الحرب العالمية الأولى ووباء الأنفلونزا: ١٩١٧–١٩١٩
علَّق وودرو ويلسون عندما تسلَّم مقاليد الحكم أنه مِن سخرية الأقدار أن تُضطَرَّ إدارته للتعامل مع الشئون الخارجية بصورة رئيسية. توحي قائمة الإجراءات المثيرة للإعجاب ببرنامج «الحرية الجديدة» من عام ١٩١٣ إلى عام ١٩١٧ بأن ذلك لن يحدث، إلا أن ويلسون غرق على الفور في المشكلات الخارجية في المكسيك ومنطقة الكاريبي، واستُنزفت ولايته الثانية باشتراك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى.
كانت خبرة ويلسون وتوجهاته، والقضايا التي دفعتْه نحو الرئاسة، منصبَّة حقًّا على الشئون الداخلية أكثر من الخارجية. وفي هذا الصدد، كان مختلفًا تمامًا عن ثيودور روزفلت، الذي تحمَّس لِلعب دور الوسيط في نزاعات البلدان الأخرى، الذي «انتزع بنما» (كما أقر)، والذي طالب بقوة بعد عام ١٩١٤ بخوض الولايات المتحدة الحرب إلى جانب فرنسا وبريطانيا، بل وطلب من الرئيس تعيينه قائدًا للجيش، إلا أن ويلسون رفض طلبه، مدركًا أنه لن يجد مَن هو أشدُّ تمردًا وتهورًا من روزفلت كقائد للجيش. أمضى ثيودور روزفلت فترة الحرب في إحباط شديد، ووجد ويلسون نفسه ينزلق نحو الشئون الخارجية التي لجأ فيها، نظرًا لافتقاره إلى الخبرة الواسعة، إلى مثاليته القاسية في كثير من الأحيان.
بدأ انخراط الولايات المتحدة في منطقة الكاريبي في عهد ماكينلي، وازداد في عهد روزفلت وتافت، وحَظِيَ ذلك بدعم وافر من الجمهوريين أكثر من الديمقراطيين، إلا أن ويلسون لم يواصل النزعة الإمبريالية الأمريكية في تلك المنطقة فحسب، بل وسَّع نطاقها؛ فعندما تولَّى السلطة في عام ١٩١٣، كانت قناة بنما أُنجزت تقريبًا. وكانت كوبا ونيكاراجوا دولتين مستقلتين صوريًّا لكنهما ظلَّتا «تحت الوصاية» الأمريكية، وحافظ ويلسون على وجود بعض قوات البحرية الأمريكية في نيكاراجوا. وعندما اندلعت الاضطرابات في هايتي عام ١٩١٥، أرسل قوات البحرية إلى هناك، وظلت هناك حتى عام ١٩٣٤. ومع تأزُّم الأوضاع في جمهورية الدومينيكان عام ١٩١٦، أرسل قوات البحرية إلى هناك أيضًا، وظلَّت هناك حتى عام ١٩٢٤. أدارت حكومات صورية البلدين. وفي يناير عام ١٩١٧، صدَّق ويلسون على شراء جزر الإنديز الغربية الدانماركية، التي أصبح اسمها جزر فيرجين الأمريكية. ومن تلك الجزر شرقًا حتى قناة بنما غربًا، أصبحت منطقة الكاريبي بحيرة أمريكية.
«المثالية الويلسونية» هي منهج في التعامل مع القضايا الخارجية يسعى إلى نشر الفضائل الأمريكية — أو فرضها، إذا اقتضت الضرورة — مثل الديمقراطية والحرية والأخلاق العامة وسيادة القانون في مناطق أخرى، وهي مُثُل رائعة، إلا أنها لم تكن تناسب دومًا تلك المناطق. إبَّان الوقت الذي تولَّى فيه ويلسون المسئولية عام ١٩١٣، استولى جنرال يُدعَى فيكتوريانو ويرتا على السلطة في المكسيك وقَتَل سَلَفَه. رفض ويلسون الاعتراف بحكومة ويرتا وأرسل سفنًا حربية عند ساحل المكسيك لتقويض نفوذه. وبعد واقعة القبض خطأً على بعض البحارة الأمريكيين، طلب ويلسون من الكونجرس تفويضه «باستخدام القوة لإخضاع ويرتا». رَسَتْ قوات البحرية الأمريكية في فيراكروز في أبريل عام ١٩١٤ وظلت هناك حتى نوفمبر. قُتِل تسعة عشر من القوات، وما لا يقلُّ عن مائتَيْ مكسيكي أيضًا. رحل ويرتا عن السلطة، واعترف ويلسون بخليفته «الشرعي دستوريًّا». مع ذلك ظلت المكسيك في حالة فوضى حقيقية، وبعد عامٍ تقريبًا أغار أحد قادة الفصائل، بانشو فيا، على مدن بمحاذاة الحدود الأمريكية. رد ويلسون بإرسال ١١ ألف جندي تحت قيادة الجنرال جون جي بيرشنج لمطاردة فيا. لكنهم لم يُلقُوا القبضَ عليه قط. ومع دنوِّ الاشتراك في حرب أوروبا، أمر ويلسون بيرشنج وقواته بالعودة إلى البلاد في يناير عام ١٩١٧. وأخيرًا، حَظِيَت المكسيك بحكومة مستقرة عام ١٩٢٠، إلا أن ويلسون ومثاليته لم يكن لهما دخل بذلك.
