المَأْزِق: أسباب السخط في العصر المذهب
لماذا ظهرت الحركة التقدمية في الوقت الذي ظهرت فيه تحديدًا، ولم تَظهَر قبلَه أو بعدَه؟ ولماذا كان عددٌ كافٍ من الأمريكيين «مستعدًّا للإصلاح» في عام ١٩٠٠، وراغبًا في تحقيقه خلال الخمسة عشر أو العشرين عامًا التالية؟
بدأت الحركة التقدمية في الظهور في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وتطورت بسرعة متزايدة منذ عام ١٩٠٠ تقريبًا حتى عام ١٩١٧، وبعدها حدث انقسام داخلَها وخَبَتْ خلال الحرب العالمية الأولى وبعدَها مباشرة؛ أي منذ عام ١٩١٧ حتى أوائل العشرينيات من القرن العشرين. لماذا ظهرت في ذلك الوقت بالتحديد؟ السبب باختصار يعود لذلك الشعور الذي تولَّد داخل الأمريكيين على نحو متزايد بينما كان القرن التاسع عشر في سنواته الأخيرة بأن مجتمعهم كان يتغير أحيانًا للأفضل، لكنه كان يتغير للأسوأ أيضًا في جوانب مهمة. لا شك أن تغيُّر المجتمع إلى الأفضل تمثَّل في الرخاء الذي اتَّسمت به ثمانينيات القرن التاسع عشر؛ إذ تضاعفت أميال السكك الحديدية؛ مما حفَّز التنمية الاقتصادية وأتاح تحقيقها، ودخلت الكهرباء لأول مرة إلى شوارع المدن والأماكن العامة، وبُنيت أولى ناطحات السحاب. أما على الجانب الآخر، فقد تمثَّلت التغيُّرات إلى الأسوأ بكل تأكيد في ظروف العمل في المصانع والمناجم وفي السيطرة الاحتكارية التي فرضتْها خطوط السكك الحديدية على ملايين المزارعين، والأهم من ذلك الفروقات الواضحة بنحو متزايد بين دخول أفراد المجتمع الأوفر حظًّا وتلك الخاصة بجموع الناس. لقد كان الأغنياء يزدادون غنًى — بنحو كبير للغاية — عن معظم الناس. بدا ذلك معقولًا ومبرَّرًا إلى حدٍّ معيَّن، ولكن عندما تمَّ تخطِّي ذلك الحدِّ، ساد شعور بالظلم والجور. وبرز السؤال: ما الذي يمكن فعله حيال هذا الأمر، إن كان بالإمكان فعل أي شيء؟
ظهرت بوادر السخط مبكرًا منذ عام ١٨٨٠. قبل بضعة عقود من هذا العام، كان الأمريكيون غالبًا ما ينظرون إلى المجتمع بوصفه مجموعة متناغمة من الأشخاص المنشغلين بإنتاج الأشياء وتوزيعها؛ إذ كان المزارعون ينتجون الحبوب والقطن ويربُّون الماشية، بينما كان الحِرَفيُّون الماهرون يبنون المنازل ويصنعون حدوات الخيول، والصُّنَّاع يصنعون المسامير والقضبان، ويبيعها أصحاب المحال التجارية. تألَّف الاقتصاد من منتجين صغار، وقلَّما وُجد شخص فاحش الثراء أو شديد الفقر، ولم ينبغِ لأحد أن يكون كذلك. كان الأشخاص غير المنتجين محلَّ شكوك، وكان يُطلَق عليهم في بعض الأحيان المتلاعبون بالثروة التي حقَّقها الأشخاص الحقيقيون. لم تتطابق الحقيقة دائمًا مع هذا النموذج المثالي، ولكن الترابط المتناغم بين المنتجين والدور الثانوي للغاية الذي لعبه غير المنتجين كان هو ما يجدر بالمجتمع الأمريكي أن يكون عليه. ذكر عالِم الاقتصاد السياسي الأمريكي الأبرز في القرن التاسع عشر هنري سي كيري الذي نشأ في فيلادلفيا أن المجتمع الصالح قوامه الترابط المتناغم بين أفراده. وكانت عملية الإنتاج ضرورية وتحظى بالاحترام. وذكر المفكر الفرنسي الكبير ألكسي دي توكفيل، الذي اهتمَّ بدراسة الولايات المتحدة وزارها عام ١٨٣١، أن الشعب الأمريكي كان يحب التغيير ولكنه كان يكره الثورة، وذلك لأنهم كانوا من ذوي «الثروات الضئيلة»؛ بمعنى أنهم ليسوا فاحِشِي الثراء، ولكن يَحظَى جميعهم ببعض الممتلكات التي يستثمرونها وينمُّونها ويدافعون عنها. رأى هذان الكاتبان أن سر نجاح المجتمع الأمريكي لم ينبع من المساواة بين أفراده، ولكنَّه كان يكمن في انتشار الفرص على نطاق واسع والتوزيع العادل للملكية بصفة عامة.
