معركة الزلاقة
فرد عليه ألفنس بما عُرف به من دهاء ومراوغة، وهو أنه إنما يملك ولاية طليطلة كلها شريكًا لصديقه القادر بن ذي النون صاحب بلنسية، وكان المعتمد منصرفًا يومئذٍ إلى محاربة ابن باديس صاحب غرناطة؛ طامعًا في ضم هذه الإمارة إلى مملكته، فأراد ألفنس أن يظهر له حسن نيته من حيث يروم خداعه، فأمده بخمسمائة فارس مدرع من الإسبانيين ليقاتلوا معه في غرناطة، فأوجس المعتمد شرًّا، وأزعجته هذه النجدة التي لم يرغب فيها، ولا شاقه قدومها، ففضل أن يصالح ابن باديس على أن يستبقيها عنصرًا خطرًا في جيشه.
فلما عادت إلى طليطلة دون أن تسفر بعثتها عن نتيجة ترضي ملك قشتالة، كتب هذا إلى المعتمد يطلب منه أن يتخلى له عن الحصون التي يمتلكها في ولاية طليطلة، فعظم الأمر على أمير إشبيلية، وأوجعه خطؤه وسوء سياسته، وعلم أن لا سبيل إلى كبح مطامع ألفنس إلا إذا قابل الشدة بالشدة، وهو وإن يكن يحمل إليه الجزية كغيره من ملوك الطوائف، إلا أنه كان أوسعهم دولة، وأقواهم سلطانًا، فلماذا لا ينقض على الطاغية، ويرفع عن مخنقه يدًا قاسية القبض؟ بل لماذا لا يسعى إلى دعوة أمراء المسلمين أن يتركوا الخلاف ويتحدوا لدرء الخطر المشترك؟ فقد آن لهم أن يطهروا قلوبهم من أحقادها، ويمد بعضهم إلى بعض يده مصافيًا ومعاونًا.
فتداعوا إلى مؤتمر يعقدونه في مملكة ابن عباد — أعظمهم دولة — فاجتمعوا في إشبيلية، ثم في قرطبة، واتفقوا على ضم جهودهم لدفع المغِير وإنقاذ سرقسطة، بَيْدَ أنهم لم يكونوا واثقين بالظفر؛ لما يعلمون من ضعف قواهم إزاء القوات الإسبانية القاهرة، فقرروا أن يستنجدوا يوسف بن تاشفين أمير المرابطين في عدوة إفريقية، وكان صاحب شوكة وسلطان، يسيطر على شعب مخشوشن الأبدان يستطيب الحرب والكفاح، لم ينغمس في الترف والملذات — كأهل الأندلس — لتخور عزائمه فيستكره القتال.
ولا يُتوقع أن يصم زعيم المرابطين أذنيه عن نداء إخوانه المسلمين؛ لما به من حمية للدين، ثم لما يضمر في نفسه من مأرب يهزه لفتح الأندلس وإلحاقها بإفريقية ما دام أمراؤها ضعافًا متواكلين، لا يملكون وسائل الدفاع لحمايتها، فمن الخير للمسلمين أن يدخلها المرابطون، ويمنعوها أن تقع في قبضة المسيحيين.
بيد أن يوسف بن تاشفين — على رغبته الشديدة في الذود عن أبناء ملته، وبسط سلطانه على الأندلس — لم يسرع إلى تلبية ملوك الطوائف دون أن يتبصر بالأمر ويقلبه على وجوهه؛ فقد كان يجهل أرض الأندلس، ولا يعرف إلا الشيء القليل عن الأمراء المسيحيين، فأشفق أن يغرر بجيشه في بلاد غريبة، قبل أن يحتاط للطوارئ، ويتدبر عواقب مغامرته وإقدامه، فدعا إليه كاتبه عبد الرحمن بن أسبط الأندلسي، وطلب منه أن يشرح له أحوال إسبانيا، وما يحول من العقبات دون التغلب عليها.
