معركة الأرك
كل أمراء الأندلس — كعبد الملك بن هود — ساخطون على المرابطين، يشتهون زوال دولتهم، لا يحترسون من صفقة حمقاء يعقدونها على غرار سرقسطة؛ توسلًا للخلاص من جفاة الصحراء، شاء القدر المشئوم أن يفزعوا إليهم في تفسخهم، وخناق الإسبان يلتف على أعناقهم.
فما نفَّس يوم الزلاقة عن صدورهم حتى تهاوت التيجان عن الرءوس، وتداعى عليها استقلال شعب ما انفك — منذ أربعة قرون — ينافح الأعداء حرصًا عليه، ويقرِّب لهيكله الحرام غوالي الدماء.
فإذا هم في أرضهم طعام مأكول، ودولتهم ولاية في دولة الملثمين، وإذا مراكش عاصمة لقرطبة أم العواصم، وحاضنة الخلفاء والملوك، تنهى وتأمر؛ فتُطاع ولا تُسأل، وتُعطَى ولا تُحاسَب، فإن المرابطين ما تعودوا في عسفهم، وعسف وطأتهم، مجاملة وسماحًا.
إنهم يسوقون أهل الأندلس سَوْق الغالب للمغلوب، ومخاشنة البدو الغلاظ للحضر المتنعمين؛ يطاردون الفكر فما تطمئن إليهم فلسفة أو منطق، ويبتعثون التعصب؛ فكل مذهب إلا مذهب مالك مضطهَد مكروه، بالحيف والإرهاب يأخذون الناس، وآذانَهم يفتحون للدسائس والوشايات.
دانت لهم الأندلس مستكينة للبطش والقوة، فامتلكوها قادرين، ولكنهم عجزوا عن امتلاك القلوب؛ برابر غرباء، لا روحهم روحها، ولا عقليتهم عقليتها، فيهم قسوة وصلابة واستبداد، فلبثت تململ حاقدة تحت قبضتهم العاتية، شأن كل أمة مهيضة، تعنو للمسيطر ما دامت له القوة، حتى إذا آنست فيه الضعف أفلتت غاضبة تطلب استقلالها المفقود.
ويقودها الحقد — مع ما بها من وهن العود — إلى التخلص من الغاصب على غير روية وهدى؛ فتحالف دولة مخوفة الجانب، تستنصرها وتستخلصها مُغترَّة بما تجد عندها من العطف ولين المواعيد، ويتغافل أصحاب الحكم فيها عن الخطر الجديد في الحلف الجديد، يتهافتون عليه عامهين، وهم لو راجعوا قرارة نفوسهم لرأوا أنهم لم يقعوا على أهون الشَّرَّيْن.
بل حب التشفي من المتسلط القديم، والأمل المعقود على الموهوم من فضيلة التغيير، يجعلهم يتعامَون عن الخطر الأعظم، لا يبصرون لديه إلا خيرًا وفرجًا؛ فتمتد إليه الأيدي داعية، مستجيرة من الرمضاء بالنار، لجوء أمراء الأندلس إلى ملوك إسبانية متناسين مطامع قشتالة وأرغون، وتاريخًا صارخًا مخطوطًا بالدماء، أو كما لجَئُوا إلى الموحدين يستقدمونهم.
وإنما هم يستبدلون دولة إفريقية ظافرة، بدولة إفريقية مغلوبة، وينتقلون من استعباد إلى استعباد، لا يخطر لهم على بال أن يبحثوا في ذواتهم عن الداء والدواء بحثًا صادقًا مجديًا؛ ليدركوا أن ما بهم من هزال ناشئ عن شقاقهم وتخاذلهم؛ نتيجة مرض السيادة فيهم، وعدوان قَويِّهم على حرية الضعيف؛ فأصبح بعضهم يناصب الآخر أو يخذله إذا واثبه عدو غريب، وربما حالف هذا العدو عليه، لا يبالي ما يجر على بلاده وقومه من الهوان والدمار، فبين أمراء الأندلس تبادُل لا ينقطع من الطمع والحذر وإضمار الشحناء، مع ما هم عليه من الاستهداف الطبيعي لغزوات جيرانهم في الشمال والجنوب.
