أزمة تسعينيات القرن التاسع عشر: ١٨٨٩–١٩٠١
اتَّسمت ثمانينيات القرن التاسع عشر، في كثير من النواحي، بالتوسُّعية والرخاء. في أمريكا وأوروبا، بدا العالم ثريًّا، وظهرت إبداعات عظيمة في العمارة والهندسة، ومن بينها جسر بروكلين (١٨٨٣) وأول ناطحة سحاب ذات هيكل فولاذي (١٨٨٥)، واتَّسعت الرقعة التي امتدَّت فوقها السكك الحديدية عبر أمريكا. وبحلول عام ١٨٩٠، افتقر قليل من الأماكن على اختلاف حجمها في الشمال الشرقي والغرب الأوسط إلى خدمة نقل الركاب والبضائع، وكان المهاجرون يرتحلون كل يوم بالآلاف إلى نيويورك وفيلادلفيا وبالتيمور ونيو أورليانز على متن السفن البخارية العابرة للمحيط الأطلنطي الجديدة السريعة، بعضهم أراد المكوث في تلك المدن الساحلية، وأراد أكثرهم التوجُّه غربًا. واستمرت أيرلندا وإنجلترا وألمانيا والدول الاسكندنافية في إرسال الكثير من المهاجرين، ولكن بعد عام ١٨٨٠ ساهمت إيطاليا وبولندا وروسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية المتعددة الأعراق في إثراء التنوع داخل المجتمع الأمريكي.
وفي منطقة السهول الكبرى، أخذ الباحثون عن الأراضي من نورث داكوتا وساوث داكوتا إلى تكساس في توسيع حدود الاستيطان غربًا يومًا بعد يوم، وسرعان ما أصبحت المناطق الخاصة بالهنود الحمر في السابق، والتي فَتَحَت أبوابها أمام إقامة البِيض للعِزَب الريفية عام ١٨٨٩، ولايةَ أوكلاهوما. أما عن الهنود الحمر، فقد اختَفَتْ مقاومتهم الأخيرة المنظَّمة في وجه القوات والمزارعين الأمريكيين إبَّان ثمانينيات القرن التاسع عشر، وأُرغِموا على العيش في مستوطنات، حيث كان من المفترض بهم التعايش مع البِيض. كانت تلك «فترة الحضيض» بالنسبة للهنود الحمر، ليس فقط من حيث تعدادهم (فقد تراجع تعدادهم الذي قُدِّر بملايين قبل قدوم كولومبوس إلى ما يقرب من ٢٥٠ ألفًا في عام ١٩٠٠)، ولكن أيضًا في كبْت ثقافاتهم. وأُعلنت مونتانا وإيداهو وواشنطن ووايومنج ونورث داكوتا وساوث داكوتا — الربع الشمالي الغربي بالكامل تقريبًا من الولايات المتحدة — كولايات في عام ١٨٨٩ / ١٨٩٠. وفي كل ولاية من تلك الولايات، ارتفع عدد السكان، مثلما كانت الحال دومًا في السنوات الأولى من عمر المستعمرات الحدودية. لم يتوقف اجتياح الشباب الراغب في العمل بالزراعة وعائلاتهم لمنطقة السهول الكبرى إلا بعد عام ١٩١٥، وحينها فقط توقَّفت إقامة المستوطنات الحدودية التي بدأت في العصور الاستعمارية.
أما عن التعداد السكاني الوطني، فكشف الإحصاء السكاني عام ١٨٩٠ أنه في السنوات العشر السابقة لذلك التاريخ زاد التعداد السكاني زيادةً مُفرِطة بنسبة تتخطَّى ٢٥ في المائة، وارتفع إلى ٦٣ مليونًا؛ أي ضعف ما كان عليه قبل ثلاثين عامًا فقط، قُبَيْل الحرب الأهلية مباشرة. ساهم في ذلك المعدلُ العالي للهجرة، والاستيطانُ السريع للغرب، وكذلك التحول إلى الحياة المدنية. كان كلٌّ من التعداد في الحضر والريف على حدٍّ سواء يرتفع بسرعة في الوقت نفسه. وإبَّان ثمانينيات القرن التاسع عشر، ظهر ما يزيد على ٥٠٠ ألف مزرعة جديدة، في حين أن عدد المناطق الحضرية ارتفع بنسبة ٤٤ في المائة وازداد عدد سكان الحضر بمعدل ٨ ملايين فرد، ما يعادل ضعف الزيادة في الريف. وعلى مستوى النواحي الاقتصادية جميعها، كانت الولايات المتحدة تتبوَّأ مقعدها جنبًا إلى جنب مع البلدان الصناعية الكبرى بالقارة الأوروبية، بل وكانت تنذر أيضًا بأن تتفوق عليها في معدلات الإنتاج. ومما لا يدعو للدهشة أن الولايات المتحدة كانت أيضًا تضارعها في المشكلات الاجتماعية التي تَنتُج عن النمو الاقتصادي المتسارع.
لم تنجح مساعي الإصلاح المحدودة إبَّان ثمانينيات القرن التاسع عشر بالقدر المطلوب في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة التي أعقبتِ الحرب الأهلية. بدأتِ الدعوة لإصلاح الخدمة المدنية منذ ستينيات القرن التاسع عشر أو قبلَه، وفي عام ١٨٨٣، بعد صدمة اغتيال الرئيس جيمس إيه جارفيلد قبل عامين، أُصدر قانون الخدمة المدنية الفيدرالي الأول، الذي يُعرف أيضًا بقانون بندلتون. كان ذلك بدايةً جيدةً؛ حيث أصبح هذا القانون ساريًا في بعض الهيئات مثل هيئة البريد، ولكنه لم يقضِ على التعيينات السياسية تمامًا. بدأ تنظيم المشروعات التجارية الكبرى، الذي كان ضرورةً مُلِحَّةً أخرى، مع قانون التجارة بين الولايات لعام ١٨٨٧ وقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام ١٨٩٠، لكنَّ هذين القانونين لم يكونا سوى لزقات جروحٍ وُضعت على جرح نازف، فسرعان ما أفقدت المحكمة العليا الأمريكية الشديدة التحفظ والموالية للشركات هذين القانونين فاعليتهما. وكان من الممكن أن يساعد التوسُّع النقدي المزارعين وصغار المصنِّعين، لا سيما في الجنوب والغرب اللذين يفتقران إلى السيولة النقدية، وكانت المطالبة بالتوسُّع النقدي السبب الرئيسي وراء تشكُّل حزب العملة الخضراء، إلا أن نظرية الحزب الخاصة بالتوسع في إصدار الأوراق النقدية تناقضت مباشرة مع الممارسة السائدة الخاصة بمعيار الذهب. وُصف مناصرو الحزب بأنهم مهووسون ساذجون، بالرغم من أن بعض الاقتصاديين المعروفين اتفقوا معهم في الرأي. وعندما انتعش الاقتصاد بقدر من الرخاء بعد عام ١٨٨٠، تبخَّر التوجُّه المؤيد لإصدار العملات الخضراء.