ولكن الظلم الجائر الذي فرضه المجتمع الأمريكي على أفراده من غير البِيض لم يُذكَر في نظرية كيري أو ملاحظات توكفيل. وتناقض الشرخ العميق الذي أحدثتْه الحرب الأهلية التي كانت قد انتهت حينها منذ وقت قصير وما أعقب ذلك من إعادة إعمار مع الحديث عن الترابط المتناغم، مع الأخذ في الاعتبار أن عدد مَن لَقُوا حتفَهم في تلك الحرب تخطَّى ستَّمائةِ ألف شخص، وأن العَدَاء الطائفي والعرقي قد استمر بعد ذلك لفترة طويلة. ومع ذلك، ظل عدد كبير من الأمريكيين يَرَوْن أن الإجابة عن السؤال الخاص بالوضع الذي ينبغي أن تكون عليه أمريكا تكمن في النموذج المثالي للتناغم وفي الانتشار الواسع والديمقراطي للسلطة الاقتصادية والسياسية التي كانت تدعم هذا النموذج وتسمح بتحقيقه. اتَّسمت النزعة الإنتاجية بأنها متفائلة وحالمة وخيالية بعض الشيء، ومع ذلك بدا بالفعل أنها تحدد الكيفية التي عمل بها الاقتصاد السياسي للبلاد.
هذا كان حال ذلك البلد في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر: نحو خمسين مليون شخص متناثرين على مساحة ثلاثة ملايين ميل مربع من الأرض فيما بين المحيطين الهادئ والأطلنطي، يعيش نحو ثلثهم في منطقة الغرب الأوسط ويقطن ثلث آخر في الجنوب، بحيث يعيش شخصان من بين كل سبعة أشخاص في منطقة الشمال الشرقي، ويتواجد أقل من شخص واحد من بين كل خمسة وعشرين شخصًا في الغرب الشاسع. كان أكثر من ثلاثة وأربعين مليون شخص من البِيض، ونحو سبعة ملايين شخص كانوا أمريكيين من أصول أفريقية؛ عاش تسعون في المائة منهم في الجنوب. وُلد ثلاثة عشر في المائة من السكان في أماكن أخرى، أبرزها — وعلى الترتيب — ألمانيا وأيرلندا وكندا وبريطانيا والدول الاسكندنافية. تمثلت الأقليتان الوحيدتان من غير البِيض، بخلاف السُّود، في نحو مائة ألف شخص من الصينيين (يعيش تقريبًا جميعهم في مدن الساحل الغربي أو بالقرب من محطات السكك الحديدية) وربما أربعمائة ألف شخص من الهنود الأمريكيين الذين عاشوا أيضًا بنحوٍ أساسي في الغرب. باختصار، كان غالبية السكان يتشابهون في كونهم من البِيض الذين وُلدوا بالولايات المتحدة، ولكن كانت هناك أقليات كبيرة من السود في الجنوب والآسيويين والهنود في الغرب والمهاجرين في مدن الشرق والغرب الأوسط.