ومعلوم أن الممالك الإسبانية لا تقل عن الممالك الأندلسية تباغضًا وخلافًا، غير أنهم كانوا يدفنون أحقادهم إلى حين عند تكالب الأخطار؛ فيتهادنون، أو يتحالفون ليصرفوا قواهم إلى مجاهدة أعداء الدين، وإن كان بعضهم لا يستنكف أحيانًا أن يحارب أبناء ملته في صفوف المسلمين.
ويجدون عدا ذلك — في الدول المسيحية المجاورة — أعوانًا يَخفُّون إلى نصرتهم رغبة في الجهاد، أو شهوة للغنائم، لا طمعًا في الاستيلاء على بلادهم وإزالة كلمتهم، كما يطمع سلطان مراكش في التغلب على الأندلس، فيستبد بشئونها المرابطون، ثم يستبد بشئونها الموحدون.
وقد صبر الأندلسيون على حكم أبناء تاشفين زهاء قرن، يقدمون لهم الطاعة كرهًا، ولا يحجمون — إذا أمكن — عن خذلهم في محاربة المسيحيين، حتى سقطت سرقسطة في يدي ألفنس المحارب ١١١٨م.
فهذه الهزائم المتتابعة نالت من هيبة المرابطين، وأطمعت فيهم أهل الأندلس؛ فاستهانوا الوثوب عليهم لإجلائهم واستعادة الحق المغصوب، وكانت قرطبة في رأس القواعد الأندلسية سخطًا وحنقًا، يؤذي كرامتها جنف الصحراويين وغلاظتهم، ولم يأنِ لها أن تنسى عزتها الملوكية والعرش الأثيل، فهبَّت ثائرة تضرب في وجه الحامية المرابطية، وتريها المنايا ألوانًا، حتى حملت عليَّ بن تاشفين على أن يعبر الزقاق بجيش لهام، فيخمد ثورتها بعد عناء.
ولكن، ما حيلة المرابطين وقد تأذَّن القدر بانهيار سلطانهم، فتركهم غرضًا لسهامه! فبينا هم يغالبون أحرار الأندلس حينًا، وغزاة الإسبان أحيانًا، أخذت ثورة الموحدين تحتدم في المغرب، فتستأثر بقواتهم، وتشغلهم عن ضبط ولايتهم عبر المضيق ودرء الأعداء عنها.
فإن الدعوة التي أظهرها مهدي بني مصمودة محمد بن تُومَرت كانت بليغة التأثير، سريعة الانتشار؛ فتبعه خلق كثير، فجند منهم عشرة آلاف، وقدَّم عليهم أبا محمد البشير أحد صحابته العشرة، وبعثهم لمجاهدة المرابطين، فراحوا يغزون في بلاد المغرب، وينكلون بالجيوش المرابطية ١١٢٢م حتى أوقعوا الذعر في القلوب.
وما زال الخطر يعصف من بلد إلى بلد حتى شارف مراكش العاصمة؛ فدافع عنها الملثمون مستبسلين مستميتين، فتمكَّنوا من إنقاذها، وارتدَّ عنها الموحدون خاسرين، بعد أن قُتل قائدهم أبو محمد البشير ١١٢٥م.
واستطاع أن يجتاب الأندلس من الشمال إلى الجنوب عائثًا مخربًا ينسف الزرع والعمران، ويزداد جيشه تضخمًا كلما تقدم بما ينضم إليه من المعاهدين حتى بلغ البحر المتوسط، ثم عاد برجاله سالمًا غانمًا منتصرًا، أفلا يكفي هذا وحده أن يؤكد للأندلسيين ضعف القوى المرابطية؛ فيستهينوا بها، ويذهب ما عندهم لها من الحرمة، وهم إلى ذلك يعلمون أن ثورة المغرب في إبان اشتعالها، والملثمون — كما يبدو — عاجزون عن إطفاء نارها؟
فإن هزيمة الموحدين في مراكش لم تُوهن عزيمة المهدي ولا صَرفتْه عن دعوته الجريئة؛ فعهد في قيادة عساكره إلى عبد المؤمن بن عليٍّ موضع ثقته العظمى، وأَحَبِّ صحابته إليه، فتمكَّن هذا من الإيقاع بجيش عظيم من المرابطين يقوده الأمير أبو بكر بن عليٍّ ١١٣٠م، وعَقَبَ هذا الانتصارَ موتُ المهدي، فبويع عبد المؤمن بالخلافة بعده، فتم على يده فتح مراكش وانهار عرش أبناء تاشفين ١١٤٦م.
