انهيار المذهب المادي وأقدم عهد للتخلص من الأوهام
تعد أهرام الجيزة دليلًا قويًّا على السيطرة والثروة اللتين كانتا متجمعتين في أيدي فراعنة الأسرة الرابعة، وبقاء تلك المباني الرائعة مدة تقرب من خمسة آلاف سنة يعتبر دليلًا آخر يعزز ذلك؛ إذ إن الفرعون الذي كان في مقدوره أن يجمع كل ثروة رعاياه ومجهودهم وهم عدة ملايين لإقامة ضريح يبلغ ارتفاعه ٤٨١ قدمًا، ومساحته لا تزال تشغل نحو ١٣ فدانًا من المباني الصلبة، لا بد أنه كان قد جمع في يده زمام حكومة قوية مركزة. ولا شك أنه كان يستعمل تلك السلطة دون أن يكترث كثيرًا بالآلام التي كانت تعانيها الإنسانية من تسخيره إياها في تلك الأعمال الشاقة. ونحن نعلم الآن أن كبار الموظفين الذين كانوا يديرون دفة تلك الإدارة العظيمة قد أثروا منها تدريجًا، وبخاصة من الأراضي التي كان الملك يهبها إياهم، وبذلك أسسوا لأنفسهم ضياعًا عظيمة حتى صاروا يعيشون كما يعيش حكام الإقطاعيات في مقاطعاتهم، وبعد انقضاء بضعة قرون وصل أولئك الموظفون إلى درجة عظيمة من الاستقلال؛ أي إن حكومة البلاد التي كانت مركزة في يد الملك، والتي تنطق بها ضخامة المقابر الملكية الشاسعة الأرجاء بالجيزة أخذت تنحدر نحو اللامركزية التامة، ولم يأتِ عام ٢٥٠٠ق.م حتى صارت الدولة المصرية القديمة مؤلفة من مجموعة من الإقطاعات المفككة الأوصال مهددة بفقد كل رابطة بينها، تكاد تقضي عليها عوامل التمزيق والتفريق.
وبذلك نرى أنه في فترة تقدر بأقل من ألفي سنة قامت أولى المدنيات بدورة التطور كاملة، من توحيد كلمة رؤساء المقاطعات المحليين في عصر ما قبل التاريخ إلى تأليف حكومة متحدة من تلك المقاطعات جميعًا عن طريق أقصى درجات تركيز السلطة، ثم عادت ثانية إلى اللامركزية بخطى متوالية إلى أن رجعت سيرتها الأولى، حيث صارت مكونة من مقاطعات محلية مستقلة، فكانت هذه أول دورة في تجارب البشرية. وقد رأينا أنها تركت أثرًا بالغًا عميقًا في عقول رجال الفكر؛ إذ صار في مقدورهم لأول مرة عند نهاية الدولة القديمة أن يرجعوا بأبصارهم إلى ذلك الماضي القديم والتأمل في ذلك المنهج الطويل من تطور النظام البشري. وقد تبين لهم كيف أن أخلافهم، بتأثير سير هذا الموكب العظيم الممثل لأقدم حياة بشرية منظمة في التاريخ، قد نقلوا تدريجًا آلهة الطبيعة القدامى إلى مملكة الشئون الاجتماعية، وسنرى الآن تأثير التجارب الاجتماعية النامي على أفكار هؤلاء الحكماء بشأن الإنسان والسلوك البشري وعن الإله.
