معركة العقاب
بين معركة الأرك ومعركة العقاب سبع عشرة من السنين ساقطت ورقات يومياتها عن أحداث وشئون كانت بطبيعتها معلولًا للأولى، وعلة للأخرى.
فإن انتصار أمير الموحدين على قشتالة، وما تلاه من خضوع ألفنس الثامن لسيفه، والْتِماسه الهدنة منه، وإسراع ملكَي لاون والنافار إلى محالفته وخطب وُدِّه —مكَّن سلطانه في الأندلس، وحرمته في النفوس، وأتاح له أن يتفرَّغ إلى إصلاح فتوق مملكته، وتأديب العصاة والثائرين دون أن يصرف النظر عن أمراء إسبانية، وما في صدورهم من ضغائنَ يحفظها بعضهم لبعض.
فقد كان المنصور — على علو همته — وافر الذكاء، بعيد النظر، لا يسقط عنه أن يستغل خلافهم لمنفعته وخير أمته، وهو يعلم أنه ما دام الشر مُعْصَوْصِبًا بينهم، لا يرتفع لهم صوت جهير، ولا يفيِّئ عليهم ظل ممدود في بقاع يعمرها الإسلام، أفما يجدر به أن يحرك فيهم — من وراء حجاب — لاعج العدوان، فتنام الأندلس على أمن وسكينة، وتشرق إسبانية المسيحية بدمها إلى يوم يوهنها النزف، فترتمي متلاشية على أقدام المسلمين؟
فلاون والنافار متعطشتان للانتقام من قشتالة وإذلالها لما تفرض عليهما من السيطرة، فطبيعي أن تستهينا جانبها جزاء كسرتها، فتستنزلاها إلى محاربتهما بعد أن تخللتا تخومها عاديتين بتحريض الموحدين، ووعدهم بالمساعدة.
وذهب المنصور إلى أبعد في توسيع الخرق بين الأمراء المسيحيين، فحاول أن يجعل حليفه ملك النافار تابعًا له، على أن يزوِّجه إحدى بناته.
وتقول الرواية الإسبانية: إن شانجه السابع اغترَّ بهذه المواعيد؛ فقصد إلى مراكش بغية تحقيقها، تواكبه كتيبة من الفرسان. بَيْدَ أن الرواية العربية لا تذكر شيئًا من خبر الزواج، بل تقول: إن ملك النافار جاء إشبيلية سنة ٦٠٧ﻫ/١٢١٠م ليزور الخليفة الناصر بن المنصور، ومهما يكن من أمر الزيارة وزمنها ومكانها، فإن المصاهرة لم تربط أواصرها بين الأميرين، فرجع شانجه إلى مملكته فارغ الفؤاد، وقد علم أن الزواج من أميرة موحدية يدعوه إلى الإسلام، وبإسلامه لا يطمئن له عرش النافار.
على أن هذه الجهود التي بذلها المنصور لتمكين سلطانه، وإضعاف ملوك إسبانية، لم تلبث أن تراخت عزائمها بموته سنة ١١٩٩م/٥٩٥ﻫ وقيام ولده محمد أبي عبد الله الناصر، فإن هذا الأمير مع شجاعته، لم تكن له مواهب أبيه، وصلابة عوده، فأسلم إرادته إلى حاجبه أبي سعيد بن جامع؛ فورطه في مزالقَ لا تُنبئ عن أمانة الوزير وإخلاصه.
كان البابا إينوسان الثالث قد استطاع، في تلك الأثناء — بسلطانه الديني — أن يُصلح بين الأمراء الإسبانيين إلى حين، ويؤلف قلوبهم على محاربة المسلمين.