ومع أهمية التدخلات في منطقة الكاريبي والمكسيك، واجه ويلسون والولايات المتحدة المشكلة العظمى الخاصة بتجنُّب الدخول في الحرب الأوروبية التي بدأت في أغسطس عام ١٩١٤. عندما اندلعت الحرب، دعا ويلسون الأمريكيين إلى الحفاظ على حيادهم في الأفكار والأفعال. بيد أنه بحلول أبريل عام ١٩١٧، كان الأمريكيون قد أقرضوا الحلفاء (بريطانيا بصفة رئيسية) ما يزيد على مليارَيْ دولار وألمانيا ٢٧ مليون دولار فقط. قاوم ويلسون الاشتراك في الحرب، لكنه وجد أنَّ من المحال عدم الانحياز إلى صفِّ الحُلَفاء. ومع إغراق سفينة لوسيتينيا في ٧ مايو عام ١٩١٥، أرسل وزير الخارجية ويليام جيننجز برايان مذكرة احتجاجية إلى الحكومة الألمانية، داعيًا فيها إلى إيقاف هجمات الغواصات. رأى ويلسون أن الرد الألماني ليس كافيًا، وطلب إرسال مذكرة ثانية أشد لهجة. رأى برايان أن المذكرة الثانية ستؤدي مباشرة إلى الدخول في الحرب، ففضَّل تقديم استقالته في ٩ يونيو بدلًا من إرساله المذكرة.
لم يعقب ذلك نشوب الحرب مع الولايات المتحدة، وعلقت ألمانيا بالفعل الهجوم بالغواصات، إلا أن إدارة ويلسون مَضَتْ قدمًا في «التأهب»؛ أي في التعزيزات العسكرية السريعة تحسبًا لاستئناف ألمانيا هجمات الغواصات. وإذا حدث ذلك، فإن المذكرة الاحتجاجية الثانية أكدت بقوة على أن الولايات المتحدة ستعتبر ذلك سببًا مباشرًا للحرب، وستُعلِن الحرب على ألمانيا. وفي يونيو ١٩١٦، أجاز الكونجرس زيادة حجم الجيش إلى الضعف تقريبًا، وقدم في أغسطس مئات ملايين الدولارات لشراء سفن حربية جديدة. عارض برايان والسيناتور لافوليت وجين آدمز وغيرُهم من التقدميين جهودَ التأهُّب هذه، إلا أن الكثير من الديمقراطيين ومعظم الجمهوريين في الكونجرس دعموا ويلسون. أصرَّ التقدميون في الكونجرس، مع ذلك، بقيادة نائب نبراسكا جورج نوريس، على أن هؤلاء الذين سيستفيدون من التعزيزات العسكرية الجديدة — صانعي الذخائر وأحواض بناء السفن والمستثمرين — يجب أن يدفعوا في المُقابِل. وحَرَصوا في سبتمبر على أن يُضاعَف المعدَّل الأدنى لضريبة الدخل في قانون الإيرادات لعام ١٩١٦ من ١ إلى ٢ في المائة، مع رفع الضريبة الإضافية على الدخول المرتفعة ليكون حدُّها الأقصى ١٥ في المائة، وفرض ضريبة تصاعدية على التركات وضرائب خاصة على أرباح المؤسسات وصانعي الذخائر. لم تكن الولايات المتحدة قد دخلت الحرب بعدُ، إلا أن التقدميين في كلا الحزبين الرئيسيين بدءوا في الانقسام حول مقدار «التأهب» الذي يجب دعمه.
