الأساس والماضي الجديد
تطالعنا الصدف أحيانًا في بعض بقاع أوروبا بوجود أثرين متجاورين — بصورة تدعو إلى الغرابة — أحدهما ينتسب إلى أقدم عصور متوحشي ما قبل التاريخ، والثاني ينتسب إلى ما يُسمى المدنية الحديثة، وكلا الأثرين يمثل تاريخ الجنس البشري في عصره. فأولهما يمثل التاريخ القديم وثانيهما يتحدث عن التاريخ الجديد؛ أي أقدم عصر وأحدث عصر يمكن اقتفاؤهما في مجال حياة بني البشر. ففي شمال فرنسا وعلى أديم تلك التلال المشرفة على «نهر السوم» والتي كانت مسرحًا لكثير من المواقع الحربية، انغرست الألوف من شظايا قذائف الفولاذ على عمق كبير في المنحدرات والمستويات التي مهدها النهر لنفسه منذ أزمان خلت، واليوم بعد أن سكتت المدافع الضخمة التي كانت ترمي تلك القذائف، يستطيع المرء بعد أن يعمل بفأسه بضع دقائق في حافة الوادي، أن يرى «البُرت» (البلطة) المصنوعة من الظران، وهي من أقدم ما خلَّفه الإنسان من الأسلحة تجاور نثارًا من شظايا مسننة، لقذائف الفولاذ المفرقعة، فبالآلة الأولى كان يستطيع أول أجدادنا المتوحشين أن يهشم جمجمة خصمه فيودي بحياته، وبالمهلكات الثانية اعتاد نسله المتحضر أن ينسف عدوه ويمزقه إربًا.
وفيما بين الجارتين (البرت والشظايا) يقع تاريخ حياة بني الإنسان، وهو قصة لا يقل عمرها عن عدة مئات من آلاف السنين، بل ربما بلغ مليون سنة. وقد كان المجهود البشري خلال هذه السنين يسير بالإنسان من طور إلى طور حتى انتقل من الطرق الفطرية للهلاك إلى تلك الطرق البالغة حد التفنن في السحق والتدمير.
ومن الأشياء الحديثة كذلك إماطة اللثام عن التاريخ الشرقي لعدة آلاف السنين الخوالي مما لم يكن معروفًا من قبل عن الشرق القديم.
وكان حل رموز الخط المسماري للبابلية والآشورية قد تم قبل ذلك التاريخ ببضع سنين فقط، أما أول نقش مصري فقد حل عام ١٨٢٢؛ أي قبل حل الخط المسماري بنحو ربع قرن. والحقيقة أن معرفتنا بهذه اللغات ونظم كتابتها لا تزال بعيدة عن حد الكمال، وإن كانت تسير في سبيل التقدم المطرد كما يبرهن على ذلك حل رموز الخط المسماري الحيثي حديثًا، والتقدم المحسوس كذلك في فك هيروغليفي الحيثيين. وبذلك أصبح فحص الوثائق القديمة الكثيرة العدد والتي بدأ العالم يفهمها بسهولة، والحفائر التي أحيت فصولًا بأكملها من حياة الإنسان، مصدرَيْن يكشفان الآن بوضوح متزايد عن رواية تمثيلية خطيرة في تاريخ التقدم البشري. وهكذا قد أزيح الستار في أيامنا تقريبًا وبسرعة مدهشة فتيسر لنا النظر إلى الوراء في أعماق ماضٍ متغلغل في القدم لم يتسنَّ للفكر ولا للتعليم حتى الآن أن ينسجم معه. ولْندعِ الآن أبصارنا تسبح في هذا المدى الرهيب من التقدم البشري الذي كشف لنا عنه البحث في إنسان ما قبل التاريخ، وفي مدنيات الشرق التي كنا قد فقدناها.