والأرجح أنه بعد سنة ٢٥٠٠ق.م بقليل انهارت حكومة الدولة القديمة؛ أي الاتحاد الثاني، ومزقت أوصال البلاد شر ممزق، وخلال أوقات الشجار الذي كان قائمًا بين الأشراف المحليين على أثر ذلك الانهيار ظهر عميد أسرة من حكام الإقطاعات كان يقطن «أهناسية المدينة» الواقعة على مسافة ٢٥ فرسخًا جنوبي «منف»، واستولى على السلطة التي كانت لملوك «منف» مدة طويلة، وأقام نفسه فرعونًا على البلاد، غير أن هذه الأسرة الأهناسية التي كانت ضعيفة في سياستها لم تترك لنا عنها إلا شيئًا ضئيلًا من آثارها يحدثنا عن أخبار ذلك العصر، فقد انفصل عنها النصف الجنوبي من الوجه القبلي ونال استقلاله، كما أن المناوشات كانت قائمة أحيانًا ضدها على الحدود في مصر الوسطى. ومع أن التأثير العظيم الذي نتج عن هذا الانهيار التام في حكم الاتحاد الثاني بعد أن عمَّر ألف سنة لم يظهر في أول الأمر ظهورًا تامًّا؛ فإنه كان في ذلك مثله كمثل سقوط «رومة»؛ إذ ترك أثرًا قويًّا على عقول القوم الذين شاهدوه، فقد أقلع رجال الفكر عن التفكير في الأبهة الظاهرة الكاذبة، وتحولوا إلى التأمل العميق في القيم الباطنة. ولا بد أن الحياة المتحضرة في أمهات مدن الدولة القديمة مثل «منف» و«عين شمس»، وهي التي كانت مركزًا للقوة والثقافات، كانت لا تزال باقية فيها على ما هي عليه، هذا فضلًا عما في «أهناسية» نفسها، فإننا تعلم على الأقل أن أحد ملوكها كان حكيمًا ذا عقل مفكر راجح، ومما يؤسف عليه أن اسم ذلك الملك مجهول لنا للآن، ولكنه لما قارب حكمه النهاية كتب رسالة في سلوك الملك ليعلم بها ابنه «مريكارع»، وقد سميت هذه الرسالة «تعليم موجه إلى «مريكارع»».
وتلك الوثيقة الهامة مدونة على بردية محفوظة الآن بمتحف «لنينجراد»، وهي تحمل بين سطورها أدلة قاطعة تثبت أنها كُتبت في العصر الذي تنسب إليه، ويمكن أن نعتبرها صوتًا حقيقيًّا لملك «أهناسية» المسن الذي كان يرجع بنظره إلى الوراء للاستفادة من ماضي تلك الدولة القديمة؛ وذلك لعظيم احترامه للحكمة التي تمخضت عنها تلك الأزمان؛ إذ نرى ذلك السياسي المحنك يتحدث عن الرجل الحكيم فيقول: «إن الحق (يعني «ماعت») يأتي إليه مختمرًا حسبما كان عليه الأجداد، فعليك إذن أن تقتدي بآبائك وأسلافك … تأمل؛ لأن كلماتهم مدونة في المخطوطات فافتحها لتقرأها واقتدِ بمعرفتهم، وبتلك الكيفية يصير صاحب الصناعة على عِلم بها.» ونحن من جانبنا يمكننا أن نلحظ في تلك الكلمات تأثير نصائح «بتاح حتب» الذي عرَّف في نصائحه الكلام بأنه صناعة، وعرف المتكلم الماهر بأنه محترف. ولا بد أنه كان بين تلك المخطوطات ملف البردي الذي يحتوي على نصائح «بتاح حتب»، والذي كان الملك الأهناسي يأمر ابنه بفتحه وقراءته حتى يمكنه التبصر فيما يحويه من الحكم التي مضى عليها وقتذاك نحو ٤٠٠ سنة. ويقول ذلك الملك المسن: «كن ممن يحسنون صناعة الكلام لتكون قوي البأس؛ لأن قوة الإنسان هي اللسان، والكلام أعظم بأسًا من كل حرب.» وهذا القول أشبه بقولنا: «القلم أشد بأسًا من السيف.»
غير أن ذلك السياسي المصري — كما أظهر لنا ذلك «بتاح حتب» — كان يعرف معرفة تامة أن اللسان الذرب يحتاج إلى توجيه حكيم؛ إذ يضيف إلى ما سبق قوله: «إن الرجل الفطن لا يجد من يفحمه، كما أن الذين يعرفون أنه أوتي الحكمة لا يعارضونه، وبذلك لا تحدث مصيبة في زمانه.» وكان من المستحيل بداهة أن يتجاهل الإنسان الصعوبات القائمة في موقف البلاد السياسي إذ ذاك، ولذلك أُسديت النصيحة إلى الأمير الصغير بالمحافظة على العلاقات السلمية بينه وبين جنوب الوجه القبلي المستقل في ذاك الوقت. وقد خُصص جزء كبير من تلك النصيحة للعناية بحدود البلاد المصرية المكشوفة من جهة آسيا شرقًا ولوبيا غربًا.