رأى البعض أن من الممكن القيام بالتأهب للحرب والدعوة إلى السلام على حد سواء، وحتى أوائل عام ١٩١٧، لم يخيِّب ويلسون ظن هؤلاء. حاول ويلسون لمَّ الشمل بين الحلفاء ودول المحور، وفي ٢٢ يناير، دعا في خطاب في الكونجرس، إلى «سلام دون انتصار»؛ أي هدنة بالتفاوض. لم يجد هذا الحديث صدًى لدى قطاع كبير من الشعب، وكذلك لم يأخذه الحلفاء أو الألمان على محمل الجد. وفي المقابل، أعلنت ألمانيا في ٣١ يناير — في رهان على الإنهاء السريع لحرب الخنادق الدامية والجامدة التي تحولت إليها الساحة الغربية — بأنها ستستأنف هجمات الغواصات بلا قيود. قطع ويلسون العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا في ٣ فبراير. وفي مارس، وأثناء تمرير التشريع المحلي الأخير من برنامج «الحرية الجديدة»، أغرقت الغواصات الألمانية خمس سفن تجارية أمريكية. وفي ٢ أبريل، طلب ويلسون من الكونجرس إعلان الحرب على ألمانيا. صوت مجلس الشيوخ على الفور بالموافقة على ذلك، بتصويت ٨٢ إلى ٦، وأعقبته موافقة مجلس النواب بأربعة أيام، بتصويت ٣٧٣ إلى ٥٠، وأعلن ويلسون الحرب في ذلك اليوم.
أظهر تصويت مجلس النواب أن أقليةً من التقدميين، وإن كانت هامَّة، ظلَّت غير مقتنعة بضرورة خوض أمريكا هذه الحرب. صوتت جانيت رانكين النائبة عن مونتانا، وهي أول امرأة على الإطلاق تُنتَخَب في الكونجرس، ضد إعلان الحرب. وعارَض التقدميان جين آدمز وراندولف بورن دخول أمريكا الحرب، بيدَ أن جون ديوي، وهو تقدميٌّ كبير بالمثل، دعم القرار كليةً، وكذلك أيضًا العديد من المصلحين الآخرين. أيَّدت عامة الشعب الرئيس، مثلما تفعل على الدوام تقريبًا في مثل هذه المواقف. كانت الحرب العالمية الأولى على النقيض — بالنسبة للولايات المتحدة، وليس للدول الأوروبية المُنهَكة — «حربًا جيدة»؛ فقد صُوِّرت على أنها معركة من أجل الديمقراطية في وجه الطغيان، وانقضت سريعًا، فلم تسمح بظهور المشاعر المناهضة للحرب (بعيدًا عن الأقلية الداعية للسلام). وصلت أولى القوات الأمريكية إلى فرنسا في يوم ٢٦ يونيو، ووصل عدد الجنود التي أرسلتْها الولايات المتحدة في نهاية المطاف إلى مليوني جندي تقريبًا. وخلال فصلَيِ الصيف والخريف، كان للحملة العسكرية الأمريكية تأثير حاسم في إنهاء الحرب في ١١ نوفمبر عام ١٩١٨.
بعد دخول أمريكا الحرب بفترة وجيزة جدًّا، جاءت التشريعات الصادرة من الكونجرس والقوانين التنفيذية من الإدارة الأمريكية لتمركز الاقتصاد من أجل الجهد الحربي، ولتكبح أي انشقاق مناهض للحرب، ولتكشف عن وجه مُظلِم للتوجه التقدمي. كانت القواعد التنظيمية للمشروعات الخاصة على اختلاف أنواعها، بدءًا من المزارع إلى شركات السكك الحديدية، غير مسبوقة وشاملة في ظل مجلس صناعات الحرب الجديد. كان مجلس عمالة الحرب الوطني مخولًا بالتوسط في النزاعات وتفادي حدوث الإضرابات. كما وجَّهت لجنة الإعلام الأمني بقيادة جورج كريل الرأي العام لدعم الحرب. هذا وجمعت «قروض الحرية» المال من خلال بيع سندات الحرب لعامة الناس. كما جنَّد «قانون التجنيد الإلزامي» الذي صدر في ١٨ مايو عام ١٩١٧ الشباب، وأسس سريعًا جيشًا أكبر حجمًا. بعد مرور شهر، مرَّر الكونجرس قانونًا للتجسس، وفي مايو عام ١٩١٨ قانونًا للتحريض على الفتنة. أباح هذان القانونان معًا أشد القيود جورًا على حرية التعبير منذ قوانين الأجانب والتحريض على الفتنة التي أُجيزت في عهد جون آدمز عام ١٧٩٨، فيما عدا أن قوانين عامَيْ ١٩١٧ و١٩١٨ طُبِّقت بحزم أكبر كثيرًا. أُدين ما يزيد على ألف شخص بموجب هذين القانونين، وبخاصة الاشتراكيون، وحُكم على يوجين في ديبس بالسجن لمدة عشرين عامًا. وفي ١٦ أكتوبر عام ١٩١٨، استثنى قانون جديد للهجرة «الأجانب الذين يؤمنون بالإطاحة بحكومة الولايات المتحدة أو بجميع صور القانون بالقوة أو بالعنف أو يؤيدون ذلك» أو «الذين لا يؤمنون بجميع أشكال الحكم المنظم أو يعارضونها.» استهدف القانون المهاجرين الأجانب، إلا أن الرأي وقع ضحيته؛ فبصرف النظر عن مدى خصوصية الرأي، فقد أصبح حينها سببًا للترحيل عن البلاد أو الاعتقال.