ويكاد كل امرئ يعرف قدرتنا الآن على تعقب الخطوات التي خطاها أقدم إنسان في أوروبا إلى الأمام خلال آلاف من السنين قضاها في نضال مع دنيا المادة، فالغطاء الجليدي القطبي الذي انحدر أربع مرات على الجانب الشمالي للبحر الأبيض المتوسط فأجلى متوحشي أوروبا أهل العصر الحجري القديم إلى الجنوب، ثم تقهقر بعد ذلك ببطء نحو الشمال ثانية، وهكذا في كل من الدفعات الأربع جعل هذه الظاهرة في نظرنا بمثابة ساعة جيولوجية هائلة يدل تذبذب (رقاصها) الضخم أربع مرات متتالية منتظمة على مرور فترة عظيمة من الزمن ظهر فيها ذلك التحسن المتدرج في أسلحة الإنسان الحجرية وآلاته وتقدمه البطيء في قطع الطريق الطويل من الوحشية إلى المدنية.
على أن الخيال يقف حائرًا أمام هذه الكشوف التي تنبئنا عن المعركة الطويلة الأمد التي خاض غمارها جدنا المتوحش، وذلك حينما نرى في تغلبه البطيء على القوى التي تحيط به مشهدًا دنيويًّا يملؤنا بنفس العاطفة الدنيوية التي نشعر بها أمام حدوث ظاهرة عظيمة من ظواهر الطبيعة.
وعلى ذلك كانت هناك «دنيا شرق أدنى» شاسعة لإنسان العصر الحجري القديم، تشمل شمال أفريقيا وغرب آسيا مكوِّنة بذلك مسرحًا شاسعًا تمتد جبهته من البحر الأسود شمالًا مخترقة سوريا وفلسطين إلى الشلالات النائية في أعالي النيل جنوبًا، وأما الجزء الخلفي لهذا المسرح فتحده الجبال الفارسية.
وهذه الصورة عميقة في القدم عمقها في المساحة؛ إذ لا يقل عمرها عن مئات الآلاف من السنين، وقد يصل إلى ألف ألف سنة، منذ بدأ الغطاء الجليدي القطبي يزحف جنوبًا على أوروبا، وكان الناس قد بدءوا فعلًا يعيشون عيشة الصيد على مسرح الشرق الأدنى هذا. وإذا جاز لنا أن نحكم من شكل إنسان ما قبل التاريخ الذي كان يعيش في شرق آسيا قريبًا من «بكين» الحالية؛ فإن مخ صيادنا الغربي كان أقل حجمًا بمقدار الثلث من مخ سلفه الذي عاش في العصر التاريخي في نفس الإقليم، وقد ترك أسلحته الحجرية منتشرة على سطح الأرض في الشمال الشرقي من أفريقيا، وعلى تلال آسيا المجاورة ووراء جبال فارس.
وحري بفترات الزمن التي تضمها هذه العهود أن تقاس بمراحل جيولوجية لا بالسنين، فأولى مراحل هذه العصور الجيولوجية كان عصر تكوين أودية الأنهر العظمى للإقليم، ولا شك أن أناس الشرق الذين عاشوا في عصر ما قبل التاريخ كانوا بطبيعة الحال يجهلون أنهم يرقبون تكوين وادي النيل ووادي الدجلة والفرات في وقت كانت فيه دلتا النيل الحالية لا تزال خليجًا للبحر الأبيض المتوسط، كما كان الخليج الفارسي يمتد شمالًا فوق ما هو معروف الآن بسهل «بابلون» إلى خط عرض الركن الشمالي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
أما ثاني تلك المراحل الزمنية فقد تحدد لنا الآن (وقد كان يسير جنبًا لجنب مع تقدم حياة الإنسان) ونعني به عصر «نضوب الماء»؛ ذلك النضوب الذي كان ينتشر تدريجًا، فالصحارى المعروفة لنا تمام المعرفة في هذه الأقطار لم تكن قد ظهرت بعد؛ إذ كان كل شمال أفريقيا إقليمًا ذا أمطار غزيرة ونباتات وفيرة مكوِّنًا ميدان صيد أنموذجيًّا، وقد عثرت على ثلاثة قوارب نيلية لصيادي الهضبة محفورة على الصخور الواقعة في مجاهل صحراء النوبة فيما وراء «أبو سنبل»، وقد كشف حديثًا الدكتور «سندفورد» مدير مساحة المعهد الشرقي أسلحة الظران التي كان يستعملها هؤلاء الصيادون مبعثرة في أقاصي الصحراء الجنوبية على مسافة ألف ميل أو أكثر من النيل، ولا تزال هذه الآلات والأسلحة الحجرية الملقاة حيث فقدها أصحابها منذ مئات الآلاف من السنين شاهدًا صامتًا على المجال الفسيح الذي كان يرتع فيه الصيادون والحيوانات التي كانوا يقتفون أثرها في وقت كان فيه جميع شمال أفريقيا ممرِعًا خصب الجناب. ولا يغرب عن ذهننا أن الأماكن التي توجد فيها تلك الأدلة الصامتة عن حياة الإنسان الغابر، هي الآن مناطق منعزلة قاحلة موحشة لا يجسر أي صياد حديث أن يدلف إليها في الصحراء؛ لأنه لا يأمل أن يعود على قيد الحياة بعد أن يخترق تلك المجاهل الماحلة.