وفضلًا عن المسئولية فيما يختص بالعدالة الدنيوية يؤكد الملك المسن لابنه بأنه على الملك واجبات هامة في المعبد، وأنه محتم عليه أن يوجه كل عنايته لإقامة جميع الشعائر المقدسة مما يُظهر بكل جلاء اعتماده التام على العطف الإلهي. على أن فضيلة الملك على أية حال لا تظهر بإقامة أمثال هذه الشعائر الخارجية الظاهرة وحدها، كما أنها ليست ضمانًا كافيًا لرضى الإله؛ فإن أخلاق المعطي أعظم خطرًا من الهبة التي يبذلها؛ ولذلك نجد الملك المسن يأتي في وصيته بما يعد من أنبل ما جاء به التفكير الخلقي بمصر القديمة؛ إذ يأمر ابنه بأن يحفظ في ذهنه: «أن فضيلة الرجل المستقيم أحب (يعني عند الإله) من ثور (أي الذي يقدم قربانًا) الرجل الظالم.» فلا بد إذن لذلك الشاب عندما يتربع فوق العرش أن يحكم طبقًا للصفات الخلقية الباطنة؛ ولذلك يقول له والده: «أَقِم العدل لتوطد به مكانتك فوق الأرض، وواسِ الحزين ولا تسئ إلى الأرملة، ولا تحرمنَّ رجلًا من ميراث والده، ولا تضرنَّ الأشراف في مراكزهم، ولا تقم بالعقاب (يعني بنفسك) فإن ذلك لا يفيدك، بل عاقب بواسطة الجلادين ومن غير إسراف، وبذلك تستتب لك الأرض … والله عليم بالرجل الثائر، والله يجازي عسفه بالدم … ولا تقتلنَّ رجلًا تعرف قدره وتكون قد جودت معه الكتابة (يعني في المدرسة بطبيعة الحال).»
أما التخلق بالوداعة التي طالما وصى بها «بتاح حتب» فقد أفاض في الحض عليها ذلك المسن حكيم «أهناسية»؛ إذ يقول مستحلفًا ابنه: «لا تكونن فظًّا؛ لأن الشفقة محبوبة، وليكن أكبر أثر لك محبة الناس لك … وسيحمد الناس الله على مكافأتك لهم مقدمين الشكر على عطفك وطالبين لك العافية في صلواتهم.»
وقد ذكرنا فيما مر أن «بتاح حتب» كان كثير الاهتمام بالمستقبل في هذه الدنيا بسبب تقلبات الحظ التي تحف بمركز الإنسان في هذه الحياة، والملك في تلك الوثيقة ينصح ابنه «مريكارع» بأن يفكر في المستقبل في الحياة الآخرة، فيقول له في ذلك: «إنك تعلم أن محكمة القضاة الذين يحاسبون المذنب لا يرحمون الشقي يوم مقاضاته ولا ساعة تنفيذ القانون … ولا تتحدثن عن طول العمر؛ لأنهم (يعني القضاة) ينظرون إلى مدة الحياة كأنها ساعة؛ فإن الإنسان يبعث ثانية بعد الموت وتوضع أعماله بجانبه كالجبال. إن الخلود مثواه هناك (يعني في الآخرة) والغبي من لا يكترث لذلك، أما الإنسان الذي يصل إلى الآخرة دون أن يرتكب خطيئة فإنه سيثوى هناك ويمشي مرحًا مثل الأرباب الخالدين (يعني الأبرار المتوفين).»
ويرى ذلك الملك المسن أن الحياة الصالحة فوق الأرض هي العماد الأعظم الذي ترتكز عليه الحياة الآخرة؛ إذ يقول في ذلك: «إن الروح تذهب إلى المكان الذي تعرفه، ولا تحيد في سيرها عن طريق أمسها.» ولا شك أنه يقصد بذلك طريقها المعتاد للخلق القيم الكريم. على أن القبر كان في نظره في الوقت نفسه من الأشياء الهامة، حيث يقول: «زيِّن مثواك (يعني قبرك) الذي في الغرب، وجمِّل مكانك في الجبانة بصفتك رجلًا مستقيمًا مقيمًا للعدالة (يعني ماعت)؛ لأن ذلك هو الشيء الذي تركن إليه قلوب أهل الاستقامة.»
