أنساب العرب القدماء
(١) رد على القائلين بالأمومة والطوتمية عند العرب الجاهلية
وبما أننا سننشر هذه الرسالة باللغة العربية أيضًا ليطلع عليها جمهور القراء، وفيهم من لا يزال خالي الذهن من الطوتم والأمومة ونحوهما من الأبحاث الجديدة التي قلّما طرقها كتاب العربية، رأينا أن نصدر الكلام بتمهيد وجيز في المراد من هذه الألفاظ، ثم نتقدم إلى الموضوع.
(١-١) الطوتمية عند القبائل المتوحشة الآن
الطوتم هو لفظ دخل اللغات الإفرنجية في أواخر القرن الثامن عشر من لغة الأوجيبي من هنود أمريكا، ويراد به كائنات تحترمها بعض القبائل المتوحشة، ويعتقد كل فرد من أفراد القبيلة بعلاقة نسب بينه وبين واحد منها يسميه طوتمه، وقد يكون الطوتم حيوانًا أو نباتًا أو غير ذلك. وهو يحمي صاحبه، وصاحبه يحترمه ويقدسه أو يعبده، وإذا كان حيوانًا لا يقدم على قتله، أو نباتًا فلا يقطعه أو يأكله، وتختلف الطوتمية عن عبادة الحيوانات والنباتات الشائعة عند بعض تلك القبائل المعبر عنها بالديانة الفتشية في أنَّ هذه عبادة صنم بصورة حيوان، وتلك تقديس نوع من أنواع الحيوان أو النبات أو عبادته.
والطوتم بالنظر إلى مجموع القبائل ثلاث طبقات:
- أولًا: طوتم القبيلة وهو عام يشترك في احترامه كل أفرادها ويتوارثونه.
- ثانيًا: طوتم الجنس وهو ما يختص باحترامه أفراد أحد الجنسين الذكور أو الإناث فيكون خاصًّا بنساء القبيلة أو برجالها.
- ثالثًا: الطوتم الشخصي وهو ما يختص باحترامه الفرد الواحد ولا يرثه أبناؤه.
والأول أحراها بالاعتبار وعليه نجعل مدار كلامنا.
(أ) طوتم القبيلة
هو حيوان أو نبات أو شيء آخر يشترك في تقديسه أو عبادته أفراد قبيلة من القبائل ويتسمَّوْن باسمه ويعتقدون أنَّه جدهم الأعلى وأنهم من دم واحد مرتبطون بعهود متبادلة ترجع إلى ذلك الطوتم. وله عندهم اعتباران، أحدهما ديني والآخر اجتماعي. فالديني يُراد به ما بين الرجل وطوتمه من العلاقة المتبادلة: الرجل يحترم الطوتم، والطوتم يحميه ويحفظه. وأما الاجتماعي فهو الحقوق المتبادلة بين أفراد تلك القبيلة التي يجمعها اسم ذلك الطوتم، بالنظر إلى القبائل الأخرى المنسوبة إلى طوتمات أخرى، وقد يختلف الاعتباران في كثير من الأحوال.
فالطوتم من الوجهة الدينية يعتبر أبًا للقبيلة وأنَّها من نسله، ولكل قبيلة حديث خرافي عن طوتمها يتناقلونه أبًّا عن جد، يغلب أن يكون مداره على كيفية انتقاله من الحيوانية أو النباتية إلى الإنسانية. فمن قبائل الأيروكوا — من هنود أمريكا — قبيلة تعرف بقبيلة السلحفاة، يعتقد أهلها أنهم متسلسلون من سلحفاة سمينة استثقلت صدفتها فألقتها عن ظهرها ثم تحولت إلى إنسان أولد أولادًا. ومنهم قبيلة الحلزون (البزاقة) يعتقدون أنهم متسلسلون من الحلزون وأنثى الجندبادستر — وذلك أنَّ حلزونًا ذكرًا خلع صدفته ونبت له يدان ورجلان ورأس وتحول إلى رجل طويل القامة جميل الصورة، فتزوج أنثى الجندبادستر وأولدها هذه القبيلة. وقس على ذلك قبائل تنسب إلى البط أو الإوز أو غيرهما من الطيور المائية. وفي سينغمبيا قبائل تنتسب إلى وحيد القرن وفرس البحر أو إلى العقرب أو الثعبان. فكل من هذه الحيوانات يعد طوتمًا للقبيلة التي تُسمَّى باسمه، وهي تحترمه وتقدسه فلا تؤذيه ولا تقتله. فقبيلة البط مثلًا لا تؤذي هذا الطير ولا تقتله إلا إذا عض أحدها الجوع فيأكل البطة وهو يأسف ويستغفر، وكذلك إذا كان الطوتم نباتًا فإنهم يحترمونه ويتجنبون أن يدوسوه أو يأكلوه، فمن كان طوتمه الذرة مثلًا فأكلها محرم عليه. وإذا كان الطوتم شجرة حرموا إحراق عيدانها.
ولا يقتصر احترامهم الطوتم على تحريم أكله أو أذيته فإنَّ بعضهم يحرم لمسه أو النظر إليه. فقبيلة الأيل — من قبائل الأوهاما — لا تأكل لحم الأيل ولا تمس أيلًا ذكرًا، وقبيلة رأس الغزال لا تمس جلد غزال قط. وقد يحرمون التلفظ باسم الطوتم، فإذا اضطروا إلى ذكره عمدوا إلى الكناية أو الإشارة. فمن هنود الدولارس في أمريكا قبيلة تنسب إلى الذئب، وأخرى إلى السلحفاة، وأخرى إلى ديك الحبش (الديك الرومي) فإذا اضطروا إلى ذكر أحدها كنوا عن الأول بالقدم المستديرة، وعن الثاني بالساحف، وعن الثالث بغير الماضغ، والقبائل المذكورة تعرف بهذه الكنايات.
وإذا مات حيوان من نوع طوتم القبيلة احتفل أهلها بدفنه وحزنوا عليه حزنهم على واحد منهم، فقبيلة البومة في ساموا إذا وجد أحد رجالها بومة ميتة فإنَّه يقعد إلى جانبها ويأخذ في الندب والبكاء ويضرب جبينه بالحجارة حتى يدميه، ثم يكفن البومة ويحملها إلى المدفن كأنها بعض أفراد القبيلة. ويعتقدون أنَّ من أهان الطوتم أو أساء إليه يُصاب بالمصائب، ويختلف اعتقادهم ذلك باختلاف القبائل أو البلاد. فبعضهم يعتقدون أنَّ من يأكل طوتمه تصبح نساء قبيلته عواقر، وغيرهم يعتقدون أنَّهم يُصابون بالأمراض أو النكبات أو نحو ذلك. ويتوهم آخرون أنَّ آكل طوتمه يُجازى بالموت، بأن يُقيم الطوتم في بدنه ولا يزال يأكل منه حتى يموت.
ويؤمنون من الجهة الأخرى أن الطوتم لا يؤذي صاحبه، فالذين طوتمهم الحية مثلًا لا يخافون لسعها، وعندهم أنَّ الحية لا تلسعهم. وكذلك قبائل العقرب في سينغمبيا، فهم على ثقة أنَّ العقرب السامة تمر على جسم أحدهم ولا تؤذيه. وقس على ذلك قبائل الذئاب ونحوها. وكثيرًا ما يمتحنون بذلك قرابة من يدعي انتسابه إلى أحدها، فمن زعم أنَّه من قبيلة الثعبان أطلقوا عليه الثعبان، فإذا لسعه قالوا إنَّه مدعٍ كاذب، وعلى هذا المبدأ ينبذون كل من لا يُراعي الطوتم جانبه ويتجنب أذيته.
على أنَّهم لا يكتفون من الطوتم أن يكف أذاه عن أصحابه أو عباده، ولكنهم يتوقعون أن يحسن إليهم ويدافع عنهم. فتعتقد قبيلة الذئاب أنَّ الذئاب تدافع عنها في ساحة القتال، ويتوهم أكثر أصحاب الطوتمية أنَّ الطوتم ينذر أصحابه بالخطر قبل وقوعه بعلامات أو رموز على نحو ما يعبر عنه بالفأل أو الطيرة.
ومما يتقربون به إلى الطوتم ابتغاء رضاه وحمايته أن يتشبهوا به، فيقلدوه في شكله ومظهره ويلبسوا جلده أو قسمًا من جلده، أو يتخذوا جزءًا منه يعلقونه في أعناقهم أو أذرعهم على نحو التعاويذ في الأمم الأخرى فلا يخلو فرد من تعويذة تدل على علاقته بطوتمه.
ومن عاداتهم الدالة على اعتبارهم أنفسهم من نسل الطوتم، ما يجرونه من الاحتفال عند الولادة أو الزواج أو الوفاة ونحوها من الأحوال. فقبيلة الغزال الأحمر مثلًا إذا ولد لهم طفل نقشوا ظهره بالحمرة، وإذا كان من قبيلة الذئب صاحت الولائد عند وضعه: «قد ولد لنا ذئب صغير!» ويخيطون بقميص الطفل قطعة من عين الذئب أو قلبه، وإذا تزوج واحد من قبيلة الكلب الأحمر في جاوة دهنوا العروسين برماد عظام كلب أحمر، وقس على ذلك سائر القبائل بما ينتسبون إليه من أنواع الطواتم. ويحتفلون مثل هذه الاحتفالات عند الوفاة أو الزواج.
أما الطوتم الجنسي فيراد به اختصاص ذكور القبيلة أو إناثها بطوتم خاص. فبعض القبائل في أستراليا لذكورها طوتم ولإناثها طوتم آخر، وكلاهما غير طوتم القبيلة. وكذلك الطوتم الشخصي، فإنَّ الرجل قد يكون له طوتم خاص به غير طوتم القبيلة وغير الطوتم الجنسي.