فذكر له الكاتب أن المسلمين هناك لا يعمرون إلا ثُمن البلاد، في حين أن النصارى يعمرون سبعة أثمانها، وشبَّه إسبانيا بسجن لمن دخلها، لا يخرج منه إلا تحت حكم صاحبه، فإذا كان الأمير عاقدًا نيته على العبور إليها، فيحسن به أن يجيب المعتمد بن عباد بأنه لا يمكنه الجواز إليه، إلا إذا تنازل له عن الجزيرة الخضراء ليجعلها مقر أجناده وأثقاله، ويريد عبد الرحمن بذلك أن يبقى سيده متصلًا بإفريقية، حتى إذا أخفق في حملته لا تسد عليه طريق الرجعة إليها، فاستصوب الأمير هذا الرأي، فكتب به إلى صاحب إشبيلية، ولبث ينتظر الجواب ويتأهب للقتال.
وكان ألفنس في تلك الأثناء قد ثقلت وطأته على الولايات الأندلسية، فلقي ابن هود أشد العناء في الدفاع عن سرقسطة، وما سلمت من التخريب بسائط إشبيلية وحصونها، وبات الخطر يهدد المتوكل بن الأفطس أمير بطليوس، فرأى المعتمد بن عباد أن يستوقف شر الملك الإسباني بأداء الجزية والنزول له عن الحصون المتاخمة، فأرسل إليه يسأله الهدنة، ويبدي رغبته في تسليم الحصون، وتقديم الإتاوة.
فأوفد ألفنس بعثة على رأسها أحد قواده، ومعه يهودي يقال له ابن شاليب، ماهر في نقد الدراهم الزائفة، فنزلوا في ظاهر المدينة، فوجه المعتمد إليهم المال مع جماعة من وجوه دولته، فطلب ابن شاليب أن ينظر فيه قبل تسلمه، فاستاء الوفد الإشبيلي، وعدُّوا ذلك إهانة لهم ولأميرهم، فاحتدم الجدال بينهم وبين البعثة الإسبانية، فأصر اليهودي على طلبه، فاقترح القائد السفير أن يقدم ابن عباد بدلًا من المال سفنًا حربية، فعاد المندوبون بالمال إلى سيدهم، وأخبروه بما حدث، فتلظى حنقًا حتى خرج عن دائرة اعتداله، فأمر بقتل السفير ومن معه، وكانوا ثلاثمائة، ولم ينجُ منهم غير ثلاثة تمكنوا من الفرار، ويروي صاحب «نفح الطيب» عن ابن اللبانة، شاعر المعتمد أن الأمير لم يقتل من البعثة غير اليهودي، فقد أمر بصلبه، وأما المسيحيون فإنه اكتفى بأن يزجهم في السجن.
ويقول أبو عبد الله الحميري في «الروض المعطار»: إن ألفنس طلب زيادةً على الضريبة والحصون، أن تأتي امرأته إلى قصور الزهراء فتنزل فيها إلى أن تلد؛ لأن القسيسين أشاروا عليها بأن تتردد على الجامع الكبير في قرطبة، لتتبرك مدة حملها بزيارة الكنسية التي كانت بجانبه الغربي قبل بنائه، فرفض ابن عباد هذا الطلب، فراجعه ابن شاليب وأغلظ له القول، حتى أغضبه فأمر بصلبه منكوسًا.
ثم فكر بما يجر عليه هذا الحادث من وخيم المغبة، فملك الجلالقة لا يصبر عن الاثِّئار لبعثته، وقد اتسع الخرق بينهما؛ فما يمكن استرضاؤه إلا بشروط لا تطاق، فوطَّن النية على استدعاء المرابطين ثانية، والتنازل لزعميهم عن الجزيرة الخضراء، فدعا ابنه الرشيد ولي عهده، وأفضى إليه بما يعتزم عليه، فمانع الرشيد وحذر والده خطر المرابطين إذا دخلوا الأندلس وامتلكوا قاعدة فيها.
