انحسار الحركة التقدمية: ١٩١٩–١٩٢١
تفاقمت أحداث عام ١٩١٩ المثبِّطة للآمال مع الانكماشات الاقتصادية. بلغ إجمالي الناتج القومي ذروته بسعر الدولار الثابت عام ١٩١٨، ثم انخفض في عامَيْ ١٩١٩ و١٩٢٠، وهبط بشدة عام ١٩٢١. استمر تضخم أسعار وقت الحرب للسلع الاستهلاكية في الارتفاع عام ١٩١٩، بينما ركدت الأجور والدخول. تضاعف مؤشر أسعار الاستهلاك للطعام والملابس بين عامَيْ ١٩١٥ و١٩٢٠، وانخفضت الأسعار التي استلم بها المزارعون مقابل بوشل من الذرة أو رطل من القطن — والتي بلغت ذروتها في عامَيْ ١٩١٨ و١٩١٩ — لأقل من النصف عام ١٩٢٠. لم يصل ركود ما بعد الحرب الحاد إلى الحضيض تمامًا حتى عامي ١٩٢١ و١٩٢٢، إلا أن عامي ١٩١٩ و١٩٢٠ كانا قاسيين، وغامضين أيضًا.
كانت الزراعة على مشارف هزة سوقية تاريخية، مع أن القوة السياسية للزراعيين ظلت كبيرة في بعض الأحيان على مدار جزء كبير من عشرينيات القرن العشرين رغم انخفاض عدد الأعضاء الديمقراطيين في الكونجرس. وفي منطقة السهول الكبرى وغربًا، استأنف الأشخاص الراغبون في العمل بالزارعة تقديم طلبات تأسيس عِزَب ريفية جديدة عامي ١٩١٩ و١٩٢٠ بمستويات ما قبل الحرب تقريبًا، غير أن العدد النهائي لسندات الملكية التي استوفت الشروط انخفض بشدة خلال العقد من ٨ ملايين فدان في عام ١٩٢٠ إلى ما يقل عن مليونَيْ فدان في عام ١٩٣٠. استمرت الزراعة كقطاع في الاقتصاد في النمو، بنحو رئيسي نتيجةً للزيادات في حجم ورسملة المزارع. كان هذا يعني أن المزارعين الصغار، «أصحاب العِزَب الريفية» سواء بالمعنى الاصطلاحي أو الدارج، بدأ عددهم في التقلص. هناك أسباب عديدة وراء ذلك: الانخفاض الحاد في أسعار السلع؛ ومن ثَم في دخول المزارعين عام ١٩٢٠، والمنافسة من المَزَارع الأكبر حجمًا القادرة أكثر على شراء واستخدام الجرارات وغير ذلك من الآلات الجديدة (الباهظة الثمن)، والحقيقة البيئية التي لا يمكن تغييرها المتمثلة في أن حدود المزارع الريفية وصلت إلى منطقة السهول العليا، وحتى نورث داكوتا وتكساس غربًا، ووايومنج ومونتانا شرقًا، حيث نقص هطول الأمطار أو المياه الجوفية جعل زراعة المحاصيل أمرًا مشكوكًا فيه ومحفوفًا بالمخاطر.
مع ذلك استمر الحلم الزراعي، مجتذبًا العائلات الشابَّة غربًا. لا يزال المشتغلون بالزراعة يشكلون ٣٠ في المائة من الشعب الأمريكي، إلا أن الإحصاء السكاني لعام ١٩٢٠، كأنه جاء ليؤكد على استقرار الزراعة، كشف عن أن الأشخاص الذين يعيشون في قرًى ريفية يقل عدد سكانها عن ٢٥٠٠ شخص، إضافة إلى سكان المزارع، لم يعودوا يشكلون أغلبية التعداد السكاني الأمريكي. أصبح سكان المدن — وفقًا لذلك التعريف السخي الذي وضعه مكتب الإحصاء السكاني الذي عرَّف المدينة بأنها ذلك المكان الذي يقطنه ٢٥٠٠ شخص فأكثر — يشكلون أغلبية طفيفة. أبدى الكونجرس ذو الأغلبية الزراعية، للمرة الوحيدة في التاريخ، صدمته ورفض إعادة تقسيم دوائر مجلس النواب وفقًا لإحصاء عام ١٩٢٠، كما هو مطلوب دستوريًّا (وهو سبب رئيسي وراء القوة المستمرة للزراعيين في عشرينيات القرن العشرين).