ومن الطبيعي أن تساهم الأندلس في إرهاق المرابطين — خلال هذه السنوات — مساهمة فعالة، على أمل أن تخلع نِير المغتصب، ويعود إليها استقلالها القديم، فإذا هي تخدم مصلحة الموحدين من حيث أرادت أن تخدم مصلحتها؛ فقد شبَّت الثورة في البقاع الغربية، يُؤرِّثها أحمد بن الحسين بن قسيٍّ؛ فاندلعت سريعة ممتدة إلى إشبيلية وقرطبة، تتلقف المرابطين من كل صوب، ويعجز عن كبحها قائدهم يحيى بن غانية.
بَيْدَ أنها تحتاج إلى نجدة تأتيها من الخارج فتضمن نجاحها، والموحدون في عدوة المغرب يُثخِنون في المرابطين، فلماذا لا يدعوهم أحمد بن الحسين ويقدم لهم الطاعة، حتى إذا أبطَئُوا عن تلبيته بشاغل حروبهم لا زهدًا في الأندلس، تتلفت أنظاره إلى ألفنس بن هنري البورغوني ملك البرتغال، فيمده بتجريدة باسلة، تنفذ في الولايات المرابطية مفسدة ثقيلة الوطأة.
أفما يجدر به أن يخف إلى نجدة ابن قسيٍّ، فيسحق قوات الملثمين ويُقصِي خطر المسيحيين عن الأندلس المسلمة؛ فهو بها أولى، وإليه قبل غيره فزعتها ونداؤها، وهذه مراكش توشك أن تفتح له الأبواب؟
فجهز حملة من عشرة آلاف فارس وعشرين ألف راجل، وقدَّم عليها قائده موسى بن سعيد، ثم أجازها الزقاق؛ فافتتحت حصن الجزيرة، وجبل طارق، هازمة عنهما قوات المرابطين، ووافق ذلك سقوط مراكش وزوال دولة ابن تاشفين في إفريقية؛ فبات من السهل على الموحدين — وثوار الأندلس حلفائهم — أن يستأصلوا بقايا أعدائهم، أو يقسروهم على الجلاء.
لم يستطع الخليفة الموحدي أن يدخل الأرض الأندلسية إلا سنة ١١٦١م، بعد أن دوَّخ بلاد إفريقية وافتتح المهدية وتونس، وكانتا في حكم النرمند أصحاب صقلية، فعبر المضيق ونزل بجبل طارق، فأنشأ فيه حصنًا سمَّاه جبل الفتح.
وكانت البرتغال يومئذٍ أشد الممالك المسيحية صولة على الأراضي الإسلامية؛ فإن مليكها ألفنس البورغوني، بعد أن حقق استقلال دولته، نازعًا عنها يد قشتالة، صرف همته إلى توسيع حدودها بامتلاك ما جاورها من الثغور الأندلسية، فلُقِّب بالفاتح لكثرة ما أخضع من المدن والقلاع، فكان على الموحدين أن يجابهوا هذا الخطر قبل استشرائه.
فوقع الاضطراب في صفوف الموحدين، وقلقت نفوسهم بغفلة أبي إسحق؛ إذ أصبحوا بين القلعة والجيش الزاحف عرضة للتطويق، وأدركهم المسيحيون وهم على هذه الحال المزعجة، فقاتلوا قتال اليائس، الواهن العزيمة، فدارت عليهم الدائرة، وقتلت نخبة فرسانهم، وصبر الخليفة أبو يعقوب لعض السلاح صبر الكرام حتى سقط مدرجًا بدمائه، ثم تُوُفِّيَ متأثرًا من جراحه ١١٨٤م، وكان يوم شنترين مشئوم الطالع على الموحدين؛ فارتدَّت فلولهم الناجية إلى قواعدها الأندلسية بأسوأ مصير.