ذلك بأنها أتاحت لألفنس الثامن أن يستصرخ دول إسبانية خصوصًا، وأوروبة عمومًا لتجهيز حملة صليبية غربية تذكِّر المسلمين بحملات الصليبيين في الشرق؛ فقد أزعجه ما انتهى إليه من أنباء قوات الموحدين وزحفها الجرار، ولاح له الخطر المخوف ينقض على قشتالة، بل على الإمارات الإسبانية مجموعة، وهيهات لا يُرجى دفعه عنها، إلا إذا تظاهرت عليه وتناست أحقادها، وخير لها أن تستنجد أبناء ملتها في الغرب.
فتكلَّلت هذه المساعي بالنجاح المأمول، ولبَّت أوروبة دعوة الكرسي الرسولي ونداء الأساقفة المتحمس، واقتنع ملوك إسبانية بضرورة الاتحاد، فما طال الأمد حتى بدأت الوفود تتلاحق إلى طليطلة من مختلف الأمصار الأوروبية ولا سيما فرنسا، حاملين شارة الصليب دليل الذياد عن الدين، يتقدمهم كبار الأحبار يستحثونهم، ويوقدون الحمية في الصدور.
يقول جوزف أشباخ: إن جيش الوافدين بلغ في أوائل حزيران ١٢١٢م أكثر من عشرة آلاف فارس، ومائة ألف راجل، فيه من القوامس ما يقدر بألفين، أضف إليه ما أرسلت فرنسا وإيطاليا من المال والمؤن والسلاح.
وأما الجيوش الإسبانية، فأول من قدم منها جيش أرغون يقوده عاهله بدرو الثاني، وفيه طبقة مختارة من الكماة كجماعة الداوية (فرسان الهيكل)، وتتابعت بعده الفيالق من لاون وجيليقية والبرتغال، حتى فاضت طليطلة وأرباضها بالعساكر المنتشرة، والخيام المنتصبة، والخيل والعتاد، ثم زحفت هذه القوى العظيمة طالبة قلعة رباح، وفرسان هذه القلعة يلتهبون حماسة لاسترجاعها.
وكان فيها حامية من الموحدين على رأسها القائد يوسف بن قادس، فهاجمتها الجيوش المسيحية دفعة واحدة، فاستولت على المدينة دون القلعة؛ فخشي ابن قادس مغبة الحصار إذا افتتحت القلعة عنوة، وهي لا محالة ساقطة في أيدي العدو؛ فمن العبث أن تحاول قلتها مقاومة الكثرة، فآثر أن ينقذ حاميتها من الهلاك بالاستسلام؛ إذ لا ينفع الدفاع فتيلًا؛ فبعث إلى ملك قشتالة رسولًا يفاوضه من قِبَله، مشترطًا أن تخرج الحامية بسلاحها مأمونة.
فرفض الأرغونيون ووفود المحاربين هذا الشرط، وطلبوا متابعة الحصار؛ فاضطُرَّ ابن قادس أن يرضى بتجريد الحامية، فغادرت القلعة بعد أن أخذت الأمان على نفوسها، وتولى الفرسان الإسبانيون حراستها مخافة أن يفتك بها جند الوافدين؛ لأنهم كانوا يريدون قتالها، وقد أغضبهم تأمينها، فسار بها ابن قادس إلى الخليفة الناصر، فأطلعه على ما قام به من التدابير لحقن دماء المسلمين حيث لا يفيد بذلها.
ولكن ابن جامع أبى إلا أن ينزل القصاص بالقائد الحكيم، فأغرى الناصر به متهمًا إياه بالتقصير والخيانة؛ فقتل المسكين وطابت نفس الحاجب الماكر، فاستاء الناس لهذا الحادث ولا سيما الأندلسيون، وكانوا يكرهون ابن جامع لتكرار مكايده، فأبدوا نفورهم من عمل الناصر، وهم إنما جاءوا للحرب متثاقلين، ساخطين على الموحدين كما سخطوا من قبل على المرابطين.