خارج نطاق الحكومة، روَّج بعض المُصلِحين لبرامجهم الإصلاحية على نحو جيد، فقد أيَّد هنري جورج فرض «ضريبة واحدة» على الزيادات غير المكتسبة في قيمة الأملاك العقارية، واقترح إدوارد بيلامي تأميم قطاعات كبيرة من الاقتصاد. وعلى الرغم من انتشار الجمعيات المؤيدة لبيلامي وجورج في المدن عبر أرجاء البلاد للترويج لأفكارهما، فلم تجذب بنحوٍ أساسيٍّ سوى المثقفين والنُّخب المتخصصة، فلم تكن الحاجة إلى إدخال إصلاحات قد وصلت بعدُ إلى نطاقٍ أوسَع من المجتمع.
مع ذلك، ظلَّتِ الحقيقة هي أن ثمار الرأسمالية غير الخاضعة لأي رقابة كان يحصدها فقط أقلية صغيرة في قمة المجتمع. استَعَانَ أقطاب مؤسسات وول ستريت وأباطرة السكك الحديدية بمهندسين معماريين عصريين من أجل تشييد قصور عظيمة لهم، بدءًا من نيوبورت ورود آيلاند إلى نيويورك وسان فرانسيسكو، وعلى الرغم من عدم تشييد أعداد كبيرة من تلك القصور، فقد أجَّجت مشاعر المهابة والرفعة وكذلك الاستياء. كانت الفجوة بين تلك القصور ومنازل المزارعين أو الحرفيين المتوسطي الحال تشهد على حالة غياب المساواة المتزايدة. كان هناك في الولايات المتحدة فقراء بالحضر (والريف) على مدى وقت طويل، لكنَّ نموَّ المدن الكبيرة في ثمانينيات القرن التاسع عشر والهجرةَ غير المسبوقة من أوروبا خلال ذلك العقد أسهما في إبراز الفقر على نحو أكبر بكثير. بدأتْ مراكز التكافل الاجتماعي — وهي مؤسسات خاصة يقوم على إدارتها روَّاد العمل الاجتماعي — في الظهور باعتبارها ملاذًا يقدِّم الخدمات الاجتماعية وقدرًا من التعليم إلى فقراء الحضر. كان هال هاوس في شيكاجو، الذي تأسَّس عام ١٨٨٩، أبرز النماذج المبكِّرة على تلك المراكز، وتَبِعه بعدَ ذلك مراكز عديدة. لكنَّ تلك المراكز لم تَصِل بخدماتها إلَّا إلى عدد محدود من الفقراء؛ فقد احتاجت مشكلات الفقر وعدم المساواة إلى استجابات أوسع نطاقًا. حقَّقت المنظمة العمالية الرئيسية في ذلك الوقت — وهي منظمة «فرسان العمل»، التي اتخذت «اتحاد الطبقات المنتجة» شعارًا لها وفلسفة تعبِّر عنها — نجاحاتٍ عديدةً في أوائل ومنتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر، لا سيما أمام شركات السكك الحديدية، واجتذبت ما يقرب من ٧٠٠ ألف عضو بحلول عام ١٨٨٧. إلا أن أحداث شغب ميدان هايماركت التي قادها دُعاة الفوضوية في أكتوبر من عام ١٨٨٦ بشيكاجو أساءت لسمعة أعضاء المنظمة، على الرغم من عدم مشاركتهم في تلك الأحداث؛ وذلك لأن الصحافة المحافِظة (والعامَّة) ربطَتْ تلقائيًّا بين «الإضرابات العمالية» والفوضوية. خسرت منظمة فرسان العمل إضرابًا عماليًّا هامًّا عام ١٨٨٧، وتراجَع مجموع الأعضاء بها إلى ما يقرب من ١٠٠ ألف بحلول عام ١٨٩٠. مع ذلك نجحت المنظمة بوجهٍ عامٍّ في بَلْوَرة حلم الطبقات المنتجة في وجود تحالف بين المزارعين وعمال المصانع، في الجنوب وفي بعض الولايات الغربية. وبهذا ساهمت بوضع أيديولوجية والدفع بقوة عددية في تشكيل أكبر وأهم حركة سياسية إصلاحية في حقبة ما بعد الحرب الأهلية، وهي حزب الشعب. أصبح هذا الحزب، الذي يطلق عليه أيضًا الحركة الشعبوية، ثالث أقوى حزب في ذلك الوقت.
بدأت مشاعر الاستياء الواسعة في التأجُّج في الغرب والجنوب في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، وفي ظل اعتماد الاقتصاد في هاتين المنطقتين بقوةٍ على المنتجات الأساسية (القطن في الجنوب، والقمح والذرة في الغرب)، وعلى السكك الحديدية في جلب تلك المنتجات إلى الأسواق، وفي ظل قصور نُظُمهما الرأسمالية أو المصرفية، غَرِقَتا في الديون. كان صغار المزارعين في الجنوب أسوأ حالًا من نظرائهم بالغرب؛ وذلك نظرًا لأن الجنوب كان لا يزال في مرحلة إعادة الإعمار من الدمار الذي سبَّبتْه الحرب الأهلية. لم يحصل العبيد السابقون أو أبناؤهم على الأراضي التي وُعِدوا بها في فترة إعادة الإعمار؛ ومِن ثَم كان عليهم العمل بنظام المُزَارَعة أو استئجار الأراضي الزراعية. وفي مناطق السهول الكبرى التي أَهَلَتْ بالسكان مؤخرًا حينها، من تكساس شمالًا إلى نورث داكوتا وساوث داكوتا، كان يستطيع المزارع وعائلته بسهولة إلى حدٍّ ما الحصول على ملكيةٍ اسميةٍ لإحدى الأراضي، لكنَّ المزارع كان يحتاج عادةً للاقتراض من أجل إدارتها. وكلَّما توغَّل المزارعون غربًا، زادت أسواقهم بُعْدًا عنهم وارتفعت تكاليف النقل، وزاد احتياجهم للمال والاقتراض لشراء البذور وبناء الأسياج وشراء الأدوات وما إلى ذلك؛ ومِن ثَم، استفحَل دَيْنُهم الخاص بالرهن العقاري. احتاج صغار المزارعين وعائلاتهم بالجنوب والغرب إلى تيسير الائتمان أكثر وخفض رسوم السكك الحديدية، وفوق هذا وذاك، احتاجوا إلى تداول مزيد من العملات النقدية؛ فذلك من شأنه أن يقلِّل من قيمة النقود ويزيد من سعر المحاصيل والماشية التي كانوا ينتجونها؛ ومِن ثَم يتسنَّى لهم تحقيق مكسبٍ أكبر يغطي ديون الرهن العقاري الثقيلة ورسوم النقل المرتفعة.