فأجابه المعتمد بكلمته المأثورة: «رعي الجمال خير من رعي الخنازير»، أي أنه يفضل أن يكون مأكولًا ليوسف بن تاشفين يرعى جماله في الصحراء، على أن يكون أسيرًا عند ألفنس، يرعى خنازيره في قشتالة.
وتلقى أمير المرابطين دعوة ابن عباد — وكان ينتظرها — فحشد جيشه في سبتة، ثم اجتاز المضيق إلى الجزيرة الخضراء، في شهر ربيع الآخر ٤٧٩ﻫ/آب ١٠٨٦م، فوجد أمير إشبيلية قد خف لاستقباله في مائة فارس ووجوه أصحابه، فتقدم المعتمد يريد تقبيل يده؛ إظهارًا لطاعته، فمنعه يوسف، فتصافحا وتعانقا كصديقين، لا كتابع ومتبوع، ثم تسلم الزعيم الإفريقي الجزيرة ليتصرف فيها، فاحتل بجيشه قلعتها، واهتم بتعزيز حصونها، وتنظيم حاميتها، وإعداد المؤن والذخائر فيها لتكون له موئلًا يفزع إليه إذا لم يحالفه النصر في حملته.
فلما أتم تجهيزها شخص إلى إشبيلية فلبث ثمانية أيام يؤهب جيوشه منتظرًا في الوقت نفسه قدوم الأمراء الأندلسيين بقواتهم لينضموا إليه، حتى إذا اكتملت عدة الجيوش المتحالفة، زحفت من إشبيلية تجوز أملاك أمير بطليوس، فسار فرسان المرابطين في الطليعة وعدتهم عشرة آلاف يقودهم داود بن عائشة، ثم الجيش الأندلسي، وعلى رأسه المعتمد، ثم الجيش الصحراوي يتقدمه يوسف بن تاشفين، وبينه وبين جيش ابن عباد يوم واحد، حتى بلغوا بطليوس، فنزلوا بظاهرها، فخرج إليهم أميرها المتوكل بن الأفطس، فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات.
فلبيا دعوته وانضما إليه بقواتهما، فاجتمع لديه جيش عظيم، تختلف الروايات الإسلامية في تقديره؛ فمنها ما يبالغ فيه فيجعله مائتي ألف راجل، وثمانين ألف فارس، ومنها ما يذهب إلى الاعتدال فلا يرتفع به عن الثمانين ألفًا، منهم أربعون ألفًا من ذوي الدروع الثقيلة، ويقدره ابن الأثير بخمسين ألف مقاتل، ويجعله ابن خلكان أربعين ألف فارس غير ما انضم إليه من الأتباع، ولا تتفق الروايات الإسلامية على عدد جيوش المسلمين؛ فمنها ما يرفعه إلى ثمانية وأربعين ألفًا، نصفهم من الأندلسيين، ونصفهم الآخر من المرابطين، ومنها ما يهبط به إلى العشرين ألفًا، ولكنها تُجمِع كلها على أن عدد المسلمين كان أقل من عدد المسيحيين.
وأما الروايات المسيحية، فإنها لا تشير إلى عدد الجيوش النصرانية، وإنما تذهب إلى تقدير الجيوش الإسلامية بزهاء مائة ألف، أو تظهر عجزها عن إحصائها، فتقول إنها كانت كالجراد المنتشر، ويفترض المستشرق الألماني جوزف أشباخ عددًا متساويًا للفريقين، فيقدر أن كل واحد منهما كان يجمع نحو مائة وثلاثين ألفًا إلى مائة وخمسين.