أما طوتم القبيلة من الوجهة الاجتماعية، فيراد به تعاقد أهل القبيلة فيما بينها باعتبار علاقتها بالقبائل الأخرى. فأهل الطوتم الواحد يعدون إخوة وأخوات، يتعاونون في السراء والضراء بروابط هي أشد مما بين أفراد العائلة الواحدة اليوم. فيتزوج الرجل بامرأة من غير قبيلته وطوتم غير طوتمه، وربما نشأ الأولاد على طوتم آخر، فإذا انتشبت حرب تعاون أهل الطوتم الواحد على أصحاب الطوتم الآخر، فينفصل الرجل عن زوجته والولد عن أبيه أو أمه.
وقد تتفرع القبيلة إلى بطون وأفخاذ تنسب إلى آباء من الحيوان أو النبات بينها نسبة تفرعية، مثل تفرع الحيوان إلى الأنواع وما تحتها من الفصائل والتباينات، أو بعلاقة أخرى بين طوتم القبيلة وطوتمات الفروع، كأن يكون طوتم القبيلة حيوانًا وطوتم فرعها نباتًا يأكله ذلك الحيوان مما لا سبيل إلى بسطه.
والطوتمية منتشرة الآن في العالم المتوحش، فهي عامة بين قبائل أستراليا، وكثيرة الانتشار في شمالي أمريكا وفي بناما والطوتم الشائع هناك «الببغاء»، ولا تخلو أمريكا الجنوبية من آثار الطوتمية على حدود كولمبيا وفنزويلا وفي جيانيا وبيرو، وللطوتمية شأن كبير في أفريقيا، فإنَّها شائعة في سينغمبيا وبين قبائل البقالي على خط الاستواء، وعلى شاطئ الذهب الأشانتي، وبين الدامارية والبكوانية في جنوبي أفريقيا، وفي أماكن كثيرة من تلك القارة ولها آثار في مدغشقر وبعض جزر ملقا. أما في آسيا فلها أثر في أواسط الهند بين بعض قبائل البنغال غير الآريين، وفي سيبيريا وبعض جهات الصين وجزائر المحيط. وأكثر هذه القبائل أدخلها العلماء في الطوتمية بالقياس التمثيلي؛ لأنَّها تقدس بعض الحيوانات أو النباتات وإن لم تتسمَّ بأسمائها.
(١-٢) الخلاصة
- (١)
أنها شائعة الآن بين أكثر الأمم أعراقًا في الوحشية.
- (٢)
أنَّ قوامها اتخاذ القبيلة حيوانًا أو نباتًا أو شيئًا آخر من الكائنات المحسوسة أبًا لها تعتقد أنَّها متسلسلة منه وتتسمى باسمه.
- (٣)
أن كل قبيلة تقدس طوتمها أو تعبده.
- (٤)
تعتقد كل قبيلة أنَّ طوتمها يحميها ويدافع عنها، أو على الأقل لا يؤذيها وإن كان الأذى طبعه.
- (٥)
الزواج ممنوع بين أهل الطوتم الواحد، وأساس التناسل عندهم التزوج ببنات من أصحاب الطوتمات الأخرى (الإكسوجامي).
- (٦)
أنَّ الأبوة ضائعة عندهم ومرجع النسب إلى الأم.
- (٧)
لا عبرة عندهم بالعائلة، وإنَّما القرابة تنتهي إلى الطوتم، وأهل الطوتم الواحد إخوة وأخوات يجمعهم دم واحد.
(أ) أصل هذا المذهب
(ب) رأي سميث في طوتمية العرب
يرى سميث أنَّ العرب كانوا في أقدم أزمانهم ينتسبون إلى آباء من الحيوانات أو النباتات كانوا يعبدونها أو يقدسونها ويتسمون بأسمائها، وكان شأنهم في الزواج والأمومة وغيرها مثل شأن القبائل المتوحشة في أستراليا وأمريكا وأفريقيا، وأنَّ المشهور من انتساب العرب إلى إسماعيل وقحطان من آباء التوراة، وتسلسل القبائل على الصورة المعروفة إنَّما هو حادث وضعه أهل الأغراض في زمن حديث لا يتجاوز القرن الأول للهجرة، مبنيًّا على ديوان الإمام عمر بن الخطاب من حيث حقوق المسلمين في العطاء بالنظر إلى القبائل وأنسابها (صفحة ٦ من كتابه).
ولتأييد هذا الرأي بدأ أولًا بإثبات الأمومة عند العرب، فقال: إنَّ العرب في الزمن القديم لم يكن عندهم عائلة رئيسها الأب، ولا كانت الأنساب تتصل بالآباء، بل كان الزواج عندهم نحو ما هو في بلاد التبت اليوم ويعرف بالزواج التيبتي، وذلك أنَّ المرأة تتزوج برجلين فأكثر، وأولادها لا ينتسبون لأحدهم وإنَّما ينتسبون إلى القبيلة ويسمون بطوتمها كما تقدم. فعمد أولًا إلى إيراد الأدلة على إثبات الأمومة وشيوعها عند العرب القدماء ولما ظن نفسه أثبتها عمد إلى إثبات الطوتمية، فبذل قصارى جهده في استخراج الأدلة والشواهد مما سنفصله ونبين وجه الخطأ فيه.
(١-٣) العرب القدماء وأنسابهم وأخبارهم
وقبل التقدم إلى البحث في أدلة الأستاذ سميث، نقول كلمة إجمالية في العرب وأنسابهم ورواياتهم تمهيدًا للبحث.
- الأول: ضعف ثقتهم بأقوال مؤرخي العرب وبما حفظ من خرافاتهم القديمة.
- والثاني: نهوض أهل القرن الماضي لتحدي ما ثبت من مذهب الارتقاء في قواعد العمران؛ لأنَّ شيوع هذا المذهب في أواسط ذلك القرن حمل أدباء الإفرنج على رد كل شيء إلى أسباب طبيعية، كما فعل سبنسر في رد العبادات وأكثر العادات إلى مثل هذه الأسباب.
وهكذا أراد صاحب طوتمية العرب، فإنَّه لمَّا اطلع على ما كتبه مكلينان عن الطوتم في القبائل المتوحشة — وهو مستشرق مطلع على أخبار العرب سيِّئ الظن في جاهليتهم يحتقر أقوال رواتهم ونسابيهم — ورأى بين أسماء آباء القبائل والبطون ما يشبه أسماء الحيوانات، سبق إلى وهمه أنَّها من آثار الطوتمية عندهم. فوضع هذا الحكم نصب عينيه، وأخذ على نفسه أن يبرهنه. ولما كانت الطوتمية مبنية على الأمومة، عمد إلى إثبات هذه. فأتى بأدلة ضعيفة تجاوز بها حد التكلف، واستشهد بنوادر من أخبار العرب، فجعل الشاذ قاعدة وأغفل القواعد العامة الثابتة التي أجمع عليها النسابون والرواة، مما يخالف أصول البحث. وهذا غريب من عالم اطلع على أخبار الأمم وخرافاتهم، وعلم أنَّ التاريخ القديم أكثره مأخوذ من الخرافات المأثورة عن الأسلاف، يمحصها المؤرخون ويستخرجون صحيحها من فاسدها فلا يحتقرون خرافة ولا ينكرون قولًا. فإن ما في إلياذة هوميروس من أخبار الآلهة وخرافاتهم، لم يمنع العلماء من تمحيصها والتمييز بين التاريخ والدين والخرافة فيها. ويقال نحو ذلك عن أخبار الهنود القدماء، منذ نزل جماعة الآريين إلى بلاد الهند على ما هو مدون في كتبهم السنسكريتية. وهكذا ينبغي أن يُقال في خرافات العرب، من أخبار عاد وثمود وطسم وجديس، وأخبار سيل العرم ونحوها. فإنها — مع بعدها عن مألوفنا — لا تخلو من حقائق تاريخية ذات بال، قد كشف الزمان صدق كثير منها، فنأتي بشذرات من ذلك على سبيل المثال:
(أ) عاد وثمود
ناهيك بما يُؤيّد أخبار العرب وأنسابهم من نصوص التوراة، وما عثروا ويعثرون عليه في آثار اليمن وغيرها.
(ب) النسابون العرب
إذا كان هذا شأن خرافات العرب القديمة، فكيف بأخبارهم المدونة في الكتب مما أجمع عليه النسابون في صدر الإسلام، والرواة يومئذ لا يقبلون رواية إلا بعد التحقق منها بالإسناد الصحيح، لما تعودوه من تحقيق الأحاديث النبوية أو نحوها من الأخبار الدينية في ذلك العصر؟ فالعرب يعدون من أكثر الأمم تحقيقًا في الرواية، وأكثرهم تدقيقًا في حفظ ما يروونه، ولا سيما في صدر الإسلام لاعتمادهم على الذاكرة وإغفالهم الكتابة، لأسباب بيناها في الجزء الثالث من كتابنا «تاريخ التمدن الإسلامي».