مع ذلك لم يَعُدِ الكونجرس ديمقراطيَّ الغلبة مثلما كان بين عامي ١٩١١ و١٩١٩. استرجع الجمهوريون كرسي الرئاسة بسهولة عام ١٩٢٠ بحصولهم على ١٦ مليونًا و١٠٠ ألف صوت أو ٦٠٫٣ في المائة من التصويت الشعبي لقائمة هاردينج وكوليدج، في مقابل ٩ ملايين و١٠٠ ألف صوت أو ٣٤٫١ في المائة للديمقراطيين جيمس إم كوكس وفرانكلين دي روزفلت. وكان فارق أصوات المجمع الانتخابي أكبر: ٤٠٤ إلى ١٢٧. لم يستأثر كوكس وروزفلت إلا بأصوات «تكتل الجنوب» وولاية كنتاكي. كما شهدت الانتخابات فوزًا ساحقًا للجمهوريين في الكونجرس، لترتفع أغلبيتهم في كلٍّ من مجلس الشيوخ (٥٩ في مقابل ٣٧ للديمقراطيين) ومجلس النواب (٣٠٢ في مقابل ١٣١ للديمقراطيين و٢ مستقلين).
وطَّدت انتخابات عام ١٩٢٠ التحوُّل الحاسم نحو الجمهوريين. كان أعلى عدد للديمقراطيين في الكونجرس هو ٢٩١ مقعدًا في مجلس النواب عام ١٩١٢، وتراجع إلى ١٣١ عام ١٩٢٠. وفيما عدا تكتل الجنوب، الذي احتفظوا به، فقد خسروا في مناطق مختلفة؛ الغرب والغرب الأوسط والشرق. وعند مقارنة نتائج انتخابات عام ١٩٢٠ مع تلك الخاصة بعام ١٩١٢، نجد أن الديمقراطيين خسروا ١٠ مقاعد في نيوجيرسي، و١١ مقعدًا في كلٍّ من ميزوري وبنسلفانيا، وجميع المقاعد الثلاثة عشر في إنديانا، و١٧ مقعدًا في إلينوي، و١٩ مقعدًا في أوهايو، و٢٢ مقعدًا في نيويورك، وخسروا ما يقل عن ١٠ مقاعد في ١٨ ولاية أخرى. كانت الأغلبيات الديمقراطية في الكونجرس مهمة جدًّا لتمرير تشريعات برنامج «الحرية الجديدة». قَضَتِ الأغلبيات الجمهورية عام ١٩١٨ وسطوتها الكبرى عام ١٩٢٠ على أي فرصة لخروج أي تشريع إصلاحي آخر، باستثناء التعديل الدستوري الخاص بحق المرأة في الانتخاب. كانت التشريعات الأكثر أهمية التي أجازها الكونجرس المنتخب عام ١٩٢٠ هي: قانون جونسون الذي صدر في ١٩ مايو عام ١٩٢١، والذي قيَّد الهجرة على الأساس العرقي الخاص بالبلد الأصلي، ورفع التعريفات الجمركية، وأعادها إلى مستويات ما قبل عام ١٩١٣؛ وقانون الإيرادات لعام ١٩٢١، الذي خفض معدلات ضريبة الدخل من المستويات المرتفعة وقت الحرب (مع أنه لم يُعِدْها إلى مستويات ما قبل الحرب؛ كان الحد الأدنى للضريبة ٨ في المائة والحد الأقصى للضريبة الإضافية ٥٠ في المائة على الدخول التي تزيد عن ٢٠٠ ألف دولار). أما على مستوى النشاط الفيدرالي — من جانب الرئاسة أو الكونجرس أو المحاكم — فقد انتهت الحركة التقدمية.
وكما أظهرت بوضوح انتخابات عام ١٩٢٠، لم يَعُدْ يتأثر الناس بالنشاط السياسي بالنيابة عنهم، ولم يَعُدِ الشعار التقدمي للمعارك السياسية «الشعب ضد أصحاب المصالح الخاصة» له صدًى. كان المزاج العام ساخطًا وقمعيًّا ومُحبِطًا. انتهتِ الحرب بالانتصار في نوفمبر عام ١٩١٨، لكن ما يزيد على ١٠٠ ألف أمريكي قُتلوا. وقتل وباء الأنفلونزا، «الكارثة الطبيعية» التي حيَّرت جميع الأفراد والمؤسسات ممن حاولوا إيقافها، خمسة أو ستة أضعاف قتلى الحرب.