كيف لا وما زالوا يشعرون بضياع حقوقهم شعورهم بالأمس، أفتراهم يُحسنون القتال، ويَثبتون للضرب والطعان، وفي الصدور حرازات وشهوات لا يسكِّنها إلا انخذال الموحدين، لعل الاستقلال إليهم يعود؟ ومثل هذه الحالة النفسية، في جيش يتأهب للكفاح، ينذر — ولا بد — بخطب جليل.
وكذلك العساكر المسيحية لم تسلم من التصدع على أثر استنزال الحامية من قلعة رباح مأمونة؛ فإن وفود الفرنجة ما لبثوا أن جاهروا بامتعاضهم من الإسبانيين، فقفلوا راجعين إلى أوطانهم متَّهِمين ملك قشتالة بأنه استأثر بنفائس القلعة وأموالها، وقيل: إن عدد الذين رجعوا يبلغ خمسين ألفًا من مائة ألف، إلا أن انفصالهم عن الجيش — قبل المعركة — كان أخف ضررًا مما لو انفصلوا في أثنائها، وأوقعوا خللًا فجائيًّا يصعب تلافيه في ترتيب الصفوف وتنظيم أجزائها.
فقد استطاع الإسبانيون بعد رجوع هؤلاء المحاربين أن يجمعوا أنفسهم، ويدلفوا بقدم ثابتة على حصن الأرك — ولهم فيه أوجع الذكريات — فيفتتحوه بيسر مستبشرين، وفيما هم يتقدمون على لقاء الناصر، وافاهم شانجه ملك النافار بجيشه، فرأب الخلل الذي أحدثه إياب الفرنجة المتطوعين.
روى المستشرق جوزف أشباخ أن الناصر بقي يتحامى اصطلاء المعركة على ضخامة جيشه؛ خوفًا من المحاربين الصليبيين؛ لأن شجاعة فرسان الفرنجة طارت شهرتها من الشرق إلى الغرب، فلما بلغه أنهم انفصلوا عن الإسبانيين ورجعوا إلى بلادهم، زالت وساوسه ووطَّن النية على طلب القتال، والسير إلى العدو.
فلما خلا منهم جبل الشارات، ظن الموحدون أنهم أحمدوا الفرار وضجروا من البقاء، ولكن ما عتموا أن أبصروا معسكرهم في السهل المقابل، فعلموا أنهم خدعوا، ولم يفطنوا لانتقال العدو، فتركوه يحتل مكانًا أفضل من مكانهم، يشرف عليهم من الرُّبى العالية، بَيْدَ أن الناصر كان معتدًّا بعظمة جيشه، فلم يبالِ هذا التبدل في الموقف، واعتقد أن النصارى لا يصبرون طويلًا على حربه، وسيحتاجون إلى المؤن والذخائر في انقطاعهم عن قشتالة.
فبأيدي عساكره الحصون الجبلية جميعًا، ومنها القلعة التي احتلها الإسبانيون في البدء على جبل الشارات، فما تلكَّأ أن باشر الدعوة للقتال؛ فأبَوْها في اليوم الأول لما هم عليه من التعب ثم أبَوْها في اليوم التالي؛ لأنه يوم أحد، فكرهوا أن يحاربوا فيه، فلما كان صباح الإثنين في ١٦ تموز ١٢١٢م/١٥ صفر ٦٠٩ﻫ، أقام الأساقفة الصلاة ومنحوا الجنود البركة الرسولية، والغفران الكامل.
وأما الجناح الأيمن، فكان على رأسه شانجه السابع — ملك النافار — وفيه جنوده وفرسانه، والكماة الفرنسيون الذين آثروا البقاء، وفيه جنود جليقية والبرتغال يتقدمهم الأمير بدرو البرتغالي.
وينقسم الجناح الأيسر على أربع فرق تضم العساكر الأرغونية وبعض رجَّالة قشتالة، يتقدمه بدرو الثاني ملك أرغون.
