يوم سرقسطة
وقد أخذها ألفنس السادس بالحصار أخذًا شديدًا، فما رده عنها إلا نبأ جاءه عن يوسف بن تاشفين وأمراء الأندلس بأنهم زاحفون إليه في جموع جرارة، فبادر نحوهم قبل أن يبلغوا طليطلة، والْتَقاهم في بطليوس؛ حيث دارت عليه معركة الزلاقة بشؤم الطالع ١٠٨٩م، فانكفأ منهزمًا إلى عاصمته في فلول من جيشه المكسور، فاستطاعت سرقسطة عندئذٍ أن تتنفس الصُّعَدَاء، وتستعيد سلطانها على الولايات التي انْتُزِعَت من يدها، ولم يكن لها قِبَلٌ بالدفاع عنها.
وكان ألفنس قد استأنف أهبته ونشاطه بعد كارثة الزلاقة؛ فخرج سنة ١٠٨٧ يُثخِن في الولايات الأندلسية، مستنزلًا أمراءها عن قواعدهم وحصونهم، فعاد هؤلاء إلى استصراخ يوسف بن تاشفين؛ فعبر إليهم سنة ١٠٨٨م ينثر التيجان عن رءوسهم، ويبسط يده على إماراتهم، وافتَتحت جيوشه بلنسية سنة ١٠٩٢م فأزالت عنها كلمة النونيين، وهي تحت حماية السيد رذريق يومئذٍ، تابعة لمملكة قشتالة، وقد رأينا الفارس الإسباني يخف لإنقاذها برجاله وحلفائه المسلمين، حتى استردها سنة ١٠٩٤م؛ لذلك لا يصح قَبول الرواية التي تزعم أنه حارب ملك أرغون سنة ١٠٩٣م منتصرًا للهوديين؛ لأنه كان منصرفًا في تلك السنة إلى تحصين القلاع الجبلية ببلنسية، ثم إلى السعي لمحالفة الأمراء المسلمين في السهلة وشاطبة ودانية ومربيطر.
وكما كان السيد مهتمًّا بصد المرابطين عن الولايات الشمالية؛ خشاة أن يدخلوا إسبانية، فكذلك كان هَمُّ ألفنس السادس؛ فقد أزعجه توغلهم في الأنحاء الجنوبية والشرقية، واستيلاؤهم على بلنسية، فنشط إلى حشد الجيوش ليدفعهم عن بلادهم إذا حاولوا الغارة على طليطلة؛ فلهذا لم يكن بوسعه أن يجيب نداء المستعين عندما استغاثه ملتمسًا حمايته، واعدًا بتأدية الجزية على أن يمده بجيش يرد الأرغونيين عن وَشْقة، وقد بلغ منها الحصار أشُده، فلما رأى المستعين أن ألفنس عاجز عن مساعدته لاشتغاله بدفع الخطر الصحراوي عن مملكته، أيقن أن لا فائدة من محالفته؛ فنقض المعاهدة، وولى وجهه شطر المرابطين، مع علمه بما يجر تدخلهم من الخطر على إمارته، ولكنهم على علاتهم أبناء ملته، ولعله تمثل قول المعتمد بن عباد: «رعي الإبل خير من رعي الخنازير.»
فأوفد ابنه عماد الدولة إلى يوسف بن تاشفين في مراكش، ومعه الهدايا النفيسة، يخطب وُدَّه ويستعينه على الأرغونيين، فلم يتلكأ أمير المسلمين عن محالفته، وهو يعلم موقع سرقسطة، وما يُرجى من فائدته في مهاجمة الأمراء المسيحيين لقربها من ممالكهم.
ثم إنه كان يؤْثِر أن تظل هذه الدولة المسلمة شجًّا في حلوق الإسبانيين، فبادر إلى إنجاد وَشْقة بستة آلاف راجل وألف فارس، واعدًا بمتابعة الإمداد، وكتب إلى أمراء دانية وشاطبة والسهلة يهددهم ويدعوهم إلى نصرة المستعين، وطرد الأرغونيين عن وَشْقة.
وكان عرش أرغون قد صار بعد وفاة شانجه إلى الدون بدرو ولده الأكبر، فتولى بنفسه قيادة الجيش، ملتزمًا حصار القلعة، حتى إذا بلغه زحف المرابطين ومن انضَمَّ إليهم من العساكر الأندلسية رفع الحصار عن وَشْقة وخف إلى لقائهم في الكرَّازة؛ فمزق جموعهم ثم ارتد إلى وَشْقة، فما انفك يحاصرها حتى سقطت في يده سنة ١٠٩٦م، فجعلها قاعدة لملكه.