وإذا افترضنا صحته وأنّ النسابين وضعوا هذه الأنساب في أول الإسلام للعطاء، فكيف ترضى القبائل التي أبعدها النسابون عن النسب النبوي فقل عطاؤها أو ضعفت حقوقها؟ وكيف لا تحتج على ذلك؟ بل كيف لا يشتم رائحة ذلك الاحتجاج من كلام المؤرخين؟ على أنَّ تواطؤ النسابين على الوضع يعيد الإمكان؛ لأنهم لم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وإنما كانوا يطوفون البادية ينقلون النسب عن ألسنة الحفاظ ويدونونه أو يحفظونه. وقد يجمع النسابة أخباره من أهل نجد والحجاز واليمن بالسؤال من الثقات في تلك الأصقاع المتباعدة الأطراف، فهل يمكن تواطؤهم على ذلك؟
(ﺟ) الشعوبية وأنسباء العرب
وإذا سلمنا بإمكانه، وأنَّ العرب لم يبدوا معارضة احترامًا للخليفة أو خوفًا منه، فكيف سكت الشعوبية — ولا سيما الفرس — عن هذا الاختلاف، مع ما يفاخرهم به العرب من شرف النسب العربي، والشعوبية يبحثون عن حجة يضعون بها من شرف العرب المتصل إليهم من انتسابهم إلى إسماعيل وقحطان؟ وقد تجرأ الفرس في صدر الإسلام حتى نسبوا العرب إلى الوحشية وقالوا: «إنهم كالذئاب العادية والوحوش النافرة، يأكل بعضهم بعضًا ويغير بعضهم على بعض، فرجالهم موثقون في حلق الأسر، ونساؤهم سبايا مردفات على حقائب الإبل». ولم يطعن أحد منهم في نسبهم تلميحًا ولا تصريحًا، ولو استطاعوا ذلك لكان فيه أقوى انتقام لهم. ولا يقال إنَّهم سكتوا عنه إهمالًا، أو إنهم لم ينتبهوا له، فقد طعنوا في اختلاف العرب بالنسب وفي استلحاقهم الأدعياء ونحو ذلك مما يتعلق بالأنساب. قال بجير يعير العرب باستلحاق الأدعياء:
ومع ذلك لم يتعرضوا لصحة أنسابهم أو فسادها. وأمة الفرس بلغت أوج تمدنها قبل الإسلام بقرون، وكان العرب ينزحون إليهم ويقيمون بينهم، وجرى لهم معهم حروب ومنافسات قبل الإسلام، وقد استولى الفرس على اليمن وأقاموا بين ظهراني العرب وعاشروهم وخالطوهم قبيل الإسلام — فهم أولى الناس بمعرفة أحوالهم في جاهليتهم، فلو وجدوا في ضبط أنسابهم شكًّا ما سكتوا عنه، وقد بدأوا بالنقمة عليهم من أوائل القرن الأول للهجرة. وأغرب من ذلك أنَّ النسابين أنفسهم كان أكثرهم من العجم، فهل يضعون شيئًا يكون سلاحًا في أيدي أعدائهم؟
(د) اختلاف بعض الأنساب
فكل ما لدينا من أخبار العرب يرجع إلى ترتيب النسب على ما ذكروه في كتبهم أو رَوَوْهُ في أشعارهم، وليس عندنا ما يخالف ذلك الترتيب نصًّا ولا إشارة، فكيف يجوز لنا نقضه؟ ولا عبرة في ما ذكره صاحبنا من اختلاف النسابين في نسبة بعض القبائل إلى قحطان أو عدنان أو إلى قيس أو كلب أو نحو ذلك؛ لأنَّ النسب كما قدمنا منقول في الأصل عن أفواه الناس على اختلاف الأصقاع، والإنسان غير معصوم من الخطأ، ولا يخلو أن يكون ديوان عمر بن الخطاب وفرض العطاء على النسب أوجب بعض التشويش، وانتماء بعض البطون إلى غير قبائلها، والنسابون المحققون يبنون الصحيح من الفاسد على ما يبلغ إليه إمكانهم. ولكن وجود هذا الاختلاف لا يدل على فساد النسب من أساسه، كما أنَّ اختلاف الرواة في تفاصيل إحدى الوقائع التاريخية لا يدل على أنَّها لم تقع. فلو اختلف جماعة في فتح عمرو بن العاص مصر، فقال أحدهم إنَّه فتحها صلحًا، وقال آخرون إنَّه فتحها عنوة، وقال غيرهم إنَّه جاءها بأربعة آلاف مقاتل، وقال آخرون بل جاءها بعشرة آلاف، واختلف آخرون في هل جاءها العرب على الخيل أو على الإبل — فهل يدل ذلك على أن مصر لم تفتح؟ وإذا قال ذلك قائل ألا ننسبه إلى الشذوذ في أحكامه؟
فهذه الاختلافات بالصورة واللفظ أوجبت بعض الالتباس في أنساب القبائل. ويُقال نحو ذلك في قلة عدد الآباء بالنظر إلى الزمن، فقد يكون سببه ضياع بعض الأجداد لنسيان أو غيره، أو اعتبار الجد قبيلة برأسها وليس رجلًا فردًا، كما هو المظنون في بعض أجداد اليهود آباء التوراة. وهذا أيضًا من الأدلة على قدم الأنساب من عهد الجاهلية، إذ لو وضعها واضع بعد ذلك لأتقن صناعة التزوير وأكثر من الآباء حتى لا يبقى مكان لظهور التزييف، ولكن النسابين لم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وإنَّما نقلوا ما كان شائعًا على ألسنة العرب محفوظًا في أذهانهم على علاته.
وزد على ذلك أنَّ من القواعد الأساسية في تمييز الحقوق «أنَّ الأصل براءة الذمة»، فالأصل في أنساب العرب أن تعتبر كما وصلت إلينا، ولا يجوز لنا الاعتراض عليها أو نقضها إلا بما لا يقل ثقة عن النصوص الصريحة والقرائن الثابتة بالتواتر أو نحوه. أما الاعتماد على الأقوال النادرة، أو الرجوع إلى شوارد الأخبار، واتخاذ الشواذ قواعد، فلا يصح الاعتماد عليه، أو هو استقراء ناقص، بل هو ليس من الاستقراء في شيء، وإنما هو من قبيل التحكم على خلاف القاعدة المتبعة في البحث والنقد. والأقرب إلى الصواب في إثبات قضية أن نتدرج فيها من الجزئيات إلى الكليات، فمتى ثبتت الجزئيات ثبتت الكليات. وأما صاحبنا فإنَّه افترض القضية الكلية وحاول إثباتها، فلم يعدم من الحوادث المبعثرة من أخبار العرب ما يتخذه أساسًا يبني عليه بناءً ضعيفًا يظهر ببراعته كأنه صحيح.
فالأستاذ روبرتسن سميث صاحب طوتمية العرب اطلع على رأي مكلينان في طوتمية هنود أستراليا وأمريكا ونحوهما، ورأى لبعض قبائل العرب أسماء حيوانية، ووجد النسابين مختلفين في أصول بعض القبائل، فتبادر إلى ذهنه أنَّها بقايا الطوتم كما قدمنا، فوضع القضية الكلية: «أن العرب كانوا من أصحاب الطوتم» ثم أخذ يبحث في كتبهم عما يؤيد هذا القول، ولا يخفى عليك ما هنالك من النوادر الشاذة والحوادث المتضاربة، فاختار ما ظنه يؤيد قوله وأغفل الباقي. فلو كان السير على هذه الخطة في الاستدلال والبرهان جائزًا لما أعجزنا إثبات أي قضية فرضناها، مهما يكن من غرابتها فلو أردنا الذهاب إلى أنَّ المرأة في الجاهلية كانت مطلقة الحرية ذات شأن في الهيئة الاجتماعية مثل شأنها في أمريكا اليوم، لما عدمنا من أخبار العرب ما يسند هذا القول. وكذلك لو قلنا إنَّها كانت تعامل عندهم معاملة البهائم فإننا نجد ما يشاكل زعمنا. ولكن القاعدة في مثل هذا البحث أن ينظر في مجمل الأدلة ويؤخذ الراجح بالإجماع أو الأغلبية، ولم يجمع العرب في أخبارهم أو خرافاتهم أو أشعارهم أو تواريخهم أو عاداتهم على شيء مثل إجماعهم على تلك الأنساب، أفننكرها بمجرد الظن؟ وهل يُزال اليقين بالشك، ثم نلتفت إلى رأي ليس في أخبار العرب ولا في تواريخهم ولا تواريخ سائر الأمم السامية ما تشتم رائحته منه؟
ثم إنَّ تلك الأنساب وصلت إلينا بالتسلسل من النسابين إلى المؤرخين على اختلاف أماكنهم وعصورهم، وهي مع ذلك مطابقة في أكثر رواياتها، فكيف تتفق هذه المطابقة إن لم يكن أصلها صحيحًا؟ وإن قيل إنَّ ذلك الأصل وضع بعد الإسلام، فلا بد من أن يكون واضعه رجلًا ذا سلطان، فمن هو هذا يا ترى؟ وكيف يخفى خبره مع كثرة أعداء العرب في ذلك العصر؟
(ﻫ) الشعوب السامية
فالنسب العربي ثابت بثبوت أنساب التوراة، مع اعتبار ما يراه أهل النقد من الباحثين أنَّ أسماء بعض الآباء الأولين يُراد بها القبائل لا الأشخاص، فإذا نقضنا هذه لم يبقَ بيدنا شيء. وهل يجوز أن نغفل هذه الأنساب الثابتة بتوالي القرون، ونرجع إلى رأي لا أساس له في كتب المشارقة ولا إشارة إليه في خرافاتهم ولا عاداتهم ولا أديانهم ولا شيء من آثارهم؟
ومما لا يحسن الإغضاء عنه أنَّ العرب لا يصح قياسهم في أحوالهم وأنسابهم بأصحاب الطوتم من الأمم المتوحشة من هنود أستراليا وأمريكا وزنوج أفريقيا؛ لأنَّ العرب من أرقى الأمم عقلًا ونفسًا، وهم أهل تمدن قديم مثل تمدن أرقى الشعوب القديمة، وقد ذهب بعض الباحثين في آثار اليمن وحضرموت إلى أنَّ التمدن العربي القديم أصل التمدن المصري القديم؛ أي أنَّ الفراعنة أخذوا تمدنهم من بلاد اليمن — ومهما يكن من منزلة هذا القول من الصحة، فإنَّه يدل على أعراق العرب في المدنية منذ آلاف من السنين.