وصارت الخلافة بعد أبي يعقوب إلى ولده الأمير عبد الله يعقوب، فتلقب بالمنصور، وكان همُّه في بدء سلطانه أن يُجهِز على بقايا المرابطين في الجزائر الشرقية ليمنع عدوانهم، أو يخمد فتنة داخلية يختل بها السلام، فأتاح للبرتغال أن تغنم فرصة مؤاتية، فتستأنف الغارات على الأندلس وتعود منها بفتح جديد، ثم تُوُفِّيَ ملكها ألفنس ١١٨٥م فتسلَّم العرش بعده ابنه شانجه، فسار على خطة أبيه في مُنازلة المسلمين.
ثم شغلته أحداث داخلية؛ فترك الجهاد لألفنس الثامن ملك قشتالة، وكان هذا الأمير لا يفتر عن غزو الولايات الأندلسية، مع ما يعاني من مشاكلَ عسيرةٍ تولدت بعد وفاة أبيه شانجه الثالث؛ وذلك أن جده ألفنس السابع اتبع نظام ولاية العهد — الطريقة السيئة التي سَنَّها أسلافه — فقسم مملكته بين ولديه، فجعل أكبرهما شانجه الثالث على عرش قشتالة، وأعطاه حق الجزية على مملكتَي نافار وأرغون، وجعل أصغرهما فردينان الثاني على عرش لاون وما يليها، وأعطاه حق السيادة على البرتغال، وكأنه أراد أن يتدارك خطر هذه التجزئة فاشترط على فردينان أن يكون تابعًا لأخيه.
وفي سنة ١١٥٨م تُوُفِّيَ شانجه الثالث ملك قشتالة عن ولدٍ في الثالثة من عمره اسمه ألفنس — ويلقب بالنبيل — بعد أن عهد في الوصاية عليه إلى بعض أشراف كاسترو من أكرم الأسر الإسبانية، ولم يجعل الوصاية لزوجه بلانكه أخت ملك النافار؛ ولا لأخيه فردينان؛ خوفًا على الطفل من مطامع عمِّه وخاله، وكانت أسرة لارا تنافس أبناء كاسترو في الشرف والسيادة، فساءها أن يصبح الملك في حوزة نديدتها، تعتز به ويتعاظم نفوذها وسلطانها، فحملها الحسد على أن تختطف الأمير الصغير وتجعله في عهدتها، فأدَّى عملها هذا إلى حدوث مجزرة بين الأسرتين دميت لها إسبانية وتفككت أوصالها.
ثم استجاش آل كاسترو فردينان الثاني ليحمي ابن أخيه، فساقه الطمع إلى أن يبعث جيشًا يُثخِن في قشتالة ويحتل حصونها ومدنها، ولكنه لم يستطع أن ينتزع الطفل من أيدي بني لارا، وثارت قشتالة بجملتها تؤيد هذه الأسرة لوجود الملك عندها، فقاومت صاحب لاون وأبناء كاسترو معًا، وردَّت غزوات ملك النافار وأمراء المسلمين.
ولما بلغ ألفنس النبيل الحادية عشرة ١١٦٦م بويع بالملك، يشد أزره القشتاليون وأبناء لارا؛ فردَّ غارات عمه، وطرد أسرة كاسترو، فأخذت تلجأ حينًا إلى الموحدين، وحينًا إلى لاون حتى تُوُفِّيَ فردينان الثاني ١١٨٨م، وصار المُلك إلى ولده ألفنس التاسع، ولم يكن كفؤًا لابن عمِّه صاحب قشتالة؛ فكف عن النزاع.