وعلى مدى ما يزيد على عَقْدين، كان الضغط يتزايد من جانب الكثير من التقدميين لحظر بيع المشروبات الكحولية. وعلى الرغم من أن هذا الإجراء يمثِّل اعتداءً واضحًا على السلوك الشخصي، فلم يُنظَر إليه آنذاك على أنه إجراء أحمق أو عديم الجدوى أو اعتداء على الخصوصية، مثلما اتضح فيما بعدُ، بل اعتُبر إجراءً يتعلق بالصحة العامة والسلامة والأخلاق. منذ عام ١٨٧٤، روَّج اتحاد الاعتدال المسيحي النسائي للآثار الضارة لتناول المشروبات الكحولية وحثَّ على حظرها. وبدايةً من عام ١٨٨٠، قدم حزب حظر المشروبات الكحولية مرشحين في الانتخابات الرئاسية، وفاز الحزب في جميع الانتخابات تقريبًا منذ عام ١٨٨٨ إلى عام ١٩٢٠ بما يزيد على ٢٠٠ ألف صوت. أُقرت قوانين حظر بيع المشروبات الكحولية في الولايات والمحليات، وشملت ما يقرب من ثلاثة أرباع البلاد بحلول عام ١٩١٧. أيدت كنائس مسيحية بعينها قرار الحظر، شأنها شأن التقدميين الذين اعتبروا المشروبات الكحولية مدمرة للعائلات والبيوت ومساهمًا رئيسيًّا في انتشار الفقر والأحياء العشوائية وغير ذلك من الآفات الاجتماعية؛ ومن هذا المنطلق، كان حظر المشروبات الكحولية إصلاحًا تقدميًّا.
بعد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، زاد الضغط من أجل تمرير تعديل دستوري يحظر بيع المشروبات الكحولية وتصنيعها واستيرادها. ثمة أسباب ذات صلة بالحرب وراء ذلك؛ فقد اعتُبرت الجعة منتجًا ألمانيًّا، كما احتاج الجهد الحربي إلى الحبوب. وبناءً عليه، وبعد محاولات عديدة، أجاز الكونجرس في ديسمبر عام ١٩١٧ ما صار لاحقًا التعديلَ الدستوريَّ الثامن عشر وأرسله إلى الولايات للتصديق عليه. وفي يناير عام ١٩١٩ صدَّقت ست وثلاثون ولاية على التعديل الدستوري وهو العدد اللازم لإيجازه. ومُرِّر قانون لتفعيل هذا التعديل يحمل اسم عضو الكونجرس عن مينيسوتا أندرو فولستيد في أكتوبر ١٩١٩، وبدأ الحظر على مستوى البلاد عام ١٩٢٠، واستمر حتى تم إلغاء التعديل الدستوري في عام ١٩٣٣.
ومع قدوم مئات الآلاف من الجنود الأمريكيين إلى فرنسا، تطلع الرئيس ويلسون إلى شكل السلام فيما بعد. وعندما تحدث أمام الكونجرس في ٨ يناير عام ١٩١٨، أعلن عن خطة من أربع عشرة نقطة، كانت تلك الخطة أيضًا وثيقة تقدمية بكل وضوح؛ صورة مختلفة بطعم مثالية ويلسون. تمثلت النقطة الأولى في «اتفاقات سلام مفتوحة، يتم التوصل إليها علانية»؛ أي لا مزيد من المعاهدات السرية، وتأتي بعد ذلك «الحرية التامة للملاحة عبر البحار»؛ وتجارة دولية تخلو من «كل العوائق الاقتصادية»، وخفض التسلح، «وتسوية حرة، وواسعة الأفق ونزيهة تمامًا لجميع المطالب الاستعمارية»، وتأتي بعد ذلك ضمانات محددة للحكم الذاتي للقوميات الخاضعة للإمبراطوريات العثمانية والروسية والمجرية النمساوية المتداعية. ودعا في النقطة الرابعة عشرة إلى تأسيس «جمعية عامة للأمم … الغرض منها تقديم الضمانات المُتبادَلة الخاصة بالاستقلال السياسي والتكامل الإقليمي للبلدان الكبيرة والصغيرة على حدٍّ سواء.» نمَّت هذه الخطة المناهضة للإمبريالية والداعية إلى السلام والليبرالية في الاقتصاد والسياسة عن قائمة أمنيات ويلسون المثالية للعالم فيما بعد الحرب. كما أنها حفلت بالتناقضات فيما يتعلق بحديثه المتداخل عن حق تقرير المصير وتقديراته الشديدة التفاؤل حول ما ستوافق عليه القوى العظمى الأخرى المنتصرة. مع ذلك، عندما افتُتح مؤتمر السلام في باريس في يناير عام ١٩١٩، صارت نقاط ويلسون الأربع عشرة الإطار العام لمعاهدة السلام.