ولما كان أهم أمر في حياة الإنسان هو علاقته بربه، سواء أكان ذلك في هذا العالم أم الحياة الآخرة، فإنه يقول في ذلك أيضًا: «يمر الجيل إثر الجيل الآخر بين الناس والله العليم بالأخلاق، قد أخفى نفسه … وهو الذي لا يعبأ بما تراه الأعين، فاجعل الإله يُخدم بالصورة التي سوي فيها سواء أكانت من الأحجار الكريمة أم من النحاس، كالماء الذي يحل محله الماء؛ إذ لا يوجد مجرى ماء يرضى لنفسه أن يبقى مختفيًا بل يكتسح السد الذي يخفيه.»
وهذا التصريح الهام الذي جاء على لسان رجل من رجال الفكر في مصر منذ أكثر من أربعة آلاف سنة مضت ليس إلا محاولة منه للتمييز بين الإله وبين صنم المعبد التقليدي الذي كان يظهر في احتفالات المعبد وتهتف له الجماهير، ولكن كينونة الإله — كما قال — كالماء الذي يكتسح السد أمامه، لا يمكن أن تبقى محبوسة في الصورة المحسوسة، وهو الشيء الذي عبر عنه بأنه «لا يعبأ بما تراه العيون»، على حين أن الإله الخفي العليم بالأخلاق قد أخفى نفسه فلا يمكن إدراكه كجسم من الماء يمتزج في جسم آخر مثله من الماء. على أنه من الصعب جدًّا أن يدرك الإنسان معنى أمثال هذه التشبيهات، وبخاصة في لغة فقيرة جدًّا في التعابير المعنوية.
فنجد هنا اعترافًا صريحًا بقيمة الحياة الصالحة في نظر الإله، وهو الذي لا يقبل أن تقوم الهدايا عنده مقام الأخلاق، وهذا الاعتراف يفوق بمراحل كثيرة أعظم المثل العليا في عصر الأهرام. وبالرغم من ذلك فإن تقاليد الأجداد فيما يتعلق بقيمة الوسائل المادية، سواء أكان ذلك في العمارة أم في تقديم القربان، كانت لا تزال تجد قبولًا عند ذلك الملك المسن، وبتصريحه هذا قد استخلص الملك نتيجة من ذلك — قد تكون بغير قصد منه — لا يمكن أن تترك هكذا معلقة ودون أن يفصل فيها، فكان كرُّ القرون يثبت بدون هوادة بطلان الاعتماد على العوامل المادية البحتة للحصول على النعيم الأخروي لروح الإنسان، كما كان سير الزمان ينحسر بلا شفقة عن انهيار العقيدة المادية، وكذلك بدأت الظلال القاتمة التي تنم عن أقدم صورة لعدم الانخداع بالأوهام تخيم على سماء مصر.