أصبحت الآمال العظيمة والخُطَب الحماسية والمثالية التي أحاطت بنقاط ويلسون الأربع عشرة وعصبة الأم باهتةً تمامًا، ويرجع ذلك إلى حدٍّ ما إلى الإعاقة الشخصية للرئيس وعناده. وجد المزارعون أنفسهم محاصَرين من الجانبين: الأسعار المنخفضة والتكاليف المرتفعة، كما وجد العمال الصناعيون أن الأجور لا ترتفع لمواكبة التضخم، وحلَّ الكساد.
أما العلاقات العرقية — التي لم تكن قط نقطة مضيئة في سجل التقدميين حتى في أيام مجدهم — فقد ساءت. قبل عقد، اتحد التقدميون البيض والسود لتأسيس الجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين، وأُنشئت الرابطة الحضرية الوطنية بعدها بفترة وجيزة. بيدَ أن هذه التحركات المهمة نحو العدالة العرقية واجهت صعوبات في سنواتها الأولى؛ فقد عزَّز ويلسون الفصل العنصري على المستوى البيروقراطي الفيدرالي على نحو أكثر شمولًا عن أي وقت مضى، كما أنه عرض فيلم دي دبليو جريفيث السيئ السمعة «ميلاد أمة» — الذي احتَفَى بجماعات كو كلوكس كلان إبان عصر إعادة الإعمار — في البيت الأبيض. انبعثت جماعة كو كلوكس كلان جديدة في أعقاب الفيلم، وبين عامي ١٩٢٠ و١٩٢٥، انضم إليها عدة ملايين من الأعضاء، وأعلنت نفسها جماعة «أمريكية ١٠٠ في المائة»، وبعد أن أحرقتِ الصلبان وروَّعتِ السُّود في الجنوب، أصبحت ذات نفوذ سياسي في أنحاء المنطقة. علاوة على ذلك، امتدَّ تأثيرها إلى الولايات الشمالية أيضًا، وهيمنت لبضع سنوات على إنديانا وأوريجون، ولم تستهدف السود فقط، بل أيضًا اليهود والكاثوليك والمهاجرين.
اتخذت رغبات الإصلاح القوية التي اندمجت تحت راية الحركة التقدمية قبل الحرب العالمية الأولى منعطفًا مريرًا بعد عام ١٩١٩ نحو الامتثال المجتمعي والتطرف في الوطنية والاستقامة. وبدلًا من جهود تعميم النظام الديمقراطي في كافة أعمال الحكومة، وتوسيع نطاق حق الانتخاب وإقامة العدالة الاجتماعية والصناعية، ظهرت أغلبية واضحة عبر البلاد الآن تشيد بالشركات، بما في ذلك المؤسسات التجارية الكبرى، وذلك في ظل اتساع الفجوة في الثروة والدخل بين الطبقات. لم تُمجَّد الشركات وتُستحسَن تصرفاتُها على هذا النحو من قبلُ منذ عهد ماكينلي.
