يوم طليطلة
تلك المملكة التي أسسها بنو أمية في الأندلس، وحقق عبد الرحمن الناصر وحدتها، وبسط بغزواته الظافرُ سلطانَها — صار أمرها إلى الضعف والانحلال بعد أن سطا عليها الحاجب المنصور وأنشأ دولته العامرية في قلب دولتها، حاجرًا على الخليفة هشام، مستقلًّا دونه بالنهي والأمر، فأسقط هيبة الأمويين من نفوس أهل الأندلس، ووطد فيهم هيبته بما أوتي من فتوح وانتصارات.
وانتقل الملك من بعده إلى ابنه عبد الملك، ثم إلى ابنه الآخر عبد الرحمن، وكلاهما جرى على سنن أبيه في الحجر على الخليفة، والاستبداد بالسلطة والنفوذ، غير أن عبد الرحمن طمحت عينه إلى الخلافة، فطلب من هشام أن يوليه عهده، فلباه هشام ونزل عند رغبته؛ لما هو عليه من الضعف والاستكانة، فنقم الأمويون والقرشيون على الخليفة، وخافوا أن يذهب الأمر من يدهم، فخلعوه وبايعوا محمد بن هشام — من حفدة عبد الرحمن الناصر — فتلقب بالمهدي.
وكان عبد الرحمن غائبًا في غزوة، فلما بلغه الخبر قفل إلى قرطبة، فأرسل إليه المهدي من قبض عليه واحتز رأسه، فانقرضت بموته الدولة العامرية، ولكن محمد بن هشام لم يستقر ملكه على حال؛ لأنه جافى البرابرة لميلهم إلى العامريين، فأتمروا به وبايعوا المستعين بالله سليمان بن الحكم، فانشق البيت الأموي بعضه على بعض، ونشبت الفتنة بين الأميرين، فمرة كان ينتصر المهدي فيهزم المستعين، ومرة كان ينتصر المستعين؛ فيلجأ المهدي إلى الملك الإسباني فيمده ويعيده إلى عرشه، ثم تم الأمر للمستعين، فتغلب البربر على الأحكام وارتفع شأنهم.
وكان علي بن حمود الإدريسي قد جاء من المغرب، وأخذ يدعو البربر لمبايعته، معتمدًا على نسبه الذي يرفعه إلى علي بن أبي طالب وفاطمة بنت النبي، فبايعه البرابرة، فقَتل المستعين وتلقب بالناصر، فلبثت الخلافة مدة من الزمن تتنقل بين الأمويين والحموديين حتى صارت للمعتضد بالله هشام بن محمد الأموي، فملك برهة يسيرة، ثم خانه وزراؤه وحرسه فخلعوه فهرب من قرطبة، وانقطعت به الدولة الأموية، فصار الأمر بعده إلى الوزير أبي الحزم جَهْوَر، فدعا جماعة العظماء إلى مشاركته في الحكم ليأمن معارضتهم؛ فارتضوا بذلك، ونشأ في قرطبة نوع من النظام الجمهوري، ولكن من طبقة الأشراف.
وأما ولايات الأندلس، فإن رؤساء الطوائف فيها من بربر وعرب وموالٍ اقتسموا خططها، حتى كاد يكون على كل مدينة أمير مستقل فعُرفوا بملوك الطوائف، ومثل هذا التفسخ العميم في جسم الدولة لا يدعو إلى التفاؤل بقيام نظام سياسي ثابت تهنأ به تلك الإمارات المستقلة، وبعضها يتفاوت عن بعض في قوته واتساع أرضه، فلا بد للقوي أن يطمع في ابتلاع الضعيف ليزداد به قوة، فيجد أمامه أميرًا منافسًا ينازعه التوسع، فيأخذ الضعيف تحت حمايته فيصبح تابعًا له، وتقع الحروب بين هؤلاء الأمراء فيشل واحدهم قوى الآخر، وربما استنجد بعضُهم على بعضٍ الأمراءَ المسيحيين؛ فيغتنم أولئك الفرصة، فيهاجمون الأندلس يستولون على عواصمها، ويُخضعون ملوكها، ويفرضون عليهم الجزية، أو يجعلونهم عمالًا لهم، ولو لم يكن أمراء إسبانية هم أيضًا على اختلاف مستمر وتنازع فيما بينهم، لما استطاع ملوك الطوائف أن يستقروا في الأندلس زمنًا طويلًا، مع ما هم عليه من تقسم وتخاذل.