حضر ويلسون شخصيًّا إلى المؤتمر ومكث هناك حتى منتصف فبراير لضمان أن النقطة الرابعة عشرة من خطته، التي تدعو لوضع ميثاق عصبة الأمم، جزءٌ من المعاهدة، بعد ذلك عاد إلى الوطن لمدة شهر. برزت معارضة الميثاق في مجلس الشيوخ، على الرغم من أن الأغلبية الديمقراطية في الكونجرس تلاشت مع انتخابات عام ١٩١٨، عاد ويلسون إلى باريس والمؤتمر دون أن تضم الحاشية المرافِقة له جمهوريًّا بارزًا واحدًا، وكان ذلك خطأً سياسيًّا جسيمًا. وفي أوائل يوليو، عاد ويلسون إلى البلاد حاملًا معه معاهدة فرساي المتضمنة في طياتها ميثاق عصبة الأمم.
أصبحتِ المعاهدة الآن بين يدَيْ مجلس الشيوخ للتصديق عليها أو تنقيحها أو رفضها. انقسم أعضاء مجلس الشيوخ إلى أربع فِرَق: الديمقراطيين الداعمين للمعاهدة، و«المتعنِّتين» الأربعة عشر (اثنا عشر منهم ينتمون إلى الحزب الجمهوري) الذين لن يصوتوا على المعاهدة تحت أي ظرف، و«المتحفظين» المتشددين، الذين أرادوا إدخال تغييرات كبيرة وتأكيدات على أن السيادة الأمريكية ليست في خطر؛ و«المتحفظين» المعتدلين، الذين كانت اعتراضاتهم ضئيلة نسبيًّا. بيدَ أن ويلسون رفض التفكير في إجراء أي تغييرات بالمعاهدة على الإطلاق. وفي سبيل حشد الرأي العام، انطلق في جولة بالقطار حول المدن الصغيرة، قطع فيها ٨ آلاف ميل في اثنين وعشرين يومًا. وفي مدينة بويبلو، بولاية كولورادو سقط من الإنهاك، عاد به القطار مسرعًا إلى واشنطن، وتبيَّن هناك إصابته بسكتة دماغية شَلَلية في ٢ أكتوبر. ازداد عناد ويلسون وأصبح لا يتزعزع عن رأيه ولا يقبل بأي تغييرات أو «تحفظات» أيًّا كانت. أحبط الطرفان المتطرفان — الديمقراطيون الداعمون والمتعنِّتون في مجلس الشيوخ — المعاهدة المعدَّلة في ١٩ نوفمبر؛ ٣٨ صوتًا مؤيِّدًا في مقابل ٥٣ صوتًا معارضًا. نمت ردة فعل الشعب، الذي رحب بعصبة الأمم عن شعوره بالصدمة، وفرضوا أن تتم إعادة نظر في مارس عام ١٩٢٠. وعلى الرغم من أن أعضاء مجلس الشيوخ المنتمين إلى الحزب الديمقراطي البالغ عددهم واحدًا وعشرين صوتوا هذه المرة في صفِّ المتحفِّظين، فلم تتحقق أغلبية الثلثين اللازمة.
في تلك الأثناء، مرَّ عام ١٩١٩؛ ذلك العام المريع. كان تسريح الجند وإلغاء الصناعات والهيئات المرتبطة بالحرب غاية في السرعة وانعدام التنظيم. ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بشدة، وأُعيدت السكك الحديدية، التي تم تأميمها مدة الحرب، إلى ملكية الشركات. وفي أوائل عام ١٩٢٠، شجَّع قانون إيش-كامينز على التعاون بين إدارات الشركات، وبهذا ناقض سياسات مكافحة الاحتكار والدمج السارية منذ قضاء ثيودور روزفلت على اتحاد نورذرن سيكيوريتيز الخاص بمورجان وهاريمان عام ١٩٠٤. ومع زوال قيود زمن الحرب، نَشِبَتِ اضطرابات بين العُمَّال والرأسماليين؛ فدَخَل ما يزيد على ٤ ملايين عامل في إضراب عن العمل عام ١٩١٩. واستمر «إضراب عام» ﻟ ٦٠ ألف عامل في سياتل لخمسة أيام، وأظهر قوة الاتحادات والنقابات العمالية، لكنه أفزع العامة أيضًا، المتخوفين بالفعل من استيلاء البلاشفة والفوضويين على البلاد. وفي سبتمبر بدأ ٣٦٠ ألف عامل في صناعة الصلب إضرابًا لأربعة أشهر. فشل الإضراب في نهاية الأمر، واستطاعت شركات الصلب عرقلة الاتحادات العمالية حتى أواخر ثلاثينيات القرن العشرين.