تأصَّلت حالة الضيق الاقتصادي هذه في الجنوب ومنطقة السهول الكبرى منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، لكن في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، اجتمعت الأحداث كي تَجعَل الحياة في هاتين المنطقتين أكثر صعوبة؛ ففي أعوام المحاصيل السيئة، كان الدخل ينخفض نظرًا لعدم توفُّر كميات كبيرة من المحاصيل لبَيْعها، وفي الأعوام الجيدة، كان يتم إغراق الأسواق بالمحاصيل، وتنخفض الأسعار نتيجة لزيادة المعروض. رأى صغار المزارعين أن النظام لا يعمل في صالحهم، ولم تقدِّم لهم السياسة أيَّ عَوْن. خاضَتْ قائمة مرشحي اتحاد العمال الانتخابات في عدد من الولايات في عام ١٨٨٨ لكنها لم تحقِّق نجاحًا كبيرًا؛ أما الحزبان الرئيسيان ومرشحاهما الرئاسيان — جروفر كليفلاند مرشح الحزب الديمقراطي، وبنجامين هاريسون مرشح الحزب الجمهوري — فلم يكن بجعبتيهما شيء يمكن تقديمه للمزارعين والعمال. ماذا يمكن فعله إذن؟ بمقدور العمال تنظيم إضراب أو مقاطعة، لكن ليس باستطاعة المزارعين فعل ذلك، إنما باستطاعتهم تأسيس جمعيات تعاونية تحمي الأسعار التي يحصلون عليها، وباستطاعتهم تحليل المشكلات التي كانت تواجههم؛ لذا كان من الطبيعي أن يصير شعار «تحالف المزارعين» الجديد المتنامي «ثُرْ وعَلِّمْ ونظِّمْ.»
وبحلول عام ١٨٨٩ فاض الكَيْل بالكثير من المزارعين الصغار، وبدَعْمٍ من منظمة فرسان العمل والجمعيات التابعة لجورج وبيلامي، ومؤيدي حزب العملة الخضراء السابقين، أسرع مئات الآلاف إلى الانضمام لتحالفات المزارعين الصغيرة سابقًا. ثار تحالف المزارعين الوطني والاتحاد الصناعي، والذي عُرف أيضًا ﺑ «التحالف الجنوبي» من تكساس شمالًا إلى كانساس، وشرقًا إلى جورجيا ونورث كارولينا وساوث كارولينا. استاءت تلك الحشود من النظام الاقتصادي الذي ساعد في ثراء البعض، وشعرت بالإحباط من رسوم وممارسات شركات السكك الحديدية التي لم تكن خاضعة لأي رقابة من أي نوع، وانزعجت من تدنِّي الأسعار كثيرًا — مقارنة بتكاليف الإنتاج — لدرجة أنه في بعض المناطق كان من الأوفر إحراق الذرة في مواقد الشتاء عن بيعها بلا مقابل تقريبًا، وتوافَدوا هم وزوجاتهم إلى الاجتماعات التي كانت تُعقد في المدارس للاستماع إلى محاضرات التحالُف التي كانت تشرح كيف كان يخدعهم النظام وما ينبغي لهم المطالبة به لإصلاحه. وفي كلٍّ من الجنوب والغرب، وعلى الرغم من أوجه الاختلاف في آلية عمل أسواق الحبوب بالغرب وأسواق القطن بالجنوب، كانت أوجه التشابه كثيرة للغاية. تمحور برنامج التحالف حول الأرض (تيسير ائتمان الرهن العقاري)، والنقود (طرح عملات أكثر للتداول)، والنقل (رسوم نقل أقل وأكثر عدلًا). كانت هذه المطالب الثلاثة هي محور برنامج التحالف، على الرغم من إضافة مطالب أخرى لها في الغالب. ابتعدت حركة التحالف في البداية عن طرح مرشحين لها في الانتخابات، لكن بحلول عام ١٨٩٠ بات واضحًا للغاية أن عددًا قليلًا للغاية من سياسيِّي «الأحزاب القديمة» يستمع إلى مطالب الحركة؛ مِن ثَم شرع التحالف في طرح قوائم مرشحين له في الانتخابات في بعض المناطق، وكانت النجاحات متفاوتة لكن مشجِّعة.
وفي يونيو عام ١٨٩٠، اجتمع المحتجون والمصلحون على اختلاف مشاربهم في مدينة توبيكا بولاية كانساس، وأنشئُوا حزب الشعب بكانساس. مثَّل رجال تحالف المزارعين نواة ذلك الحزب، وانضمَّ إليهم في حماسةٍ أعضاءُ منظمة فرسان العمل ومؤيدو هنري جورج ومناصرو الاتحادات العمالية وأعضاء حزب العملة الخضراء وجمعيات المزارعين. اتفق الجميع على خوض الانتخابات بقائمة مرشحين كاملة في نوفمبر، وهكذا فعلوا. انتخبوا خمسة أعضاء في الكونجرس، وبسطوا سيطرتهم على مجلس النواب بالسلطة التشريعية بالولاية، واختاروا السيناتور الأمريكي التالي. كان ذلك شبه انتصار كاسح، علاوة على ذلك، لم تكن كانساس وحدها في هذا الأمر. حقق الشعبويون — وهو الاسم الذي أُطلِق على ناخبي حزب الشعب ومؤيديه — إنجازًا مماثلًا في الولايات الغربية الأخرى وفي مناطق من الجنوب؛ فقد استلزم الانقسام العرقي تشكيل تحالف منفصل هناك، وهو «تحالف السود»، لكن في المناطق التي تركَّز فيها السود على غرار ساحل نورث كارولينا وشرق تكساس، حقَّق الشعبويون نجاحًا جيدًا أيضًا، على نحوٍ زعزع سيطرة القوى التابعة للحزب الديمقراطي بالجنوب، التي تؤمن بتفوق الجنس الأبيض على السود. حال الترويع العنيف، وهو نمط مكرر من الأفراد المنتمين لمنظمات كو كلوكس كلان وغيرهم من إرهابيِّي أواخر حقبة إعادة الإعمار، دون نجاح الشعبويين الجنوبيين في الانتخابات كنظرائهم في الغرب الأوسط؛ على الرغم من أن الشعبويين بالجنوب امتلكوا قوةً جامحةً أكبر من نظرائهم بالغرب الأوسط، فقد حقَّقوا انتصارات أقل كثيرًا في الانتخابات. فزعت مؤسسات البِيض من التهديد المحدق المتمثِّل في تشكيل ائتلافٍ سياسيٍّ متعدد الأعراق من الطبقتين الدنيا والوسطى الدنيا، وفي السنوات القليلة التالية أخذت ولايات الجنوب الواحدة تلو الأخرى تمرر قوانين جيم كرو لمنع السود وفقراء البِيض المشاغِبين على حدٍّ سواء من التصويت في الانتخابات. أقل ما يقال في هذا الصدد أن الحركة الشعبوية بالجنوب أيقظت روح الديمقراطية بحيث إنه بعد عام ١٩٠٠ — إبَّان الحقبة التقدمية — دعم الجنوب بقوة البرامج الزراعية في الوقت نفسه الذي باتت فيه قوانين التفرقة العنصرية أكثر تشددًا.
إن الظروف التي تحيط بنا جميعًا هي خير ما يُبرِّر تعاوُنَنا، فنحن نلتقي وسط أمة على شفا دمار أخلاقي وسياسي ومادي، فقد هَيْمن الفساد على صناديق الانتخاب والهيئات التشريعية والكونجرس، حتى إنه طال هيبة القضاة، واستبدَّتْ مشاعر الإحباط بأبناء الشعب … فالصحف إما تنطق باسم الدولة أو تُكمَّم أفواهُها … والعمال بالمدن يُحرَمون من حقهم في تنظيم صفوفهم من أجل حماية أنفسهم … إن ثمار كدح الملايين تُسرَق بوقاحة لمُراكَمة ثروات طائلة لم يَسبِق لها مثيل في تاريخ البشرية لقِلَّة قليلة … إن القدرة القومية لإنتاج الثروة توجَّه لإثراء حاملي السندات فقط … إننا نسعى إلى إعادة زمام حكم الجمهورية إلى أيادي «الناس العاديين»، تلك الطبقة التي من أجلها أُنشِئت الحكومة … نحن نرى أن سلطة الحكومة — أو سلطة الشعب بعبارة أخرى — ينبغي أن تزيد … بالسرعة والمقدار الذي تمليه حصافة هذا الشعب الذكي وتعاليم خبرته؛ بحيث يصبُّ ذلك في غاية واحدة؛ وهي القضاء على الاستبداد والظلم والفقر في ربوع البلاد.