وحاول ابن جَهْوَر صاحب قرطبة، أن يجمع شتيت الأمراء إلى دولته متوهمًا أن وجوده في عاصمة الأمويين كافٍ لأنْ يحمل سائر الولايات على الاعتراف بسلطانه؛ لأنها تعودت من عهد بعيد أن تخضع لحكام قرطبة، فكاتب الأمراءَ — كبارهم وصغارهم — يدعوهم إلى طاعته، فلم يحفلوا به، ولا تكلفوا مَئونة الرد عليه، فاضطر أخيرًا إلى أن يعترف باستقلالهم مكرهًا، وفي رأسه خطة يريد تحقيقها، وهي أن يوسع ملكه باغتصاب الإمارات الصغيرة التي لا قِبَلَ لها بمقاومته وحماية استقلالها.
ووجَّه حملة إلى هُذَيل بن رزين صاحب السهلة، فقهره واستولى على إمارته، فالتجأ هذيل إلى إلى إسماعيل بن ذي النون أمير طليطلة، فبادر هذا إلى إنجاده ليحول دون توسع ابن جهور، فطرد القرطبيين من السهلة وأعادها إلى صاحبها، ثم ناصب قرطبة العداء، فأصلاها حربًا طويلة، تابعها مِنْ بعده ابنُه المأمون.
فعاد أميرها يستغيث بحليفه صاحب إشبيلية، وكان المعتضد يطمع في الاستيلاء على قرطبة ليبسط بها حدود مملكته، فرأى الفرصة سانحة لتحقيق رغائبه، فأمدها بجيش عظيم يصحبه وزيره محمد بن عمار، فسار الجيش إليها، وكشف الحصار عنها، فخرج القرطبيون يتعقبون أعداءهم، وفيما هم يدافعونهم ويثخنون فيهم أخذ ابن عمار يحتل العاصمة، ويمتلك حصونها، وكان أميرها محمد بن جهور مريضًا، فآلمه الخطب لا يستطيع له ردًّا، فمات من قهره بعد أيام.
وعاد جيش قرطبة تخفق على رأسه ألوية النصر، وقد هزم جيوش طليطلة وأحلافها شر هزيمة، ولم تكن خيانة إشبيلية لتخطر له في بال، فلما رأى عاصمته بأيدي حلفائه، وأبوابها موصدة في وجهه، وقف مدهوشًا حائرًا أمام فاجعة لا يتوقعها، فدعاه الإشبيليون إلى الاستسلام، وكان على مقدمته عبد الملك ابن الأمير محمد، فراعه أن تنهار دولة أبيه، فاندفع كالمجنون يقاتل مستميتًا، حتى سقط عن فرسه مغمى عليه من ألم الجراح، فارتد الحارث بن الحكم قائد الجيش القرطبي بفرسانه إلى مدينة الزهراء، فلبث معتصمًا بها مدة، ثم جاءه نبأ موت الأمير محمد وابنه عبد الملك، فترك الزهراء، وسار إلى طليطلة فحالف عدوه ابن ذي النون؛ لينتقم من ابن عباد حليفهم بالأمس!
ولجأ أخوه الثاني ألفنس إلى طليطلة مستجيرًا بالمأمون، فأحسن وفادته وأنزله عنده عزيزًا مكرمًا، إلا أن شانجه لم يعش طويلًا بعد استئثاره بالدولة؛ فقد قُتل غيلةً في كمين نصب له سنة ١٠٧٢م، ويقول المستشرق الألماني جوزِف أشباخ: «إن هذا الكمين حدث بمسعى أخته أوراكا أو أخيه ألفنس، أو كليهما معًا.»