ونحن إذا نظرنا إلى الولايات المتسعة في مملكة ألفنس، وما يُحتمل استمداده من القوات الحليفة والمتطوعة، لا نستكثر خروجه بمقدار مائة ألف لقتال عدو يشعر بخطره بعد اجتماع الإفريقيين والأندلسيين عليه، وكذلك لا يُعقل أن يوسف بن تاشفين يعبر إلى الأندلس بأقل من أربعين إلى خمسين ألفًا، وهو مقدم على الحرب في بلاد غريبة منيعة، رأينا كاتبه عبد الرحمن يجتهد في تحذيره منها، وإذا كانت فرسانه عشرة آلاف كما ذكرنا، فلا ينبغي أن يقل عدد الرَّجَّالة عن الثلاثين أو الأربعين ألفًا، ثم إن أمراء الأندلس في تحالفهم على الكارثة المشتركة لا يُستغرب أن يبلغ حشدُهم خمسين ألفًا على أقل تعديل ليتخلصوا من عدو مخيف طالما هدد وجودهم، وقد سنحت لهم الآن فرصة تمنوها طويلًا حتى حصلوا عليها.
فإن تكن العساكر الصحراوية والأندلسية دون العساكر الإسبانية في مجموعها بحسب رواية المؤرخين المسلمين، فلا يمكن التسليم بأنها تقل عنها كثيرًا، فكلا الجيشين قوي متأهب أحسن الأهبة، والموقف خطر رهيب، والمصير غامض لا ينجلي إلا في اللقاء.
أما يوسف بن تاشفين، فقد جعل معسكره وراء أكمة عالية، في عزلة عن معسكر الأندلسيين، فلما أخذت العساكر الإسبانية محلاتها، أرسل زعيم المرابطين إلى ألفنس يعرض عليه الدخول في الإسلام، أو تأدية الجزية، أو مباشرة القتال كما هي السُّنَّة، ومن جملة ما قاله في الكتاب بحسب رواية نفح الطيب: «بلغنا يا أدفنش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن يكون لك سفن تعبر فيها البحر إلينا؛ فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله — تعالى — في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال.»
فلما اطلع ألفنس على مضمون الكتاب، رماه إلى الأرض مغضبًا، وقال للرسول: «اذهب فقل لمولاك: إننا سنلتقي في ساحة الحرب.»
ولم يشأ العاهل الإسباني أن يباشر القتال قبل أن يلجأ إلى بعض خدائعه المعهودة، فبات ليلته لا يحرك ساكنًا، والمسلمون يحسبون المعركة ناشبة حتمًا غداة الخميس، فهبُّوا في الصباح يستعدون لخوضها، وإذا رسول من ألفنس يحمل كتابًا إلى يوسف بن تاشفين يقول فيه: «غدًا يوم الجمعة وهو عيدكم، والأحد عيدنا، فليكن لقاؤنا بينهما يوم السبت.» وفي رواية أخرى أنه استثنى يوم السبت أيضًا؛ لأنه عيد اليهود، وفي المعسكرين كثير منهم، واختار للقاء يوم الإثنين.
فاستحسن الأمير المغربي هذا التأجيل وخاله عدلًا، فوافق عليه، ولم يعلم أن ألفنس يرمي به إلى تعطيل أهبة المسلمين ليأخذهم يوم الجمعة على غرة وهم غير مستعدين، ولكن المعتمد بن عباد كان قد بَلَا مكايد حليفه بالأمس، وذاق سموم أكاذيبه، فلم يطمئن فؤاده إلى هذا الاقتراح المريب، واستشعر الحيلة من خلاله، فبث عيونه في الليل يتجسسون حركات الإسبانيين، فعادوا إليه يخبرونه بأنهم أشرفوا على محلة ألفنس، فسمعوا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، فبعث إلى السلطان يوسف يطلعه على الأمر ويستحث نصرته، وكان ألفنس قد جعل جيشه قسمين: أحدهما يقوده غرسيه، والثاني يتقدم جناحيه شانجه ورمند ويقوم هو في قلبه، فعند السحر، حمل جيش غرسيه أولًا يريد مباغتة الأندلسيين، وإذا داود بن عائشة يصدمه بفرسان المرابطين، ويكسر من حدة هجومه.
