفان وأصلحه حنين.
- (٢٣)
الامتلاء: نقله إصطفان وأصلحه حنين.
- (٢٤)
المرة والسوداء: نقله إصطفان وأصلحه حنين.
- (٢٥)
الحركات المجهولة: نقله حنين.
- (٢٦)
علل الصوت: نقله حنين.
- (٢٧)
أفضل الهيئات: نقله حنين.
- (٢٨)
سوء المزاج المختلف: نقله حنين.
- (٢٩)
الأدوية المفردة: نقله حنين.
- (٣٠)
المولود لسبعة أشهر: نقله حنين.
- (٣١)
رداءة التنفس: نقله حنين.
- (٣٢)
الذبول: نقله حنين.
- (٣٣)
قوى الأغذية: نقله حنين.
- (٣٤)
التدبير الملطف: نقله حنين.
- (٣٥)
مداواة الأمراض: نقله حنين.
- (٣٦)
أبقراط في الأمراض الحادة: نقله حنين.
- (٣٧)
إلى تراسوبولوس: نقله حنين.
- (٣٨)
الطبيب والفيلسوف: نقله حنين.
- (٣٩)
كتب أبقراط الصحية: نقله حنين.
- (٤٠)
محنة الطبيب: نقله حنين.
- (٤١)
أفلاطون في طيماوس: نقله حنين وإسحاق.
- (٤٢)
تقدمة المعرفة: نقله عيسى.
- (٤٣)
الفصد: نقله عيسى وإصطفان.
- (٤٤)
صفات لصبي يصرخ: نقله ابن الصلت.
- (٤٥)
الأورام: نقله ابن الصلت.
- (٤٦)
الكيموس: نقله ثابت وحبيش.
- (٤٧)
الأدوية والأدواء: نقله عيسى.
- (٤٨)
الترياق: نقله ابن البطريق.
وهناك كتب في الطب وتوابعه ذكرها صاحب الفهرست ولم يذكر ناقليها، وأما مؤلفوها فمنها بضعة وعشرون كتابًا لروفس من أهل أفسس كان قبل جالينوس، ولعلها لم تنقل كلها. ومما ذكر ناقلوه بضعة كتب لأوريباسيوس، وهي كتاب الأدوية المستعملة نقله إصطفان بن باسيل، وكتاب السبعين مقالة نقله حنين وعيسى بن يحيى إلى السريانية، وكتاب إلى ابنه اسطاث نقله حنين، وكتاب إلى أبيه أرنافيس نقله حنين، وَلِديسقوريدس العين زربي — ويقال له السائح في البلاد لسياحته في طلب العقاقير والحشائش — كتاب في الحشائش سيأتي تاريخ نقله. ولإسكندروس كتاب «البرسام» نقله ابن البطريق، وغير هؤلاء مما لم يُعرف ناقلوه.
(ﺟ) كتب الرياضيات والنجوم وسائر العلوم
- (١)
كتب إقليدس: منها أصول الهندسة، نقله الحجاج بن مطر نقلين: الهاروني والمأموني، ونقله إسحاق بن حنين وأصلحه ثابت بن قرة، ونقله أبو عثمان الدمشقي، ولا يزال هذا الكتاب باقيًا إلى الآن، ومن كتب إقليدس التي لم يعرف مترجموها: كتاب الظاهرات، وكتاب اختلاف المناظر، وكتاب الموسيقى، وكتاب القسمة، وكتاب القانون، وكتاب الثقل والخفة.
- (٢)
كتب أرخميدس: وقد تقدم ذكرها في كلامنا عن آداب اليونان، وهي عشرة لم يعرف ناقلوها.
- (٣)
أبلونيوس: صاحب كتاب المخروطات وكتاب قطع السطوح وقطع الخطوط والنسبة المحدودة والدوائر المماسة، لم يعرف ناقلوها.
- (٤)
منالاوس: له كتاب الأشكال الكروية وكتاب أصول الهندسة، نقله إلى العربية ثابت بن قرة.
- (٥)
بطليموس القلوذي: صاحب كتاب المجسطي الشهير، وقد تقدم خبر نقله وتفسيره على يد يحيى البرمكي. ولبطليموس أيضًا كتاب الأربعة، نقله إبراهيم بن الصلت وأصلحه حنين، وكتاب الجغرافيا المعمور وصفة الأرض نقله ثابت إلى العربية نقلًا جيدًا. ولبطليموس ١٥ كتابًا آخر في الجغرافية وغيرها لم يعرف ناقلوها.
- (٦)
أبرخس: له كتاب صناعة الجبر ويعرف بالحدود، وكتاب قسمة الأعداد، لم يعرف ناقلهما.
- (٧)
ذيوفنطس: له كتاب صناعة الجبر لم يعرف ناقله.
وهناك كتب عديدة في الرياضيات والهيئة والأزياج ونحوها، وذكرها ابن النديم ولم يذكر ناقليها، منها: كتاب العمل بالأسطرلاب المسطح لأبيون البطريق، وكتاب جرم الشمس والقمر لأرسطرخس، وكتاب العمل بذات الحلق، وكتاب جداول زيج بطليموس المعروف بالقانون المسير، وكتاب العمل بالأسطرلاب — وكلها لثاون الإسكندري، غير ما تقدم ذكره من الكتب الرياضية في أثناء ذكر كتب الفلسفة رغبة في إيرادها لأصحابها مع سائر مؤلفاتهم، وقد نقل المسلمين من كتب الموسيقى عن اليونانية كتاب الموسيقى الكبير لنيقوماخس الجهراسيني، وكتاب الموسيقى المنسوب لإقليدس وقد تقدم ذكره، ومقالات في الموسيقى لفيثاغورس وغيره. وكتاب الريموس، وكتاب الإيقاع لأرسطكاس، وكتاب الآلات المصوتة المسماة بالأرغن البوقي والأرغن الزمري لمورطس.
ونقل لهم من كتب الميكانيكيات، غير ما جاء في كتب أرخميدس، كتاب الحيل الروحانية، وكتاب شيل الأثقال لأيرن، وكتاب استخراج المياه لبادروغوغيا، وكتاب الآلات المصوتة على ستين ميلًا لمورطس.
(٧-٢) الكتب المنقولة عن الفارسية
- (١)
كتاب رستم وأسفنديار: نقله جبلة بن سالم.
- (٢)
كتاب بهرام شوس: نقله جبلة بن سالم.
- (٣)
كتاب خداينامه في السير: نقله عبد الله بن المقفع.
- (٤)
كتاب آيين نامه: نقله عبد الله بن المقفع.
- (٥)
كتاب كليلة ودمنة: نقله عبد الله بن المقفع.
- (٦)
كتاب مزدك: نقله عبد الله بن المقفع.
- (٧)
كتاب التاج في سيرة أنوشروان: نقله عبد الله بن المقفع.
- (٨)
كتاب الأدب الكبير: نقله عبد الله بن المقفع.
- (٩)
كتاب الأدب الصغير: نقله عبد الله بن المقفع.
- (١٠)
كتاب اليتيمة: نقله عبد الله بن المقفع.
- (١١)
كتاب هزار أفسانه: لم يذكر ناقله.
- (١٢)
كتاب شهريزاد مع أبرويز: لم يذكر ناقله.
- (١٣)
كتاب الكارنامج أنوشروان: لم يذكر ناقله.
- (١٤)
كتاب دارا والصنم الذهب: لم يذكر ناقله.
- (١٥)
كتاب بهرام ونرسي: لم يذكر ناقله.
- (١٦)
كتاب هزاردستان: لم يذكر ناقله.
- (١٧)
كتاب الدب والثعلب: لم يذكر ناقله.
- (١٨) سير ملوك الفرس: وهي غير كتاب — ترجم أحدها محمد بن جهم البرمكي، والآخر ترجمه زادويه بن شاهويه الأصفهاني والآخر محمد بن بهرام بن مطيار الأصفهاني.٢٣٢
(٧-٣) الكتب المنقولة عن اللغة الهندية
ويظهر مما كتبه المسلمون بعد العصر العباسي في الأدب أو الطب أو الصيدلة أو السير أنَّهم اعتمدوا في جملة مصادرهم على كتب هندية الأصل. راجع قانون ابن سينا مثلًا أو الملكي للرازي أو غيرهما من كتب الطب الكبرى، فتراهم يذكرون بعض الأمراض ويشيرون إلى أنَّ الهنود يُسمُّونها مثلًا كذا وكذا أو يعالجونها بكذا وكذا. وإذا قرأت العقد الفريد لابن عبد ربه أو سراج الملوك للطرطوشي، أو غيرهما من كتب الأدب المهمة، رأيت مؤلفيها إذا ذكروا بعض الآداب أو الأخلاق أو نحوها قالوا: «وفي كتاب الهند كذا وكذا».
(أ) كتب الطب وفروعه
على أننا نعلم ممَّا جاء في كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة أنه اشتهر حوالي العصر العباسي جماعة من علماء الهند في الطب والنجوم والفلسفة وغيرها، منهم كنكه الهندي وهو من متقدميهم وأكابرهم وخصوصًا في علم النجوم فضلًا عن الطب وله مؤلفات كثيرة، منها كتاب النمودار في الأعمار، وكتاب أسرار المواليد، وكتاب القرانات الكبير والصغير، وكتاب في الطب يجري مجرى الكناش، وكتاب في التوهم، وكتاب في أحداث العالم والدور في القران. ومنهم أيضًا صنجل وباكهر وغيرهما، وقد نقل كثير من مؤلفاتهم في النجوم والطب إلى اللغة العربية، إما رأسًا أو بواسطة اللغة الفارسية، بأن ينقل الكتاب من الهندي إلى الفارسي ثم ينقل من الفارسي إلى العربي. منها كتاب سيرك الهندي. وقد نقله من الفارسي إلى العربي عبد الله بن علي، وكتاب آخر في علامات الأدواء ومعرفة علاجها أمر يحيى بن خالد البرمكي بنقله. وكتاب فيما اختلف فيه الروم والهند في الحار والبارد وقوى الأدوية وكتب أخرى في فروع الطب.