وكان ألفنس الثاني ملك أرغون — وهو سبط راميرو أخي ألفنس المحارب — قد رأى أن يحالف قشتالة ويعترف بحقوقها لكي ينصرف إلى محاربة المسلمين، ودفع النافاريين عن الأراضي التي يفتتحها من الأندلس لئلا يستولوا عليها، أما ألفنس التاسع ملك لاون، وشانجه السابع ملك النافار، فكانا يُؤْثِران محالفة المسلمين على محالفة ألفنس الثامن النبيل؛ لأنهما لا يريدان الاعتراف له بالسلطان، غير أن الخطر الذي بات يهددهم من قِبَل الموحدين أكرَهَهم على السكوت؛ فكانوا يتهادنون أو يتحالفون إلى حين.
وشاء ألفنس الثامن أن يحمل على عاتقه عبء هذا الخطر المخيف، مع ما كان يعانيه من مكايد آل كاسترو والأمراء المسيحيين؛ فراح يغزو الأندلس، يعيث في بسائطها، وينيخ على قواعدها، حتى أخذته نشوة الظفر وهو يسير من نصر إلى نصر؛ فحدَّثته نفسه بأن يتحدى خليفة الموحدين، فيدعوه إلى الحرب مستهينًا به، مثيرًا حفيظته.
بسم الله الرحمن الرحيم، من ملك النصرانية إلى أمير الحنيفية، أما بعد؛ فإن كنتَ عجزتَ عن الحركة إلينا، وتثاقلتَ عن الوصول والوفود علينا، فوجِّه لي المراكب والشواني أجوز فيها بجيوشي إليك حتى أقاتلك في أعز البلاد عليك، فإن هزمتَني فهدية جاءتك إلى يدك، فتكون ملك الدينَيْن، وإن كان الظهور لي، كنت ملك المِلَّتَيْن، والسلام.
وما كان من المنصور بعد أن تلقى كتاب ألفنس ورد عليه إلا أن نشط للحرب يُعِد أهبته، ويعبئ الجيوش ويبعثها إلى الأندلس.
حتى إذا تم له الحشد العظيم عبر إلى الجزيرة الخضراء، فانضمت إلى جنوده العساكر الأندلسية، فتألَّف منها جميعًا جحفل جرار يضيق عنه الفضاء — كما يعبر ابن الأثير — وتقدره بعض الروايات المغالية بستمائة ألف مقاتل، وكان الجيش النظامي فيه مؤلفًا من قوات الموحدين الخاصة، ومن الفيالق الأندلسية، وسائره جموع غفيرة غير نظامية من قبائل العرب والبربر الراغبين في الحرب والجهاد.
ومما يجدر ذكره أن جيش الموحدين النظامي كان من أرقى الجيوش في ذاك العصر، ويعود الفضل في إنشائه وتنظيمه إلى الأمير عبد المؤمن خليفة المهدي؛ فإنه كان ذا خبرة عظيمة في تدريب الجيوش وقيادتها وإدارة حركاتها؛ فقد ابتنى في مراكش مدرسة عسكرية يجتمع بها نحو ثلاثة آلاف طالب من الأشراف يُسمَّون الحُفَّاظ وطلبة العلم، وكان يمتحنهم بنفسه ليقف على تقدمهم في فنون القتال؛ فيشهد رياضتهم على أبواب الطعن والضرب والرمي والمبارزة، والعَدْوِ وركوب الخيل، والسباحة وقيادة السفن والوثب إلى سفن الأعداء ومعارك البحار.
فهذه العناية بتنطيم الجند ضمنت للموحدين جيشًا مدربًا أجمل تدريب، يطمئنون إليه في محاربة أعدائهم، ويجني لهم الظفر في أغلب المواقع.
استحسن المنصور هذه الآراء وأمر القادة بالتزامها، ثم أناط الرئاسة العليا بوزيره أبي يحيى بن أبي حفص، وكان على شجاعته صاحب خبرة ودراية.
وأما جيش قشتالة، فلم يكن ضئيل الحشد، فهو على رواية المستشرق جوزف أشباخ، يزيد على مائة ألف مقاتل، وتبالغ الرواية العربية فيه فترفعه إلى ثلاثمائة ألف، ومع ذلك كان لا يوازي جيش الموحدين في عدده؛ فإن تعبيتهم يفوتها الحصر والإحصاء.