واصطفَّت عساكر المسلمين في سهل العقاب مقابل أبدة، مقسومة على خمس فرق يتألف منها الخميس العرمرم، ففي المقدمة فرقة المطَّوعة، وتجعلها الرواية العربية ستين ألفًا ومائة ألف، وفي الميمنة الجنود الأندلسية، وفي الميسرة البرابرة، وفي القلب جيش الموحدين، وفي المؤخرة الفرقة الاحتياطية من المغاربة والجيش النظامي، وبين القلب والمؤخرة نُصبت للخليفة القبة التقليدية الحمراء التي ورثها المسلمون عن عرب الجاهلية، وأمامها جواده مسرجًا، يحيط بها حرسه الخاص من الفرسان والمشاة، بأيديهم الرماح الممدودة، ودون الوصول إليهم دائرة ُ شدت من سلاسل الحديد.
وما انتهى تنظيم الجيوش حتى تجاوبت أصوات الطبول والأبواق من الجانبين، فارتجَّت لها الرُّبى والسهول، وإذا الخليفة الناصر يخرج من قبته وعليه عباءة سوداء، فرفع المصحف بِيَدٍ والسيف بالأخرى، إشارة الهجوم؛ فحملت المطَّوعة خفيفة عنيفة تلطم القلب، فالتقاها الجبليون وجماعات الفرسان بحملة معاكسة ألانت من حدتها.
ثم لم يلبثوا أن استطالوا عليها وأكثروا من الفتك بها فاضطروها إلى الفرار؛ فانهزمت أمامهم وهم يطاردونها بالحراب في أقفائها، فلما اقتربوا من القلب يبغونه، صدمتهم قوى الموحدين النظامية، فرأوا أمامهم جنودًا باسلة، مجربة في الحروب، مدربة أحسن تدريب، وما طال الأمر حتى تمزقت جموعهم؛ فتشتتوا عنها منهزمين.
فرجحت كفة المسلمين ولاح لهم وامض النصر، فهلَّلوا مستبشرين، ولم يكن ملك قشتالة يتوقع هذا الفشل من القلب وفيه صُيَّانة الفروسية الإسبانية؛ فطار رشده، واشتهت نفسه الموت، فمشى إلى المعركة يريد أن يخوضها بفرقته الاحتياطية، فمنعه المطران ردريق والقوامس أن يغرر بحياته، والتمسوا منه أن يكتفي بإنعاش القلب المتدهور، فأمده بنجدة مختارة يتقدمها الأساقفة، يحملون الرايات عليها صور الطفل الإلهي وأمه البتول، فاستثاروا بها حماسة الفرسان المنهزمين؛ فعاد إليهم نشاطهم، وأتاح لهم هذا المدد أن يلموا شعثهم المنتشر، ويكروا ثانية على جيش الموحدين ينقرون حبة قلبه، ويرمقون دائرة السلاسل حيث الخليفة الناصر، والقبة الحمراء.
ومن دون الدائرة أهوال تُختطف عليها الأعمار، فليس صدع القلب بالهين السهل وفيه نخبة الجيش النظامي، ووراء السلاسل عدد كثير من الحراس الأشاوس يحرسون القبة بغابة من عوامل الرماح، ولكن قد تجري الأقدار بما لا يتوقع الإنسان، فبينا فوارس قشتالة يصكون القلب، والقلبُ ثابت لا يتحلحل، إذا الجناح الأيمن يلتوي فجأة وينهزم الأندلسيون تاركين رفاقهم! وكانوا — كما علمنا — ناقمين على الموحدين يضمرون لهم الشر، فلم يقاتلوا قتالهم المعهود في المعارك التي يصطلونها متحمسين، وهم كعادتهم متهورون في أعمالهم لا يفكرون تفكيرًا صحيحًا في نتيجة ما يصنعون.