ومن مشاهيرهم أيضًا شاناق، وله كتاب في السموم خمس مقالات نقله من اللسان الهندي إلى الفارسي منكه الهندي، وأوعز يحيى بن خالد إلى رجل يعرف بأبي حاتم البلخي بنقله إلى العربية، ثم نقل للمأمون على يد العباس بن سعيد الجوهري مولاه. ولجودر الحكيم كتاب في المواليد نُقل إلى العربية أيضًا.
- (١)
كتاب سسرد في الطب: نقله منكه.
- (٢)
كتاب أسماء عقاقير الهند: نقله منكه لإسحاق بن سليمان.
- (٣)
كتاب استانكر الجامع: نقله ابن دهن.
- (٤)
كتاب صفوة النجح: نقله ابن دهن.
- (٥)
كتاب مختصر الهند في العقاقير: لم يذكر ناقله.
- (٦)
كتاب علاجات الحبالى للهند: لم يذكر ناقله.
- (٧)
روسا الهندية في علاجات النساء: لم يذكر ناقله.
- (٨)
كتاب السكر للهند: لم يذكر ناقله.
- (٩)
كتاب التوهم في الأمراض والعلل: لم يذكر ناقله.
- (١٠)
كتاب رأي الهند في أجناس الحيات وسمومها: لم يذكر ناقله.
(ب) كتب النجوم والرياضيات
وعملت في السندهند كتابًا سميته جوامع الموجود لخواطر الهنود في حساب التنجيم، جاء ما تم منه ٥٥٠ ورقة. وهذبت زيج الأركند وجعلته بألفاظي إذ كانت الترجمة الموجودة منه غير مفهومة وألفاظ الهند فيها متروكة لحالها. وعملت كتابًا في المدارين المتحدين والمتساويين، وسميته بخيال الكسوفين عند الهند وهو معني مشتهر فيما بينهم لا يخلو منه زيج من أزياجهم، وليس بمعلوم عند أصحابنا. وعملت تذكرة في الحساب والعد بأرقام السند والهند في ٣٠ ورقة، وكيفية رسوم الهند في تعلم الحساب، وتذكرة في أنَّ رأي العرب في مراتب العدد أصوب من رأي الهند فيها، وفي راسكيات الهند، وترجمة ما في إبرهم سدهاند من طرق الحساب، ومقالة في تحصيل الآن من الزمان عند الهند. ومقالة في الجوابات على المسائل الواردة من منجمي الهند. ومقالة في حكاية طريقة الهند في استخراج العمر. وترجمة كلب باره وهي مقالة للهند في الأمراض التي تجري مجرى العفونة.
وغير ذلك، فيؤخذ من هذا أنَّ الهنود أهل علم ورأي في النجوم وعلومها وأنَّ المسلمين نقلوا عنهم شيئًا كثيرًا.
(ﺟ) كتب الأدب
(٧-٤) الكتب المنقولة عن النبطية
غير ما لا بد من نقله من كتب الدين وأخبار الكلدان القدماء.
(٧-٥) الكتب المنقولة عن العبرانية واللاتينية والقبطية
ولا يبعد أن يكون قد نقل إلى العربية بعض الكتب عن اللاتينية؛ لأنَّها كانت تحوي كثيرًا من العلوم الفلسفية والتاريخية والشرعية وغيرها، وربما فات نقلة الأخبار ذكر ما نقل عنها. وقد رأينا في جملة المترجمين أنَّ يحيى بن البطريق لا يعرف غير اللغة اللاتينية وأنَّه ترجم عدة كتب، فالظاهر أنَّه ترجمها عن اللاتينية.
(٨) الخلاصة
وفي الجملة فإنَّ المسلمين نقلوا إلى لسانهم معظم ما كان معروفًا من العلم والفلسفة والطب والنجوم والرياضيات والأدبيات عند سائر الأمم المتمدنة في ذلك العهد، ولم يغادروا لسانًا من ألسن الأمم المعروفة إذ ذاك لم ينقلوا منه شيئًا، وإن كان أكثر نقلهم عن اليونانية والفارسية والهندية. فأخذوا من كل أمة أحسن ما عندها، فكان اعتمادهم في الفلسفة والطب والهندسة والموسيقى والمنطق والنجوم على اليونان، وفي النجوم والسير والآداب والحكم والتاريخ والموسيقى على الفرس، وفي الطب (الهندي) وفي الفلاحة والزراعة والتنجيم والسحر والطلاسم على الأنباط والكلدان، وفي الكيمياء والتشريح على المصريين، فكأنَّهم وَرِثُوا أهم علوم الآشوريين والبابليين والمصريين والفرس والهنود واليونان، وقد مزجوا ذلك كله وعجنوه واستخرجوا منه علوم التمدن الإسلامي (الدخيلة).
ومما نلاحظه من أمر ذلك النقل أنَّ العرب، مع كثرة ما نقلوه عن اليونان، لم يتعرضوا لشيء من كتبهم التاريخية أو الأدبية أو الشعر، مع أنَّهم نقلوا ما يقابلها عند الفرس والهنود، فقد نقلوا جملة صالحة من تواريخ الفرس وأخبار ملوكهم وترجموا الشاهنامة. ولكنهم لم ينقلوا تاريخ هيرودتس، ولا جغرافية إسترابون، ولا إلياذة هوميروس ولا أوديسته. والسبب في ذلك أنَّ أكثر ما بعث المسلمين على النقل رغبتهم في الفلسفة والطب والنجوم والمنطق، لأسباب تقدم بيانها. وأما التواريخ والآداب فقد كان التراجمة ينقلونها غالبًا من عند أنفسهم، حبًّا في إظهار مآثر أسلافهم أو جيرانهم. فالمترجمون الفرس نقلوا شيئًا من تواريخ الفرس وآدابهم، وكذلك فعل التراجمة السريان بآداب أجدادهم وكذلك التراجمة الهنود. فلو كان في أولئك المترجمين واحد من اليونان لنقلوا كثيرًا من تواريخ أمتهم وأشعارها.
ولا ريب أنَّ من جملة ما منعهم من نقل الإلياذة إلى العربية ذكر الآلهة والأصنام فيها، ولكنَّ في الشاهنامة أيضًا كثيرًا من ذلك فلم يمنعهم من نقلها.
ويلاحظ أيضًا أنَّ العرب نقلوا من علوم تلك الأمم في قرن وبعض القرن ما لم يستطع الرومان بعضه في عدة قرون، وذلك شأن المسلمين في أكثر أسباب تمدنهم العجيب.
(٨-١) محاسبة الخلفاء للعلماء غير المسلمين
ومن العوامل الفعالة في سرعة نضج العلم في النهضة العباسية، وكثرة ما ترجم في تلك المدة القصيرة، أنَّ الخلفاء أصحاب تلك النهضة كانوا يبذلون كل مرتخص وغالٍ في سبيل نقل الكتب، ويُرغِّبون النقَلة وغيرهم بالبذل والإكرام والمحاسنة، بقطع النظر عن مللهم أو نحلهم أو أنسابهم، وقد كان فيهم النصراني واليهودي والصابئ والسامري والمجوسي. فكان الخلفاء يعاملونهم كافة بالرفق والإكرام، مما يصح أن يكون مثالًا للاعتدال والحرية وقدوة لولاة الأمور في كل العصور.
أما بذل الأمول للأطباء فلا حاجة إلى ذكره لشهرته، ومن مراجعة ثروة جبريل بن بختيشوع في الجزء الثاني من هذا الكتاب كفاية. فضلًا عما كانوا يكسبونهم من الأموال غير الرواتب، فإن المأمون أمر أن كل من يتقلد عملًا لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يلقى طبيبه جبريل ويكرمه. وللمأمون شعر فيه:
فكيف لا يزهو العلم ويزهر ويثمر في ظل هؤلاء؟
ويقال نحو ذلك في دولة الأندلس، فقد كان للأطباء والعلماء في أيام الحكم المستنصر بن الناصر ما كان لهم في أيام المأمون لمشابهة بين الخليفتين. فقد كان الحكم محبًّا للعلم والعلماء جمَّاعًا للكتب كما سيأتي. على أنَّ حال هؤلاء العلماء كانت تختلف باختلاف الخلفاء واختلاف العصور.
(٨-٢) انتشار العلوم الدخيلة في المملكة الإسلامية
لم تكد العلوم الدخيلة تنقل إلى العربية حتى أخذ المسلمون في درسها والاشتغال بها. وكان اشتغالهم في بادئ الرأي على سبيل التلخيص أو الشرح أو التعليق، حتى إذا نضج تمدنهم وانتشرت العلوم في البلاد — للأسباب الآتية — أخذ المسلمون في التأليف من عند أنفسهم، وبعد أن كانت العلوم في القرنين الأولين نقلية إنما تحتاج إلى الادخار في الذاكرة، أصبحت في القرنين التاليين وما بعدهما عقلية عمدتها النظر والقياس والتحليل والتركيب.