ونظرًا لأن بنود البرنامج السابق ألهمت التقدميين، بل حقَّقوا معظمها على أرض الواقع بعد بضع سنوات، فإن البرنامج يكشف لنا الأفكار الإصلاحية التي كانت تَختَمِر بالفعل في ذلك الوقت المبكر. لقد استهدف بعضها بوضوح مشكلات الزراعة، مثل قضايا «الأرض والنقود والنقل»، وتلك الأفكار خضعت للتهذيب والتدقيق خلال العامَيْن أو الثلاثة التي تَلَتِ اتساع نطاق تحالفات المزارعين. وتركزت في تخفيف أعباء الرهن العقاري وتنظيم عمل شركات السكك الحديدية والتوسع النقدي (سواء العملات الخضراء أو العملات الفضية). كانت العُملة، حسب زعم تلك التحالفات، قد انكمشت بالفعل منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، فأرهقت المنتِجين الفعليين بشدة، وفي الوقت نفسه ساهمت صور أخرى من النقود (مثل الشيكات، والودائع النقدية، وشهادات الإيداع ما بين المصارف، والأوراق المالية القابلة للتداول) في زيادة كبيرة في العرض النقدي في الأجزاء الأكثر ثراءً من البلاد. أشار أحد الشعبويين إلى أن ورقة نقدية بقيمة خمسة دولارات تتناقلها الأيدي عدة مرات يوميًّا في نيويورك أو شيكاجو ربما لا تنتقل إلا مرة أو مرتين أسبوعيًّا من يدٍ إلى أخرى في القرى الريفية؛ مِن ثَم لا يَملِك الريفيون سوى جزء ضئيل من النقود المتوفرة لسكان المدن. لم يكن حجم الدولارات المتداوَلة هو المشكلة؛ بل سرعة تدفقها هي ما مثَّلت نقطة حاسمة.
لكن بخلاف هذه القضايا الرئيسية الثلاث، طالب البرنامج بتغييرات أخرى من شأنها إعادة زمام أمور البلاد إلى «الشعب» — المنتجين — وانتزاعها من أيدي المتلاعبين، والاحتكاريين، وأصحاب النفوذ غير الشرعيين. لم يكن ذلك مجرد احتجاج للمزارعين، بل هجوم خطير — هو الأول من نوعه والأكثر شمولًا من أوجه عديدة — على الرأسمالية غير المنظمة. اقترح البرنامج إصلاحات عميقة لا تهدف إلى إلغاء النظام الرأسمالي، بل إلى تمكين الشعب من استرداده، وجاء فيه: «إما أن تملك شركات السكك الحديدية الشعب وإما أن يملك الشعب شركات السكك الحديدية»؛ لذا لا بد للحكومة — التي كانت في وجهة نظر الشعبويين (أو ينبغي أن تكون) تمثل «الشعب» — أن تمتلك الطرق وتُدِيرها بقوانين خدمة مدنية «صارمة». كذلك طالَب البرنامج ﺑ «عملة وطنية، آمِنة وسليمة ومَرِنة تُصدِرها الحكومة فقط»؛ وليس المصارف الوطنية؛ فقد جاء فيه: «صك العملات الذهبية والفضية الحر واللامحدود» بنسبة الستة عشر إلى واحد التقليدية؛ وليس بأقل من خمسين دولارًا لكل فرد في عملية التداول. وطالب أيضًا ﺑ «ضريبة دخل تصاعدية»، واقترح إنشاء «صناديق ادِّخار بريدي … للإيداع الآمِن لمكاسب الأفراد.» أما عن نظم الهاتف والتلغراف والسكك الحديدية، «فينبغي أن تعود ملكيتها وإدارتها إلى الحكومة بما يصبُّ في صالح الشعب»، كما هو مُطبَّق في الدول الصناعية الأخرى. وكان تقييد العمالة «غير المرغوب فيها» (والتنافسية)، ووضع قوانين تفرض ساعات عمل أقل للعاملين، وحظر الأفراد التابعين لوكالة بنكرتن الخاصة للتحريات وغيرهم من الأفراد المأجورين بواسطة الشركات لفض الإضرابات، على رأس المطالب الخاصة بالعمال.
لم تكن الحركة الشعبوية — أو هكذا أمل زعماؤها على أقل تقدير — حركةَ مزارعين فقط؛ فقد نادى برنامج أوماها أيضًا بالاحتكام إلى المبادرة والاستفتاء في وضع التشريعات؛ ومِن ثَم إعطاء «الشعب» سلطة أكبر. وأراد إصلاح عملية الانتخاب من خلال المطالبة بالاقتراع السري وتطبيق النظام الأسترالي في هذا الشأن (أي تُجرِيه الحكومة لا الأحزاب، وأن تضم أوراق الانتخاب مرشحي جميع الأحزاب، وليس حزبًا واحدًا فقط). شمل البرنامج مطالب أخرى أيضًا، لكنه في جوهره كان يقوم على أمرين: النزعة الإنتاجية، وهي النظرية الاقتصادية التي تقضي بضرورة أن تذهب المكاسب إلى المزارعين والعمال الذين أنتجوا الثروة، وليس إلى أولئك الذين يتلاعبون بها؛ والديمقراطية، وهي النظرية السياسية التي تُفيد بأن السلطة يجب أن تكون متروكة «للشعب»، لا للشركات المُستغِلَّة. مَقَتَ الشعبويون السيطرة غير العادلة لتلك المؤسسات التجارية على الأسواق والحكومات وغير ذلك الكثير (شركات السكك الحديدية والاتحادات الاحتكارية والمصارف)، وما نجم عن ذلك من توزيع سيئ وسافِر للثروة.
تركزت الفكرة الشعبوية حول الالتزام بالنظام الجمهوري الأمريكي … [الذي] اقتضى مناهضة الاحتكار والفساد اللذين رسَّخَا التمييز من خلال المُحاباة. كانتِ المِلْكية ذات أهمية بالِغة للحرية الفردية. خَشِيَ الشعبويون أن الفجوة الآخِذة في الاتساع بين الأثرياء والفقراء ستَدفَع الكثيرَ من الأمريكيين نحو حياة الخنوع والتبعية التي تذكِّرنا بحياة طبقة الفلاحين بأوروبا. ضمَّتِ الحركة الشعبوية بولاية تكساس أولئك المعنيين على نحو أكثر بتلك الفجوة الآخِذة في التزايد، ألَا وهم المزارعون البِيض الفقراء ومتوسطو الحال، والعمال بالحَضَر، وفي آخِر الأمر الأمريكيون من أصول أفريقية.
رغم ذلك سارت الحياة بالنسبة للكثير من الأمريكيين على مدار السنوات المتبقية من تسعينيات القرن التاسع عشر من سيئ إلى أسوأ. وبنهاية العقد ظهر الإحساس بالأزمة والتغيير الجذري الوشيك في مقالات الرأي الرئيسية بالصحف ومنابر الوعظ والمفكرين بنحو عام.