هكذا كان الوضع فيما يتعلَّق بالمزاج العام للبلاد والتشريعات الفيدرالية؛ فقد كان المزاج العام للبلاد محافِظًا أكثر منه تقدميًّا، وأما التشريعات الفيدرالية، فلم تَعُد مبتكرة وأصبحت — في جوانب هامة عديدة مثل الهجرة — متعصِّبة تمامًا لمصالح مواطنيها الأصليين على حساب المهاجرين. بيدَ أن المزاج العام وصياغة القوانين لا يعكسان على الإطلاق قصة الحركة التقدمية بالكامل. ظلت الجوانب المتعلِّقة بالمُدُن من الحركة التقدمية باقية، بل ازدهرت خلال العشرينيات. فواصلت مراكز التكافل الاجتماعي أداء دَوْرها التعليمي والاجتماعي بين فقراء المدن سواء من المواطنين الأصليين أم المهاجرين. وأصبح البحث في مجالات العلوم الاجتماعية أكثر مؤسساتية مع نشأة الهيئات غير الحكومية مثل المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية، ومؤسسة بروكينجز، ومجلس أبحاث العلوم الاجتماعية، وغيرها. كما موَّلت المؤسسات الخيرية المزيد من المدارس وعيادات الصحة العامة الريفية بالجنوب. وسُنَّتْ قوانين محلية وعلى مستوى الولايات تُلزِم الأطفال بالالتحاق بالمدارس حتى سِنٍّ معيَّنة. انتشر منصب مدير المدينة كشكل من أشكال الحكومة المدنية — الذي كان وسيلة لدعم الكفاءة وكبح الفساد — حول البلاد. وبهذه الطرق وغيرها، استمرت التغييرات — وهي بالطبع أقل لفتًا للنظر من تغييرات ما قبل عام ١٩١٨ ولكنها هامة — على مدار العشرينيات، وما كان يمكن لها أن تحدث دون النشاط التقدمي السابق عليها. وبالرغم من أن الحكومة الفيدرالية أصبحت محافِظة، فقد وجد التقدميون في مجالات العدالة الاجتماعية والتعليم والحكومة المحلية — الذين كان أغلبية عظمى منهم من النساء — أمامهم أمورًا كثيرة لفعلها؛ فقد طرحوا القضايا وأنجزوا التغييرات التي اكتسبت زخمًا مع زيادة المكون الحضري للسكان خلال العشرينيات؛ فتقريبًا النمو السكاني كله في الولايات المتحدة منذ عام ١٩٢٠ كان مدنيًّا أو حضريًّا، ولم يَعُدْ ريفيًّا، وبهذا النحو مهَّدوا لإصلاحات برنامج «الصفقة الجديدة» بالثلاثينيات.
ما الذي حقَّقتْه الحركة التقدمية إذا وضعنا جميع الحقائق في الاعتبار؟ حققت أمورًا كثيرة للغاية. كانت الولايات المتحدة عام ١٩٢١ مختلفة أيَّما اختلاف عمَّا كانت عليه في ذلك اليوم من أيام شهر سبتمبر عام ١٩٠١ عندما أصبح ثيودور روزفلت رئيسًا للبلاد؛ فقد لُجِّمت الثروات الهائلة، سواء المملوكة للشركات أم الأفراد؛ ليس تمامًا بأي حال لكن بدرجة واضحة. وبعد إقرار التعديل الدستوري الخاص بضريبة الدخل، جرى تعديل هيكل الضرائب؛ مما خفض الاعتماد على التعريفة الجمركية — تلك الضريبة التي فُرضت على المستهلكين — ووفَّر أيضًا مرونة كبيرة للغاية لوضع السياسات. وأدخل النظام الديمقراطي على الحكومات المحلية وحكومات الولايات والحكومة الفيدرالية بطرق هامة؛ الانتخاب المباشر لأعضاء مجلس الشيوخ، وقوانين المبادرة والاستفتاء، وحق المرأة في الانتخاب، والانتخابات الأولية المباشرة، وغير ذلك. وصدرت القوانين التي تحدد ساعات العمل للنساء والأطفال، والرجال في بعض الحالات، في اليوم أو في الأسبوع، على الرغم من أن المحاكم ذات النزعة المحافِظة كانت تبطلها في بعض الأحيان. كذلك حَظِيَت قوانين تعويض العمال عن الإصابات أثناء العمل بقبول واسع، وأيضًا أصبح الفقر والأمراض المستوطنة غير مقبولَيْن، هاجمتْهما مراكز التكافل الاجتماعي والعاملون في المجال الاجتماعي والمؤسسات الخيرية غير الحكومية مثل صناديق روكفلر الخيرية. وقدَّم علماء الاجتماع أبحاثًا موثوقة حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، ونشأ أوَّل المراكز الفكرية البحثية في تلك السنوات. لقد تحقق التقدم بلا شك على أصعدة عديدة.