ومات المتوكل مقتولًا سنة ٢٤٧ﻫ، قتله رجاله بتحريض ابنه فاضطربت أحوال الخلافة واستفحل شأن الأتراك، فنفرت قلوب طلبة العلم وأكثرهم من الفرس والعرب، فتفرقوا من بغداد رويدًا رويدًا إلى أنحاء المملكة الإسلامية شرقًا وغربًا، ولذلك كان أكثر من ظهر من العلماء — بعد نضج العلم في القرن الرابع للهجرة فما بعده — إنما نبغوا خارج بغداد، وفيهم الأطباء والفلاسفة والمهندسون والمتكلمون وأصحاب المنطق والفقهاء واللغويون وغيرهم.
فكان مركز الطب والطبيعيات والفلسفة — عند ظهور الإسلام — في الإسكندرية، ثم انتقل في أيام عمر بن عبد العزيز في آخر القرن الأول للهجرة إلى أنطاكية. وكان مركز العلوم الإسلامية في أول الإسلام في المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ومنها إلى الكوفة. فلما بنيت بغداد انتقلت إليها تلك العلوم، ثم انضمت إليها العلوم الدخيلة، فأصبحت بغداد أم المدائن في العلم والأدب والفلسفة والطب وسائر العلوم العقلية والنقلية. فلما اضطربت أحوال الخلافة في أيام المتوكل، ثم لما نشأت الدول الجديدة في أنحاء المملكة الإسلامية بالتفرع والتشعب على مقتضى ناموس الارتقاء، تفرق العلماء وأصبح للعلم مراكز كثيرة قد يتفاضل بعضها على ببعض. وتدرج الانتقال من بغداد أولًا إلى العراق العجمي، فخراسان وما وراء النهر من المشرق ثم إلى القاهرة وما إليها من المغرب والأندلس.
وبالجملة فإنَّ بذور العلم التي ألقاها خلفاء النهضة العباسية في بغداد، ظهرت ثمارها في خراسان والري وخوزستان وأذربيجان وما وراء النهر، وفي مصر والشام والأندلس وغيرها. وظلت بغداد مع ذلك حافلة بالعلماء بقوة الاستمرار، وبما فيها من أسباب الثروة ولأنها مركز الخلافة. فنبغ فيها جماعة من أهل العلم المسلمين، فضلًا عن الأطباء النصارى الذين كانوا يخدمون الخلفاء في التطبيب والترجمة.
على أنَّ أكثر العلماء غير المسلمين، الذين نبغوا فيها بعد تلك النهضة، كانوا يتقاطرون إليها من أنحاء جزيرة العراق وغيرها لخدمة الخلفاء، أما المسلمون فالغالب أن يكون ظهورهم خارج العراق، ولا سيما وأنَّ أكثر ملوك الدول الجديدة التي تفرعت من الدولة العباسية اقتدوا بخلفاء النهضة العباسية، في ترغيب أهل العلم واستقدامهم إلى عواصمهم في القاهرة وغزنة ودمشق ونيسابور وإصطخر وغيرها. فالرازي من الري، وابن سينا من بخارى في تركستان، والبيروني من بيرون في بلاد السند، وابن جلجل النباتي من أهل الأندلس، وكذلك ابن باجة الفيلسوف وابن زهر الطبيب وأقاربه آل زهر وابن رشد وابن الرومية النباتي وكلهم من الأندلس.
أما مصر فأكثر أطبائها المشاهير من النصارى واليهود والسامريين، وقد نبغ فيها ابن الهيثم من أهل الفلسفة والطبيعيات، وعلي بن رضوان الطبيب الشهير والشيخ السديد رئيس الأطباء، ورشيد الدين أبو حليقة الطبيب الفيلسوف، وضياء الدين بن البيطار النباتي الشهير. أما الشام فقد نبغ منها الفارابي الفيلسوف، وأبو المجد بن أبي الحكم، وشهاب الدين السهروردي، وموفق الدين البغدادي الرحالة، ناهيك بعدد عديد من النصارى الذين خدموا الخلفاء والأمراء في الطب والفلسفة وغيرهما ممن نبغ في الشام.
ويقال نحو ذلك في علماء العلوم الإسلامية، كالفقهاء والمحدثين واللغويين والشعراء، فإنَّهم مع بقاء بغداد آهلة بهم فقد ظهر جماعة كبيرة منهم في خارجها، وألقابهم تدل على أماكنهم، كالبخاري والشيرازي والنيسابوري والسجستاني والفرغاني والبلخي والخوارزمي والفيروزابادي والحموي والدمشقي والفيومي والسيوطي والقرطبي والإشبيلي وغيرهم.
(٨-٣) الخلفاء والأمراء والعلم
(أ) اشتغال الخلفاء والأمراء بالعلم
فلا غرو إذا احتفى الخلفاء والأمراء بأهل العلم وحاسنوهم، وهم أنفسهم كانوا من طلبة العلم ومريديه، وإذا كان الملك أو الأمير عالمًا زها في أيامه العلم وسعد خَدَمته. ومن شروط الخلافة في الإسلام أن يكون الخليفة عالمًا بالأمور الشرعية، ولذلك كان الخلفاء في الغالب عالمين بها، يعقدون المجالس للنظر فيها ويقربون الفقهاء والمحدثين، وتطرقوا من ذلك إلى الرغبة في النحو واللغة والتاريخ، لارتباط تلك العلوم بعضها ببعض، والعلم مترابط يطلب بعضه بعضًا. فلما أقاموا في العراق، وأحاط بهم أهل العلوم الطبيعية والفلسفة والنجوم من السريان والفرس، واطلعوا على شيء من تلك العلوم، تاقت أنفسهم إليها واشتغلوا بها، وكان ذلك الاشتغال باعثًا على استنارة الخلفاء والأمراء، فنبغ من ذلك العصر فما بعده جماعة من الخلفاء، انتظموا في سلك أهل العلم الطبيعي فضلًا عن الأدبي.
وكان هؤلاء الخلفاء أو الأمراء يقدمون أهل العلم ويستوزرونهم. ومن الوزراء العلماء: يحيى بن خالد وزير الرشيد، ويعقوب بن كلس وزير العزيز بالله بمصر، وكذلك كان أكثر الوزراء في الدولة العباسية وغيرها.
(ب) تأليف الكتب للخلفاء والأمراء
على أنَّ بعض العلماء كانوا يُؤلِّفون الكتب لأبنائهم وإخوانهم وأصدقائهم لا يلتمسون على ذلك أجرًا، وقد يؤلفون لأنفسهم، ومن لطيف ما جاء في مقدمة كتاب حياة الحيوان للدميري قوله: «هذا الكتاب لم يسألني أحد تأليفه».
(٨-٤) المؤلِّفون والمؤلَّفات
فلا عجب والحالة هذه إذا كثر المؤلفون وتعددت مؤلفاتهم واتسعت مباحثهم، وكان منهم الملوك والأمراء والوزراء والأغنياء والفقراء، وفيهم العرب والفرس والروم واليهود والسريان والهنود والترك والديلم والقبط، وغيرهم من الملل الخاضعة للإسلام في أنحاء العالم المتمدن يومئذ، في الشام ومصر والعراق وفارس وخراسان وما وراء النهر والهند وفي المغرب والأندلس وغيرها. وقد حوت مؤلفاتهم البحث في كل ما أنتجته قريحة الإنسان إلى ذلك الزمان، من الطبيعيات والإلهيات والعقليات والرياضيات والنقليات. ودعت أبحاثهم الواسعة إلى تشعب العلوم وتفرعها حتى زادت على خمسمائة علم، ذكرها طاشكبرى زاده في مفاتيح العلوم، ومنها ما لم يكن له وجود قبل الإسلام، كالاقتصاد السياسي، وفلسفة التاريخ، والموسوعات التاريخية، والجغرافية. غير العلوم الإسلامية الخاصة بلغة العرب وآداب المسلمين.
وقد تعددت مؤلفاتهم حتى أصبحت تعد بعشرات الألوف، ويستدل على كثرتها مما بقي من خبرها إلى القرن الحادي عشر للهجرة على ما في كشف الظنون. فقد بلغ عدد المؤلفات المذكورة هناك ١٤٥٠١ غير الشروح والتعاليق، وغير ما ضاع خبره منها في النكبات المتوالية في أثناء الفتن الداخلية بين الفرق الإسلامية وغيرها، وما كان يحرقه ولاة الأمر من كتب الفلسفة ومتعلقاتها، اضطهادًا لأصحابها كما سيجيء. حتى ذهب معظم ما ترجموه أو ألفوه ولم يبقَ منها إلا النَّزْر اليسير.
ولا ريب عندنا أنَّ الضائع من كتب المسلمين يزيد على أضعاف الباقي. ومما يؤيد ذلك أنَّ بعض المؤلفين القدماء. كالمسعودي والطبري وابن الأثير وغيرهم، ذكروا في مقدمات كتبهم كثيرًا من أسماء المؤلفات التي نقلوا كتبهم عنها وقلَّما نجد أسماءها في الفهارس.
ومن المؤلفين المسلمين من بلغت مؤلفاته بضع مئات إلى الألف، فمؤلفات أبي عبيدة ٢٠٠ مؤلف في علوم مختلفة، ومؤلفات ابن سريج ٤٠٠، ومؤلفات ابن حزم ٤٠٠ مجلد، ومؤلفات القاضي الفاضل مائة كتاب.