في بادئ الأمر، اكتسبت الموجة الشعبوية زخمًا. أصبح العميد السابق في جيش الاتحاد بالحرب الأهلية جيمس بي ويفر — الذي كان مرشَّحًا للرئاسة عن حزب العملة الخضراء في عام ١٨٨٠ — المرشح الرئاسي لحزب الشعب، وكان حليفُه في السباق جيمس فيلد، العميد السابق في الجيش الكونفدرالي. كان من الضروري التعبير عن الفكرة الشعبوية التي تتجاوز الاختلاف بين فصائل الأمة، وتَسعَى للَمِّ الشَّمْل بين الشمال والجنوب؛ حيث قد مرَّ حينَها سبعة وعشرون عامًا فقط على نهاية الحرب الأهلية، وكانتِ الذكريات لا تزال حية. استخدم الحزب الجمهوري بالشمال ورقة «شهداء الحرب الأهلية الأبطال» بقوة ونجاح للهجوم على منافسيه، واستغل ذكرى الحرب الأهلية كقضية حاسمة من خلال تكرار العبارة الرنانة: «صوِّتْ كأنك تُصوِّب.» وانتشرتِ الملصقات المؤيدة للمرشح الجمهوري في كل حَدَب وصَوْب. مع ذلك، جَنَى تحالف ويفر وفيلد ما يزيد على مليون صوت شعبي (ما يقرب من واحد من بين كل اثني عشر صوتًا على مستوى البلاد) واثنين وعشرين صوتًا في المجمع الانتخابي من منطقة السهول الكبرى غربًا. كان ذلك أكبر نجاح يحقِّقه حزب ثالث يخوض السباق حتى ذلك الوقت، ولن يتفوق عليه حزب آخَر في ذلك حتى حملات الحركة التقدمية المؤيدة لثيودور روزفلت في عام ١٩١٢ وروبرت إم لافوليت عام ١٩٢٤. فاز مرشحو حزب الشعب بمناصب حكام الولايات ومقاعد في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وغير ذلك من المناصب الرسمية. بدا مستقبل الحركة الشعبوية مبشِّرًا بالطبع، ولعل تحركات عام ١٨٩٢ ما سيدفع إلى انتصار المزارعين والعمال في عامَيْ ١٨٩٤ و١٨٩٦.
في تلك الأثناء، كانت الأحوال تزيد سوءًا. لم يستطع الجنوب والغرب المعتمدان على الزراعة التعافيَ من أزمات فساد المحاصيل وتدنِّي الأسعار في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ثم حدث إضراب كبير عن العمل بمصنع هومستيد للصلب بالقرب من مدينة بيتسبرج نظَّمتْه نقابة ناشئة لعمال مصانع الصلب في أواخر يونيو من عام ١٨٩٢، في الوقت نفسه الذي كان يجتمع فيه مسئولو الحركة الشعبية بأوماها. استطاع المضربون إبعاد قوة من أفراد وكالة بنكرتن الذين استأجرهم المصنع، الأمر الذي دفع حاكم بنسلفانيا إلى استدعاء قوات الدفاع الخاصة بالولاية، واستسلم المُضرِبون أمام تلك القوات التي تفوقهم عددًا وسلاحًا. تقوضت النقابة نهائيًّا لدرجة أنه لم تتأسس أي منظمة واسعة النطاق لعمال مصانع الصلب مرة أخرى حتى عام ١٩٣٧. وفي الوقت الذي بدا فيه المزارعون بالغرب يحققون انتصارات، كان العمال بالشرق يتعرضون للقمع.
وفي صيف عام ١٨٩٣، تعرضت شركة ريدينج ريلرود، وهي الشركة المالِكة لخط السكك الحديدية الشمالي الشرقي، وشركة كبرى أخرى للانهيار، واجتاح الاضطراب وول ستريت، وحدث ذُعْر مصرفي، وانهارت آلاف الشركات. كان الذعر المصرفي الذي حدث في عام ١٨٩٣ إيذانًا بحالة كساد استمرَّتْ في أشدِّ مراحلها وطأة حتى عام ١٨٩٧، ولم يتعافَ الاقتصاد تمامًا منها حتى عام ١٩٠١. كان كساد تسعينيات القرن التاسع عشر هو الأسوأ بين حالات الكساد التي شهدتْها الولايات المتحدة قبل ذلك التاريخ، وظلَّ هو الأسوأ حتى أزمة الكساد الكبير التي حدثت فيما بين عامَيْ ١٩٢٩ و١٩٤١. ونتج عن ذلك أن أصبح ما يزيد على ١٨ في المائة من العمال عاطلين عن العمل، وذلك وفقًا لأحد التقديرات الجديرة بالثقة، وأُغلِقت المزارع، ودمَّرت الحجوزات العقارية وحالات الإفلاس التجارةَ والمزارعَ والعائلاتِ في ربوع البلاد. نُصِّبَ جروفر كليفلاند، المحافظ مرشح الحزب الديمقراطي من نيويورك، رئيسًا للبلاد عام ١٨٩٢، وحاول استعادة الثقة في الموارد المالية للبلاد من خلال دعوة الكونجرس إلى جلسة خاصة لإلغاء مشتريات الحكومة من الفضة، التي أُجيزت عام ١٨٩٠ لاستيعاب الناتج الغربي من الفضة ولتهدئة ضغط التوسع النقدي. وضع اللوم على مشتريات الفضة في التسبب في السحب المُفزِع من احتياطي وزارة الخزانة من الذهب. زاد امتعاض المزارعين عندما التزم الكونجرس بقرار إلغاء مشتريات الفضة، وعندما أقنع كليفلاند المصرفي جيه بي مورجان وزملاءه بالاستثمار بقوة في سندات الخزانة، التي تستوجب الدفع في النهاية بالذهب، وذلك على حساب دافعي الضرائب.
قضى وقف مشتريات الفضة على اقتصاديات مناطق التعدين الغربية، وزاد بيع السندات إلى مورجان، رمز وول ستريت، الشعبويين وغيرهم من المصلحين الزراعيين قناعةً بأنهم ضحايا نفوذ المؤسسات التجارية. بدأ العاطِلون عن العمل من كاليفورنيا والمناطق التعدينية في الخروج في مسيرات في واشنطن في ربيع عام ١٨٩٤، واستولَوْا على قطارات البضائع وجابوا البلاد، الأمرَ الذي أَثَار فَزَع المسئولين الحكوميين، ونال استحسان الكثير من البسطاء. توحدت المسيرات تحت قيادة جاكوب كوكسي، صاحب أحد المصانع بأوهايو. نجح عدة مئات من المتظاهرين في صفوف «جيش كوكسي» في الوصول إلى واشنطن، لكن ذلك الجيش المؤلف من العاطلين عن العمل لم يستطع تحقيق أي شيء. اعتقلت حكومة كليفلاند المتظاهرين بتهمة السير فوق حديقة مبنَى الكابيتول، وانفضَّت الانتفاضة. لكن الإضرابات استمرت عبر أرجاء الغرب الأوسط. حدث أشهرها في شهر مايو بمصنع بولمان خارج شيكاجو، عندما أضرب عدة آلاف من العمال عن العمل احتجاجًا على تخفيض الإدارة للأجور بنسبة الثلث تقريبًا، في حين ظلت قيمة إيجار السكن التابع للشركة كما هي. قمعت القوات الحكومية — التي كانت هذه المرة قوات فيدرالية أرسلتْها إدارة كليفلاند على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبداها جون بيتر ألتجيلد حاكم ولاية إلينوي — هذا الإضراب أيضًا شأنه شأن إضراب مصنع هومستيد للصلب الذي سبقه بعامين.