فيمَ اشتَغَل هؤلاء السكان؟ عَمِلوا في الزراعة في المقام الأول. في بعض الأحيان خلال سبعينيات القرن التاسع عشر بدأ عدد الأشخاص الذين يعملون في أعمال أخرى غير الزراعة يفوق أعداد المشتغلين بالزراعة، ولكن لم يكن هناك عمل واحد يتفوَّق على الزراعة. انقسم غير المزارعين بنحوٍ أساسي إلى عُمَّال مصانع وعمال بقطاع الخدمات ومهنيين وأصحاب أعمال وعاملين بالتجارة. لطالما كان الأمريكيون شعبًا زراعيًّا واستمرت غالبيته حتى عام ١٩٢٠ في العيش بالمَزَارِع أو بالقُرَى الصغيرة حتى وإن كانوا يشتغلون بأشياء أخرى غير الزراعة وتربية الماشية. والعديد من الأشخاص الذين لم يكونوا مزارعين بالفعل، اشتغلوا مع ذلك في أعمال متعلقة بالزراعة؛ فقد كانوا يصنعون حدوات الخيل أو الأسلاك الشائكة أو يديرون المحلات القروية أو يُلقون المواعِظ في كنائس القرى. علاوة على ذلك، كان العديد من الأشخاص الذين لم يعودوا يقطنون المزارع أو القرى قد ترعرعوا بها ونظروا إلى العالم من منظور قروي. لم يتخطَّ عدد عمال المصانع — وهم يمثلون ثانيَ أكبر فئة مهنية — عدد المزارعين على مدى عدة عقود بعد سبعينيات القرن التاسع عشر. وحتى بعد عام ١٩٢٠ بفترة كبيرة، كان الشعب الأمريكي في معظمه شعبًا زراعيًّا سواء في مكان السكن الفعلي والعمل أم في المظهر.
ومن ناحية توزيع الثروة والدَّخْل، لم يكن الأمريكيون متساوِين بأي حال من الأحوال في عام ١٨٧٠ أو عام ١٨٨٠، حتى بالنسبة للأغلبية البيضاء التي وُلدت بالبلاد، ولم يختلف الوضع عن ذلك قط. ومع هذا كان من النادر أن تكون الفروق بين الأغنياء والفقراء كبيرة جدًّا في شعب من المزارعين والميكانيكيين وأصحاب المحال التجارية والواعظين والأطباء وأصحاب المهن الأخرى المماثلة. كان هناك عدد قليل من أصحاب النفوذ والمال بوول ستريت والمناطق المماثلة لها، وكانت المسافة الاجتماعية بين عمال المصانع ومالِكِيها واضحة. ولكن عندما اندلعت الحرب الأهلية في عام ١٨٦١، لم يكن هناك عدد كافٍ بعدُ من أصحاب المصانع أو حتى من المديرين لتشكيل ما يمكن أن يكون طبقة اجتماعية منفصلة للأغنياء. وحتى ذلك الحين، كان كبار المزارعين في الجنوب يمثلون إلى حدٍّ بعيد طبقة أرستقراطية إقطاعية قوية بما يكفي لإجبار جيرانهم الأكثر بساطة على تأييد إعلان الانفصال، ولكن الحرب أوْهَنَتْ قواهم للغاية. وخلال سبعينيات القرن التاسع عشر، استطاع الجنوب والغرب والغرب الأوسط، وحتى الشمال الشرقي الذي تألف من بلدات صغيرة، التشبث بوهم، بل وإلى حدٍّ ما، بحقيقة المجتمع الاقتصادي العادل وغير المتكافئ في بعض الأحيان.
على مدار السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وسنوات الحقبة التقدمية، استمر هذا التواجد الكبير للسكان في الريف والمناطق المؤلَّفة من بلدات صغيرة؛ إذ كان ثُلُثَا السكان يعيشون في الجنوب والغرب الأوسط، وهي مناطق، باستثناء شيكاجو، لا تحتوي فعليًّا على مدن كبيرة. ولكن كانت هناك أمور كثيرة تتغير؛ ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر دخل إلى الولايات المتحدة مئات الآلاف من المهاجرين القادِمين من أوروبا، ووصلتْ أعدادُهم إلى ملايين بعد عام ١٩٠٥، ولم يكن أغلبهم قادِمِين من شمال غرب أوروبا، ولكنْ من إيطاليا وبولندا وروسيا والبلقان. وتساءل العديد من أفراد الأغلبية البيضاء المولودة بالبلاد إن كان هؤلاء القادمون من روسيا القيصرية أو الأنظمة المَلَكية الأخرى يمكن أن يتعلَّموا الأساليب الديمقراطية أم لا. ازدهرت المزارع العائلية الصغيرة — والتي تُعرَف عادة بالعِزَب الريفية — في كانساس خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر وعبر السهول الكبرى بعد عام ١٩٠٠، وأدَّى هذا إلى نمو المدن على نحو أسرع، وصاحَبَ ذلك ظهور مشكلات عسيرة متعلقة بالصحة العامة والمرافق وحفظ الأمن والتعليم. تضاعفت الأعمال والصناعات واتخذت في الأغلب شكل شركات، وأخذ حجمها يزداد يومًا بعد يوم ممَّا أدَّى إلى زيادة نسبة أصحاب الأعمال والرأسماليين إلى الموظفين والعمال. وظهرتْ طبقة جديدة من مديري الإدارة الوسطى، وهم ليسوا من المُلَّاك ولا العُمَّال، وإنما مجموعة من الموظفين البيروقراطيين العامِلِين بشركات السكك الحديدية ومجموعة أخرى من الأعمال. وبينما كان الشعب الأمريكي لا يزال شعبًا قرويًّا في الواقع الفعلي وليس فقط بحكم التقليد، كان أفراده يتحولون تدريجيًّا إلى التمدُّن والتصنيع، وكانوا يحاولون في الوقت نفسه فهمَ ما يعنيه ذلك وإدراكَ السُّبل التي تَحُول دُونَ أن تستَبِدَّ بهم الجوانب السلبية لذلك التحوُّل.