والغالب في المؤلفات الكبرى عندهم أنْ تكون من قبيل الموسوعات الحاوية في موضوعها وما يقاربه. فمعجم ياقوت موضوعه الأصلي في الجغرافية، ولكنه يحوي تراجم جماعة كبيرة من علماء الإسلام وأدبائه. والأغاني في الغناء ولكنه يشمل فوائد ذات شأن في تاريخ العرب وآدابهم في الجاهلية وأوائل الإسلام، والعقد الفريد كتاب في الأدب، ولكن فيه فوائد كثيرة في الشعر والعروض والأخلاق والتاريخ وغيرها، وقس على ذلك سائر كتب التراجم أو التواريخ المطولة. ومن هذا القبيل الكتب الطبية كالقانون لابن سينا، فإنَّه عبارة عن قاموس جامع لفنون الطب كالتشريح والفسيولوجيا والباثولوجيا والنبات والصيدلة وغيرها، وكذلك كتاب الرازي. وقد يجمع الكتاب الواحد موضوعات متباعدة، ككتاب حياة الحيوان للدميري، فإنَّ موضوعه علم الحيوان ولكنه حوى شيئًا كثيرًا من التاريخ والآداب والأخلاق والطب والصيدلة والنبات، والكشكول كتاب في الأدب والحكم ولكن فيه مقالات وفصولًا في فنون متناقضة، كالجبر والهندسة والمنطق والنجوم والفلسفة والتاريخ والأدب واللاهوت والفقه والحديث وغيرها.
(٩) تأثير الإسلام في العلوم الدخيلة
لما نضج التمدن الإسلامي وانتشرت العلوم الدخيلة في بلاد الإسلام، عني المسلمون بدرسها ونبغ منهم جماعة فاقوا أصحابها وأدخلوا فيها آراء جديدة، فتنوعت وارتقت على ما اقتضاه الإسلام والآداب الإسلامية وما مازجها من علوم الأمم الأخرى، فأصبحت على شكل خاص بالتمدن الإسلامي. فلما نهض أهل أوربا إلى استرجاع علوم اليونان، أخذوا معظمها عن اللغة العربية وفيها الصبغة الإسلامية. فلنبحث فيما أثره التمدن الإسلامي في علوم التمدن القديم.
(٩-١) الفلسفة في الإسلام
قرأ المسلمون الفلسفة في كتب أفلاطون وأرسطو، وما علقه عليها اليونان من الشروح وأضافوا إليها من الآراء، وهي تشمل المنطق والطبيعيات والإلهيات والأخلاق. فبدأ المسلمون أولًا بدرس هذه الكتب، ثم أخذوا في شرحها أو تلخيصها، ثم عمدوا إلى الكتابة في تلك الموضوعات من عند أنفسهم،. ويندر أن يشتغل الواحد منهم في الفلسفة دون الطب والنجوم، أو في الطب دون الفلسفة والنجوم، أو بالعكس. ومن أقوال حنين: «إنَّ الطبيب يجب أن يكون فيلسوفًا» لكنهم كانوا يلقبون العالم بما غلب اشتغاله فيه.
(أ) الفلاسفة المسلمون في الشرق
المجموع كله | ٢٣١ كتابًا |
في الفلسفة | ٢٢ كتابًا |
في الحساب | ١١ كتابًا |
في النجوم | ١٩ كتابًا |
في الهندسة | ٢٣ كتابًا |
في الفلكيات | ١٦ كتابًا |
في الطب | ٢٢ كتابًا |
في الجدل | ١٧ كتابًا |
في السياسة | ١٢ كتابًا |
في الأحداث | ١٤ كتابًا |
في الطبيعيات إلخ | ٣٣ كتابًا |
في الكريات | ٨ كتب |
في المنطق | ٩ كتب |
في الموسيقى | ٧ كتب |
في الأحكام | ١٠ كتب |
في النفس | ٥ كتب |
في الأبعاد | ٨ كتب |
في تقدمة المعرفة | ٥ كتب |
وأكثر هذه الكتب قد ضاع. ويتضح من مراجعة أسمائها أنَّ الرجل كان كثير التضلع في هذه العلوم، حتى انتقد أصحابها وخطأهم. وللكندي تلامذة حذوا حذوه.
وممن غلبت عليه الفلسفة من علماء المسلمين الشيخ الرئيس ابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ﻫ، وله من المؤلفات نحو مائة كتاب منها ٢٦ في الفلسفة فقط، ومنهم أبو حامد الغزالي الملقب حجة الإسلام المتوفى سنة ٥٠٥ﻫ، وهو إمام التصوف … غير الذين ظهروا في الأندلس، وسيأتي ذكرهم. على أنَّ الإفاضة في ذكر الفلاسفة ومؤلفاتهم وآرائهم من متعلقات «تاريخ آداب اللغة»، فنقتصر هنا على تاريخ الفلسفة في الإسلام وما كان من تأثيرها في الدين والعلم.
أهم ما كان من تأثير الفلسفة في الإسلام أنهم بنوا عليها علم الكلام وأيدوه بها، لتقوى حجتهم فيما قام بينهم من المجادلات المذهبية، واشتهر علم الكلام في المسلمين وعكفوا على درسه، وخصوصًا المعتزلة، واشتهر به جماعة من علية القوم، وفي جملتهم الشريف المرتضى والزمخشري والباقلاني وغيرهم.
(ب) جمعية إخوان الصفا
وقد دونوا فلسفتهم هذه في خمسين رسالة سموها رسائل إخوان الصفا، وكتموا أسماءهم. وهي تمثل الفلسفة الإسلامية على ما كانت عليه في إبان نضجها، وتشمل: النظر في مبادئ الموجودات، وأصول الكائنات إلى نضد العالم، فالهيولي والصورة، وماهية الطبيعة، والأرض والسماء ووجه الأرض وتغيراته، والكون والفساد، والآثار العلوية، والسماء والعالم، وعلم النجوم، وتكوين المعادن، وعلم النبات، وأوصاف الحيوانات، ومسقط النطفة وكيفية رباط النفس بها، وتركيب الجسد، والحاس والمحسوس، والعقل والمعقول، والصنائع العلمية والعملية، والعدد وخواصه، والهندسة والموسيقى، والمنطق وفروعه، واختلاف الأخلاق، وطبيعة العدد، وأنَّ العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير، والأكوار والأدوار، وماهية العشق والبعث والنشور، وأجناس الحركات، والعلل والمعلولات، والحدود والرسوم … وبالجملة فقد ضمنوها كل علم طبيعي أو رياضي أو فلسفي أو إلهي أو عقلي. وبين أيدينا خلاصة هذه الرسائل مطبوعة في ليبسك بعناية الدكتور ديتريشي في نحو ٦٥٠ صفحة كبيرة. ويظهر من إمعان النظر فيها أنَّ أصحابها كتبوها بعد البحث الدقيق والنظر الطويل. وفي جملة ذلك آراء لم يصل أهل هذا الزمان إلى أحسن منها. وفي ذلك الكتاب فصل في كيفية عشرة إخوان الصفا وتعاونهم بصدق المودة والشفقة، وأن الغرض منها التعاضد في الدين. وذكروا شروط قبول الإخوان فيها وغير ذلك.
(ﺟ) فلاسفة الأندلس
وكانت الفلاسفة قد دخلت الأندلس في أيام عبد الرحمن الأوسط كما تقدم، وقد أخذ الأندلسيون بشيء منها، وظهر فيهم جماعة اشتهروا بعلوم الأوائل والنجوم، وأولهم أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة تُوفي في أواخر القرن الثالث للهجرة. ثم يحيى بن يحيى القرطبي المعروف بابن السمينة المتوفى سنة ٣١٥ﻫ، وأبو القاسم مسلمة بن أحمد المعروف بالمرجيطي أو المجريطي من أهل قرطبة، كان إمام الرياضيين في عصره بالأندلس توفي سنة ٣٩٨ﻫ، وأنجب تلامذة جلة، أشهرهم ابن السمح المهندس الغرناطي، وابن الصفار أستاذ الرياضيات في قرطبة، والزهراوي صاحب كتاب الأركان في المعاملات على طريق البرهان، وأبو الحكم عمرو الكرماني المتقدم ذكره، فإنَّه رحل إلى المشرق حتى نزل حران وتعلم فيها الهندسة والطب، ثم رجع برسائل إخوان الصفا إلى الأندلس وتوفي في سرقسطة سنة ٤٥٨ﻫ.
على أنَّ هؤلاء إنَّما اقتصروا من علوم الأوائل على الرياضيات والنجوم والهندسة ونحوها، أما الفلسفة بمعناها الحقيقي فلم يُعن أهل الأندلس بها إلا بعد دخول رسائل إخوان الصفا، وكان المستنصر بن الناصر قد استجلب كتب الفلسفة من المشرق فتداولها النَّاس، ولكنَّهم لم ينبغوا فيها إلا بعد مطالعة تلك الرسائل. فنبغ أبو بكر بن باجة الفيلسوف الأندلسي الشهير المتوفى سنة ٥٣٣ﻫ، ويعرف بابن الصائغ، ومن تلاميذه القاضي أبو الوليد بن رشد الفيلسوف القرطبي المتوفى سنة ٥٩٥ﻫ، ونبغ أيضًا ابن الطفيل وابن هود وغيرهما، وقد ألفوا المؤلفات الضافية في فروع الفلسفة مما اتخذه الإفرنج قاعدة لفلسفتهم في أوائل نهضتهم.