ولقد كان غربي آسيا على تمام النقيض من مصر، تحوط دائرته الشمالية تلك الهضبة الجبلية الممتدة من البوسفور حتى بلاد إيران، فكان معرضًا بدرجة عظيمة لأخطار ذوبان الجليد المخربة وزمهرير برده القارس، وقد ترجع قصة الطوفان العام التي ورد ذكرها في «بابل» ثم في التوراة إلى فيضان جليدي من هذا النوع. ولقد كانت هذه القوة الطبيعية المزعجة المغيرة من المرتفعات الشمالية الواقعة في غرب آسيا نذيرًا لغارات بشرية متتابعة كانت كذلك تنزح من هذه المرتفعات وتغمر الإقليم في دورات معلومة؛ فتقلب النظام الاجتماعي والحكومي القائم. ولذلك كان التقدم البشري في الإقليم إذا خطا خطوته الأولى نحو التطور الاجتماعي لا يلبث أن يعثر وتزل به قدمه، فيرجع إلى سيرته الأولى فيحاول النهوض مرة أخرى ويعاني نفس العملية المرة بعد المرة. بمثل هذا تناوبت القوى المغيرة من طبيعية وإنسانية على وقف التطور الاجتماعي في بابل، وقد كان لزامًا علينا أن نعتبر دوافع الغزو الأجنبي قوة مجددة لولا ما ظهر لنا من أن تلك الفكرة قد غالى في تقديرها بعض المؤرخين؛ فالشجرة الضخمة تقف في وجه الرياح بفضل قوة تلك الحلقات الصلبة التي تنمو في جذعها سنويًّا، والتي ربما كانت تنمو فيها منذ قرون وتبقى متأصلة في داخل تركيب جذعها العظيم، فالقوة في مثل هذه الشجرة يمكن أن تتخذ مثالًا لتوضيح نمو النظام القومي الذي اكتسب زيادة قوته بالبناء المستمر، ولكن الشجرة التي تعصف بها الريح مرارًا وتزعزعها من الأرض أحيانًا تبقى دائمًا قصيرة عارية. ولم يكن من باب الصدفة أن سقوط المدنية البابلية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وغزوها على يد الدولة الكاسيلية بعد أن بلغت قوتها في عهد أسرة «حمورابي» أعقبه نضوب ثقافي استمر مدة ألف سنة أو يزيد.
وعلى العكس من ذلك نرى — كما أسلفنا — أن الجفاف الذي حدث في شمال أفريقيا قد جعل وادي النيل في معزل، وكوَّن منه ذلك الممر الضيق المحمي الذي لا مثيل له على سطح عالمنا، وهو يمتد شمالًا وجنوبًا، فأحد طرفيه في المناطق الحارة، والطرف الآخر يشرف على بحر داخلي عظيم في المنطقة المعتدلة، وكان يتمتع بميزات طبيعية فريدة في نوعها، فقد كان منعزلًا ومحميًّا بشكل جعل التطور البشري فيه سهلًا؛ ذلك التطور الذي رغم بعض الغزوات الأجنبية ظل مستمرًّا آلافًا من السنين دون أي عائق جدي. وفي أيامنا هذه تتكشف التربة المصرية على حدود الصحراء عن قبور أقدم الجبانات المعروفة في العالم كله، ونجد في هذه القبور خلف صيادي العصر الحجري في وادي النيل عندما كانوا في بداية الانتقال إلى عصر المعادن، وذلك قبل ٤٠٠٠ سنة ق.م بزمن يذكر، ومن الجائز أن يكون قبل هذا العهد بكثير، وكانوا قد استأنسوا أهم الحيوانات المنزلية، وانتقلوا إلى دور حياة الفلاح.