اندلع ما يزيد على أربعة وعشرين عمل شغب عِرْقي حول البلاد، جرى أسوؤها عند أحد شواطئ شيكاجو في يوليو عندما جنح صبي أمريكي من أصل أفريقي نحو منطقة للبِيض فقط. وبانتهاء الأحداث كان قد قُتل أكثر من ثمانية وثلاثين شخصًا وجُرح أكثر من خمسمائة شخص. وفي النهاية، ابتداءً من شهر نوفمبر، شرعت وزارة العدل بقيادة النائب العام إيه ميتشيل بالمر، المجهَّزة بقوانين التجسس والتحريض على الفتنة والهجرة، في إلقاء القبض الجماعي على المهاجرين وغيرهم من المشتبه بأن لهم توجهات تخريبية. اعتقلت «حملات بالمر» ما يربو على عشرة آلاف شخص بوقت انتهائها في منتصف عام ١٩٢٠. وجرى ترحيل ما يزيد على خمسمائة شخص.
لم يتبقَّ سوى إجراء تقدمي واحد، إلا أنه كان هامًّا، ألَا وهو: تشريع حق المرأة في الانتخاب. بحلول عام ١٩١٢، كانت ثماني ولايات قد مرَّرت القوانين الخاصة بحق المرأة في الانتخاب، كذلك أدرجه روزفلت في برنامج حزب ثور الموظ. تظاهر المناصرون لحق المرأة في الانتخاب، لكن ويلسون رفض دعمهم؛ يرجع هذا بدرجة ما إلى جذوره و«قواعده» في الجنوب المحافظ على المستوى الاجتماعي، وأيضًا ميوله الشخصية، ومع ذلك، زادت الضغوط إبان أوج الحركة التقدمية.
وفي النهاية وافق ويلسون في يناير عام ١٩١٨ على دعم تعديل دستوري ينص على حق المرأة في الانتخاب. مُرِّر التعديل على الفور من مجلس النواب، ولكنه تعطَّل في مجلس الشيوخ، وعندما حلَّ موعد التصويت أخيرًا في أكتوبر، أُحبط التعديل بفارق ثلاثة أصوات. استهدفت مجموعات الضغط المؤيدة لحق المرأة في الانتخاب بعد ذلك أعضاء الكونجرس الذين رفضوا التعديل في انتخابات نوفمبر. وفي فصل الربيع، أجاز الكونجرس التعديل الدستوري الخاص بحق المرأة في الانتخاب في يُسر؛ فأجازه مجلس النواب في ٢١ مايو عام ١٩١٩ ﺑ ٣٠٤ أصوات مقابل ٨٩، ومجلس الشيوخ في ٤ يونيو ﺑ ٥٦ صوتًا مقابل ٢٥. وبالرغم من رفض ولايات عديدة (خاصة في الجنوب) للتعديل، فقد صدَّق عليه العدد اللازم لإيجازه وهو ست وثلاثون هيئة تشريعية في أغسطس عام ١٩٢٠، وأُدرِج التعديل التاسع عشر في الدستور. كفل التعديل ما يلي: «لا يجوز للولايات المتحدة ولا لأي ولاية فيها حرمان مواطني الولايات المتحدة حق الانتخاب أو الانتقاص لهم من هذا الحق لعِلَّة الجنس.» وهكذا، في عام ١٩٢٠، دخل آخِر تعديل من بين التعديلات «التقدمية» الأربعة الدستور.