(٩-٢) الطب في الإسلام
(أ) الطب الإسلامي
الطب الإسلامي خلاصة ما بلغ إليه علم الطب عند الأمم المتمدنة قبل الإسلام؛ لأنَّ المسلمين نقلوا إلى لسانهم كتب أبقراط وجالينوس وغيرهما من أطباء اليونان، واطلعوا على ما كان عند السريان من الطب اليوناني الممزوج ببقايا طب الكلدان القدماء، ونقل إليهم أطباء مدرسة جنديسابور طب اليونان بصبغته الفارسية، واطلعوا على طب الهنود ممن جاءوا بغداد من أطبائهم، غير ما كان عند العرب في أيام الجاهلية وتنُوقل في الإسلام.
ومن تفاعل هذه العناصر وتمازجها تألف الطب الإسلامي، الذي تمثل بعد نضج العلم في الكتاب الملكي (أو الملوكي) لأبي بكر الرازي الملقب جالينوس العرب، ألفه للملك عضد الدولة بن بويه وجمع فيه كل ما وجده متفرقًا من ذكر الأمراض ومداواتها في كتب القدماء إلى زمانه في أواسط القرن الرابع للهجرة، وللرازي من كتب الطب والفلسفة وغيرهما شيء كبير.
ومن الكتب الطبية الإسلامية التي استفاد منها الإفرنج في نهضتهم الأخيرة كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف» لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي الأندلسي من أهل القرن الخامس للهجرة، وهو قاموس في الطب ويمتاز عن سواه بالقسم الجراحي، وكتاب التيسير لعبد الملك بن زهر الأندلسي ألفه لابن رشد الفيلسوف في أواسط القرن السادس للهجرة، وأطباء المسلمين كثيرون، وكتبهم كثيرة لا محل لذكرها هنا.
(ب) الأطباء المسلمون
وكان الأطباء طبقات وأصنافًا، وفيهم الطبيب على إجماله والجرَّاح والفاصد والكحَّال والأسناني، ومن يعالج النساء والمحاظي فقط أو يُطبب المجانين فقط. على نحو الأطباء الإخصائيين في هذه الأيام. وكان الكحالون في مصر أكثر منهم في سواها لتعرضهم لأمراض العين، وكانوا يُعالجون الماء الأزرق بقدح العين على نحو عملية الكتركتا اليوم.
وكان الفحص الطبي عندهم مقصورًا على فحص البول وجس النبض، فيأتي المريض ومعه قارورة الماء، أي زجاجة البول، فيسلمها إلى الطبيب فينظر فيها ثم يذوقها، ليتحقق وجود الحوامض أو القوابض أو السكر فيها، ثم يجس النبض وعند ذلك يحكم في حال المريض، لاعتقادهم أنَّ النبض يدل على مزاج القلب، والبول على مزاج الكبد وحال الأخلاط، ومهما يكن من اعتقادهم فإنَّ هذه الطريقة لا تزال مما يعول عليه الأطباء إلى اليوم.
(ﺟ) ما الذي أحدثه المسلمون في الطب
وقد وجد محققو الإفرنج أنَّ العرب أول من استخدم الكاويات في الجراحة على نحو استخدامها اليوم، وأنَّهم أول من وجه الفكر إلى شكل الأظافر في المصدورين، ووصفوا علاج اليرقان والهواء الأصفر، واستعملوا الأفيون بمقادير كبيرة لمعالجة الجنون، ووصفوا صب الماء البارد لقطع النزف، وعالجوا خلع الكتف بالطريقة المعروفة في الجراحة بردِّ المقاومة الفجائي، ووصفوا إبرة الماء الأزرق وهو قدح العين، وأشاروا إلى عملية تفتيت الحصاة، وقد ألف العرب في بعض فروع الطب ما لم يسبق أحد إلى مثله. فالجذام أول من كتب فيه أطباؤهم، وأول كتاب في هذا الموضوع ليوحنا بن ماسويه وهم أول من وصف الحصبة والجدري بكتاب لأبي بكر الرازي، غير ما ألفوه من الموسوعات الضافية في الطب.
(د) الصيدلة والكيمياء والنبات
وأما النبات فللعرب القدح المعلى في درسه والتأليف فيه، وقد أخذوا هذا العلم في النهضة العباسية عن مؤلفات ديسقوريدس وجالينوس ومن كتب الهند. نقل كتاب ديسقوريدس في أيام المتوكل، نقله إصطفان بن باسيل من اليونانية إلى العربية، فالعقاقير التي لم يعرف لها أسماء في العربية تركها على لفظها اليوناني اتكالًا على أن يبعث الله بعده من يعرف ذلك ويفسره. وحمل هذا الكتاب إلى الأندلس على هذه الصورة، فانتفع به الناس إلى أيام الناصر صاحب الأندلس في أواسط القرن الرابع للهجرة. فكاتَبه ملك القسطنطينية سنة ٣٣٧ﻫ وهاداه بكتب من جملتها كتاب ديسقوريدس باليونانية «مصور الحشائش» بالتصوير الرومي العجيب، ولم يكن في الأندلس من يحسن اليونانية، فبعث الناصر إلى الملك يطلب إليه رجلًا يعرف اليونانية واللاتينية لينقله إلى اللاتينية، وعارفو هذه اللغة في الأندلس كثيرون. فبعث إليه راهبًا اسمه نقولا وصل قرطبة سنة ٣٤٠ﻫ، فتعاونوا على استخراج ما فات ابن باسيل تعريبه من عقاقير هذا الكتاب، ثم جاء ابن جلجل في آخر القرن الرابع فألف كتابًا فيما فات ديسقوريدس ذكره من أسماء العقاقير وجعله ذيلًا على ذلك الكتاب.
(ﻫ) المارستانات في الإسلام
المارستان أو البيمارستان لفظ فارسي معناه مكان المرضى ويقابله اليوم المستشفى، ولكن المارستانات كانت في التمدن الإسلامي تشمل مدارس الطب والمستشفيات معًا؛ لأنَّهم كانوا يُعلّمون الطب فيها. والعرب أخذوا المارستانات عن الفرس وأنشأوها على مثال مارستان جنديسابور المتقدم ذكره.
وظل المارستان العضدي صدر المارستانات حتى بنى نور الدين زنكي مارستانه الكبير في دمشق في أواسط القرن السادس، ثم بنى صلاح الدين الأيوبي المارستان العتيق في القاهرة وغيره. ولما تولى السلاطين المماليك مصر بنى الملك المنصور قلاوون المارستان المنصوري بالقاهرة سنة ٦٨٣ﻫ على مثال مارستان دمشق، وصفه المقريزي وصفًا مسهبًا في الجزء الثاني من خططه. ولا تزال آثار المارستان المنصوري باقية إلى اليوم في شارع النحاسين. ثم بنى الملك المؤيد سنة ٨٢١ﻫ المارستان المؤيدي بمصر، ناهيك بما أنشأوه من المارستانات في سائر بلاد الإسلام في فارس وخراسان والموصل والشام والأندلس وغيرها، مما يطول شرحه. وفي رحلة ابن جُبير وصف ما شاهده بنفسه من مارستانات المسلمين في القرن السادس للهجرة هناك.
(٩-٣) التنجيم والنجوم أو الفلك
النجوم عند القدماء علمان: علم طبيعي ينظر في النجوم من حيث مواضعها وحركاتها وأحكامها بالنظر إلى الخسوف والكسوف، وعلم ينظر فيها باعتبار علاقاتها بحوادث العالم من حيث الحرب والسلم والولادة والوفاة والسعد والنحس والمطر والصحو ونحو ذلك. وتسهيلًا للبحث نُسمِّي الأول علم النجوم أو الفلك، والثاني على التنجيم. وقد علمتَ مما تقدم أنَّ العرب كانوا يعرفون هذين العلمين، فلما تمدنوا ونقلوا العلم أضافوا ما أخذوه عن اليونان والفرس والهند والكلدان إلى ما كان عندهم، فتولد من ذلك كله التنجيم والنجوم عند المسلمين.
(أ) التنجيم
(ب) علم النجوم أو الفلك
كان للمسلمين حظ وافر في علم النجوم وفضل كبير عليه، يكفيك أنَّهم جمعوا فيه بين مذاهب اليونان والهند والفرس والكلدان والعرب الجاهلية. شأنهم في أكثر العلوم الدخيلة. فقد رأيت أنَّ محمد الفزاري نقل السندهند للمنصور؛ ليكون قاعدة علم النجوم عند العرب، وأنَّه ظلَّ معولهم عليه إلى عصر المأمون. وفي أيامه نبغ محمد بن موسى الخوارزمي، وكان منقطعًا إلى بيت الحكمة وله علم واسع في النجوم، فاصطنع زيجًا جمع فيه بين مذاهب الهند والفرس والروم، فجعل أساسه على السندهند وخالفه في التعاديل والميل، فجعل تعاديله على مذاهب الفرس، وجعل ميل الشمس فيه على مذهب بطليموس، واخترع فيه أبوابًا حسنة فاستحسنه أهل عصره وطاروا به في الآفاق، ولكنَّه جعل تاريخه على الحساب الفارسي، فنقله مسلمة بن أحمد المرجيطي الأندلسي المتوفى سنة ٣٩٨ﻫ إلى الحساب العربي، ووضع أواسط الكواكب لأول تاريخ الهجرة. والزيج كتاب فيه جداول حركات الكواكب يُؤخذ منها التقويم.