وما كادت الميمنة تتعطل حتى مشت الميسرة على أثرها فتقصف جناح البربر، وبقي القلب عاريًا من الجانبين يدافع الإسبانيين ويصابرهم، وهؤلاء قد ازدادوا حمية وإقدامًا بعد تحطيم الجناحين، فصدعوا القلب الجريء وأوغلوا في أوساطه يقرعون دائرة السلاسل، فجرت أمامها أنهار من الدماء، وتكدست حولها جثث القتلى تلالًا، الموحدون في القلب مخرَّقة صفوفهم، يستميتون مقاومة ودفاعًا.
والمغاربة في المؤخرة يقدمون لسد الثُّلمات غصابًا، والأحراس البيض والسود يطاعنون الخيل عن حرم القبة وحرم الخلافة؛ مشهد رائع تجلت فيه البطولة الإسلامية بأجمل معانيها، تُغالب اليأس، واليأس غالبها، وترتجي الظفر وقد أشاح بوجهه عنها، أقبل الحظ على الإسبانيين، وما كانوا دون أعدائهم جراءة وعنادًا، فشدوا عليهم مُلحِّين، يستعجلون النصر قبل هزيمة النهار، لا يبالون في كسبه خسارة الأرواح، فهم يشقون الصفوف ويتقدمون، وهم يحيطون بدائرة السلاسل فيقتحمها الكونت ذو لارا واثبًا بجماعات الفرسان، ويقتحمها شانجه ملك النافار وبدرو ملك أرغون من اليمين والشمال؛ فانهارت قوى الدفاع من كل جانب، واستمات الحراس على غير جدوى وفي القبة الحمراء سيد الموحدين، قاعد على درقته، يتلقى الأنباء شيئًا بعد شيء متجلدًا مكفَهِرًّا، حتى جاءه النبأ الأسوأ: قُتل ابنه واعتَصم الجيش بالفرار! فوقف الناصر حينئذٍ وقال: «صدق الرحمن وكذب الشيطان!»، ثم ركب حصانه المسرج ونجا بجماعة من أصحابه.
وكأن المسيحيين — وقد أخذتهم نشوة القلب — أبَوْا إلا أن يعيدوا الطعن في أثر الهاربين، فتعقبوهم تشفيًا وانتقامًا؛ فقتلوا منهم في أثناء الهزيمة أكثر مما قتلوا في أثناء المعركة.
وتقول الرواية العربية: إن خسارة المسلمين كانت جسيمة جدًّا؛ إذ لم ينجُ منهم سوى مائة ألف من ستمائة ألف مقاتل! في حين أن الرواية الإسبانية أكثر اعتدالًا في حسابها، فلا ترفع خسارة العدو إلى أعظم من مائتي ألف، ولكنها تجمع في الوقت نفسه على أن خسارة المسيحيين ليست بذات شأن.
وهذا صعب التصديق؛ لأن الحرب في مرحلتها الأولى كانت دائرة على الإسبانيين، ثم إن اقتحام السلاسل ما تم لهم إلا بعد تضحيات جليلة وبلاء كبير؛ فغير معقول أن تكون خسارتهم لا تستحق الذكر كما يزعم الرواة الإسبانيون.
بَيْدَ أنها تبدو ضئيلة إذا قيست بخسائر أعدائهم؛ لأن فشل العساكر الإسلامية لم يقع على صورة عادية مألوفة؛ فقد تراجعت صفوفهم وتمزقت أشتاتًا قبل أن تُمْنَى بالانكسار، فنالها من التقتيل في ذعرها وتبددها شيء عظيم، وحقت عليها الهزيمة مع أن قواتها تبلغ ضعفي قوات المسيحيين، وجيش الموحدين النظامي لا يفوقه جيش في بسالته وتدريبه!
فلا غَرْوَ أن يجعل النصارى ظفرهم مستمدًّا من الله؛ فتنشأ عندهم أسطورة دينية يثبتها بعض المؤرخين، تقول بأنه ظهر في السماء قبيل المعركة صليب ساطع النور! وتحتفل طليلطة كل سنة في ١٦ حزيران بعيد «انتصار الصليب»؛ مع أن المراجع الوثيقة لا تذكر هذه المعجزة، ولا ذكرها ألفنس الثامن في روايته لأخبار المعركة.