استُنفد الآن البرنامج التقدمي الذي صاغه برايان وروزفلت وويلسون ولافوليت، لكن الإصلاح لم ينضب قط، ولا القوانين التي تواجه الآثار السلبية للرأسمالية الصناعية، إلا أنها احتاجت إلى فترةٍ لالتقاط الأنفاس لبضع سنوات. احتاج الدافع التقدمي والإيمان التقدمي (الذي تضرر بطرق عديدة بأحداث عام ١٩١٩) والزعامة التقدمية إلى هدنة للتفكير. خرج القادة التقدميون «الأربعة الكبار» جميعهم من المشهد، فعليًّا أو ضمنيًّا، قرابة ذلك الوقت. فقد تُوفي روزفلت، وهو في الواحدة والستين من عمره. وظل لافوليت في مجلس الشيوخ لكن بمهامَّ ضئيلة نسبيًّا في اللجان؛ خاض السباق الرئاسي عام ١٩٢٤ وفقًا لقائمة ترشيح «تقدمية»، لكنه حصل على ما يقل عن ٥ ملايين صوت في التصويت الشعبي و١٣ صوتًا فقط في المجمع الانتخابي، وتخلف كثيرًا عن المرشح الجمهوري الفائز، كالفين كوليدج. أما برايان، على الرغم من تمتعه بشعبية دائمة في الجنوب والغرب، فلم يتولَّ ثانيةً أيَّ منصِب سياسي بعدَ استقالته عام ١٩١٥ من منصب وزير الخارجية. ظل ويلسون، بعد إصابته بالسكتة الدماغية، عاجزًا وغير مؤثِّر في الواقع حتى تَرْكِه منصبه في مارس عام ١٩٢١. وحتى ذلك الوقت، كان في رعاية زوجته إديث وحِمَاها، التي أدارتِ الفرع التنفيذي لشهور بفاعلية. حلَّ محلَّ التقدميين العظماء الأربعة الرؤساء المحافظون وارن جي هاردينج (١٩٢١–١٩٢٣)، وكالفين كوليدج (١٩٢٣–١٩٢٩)، وهيربرت هوفر (١٩٢٩–١٩٣٣).
وفوق تلك الآفات الاجتماعية والسياسية جميعها لعامَيْ ١٩١٨ و١٩١٩، ضربت البلادَ كارثةٌ طبيعية هائلة أيضًا. كان خوض الحرب سيئًا بما يكفي؛ فقد خدم في الجيش ٤ ملايين و٧٠٠ ألف رجل وامرأة، ٥٣ في المائة منهم خدموا خارج البلاد. قُتل منهم أكثر من ٥٣ ألفًا في المعارك، ومات ٦٣ ألفًا آخرون بأسباب أخرى، لكنَّ الأسوأ من ذلك الكارثة الطبيعية — وباء الأنفلونزا العظيم لعامَيْ ١٩١٨ و١٩١٩ — التي أودتْ بحياة ما يقرب من ٦٠٠ ألف أمريكي ومن ٥٠ إلى ١٠٠ مليون شخص حول العالم.
ضرب الوباء الولايات المتحدة في ثلاث موجات. في مارس عام ١٩١٨، داخل معسكر تدريب للجيش شُيِّد سريعًا في كانساس يُدعَى معسكر فانستن، ظهرت فجأة أعراض الأنفلونزا على عدة مئات من الجنود المستجَدِّين. وبعد أسبوع، برزت أنباء الإصابات بالأنفلونزا في نيويورك. انحسرت هذه الموجة الأولى خلال الصيف، لكن في أواخر أغسطس بدأت موجة أخرى عنيفة للغاية بمنشأة فورت ديفينز العسكرية بولاية ماساتشوستس، وهي منطقة تجميع للجنود تمهيدًا لنقلهم إلى فرنسا. أُصيب المئات بالمرض، ومات العشرات في يوم واحد، وأفاد كبير الأطباء بأن «جثث الموتَى متكدِّسة في أنحاء المشرحة كما يتكدَّس الحطب.» حملت ناقلات الجند الجنود المرضى والمرض إلى أوروبا. تلاشت الاتهامات الأولية بأن الألمان وراء هذا الوباء كإجراء ضمن حرب بيولوجية عندما عُرف أن الألمان أنفسهم يتساقَط جنودُهم بالسرعة نفسها التي يتساقط بها جنود الحلفاء من المرض.
اجتاح المرض أوروبا، وأعلنتِ الصحافة الإسبانية عن أعداد وفيات تفوق أي مكان آخر؛ وهذا فقط لأن إسبانيا، كإحدى دول الحياد، لم تكن خاضعة للرقابة العسكرية. ولقاء هذه المصداقية، كان جزاء الإسبان أن سُمِّي المرض «الأنفلونزا الإسبانية». بدأ المرض مع ذلك في كانساس، على الأرجح نتيجة تحوُّر جيني في الدجاج أو الطيور الأخرى انتقل مباشرة إلى الجنود الشباب. تُعَدُّ الأنفلونزا عادة أكثر خطورة بين الأطفال وكبار السن، لكن هذا النوع هاجم الشباب؛ ربما لأن استجابة أجهزتهم المناعية له كانت قوية جدًّا. كانت الرئة تمتلئ بالسوائل، فأغرقت المصابين فعليًّا. لم يَمُتْ كلُّ مَن أُصيب بالعدوى، بيدَ أن معدل الوفيات بهذه الحالة تحديدًا كان مرتفعًا بدرجة استثنائية؛ وذلك لأن سلالة المرض كانت أشدَّ فتكًا من أي سلالة عادية. كان السبب فيروسيًّا، وفي عصر كان لا يزال فيه الفحص المجهري والطب ينقصه فعليًّا أي دراية بالفيروسات، كان العلاج والدواء خاطئَيْن وغير فعَّالَيْن.