دقَّتْ أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر ناقوس الخطر؛ فإذا كان ذلك الترابط المتناغم بين المنتجين الذي تكلم عنه هنري كيري قد تواجد، فقد تحطَّم بحلول ذلك الوقت. فمنذ أن تسبب الذعر المصرفي في سبتمبر عام ١٨٧٣ في إفلاس مصرف جاي كوك آند كمباني بفيلادلفيا، وهو أكبر مصارف البلاد، غرق الاقتصاد في حالة من الكساد. كان الانكماش الاقتصادي، رغم أنه كان متفاوتًا، حادًّا في العديد من القطاعات، ولم تتحسن الأحوال بصفة عامة حتى عام ١٨٧٩. وجاءت الصدمة الكبرى مع إضراب عمال السكك الحديدية الذي بدأ في مارتنسفيل بفيرجينيا الغربية وانتقل بسرعة إلى بيتسبرج وشيكاجو وإلى غرب البلاد في صيف عام ١٨٧٧. كان هذا الإضراب مختلفًا عن أي صراع عمالي سابق، نظرًا لأنه انتشر على مستوى البلاد. استدعى حاكم بنسلفانيا قوات الدفاع الخاصة بالولاية. كان الشعب المذعور لا يريد تكرار ما حدث أثناء ثورة كومونة باريس العمالية في عام ١٨٧١ حينما استولى المتطرفون على العاصمة الفرنسية لوقت قصير. وأطلقت القوات المذعورة النار على الجموع، وفيهم المشاركون في الإضراب والمتفرجون والمناصرون وعائلاتهم، وقُتل خمسون شخصًا. اندلعت إضرابات متعاطفة على طول خطوط السكك الحديدية في الغرب والشرق، وانتشرت المواجهات العنيفة في أرجاء ولاية نيويورك من بافالو وحتى روتشستر وسيراكيوز وألباني، ولكن سرعان ما كُبحت هذه الانتفاضة. وبالإضافة إلى الجرحى والمتوفَّيْنَ كانت هناك ضحية أخرى وهي الثقة في «تناغم الطبقات المنتجة»؛ فإذا كان ذلك التناغم قد وُجد بالفعل؛ فمن الواضح أنه لم يَعُدْ له وجود. لقد أضحى المزارعون والعمال يقفون على أحد طَرَفَيِ انقسام اجتماعي كبير، بينما كان المُلَّاك والمديرون — الرأسماليون — على الطرف الآخر. ولم يَعُدِ الشعب الأمريكي يفكر من منظور التناغم وإنما الصراع؛ فقد أصبح رأس المال في مواجهة العمالة و«المصالح» في مواجهة «الشعب». كان لا بد من حدوث تغييرات جادة، ولكن كيف؟ لم يكن هناك أي حزب سياسي كبير مستعِدٍّ ولو قليلًا لإحداث تغييرات ولو حتى متوسطة، وكان الإصلاح بعيدًا جدًّا. ولكن رأى المفكرون أن أمريكا قد تجاوزت أزمة كبيرة وبدأت تأخذ منعطفًا جديدًا، وعند ذلك المنعطف ظهرت بعض القوى المُنذِرة بالخطر للغاية.