على أن انكسار المسلمين — وإن بدا غريبًا في ظاهره — لا يلبث أن يصبح طبيعيًّا إذا نظرنا إلى العوامل التي أحاطت به، وهما تخاذل الجيش الأندلسي وانكفاؤه في أوائل المعركة؛ حيث تصدعت الميمنة، ثم تأثرتها الميسرة بفشل البرابرة وقلة ثباتهم أمام شانجه السابع وأجناد فرنسا والبرتغال والنافار؛ فاختل بذلك قلب الموحدين، واشتد عليه الضغط من الأمام والجانبين.
ويروي ابن خلدون حادثًا آخر له أثر فعَّال في هزيمة الموحدين، وهو أن صاحب لاون — ويسميه مرة ليهوج، ومرة إلبيوج — قد مكر بالخليفة الناصر، فقدم عليه فداخله، وأظهر النصح، فبذل الخليفة له أموالًا، فلما كانت وقعة العقاب غدر الإسباني به، وكرَّ عليه يقاتله برجاله، بدلًا من أن يناصره كما وعد.
فإذا صحَّت رواية ابن خلدون، فإن الناصر لا يُعذر في اتكاله على مواعيد الأمير الإسباني دون أن يحتاط لأضرارها، متوقعًا الكذب والخداع فيها، وكذلك كان قصير الرأي في استسلامه لنصائح ابن جامع؛ إذ حبس جيوشه ثمانية أشهر على حصار شلبطرة بدلًا من أن يقودها إلى طليطلة، فيسحق مملكة قشتالة قبل أن يتمكن ألفنس الثامن من جمع كلمة الأمراء المسيحيين على مساعدته، والاستفادة من نشاط الأحبار ودعوتهم إلى الائتلاف تحت راية الصليب.
إن زوال إمارة قشتالة، وهي أعظم دولة في إسبانية، يفضي — لا جرم — إلى انهيار سائر الإمارات الإسبانية، الواحدة تلو الأخرى، فإن القوات التي حشدها صاحب مراكش لمحاربة الإسبانيين جعل منها أضخم جيش عرفته القرون الوسطى، ولو أحسن الحيلة والتدبير لكان من الممكن ألا يقف في فتوحه عند الولايات الأندلسية التي غنمها المسيحيون وضموها إلى ممالكهم، بل يتخطاها إلى الأراضى الإسبانية فيبسط عليها سلطانه.
ويُلام — وهو القائد الأعلى — لغفلته عن حركة العدو وانتقاله خفية من جبل الشارات، حتى استطاع أن ينفُذ إلى أبدة، ويحتل في رُباها مواقع تفضل مواقع المسلمين، ورأينا الناصر يدعوه إلى الحرب، فيأباها في اليوم الأول والثاني من وصوله طلبًا للراحة، ولا يجرؤ الناصر على مهاجمته — مع علمه بتعبه — لمناعة روابيه.
ويؤخذ على الموحدين ما يؤخذ على المرابطين من سياسة الاستئثار بالحكم والنفوذ في الأندلس، فأساءوا إلى أبنائها، وحركوا الضغينة في نفوسهم، فقدموا معهم إلى الحرب وهم مرصدون لمكروههم؛ فكان الجيش الإسلامي دون الجيش المسيحي نشاطًا وائتلافًا وحماسة للدين، فدارت عليه معركة العقاب بشؤم الطالع، فمحقت قواه الجبارة، وأضعفت سلطان الموحدين فمالت بملكهم إلى الغروب، وكانت للمسلمين نذيرًا بزوال كلمتهم عن الأندلس، وللمسيحيين بشيرًا بانقشاع خطر الإسلام عن إسبانيا جمعاء.