(ﺟ) المراصد
الرصد أساس علم الفلك وعليه المعول في تعيين أماكن النجوم وحركاتها، وكان له شأن كبير عند اليونان فرصدوا الكواكب واصطنعوا آلات الرصد. وفي القرن الثالث قبل الميلاد بنوا مرصدًا في الإسكندرية بلغ قمة ارتفاعه على عهد بطليموس القلوذي صاحب المجسطي. وظل المرصد الإسكندري وحيدًا في العالم، حتى نهض العرب، وأنشأوا المراصد في بغداد ودمشق ومصر والأندلس ومراغة وسمرقند وغيرها كما سيجيء.
آلات الرصد
- (١) اللبنة: وهي جسم مربع مستوٍ، يستعلم به الميل الكلي وأبعاد الكواكب وعرض البلد.
- (٢) الحلقة الاعتدالية: هي حلقة تنصب في سطح دائرة المعدل، ليعلم بها التحويل الاعتدالي.
- (٣) ذات الأوتار: هي أربع أسطوانات مربعة تغني عن الحلقة الاعتدالية، ويعلم بها تحويل الميل.
- (٤) ذات الحلق: هي أعظم الآلات هيئة ومدلولًا. وتركب من حلقة تقوم مقام منطقة فلك البروج، وحلقة تقوم مقام المارة بالأقطاب، تركب إحداهما في الأخرى بالتصنيف والتقطيع. وحلقة الطول الكبرى وحلقة الطول الصغرى تركب الأولى في محدب المنطقة والثانية في مقعرها. وحلقة نصف النهار وقطر مقعرها مساو لقطر محدب حلقة الطول الكبرى. ومن حلقة الأرض قطر محدبها قدر قطر مقعر حلقة الطول الصغرى. وهي توضع على كرسي.
- (٥) ذات السمت والارتفاع: هي نصف حلقة قطرها سطح من سطوح أسطوانة متوازية السطوح، يعلم بها السمت وارتفاعه، وهي من مخترعات الرُّصَّاد الإسلاميين.
- (٦) ذات الشعبتين: هي ثلاث مساطر على كرسي، يعلم بها الارتفاع.
- (٧) ذات الجيب: هي مسطرتان منتظمتان انتظام ذات الشعبتين.
- (٨) المشتبهة بالناطق: لمعرفة ما بين الكوكبين من البعد، وهي ثلاث مساطر.
- (٩) الأسطرلاب: وهو أنواع كثيرة، منها: التام، والمسطح، والطوماري، والهلالي، والزورقي، والعقربي، والآسي، والقوسي، والجنوبي، والشمالي، والمبطح، والمسرطق، وحق القمر، والمغني، والجامعة، وعصا موسى، ناهيك من آلات الرصد بالأرباع وأشكالها، ولكل شكل تنوعات مما لا يحصيه عد.٣٣٥
(د) المراصد في الإسلام
(ﻫ) علم النجوم والإسلام
ويعترف الأسبان أنَّ العرب علموهم الرقاص (البندول) لقياس الزمان، ولا يخفى ما بني على الرقاص من الآلات الفلكية وغيرها. على أنَّهم كانوا يعرفون عمل الساعات من قبل، ويقال: إنَّ الرشيد أهدى الملك شارلمان ساعة بديعة تناقل الإفرنج خبرها.
(٩-٤) الحساب والجبر والهندسة
وأما الجبر فللعرب فضل كبير في وضعه أو تأليفه، فقد رأيت في كلامنا عن نقل العلوم اليونانية أنَّ العرب نقلوا كتابين في الجبر، أحدهما لذيوفانتوس والآخر لأبرخس. وقد وجد الباحثون بعد نهضة التمدن الحديث أنَّ ما كتبه هذان ليس من الجبر في شيء، أو هي أصول ضعيفة لا يُعتد بها، وهم يعتقدون أنَّ الجبر من موضوعات العرب، والحقيقة على ما نرى أنَّ العرب بعد أن اطلعوا على حساب الهنود أضافوه إلى ما نقلوه عن اليونان، وبنوا على ذلك علم الجبر. ومن أشهر كتب المسلمين في الجبر كتاب الجبر والمقابلة للخوارزمي المذكور، فالظاهر أنَّ الخوارزمي جمع بين ما عثر عليه من الأصول الجبرية عند اليونان والهنود والفرس فاستخرج منه الجبر العربي، كما جمع في زيجه بين آراء الهند والفرس واليونان. وقد عني العرب بشرح كتاب الخوارزمي مرارًا. وألف أيضًا في الجبر أبو كامل شجاع بن أسلم، وأبو الوفاء البوزجاني، وأكثر مؤلفاته في الحساب، وأبو حنيفة الدينوري المتوفى سنة ٢١٨ﻫ، وأبو العباس السرخسي المتوفى سنة ٢٨٦ﻫ وغيرهم، ولما نهض الإفرنج في تمدنهم الحديث أخذوا الجبر عن العرب.
(٩-٥) الفنون الجميلة
الفنون الجميلة تسمية جديدة لما تنبسط له النفس من المصنوعات لجماله ورونقه لا لمنفعته ومتانته، والفنون التي تدخل في اعتبارهم تحت هذه التسمية قسمان: الأول تظهر أشكاله محسوسة كالحفر والتصوير والنحت والتمثيل (وتسمى الآن الفنون التشكيلية)، والثاني ما لا يحس ولا يرى بل هو من قبيل الخيال كالشعر والموسيقى. أو أنَّ الفنون المذكورة ترجع بكليتها إلى التصوير ولبعضها صور محسوسة كالمنحوتات والمرسومات، وللبعض الآخر صور خيالية كالشعر والموسيقى. والأمم التي تمدنت قبل الإسلام اشتغلت في هذه الفنون على تفاوت في إتقانها. وممن أجاد فيها المصريون واليونان والرومان، فإنَّهم نحتوا التماثيل وصوروا الصور ومثلوا الحوادث ونظموا الشعر وضبطوا الألحان.
ومن الاعتقادات الشائعة أنَّ التمدن الإسلامي مقصر في هذه الفنون؛ لأنه لم يخلف ما خلفه اليونان أو الرومان من الآثار الجميلة كالأبنية والتماثيل والصور ونحوها. ولو دققنا النظر لرأينا المسلمين أو العرب من أكثر الأمم استعدادًا للفنون الجميلة والإجادة فيها، لا يقلون شيئًا عن اليونان والرومان، وربما فاقوهما في بعضها. أما الجمال المحسوس فقد أجادوا فيما يتعلق منه بالبناء، ولهم نمط خاص فيه مشهور، ومن آثارهم البنائية الحمراء في الأندلس وجوامع القاهرة والشام وفارس والهند، وهي تدل على تقدم عظيم في هندسة البناء، مع ما فيها من زخارفه كالفسيفساء ونحوها مما يدهش النظر. ولهم نحو ذلك في الصياغة والنسج ونحوهما من الصنائع الجميلة. أما التصوير فلم يشتغلوا فيه؛ لأنَّه محرم عندهم كما هو معلوم.
أما الشعر فقد بينا فيما تقدم أنَّ العرب أكثر الأمم انطباعًا على الشعر وإتقانًا له وأكثرهم نظمًا وأوسعهم خيالًا.
(أ) الموسيقى
وأمَّا الموسيقى فالعرب فاقوا سواهم فيها، وقد وضعوا الألحان واخترعوا الآلات المطربة وأتقنوا صنعها، وكان للموسيقى عندهم شأن كبير، والمشهور أنَّ العرب كان عندهم من الألحان شيء يوافق سذاجتهم وخشونة الجاهلية، فلمَّا ظهر الإسلام واختلطوا بالروم والفرس اقتبسوا الموسيقى عن تلك الأمم قبل سائر العلوم الدخيلة؛ لأنَّ اقتباسها لا يحتاج إلى نقل أو ترجمة. وأول من فعل ذلك عبد مكي اسمه سعيد بن مسحج، كان حسن الصوت مغرمًا بالموسيقى، وكان في مكة عند حصار الأمويين لها على عهد عبد الله بن الزبير في الثلث الأخير من القرن الأول للهجرة. واستخدم ابن الزبير بعض رجال الفرس في ترميم الكعبة، فسمع ابن مسحج بعضهم يغني بالفارسية فطرب والتقط النغم منه، ثم رحل إلى الشام وفارس وأخذ الألحان الرومية والفارسية، وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم مما لا يألفه الذوق العربي، وغنَّى على هذا المذهب. وهو أول من فعل ذلك، وأخذ عنه من جاء بعده من مغنِّي المسلمين، فنبغ منهم جماعة كبيرة.
وكان الغناء يزداد إتقانًا ويزداد نبوغ المغنين كلما قربت الدولة من الترف والقصف، ولذلك كثروا في أواخر الدولة الأموية وأواسط الدولة العباسية ومن أشهر المغنين ابن سريج والغريض ومعبد وحكم الوادي وفيلج بن أبي العوراء وسياط ونشيط وعمر الوادي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وغيرهم. ومن المغنيات جميلة وحبابة وسلامة وعقيلة وغيرهن.
والآلات الموسيقية أخذوا أكثرها عن الفرس والأنباط والروم والهند، فقد كان لكل من هذه الأمم آلات خاصة يتغنون بها. كان غناء الفرس بالعيدان والصنوج، وغناء خراسان بالزنج ذات سبعة أوتار، إيقاعه يشبه إيقاع الصنج. وغناء أهل طبرستان والديلم بالطنابير. وغناء الأنباط والجرامقة بالعيروارات، وهي كالطنابير. والروم كان غناؤهم بآلة يُسمونها الأوعر عليها ١٦ وترًا، والسلبان له ٢٤ وترًا، واللوزا وهي كالرباب من خشب له خمسة أوتار، والقيثارة ولها ١٢ وترًا والصليح من جلود العجاجيل، والأرغن وهو منافخ من الجلود. وكان للهند الكيلكة بوتر واحد يمد على قرعة فيقوم مقام العود والصنج. وكان عند العرب الدف والمزهر. فالمسلمون جمعوا بين هذه الآلات الكثيرة، كما جمعوا بين علوم تلك الأمم واستخرجوا أحسنها وزادوا فيها وحسنوها، فضلًا عما استنبطوه من عند أنفسهم كالآلة المعروفة بالقانون، فقد اخترعها الفارابي الفيلسوف، وهو أول من ركبها هذا التركيب ولا تزال عليه إلى الآن.