لكن ظلت هناك فجوات. لم يتوافق التقدميون قط على أمور بعينها؛ أبرزها العِرْق والعلاقات العنصرية والحرب والإمبريالية. بعض المصلحين — مثل جين آدمز وقاضي شيكاجو إدوارد أوزجود براون ودبليو إي بي دوبويز وغيرهم من مؤسسي الجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين — بذلوا قصارى جهدهم للحدِّ من التمييز العنصري، مع ذلك لم يقدِّم بعض من زعماء الحركة التقدمية سوى القليل في هذا المجال؛ دعا روزفلت — الذي آمَن حتى النخاع بفكرة تفوق العرق الأنجلوساكسوني — بوكر تي واشنطن على العَشَاء في البيت الأبيض، إلا أنه رفض التعامل بإنصاف مع الجنود السود الذين اعتُقلوا بتهمة إثارة الشغب في براونزفيل بتكساس عام ١٩٠٦ بعقد جلسة استماع عادلة لهم. أما برايان فقد كان يحمل مشاعر التسامح تجاه معظم المجموعات وشعر «ببعض الانزعاج تجاه فكرة تفوق البِيض»، لكنه قلما اعترض على قوانين جيم كرو، وهو الأمر الذي كان سيعرِّض نفوذَه السياسي في الجنوب للخطر. أما وودرو ويلسون، المنحدر من فيرجينيا لأبوين موالِيَيْن للجيش الكونفدرالي، فقد كان مؤيِّدًا تمامًا للفصل العنصري والتمييز العِرْقي. كانت حركة تحسين النسل جزءًا أيضًا من الحركة التقدمية؛ التي دعت إلى إجراء عمليات تعقيم إلزامية «لغير اللائقين»، وفيهم «المُعاقون ذهنيًّا» وحاملو الأمراض المزمنة (لا سيما التي تنتقل بالممارسة الجنسية) حتى العاهرات والشديدو الفقر. ارتبط بتلك الحركة النظريات العرقية التي صنفت «النورديين» (و«الأنجلوساكسونيين») باعتبارهم الأصلح بين البشر، ويتفوقون على «أبناء البحر المتوسط» وبالطبع على الأفارقة والآسيويين. ويبدو أن العنصرية التي أيَّدتْها بعض النظريات العلمية سادت مواقف الأمريكيين، بدءًا من الأكاديميين إلى رجل الشارع، خلال أوائل القرن العشرين، وساهم التقدميون في ذلك بل أيَّدوه.
انقسم التقدميون على نحو واضح حول الإمبريالية والحروب. في ذلك الوقت، لم يكن هناك مَن يُضاهي روزفلت في الحياة العامة الأمريكية في نزعته التوسعية والاستعمارية الحماسية. من ناحية أخرى قدم ويلسون نفسَه على أنه مناهض للاستعمار وصانِع للسلام، كما أيَّد تشريعًا في عامي ١٩١٦ و١٩١٧ يمنح حق المواطنة لمواطني بورتوريكو ويَعِد بالاستقلال النهائي للفلبين، لكنه لم يتردَّد في إرسال قوات من البحرية الأمريكية عندما لم تتفق جمهوريات الكاريبي مع معاييره، أو في إرسال قوات أمريكية إلى المكسيك في محاولة للسيطرة على الأوضاع هناك. عارض برايان بناء إمبراطورية أمريكية في الفلبين وغيرها، وأمضى قدرًا كبيرًا من وقته أثناء الفترة القصيرة التي كان فيها وزيرًا للخارجية في إدارة ويلسون في التفاوض على ثلاثين معاهدة ترسخ آليات التحكيم مع بلدان أخرى، قبل استقالته اتساقًا مع مبادئه نتيجة لمذكرة الاحتجاج العدوانية الثانية التي أراد ويلسون إرسالها بخصوص سفينة لوسيتينيا. رفضت جين آدمز والكثير غيرها من التقدميين من خارج الحكومة تأييد إعلان الحرب على ألمانيا في عام ١٩١٧، وظلوا بشجاعة دُعاة للسلام أثناء الحرب وبعدَها، على الرغم من التهديدات التي أحاطت بحريتهم بموجب قانونَيِ التجسس والتحريض على الفتنة.