ويقول المستشرق الألماني جوزف أشباخ: إن الحروب الإسبانية بين المسلمين والنصارى اتخذت في ذلك العهد شكلًا صليبيًّا منظمًا؛ لأن الكرسي الرسولي منع أمراء إسبانية من الذهاب إلى الشرق للمساهمة في إنقاذ الأراضي المقدسة أسوة بغيرهم من الأمراء المسيحيين؛ مخافة أن تنتقص قواهم، فيعجزوا عن القيام بقسطهم من الحرب الدينية في الغرب، خصوصًا بعدما أوغلت جيوش المرابطين في ولايات الأندلس، وبات خطرها يحدق بالممالك المسيحية في إسبانية، إن لم يكن بالممالك الغربية جمعاء؛ فهبَّ الأمراء الإسبانيون من كل جانب يدافعون العدو المُغِير على ثغورهم، فاتسعت دوائر القتال، وتعددت جبهات المعارك، ففي كل ناحية تزهق أرواح، وتغلي دماء.
وكان ملك أرغون قد أطمعه سقوط وَشْقة فراح يوالي الغارة إثر الغارة ووكْدُه سرقسطة دون سواها، بَيْدَ أنها امتنعت عليه متمردة، فردَّته خائبًا يائسًا سنة ١١٠١م، ثم إن المرابطين استردوا بلنسية سنة ١١٠٢م، بعد موت السيد رذريق؛ فأصبحوا مسيطرين على القسم الشرقي من البحر والبر، يهون عليهم أن يتداركوا سرقسطة ويدرءوا الخطر عنها، ثم رأوا أن وجودهم فيها أجدى نفعًا لهم إذا أرادوا الغارة على قطلونية وأرغون، فدخلوها على كُره من المستعين سنة ١١٠٧م، فنشبت بينهم وبين الأرغونيين معاركُ متتابعةٌ، وكان يوسف بن تاشفين قد تُوُفِّيَ سنة ١١٠٦م، وصارت الإمارة بعده إلى ابنه عليٍّ، فحشد جيشًا عظيمًا سنة ١١٠٨م عاقدًا لواءه لأخيه تميم.
لا نحاول أن نحيط ما أصاب ألفنس من الحزن الأليم عندما انتهى إليه نبأ أقليش، فحسبنا أن نتصور هذا الملك الشيخ يجر وراءه أمجاد ثلاث وأربعين سنة استوى فيها على العرش، فإذا هو يُمْنَى آخر حياته بكارثة لم تقتصر على انكسار جيشه واستسلام قلعته، بل جاوزت ذلك إلى الفجيعة بابنه الوحيد، بقية أمله، ووارث عرشه.
وقعت هذه الهموم ثقيلة على عاتق الشيخ الفاني، فكاد يهوي تحتها لولا بقية حزم لم تنل منها عاديات السنين، فرأى أن لا سبيل إلى بقاء العرش في سلالته إلا بنقل ولاية العهد إلى ابنته أوراكا، وكانت فتاة ذكية كثيرة المطامع، تزوجت في العاشرة من عمرها بالكونت ريمون البورغوني، ثم تُوُفِّيَ بعلها بعدما رُزقت منه غلامًا سمَّتْه ألفنس باسم أبيها، غير أن الملك الشيخ خشي ألا تستطيع ابنته حماية المملكة وحدها؛ فآثر أن يزوجها ملكًا قويًّا من أنسبائه، فوقع اختياره على ملك أرغون حفيد عمه راميرو.
وتُوُفِّيَ ألفنس السادس سنة ١١٠٩م بعد أن اطمأنت نفسه إلى نظام ولاية العهد، وأمن على عرشه من الانهيار، وما خطر له أن زواج ابنته بنسيبها ملك أرغون سيدفع البلاد إلى فتنة حمراء؛ ذلك أن كلا الزوجين رضي الآخر بدافع المنفعة الشخصية لا بدافع الحب المتبادل، وأن كليهما كان يريد أن يستأثر بالسلطة دون رفيقه، وفي نفسه من الطِّماح والصلابة ما يأبى عليه أن يلين أو يتنازل عن شيء من حقوقه، حتى بلغ التنازع بينهما إلى النفور فالتباغض، ثم إلى مجاهرة الخلاف والقطعية؛ فطلبت أوراكا الطلاق متذرعة بموانع القربى، وراحت في الوقت نفسه تبسط يدها للعشاق مستنصرة بهم، مثيرة غَيرة بعلها؛ لتحمله على قبول الطلاق.
واشتُهرت روايتها الغرامية فباتت سمرًا للناس، ولا سيما صلتها بالكونت غومز، وكان ألفنس يتألم في كبريائه من سلوك زوجته ويزداد سخطًا عليها، غير أنه رأى من الحكمة أن يرفض تطليقها؛ حفاظًاعلى حقوقه في مملكة قشتالة، وأن يعمد إلى تدبير جازم يضع حدًّا لنفوذها وتهتُّكها، فأمر باعتقالها بعد أن جعل حصون طليطلة في حراسة جنوده الأرغونيين.
إلا أنها تمكنت من الفرار وأخذت تدس لزوجها وتؤلب عليه الأنصار من قشتالة ولاون وأشتوريش؛ فنشبت في إسبانية حروب أهلية أدْمَتْها عدة سنوات، وخاض غمارها ألفنس ابن أوراكا منازعًا أمه من جهة وألفنس المحارب من جهة أخرى … على أنها كانت تتوقف حينًا بعد آخر ليردُّوا غزاة المرابطين عن بلادهم، أو ليُغِيروا على ثغور الأندلس.