ونجد هنا حالة يكاد يحاول بها الإنسان أن يعتبر الثراء عونًا على معاملة الناس بالحق في تصريف العدالة. على أن بطلان الاعتماد على العوامل المادية كان قد أخذ في الظهور للعيان بازدياد مطرد بعد انتهاء عصر الاتحاد الثاني؛ فإن ارتكان الملوك العظام الذين حكموا في عهد الأهرام على مثل هذه الوسائل المادية قد جعلهم يكافحون بلا طائل ضد الموت مدة قرون عدة، وهذا الكفاح قد أخذت آثاره المتداعية تدل في كل يوم على خيبة الطرق المادية في أداء الغرض منها. فقد كان صراع أولئك الجبابرة الذي استمر نحو خمسمائة سنة، يتمثل جليًّا أمام الأعين في هيئة سور عظيم من الأهرام يمتد نحو ستين ميلًا على حافة الصحراء الغربية، وكأنه خط من الحصون الأمامية الصامتة يشرف على حدود الموت، وكان قد انقضى إذ ذاك ما يقرب من ألف سنة على بناء أول هرم منها، وكذلك قد انطوت قرون عدة منذ أن طوى رجال العمارة سجلاتهم البردية الحاوية لرسوم آخر هرم منها، وجمع طوائف العمال آلاتهم وانصرفوا إلى أوطانهم، كما هجر الكهنة منذ زمن بعيد تلك المعابد الفاخرة والأبواب العظيمة الأنيقة التي كانت مقامة على جانب الوادي حينما صاروا ولا عائل يعولهم، فأصبحت تلك الجبانة الهرمية التي يبلغ امتدادها ستين ميلًا ثاوية في صمت مقفر مدفونة في الرمال إلى عمق كبير، يغطي نصف حجم مبانيها الخربة بما تحويه من تيجان الأعمدة الملقاء على الأرض والأعمدة المطروحة فوق أديم الغبراء، فهي خرائب مهجورة، لا يُرى بينها إلا شبح ابن آوى المنقرض يتسلل بين دمنها، وكأن رؤية هذا الحيوان المقدس «لأنوبيس» إله الموتى العتيق تشير إلى فشل الحماية التي كان يقوم بها آلهة الصحراء الجنازيون القدامى.
على أنه حتى في يومنا هذا لا يجد الإنسان منظرًا رائعًا مثل منظر جبانات الأهرام المصرية القديمة في أية بقعة من بقاع العالم القديم، ونحن لا نزال نذكر ما شعرنا به من الاحترام الرهيب الذي تركته تلك الجبانات في نفوسنا عندما زرناها للمرة الأولى. ولكن هل كان ذلك التأثير الذي ألمَّ بنفوسنا يحس به خلفاء بناة الأهرام بعد انقضاء بضعة قرون على تشييدها؟ وهل صارت تلك الأهرام من الآثار القديمة في نظر أولئك الأقوام الذين كانوا يعيشون في سنة ٢٠٠٠ق.م؟
نعم إن جبانة الأهرام قد تركت أثرًا عميقًا في عقول الحكماء المصريين القدامى الذين ظهروا بعد انتهاء عهد الاتحاد الثاني. على أنه إذا كان قد وجد في نفس عصر الأهرام بعض الفتور في الاعتقاد بأن الإنسان بالقوة المادية المحضة يمكنه أن يتحكم في الخلود، فإن منظر تلك الخرائب الهائلة الآن قد أيقظ هذه الشكوك عند هؤلاء الحكماء وزاد فيها حتى جعلها شكًّا علنيًّا. وهذا التشكيك قد عُبر عنه بعد ذلك العهد بزمن قصير في صورة أدبية ذات تأثير ظاهر.
ولا شك أن ذلك العصر قد بعد كل البعد عن عهد التسليم بالعقائد التقليدية دون معارضة فيها كما ورثت عن الآباء، فإن عقيدة التشكك تعني تجربة طويلة للعقائد الموروثة، وبحثًا مستمرًّا فيما كان معترفًا به حتى ذاك الوقت دون تفكير، ثم الشعور بالمقدرة الشخصية على الاعتقاد في الشيء أو إنكاره، وهي تعد خطوة مميزة إلى الأمام نحو نمو الوعي النفسي والوازع الشخصي.
على أن عقيدة التشكك هذه لا تنمو إلا بين أفراد الشعب الذي له مدنية ناضجة، ولا تنبت قط في الأحوال الفطرية؛ ولذلك فإن ذلك العصر، البالغ نحو خمسمائة سنة، والذي يمثل قمته أولئك المتشككون الذين جاءوا عقب سقوط الاتحاد الثاني، يعد عصرًا هامًّا في تاريخ التقدم العقلي عند البشر. وقد عبَّر هؤلاء الحكماء عن حالتهم العقلية في مرثية كانت تُغنَّى غالبًا في نوع من الأعياد (يشبه عيد «كل الأرواح») كان يحتفل به في الجبانة أهالي الموتى وأقاربهم عند قبور أجدادهم الراحلين.