دع عنك ارتقاء لغتهم في تركيبها وألفاظها، وهو يشهد بارتقاء عقول أصحابها من أقدم أزمنة التاريخ وقبله، فهل يعقل أن يتخذوا آباء من البنات أو الحيوان كما يفعل أعرق الأمم وحشية اليوم؟ على أنَّ القول بالطوتمية بحد ذاتها من الغرابة بحيث يصعب علينا تصديق وجودها في الأمم المتوحشة، ونخشى أن يكون القول بها مبنيًّا على الاستقراء الناقص. ولنتقدم الآن إلى النظر في أدلة صاحبنا فننظر فيما يختص منها بالأمومة، ثم ما بناه عليها من الطوتمية عند العرب فنقول:
(١-٤) الأمومة عند العرب
(أ) الأمومة على الإجمال
الأمومة الانتساب إلى الأم، ويراد بها انتساب أهل القبيلة أو الأمة إلى أمهاتهم بدلًا من آبائهم، فيقال: فلان بن فلانة، كما يقال في الأبوة: فلان بن فلان. والأمومة من الأبحاث التي حدثت في أواسط القرن الماضي بعد شيوع مذهب الارتقاء، وأول من اسْتَلْفَتَ الأنظار إليها عالم ألماني اسمه باخوفن في كتاب نشره سنة ١٨٦١، فاهتم به علماء العمران لاختلافه عمَّا تعوده من نظام العائلة المألوف. ومرجع بحثه أنَّ الأمومة سابقة في تاريخ العائلة للأبوة، فعنده أن الزواج كان عند الأقدمين فوضى بلا شرط، وهو زواج المشاركة. فإذا ولدت بعض النساء غلامًا لا يمكن تعيين والده وهو ملازم أمه للرضاع فينتسب إليها ويعرف بها، فيصير الانتساب إلى الأمهات قاعدة عامة. فأصبح للمرأة المقام الأول في الهيئة الاجتماعية وهي صاحبة النفوذ، كما هو حال الرجل اليوم.
•••
ولو أردنا الإتيان على أقوال الباحثين في هذا الموضوع لضاق بنا المقام، فنتقدم إلى النظرة في أدلة سميث التي نحن في صددها ومن قال قوله.
(ب) أدلتهم على أمومة العرب
(ﺟ) قول إسترابون
وهبْ أنَّ نص هذه الحكاية لا يخالف ما يريدونه بالأمومة، فتكون الأمومة شائعة عند العرب حوالي تاريخ الميلاد. وقد تقدم قول الأستاذ سميث: إنَّ العرب والعبران والآراميين كانوا في أقدم أزمانهم عائشين معًا في جزيرة العرب ثم خرج العبرانيون والآراميون وظل العرب مكانهم. وبينا قبلًا أنَّ العبرانيين لا ذكر لهذا الزواج عندهم على الإطلاق، ولا سمعنا بمثله عند الآراميين، وإغفال حمورابي ذكره في نصوص شريعته يدل على أنَّه لم يكن معروفًا في عصره في بلاد ما بين النهرين أو ما يُجاورها، فكيف نصدق وجوده عند العرب نحو تاريخ الميلاد؟ فالأرجح عندنا أن يكون إسترابون قد شاهد حادثة من هذا النوع عند بعض الناس فأطلقها على سائر العرب، أو سمعها من بعض الرواة فصدقها لغرابتها، فأوردها على علاتها كما يفعل كثيرون من أمثاله، الذين يرحلون إلى بلاد الشرق فيعولون في وصف أهله وعاداتهم على ما يلقيه إليهم بعض التراجمة أو عابري السبيل، بما فيه من المبالغة أو الاختلاف، وهم أرغب في نشر الغريب استجلابًا لإعجاب قرائهم، كما حدث في الأجيال الوسطى وما بعدها على أثر انتشار الإسلام.
(١) الانتساب إلى الأمهات (صفحة ٢٧ و٣٠ من كتابه)
كقولهم بنو خندف وبنو ظاعنة وكلاهما اسم امرأة نسبت القبيلة إليها — ولو نقبنا بين المئات من أسماء القبائل والبطون والأفخاذ ما وجدنا بينها من ينسب إلى أمهم إلا بضعة قليلة. فأي غرابة في ذلك وبين العائلات اليوم نحو عشرة في المائة ينسبون إلى الأمهات، كآل ظريفة وآل تقلا وآل نور وآل نائلة وآل مارية، وقس عليه أهل اللغات الأخرى؟ فهل يجوز الذهاب إلى أنَّ هذه الأسماء من آثار الأمومة عند أسلافنا؟ أم نأتي على تعليلها من الطريق الأقرب، وهو أنَّ بعض هذه العائلات نسبت إلى امرأة هي جدتهم العليا؛ لأنَّ جدهم مات وهي كفلتهم وربتهم فعرفوا باسمها. وقد يكون الأب مجهولًا لحصول الحمل من السفاح مما يحدث في الجاهلية وغيرها، فيولد الولد لا يعرف أبوه فينسبونه إلى أمه، كما وقع لزياد بن أبيه الصحابي الداهية، فقد كان يعرف بأمه سُمَّية، فيقال: زياد بن سمية، ولولا استلحاق معاوية إياه بنسبه لعرف أعقابه بآل سمية، ولو تقادم عهد هذه العائلة وتنوسي خبر أمها لأضافها صاحبنا إلى أسماء أمهات القبائل وعدها من بقايا الأمومة.
ويكثر الانتساب إلى الأمهات على الخصوص في الأمم التي يتزوج رجالها امرأتين فأكثر، فيولد للرجل ولدان من والدتين يسميهما باسم واحد، فينسب كل منهما إلى أمه فضلًا عن انتسابه لأبيه تمييزًا له عن ابن الأم الأخرى، وقد يشتهر بنسبته إلى أمه دون أبيه، وأمثلة ذلك كثيرة قبل الإسلام وبعده. فقد كان لعلي بن أبي طالب غير امرأة، ولد له منهن عدة أولاد من جملتهم ثلاثة كل منهم اسمه محمد، فنسب أحدهم محمد الأكبر إلى أمه خولة بنت جعفر من بني حنيفة فسماه محمد ابن الحنفية، فلو عاش هذا في الجاهلية لعرف أعقابه ببني الحنفية بطن من هاشم أو من قريش، كما عرف بنو العدوية نسبة إلى أمهم من قبيلة عدي.
(٢) تأنيث أسماء القبائل (صفحة ٢٨)
أي أنَّ العرب تقول: جاءت مضر وسطت قيس إلخ، ولا يقولون: جاء مضر، وسطا قيس — فلا ندري العلاقة بين تأنيث الاسم والأمومة، والتأنيث والتذكير في العربية لا قياس لهما، ولو صحت الأمومة لما ضرها أن تكون أسماء القبائل مذكرة، كما أن تأنيثها لا يثبت وجود الأمومة. على أنَّ لتأنيث القبائل سببًا مبنيًّا على قاعدة من قواعد اللغة، وهو تقدير لفظ «القبيلة» قبل كل اسم، فقولنا «مضر» يراد به «قبيلة مضر»، وقولنا «قيس» يراد به «قبيلة قيس»، فالتأنيث للفظ القبيلة المحذوف. والحكمة في ذلك دفع الالتباس بين أن يكون المراد بالفاعل رجلًا اسمه قيس أو مضر أو القبيلة. فإذا كان الفعل مؤنثًا انصرف الذهن إلى القبيلة. وعلى هذا المبدأ يؤنثون أسماء المدن وإن لم يكن لفظها مؤنثًا، فنقول: فتحت بغداد وعمرت مصر أو الشام بتقدير لفظ «مدينة». ونحن نقول اليوم: روت المقطم، وذكرت المؤيد، وقالت الهلال — فنؤنث الفعل، والفاعل مذكر لفظًا ومعنى، وإنَّما نقدر قبله كلمة الصحيفة أو المجلة.
(٣) التعبير عن القرابة بالبطن (صفحة ٢٨)
فيزعم أن تسمية القبيلة بالبطن يؤيد اعتماد العرب على قرابة الأم، والواقع أنَّ البطن فرع من فروع القبيلة على سبيل التشعب كالشجرة، وإنَّما جعلوا أسماءها شبيهة بأسماء أجزاء البدن بالنظر إلى علاقتها بعضها ببعض، أو تفرعها بعضها عن بعض. فالمجموع الأكبر عندهم «الحي» كناية عن الإنسان كله ويراد به الجماعة النازلون بمربع. وهو ينقسم إلى «الشعوب» أي الفروع، والشعبان النصفان، كأنَّهم أرادوا انقسام الجسم إلى شطرين متساويين: أيمن وأيسر. ويليها «القبائل» وهي قطع عظم الرأس المشعوب بعضها من بعض. ثم «العمارة» كناية عن الصدر، ثم «البطن»، وبعده «الفخذ»، وأخيرًا «الفصائل». فترى استخدام البطن للقبيلة أو بعض فروعها لا علاقة له بالأمومة، وإنَّما وفرع من فروع النسب لما يقابله من أعضاء الجسد. وإذا عدلنا عن هذا التعليل واعتبرنا كل اسم مستقلًّا، وقبلنا التعليل الذي تبادر إلى ذهن حضرته، لاقتضى أن يدلوا بالبطن على العائلة التي هي من بطن واحد، ولكنهم يريدون به القبيل المؤلف من عائلات.