ولم يكن الإسبانيون ينتظرون هذه المفاجأة فانكفَئوا إلى خط دفاعهم الثاني، ثم أصلحوا أمرهم وعاودوا الكَرَّة على المرابطين، وحمل معهم ألفنس بسائر الجيش، يخترق فرسانه المدرعون بالحديد الخطوط الأندلسية، وقد ارتفع إلى السماء صياح الإسبانيين وقرع طبولهم، وكانت الحملة راعبة عنيفة، فلم يصبر لها أمراء الأندلس، فتراجعوا مفلولين ثم ركنوا إلى الفرار، فطاردهم المسيحيون إلى أسوار بطليوس، ولم يثبت في الميدان إلا فرسان إشبيلية وأميرهم المعتمد بن عباد، والفرسان المرابطون، وقائدهم داود بن عائشة، فإنهم لبثوا يجاهدون الأعداء صابرين على عض السلاح، مستهينين بالموت، لا يطلبون النجاة.
وأظهر ابن عباد من ضروب البسالة ما يملأ النفس إعجابًا؛ فقد أحاط به الإسبانيون من كل جهة، فانكشف بعض أصحابه، وفيهم ابنه عبد الله، فأخذ يقتحم الصفوف معرِّضًا نفسه للوبال، فشُجَّ رأسه، وجُرحت يمنى يديه، وطُعن في أحد جانبيه، وعُقرت تحته ثلاثة أفراس، وهو يجالد مستأسدًا لا يترك المعمعة، ولو لم ينفِّس عنه داود بن عائشة بعض الشيء لكانت عليه المحنة أشد وأقسى.
فقد جاهد القائدان بفرسانهما أروعَ جهاد، حتى لم يَبْقَ لهما أمل من الدفاع، فارتدَّا بأصحابهما إلى الأسوار ملتحقين بأمراء الأندلس الذين انهزموا في بدء المعركة، وأسملوا محلاتهم، فاستفاد منها الأعداء في انقضاضهم وتطويق الذين صبروا وصابروا من المسلمين، وتتبعهم ألفنس بالمطاردة ليُجْهِزَ عليهم، فتدفقت وراءهم فرسان إسبانية تضرب في أقفائهم، وبارق النصر يلوح لها مشعًّا لمَّاعًا.
وظن ألفنس واهمًا أن الكسرة وقعت على جيوش المسلمين بأجمعها، وأن يوسف بن تاشفين والصحراويين في جملة المندحرين، ولكن ساء فَأْلُه، فبينما هو يطارد المنهزمين، وأصحابه يتباشرون بالظفر، إذا بالصرخة تتعالى وراءه في معسكره، وقرع الطبول يتجاوب في الهواء، وكان زعيم المرابطين قد خرج بعساكره من وراء الأكمة، وأمر قائده أبا بكر أن يخف بقوة من البربر لمعونة المعتمد بن عباد والأندلسيين، وسار هو بفيالقه الضخمة إلى معسكر الإسبانيين، فأناخ عليه، فأوقع بحاميته، وانتهب ما فيها من الذخائر والسلاح، وضجت أصوات طبوله، فاستكَّت لها آذان ألفنس ورجاله.
وجاءه النبأ المشئوم وهو في نشوة الظفر يتعقب الأندلسيين، ويبعثر البرابرة الذين جاءوا لنجدتهم، فترك المطاردة، وارتد بجيوشه إلى المعسكر؛ لينقذه من أيدي المرابطين، وأبصر يوسف بن تاشفين عنف الكَرَّة، فحاد عنها خارجًا لهم عن المحلة، ثم كر عليهم فأخرجهم، ثم كروا عليه فأخرجوه، وتوالت الكَرَّات والمعسكر ينتقل من يد إلى يد، وكان أمير المرابطين يمر بين مسافات المسلمين يحرضهم، ويقوي نفوسهم على الجهاد والصبر ويقول: «يا معشر المسلمين، اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رُزق منكم الشهادة فله الجنة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة.» فقاتل المسلمون في ذلك اليوم قتالَ مَنْ يطلب الشهادة ويرغب في الموت، وقاتل المسيحيون أصدقَ قتالٍ، وصبروا أعظم الصبر، وفي نفوسهم ما في نفوس أعدائهم من الحمية للدين والوطن، فتساقطت ألوف الضحايا من الفريقين حتى غصت بهم ساحة القتال، وخاضت الخيل في برك من الدماء، وسقط فيها جماعة فغرقوا في دم قتلاهم، وصارت الأرض ترتجف من وقع حوافر الجياد، وانعقد العجاج فأظلم النهار.