مع ذلك اتفق التقدميون حول قضايا عديدة، أكثرها جوهرية القناعة بوجود المجتمع وبأن الجميع أفراد به، وأن الصالح العام يؤثر على الجميع وينبغي الحرص عليه بكل طريقة متاحة. وفي هذا الشأن، تعارضت نظرتهم مع الفردية المطلقة والأنانية اللتين سادتا من قبلُ في العصر المُذهب وعادتا في عشرينيات القرن العشرين (وفي تسعينيات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، اللذين أطلق عليهما «العصر المُذهب الثاني» نظرًا لسوء التوزيع المتزايد للثروة والدخل على وجه الخصوص). وعلى النقيض من الفلسفة الاقتصادية الاجتماعية الخاصة بالروائية العظيمة آين راند، وأنصارها كرونالد ريجان وآلان جرينسبان ويمينيي أوائل القرن الحادي والعشرين، اشمأزَّ التقدميون من فكرة «الجشع أمر جيد»، كما رفضوا الداروينية الاجتماعية، ونظرية «البقاء للأصلح» الاقتصادية؛ لأنهم عَرَفوا أن الأصلح ببساطة هم الأكثر ثروة ونفوذًا، كما أنكَروا أن الأسواق تعمل على نحو تلقائي وسليم بموجب «قوانين طبيعية»، مثلما اعتقد محافظو العصر المُذهب ومؤيدو السوق الحرة مؤخرًا.
إلا أن التقدميين كانوا ذرائعيين، ورأى كثير منهم أن أفضل وسيلة للتقدم تتمثل في الحكومة، على كافة المستويات، وبهذه الطريقة اتفقوا مع الشعبويين الذين سبقوهم في تسعينيات القرن التاسع عشر. انتشر هذا الاعتقاد بين الليبراليين بالحَضَر على غرار ألفريد إي سميث، حاكم نيويورك في عشرينيات القرن العشرين، والأفراد المحيطين به الذين كان الكثير منهم من النساء و(أو) اليهود أو الأيرلنديين أو من الجماعات الأخرى المهاجرة حديثًا. قادت فرانسيس بيركنز رابطة المستهلكين بنيويورك منذ عام ١٩١٠ ورشحها حاكم نيويورك سميث لإدارة لجنة نيويورك الصناعية؛ وفي عام ١٩٣٣ عيَّنها الرئيس فرانكلين روزفلت وزيرة للعمل، فكانت أول وزيرة في تاريخ أمريكا. أما بيل موسكوفيتس فقد أسست لجنة مصانع نيويورك عام ١٩١٠ في أعقاب حريق مصنع تراينجل، وأصبحت معاوِنة أساسية للحاكم سميث. ساعدت كلٌّ منهما وغيرهما من أكبر التقدميات في الحفاظ على استمرار الإصلاح خلال عشرينيات القرن العشرين، قيل إن «ثورة أل سميث» سبقت «ثورة روزفلت» في ثلاثينيات القرن العشرين. لم يتوافق سميث — الأيرلندي الكاثوليكي الذي عارض حظر المشروبات الكحولية، وهو أحد أبناء تنظيم تاماني هول السياسي بمدينة نيويورك — مع الملامح التقدمية المعتادة بأيٍّ من هذه الطرق، بيدَ أن سنوات إدارته لنيويورك شكَّلت جسرًا بين السنوات والتوجهات الفكرية بين الحركة التقدمية وبرنامج «الصفقة الجديدة».
مع ذلك، لم يَستَطِع عدد كبير من التقدميين الذين واصلوا نشاطَهم في العشرينيات — لا سيما الجمهوريين منهم أو الذين انتموا إلى حزب ثور الموظ في السابق — قبول برنامج «الصفقة الجديدة»؛ لأنه، من وجهة نظرهم، تمادَى كثيرًا نحو مركزية الدولة، بما يتعارض مع ما يؤمنون به بشدة من مذهب الفردية، في حين أن تقدميين آخرين أيَّدوا هذا البرنامج، وسَعَوْا في السياق المختلف تمامًا لأزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات نحو تأسيس مجتمع أكثر إنصافًا وسخاءً. استُنفدت الأجندة والحماسة التقدمية الأصلية بحلول عام ١٩٢٠، إلا أن أمورًا كثيرة تحققت، ولا يمكن الرجوع فيها. لم تنتهِ الحركة التقدمية تمامًا؛ فقد أحرزت تقدمًا بالفعل، في بعض الأماكن، مثل ولاية نيويورك تحت إدارة سميث، واستمرت، لكن كانت هناك حاجة لتحقيق المزيد، وفي أزمة الكساد الكبير الطاحنة التي تَلَتْ عام ١٩٢٩، سيتحقق المزيد في نهاية المطاف.