(٤) اشتقاق لفظ الأمة من الأم
(٥) الخال والعم والكنة
ولفظ «الكنة» في العربية يراد به في اللغات السامية الكنة والزوجة على السواء، فاستدل صاحبنا بذلك على أنَّ الرجل كان يتزوج كنته (أي امرأة ابنه أو امرأة أخيه) فلا رابط للزواج بين الرجل وامرأته. والجواب على ذلك يدخل فيما تقدم بيانه من اختلاف معاني الألفاظ توسعًا ومجازًا. ومثلها لفظ «صهر» يراد بها زوج بنت الرجل وزوج أخته، ويراد بالصهر أيضًا القرابة على العموم، والأصهار أهل بيت المرأة. ومنهم من يجعل الصهر من الأحماء، فهل يصح الاعتماد على مثل هذا التوسع في إثبات مبدأ أو رأي؟
(٦) زواج المتعة
وهو الزواج الوقتي، أي أن يعقد الرجل على امرأة عقد زواج إلى أجل مسمى فمتى انقضى الأجل بطل الزواج. فيرى صاحبنا أنَّ هذا الزواج كان شائعًا عند ظهور الإسلام، وهو يحسبه يؤيد رأيه في الأمومة، وهي تقتضي إباحة نساء القبيلة لأهل القبيلة بلا عقد ولا شرط، والمتعة لا تكون بدون عقد فهي تناقض ما أراد إثباته. فالمتعة ضرب من ضروب الزواج التي كانت شائعة في الجاهلية، وكلها تنفي الأمومة؛ لأنَّ الرجل فيها صاحب السيادة وصاحب العصمة.
(٧) الوأد
يرى صاحب طوتمية العرب أنَّ شيوع الوأد في الجاهلية قلل البنات فاضطروا إلى الاشتراك في النساء، فكان يشترك عدة رجال في امرأة واحدة يستولدونها ويكون الانتساب إليها. وقد بالغ بعض الباحثين في مسألة الوأد وتوهموها عادة شائعة في بلاد العرب كلها، والناقد يرى أنَّها كانت منحصرة في مكان معين وزمان معين تحت أحواله مخصوصة، وإلا فلا يُعقل أن يعمد الناس إلى دفن بناتهم ثم يضطروا إلى المشاركة في الأزواج وفي طاقتهم أن يتخلصوا من ذلك الضيق. وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ العرب كانوا يئدون بناتهم خوف الفقر، وهم في حل من هذا الفقر لو استبقوهن على قلة البنات لما يجدون من إقبال الأزواج عليهن بالمهر والهدايا. وقال آخرون إنَّهم كانوا يئدونهن خوف العار، وإذا صحت الأمومة لم يكن ثمة عار يخافه الآباء.
وخوفهم العار على بناتهم دلالة على الغيرة، وهي لا تكون في زواج المشاركة، وفي الحالين فإن دليله في الوأد ساقط.
(٨) العصمة في يد المرأة
وقد اتخذ امتلاك بعض نساء الجاهلية عصمتهن في الزواج والطلاق دليلًا على سيادة الأمومة، وأنَّ المرأة هي رئيسة العائلة — فما أغرب هذا الاستنتاج وما أنقص هذا الاستقراء … إنَّ المرأة في الجاهلية لم تكن عصمتها في يدها إلا في أحوال مخصوصة وحوادث نادرة، فهل نجعل الشاذ قاعدة نبني عليه، والنادر قياسًا نقيس به؟ وأما القاعدة في زواجهم فهي أن تكون العصمة في يد الرجل. وهبْ أنَّها في يد المرأة، فلا تكون إلا بعقد مقيد بشروط وقوانين، وليس على سبيل الإباحة والاشتراك كما يريدون بالأمومة. وقس على ذلك سائر أدلته لإثبات الأمومة، فإنَّ مرجعها إلى تأويل الألفاظ والاعتماد على الاستقراء الناقص كقوله إنَّ الأب معناه المربي، وكاستخراجه الحي من حواء وذكره القرابة بالرضاعة أو المؤاكلة وتأويل لفظ آحاب إلى أخ أب، ونحو ذلك مما يقاس في رده بما قدمناه.
(١-٥) الخلاصة
فالقول بشيوع الأمومة في العرب الجاهلية لا يستطاع إثباته بالقرائن الضعيفة؛ لأنَّ اليقين لا يزال بالشك، إلا إذا جاز الاعتماد على الشاذ وإغفال القواعد العامة. فقد رأيت في شروط الأمومة أن يكون الزواج من الخارج بالغزو أو السبي؛ لأنَّ بنات القبيلة في زعمهم تقل بالوأد أو بغيره، وأن تكون المرأة زوجًا لعدة رجال معًا وأولادها ينسبون إليها، فلم نفهم كيف يكون الزواج بالغزو؟ وكيف يمكن الرجوع بالأنساب في القبيلة الواحدة إلى الأم؟ ولماذا تقل البنات حتى تضطر القبيلة أن تغزو غيرها للحصول على النساء؟ والقاعدة الطبيعية في تاريخ الإنسان في أدواره الأولى أن يكون النساء أكثر من الرجال، لتعرض هؤلاء للقتل ونحوه بالغزو والسطو، والأوْلى أن يكثر النساء حتى يتزوج الرجل عدة منهن. على أنَّ الحصول على النساء بالغزو يبعث على الرجوع إلى النسب الأبوي؛ لأنَّ الآباء يبقون في القبيلة. ويشبه ذلك ما كان من كثرة السبايا والجواري في صدر الإسلام، فإنهن تكاثرن حتى اختص الرجل بعشر أو عشرات منهن، وظل النسب في الرجال — ولا يمكن غير ذلك كما يظهر للمتأمل. ولو فرض أنَّ النساء يحاربن القبائل للحصول على الأزواج بالسبي، لكان ذلك أقرب إلى حفظ النسب فيهن، أي الانتساب إليهن أو إلى قبيلتهن.
فالقول بتسلط الأمومة على الإجمال يفتقر إلى إثبات أو تعديل؛ لأنَّ وجودها على هذه الكيفية غير معقول ولا يوافق قواعد العمران، أو هو لا يوافقها على الأقل عند العرب؛ لأنَّ القاعدة في الزواج عندهم وعند سائر الساميين أن تكون داخل القبيلة، وإذا جنح أحدهم إلى الخارج فلسبب طارئ، هذا هو حالهم في أقدم ما نعلمه من أخبارهم في التوراة وغيرها، والعربي يسمي امرأته ابنة عمه وإن لم تكن كذلك؛ لأنَّ الغالب في الزواج عندهم أن يكون بين أبناء العم على تفاوت درجات العمومة. واليهود أكثر الأمم محافظة على أنسابهم ويمنعون الزواج من غير قبائلهم، ويعاقبون من يخرج عن ذلك عقابًا صارمًا، وإذا تزوج إسرائيلي بغير إسرائيلية فزواجه سفاح، ويسمون المولود من ذلك الزواج «نغلًا» كما يسميه العرب «هجينًا» أي لئيمًا، فكيف نزعم مع ذلك أنَّ العرب القدماء كانوا يتزوجون من الخارج بالغزو؟ وإذا فرضنا أنَّهم كانوا كذلك فمتى انتقل الزواج إلى الداخل؟ وكيف انتقلت الأمومة إلى الأبوة أو البعولة؟ ومتى؟ كلها مسائل مهمة لا يمكن الجواب عليها، وأصحاب مذهب الأمومة أنفسهم يعترفون بعجزهم عن ذلك، فما أغنانا عن الذهاب إليه. ومن يطالع تاريخ الزواج من أول أحوال العمران إلى الآن لا يرى فيه إلا ما ينقض الأمومة.
(١-٦) الطوتمية عند العرب
وإذا نقض القول بالأمومة عند العرب نقض معه القول بالطوتمية عندهم؛ لأنَّها أساسها وأول شروطها. ومع ذلك فإننا ننظر في أدلة صاحبنا من حيث الطوتمية على حدة، فنذكر شروط الطوتم كما فسره هو، ثم ننظر في تطبيقها على أحوال العرب.
فالطوتمية يشترط فيها «أن يتفق أهل القبيلة الواحدة على حيوان أو نبات أو كائن آخر يعتقدون أنه جدهم الأعلى يتسمَّوْن باسمه ويعبدونه أو يقدسونه»، فهل ينطبق ذلك على أحوال العرب الجاهلية انطباقًا كليًّا أو جزئيًّا؟ ولكي ينجلي الموضوع ويتضح البرهان نحلل القضية إلى أجزائها الأصلية وعليه فالطوتمية تقتضي:
- أولًا: أن يتفق أهل القبيلة على حيوان أو نبات يعتقدون أنه جدهم الأعلى.
- ثانيًا: أن يتسمَّوْا باسمه أو ينتسبوا إليه.
- ثالثًا: أن يعبدوه أو يقدسوه.
ولا تثبت الطوتمية ما لم تجتمع هذه المقدمات الثلاث عند العرب. ولو أنك بحثت في أخبارهم قديمها وحديثها، من الخرافات والحقائق الثابت منها وغير الثابت، وفيما رواه غير العرب عن أحوالهم القديمة في كتب اليونان والرومان فضلًا عن التوراة، وما قرئ من أخبارهم على آثار آشور وآثار ثمود وآثار اليمن وحضرموت، لما وفقت إلى العثور على ما يشير إلى وجودها. وإذا درست أحوال العرب الآن في الصحارى والمدن والأودية والجبال، لا تجد بينهم قبيلة ولا بطنًا ولا رجلًا يعتقد أنَّه متسلسل من أسد أو ثور أو ثعلب أو جميزة أو وردة. ومهما أجهدت نفسك في التنقيب والمراجعة والتأويل فإنَّك لا تجد أثرًا لهذا الاعتقاد على الإطلاق، ولو على سبيل الخرافة أو في معرض التكذيب أو الطعن — فالمقدمة الأولى سقطت.