وحشدا العساكر وسارا بها إليه، إلا أنهما كانا يزحفان بطيئًا ليصلا بعد فوات الأوان، حتى يئس ألفنس من مجيئهما، ولم يبقَ له سبيل غير مباشرة القتال، وأبى أن يتحصن بالقلاع التي بين يديه، فتمنعه ما طاب للمسلمين الحصار، وكأنه عدَّ ذلك عارًا ومذمة، فاختار الهجوم مستبسلًا متكلًا على حمية فرسانه، فابتدأت موقعة الأرك في ١٩ تموز ١١٩٥م/٩ شعبان ٥٩١ﻫ.
وكان الموحدون يحمون القلب بقواتهم النظامية، والأندلسيون في الميمنة يقودهم عبد الله بن صناديد، وقبائل العرب والبربر في الميسرة، والخليفة المنصور بحرسه وراء التلال، وعسكر الجيش الإسباني في مرتفع تحميه قلعة الأرك من جانب، وبعض التلال من جانب آخر.
فزحفت إليه مقدمة المسلمين من المتطوعة تمهد للمعركة بسهامها، فما تدانوا من التل الذي عليه ألفنس حتى تجارى إليهم نحو ثمانية آلاف من كل فارس غارق في الحديد، فالتقتهم المطَّوعة يساندها القلب والجناح الأيسر؛ فتعالى الصياح، واستكَّت آذان الفضاء من وقع سنابك الخيل، وتجاوُب أصوات الأبواق والطبول، ثم استطال المسلمون فكسروا من حدة القشتاليين وردُّوهم على أعقابهم.
غير أنهم ما عتموا أن جمعوا شملهم، وجددوا الحملة عليهم، فردوهم ثانية، ولكنهم كانوا عُنُدًا صلابًا، فلم تهن عزائمهم بعد الردتين بل ضاعفوا قواهم، واندفعوا ثالثة كالعاصف الجارف وقد أحنقتهم الخيبة، وزادتهم حماسة وإقدامًا، فاخترقوا صفوف العدو وتوغلوا في الجناح الأيسر فمزقوه، وشتتوا جمعه فهلك ألوف من قبائل العرب والبربر، غير الجنود النظامية، ولم تتم خطة عبد الله بن صناديد إذ أشار بأن يتركوا الميسرة للاحتياط والإمداد.
ثم عطف القشتاليون على القلب وهو مرتعش مذعور لانكسار حائطه الشمالي، فصدعوا جانبه ناشبين في أحشاء الموحدين، يقلبون بعضها على بعض، ويشطرونها أجزاءً، فتساقطت جثث القتلى أكداسًا، وغصت حناجر الأرض من ابتلاع الدماء، ولشد ما عظمت فجيعة الموحدين بالقائد الأعلى أبي يحيى بن أبي حفص، تلقفته سيوف الإسبان بعد أن بلوا من سيفه أَمَرَّ البلاء، وعندئذٍ علا التكبير من الجناح الأيمن، وحملت العساكر الأندلسية وبعض بطون زناتة يتقدمهم القائد المجرب عبد الله بن صناديد؛ فاقتحموا قلب الجيش القشتالي، وحجزوا بينه وبين فرسانه الطاعنين في قلب الموحدين.
وكان الملك ألفنس يتولى قيادته بنفسه، ومعه عشرة آلاف فارس، فيهم الداوية وفرسان قلعة رباح، فتلقاهم ثابت الجنان يصابرهم على قلة عدد، ويدفع تيارات أمواجهم المتهايجة، وفيما الأندلسيون يواثبون سفح التل، وألفنس يدافعهم عنه، ووراءهم فرسان قشتالة يزعزعون قلب الموحدين بعدما شردوا الميسرة.