لم يكن إضراب عمال السكك الحديدية العظيم عام ١٨٧٧ هو الاضطراب الوحيد الذي شَهِدَتْه البلاد؛ ففي عام ١٨٨٢ أُعلن دمج الشركات المُنتِجة للنفط التي كان يسيطر عليها جون دي روكفلر — والتي كانت كبيرة الحجم بالفعل — في شركة واحدة هي ستاندرد أويل؛ ممَّا أسفر عن شركة تحكَّمتْ وحدَها وبصورة احتكارية في صناعة حيوية. في ذلك الوقت أصدرت المحكمة العليا الأمريكية أحكامًا تعرِّف الشركة بوصفها شخصية اعتبارية؛ وذلك وفقًا لما يعنيه التعديل الرابع عشر للدستور، وبذلك أصبحتِ الشركات تمتلك حقوقًا، مثلها مثل الأشخاص الحقيقيين، لا يمكن أن تنتهكها الحكومات. كانت هيئات السكك الحديدية أيضًا تتخذ شكل الشركات، وكانت الأمور تسير في اتجاهٍ استطاعت بموجبه بعض تلك الهيئات «تنظيم» أنفسها في كيانات احتكارية إقليمية. وبحلول أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، كان هناك ٨٠ ألف ميل من خطوط السكك الحديدية تعمل في الأغلب بمنطقتي الشمال الشرقي والغرب الأوسط، وبحلول عام ١٨٩٠ تضاعفت الخطوط لتمتدَّ لمسافة ١٦٧ ألف ميل، تتضمن أربعة خطوط ممتدة عبر القارة وخطًّا خامسًا عبرَ كندا. أصبحت الشركات الكبرى واقعًا يُميِّز الحياة الأمريكية، وكلما ازداد حجم هذه المؤسسات، شعر العامل والمزارع العاديان بضآلتهما المتناهية أمام الأغنياء وأصحاب النفوذ أكثر من أي وقت مضى. هل كانت هذه المؤسسات الكبيرة تحتاج أن تخضع للسيطرة والتنظيم؟ لم ينتبه إلا قِلَّة قليلة من الأشخاص إلى تلك الحاجة أو الاحتمالية في عام ١٨٨٠، أو للشكل الذي يمكن أن يتَّخذه هذا الأمر. لم يدرك هذا الأمر سوى قليلين.
شهدت سبعينيات القرن التاسع عشر زيادةً فعليةً في الناتج الكلي للاقتصاد الأمريكي والناتج القومي الإجمالي. وخلال ذلك العقد استمرَّ المستوطنون وأصحاب مزارع الماشية في مهاجمة أراضي السكان الأصليين من الهنود الحمر بالسهول الكبرى، ووقعت أشهر مواجهة من بين المواجهات العديدة بين الطرفين عند نهر ليتل بيج هورن في مونتانا في يونيو عام ١٨٧٦، عندما هُزمت كتيبة من الجيش بقيادة المقدم جورج إيه كاستر على يد محاربي قبيلة سو بقيادة المحارب الملقَّب بالجواد الجامح. أدَّتْ حالة كساد على المستوى القومي استمرت من عام ١٨٧٣ وحتى عام ١٨٧٨ إلى إيقاف عمليات إعادة الإعمار في الجنوب وتقييد الهجرة وتحطم رفاهية وأمان الأفراد عبر جميع أرجاء منطقتي الشمال الشرقي والبحيرات العظمى التي كانت تتحول إلى التصنيع، وأنهكتِ البطالة آلاف الأُسَر، وأسراب الجراد التي انتشرت بمينيسوتا وجميع مناطق الغرب الأوسط الأعلى «قَضَتْ على الأخضر واليابس ما عدا الرهون العقارية»، ومع ذلك رفضت حكومات الولايات أن تمدَّ يدَ العَوْن بأي صورة. حتى في ماساتشوستس المستقرة والمتحضرة، بدءًا من عام ١٨٧٥، كان يموت طفلٌ من بين كل أربعة أطفال تقريبًا قبل أن يبلغ عامه الأول، ويموت شخصٌ من بين كل ثلاثة أشخاص تقريبًا قبل أن يبلغ عمره الحادية والعشرين.