أما الثانية فبعضها صحيح، أي أنَّ القبائل تُسمَّى بأسماء الحيوانات، كبني أسد وبني النمر وبني كلب ونحوها، ولكنها لا تعتقد أن أولئك الأجداد حيوانات، بل هي تعدهم أناسًا لهم أنساب متصلة بالآباء الأولين.
والمقدمة الثالثة ظاهرها صحيح وباطنها فاسد؛ لأنَّ بعض قبائل العرب كانت تعبد آلهة على شكل الحيوانات، مثل عبادة سائر الأمم الوثنية القديمة في مصر وآشور وفينيقية، ممن كانوا يعبدون أصنامًا يمثلون بها القوى العلوية — لا أنها تعبد حيوانًا خاصًّا تُقدسه وتجتنب أذاه وتعتقد أنَّه جدها كما يفعل أصحاب الطوتم. فبنو أسد يتسمون باسم الأسد، ولكنَّهم لا يعتقدون أنَّه جدهم ولا يقدسون الأسد أو يعبدونه، وإذا عرض لهم الأسد قتلوه. وقد يكون معبودهم من الحيوانات بشكل نسر أو فرس أو غيرهما من الأصنام الحيوانية. وشرط الطوتمية إنَّما هو أن يعتقد بنو أسد أنَّ الأسد جدهم، وأن يقدسوا كل أسد أو يعبدوه أو لا يؤذوه. وبنو ثور يجب أن يعتقدوا أنَّ الثور جدهم، وأن يعبدوا الثيران أو يقدسوها ولا يذبحوها أو يؤذوها. وبنو جراد حقهم أن يعتقدوا تسلسلهم من الجراد، ويقدسوه ولا يأكلوه كما رأيت فيما تقدم من شروط الطوتمية عند الأمم المتوحشة اليوم. ولا يكفي أن تسمى القبيلة باسم الثور مثلًا وتقدس الجراد، أو تتسمى باسم الأسد وتقدس الفرس. ولو فرض واتفق لقبيلة أن تسمى بحيوان وتقدسه أو تعبده فليست من الطوتمية في شيء؛ لأنَّ الشرط الأول أن تعتقد تسلسلها عنه. وهذه الشروط الثلاثة لم يتفق وجودها في قبيلة من قبائل العرب، ولا في بطن من بطونها، ولا في فصيلة ولا فرد من أفرادها ولو على سبيل الخرافة أو الأكذوبة. حتى اجتماع الشرطين الأخيرين فإنه متعذر، إذ ليس بين قبائل العرب قبيلة تسمى باسم حيوان وتعبده، ولا يكفي أن تعبد صنمًا بشكل ذلك الحيوان، بل الشرط أن تقدس جنس هذا الحيوان وتتجنب أذاه، كما كان المصريون يقدسون الهر أو الجعلان. والعرب لا يقدسون حيوانًا إلا نادرًا وفي أحوال مخصوصة. على أنَّ صاحبنا لم يتفق له — مع ما أجهد نفسه وتوسع في برهانه من التأويل والتفسير — أن يأتي بدليل على أن قبيلة من القبائل المسماة بأسماء حيوانية كانت تعبد صنمًا بشكل الحيوان الذي تتسمى به، وإن كان توفيقه إلى ذلك لا ينفعه شيئًا، لأنَّ المطلوب أنَّ القبيلة التي تتسمى باسم حيوان يجب أن تقدس جنس ذلك الحيوان لا صنمًا بشكله.
فمذهب الطوتمية عند العرب ساقط سقوط الأمومة، ثم هو ساقط أيضًا لبعد أحوال العرب عن شروط الطوتمية كما رأيت — ومع ذلك فلا ينبغي لنا الإغضاء عن الأدلة التي اعتمد عليها صاحب طوتمية العرب في إثبات هذا الرأي وسبب ذهابه إليه مع غرابته فنقول:
(١-٧) أدلته على طوتمية العرب
إن من يطالع تلك الأدلة في كتابه يتضح له من مجملها أنه لما اطلع على أحوال الطوتمية عند القبائل المتوحشة كما ذكرها مكلينان وغيره — وهو مستشرق يعرف أحوال العرب الجاهلية وقبائلها وأنسابها ومعبوداتها — ورأى بعض القبائل أو البطون تسمى بأسماء حيوانية، وكان العلماء يومئذ مولعين بالحقائق الطبيعية على مذهب الارتقاء يشتغلون برد كل الحوادث إليه كما قدمناه، ورأى النسابين العرب مختلفين في تحقيق أنساب بعض القبائل، تبادر إلى ذهنه أنَّ أسماء هذه القبائل من بقايا الطوتمية عند العرب، فأخذ يفتش عن شروطها الأخرى، فرأى بعض القبائل تعبد أصنامًا بشكل بعض الحيوانات، فتمكن ذلك الرأي من ذهنه ونسي أنَّ الشرط ليس عبادة صنم حيواني الشكل، وإنما المراد تقديس صنف من الحيوانات اسمه كاسم القبيلة، أو لعله انتبه لذلك وظن نفسه قادرًا على الإتيان بحادثة يمكن تأويلها أو قرينة يستدل بها على شيء، وأخبار العرب كثيرة وفيها الغث والسمين والناقض والمنقوض، وهو قوي الحجة لطيف الأسلوب فوفِّق إلى أدلة تُوهم غير المتأمل أنَّه أصاب بها المرمى وهو بعيد عنه كما سترى. وإليك أدلته وبيان فسادها:
(أ) تسمية القبائل بأسماء حيوانية (صفحة ١٨٨)
ليس بين أدلته على الطوتمية ما يصح اعتباره من قبيل القول الصريح إلا أسماء القبائل، وإن كانت هذه الأسماء لا تكفي وحدها لإثبات رأيه لأسباب تقدم بيانها. ولكنه يحتج بأن تسميتها بأسماء حيوانات ليست من قبيل العبث ولا بد لذلك من سبب. فعلينا أن ندفع حجته بأن هذه التسميات طبيعية لا غرابة فيها.
بنو أسد | بنو جعدة | بنو ضب | بنو قهد |
بنو بدن | بنو جعل | بنو ضبيعة | بنو كلب |
بنو بكر | بنو حداء | بنو عضل | بنو نعامة |
بنو بهثة | بنو حمامة | بنو عنز | بنو نمر |
بنو ثعلب | بنو حنش | بنو غراب | بنو وبر |
بنو ثور | بنو دؤيل | بنو فهد | بنو هوزن |
بنو جحش | بنو دب | بنو قرد | بنو يربوع |
بنو جراد | بنو ذئب | بنو قنفد |
ولو عددنا أسماء القبائل العربية وفروعها من العمائر والبطون والأفخاذ والفصائل لزادت على بضع مئات، وربما ناهزت الألف. فلو كانت التسمية طوتمية لوجب أن يزيد عدد الطوتمية على سائرها، ثم إنَّ بعض ما أورده من الأسماء له غير معنى الحيوانية، ولكنه اختار الحيوانية ليزيد أسباب برهانه. فبكر مثلا تفسر بولد الناقة، ولكن لها معنى «العذراء»، و«أول كل شيء»، والسحابة، والكرم أول حمله، وغير ذلك. على أننا لو رجحنا معناها الأول، أي ولد الناقة، لما كان في التسمية شيء من الطوتمية؛ لأنَّ العرب لو جاز أن يتسموا بحيوان ويعبدوه لكان «الجمل» أو «البعير» أولى من سواه، نظرًا لاضطرارهم إليه وقدم عهده عندهم، وليس من القبائل ما يسمى به إلا بكر هذا، وهو أقرب أن يكون لقبًا لقِّب به رجل فتيٌّ نشيط كأنَّه ولد الناقة.
و«البهثة» البقرة الوحشية، وابن الزناء. و«الجعدة» الأنثى من أولاد الضأن، والمرأة في شعرها جعودة، فلماذا لا يكون المراد بها المعنى الثاني لو لم يسبق إلى ذهنه الطوتمية؟ و«العضل» الجرذ، ولكنه أيضًا يدل بكسر العين على الداهية من الرجال أو القبيح منهم، فلماذا لا يكون المراد أحد هذين المعنيين؟ و«القهد» نوع من ضأن الحجاز، ولكنه يدل أيضًا على الرجل الأبيض اللون نقيه. وقس على ذلك — فالقبائل التي تثبت تسميتها بأسماء الحيوانات لا تزيد على بضعة وعشرين قبيلة أو فرع قبيلة.
فاتفاق هذا العدد القليل بين مئات من الأسماء لا يصح عزوه إلى الطوتمية، فإنَّ الناس ما برحوا منذ القدم يتسمون بأسماء الحيوانات، أو يتلقبون بها ثم يذهب الاسم ويبقى اللقب كما سنبينه.