تفاقم الصراع بين العمال والإدارة، والعمالة ورأس المال، بدرجة خطيرة، في حين ظلت أوضاع المزارعين في الجنوب والغرب قاتمة. كانت نتائج الانتخابات العامة التي أُجريت عام ١٨٩٤، التي مَنَحَتِ الجمهوريين فوزًا ساحقًا — مما جعلهم يُحكِمون سيطرتَهم على الكونجرس — تُعَدُّ شكلًا من أشكال التوبيخ للديمقراطيين الذين ينتمي إليهم كليفلاند الذي بدأ الكساد في فترة ولايته. صمد الشعبويون بالكاد في تلك الأثناء، وأصبحتِ الأجواء مهيَّأة لمواجهة عام ١٨٩٦ الحاسمة. كان الاقتصاد في حالة كساد شديد، وارتفعت نسبة البطالة بدرجة غير مسبوقة، وكان المزارعون يعانون أشد المعاناة. نشر الصحفي والإصلاحي في مدينة شيكاجو هنري ديمارست لويد كتاب «الثروة مقابل الكومنولث»، الذي برز كإدانة شديدة للممارسات التجارية الاحتكارية لشركة ستاندرد أويل المملوكة لجون دي روكفلر. أذكى الكتابُ، الذي كان صادمًا وواسع الانتشار، نيران الدعوة للإصلاح التي كانت مشتعلة بالفعل، وأقنع الناسَ الذين لم يتأثروا بنحوٍ مباشرٍ بالأزمات العصيبة التي كان يتعرض لها الكثيرون بأن التغيير لا بد أن يحدث.
ظهر الأمل في وجود توجُّه جديد وفرصته مع الانتخابات الرئاسية عام ١٨٩٦. اختار الحزب الجمهوري ويليام ماكينلي من ولاية أوهايو، الذي اشتُهر وهو عضو في الكونجرس لاقتراحه «تعريفة ماكينلي» عام ١٨٩٠ التي هدفت إلى «حماية» المنتجات الأمريكية من المنافسة مع المنتجات المستوردة. ربما اعتُبرت حماية «الصناعات الناشئة» بأمريكا في السابق قرارًا حكيمًا، ولكن بحلول تسعينيات القرن التاسع عشر كانت تلك الصناعات تتفوق على الصناعات الأجنبية المنافِسة لها بسهولة. تمثلت حجة الجمهوريين في أن التعريفة الوقائية لم تساعد المصنِّعين وحسب، بل وفَّرت وظائف للعمال أيضًا. استنكر المعارضون، الديمقراطيون والشعبويون على حدٍّ سواء، تلك التعريفة بحجة أنها رفعت أسعار السلع الاستهلاكية بدون داعٍ وعلى نحو زائف، وشَكَوْا من أنها تُعَدُّ ضريبة على الاستهلاك؛ ومِن ثَم «تضر» بالعائلات العاملة. لكن ماكينلي أصر على أن تلك التعريفة ساعدت العمال، وأعانتْهم على «تحسين أحوالهم».
اجتمع أعضاء الحزب الديمقراطي في مؤتمرهم وهم في حالة من الانقسام الشديد. واجه الجناح الشرقي والمحافظ — الذي يتزعمه الرئيس كليفلاند — ثورةً من الغربيين، وخاصةً فيما يتعلق بالمعيار النقدي. دافع كليفلاند عن معيار الذهب، في حين أيَّد الغربيون عودة الدولارات الفضية بموجب النسبة التقليدية التي تبلغ ست عشرة أوقيةً من الفضة إلى أوقية واحدة من الذهب. كان ذلك هو ما كان ينص عليه القانون منذ عام ١٧٩٢ وحتى عام ١٨٧٣، عندما تخلَّى الكونجرس في هدوء عن معيار الفضة. كان استمرار معيار الذهب يعني استمرارَ نقص النقود والائتمان؛ أما عودة معيار الفضة، فكانت تحمل معها تدفقًا أكثر انسيابية للسلع والخدمات. فزع رجال الأعمال والمصرفيون والمستثمرون بالشرق من احتمال تطبيق معيار الفضة الحر وفق النسبة التقليدية؛ وذلك لأنه في ذلك الوقت كانت الفضة مغالًى في تقييمها بهذه النسبة. طالب المزارعون بالجنوب والغرب بتطبيق معيار الفضة بكل ما أوتوا من قوة؛ نظرًا لأن استعادة هذا المعيار كانت تعني إنعاش العملة وتحسين قدرتهم إلى حدٍّ كبير على الوفاء بتكاليف النقل والرهن العقاري، وبالطبع على تجاوز آثار الكساد. (بعد مرور قرن، زعم ميلتون فريدمان، الذي لا يُضارِعه أحد في تأييد المذهب النقدي المحافظ، أنه لو لم يَجْرِ خفض قيمة الفضة عام ١٨٧٣، لَمَا كان في الغالب قد حدث كساد سبعينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر قط.) انتصر الجناح الغربي بالحزب الديمقراطي، ورُشِّح ويليام جيننجز برايان من نبراسكا البالِغ من العمر ستة وثلاثين عامًا لخوض السباق الرئاسي. اجتاح الجناحَ الشرقيَّ الذعرُ ورفضوا التعامل معه.
اجتمع الشعبويون، الذين أدمتْهم سنوات الكساد الزراعي وهم على ولائهم لبرنامج أوماها، بعد أسبوعين. غلبتْهم الدهشة من ترشيح الحزب الديمقراطي لبرايان واستيعاب الديمقراطيين لسياسة الشعبويين النقدية، فاختاروا ببساطة برايان في قائمة مرشحيهم، لكن جنبًا إلى جنب مع حليف مختلف في السباق، وهو توم واطسون من ولاية جورجيا. لم يُعرِب برايان قطُّ عن تأييده للحركة الشعبوية، فقد كان ينتمي دائمًا إلى الحزب الديمقراطي، لكنه لم يرفض ترشيح الشعبويين له. كان برايان قطعًا يمثل الزراعيين، وقد أدار حملة انتخابية قوية.
كان أول زعيم من حزب كبير يدافع عن التوسيع المستمر لنطاق سلطات الحكومة الفيدرالية من أجل صالح الأمريكيين البسطاء من الطبقتين العاملة والوسطى … لقد بذل جهدًا خارقًا — في الفترة التي تخللت سقوط جروفر كليفلاند وانتخاب وودرو ويلسون — لتحويل حزبه من معقل تأييد اقتصاد عدم التدخل إلى قلعة الليبرالية التي يمثلها فرانكلين دي روزفلت والمؤمنون بأيديولوجيته ممن أَتَوْا من بعدِه.