ولما انتهى الخبر إلى ألفنس، غادر طليطلة وجاء لاون فاعتلى عرشها — نصيبه من أبيه — ثم جمع إليه عرش قشتالة — نصيب أخيه شانجه — وترك جليقية لأخيه غرسيه يتمتع بها بضعة أشهر، ثم انتزعها منه، بعد أن اعتقله خدعة سنة ١٠٧٣م، وزجه مغلولًا في بعض الحصون، فلبث طوال حياته سجينًا حتى مات.
ولم يغفل ألفنس عن تعزيز سياسته في الأندلس الإسلامية، وله من أمير طليطلة صديق آواه يوم كان طريدًا ضعيفًا، فعقد حلفًا بينه وبين المأمون، تعاهدا فيه على الصداقة الخالصة والتعاون المشترك في ما يئول إلى خير بلديهما، فأصبح في وسع صاحب طليطلة أن ينتقم من عدوه ابن عباد ويستولي على قرطبة، فوجَّه إليها جيشًا من فرسان طليطلة، والمرتزقة القشتاليين، معقود اللواء على الحارث بن الحكم — قائد ابن جهور — فهاجم الحارث عاصمة الأمويين حين غرة، ودخلها دون أن يلقى مقاومة، على أنه ما تحول إلى الزهراء يريد امتلاكها حتى تصدى له سراج الدولة ابن المعتمد بن عباد بحرس من المغاربة يدافع عن قصور الملوك وذخائرهم، إلى أن سقط في المعمعة صريعًا، فانهزم الحرس، وتم النصر لطليطلة ٤٦٨ﻫ/١٠٧٥م.
ودخل المأمون قرطبة ظافرًا، إلا أنه لم يُمتع بانتصاره؛ فقد تُوفِّي، وكان كبير السن مريضًا، ويقول ابن خلدون إنه مات مسمومًا وحُمل إلى طليطلة فدفن بها، وكان ابنه وولي عهده هشام قد مات قبله، فأوصى بالملك لحفيده القادر بالله يحيى بن إسماعيل — وكان هذا قاصرًا — فأقام له مجلس وصاية من صديقه ألفنس السادس، والحارث بن الحكم وبعض الولاة، ولكن هذه الثقة بحليفه لم تقع موضعها؛ فملك قشتالة نسي ضيافة طليطلة وعطفها عليه، ونسي صديقه المأمون يوم أمَّنه من خوف، وغابت عنه العهود التي واثقه عليها، وما أقسم له من الأيمان على رعاية الأمير القاصر وحماية بلاده.
وأبت نفسه إلا أن تشعر بشعور العرش والوطن، فنجحت عنده مساعي ابن عمار وزير المعتمد، فارتضى أن يحالف صاحب إشبيلية عدو الملك الذي هو وصي عليه، وأن يعده بالمساعدة في توسعه ومحاربة الأمراء المسلمين، ورضي ابن عباد أن يساومه على أبناء ملته، فيترك يده حرة تتصرف في طليطلة، ثم يؤدي له الجزية صاغرًا، لا يجد بها غضاضة في سبيل مطامعه، وتروي الأخبار الإسبانية أن المعتمد بن عباد بعث ابنته «سيدة» إلى بلاط ألفنس؛ تمكينًا للصداقة! فاتخذها هذا حظية له! وكان أمراء إسبانية المسيحية يتسرون يومئذٍ بالنساء تشبهًا بأمراء الأندلس المسلمين.
فمن رواية ابن عذاري هذه يتبين أن الأميرة سيدة ليست بنت المعتمد بن عباد بل زوج ولده المأمون، وكان المأمون واليًا على قرطبة من قِبَلِ أبيه، فلما هاجمها المرابطون — وعلى رأسهم القائد سير بن أبي بكر — قتل المأمون في الموقعة، ودخلها المرابطون ظافرين في ٢٦ آذار سنة ١٠٩١م/٣ صفر ٤٨٤ﻫ.