وإنه لمن المدهش حقًّا أن نجد ملكًا من ملوك الأسرة الحادية عشرة (أي حوالي سنة ٢١٠٠ق.م) يأمر بنقش هذه الأنشودة فوق جدار مزار قبره، غير أنه يمكننا أن نستنتج من قراءة سطورها أن المغني عندما كان ينشد أغنيته كان يقف على مكان مرتفع يشرف منه على جبانة أهرام الدولة القديمة.
وها هي ذه الأنشودة:
هكذا كان شعور بعض المفكرين المصريين عن ذلك العصر العتيد حينما كانوا يشرفون بأعينهم على مقابر أجدادهم ويدركون عدم فائدة جبانات أهرام الدولة القديمة الشاسعة الأرجاء، ونلاحظ هنا أنه حتى بعض أسماء الحكماء الذين عاشوا قبل ذلك العهد بألف سنة مثل «أمحتب» «وحَرْدادِف» اللذين صارت أقوالهما مضربًا للأمثال، ونالا بذكرهما في الأنشودة تخليدًا لذكراهما أكثر من تخليد الذكر بالقبور الضخمة، قد جاءت ثانية على لسان ذلك المغني. ومن الصعب أن نعتقد أن ذِكر «أمحتب»، وهو أول الاثنين اللذين ورد ذكرهما على لسان المغني، كان من باب المصادفة المحضة؛ فإن «أمحتب» كان أول مهندس للعمارة أقام المباني بالأحجار في نطاق واسع؛ أي إنه أول منشئ للمباني الحجرية. فقد كان «أمحتب» مهندس العمارة للملك «زوسر» الذي عاش في القرن الثلاثين ق.م المشيِّد لأقدم مبنى كبير بالحجر لا يزال باقيًا إلى الآن من آثار العالم القديم، وهو الذي يُسمى «هرم سقارة المدرج». ومن المواضيع البارزة الغريبة في هذه الأنشودة أن يرجع المغني بالإشارة إلى مقبرة ذلك المهندس العظيم، ويذكر أنها في حالة خراب حتى صارت كأنها لم تغنَ بالأمس. والواقع أن مكانها لا يزال مجهولًا إلى يومنا هذا، وكذلك نجد أن «حردادف» الحكيم الثاني الذي جاء ذكره أيضًا في هذه الأنشودة كان ابن الملك «خوفو»، ولهذا كان له اتصال بالهرم الأكبر. وكون تخليد اسمَي هذين الحكيمين أتى فقط عن طريق مداومة ذكرهما والتحدث عن حكمتهما دليل آخر على بطلان تأثير العوامل المادية التي كانت معتبرة وسيلة للخلود والبقاء، كما أن اختفاء أرواح أمثال هذين الرجلين في عالم آخر لا يُرون فيه ولا يرجع إلى الدنيا منه أحد يحدثنا عن مصيره، يعد من أعظم النغمات المشجية الحزينة التي نراها في سطور تلك الأنشودة العتيقة، وكأننا نسمع تلك النغمة يتردد صداها ويتجاوب ترجيعها في الشرق (بعد أن انقضى على عهدها ثلاثة آلاف سنة) في بعض مواضع من رباعيات «عمر الخيام»؛ إذ يقول:
وهنا ينكشف لنا الغطاء عن عقيدة التشكك التي تشك في جميع الطرق، المادية وغير المادية، التي كان يُرى أنها تؤدي إلى السعادة أو أنها على الأقل تؤدي للحياة بعد الموت. ولم يكن لمثل تلك الشكوك من جواب، بل كانت هناك طريقة واحدة فقط يستطيع بها الإنسان إزالتها من ذهنه مؤقتًا؛ وذلك بأن ينغمس في الملاذ الشهوانية التي قد تغطي على أمثال تلك الشكوك وقتًا ما ولو بنسيانها: «كلْ واشربْ وكن فرحًا؛ لأننا سنموت في الغد.»