وكان المعتمد بن عباد، وداود بن عائشة قد جمعا شمل فرسانهما بعد أن كف ألفنس عن المطاردة، فارتدا بهم في أثر المسيحيين، وارتد بعدهما المنهزمون من أمراء الأندلس وقد اشتدت عزائمهم حين تنسموا ريح النصر، فأُخِذَ الإسبانيون من الجانبين، فتناهبتهم شِفار السيوف تحصدهم من الأمام والوراء، وهم لا يفترون عن المكافحة غير مصدقين أنهم خسروا المعركة، يكرُّون على معسكرهم يستعيدونه من المرابطين، ثم ينتزعه المرابطون من أيديهم، ثم يرجع إليهم، وهم في الوقت نفسه يقاومون الأندلسيين في مؤخرتهم، حتى دنت ساعة الغروب، فَكَرِهَ يوسف بن تاشفين أن يأتي الظلام ويفصل بينه وبينهم على غير نتيجة، فأمر رجاله السودان، فترجلوا عن مطاياهم وعدتهم أربعة آلاف، بأيديهم السيوف والدرق ومزاريق الزان، فاقتحموا خيول الإسبانيين، وأعملوا الطعن في بطونها وصدورها، فازورَّت بفرسانها وخامت عن المعترك من ألم الجراح.
وحملت جيوش المسلمين حملة صادقة؛ فانهزم الإسبانيون متخلين عن معسكرهم لا يأملون العودة إليه، فاستحرَّ القتل فيهم، فلم يفلت منهم غير طويل العمر، وأبى الملك ألفنس أن يهرب، فلبث يجمع صفوفه ويقاتل مستبسلًا مخاطرًا بحياته، فلحقه أحد السودان، فلصق به وطعنه بخنجر فأثبته في فخذه، وهتك حلق درعه، فبادر إليه خمسمائة من فرسانه الدارعين فأنقذوه، ولكنه رفض أن يترك ساحة القتال، وآثر الموت على أن يرضى بالهزيمة، فساروا به على كُرْهٍ منه إلى تلٍّ مما يلي المعسكر، ثم انحدروا إلى قورية يسترهم الظلام.
وخسر الإسبانيون أكثر جيشهم في هذه الموقعة، وكذلك كانت خسارة المسلمين جسيمة؛ لأن الضائقة لزمتهم معظم النهار، بَيْدَ أنهم وجدوا تعزية في النصر البهيج، فأقاموا مهرجان الفرح مساء يومهم، وبعث المعتمد بن عباد حمامة إلى عاصمته تحمل رسالة البشرى لولده الرشيد، فقرئت على الناس في المسجد الجامع، واحتفلت إشبيلية بالنصر في اليوم نفسه على ما بينها وبين بطليوس من البعد، وبات الجيش ليلته في ميدان القتال، حتى تنفس الصبح، فجُمعت ألوف من رءوس الإسبانيين على شكل مِئذنة، وقام فوقها المؤذن ينادي: حيَّ على الفلاح!
وانتهت معركة الزلاقة بيوم واحد، الجمعة ٢٣ كانون الأول ١٠٨٦م، فدوَّنت حدثًا عظيمًا في تاريخ الإسلام، فهي وإن تكن فتحت أبواب الأندلس لمرابطي إفريقية، فلقد أثبتت فيها أقدام المسلمين مدى أربعة قرون.