فالظاهر أن أرملة ابن المعتمد هربت مع ثُلَّة من فرسانها إلى ألفنس السادس محتمية به، فتَسَرَّى بها وتنصرت مع جماعتها، ويؤيد ذلك دليل آخر وقع عليه المستشرق هنري بيريس، وهو عبارة عن فُتْيَا كتبت في أواخر القرن الخامس عشر، أو أوائل القرن السادس عشر، وصاحبها الفقيه المراكشي يحيى الونشريشي، أفتى بها جوابًا على سؤال: أيستطيع المسلم أن يغادر الأندلس إلى إفريقية إذا تيسر له، أم يبقى فيها ليساعد إخوانه في الدين؟
فكان جوابه بتحتيم الهجرة على من يستطيعها من المسلمين بعد استيلاء الإسبانيين على الأندلس محافظة على نسائهم؛ لئلا تعقد زوجة بعضهم أو ابنته صلتها بأعداء الدين، فيقودها الأمر إلى ترك الإسلام، كما أصاب كنة المعتمد بن عباد وأولادها الذين تنصروا معها وهم أبناء المأمون.
وبينما ابن عباد يزحف بجيشه إلى غرناطة ليُخضع صاحبها ابن باديس، إذا ألفنس يتهيأ لغزو طليطلة واحتلالها ١٠٧٩م، وكانت قد ثارت على أميرها القادر بن ذي النون؛ لإكثاره من فرض الضرائب إرضاءً لشهواته وترفه، أو إشباعًا لمطامع ملك قشتالة، فجاء ألفنس إلى طليطلة متذرعًا بحجة الدفاع عن حليفه، فعاث في ولايتها مخربًا قراها وحصونها، ثم ارتد عنها عندما بلغه أن المنصور أمير بطليوس قادم لنجدتها، وعاد في العام التالي يفسد في بسائطها، ويستبد بقلاعها وزروعها، وما زال يوالي عليها الغارات في كل عام حتى أضعفها، ونهك قواها، ورماها بالضيق والفاقة، ثم دلف إليها في السنة السادسة يبغي العاصمة نفسها، فألقى عليها الحصار حتى منع عنها كل صلة ومدد؛ فراحت تستغيث بأمير بطليوس؛ فأمدها المتوكل بن الأفطس بجيش على رأسه ولده الفضل، ولكنه لم يثبت أمام قوات ألفنس الساحقة فانهزم مدحورًا، ولم يبق للقادر أمل من النجاة.
وكان الجوع يهدد المدينة فخاف أن يثور عليه الشعب فيقتله، فأرسل إلى ألفنس يطلب الصلح على أن يؤدي الجزية، ويكون تابعًا له، فرفض ألفنس مطالبه، واشترط عليه أن يفتح أبواب المدينة ويسلمها إليه، واعدًا بأن يحافظ على أرواح المسلمين ومقتنياتهم، وأن يترك لهم المسجد الجامع يصلون فيه، وأن لا يعارضهم في دينهم وشرائعهم، وخيَّرهم في البقاء أو المهاجرة، فمن أحب البقاء يؤدي الجزية كما يؤديها المسيحيون في بلاد المسلمين، ومن آثر الهجرة يُسمح له بأن يحمل أمواله حيث يشاء، وضمن للقادر أن يدع له إمارة بلنسية يتصرف فيها، ولا يبخل عليه بالمساعدة إذا احتاج إلى الدفاع عنها.
في الخامس والعشرين من أيار سنة ١٠٨٥م دخل ألفنس السادس — ملك قتشالة ولاون وجليقية — عاصمة القوط القديمة بأبهة وجلال، منتزعًا من العرب إحدى قواعد الأندلس الكبرى: طليطلة العاصية التي طالما تمردت على أمراء المسلمين، فبذل عبد الرحمن الناصر، والحاجب المنصور من بعده، أعظم الجهود لإخضاعها وكسر شوكتها، فكان يومها المشئوم كارثة على الأندلس العربية؛ لأن قشتالة — حين تملكتها — أصبحت جاثمة على ضفتي نهر التاج، ممدوة النظر إلى ثغور المسلمين.