أودتِ الموجة الثانية بأكثر ضحاياها في خريف عام ١٩١٨. كان شهر أكتوبر الأسوأ، بحصيلة مُعلَنة تبلغ ١٩٥ ألفًا من سان فرانسيسكو إلى بوسطن. طُلب من المواطنين تجنُّب التجمعات الكبيرة؛ فأَغلَقت دُور السينما والمدارس والكنائس أبوابَها، ووُزِّعت أقنعة الوجه على نطاق واسع وألزمت بارتدائها بعض المدن. وفي احتفالات النصر في «يوم الهدنة» في ١١ نوفمبر، اجتمعت حشود مُهلِّلة، فتفشَّى المرض مرة أخرى. تضاءل المرض في ديسمبر وحتى يناير، إلا أن موجة ثالثة ضربت البلاد في أواخر شتاء عام ١٩١٩. وبحلول أواخر الربيع، تراجَع المرض ثم تلاشَى بالغموض نفسه الذي بدأ به، بعد أن انتشر كالنار في الهشيم بين الأعداد العُرضة للعدوى، في الولايات المتحدة وحول العالم. كانت أعداد الوفيات العالمية من وباء الأنفلونزا أعلى كثيرًا من أعداد الوفيات في المعارك جراء الحرب العالمية نفسها.
من المؤكد بدرجة كبيرة أن التفشِّي المبكِّر للمرض كان أسرع لأنه بدأ في الثكنات العسكرية، وانتقل بعد ذلك إلى ناقلات الجند ثم عبر ساحات المعارك في أوروبا. تمخَّض غياب المعرفة العلمية بالفيروسات عن عدة محاولات عديمة الجدوى للوقاية من المرض، على الرغم من أن الحقيقة الواضحة بأنه مرض معدٍ شجَّعتِ السلطات الحكومية على نحو سليم على تقليل الاحتكاك بين البشر بقدْر المستطاع.
تُعَدُّ الصحة العامة والصرف الصحي وأعمال النظافة وتقليل الأمراض الطفيلية مثل الإنكلستوما، والتطورات في مجال العلوم الطبية والبيولوجية بصفة عامة من إنجازات الحقبة التقدمية. كانت النظافة هدفًا رئيسيًّا للنساء المُصلِحات، اللائي نجحن في ذلك وساعدن الشعب الأمريكي على التحلِّي بمَظهَر أنظف والتمتع بعمر أطول عنه في مطلع القرن. أظهر وباء الأنفلونزا أن البحث والعلاج لا يزال ينقصهما الكثير، وهكذا الحال أيضًا بالنسبة للمشروعات التقدمية الأخرى. كانت الفروق في الثروة والدخل تزداد اتساعًا، ولم يتغيَّر الوضع تقريبًا بالرغم من فرض ضريبة الدخل التصاعدية. كما أن العلاقات بين العمال وأصحاب رأس المال كانت لا تزال سيئة على نحو يُنذِر بالخطر، وتكشَّف هذا من خلال الإضراباتِ العديدةِ التي حدثت في عام ١٩١٩ ورفضِ إدارات الشركات والمحاكم الرضوخ لمطالب المفاوضات الجماعية بين العمال وأصحاب العمل. مُنح حق التصويت للنساء البِيض، لكن حُرِم منه الرجال (والنساء) السُّود بفعل قوانين جيم كرو في الجنوب إبان الحقبة التقدمية، فنقضت بذلك وعود حق الانتخاب بعصر إعادة الإعمار. (مع ذلك استطاعت النساء السود خارج ولايات الجنوب التصويت الآن.) كما حُلَّت «مشكلة» الهجرة عبر تقييد الهجرة. أدرك التقدميون رجالًا ونساءً في أعماقهم أن ثمة المزيد من الأمور الأخرى التي يجب فعلها لحلِّ مشكلات المجتمع، لكن على مدى أكثر من عَقْد، ندرت الإجراءات الإصلاحية، بعد أن عادت الحكومات المحافظة.