وبالجملة إنَّ العرب لم يقصروا في الفنون الجميلة، بل هم فاقوا سواهم في أكثرها وإنَّما قصروا في بعضها مراعاة للدين.
(٩-٦) المدارس في الإسلام
(أ) التعليم
قد رأيتَ فيما تقدَّم أنَّ القرآنَ أساس العلوم الإسلامية، فتعليمه أساس التعليم الإسلامي، وأول دروس القرآن قراءته. فأول المعلمين في الإسلام النبي ﷺ علمه للصحابة، وهم علموه للناس مع ما ترتب عليه أو تفرع عنه من العلوم. ولهذا السبب كانت مدارس المسلمين في جوامعهم كما كانت مدارس النصارى في أديرتهم وكنائسهم. وكانوا يسمون التلامذة المجتمعين حول أستاذ يتلقون علمًا من العلوم «حلقة». وتفرعت العلوم بتوالي الأعوام واتسعت دوائرها، حتَّى أصبح للعلم الواحد عدة حلقات، والغالب أن تنسب الحلقة إلى أستاذها، فيقولون مثلًا: حلقة أبي إسحاق الشيرازي في جامع المنصور أو نحو ذلك. وكانوا يجعلون في كل جامع خزانة كتب للمطالعة أو الاستنساخ.
على أنَّ التعليم لم يكن خاصًّا بالمساجد، فكثيرًا ما كانوا يُنشئون حلقات التدريس في المارستانات أو الربط أو المنازل أو غيرها. وكان الأغنياء إذا أرادوا تعليم أولادهم أحضروا المعلمين إلى منازلهم، كذلك كان يفعل الخلفاء والأمراء، ولا يزال أهل الوجاهة يفعلون ذلك إلى اليوم.
وأشهر الجوامع في التدريس على الإطلاق الجامع الأزهر في القاهرة، فقد بُني مع القاهرة في أواسط القرن الرابع للهجرة، وكانت تُلقى فيه دروس القرآن والفقه على جاري العادة في سائر الجوامع. وكان جماعة من الطلبة يقيمون فيه ويسمون المجاورين، ومنهم من جاء من أقاصي البلاد الإسلامية حتى تركستان والهند وزيلع وسنار، ولكل طائفة منهم رواق باسمها كرواق الشوام أو المغاربة أو العجم أو الزيالعة أو السنارية أو اليمنية أو الهندية، فضلًا عن أروقة أهل الصعيد. وبلغ عدد تلامذة الأزهر في أوائل القرن التاسع للهجرة ٧٥٠ طالبًا من طوائف مختلفة، وكانوا يقيمون في الجامع ومعهم صناديقهم وخزائنهم، يتعلمون فيه الفقه والحديث والتفسير والنحو والمنطق ويحضرون مجالس الوعظ وحلق الذكر. وربما بات في الجامع كثيرون من غير الطلبة للتبرك أو المأوى، وللجامع المذكور تاريخ طويل ترى تفصيله في خطط المقريزي والخطط التوفيقية. على أنَّ حاله كانت تختلف باختلاف المذهب السائد بمصر وباختلاف مناقب الحكام. وبلغ عدد مجاوريه في عهد العائلة الخديوية بضعة عشر ألفًا، والهمة مبذولة في إدخال بعض العلوم الحديثة فيه.
(ب) المدارس
وعلى أي حال فإنَّ أول من بنى المدارس في الإسلام الأمراء الأعاجم، وإذا صحت رواية الإفرنج عن مدرسة المأمون في خراسان (أو نيسابور) فقد بنيت في بلاد أعجمية لغرض أعجمي، وإلا فلماذا لم يبن المأمون مثلها في بغداد لما تولى الخلافة واشتغل في نقل العلوم؟ … فما هو السبب في اختصاص إنشاء المدارس في الإسلام بغير الخلفاء؟
قد رأيت فيما تقدم منزلة العلماء المسلمين عند الخلفاء والأمراء، لارتباط السياسة بالدين عندهم، ولأنَّ العلماء هم حملة الدين والداعون إليه. فكان العلماء في أوائل الإسلام يُشاركون الخلفاء في النفوذ على العامة ويساعدونهم فيه. فلما ضعف شأن الخلفاء، وأفضت الحكومة إلى السلاطين والأمراء من الفرس والأتراك والديلم والأكراد وغيرهم، أصبح هؤلاء في حاجة إلى اكتساب قلوب العامة لتأييد سلطانهم بما يقوم مقام نفوذ الخلفاء الديني. وأقرب السبل المؤدية إلى ذلك الإحسان إلى الفقراء وإكرام العلماء والفقهاء. فأصبح السلطان أو الأمير إذا تولَّى بلدًا وكان حكيمًا عاقلًا، فأول ما يسعى فيه تقريب العلماء والفقهاء واسترضاء العامة بإنشاء الجوامع والربط والمارستانات ونحوها، وتعيين الرواتب والأرزاق للعلماء والفقراء وغيرهم، فيكتسبون بذلك ثقة العامة ورضى الخاصة، غير ما يرجونه من الثواب. كذلك فعل ابن طولون بمصر، وعضد الدولة في بغداد، ونور الدين في الشام، وصلاح الدين بمصر.
ومن الأسباب التي كانت تحمل الأمراء غير العرب على إنشاء المدارس والمساجد، غير التماس الأجر والثواب، أنَّهم كانوا ينشأون في بلاط السلطان ويغلب أن يكونوا من صنائعه أو مواليه، فيكون له عليهم حق الولاء أو الرق. فإذا توفي أحدهم عن مال أو ضياع وأراد السلطان قبضها فعل وحرم أبناءه منها. فكان الرجل منهم إذا بلغ الإمارة وكثر ماله خاف عادية السلطان على ما يخلفه من ذريته، فيبني المدارس أو الزوايا أو الربط، ويقف عليها الأوقاف المغلة من ضياعه أو أبنيته، ويجعل في شروط الأوقاف أن يتولاها بعض ولده وله نصيب منها، والأوقاف ثابتة فيأمن بذلك على أولاده الفقر.
ومهما يكن السبب، فلا خلاف في أنَّ نظام الملك أوّل من اشتهر بإنشاء المدارس في الإسلام في أواسط القرن الخامس للهجرة. فبنى المدارس في بغداد وأصبهان ونيسابور وهراوة وغيرها، وكل منها تنعت بالنظامية نسبة إليه، أشهرها المدرسة النظامية في بغداد تولى بناءها سعيد الصوفي سنة ٤٥٧ﻫ على شاطئ دجلة وكتب عليها اسم نظام الملك، وبنى حولها أسواقًا تكون محبسة عليها وابتاع ضياعًا وخانات وحمامات وقفها عليها، فبلغت النفقة ما يُقارب ٦٠٠٠٠ دينار.
وكان للمدرسة المذكورة شأن كبير في العالم الإسلامي، وقد تخرج فيها جماعة من رجال العلم طار ذكرهم في الآفاق. أول أساتذتها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ثم الإمام أبو نصر الصباغ صاحب الشامل، ثم أبو القاسم الدبوسي، وأبو حامد الغزالي، والشاشي، والكيا الهراسي، والسهروردي، وكمال الدين الأنباري وغيرهم من أقطاب العلم. فأصبح التعليم في هذه المدرسة من أكبر أسباب الثقة بالمعلمين، وكانت تُعلَّم فيها العلوم الدينية والفقهية واللسانية.
(٩-٧) المكتبات أو خزائن الكتب
ما برح النَّاس منذ أخذوا في تدوين أعمالهم وأخبارهم وعلومهم وهم يحرصون على استبقاء ما يدونونه؛ لأنَّهم دونوه رغبة في استبقائه. ويعبرون عن المكان الذي يحفظون الكتب فيه بالمكتبة أو خزانة الكتب، وأقدم من أنشأ المكتبات في العالم البابِلِيُّون سنة ١٧٠٠ قبل الميلاد، ومن بقاياهم مكتبة عثر عليها علماء القرن الماضي في خرائب بابل وآشور، وهي عبارة عن قرميدات من الطين المجفف عليها كتابة بالحرف الإسفيني (المسماري)، يليهم المصريون القدماء فقد وصف ديودورس مكتبة وجدوها في قبر ملك مصري اسمه أوسيمندياس. ثم اليونان وهم أول من أنشأ المكتبات العامة لفائدة الناس، وأقدم منشئيها بسستراتوس في أواسط القرن السادس قبل الميلاد، وذكر بلوتارخس مكتبة في برجاموس مؤلفة من ٢٠٠٠٠٠ مجلد. وأنشأ البطالسة مكتبة الإسكندرية الشهيرة. ثم الرومان، وأول مكتباتهم نقلوها عن مقدونية إلى رومية سنة ١٦٧ق.م، ثم استولوا على مكتبة برجاموس المذكورة سنة ١٣٣ق.م، ثم نقلوا مكتبات أثينا سنة ٨٦، ولما عظم شأن قسطنطين في القسطنطينية أنشأ فيها مكتبة سنة ٣٥٥م، غير ما تقدم ذكره من خزائن الفرس في الرساتيق والأزج، ثم كف النَّاس عن إنشاء المكتبات حتى تمدَّن المسلمون وأنشأوا مكتباتهم.