صُنِّفت معظم هذه الأحداث على أنها كارثة طبيعية؛ المخاطر الحتمية التي ينطوي عليها العيش والتي لا يمكن فعل أي شيء للحيلولة دونها. في ذلك الوقت، كان الطب بدائيًّا، وكانت نظرية جرثومية المرض — ومِن ثَم الوقاية من العدوى — إما غير معروفة وإما غير مُصدَّقة. وكان من الصعب تزويد المدن السريعة التوسع بشبكات صرف صحي ومصادر آمِنة للمياه لتتواكب مع تعداد سكانها الذي يتزايد بسرعة. وكانت البنية التحتية لا يزال ينقصها الكثير من الأشياء الهامة؛ ليس فقط فيما يتعلق بجوانبها المادية ولكن أيضًا المعرفة العلمية والتقنية الملائمة واللازمة لقيام كيان صناعي وحضري آمِن. أوجدت الحاجة مثل هذه الاختراعات خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، ولكن التقدُّم كان بطيئًا ومتفاوتًا. كانت منطقتا الشمال الشرقي والبحيرات العظمى، اللتان كانتا تخوضان غمار التحول إلى التصنيع والتمدُّن، من أكثر المناطق التي تحتاج إلى التغيير الفوري. ولكن الأغلبية القروية وجدت نفسها أيضًا محرومة من حق تقرير مصيرها الاقتصادي، فقد سيطرت شركات السكك الحديدية وأسواق الحبوب والماشية وبائعو البضائع التي تحميها حواجز جمركية عالية أكثر فأكثر على عملية اتخاذ القرار، واضعة المنتجين — أي المزارعين وعمال المدن — بين مطرقة الدخول المنخفضة وسندان ارتفاع النفقات.
في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر لم يَظهَر على السطح سوى مقترَحْين مهمَّيْن للإصلاح: تمثَّل الأول في سَنِّ قوانين للخدمة المدنية تَضمَن في حال نجاحها أن يحصل موظفو الحكومة على وظائفهم من خلال الكفاءة وليس من خلال المحسوبية الحزبية، وهو تغيير محمود، ولكنه لم يُخاطِب أصل المشكلات الاجتماعية الموجودة والمتزايدة. أما المقترح الآخر فنَادَى بالتوسُّع النقدي عبر إصدار أوراق نقدية أو ما عُرف ﺑ «العملات الخضراء»، التي تستند إلى ثقة واعتماد الحكومة وليس إلى أي شيء آخر؛ أي عدم وجود غطاء من الذهب أو الفضة. تم تداول العملات الخضراء بنجاح خلال الحرب الأهلية ومرحلة إعادة الإعمار، ولكن بأقل من سعر الإصدار، وأصبحتِ العملة الوطنية الرئيسية في العصور الحديثة.
ولكنَّ الاعتقاد الاقتصادي السائد في أواخر القرن التاسع عشر هو أن المعادن النفيسة تتمتَّع بقيمة جوهرية وأن العملات الورقية يجب أن تكون قابلة للتحويل إلى الذهب (وهو الأفضل) أو الفضة. سيطر هذا الرأي على الفكر الاقتصادي حتى بعد بداية القرن العشرين بوقت كبير. وخلال الفترة بين عامَيْ ١٨٧٦ و١٨٨٤، ازداد الضغط في أجزاء من الشرق والغرب الأوسط على الحكومة لإصدار المزيد من العملات الخضراء. ونشأ حزب العملة الخضراء الذي انتخب العشرات من أعضاء الكونجرس وبعض المسئولين الحكوميين الآخرين، ولكن عددهم لم يكن قط كبيرًا بما يكفي لتحقيق أي إنجاز سوى إلصاق تهم التطرف والجنون بأنفسهم. لم تصبح مقترحاتهم هي العُرْف السائد بنحوٍ كاملٍ إلا في ثلاثينيات القرن العشرين، وهي لا تزال كذلك حتى الآن. فلا يمكن للولايات المتحدة أو لأي دولة متقدمة أخرى أن تعمل اليوم من دون عملات ورقية «ليست» مدعومة بغطاء من الذهب أو الفضة، ولكن في ذلك الوقت لم يصدق هذا الأمر سوى القليل من الأشخاص.