مع ذلك، خسر برايان الانتخابات عام ١٨٩٦، نال عدد أصوات يزيد نحو مليون صوت عن عدد الأصوات التي حصل عليها أي مرشح للحزب الديمقراطي في تاريخ الانتخابات، وما يماثل مجموع الأصوات التي حصل عليها كليفلاند وويفر في انتخابات عام ١٨٩٢. لكن ماكينلي استقطب لصفِّه مئات الآلاف من المصوِّتين الجُدُد، فقد أقنعتِ الخطايا التي ارتكبها كليفلاند والكساد الطاحن مجموعةً من أولئك المصوِّتين بإقصاء الديمقراطيين الذين يَرَوْن أنهم هم الملومون على تلك الأزمة الطاحنة — إنْ كان يمكن لوم أحد في الأساس على ذلك — حتى لو حلَّ محلَّ هؤلاء الديمقراطيين برايان ورفاقه. ما يقرب من أربعة من بين كل خمسة يحق لهم الانتخاب أدلَوْا بأصواتهم، وهي نسبة لم تتحقق مطلقًا منذ ذلك الوقت. ألَّف برايان كتابًا سمَّاه «المعركة الأولى» عن الحملة الانتخابية، كان ذلك العنوان دقيقًا؛ وذلك لأنه كان سيعود ثانيةً إلى الساحة هو وقوى الإصلاح الزراعي السياسية. قَضَتْ خسارته عام ١٨٩٦ على حزب الشعب وما يمثله من قوة في الانتخابات الوطنية، لكنها لم تقضِ على اهتمامات المُصلِحِين الزراعيين بالسياسة الأمريكية، أو على جهود تأسيس ائتلافٍ يضم المُزارِعين والعمال.
لكن كان هناك بعض الوقت أمام تلك التطورات حتى تأخذ مجراها. تعافَى الاقتصاد بعض الشيء في عامَيْ ١٨٩٧ و١٨٩٨، وكان السبب وراء ذلك ظهور التوجُّه الخاص بالتحالف والدمج اللذين قادَهما أصحاب المصارف الاستثمارية وأباطرة السكك الحديدية وغيرهم من أصحاب الشركات الكبرى. لم يمثِّل ذلك التوجُّه بُشرَى سارة للعمال وعائلاتهم، لكنه أسهم في تحسين الصورة الاقتصادية الكلية. ومع تقويض المحكمة العليا الأمريكية للتشريعات المتعلقة بمكافحة الاحتكار والتجارة بين الولايات، سارت «حركة الدمج» بخُطًا سريعة حتى السنوات الأولى من القرن العشرين. كذلك تم «ترشيد» شركات السكك الحديدية، إذا استخدمنا تعبير مؤسسات وول ستريت، بهدف منع المنافسة على الطرق والرسوم. أما مصانع الصلب (أو أغلبها) فاتحدت معًا لتكوين أول مؤسسة تجارية رأس مالها مليار دولار بالبلاد تحت اسم يو إس ستيل، ويعود الفضل في ذلك إلى جيه بي مورجان الذي كان مهندس عملية شراء مصانع أندرو كارنيجي. انتشرت الاتحادات الاحتكارية في مجال النفط والمطاط والنحاس ومجموعة كبيرة أخرى من الصناعات. لم يَجنِ عمال المصانع والمناجِم — وبصفة عامَّة العاملون بأجْرٍ الذين عملوا بتلك المؤسسات الكبرى — سوى بعض المنافع القليلة من عمليات إعادة الهيكلة تلك. من ناحية أخرى، لاحَظَ المزارعون أن أسعار المحاصيل بدأت في الارتفاع، فشرع الراغبون في تأسيس المزارع في الزحف غربًا مرة أخرى عبر المناطق المرتفعة من السهول الكبرى بعد أن توقف ذلك منذ أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر.
لذلك لم يَجِدِ المزارعون والعمال — وهم الحلفاء الطبيعيون بطرق شتَّى في المواجهة المألوفة مع المؤسسات التجارية الكبرى — سببًا واضحًا لتوحيد جهودهم. كان الإصلاح الواسع النطاق لا يَزَالُ بعيدًا. بدأ عُمَداء المُدُن ذوو الميول الإصلاحية يَظهَرون بالفعل على الساحة في بعض المدن، وأبرزهم جونز صاحب «القاعدة الذهبية» في مدينة توليدو وتوم جونسون في كليفلاند، وهما من مكافِحِي الفساد، عَمِلَا وتحدَّثا بكلماتٍ حماسيةٍ تذكِّرنا كثيرًا بلغة الشعبويين. وفي أغلب الأحيان، وعلى نحو دائِم إلى حدٍّ بعيد في المدن الكبرى، كان بيع حقوق امتياز مد خطوط الترام بالرشوة، وتعيين المعارف في الوظائف العامة، وشراء السياسيين من قِبَل رجال الأعمال هي الأمور السائدة. وتطلَّب إصلاح حكومات المدن، ناهيك عن حكومات الولايات والحكومة الفيدرالية، صحافةً يَقِظةً بقدْرٍ أكبر ومرشحين أقوى كثيرًا ممَّا كان عليه الأمر في مطلع القرن العشرين. وفي غضون خمسٍ إلى ثماني سنوات أخرى، سيأتي كل هذا: صحافة استقصائية وزعماء على مستوى الولايات وعلى المستوى الوطني متأهبون للإصلاح وحركة نقابات عمالية بدأتْ في تحقيق بعض الانتصارات، سواء على صعيد الإضرابات أم قوانين الولايات التي تحدد ساعات العمل المسموح بها للنساء يوميًّا وتمنع الأطفال من العمل في المصانع وغير ذلك.
عادة ما تصرف القضايا الوطنية الأنظار عن المشكلات الاقتصادية وتخدم مشكلات شقاقية تُفرِّق الحلفاء السياسيين والاقتصاديين، حدث هذا عام ١٨٩٨. تلك النزعة الأمريكية المتأصلة بشدة لخوض مغامرات إمبريالية، والتي كانت خامدة بعض الشيء لبضعة عقود، أُوقِظت بما صوَّره مروِّجو القضية الكوبية وبعض الدوائر الصحافية الأمريكية بأنه نضال لتحرير كوبا من قبضة الاستبداد الإسباني. احتشد الديمقراطيون والشعبويون في الكونجرس وفي أرجاء البلاد دعمًا لفكرة مساعدة المتمرِّدين الكوبيين. أما الجمهوريون الأقل تعاطفًا مع القضية، فقد تحمسوا لخوض الحرب بعد حادثة الانفجار الذي تسبب في تدمير البارجة البحرية يو إس إس ماين في ميناء هافانا في فبراير عام ١٨٩٨، وهي الحادثة التي أُلقِيَ باللوم فيها على الإسبان، لكن بعد سنوات عديدة اتضح أن سبب الانفجار كان من داخل البارجة نفسها. دبَّر ماكينلي الحصول على تفويض من الكونجرس لإرسال قواتٍ وسفنٍ لمساعدة الكوبيين، وفي أبريل عام ١٨٩٨ أعلنت الولايات المتحدة الحرب على إسبانيا.