والدلائل تؤيد رأي من قال إن هؤلاء المصريين الذين عاشوا في عصر ما قبل التاريخ المدفونين في أقدم الجبانات، هم وأجدادهم كانوا أقدم مجتمع عظيم على الأرض استطاع أن يضمن لنفسه غذاء ثابتًا باستئناس الموارد البرية من نبات وحيوان، على حين أن تغلُّبهم على المعادن فيما بعد وتقدُّمهم في اختراع أقدم نظام كتابي، قد جعل في أيديهم السيطرة على طريق التقدم الطويل نحو الحضارة.
فيتضح مما تقدم أن وادي النيل المعشب الواقع شرقي أرض الصحراء لم يجذب إلى داخل جدرانه الصخرية المنكمشة صيادي ما قبل التاريخ المشتتين على ساحل أفريقيا الشمالي فحسب، بل هيأ لهم مجتمعين التسلط على كل الموارد اللازمة للتقدم الإنساني في أحوال حسنة جدًّا، لدرجة جعلت الجماعات المحلية التي كانت تتألف منها البلاد تتوحد تدريجيًّا، حتى أصبحت أول مجتمع عظيم مؤلف من عدة ملايين يحكمهم ملك واحد وفي أيديهم كل الأسس الرئيسية اللازمة للحضارة. ففي القرون التي تقع بين ٥٠٠٠، ٣٥٠٠ق.م قامت أول دولة متحضرة كبيرة في وقت كانت فيه أوروبا ومعظم غربي آسيا لا تزال مسكونة بجماعات مشتتة من صيادي العصر الحجري.
وإنا معشر الأمريكيين على استعداد خاص لندرك ونقدِّر الانقلاب العجيب الذي جعل من الأرض القاحلة أرضًا ذات مدن زاهرة … فإن آباءنا الذين قامت مجهوداتهم بإنشاء مدن عظيمة ثرية على طول أراضينا الشاسعة، إنما تسلموا الفن والعمارة والصناعات والتجارة والتقاليد الحكومية والاجتماعية بطريق الوراثة عن أجدادنا الأوروبيين، ولكن في ذلك العصر السحيق الذي نحن بصدده بدأ الانتقال من الوحشية إلى المدنية بكل مظاهره الخارجية في الفن والعمارة من لا شيء. وليست أهمية ظهور المدنية في وادي النيل منحصرة في بهاء مبانيها فحسب، بل لأنه كان أيضًا تطورًا اجتماعيًّا مستمرًّا دون أي عائق أكثر من ألف سنة، أشرق لأول مرة على كرتنا الأرضية، مقدمًا لنا أول برهان على أن الإنسان الذي هو أرقى المخلوقات الفقرية التي ظهرت على وجه البسيطة أمكنه أن يخرج من الوحشية إلى المثل الاجتماعي الأعلى، ويظهر الحياة الإنسانية بمظهر لم يَرَ الكون كله — على ما نعلم — أرقى منه.