بحلول منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر، خَبَتْ شعبية الاتجاه المؤيد للتوسع في إصدار العملات الخضراء. ويتمثَّل أحد أسباب ذلك في أن معظم سنوات ذلك العقد كانت بنحوٍ عامٍّ سنوات رخاء؛ فقد ازداد عدد العِزَب الريفية زيادة قوية وسجَّلت الهجرة من أوروبا معدلاتٍ قياسيةً وارتفعت مؤشرات الأسواق. وبرز شعور لدى الكثير من الساسة في الأحزاب الكبرى بأنه لا بد من الاستجابة إلى حالة القلق العام بشأن الكيانات الاحتكارية وعدم الإنصاف الذي تمثَّل في امتلاك ثروات شخصية غير مسبوقة، أحاطت بها مظاهر المُغالاة في التباهي. وكانت النتيجة هي صدور قانونين فيدراليَّين منظِّمَين للشركات بنحوٍ جديٍّ لأول مرة؛ وهما قانون التجارة بين الولايات لعام ١٨٨٧، وقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام ١٨٩٠. وقبلَ صدور هذين القانونين الفيدراليَّين، أدَّى الضغط السياسي الذي مَارَسه المزارعون وصغار رجال الأعمال وغيرهم إلى قيام عدد من المَجَالِس التشريعية بالولايات في منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر بسَنِّ قوانين تنظِّم رسوم السكك الحديدية. ومنذ ذلك الوقت وخلال الحقبة التقدمية، أصبح مألوفًا أن تأخذ الولايات المبادرة فيما يتعلق بالإجراءات الإصلاحية ويتبعها بعد ذلك الكونجرس الفيدرالي.
ولكي يحدث الإصلاح، كان من الضروري أن تتغلَّب مساعي الضغط المنادية بالتنظيم على سياسة عدم التدخُّل السائدة والتي تَرَى أنه لا يجب التدخل في شئون الأفراد والشركات. كانت هذه السياسة إحدى المُسلَّمات القائمة منذ زمن بعيد للحياة الاقتصادية الأمريكية، وكذلك أيضًا معارضة العمليات الاحتكارية التي ترسَّخت على الأقل منذ أن أغلق الرئيس أندرو جاكسون مصرف الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٨٣٢، الذي شجبه مناصروه باعتباره كيانًا احتكاريًّا متوحشًا. وبحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر، انتشر تصوُّرٌ (وكان تصوُّرًا دقيقًا) عن قدرة شركات السكك الحديدية على التصرُّف في كثير من الأحيان ككيانات احتكارية؛ فقد كانت الوسائلَ الوحيدةَ الفعَّالةَ لنقل البضائع والأفراد عبر مسافات طويلة، وبإمكانها رفع الرسوم على شاحِنِي البضائع إلى أقصى حدٍّ ممكن. ويتضمَّن «شاحنو البضائع» المزارعين الذين يبيعون محاصيلهم أو ماشيتهم، وأصحاب المحالِّ الذين يشترون البضائع التي تُصنَع في مناطق أخرى، وكبار المُصنِّعين وصغارهم؛ باختصار، تضمَّنت هذه الشريحة جميع الأفراد الذين احتاجوا إلى استخدام الطُّرق. استاء هؤلاء من اضطرارهم لدفع الرسوم التي تفرضها عليهم شركات السكك الحديدية، وكانوا كأفراد يشعرون بقلة الحيلة أمام قوة الشركات (وبخاصة شركات السكك الحديدية) التي تفوقهم نفوذًا بكثير. وكان الملاذ المنطقي الذي يمكن أن يتوجَّهوا إليه هو حكومات الولايات والمجالس التشريعية المُلتَزِمة بسَنِّ القوانين التنظيمية.
في عام ١٨٨٦، أقامتْ شركات السكك الحديدية واباش وسانت لويس وباسيفيك دعوى قضائية على ولاية إلينوي، وادَّعَتْ شركة واباش أن قانون الولاية المنظِّم للعمليات التي تقوم بها قد انتهك المادة الموجودة في الدستور الأمريكي والتي تقضي باحتفاظ الحكومة الفيدرالية بحق الرقابة على التجارة بين الولايات، واتفقت المحكمة العليا الأمريكية في الرأي مع شركة واباش وألغَتْ قانون ولاية إلينوي، بل وجميع القوانين المنظِّمة للسكك الحديدية بالولايات الأخرى.