(ب) التسمية
إن لأسماء الأعلام تاريخًا طويلًا في علم العمران، وهي تختلف صورة ومعنى باختلاف العصور وباختلاف الأمم. فكل أمة تختلف التسمية فيها عما في سواها، وتختلف في الأمة الواحدة باختلاف أدوار تمدنها. على أنَّها في كل حال تقتبس مما يقع في النفس موقع الاعتبار من الكائنات على اختلاف طبقاتها، فتختار من أسمائها ما يلائم عاداتها ومعتقداتها. فإذا تدينت انتسبت إلى الإله أو الآلهة، سواء كانت تلك الآلهة أجرامًا سماوية أو حيوانات أو أصنامًا أو غير ذلك. أما قبل التدين أو في حال البداوة الخشنة، فالغالب أن يختار الناس لأبنائهم أسماء ما يعجبون به أو يخافون من الأجسام الطبيعية، ولا سيما الحيوانات على ما يتوسمونه في المولود من القوة أو الشجاعة أو الدهاء أو الدعة أو الخوف. فيختارون له اسم حيوان فيه مثل هذه الطباع، فيسمون الرجل الشجاع بالأسد، والسريع الوثوب بالنمر، ويسمون الفتاة اللطيفة بالغزال أو الحمامة. وقد جرى على ذلك معظم الأمم القديمة في كل أنحاء العالم، ولا سيما الأمم الحربية أو أهل البداوة والغزو الذين يعيشون في البراري ويرحلون من نجع إلى آخر والحيوانات عشراؤهم، كما كان شأن العرب في أيام جاهليتهم فقد كانوا يعيشون بين الحيوانات حتى درسوا طبائعها ووصوفوا كلًّا منها بوصف خاص، فإذا ولد لهم ولد هان عليه تشبيهه بواحد منها بشكله أو طباعه ويسمونه به.
كالأسد أو الأسد | Leonidas |
أسد الغاب | Napoleon |
صخر | Peter |
محب الخيل | Philip |
غزال | Darcas |
أسد | Leo |
النسر أو قوي كالنسر | Arnold |
الحجر الشريف | Athelston |
الذئب أو قوي كالذئب | Bernard |
العقاب أو قوي كالعقاب | Bertram |
الخنزير البري | Everard |
نعجة | Giles |
عقاب | Ingram |
أسد | Leonder |
كالأسد أو كالعقاب | Leonard |
خروف | Oven |
ذئب المنازل | Randal |
الذئب المشهور | Rodolph |
الحية الشريفة | Ethelnid |
شيركوه | أسد الجبل |
ببر أو بابر | الأسد |
جمشيد | وجه الشمس |
أردشير | الأسد الغضوب |
بلاش | نوع من النمر |
سيمورغ | السمك الفضي |
زرسب | الجواد المذهب |
بهرام | المريخ |
الضحاك | الثعبان |
فتسمية العرب الجاهلية رجالهم بأسماء الحيوانات أمر طبيعي يؤيده تصغير تلك الأسماء للتحبب، كقولهم ذؤيب وأسيد وكليب ونحو ذلك، مما لا يفسر إلا إذا كانت تلك الأسماء ألقابًا للناس. وظل العرب على ذلك في بداوتهم حتى تدينوا وتسموا بالأسماء الدينية كما تقدم. ولما تمدنوا تسموا بأسماء الصناع كالنحاس والصيدلاني والكحال والنجار والأسطرلابي، ولما ضعفت عصبية النسب عندهم تسموا بالنسبة إلى البلاد كالدمشقي والبغدادي والبصري والبخاري والنيسابوري وغيرها — فبقاء بضعة وعشرين من القبائل القديمة على أسماء الحيوانات ليس أمرًا غريبًا.
قال الجاحظ في كتاب الحيوان: «والعرب إنَّما كانت تُسمي بكلب وحمار وحجر وجعل وحنظلة وقرد على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا ولد له ذكر خرج يتعرض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنسانًا يقول حجر أو رأى حجرًا، سمى ابنه به وتفاءل فيه الشدة والصلابة والبقاء والصبر وأنَّه يحطم ما لقي، وكذلك إذا سمع إنسانًا يقول ذئب أو رأى ذئبًا تأول فيه الفطنة والمكر والكسب، وإن كان حمارًا تأول فيه طول العمر والوقاحة والقوة والجلد، وإن كان كلبًا تأول فيه الحراسة واليقظة وبعد الصوت والكسب، ولذلك صور عبيد الله بن زياد في دهليز كلبًا وكبشًا وأسدًا وقال: كلب نابح وكبش ناطح وأسد كالح، فتطير على ذلك فطارت عليه».
(ﺟ) التلقيب
وكانوا يضربون الأمثال غالبًا بالبهائم، فلا يكادون يذمون أو يمدحون إلا بذلك؛ لأنَّهم جعلوا مساكنهم بين السباع والأحناش والحشرات، واستعملوا التمثيل بها لما ألفوه من طبائعها، وخصوصًا القبائل العدنانية لسكناهم في صحارى نجد والحجاز، وبلادهم أكثر وعورة وخشونة من القحطانية، ولذلك كانت أسماء الحيوانات أكثر في قبائلهم مما في القبائل القحطانية. وقد درسوا تلك الطبائع بالمزاولة واختصوا كل حيوان بطبيعة نسبوها إليه، كالروغان للثعلب، والشجاعة للأسد، والصبر للحمار والأمانة للكلب، والغضب للنمر، والثقل مع الخساسة للفيل، ونحو ذلك وصاروا يعوضون عن الألقاب بأسماء تلك الحيوانات، فبدلًا من قولهم: «شجاع» يقولون: «أسد»، وبدلًا من صبور يقولون: «حمار»، ويكنون عن المراوغ بالثعلب، وإذا أرادوا أن يقولوا غضب فلان قالوا: «تنمر».
وكانوا من الجهة الأخرى يلقبون الحيوانات بأسماء الناس أو كناهم، فالفيل كنيته أبو حجاج، والأسد أبو الحارث، والذئب أو جعدة، والدب أبو رباح، والخنزير أبو قادم ويقال أبو عقبة، والثعلب أو الحصين، والكلب أبو خالد، وأبو ناصح عند بعضهم، والسنور أبو خراش ويقال أبو غزوان، والغزال أبو الحسين، والجمل أبو صفوان ويقال أبو أيوب وأبو مزاحم، والثور أبو حاتم، والكبش أبو المطرف، والنمر أبو وثاب، والفهد أبو قرة، والفرس أبو طالب، والبرذون أبو مضاء، والبغل أبو المختار، والحمار أبو زياد، وعندهم أم حبين الجرادة، وأم عوف الحمامة، وأم مهدي الدجاجة، وأم حفص الهدهد، وأبو الميت الجعالة، وأبو الصراة القملة، وأم عقبة الحية، وأم يقظان العقرب، وقس عليه.
ومن أدلة رغبتهم في التلقيب أنَّهم يلقبون الرجل ببيت شعر نظمه أو لفظ قاله أو حادثة جرت معه مما لا ضابط له، فالمرقش الشاعر أصل اسمه عوف بن سعد فنسي الاسم وبقي اللقب، والمتلمس اسمه جرير بن عبد المسيح، والنابغة اسمه زياد بن معاوية، وكذلك المخرق وتأبط شرًّا وأعصر والمستوعر وغيرهم ممن ذهبت أسماؤهم وبقيت ألقابهم — فماذا يمنع حدوث ذلك قبل التاريخ، فيلقب أبو القبيلة بما يناسب خلة من خلاله مدحًا أو ذمًّا ثم يتناسى الاسم ويبقى اللقب؟ وفي أخبار العرب أمثلة كثيرة من هذا النوع، فقيس عيلان أصل اسمه قمقة ولكنه اشتهر بلقبه، وكذلك قريش وغيره. وقد يكون للتلقيب سبب متصل بحادثة، فعنزة أبو القبيلة المعروفة سُمِّي بذلك؛ لأنَّه قتل رجلًا بعنزة وأصل اسمه عامر. والحظائر سُمِّي بذلك لأنَّ المنذر بن امرئ القيس كان جمع أسارى بكر في الحظائر ليحرقهم، فكلمه فيهم فشفعه وأصل اسمه كعب. والزبرقان سمي بهذا الاسم لجماله وسمي القمر أيضًا، وكلاهما غير اسمه ولا يعرف إلا بهما. وقصي أصل اسمه زيد، وعبد المطلب اسمه عامر وكلاهما يعرف باللقب فقط. وقد يكون اللقب اسم حيوان أو لقبًا من ألقابه، مثل جساس اسم الرجل المشهور، فمعناه في اللغة الأسد المؤثر في الفريسة ببراثنه وأصل اسمه عمرو بن مرة البكري، وقس على ذلك ألقاب الخلفاء بعد الإسلام، فإنَّ أكثرهم يعرف بلقبه كالفاروق والصديق والمنصور والرشيد والمأمون وغيرهم.
فإذا اعتبرنا شيوع التسمية بأسماء الحيوانات أو التلقيب بها، وإمكان بقائها وذهاب الأسماء الأصلية، مع ميل العرب من فطرتهم إلى ذلك، فوجود بضعة وعشرين اسمًا حيوانيًّا بين مئات من أسماء القبائل لا يعد شيئًا غريبًا.
(د) التلقيب بصيغة الجمع
على أننا رأينا صاحب طوتمية العرب يعلق أهمية كبرى على تسمية بعض القبائل بجمع أسماء الحيوانات، مثل الأنمار والكلاب والأراقم والضباب، فعنده أنَّ وجود هذه الأسماء بصيغة الجمع لا ينطبق على تفسيرنا من حيث تلقيب أبي القبيلة بلقب يبقى ويذهب اسمه الأصلي. ويرى أنَّ هذه الصيغة دليل قوي على الطوتمية؛ لأنَّ أبناء قبيلة النمر يعدون أنمارًا، وأبناء قبيلة كلب يعدون كلابًا على مقتضى شروط الطوتمية.
والجواب على ذلك أنَّ التلقيب بصيغة الجمع للقبيلة كان شائعًا عند العرب مثل شيوع التلقيب بصيغة المفرد للفرد. وكانوا يلقبون القبيلة بصفة عامة تشترك فيها أو يغلب شيوعها بين أفرادها، كالكرم والبخل والحلم والغدر ونحو ذلك. فلما انتشر الإسلام وضعوا لأهل الأقاليم أوصافًا يمتاز بها بعضهم عن بعض.