وفي أيامنا يدخل السائح وادي النيل وكأنه دخل أرض العجائب، على أبوابها تلك الأهرام الضخمة التي طالما تخيل منظرها منذ نعومة أظفاره. وعندما يصعد في الوادي مع النهر يرى فيها وراء الشواطئ الي تحفها النخيل أسوار معابد واسعة توصل إليها من الشاطئ طرق مزينة بتماثيل أبي الهول، ويشرف عليها مسلات ضخمة شاهقة الارتفاع وقاعات وعمد فخمة، ولكن قلما يخطر ببال ذلك السائح أنه في أمريكا ووادي النيل سواء بسواء يسبق القفر كل ما يرى من فن وعمارة. فحيث تقوم الآن هذه الآثار الحجرية العظيمة كانت تمتد يومًا ما تلك الغابات الكثيفة التي كانت تمتد في أودية النيل الضيقة، وكانت خالية من السبل آلافًا من السنين، اللهم إلا مسالك الصيادين الضيقة التي كانت تُرى ملتوية بين الأعشاب ومؤدية إلى حافة الماء. ولم يكن لسكان وادي النيل في عصر ما قبل التاريخ أجداد متحضرون يرثون منهم أية ثقافة، ولا بد أن تجد أن في خبرة هؤلاء القوم التي كانت آخذة في التعمق، وفي أفقهم الذي كان آخذًا في الاتساع؛ ذلك السحر الذي حوَّل هؤلاء الصيادين السذج ومساكنهم الصغيرة المصنوعة من الطين وأخصاص من الخوص إلى مجتمع عظيم يسيطر عليه رجال ذوو سلطان وخيال واسع وأصحاب آمال ضخمة، أحرار لم تغلَّ أيديهم التقاليد فعمرت تلك البقاع التي كانت يومًا غابة، ولم يكتفوا بنشر هذه الآثار فيها على طول النهر وعرضه، بل أدركوا كذلك المعنى السامي لقيم الأشياء الاجتماعية والأخلاق البعيدة عن الأنانية، مما لم ينبثق فجره على العالم من قبل. وإن الذي يعرف قصة تحول صيادي عصر ما قبل التاريخ في غابات النيل إلى ملوك ورجال سياسة وعمارة ومهندسين وصناع وحكماء وأنبياء اجتماعيين في جماعة منظمة عظيمة مشيدين تلك العجائب على ضفاف النيل في وقت كانت أوروبا لا تزال تعيش في همجية العصر الحجري، ولم يكن فيها من يعلمها مدنية الماضي؛ من يعرف كل هذا يعرف قصة ظهور أول مدينة على وجه الكرة تحمل في ثناياها صورًا خلقية ذات بال.
فالمدنية في أعلى معانيها قد ولدت إذن في الركن الجنوبي الشرقي في البحر الأبيض المتوسط، ومع ذلك قد كان هناك منذ البداية تقدُّم هام نحو المدنية في غرب آسيا المجاورة؛ وبخاصة في بابل، حيث ظهرت في نهاية الأمر ثقافة ما تمتاز بتقدمها المطرد في الشئون العملية والتجارية والقضائية، وفي الوقت نفسه كان من عناصرها البارزة الاعتقاد بأن مصير الإنسان يمكن قراءته في النجوم، حتى إن حذقها المدهش لدرس الأجرام السماوية وضع مقدمة أصبحت في يد الإغريق أساسًا لعلم الفلك، غير أن الحضارة البابلية كانت تسودها في جميع أدوارها روح الاقتصاد التجاري والكد في الحاجيات الآلية؛ مما حرم التطور الاجتماعي البابلي حتى من الأسس الأولية للتدرج نحو مراعاة الغير، والعمل على نفعهم، فكان الأساس الخلقي اللازم للعدالة بين الجميع معدومًا كلية، حتى إن دستور قوانين «حمورابي» يقضي في العدالة حسب المركز الاجتماعي للمدعي أو المذنب. أما الانعدام التام للفوارق الاجتماعية أمام القانون الذي هو من أرقى مظاهر الحضارة المصرية فلم يكن معروفًا في بابل، وكان نتيجة ذلك أن المبادئ الأخلاقية في بابل لم تساهم إلا بالنزر اليسير — إن لم تكن لم تساهم بشيء مطلقًا — في الإرث الأخلاقي الذي ورثه العالم الغربي.