(أ) المكتبات الإسلامية
لما ظهر الإسلام ونهض المسلمون للفتح أحرقوا ما عثروا عليه من الكتب لأسباب تقدم بيانها، لكنهم ما لبثوا أن تحضروا وذاقوا طعم العلم حتى أصبحوا أحرص الناس على الكتب وأكثرهم بذلًا في الحصول عليها وأشدهم عناية في صيانتها. وقد رأيت أنَّ العرب قضوا القرن الأول ونصف القرن الثاني وأبحاثهم مقصورة تقريبًا على العلوم الإسلامية، ولم يدونوها إلا في أواخر تلك المدة. فكان ما يجمعونه من الكتب محصورًا في الأشعار والأخبار والأمثال مكتوبة على الرقوق أو الجلود أو الأنسجة أو نحوها. قالوا: إنَّ كتب أبي عمرو بن العلاء كانت تملأ بيته إلى السقف، وقالوا نحو ذلك في سائر رواة الأدب والشعر كالأصمعي وحماد وأبي عبيدة.
غير أنَّ ذلك لا يُعدّ من قبيل المكتبات العامة التي إنما يقوم بإنشائها ولاة الأمور أو من يجري مجراهم. ومرجع الفضل في إنشاء هذه المكتبات إلى خلفاء النهضة العباسية، وإن كنا نرى ذكر خزائن الكتب في أيام بني أمية التي أخرج عمر بن عبد العزيز منها كناش هارون، فتلك على الغالب مما أنشأه الأطباء والفلاسفة الذين كانوا في خدمة تلك الدولة لأنفسهم أو لأولادهم.
(ب) مكتبات بغداد
(ﺟ) مكتبات الأندلس
وظل أهل قرطبة على أي حال أحسن الأندلسيين رغبة في الكتب، كما كان أهل إشبيلية أرغبهم في اللهو الطرب، فإذا مات عالم في إشبيلية فأريد بيع كتبه، حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية. أما مكتبة قرطبة فما زالت في قصرها حتى بيع أكثرها في حصار البربر ثم أتم عليها الإفرنج.
(د) مكتبات مصر
على أننا نرى في تقدير تلك الكتب مبالغة، وقد قدرها آخرون ٢٠٠٠٠٠ كتاب، وغيرهم ١٢٠٠٠٠، ونظن في تقديرهم التباسًا من حيث المراد بخزانة الكتب أو خزائن الكتب؛ لأنَّ العزيز بعد أن أنشأ خزانته بقصره اقتدى به جماعة من أهله فأنشأوا مثلها في قصورهم، فالظاهر أنَّ المراد بالتقدير القليل عدد الكتب في خزانة العزيز خاصة، وبالكثير عدد ما في خزائن القصور كلها. وبهذا الاعتبار لا يقل عدد الكتب في خزائن القصور عن ١٠٠٠٠٠٠ مجلد أو كتاب.
(ﻫ) دار الحكمة
(و) مكتبات الشام
أما بلاد فارس فقد تقدَّم في غير هذا الباب ما كان فيها من الخزائن المخبأة في الرساتين والأزج والقباب، مكتوبة بالحروف الفهلوية على الجلود ونحوها قبل الإسلام، فلمَّا نضجت الحضارة الإسلامية في بغداد كان الفرس من أكبر العوامل فيها، وفي جملة مساعيهم أنشأ بيت الحكمة وغيره كما تقدم.
أما ما وراء النهر فقد ذكروا في بخارى مكتبة اشتهرت باقتباس ابن سينا علمه عنها، وكانت لنوح بن منصور سلطان بخارى، قال الشيخ الرئيس: «ورأيت فيها من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس، وما كنت رأيته من قبل… إلخ». وأنشأ هولاكو التتري لنصير الدين الطوسي في مراغة مكتبة فيها ٤٠٠٠٠٠ مجلد مما نهبه التتر من بغداد والشام والجزيرة.
هذا ما عثرنا على خبره من المكتبات العامة التي أنشأها الخلفاء أو السلاطين لمنفعة الناس، غير خزائن الكتب التابعة للمدارس أو المارستانات أو الجوامع، فإنها كانت كثيرة جدًّا ومنها ما لا تقل كتبها عن المكتبات الكبرى، وهي مرتبة أبوابًا حسب الموضوعات وعليها الوكلاء والقوام. وغير الخزائن الخاصة التي كان يقتنيها العلماء لأنفسهم وهي كثيرة وعظيمة، فقد كانت كتب الصاحب بن عباد تنقل على ٤٠٠ جمل، وخلف إفرايم الطبيب المصري ٢٠٠٠٠ مجلد، ولما مات موفق الدين بن المطران كان في خزانته ١٠٠٠٠ مجلد غير ما استنسخه، وكان له ثلاثة نساخ يكتبون. وكان عند أمين الدولة ٢٠٠٠٠ مجلد، وقس عليهم كثيرين كالفتح بن خاقان وابن القفطي وغيرهما.
عدد المجلدات | |
---|---|
بيت الحكمة في بغداد | |
١٠٠٠٠ | مكتبة سابور في بغداد |
٤٠٠٠٠٠ | مكتبة الحكم بقرطبة |
١٠٠٠٠٠٠ | خزائن القصور بالقاهرة |
١٠٠٠٠٠ | دار الحكمة بالقاهرة |
٣٠٠٠٠٠٠ | مكتبة طرابلس |
٤٠٠٠٠٠ | مكتبة مراغة |
عدد المجلدات | |
---|---|
٢٧٠٠٠٠٠ | مكتبة باريس الأهلية |
١٦٤٨٠٠٠ | مكتبة المتحف البريطاني في لندن |
١٣٦٠٠٠٠ | مكتبة بطرسبرج القيصرية |
١٢٣٠٠٠٠ | مكتبة برلين الأهلية |
٩٢٤٠٠٠ | مكتبة فينا الملوكية |
٦٧٧٠٠٠ | مكتبة رومية الأهلية |
وفي الولايات المتحدة ٤٠٢٦ مكتبة مجموع عدد كتبها ٣٣٠٥١٨٧٢ مجلدًا. وعلى الجملة فإنَّ المسلمين جمعوا في مكتباتهم العامة والخاصة من الكتب على اختلاف موضوعاتها ما يعد بالملايين. ولم يبقَ منها إلا جزء صغير جدًّا، وقد ضاع معظمها في أثناء القرون الوسطى وذهب بذهاب التمدن.
عدد المجلدات | |
---|---|
٢٩٨٤٤ | (المجموع كله) |
١٥٣٧ | مكتبة السلطان محمد الثاني في القسطنطينية |
٨٠٣ | مكتبة السلطان سليمان في القسطنطينية |
٧٥٢ | مكتبة قليج علي باشا بالطبخانة في القسطنطينية |
٤١٢ | مكتبة حافظ أحمد باشا في القسطنطينية |
١٤٤٨ | مكتبة كيو بريلي أوغلو في القسطنطينية |
٢٩٠٦ | مكتبة شهيد علي باشا في القسطنطينية |
٨٣١ | مكتبة إبراهيم باشا في القسطنطينية |
٧٣٢ | مكتبة والده سلطان في القسطنطينية |
٥٥٢ | مكتبة بشير أغا في القسطنطينية |
١٣٣٦ | مكتبة عاطف أفندي في القسطنطينية |
١٤٤٥ | مكتبة أيا صوفيا في القسطنطينية |
٥٥٦ | مكتبة سراي غلطه في القسطنطينية |
٢٤٢١ | مكتبة عثمان الثالث في القسطنطينية |
١٠٧٧ | مكتبة محمد راغب باشا في القسطنطينية |
٩٨٠ | مكتبة لعله لي دفتر أول في القسطنطينية |
١٩٤٧ | مكتبة لعله لي دفتر ٢ في القسطنطينية |
٩١٦ | مكتبة سراي همايون في القسطنطينية |
١٧٦٩ | مكتبة ولي الدين أفندي في القسطنطينية |
١٨٧٧ | مكتبة عاشر أفندي في القسطنطينية |
١١٠٩ | مكتبة داما زاده محمد مراد أفندي في القسطنطينية |
١٣٨٣ | مكتبة عبد الحميد في القسطنطينية |
٦٥٦ | مكتبة حالت أفندي في القسطنطينية |
٢٧٤٤٥ | (مجموع الكتب في القسطنطينية) |
١٠٩٩ | مكتبة الأزهر في القاهرة |
٤٢٢ | مكتبة عبد الله باشا العظم بدمشق |
٢٦٩ | مكتبة المدرسة الأحمدية بحلب |
٦٠٩ | مكتبة رودس |
وبديهي أنَّ هذه الكتب ليست كلها ما بقي من المؤلفات العربية، فقد كان منها شيء كثير في المكتبات الخاصة وغيرها، ولكنَّها على أي حال لا تُعد شيئًا بالنظر إلى ما كانت عليه في إبان التمدن. وخصوصًا إذا اعتبرنا تكاثر المؤلفات بتوالي القرون، مما يدعو إلى زيادة عدد الكتب الباقية في القرون الوسطى كما لا يخفى لا إلى نقصانها، ولكن لكل شيء أجلًا لا يتعداه، سُنَّة الله في خلقه.