- قريش: أعظم القبائل أحلامًا وأكرمها مقامًا.
- بنو عامر: أطولها رماحًا وأكرمها صباحًا.
- بنو سليم: أعظمها مجالس وأكرمها محابس.
- ثقيف: أكرمها جدودًا وأكثرها وفودًا.
- بنو زبيد: ألزمها للرايات وأدركها للثارات.
- قضاعة: أعظمها أخطارًا وأعظمها نجارًا وأبعدها آثارًا.
وهكذا حتى أتى على معظم القبائل ثم وصف الأقاليم مما لا محل له هنا وعلى هذا النمط كانوا يلقبونهم بأسماء حيوانات يغلب في طباعها الخلة التي اشتهرت تلك القبيلة بها، وقد يذهب الاسم الأصلي ويبقى اللقب وحده وتعرف القبيلة به، كما حدث بالأنمار فإنها قبيلة من نزار لقبت بذلك لاشتهار أهلها بالقنص كأنَّهم أنمار في الوثوب على الفريسة، قال النابغة من معلقته:
اسم الولاية | لقب أهلها |
---|---|
Illinois | Luchers |
Missouri | Pipers |
Oragon | Webfoot |
Ohio | Buckeye |
Indiana | Hoosiers |
New England | States Yankees |
Alabama | Yellow Limnor |
Wisconsin | Badger |
وجملة القول أنَّ تسمية بعض القبائل بأسماء الحيوانات أفرادًا أو جماعات لا أهمية لها فيما نحن فيه؛ لأنَّه عادي وطبيعي في الأجيال القديمة والحديثة. وبالطبع لم تبقَ أهمية لما ذكروه من عبادة الحيوانات التي كانت شائعة في الجاهلية، وإن كانت في الحقيقة ليست من قبيل عبادة الحيوانات الطوتمية بل هي عبادة أصنام أقلها بشكل بعض الحيوانات وأكثرها بأشكال أخرى. فهي من قبيل عبادة الأوثان وليست من الطوتمية في شيء؛ لأنَّ أهل الطوتم لا يعبدون صنمًا بشكل الحيوان، بل يعبدون الحيوان نفسه ويقدسونه ويتجنبون أذاه كما تقدم، وليس عند العرب شيء من ذلك — على أننا نقول كلمة في أصنام العرب لا تخلو من فائدة …
(١-٨) أصنام العرب
من المشهور أنَّ العرب وسائر الأمم السامية أهل توحيد من فطرتهم، وإذا عبدوا صنمًا فيغلب أن يكون ذلك الصنم دخيلًا عندهم، ويصدق ذلك على العرب بنوع خاص لتوسطهم بين الأمم الوثنية القديمة، فقد كانوا في عهد جاهليتهم محاطين بالفراعنة في مصر، والفينيقيين في الشام، والآشوريين في العراق، والأحباش في الحبشة. وكانت جزيرتهم طريق أهل الهند في التجارة إلى مصر والشام. وكانوا إذا ذهبوا إلى بلد مما يجاورهم للتجارة أو للغزو ورأوا أهل ذلك البلد يعبدون صنمًا يعتقدون فيه الكرامة حملوه معهم في رجوعهم ونصبوه في الكعبة أو غيرها من مجتمعاتهم. وإذا مرت بهم قافلة هندية ومعهم صنم يعبدونه في أثناء أسفارهم فربما أعجب العرب فأخذوه منهم أو اصطنعوا صنمًا على مثاله. ولم يصل إلينا من أخبار هذه الأصنام إلا نتف مشتتة يمكن الاستدلال بها على غيرها.
(أ) هبل
هو أكبر أصنامهم ويسمونه الصنم الأكبر، وذكروا أنَّه كان مصنوعًا من نحاس — وقيل من قوارير أي زجاج — على هيئة رجل ضخم، وكانوا يذبحون له ويستخيرونه في أسفارهم وحروبهم وسائر أعمالهم. ويظهر لنا أنَّ هذا الصنم من آلهة الفينيقيين أو الكنعانيين والأدلة على ذلك:
- أولًا: قول العرب أنَّه جاءهم من مواب بأرض البلقاء، حمله إليهم عمرو بن لحي الذي ذكرناه.
- ثانيًا: أنَّ لفظ هبل لا اشتقاق له في العربية من معناه، فهو غير مشتق من لفظ عربي، وعندنا أنَّه عبراني أو فينيقي أصله «هبعل» وهو اسم أكبر أصنام الفينيقيين أو الكنعانيين ومن جاورهم من أمم الشام كالموابيين والمديانيين والبابليين والليبيين. وكان للفينيقيين عشرات من الآلهة يميزون منها إلهين. أحدهما ذكر والآخر أنثى، ويسمون الذكر «هبعل» والأنثى «عشروت»، ومعنى «بعل» في لسانهم السيد والإله، والهاء في العبرانية أداة التعريف مثل «أل» العربية، فبإضافة هذه الأداة إلى بعل يريدون الإله الأكبر. والظاهر أنَّ عمرًا المذكور لما قدم مواب أعجبته عبادة الموابيين لهذا الصنم، وكانوا يستمطرونه ويستنصرونه، فحمله إلى مكة باسمه العبراني «هبعل»، وأما العين الزائدة فيسهل إهمالها بالتخفيف ثم ضياعها بالاستعمال، وخصوصًا في لفظ «بعل»؛ لأنَّ الكلدانيين كانوا يلفظونه «بل» بإهمال العين، وهو اسم هذا الإله عندهم. وربما كان الموابيون يلفظونها «هبل» فنقلها عمرو بن لحي كما كان يسمعها.
- ثالثًا: أنَّ أساليب عبادة العرب هبل تشبه أساليب عبادة الموابيين هبعل. فقد كان الموابيون ينصبون هذا الصنم على التلال المرتفعة أو سقوف البيوت، ويذبحون له الذبائح من الحيوانات والآدميين، ويحرقون له المحرقات ويستخيرونه ويفضلونه على سائر آلهتهم، وكذلك كان يفعل العرب لهبل. وكما أنَّ هبعل أكبر أصنام الموابيين ومن جرى مجراهم، فهبل أكبر أصنام العرب وكانوا ينصبونه فوق الكعبة.
(ب) إساف ونائلة
ذكروا أنَّهما صنمان، الأول على صورة رجل والثاني على صورة امرأة، حملهما عمرو بن لحي أيضًا من البلقاء فوضعهما على بئر زمزم بالكعبة، ثم وضع أحدهما على الصفا والآخر على المروة، فربما كان هذان وهبل مثلثًا وثنيًا، والمثلثات الوثنية كانت شائعة عند الوثنيين في الأزمنة القديمة والغالب في هذه المثلثات أن يكون كل منها مؤلفًا من رجل وامرأة وغلام، وأمثلة هذه المثلثات كثيرة عند المصريين القدماء والكلدانيين وغيرهم.
(ﺟ) يغوث
(د) ود
وهذا الصنم قد وصفه ياقوت في معجمه فقال: «إنَّه على مثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد دبر عليه — أي نقش عليه — حلتان، متزر بحلة ومرتد بحلة … عليه سيف وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء وجعبة فيها سهام»، فما أشبه هذا الوصف بوصف ملك من ملوك الفراعنة ذاهب للحرب على مركبته. وهو يشبه إلهًا فينيقيًّا اسمه أشبو، أو سيس إله مصري. ولا يمكننا الجزم في ذلك وإنما يظهر من وصفه أنَّه إله غريب.
وقس على ذلك سائر الأصنام، وإن كُنَّا لا نطمع في ردها كلها إلى أصولها، ولا أن يكون كلامنا فيها يقينيًّا أو قطعيًّا، وإنما هو من قبيل الترجيح، وهذا يكفي في هذا المقام.
(١-٩) الثأر والعائلة والحلف
ورأينا صاحب طوتمية العرب قد علق أهمية كبرى على اجتماع العرب للمطالبة بالثأر باسم القبيلة، فعنده أنَّ ذلك من بقايا الطوتمية؛ لأنَّ القبيلة كانت قديمًا إذا قتل أحد أفرادها اشتركت كلها في المطالبة بدمه؛ لأنَّها تطالب بحق الإله الذي هو جدها الأعلى، وأنَّ العرب ليس عندهم عائلة إنَّما آخر أنسابهم الحي — ولا حاجة بنا إلى التطويل في بيان فساد هذا التأويل بعد أن ظهر فساد المقدمات الأخرى. فالطلب بالثأر باسم القبيلة طبيعي في أمم البادية، وضروري لحفظ جامعة النسب، ولولاها لم يكن لتلك الجامعة معنى. ولكن صاحبنا أجهد نفسه كثيرًا في التفسير والتعليل، للتوفيق بين المطالبة بالثأر عند العرب ومطالبة أصحاب الطوتم بحق جدهم الأعلى. وهيهات أن يتأتى له ذلك إلا إذا ثبتت الطوتمية عند العرب فيمكن تفسير الثأر بما فسره، لا أن يكون هو من أدلة تلك الطوتمية يستعان به في إثباتها.
وأما عدم وجود العائلة عند العرب فالقول به غريب، وإنكار العائلة عند العرب يقرب من إنكار البديهيات، أو هو إنكار ضوء الشمس في رابعة النهار. وأغرب من ذلك استدلاله على طوتمية العرب بما يحدث عندهم من الترابط أو التعاون بواسطة الحلف ونحوه، فالتحالف قاعدة سياسية لا تزال جارية إلى الآن عند أرقى الأمم المتمدنة، وإنَّما يختلف عن الحلف عند قبائل العرب كما تختلف بداوة هؤلاء عن حضارة أولئك.