وقد أدى اندماج المدنيات القديمة في الشرق الأدنى إلى نشوء ما يمكن تسميته الثقافة المصرية البابلية، أو نواة ثقافة الشرق الأدنى، وظلت أمم الغرب لا تكاد تحس حتى جيلنا الحاضر بالحقيقة البالغة الأهمية، وهي أن كلا الحضارة المصرية والحضارة البابلية قد بلغت قمتها ثم أخذت في التدهور قبل قيام الحضارة العبرانية. كلنا نعلم أن الثقافة المصرية البابلية قد دفعت الحضارة الأوروبية نحو السير، ولكن ليس من بين أهل العصر الحديث إلا القليلون ممن يعرفون تلك الحقيقة البالغة الخطورة في تاريخ الأخلاق والدين، وهي أن كلًّا من الثقافة المصرية والبابلية قد غذت ودفعت الحضارة العبرانية إلى السير. ونجد فيما بعد تيارًا من المؤثرات الشرقية القديمة التي تعد المسيحية من أظهرها مستمرًّا في المسير نحو أوروبا، وانتهى به الأمر أن قلب الدولة الرومانية في القسطنطينية إلى حكومة استبدادية شرقية بقي أثرها ظاهرًا إلى ما بعد الحروب الصليبية بزمن بعيد.
ومثل هذه التأملات تميط لنا اللثام في الحال عن الوحدة العجيبة في تاريخ حياة الإنسان، فإن تاريخ الشرق الأدنى يقع وراء تاريخ أوروبا، كما أن تاريخ أوروبا يقع وراء تاريخ أمريكا. وبالرجوع إلى الوراء بالشرق الأدنى القديم خلف الأزمان التاريخية نصل إلى عصور تطور إنسان ما قبل التاريخ، فيطول بذلك مدى المراحل المكونة لحياة الإنسان المتصلة هكذا بأمريكا فأوروبا فالشرق الأدنى فإنسان ما قبل التاريخ فالأزمان الجيولوجية. وهذا التقسيم الحديث جدًّا الذي هو من وضع أحدث المؤرخين يكشف لنا لأول مرة أن حياة الإنسان وحدة لا تتجزأ ظلت تتطور تطورًا متعاقبًا من «البُرت» (البلطة) الحجرية إلى شظايا قنبلة سنة ١٩١٤، وكلاهما مدفونتان جنبًا لجنب في ميدان قتال السوم. لذلك فإن بحثًا شاملًا للشرق الأدنى القديم نقوم به بأعين مفتوحة وبأغراض أرقى من حذق الأرقام التاريخية التي كانت محببة منذ زمن طويل إلى قلوب زملائنا المؤرخين القدامى، تظهر لنا لأول مرة العصور التاريخية المعروفة في حياة الإنسان الأوروبي كمنظر مرتكز إلى لوحة عظيمة تتناول مئات الآلاف من السنين. وفي هذا المنظر الضخم الذي لا يمكن تصوره إلا بدرس تاريخ الشرق، تنكشف أمامنا صورة شاملة بهيجة كمجال حياة البشر في عصورها المتعاقبة مما لم يستطع أن يتصور مثله أي جيل سبق، هذا هو «الماضي الجديد».
ومهما يكن من أمر العلوم والفلسفة فإن التاريخ والأخلاق وعلم اللاهوت لم يكن لها شأن يذكر في هذا البحث الضخم؛ ففي تاريخ علم الأخلاق يكشف لنا «الماضي الجديد» فجأة تلك الحقيقة التي ظلت مجهولة منذ زمن بعيد؛ وهي أن المدنية العبرانية بكل ما اشتملت عليه من وثائق ذات تأثير عميق في المبادئ الدينية والخلقية، ليست إلا مرحلة من المراحل النهائية للرقي البشري القديم، ذلك الرقي الذي سبقته عصور تجريبية منتجة ومبدعة في الناحيتين الاجتماعية والخلقية على ضفاف النيل والفرات. ويجب علينا إذن أن نمهد أذهاننا إلى قبول الحقيقة القائلة بأن الإرث الخلقي الذي ورثه المجتمع المتمدين الحديث يرجع أصله إلى زمن أقدم بكثير جدًّا من زمن استيطان العبرانيين فلسطين، وإن ذلك الإرث قد وصل إلينا من عهد لم يكن فيه الأدب العبراني المدون في التوراة قد وُجد بعدُ.
وسنرى الآن ماذا يكشف لنا «الماضي الجديد» كما أظهرته لنا أحدث البحوث الجديدة عما يختص بالخبرة الإنسانية القديمة التي وصلت بالإنسان لأول مرة إلى الشعور بأعلى القيم، حتى انتهت مغامرته بانبثاق فجر الضمير وفتح عصر الأخلاق.