وفيما النصر يراوح بين الجانبين لا يدري له مُسْتَقَرًّا، إذا بالطبول تقرع من وراء الآكام، والخليفة المنصور يطلع بحرسه المختار، أمامه العلم الأبيض منقوشًا عليه: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا غالب إلا الله»، فينقض على فوارس قشتالة وهم يمعنون في القلب إرهاقًا، فيلأم صدعه الدامي، ويردهم عنه مندحرين، فعاود الأمل جنود الموحدين، واشتدت سواعدهم بعد ارتخاء، فساوروا أعداءهم كالليوث مستبشرين بالنصر، لا يبالون ما يكلفهم من الضحايا هجومهم المجنون، فما زالوا بهم حتى حطموا شوكتهم، فانهزموا شماطيط إلى سفح التل يلوذون بألفنس.
وأبى خليفة الموحدين أن يتصرَّم النهار قبل أن يحرز النصر كاملًا؛ فمشى بالعدد الأوفر إلى التل يخترق قلبه، ويساند قوات الأندلسيين، فدافعت فرسان الداوية وقلعة رباح عن مليكها أمجد دفاع، فكانوا يتساقطون من حوله صرعى، لا يُحدِّثون النفس بالفرار، حتى لم يبقَ منهم إلا فضلة يسيرة لا تستطيع زيادًا، فخشيت أن يفتك الأعداء بسيدها وهو مُصرٌّ على الثبات لا يطيق براحًا، فأكرهته على الانكفاء، فأنقذت حياته وكان بوده لو يبذلها سماحًا.
ثم اقتحم المسلمون حصن الأرك، فاستنزلوا أصحابه واستولوا عليه، وهاجموا قلعة رباح فامتلكوها، وكان فرسانها قد تخلوا عنها، وانتهت المعركة بانكسار ساحق للإسبانيين.
يقول ابن خلدون: إن المسيحيين خسروا في هذه الواقعة ثلاثين ألف قتيل. أما ابن الأثير فيجعل القتلى ستة وأربعين ألفًا ومائة ألفًا، والأسرى ثلاثة عشر ألفًا، ويقدر قتلى المسلمين بنحو عشرين ألفًا، وكانت الغنائم عظيمة جدًّا.
قال ابن خلكان: «وغنم المسلمون أموالهم حتى قيل: إن الذي حصل لبيت المال من دروعهم ألف درع، وأما الدواب على اختلاف أنواعها، فلم يُحصر لها عدد، ولم يُسمع في بلاد الأندلس بكسرة مثلها.»
فمعركة الأرك — لا جرم — ثلَّت عز قشتالة، وهتكت حرمة سلطانها، وما كان الأمراء المسيحيون يتوقعون لها هذه الكارثة الشنعاء، وقد بلوا صولتها وجبروتها؛ فوقعت هيبة الموحدين في نفوسهم، وداخلهم الخوف على إماراتهم؛ فأسرعت مملكتا لاون والنافار إلى محالفة الخليفة المنصور، وهما في خذلهما لألفنس الثامن، وتأخرهما عن نجدته، أوصلتاه إلى هذه النتيجة الفاجعة، يضاف إلى ذلك ما لقي المسلمون من مساعدة الكونت بدرو أحد أبناء كاسترو؛ فقد كان هذا الأمير فارًّا عن وطنه مع أعوانه، ناقمًا على قشتالة التي رفعت أسرة لارا بإذلال أسرته، فلم يتأثَّم أن يبيع أمته ويقدم سيفه للموحدين.
ثم إن الملك ألفنس رأى أن يحذو حذو لاون والنافار فيسترضي المنصور ويلتمس منه الهدنة بعدما أبصر جيوش المسلمين تتابع الغزوات في ولاياته، تتلف الزرع، وتقطع الشجر، وتبلغ أبواب طليطلة، وهو لا يجرؤ أن يخرج إلى لقائها، بل يرى الخير — من خوفه — في الامتناع بقلاعه وحصونه، وقد رضي المنصور بمهادنته؛ لأنه كان مضطرًّا إلى مغادرة الجزيرة ليخمد ثورة لا يبرح يشعلها في إفريقيا والمغرب بقايا المرابطين، فعاد إلى مراكش يُصلح من شئونها، وأمنت رياض الأندلس شر إسبانيا زمنًا، ولكنها ما نالت من نعم الاستقلال الذي حاربت عليه الإمارات المرابطية والمسيحية إلا شارة الخضوع لسيطرة الموحدين.