جاءت ردة فعل الكونجرس سريعةً؛ وذلك بتمرير قانون التجارة بين الولايات لعام ١٨٨٧ بأغلبية من الحزبين، ووقَّعه الرئيس المنتمِي إلى الحزب الديمقراطي جروفر كليفلاند في فبراير من عام ١٨٨٧. نصَّ القانون على أن تكون رسوم السكك الحديدية «معقولة وعادلة»، ومنعَ تقديم خصومات لشركات الشحن الكبرى مثل شركة ستاندرد أويل أو إقامة شراكات احتكارية معها، وألزم شركات السكك الحديدية بأن تنشر رسومَها وألَّا ترفعها دون إشعار عام قبلَها بعشرة أيام.
بعد ذلك بثلاث سنوات، انتقلتِ السيطرة على الكونجرس والرئاسة من الديمقراطيين إلى الجمهوريين، ولكنَّ الضغط الشعبي المناهِض للاحتكار والمنادِي بالقوانين التنظيمية ازداد قوة، وشارك الحزبان الكبيران عام ١٨٨٨ في حملاتٍ مناديةٍ بإصدار قانون عام لمكافحة الاحتكار لا ينظِّم فقط عمل شركات السكك الحديدية، ولكن يشمل أي تحالف أو كيان احتكاري. وأدَّى ذلك إلى تمرير الكونجرس في يوليو عام ١٨٩٠ قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار، ووقَّع عليه الرئيس بنجامين هاريسون. انتهت المشكلة، أو هكذا بدا الأمر، بيد أنها لم تنتهِ حقًّا؛ فَكَما قال السيد دولي، حكيم شيكاجو الخيالي الذي ابتكره الكاتب فينلي بيتر دَن: «ما أراه أنا وأنت جدارًا من الطوب … يراه محامي أي شركة قوس نصر.» فقد أدَّتِ الدعاوى القضائية التي وصلت إلى المحكمة العليا الأمريكية خلال تسعينيات القرن التاسع عشر إلى إضعاف قانون التجارة بين الولايات وقانون شيرمان، وأبطلت في الواقع أجزاء كبيرة منهما. وفي واقعة صارخة، قَضَتِ المحكمة في قضية «شركة إي سي نايت ضد الحكومة الأمريكية» في عام ١٨٩٥ بأن التصنيع — حتى في حالة تحكم شركة واحدة بتسعين في المائة من السوق — يختلف عن التجارة؛ ولذا لا تسري عليه قوانين مكافحة الاحتكار.
ومنذ أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، هيمن الاتجاه الاحتكاري الذي عُرف باسم «حركة الدمج» على الشركات الكبرى بأمريكا، وهو ما أحدث دمجًا بين شتى أنواع الشركات، وفي ذلك شركات السكك الحديدية. كانت النتيجة هي شعور قطاعات عديدة من الشعب بالغضب، فقد خُدعوا بقانون التجارة بين الولايات وقانون شيرمان اللذين دفعا الشعب إلى الاعتقاد بأن الاحتكار تحت السيطرة؛ وخذلتْهم المحكمة العليا المحافِظة المنحازة إلى الشركات، وبدأ الأمر يسترعي انتباه نوابهم المنتخَبِين.
كانت النتيجة هي مطالبة بالإصلاح حظيت بدفعة كبيرة خلال تسعينيات القرن التاسع عشر حتى وصلت بحلول عام ١٩٠٠ إلى شعور واسع الانتشار بوجود أزمة. حتى ذلك الوقت كان من الصعب كسر حالة الإجماع السائدة، وهي إجماع على الداروينية الاجتماعية التي تقول بأن الأفراد يتحمَّلون مسئولية نجاحهم أو فشلهم. لعل أبرز المؤيدين للداروينية الاجتماعية هو ويليام جراهام سمنر من جامعة ييل الذي نشر كتابًا في عام ١٨٨٣ بعنوان «ما تدين به الطبقات الاجتماعية بعضها لبعض»، وقد انتهى في كتابه إلى أن الطبقات الاجتماعية لا تَدِين بشيء بعضها لبعض.
في ذلك العصر الذي عُرِف بتقدير آداب اللياقة، كان من غير اللائق التذمُّر من النظام الاجتماعي والاقتصادي، وكان معظم المحررين والواعظين والسياسيين يَسعَوْن لاكتساب الاحترام. ومن وجهة نظرهم كان المزارعون الغاضبون ومناصرو حزب العملة الخضراء أفرادًا غير جديرين بالاحترام؛ ولذا كان يمكن غض الطرف عن شكواهم ومقترحاتهم في الوقت الراهن.