ولبثت إسبانية قلقة لا تستقر على حال، حتى يئس ألفنس المحارب من خضوع قشتالة، فسكت عن المطالبة بحقوقه، مكتفيًا بلقب قيصر إسبانية؛ أسوة بألفنس السادس، وكان الحَبْر الأعظم قد أقر فسخ الزواج بمانع القرابة، فانفصلت أوراكا عن زوجها انفصالًا شرعيًّا، ثم أزال بسلطانه الروحي خلاف الأم وولدها على أن يملكا معًا، فتم الصلح بينهما في اجتماع عقد سنة ١١٢٤.
وحدثت عدة مواقع في جهات مختلفة من الولايات الإسبانية رافق النصرُ في أكثرها المرابطين؛ فافتتحوا عددًا من المدن والقلاع، وأتلفوا الحقول والمزارع؛ فأصيبت البلاد من جراء ذلك بقحط شديد، ونالها من العناء ما أضيف إلى ما تعانيه من حربها الداخلية التي انتفعت بها جيوش ابن تاشفين، ويقينًا لو أن المرابطين وأهل الأندلس على وفاق خالص لكانت الفرصة يومئذٍ أسنح ما يُرجى لاكتساح العدو والقضاء عليه، ولكن أمراء الأندلس كانوا ناقمين على الدولة الإفريقية لاستطالتها على ولاياتهم، واغتصابها السلطة من أيديهم، فلم يولوها المعونة الصادقة، بل ربما وجدت فيهم من يمالئ الأعداء؛ فإن أمير سرقسطة عبد الملك بن هود ساءه أن يصبح المرابطون سادة في عاصمته يعود الأمر إليهم، وهو ليس له أمر؛ فانتفض عليهم غير ناظر في نتيجة عمله.
فلما تمت المعاهدة بين الأميرين زحفت جيوشهما متحدة إلى المدينة فحاصرتها حصارًا شديدًا، وأكرهت المرابطين على الخروج منها فتركوها سنة ١١١٧م/٥١١ﻫ بعدما حاولوا استردادها تكرارًا دون جدوى، حتى تمزق جيشهم في المعركة الأخيرة التي اصطلى نارها الأمير تميم.
وهنا تختم مأساة سرقسطة؛ فإن ألفنس المحارب بعد أن بات بمأمن من خطر المرابطين عاوده الطمع في الاستيلاء على تلك القاعدة الحيوية لمملكته، فطلب إلى حليفه أن يتنازل له عنها، فكان جواب عبد الملك رفضًا أبيًّا، واستعدادًا للدفاع.
على أن الملك أرغون لم يكن يتوقع غير هذا الجواب، فجاءه وهو على تعبية لمهاجمة المدينة، فباغتها بجيشه قبل أن تأخذ أهبتها للقاء، فنصب عليها آلات الحصار، وواثبها بقسوة عاتية، فقابلته بمثل شدته، وصبرت للحصار صبرًا شريفًا يتفق المؤرخون على التنويه بذكره، مع أنها لا تأمُل نجدة تأتيها فتفرج الضيق عنها، وليس لديها من المَئُونة ما يكفيها لحصار طويل، حتى إذا نشب الجوع يهددها وآضت المقاومة إلى ضرب من الجنون فالانتحار، اضْطُر عبد الملك إلى طلب الصلح والتخلي عن عاصمته، وهو في يقظة من الألم المرير لغفلته الحمقاء.
فعاهده ألفنس أن يضمن لأهل المدينة الأمان على النفوس والأموال، وأن يترك لهم الحرية في إقامة شعائر الدين وشرائع التقاضي، وأن يخيرهم في البقاء أو المهاجرة.
ففَتحت سرقسطة أبوابها في ١٨ تشرين الثاني ١١١٨م/٤ رمضان ٥١٢ﻫ؛ فدخلها ملك أرغون بعساكره محفوفًا برسوم الأبهة والجلال، وفيما هو يحتل قصورها وثكناتها، ويحوِّل مسجدها الجامع إلى كاتدرائية، كان عبد الملك بن هود يشد أثقاله ويحمل أمواله ويخرج في مأتم من أهله وحرسه إلى حصن روطة ليتحذه مقرًّا، وهاجر بعده كثير من المسلمين، فمنهم من اقتفى أثره، ومنهم من قصد مرسية أو بلنسية.
وجعل ملك أرغون سرقسطة عاصمة لمملكته كما جعل ملك قشتالة طليطلة من قبل، فانهارت بها القاعدة الثانية من كُبريات قواعد الأندلس العربية بعدما لبثت أربعمائة سنة حصنًا ركينًا من حصون المسلمين، وقَذًى في عين إسبانية المسيحية، تعترض طريقها، جاثمة على نهر إبره.