دام الصراع لبضعة أسابيع فقط؛ فقد فتك الأسطول الأمريكي بوحدات الأسطول الإسباني في كلٍّ من كوبا والمستعمرة الإسبانية الكبيرة الأخرى، جزر الفلبين، التي تقع غرب المحيط الهادئ. أصبحت تلك الأجزاء — جنبًا إلى جنب مع مستعمرات أصغر مثل جوام وبورتوريكو — تابعة لأمريكا. وعلى اليابسة، واجه الأمريكيون صعوبات أكبر؛ إذ اندلعت الحرب في واقع الأمر في الفلبين، ولم تكن بين الأمريكيين والإسبان — الذين تركوا البلاد سريعًا — ولكن مع الفلبينيين، الذين من المفترض أن الولايات المتحدة جاءت لتحررهم. وقبل انتهاء الحرب في عام ١٩٠٢، أودى «التمرد» الفلبيني بحياة ما يزيد على ٤٢٠٠ جندي أمريكي وعشرات الآلاف من الفلبينيين.
على الجانب الآخر، تمثلت أبرز النتائج في كوبا في هجمة عسكرية قام بها سلاح الفرسان تحت قيادة الشاب ثيودور روزفلت، الذي أنشأ كتيبة من مجموعة متنوعة من الأفراد أطلق عليها «الفرسان القُساة». مضى ثيودور روزفلت وهو يمتطي جواده شاهرًا سيفه لأعلى عند تل كيتل هيل بالقرب من سانتياجو (وليس تل سان خوان، كما كتب أحد الصحفيين)، ثم وصل إلى حكم نيويورك في انتخابات خريف عام ١٨٩٨، ثم ترشح لمنصب نائب الرئيس عن الحزب الجمهوري عام ١٩٠٠.
في تلك الأثناء، نصَّتْ معاهدة سلام انتزعتْها الولايات المتحدة في باريس في أواخر عام ١٨٩٨ على نقل السيادة على جوام وبورتوريكو والفلبين من إسبانيا إلى الولايات المتحدة. حصلت كوبا على استقلالها اسميًّا، لكن مواردها المالية وشئونها الخارجية خضعت لسيطرة الولايات المتحدة على مدى عقود لاحقة. وعندما عُرضت المعاهدة أمام مجلس الشيوخ عام ١٨٩٩، أيَّد الجمهوريون بوجه عام ضم الفلبين، في حين عارض الديمقراطيون والقلة المتبقية من الشعبويين القرار. أثار مناهضو الإمبريالية — وهم مجموعة متنوعة من مارك توين إلى أندرو كارنيجي ورجال حركة الإنجيل الاجتماعي البارزين — تساؤلات خطيرة، وخصوصًا تلك الخاصة بقدرة جمهورية مثل الولايات المتحدة على حكم مستعمرة كالفلبين ومنع تطبيق وثيقة الحقوق على شعب الفلبين. لكن الإمبرياليين صدَّقوا على المعاهدة بفارق صوت واحد.
وبعيدًا عن نقل السيادة على المستعمرات إلى الولايات المتحدة، كان صعود ثيودور روزفلت على الأرجح هو أهم النتائج المترتبة على تلك الحرب الوجيزة، فتحوَّل روزفلت إلى أحد أبرز رموز البسالة القتالية والإمبريالية الأمريكية، جنبًا إلى جنب مع قائد الأسطول جورج ديوي، الذي حقق النصر البحري في الفلبين. لكن ديوي لم يتمتع بحضور سياسي، على النقيض من روزفلت. ومن باب المُفارَقة أن ظهور ذلك العسكري الإمبريالي على الساحة السياسية رمز، في جوانب كثيرة، إلى بداية الحركة التقدمية.
بحلول عام ١٩٠٠، كان الاقتصاد يتعافَى، والموجة الإمبريالية تنحسر، وبثَّتْ بهجةُ وأملُ حلولِ قرنٍ جديدٍ الحماسةَ في الكثيرين، ولكن ليس الجميع. ففي ذلك العام، استمرت المؤسسات الدينية والصحافة المتأملة — من خلال منابر الوعَّاظ ومقالات الرأي الرئيسية — في التعبير عن شعور بوجود أزمة اجتماعية عميقة. تشارك المتحدثون في كثير من منابر الوعظ البروتستانتية والسياسيون من الحزبين الكبيرين هذا الشعور. جددت الحرب القصيرة الناجحة على نحو مذهل مع إسبانيا مشاعر الفخر والانتماء للوطن، وقضت على معظم ما تبقَّى من عَدَاء بين الشمال والجنوب منذ نهاية الحرب الأهلية. ولكن حتى الاستحواذ على بورتوريكو، وهاواي (التي أُعلن ضمها في يوليو ١٨٩٨ أثناء الحرب)، والفلبين، والسيطرة على كوبا لم يُخفِ الأمراض الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد. ومع اختفاء كساد تسعينيات القرن التاسع عشر، كانت الشركات يتم دمجها و«ترشيدها»، والتشريعات الفيدرالية والخاصة بالولايات غير مؤثرة، والأثرياء يراكمون الثروات. أخذت ولاية تلو الأخرى في الجنوب تمرر قوانين جيم كرو التي تفصل بين الأعراق فصلًا عنصريًّا وتمنع السود وفقراء البِيض (ذوي الميول الشعبوية) من التصويت. رفعت إدارة ماكينلي والكونجرس الذي يهيمن عليه الجمهوريون التعريفة الجمركية عام ١٨٩٧ وصادقت على الذهب باعتباره المعيار النقدي الوحيد عام ١٩٠٠، وهذان الإجراءان أحكما قبضة الشركات على الاقتصاد وأسعدا الطبقات المالكة.
على الجانب الآخر، لم يَجنِ عمال المصانع والمزارعون بالغرب سوى الفُتات التي تسقط من طاولة رجال الأعمال. بدا أنَّ لبرنامج أوماها — وهو أن جشع المؤسسات التجارية والحكومة المتراخية يَقسِمان الشعب الأمريكي إلى طبقتين: متسولين ومليونيرات — أدلةً ثابتةً تؤيده أكثر من أي وقت مضى. ولن يَختَفِيَ هذا التقسيم في وقت قريب؛ فبحلول عام ١٩١٥، كانت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، أو حتى بين الأغنياء والطبقة الوسطى، أكثر اتساعًا ممَّا ستكون عليه حتى فترة حكم ريجان. شعر أغلبية الشعب الأمريكي بالاستياء عام ١٩٠٠ من الإضرابات والمقاطعات العمالية المتكررة، لكنهم انحازوا، كالعادة، إلى صف إدارات الشركات و«القانون والنظام»، دعمهم في ذلك موقف السلطة القضائية المحافظ، بدءًا من قُضاة المَحَاكِم المحلية وحتى قضاة المحكمة العليا. كذلك تم تجاهُل مطالِب الشعبويين بالتغيير عندما بدا أن الاقتصاد يتحسن، ولطالما رفض الكثير من سكان منطقة الشمال الشرقي الحضرية الشعبويين باعتبارهم غريبي الأطوار على أي حال. مع ذلك، بدأ يسود شعور بأن هناك مشكلات كثيرة بالبلاد على الرغم من الاقتصاد المتعافي والانتصارات الإمبريالية. كان الاقتصاديون وعلماء الاجتماع يفكِّرون في الأمور من منظور جديد، ويقوِّضون القناعات القديمة. كان الإصلاح وشيكًا، لكن لم يَعرِف أحد في عام ١٩٠٠ كيف سيتبلور، وأين، ومَن سيتزعَّمه، ولكن في غضون سنوات قليلة للغاية توحَّدت الحركة التقدمية وتبلورت.