وأما الرواية الثانية التي كُتبت بها تلك الأنشودة فإنه قد عُثر عليها في قبر كاهن آمون «نفر حتب» في «طيبة»، غير أنها لا تكاد تماثل الأولى ولا تعادلها في التأثير، ومما يؤسف عليه أنها ممزقة، ولكنها على أية حال تحتوي على بعض أسطر قيمة يجب الالتفات إليها، منها:
ثم تستمر الأغنية فتورد تأملات عن الاغترار بالثراء، وكأن ذلك بمثابة تفسير للسطر الوحيد الذي ورد في النسخة الأولى مشيرًا إلى أنه لا يوجد إنسان في قدرته أن يأخذ متاعه عند رحيله عن هذه الدار، فالثراء لا فائدة منه؛ لأن نفس القَدَر قد دهم:
ومن ثم حذر الرجل الغني بما يأتي:
فالمغني الذي يرتل هذه الأنشودة الثانية لا يجد أملًا في التفكير في الموت ومصيره. غير أنه يرى من الخير أن يترك الإنسان وراءه سمعة حسنة دائمة، لا لأن ذلك ينفعه حتمًا في عالم الآخرة، بل لكي تبقى ذكراه في الدنيا على الألسنة وفي أذهان من يأتون بعده. والواقع أن واجب الإنسان من جهة الحياة الخلقية التي فرضها الإله العظيم الذي ستأتي محاسبته للبشر فيما بعد، وكذلك الفوائد التي يجنيها الفرد من دنيا الأموات، وهي التي تأتي بطبيعة الحال بنتيجة للقيام بهذا الواجب، لم يرد لها ذكر في هذه الأغنية التي تتمثل فيها عقيدة التشكك؛ فهي تتجاهل الآلهة بوجه عام، والإله الواحد الذي تذكره هو إله الشمس «رع» أو «آتوم»، وهو الذي يظهر حتى في مناسبة ذكر المومية حيث كنا ننتظر في ذلك ذكر الإله «أوزير». وعلى ذلك يمكن تلخيص تعليم طائفة المتشككين هؤلاء الذين ألقوا تعاليم آبائهم ظهريًّا في أنها إشباع الرغبات النفسية وحسن الأحدوثة بعد الموت.
ولا نزاع في أن بداية التفكير الأخلاقي يرجع تاريخها إلى عهد المسرحية المنفية، غير أن المصريين الأقدمين لم يصلوا إلى الاستقلال النفسي الذي مكَّنهم لأول مرة من تصور المجتمع البشري في كليته، حتى صار بذلك في أنظارهم مملكة يمكن تأملها بإنعام وتدبر، إلا بعد عصر تاريخ تلك المسرحية بنحو ١٥٠٠ سنة ق.م؛ أي في العهد الإقطاعي، وبخاصة بعد سنة ٢٠٠٠ق.م. وقد كانت نتيجة مثل هذا التأمل عند بعض الناس أنهم وقعوا في حالة تشاؤم فظيع. ألم تكن أخلاق المجتمع قد بلغت من الظلم درجة أصبحت معها الرغبة في «السمعة الحسنة» أقل مما تصوَّره مغني أنشودة الضارب على العود؟ وماذا يجني الإنسان من ذلك لو أن سمعته الحسنة ضاعت ظلمًا من غير جرم جناه؟ أو لو أن فرص تمتعه بالملاذ قد قُطعت بالمرض أو سوء الحظ؟ والحقيقة أن هذا الموقف بذاته هو الذي مُثِّل أمامنا في ورقة محفوظة الآن بمتحف برلين، ربما كانت أهم وثيقة وصلت إلينا من ذلك العهد السحيق. ويمكننا أن نسميها «محاورة بين إنسان يائس سئم الحياة وبين روحه»؛ لأن عنوانها القديم مفقود. وموضوع هذه المحاورة العام هو اليأس المستحكم الذي نتج من مثل الحالة السالفة الذكر، فأفضى الشعور به إلى أن الموت هو الخلاص الوحيد من الحياة. وغني عن البيان أن اختيار مثل هذا الموضوع في مثل ذلك العهد السحيق هو أمر من أعجب الأمور؛ إذ هو في الواقع موضوع يصف الحالة العقلية والتجارب الباطنة لنفس معذبة تتألم مما حاق بها من الظلم وسوء الطالع، وبذلك يعد هذا الموضوع أقدم قطعة أدبية تناول موضوعها الخبرة الروحية، وهي في نظرنا تعد أقدم مقال يمثل لنا صورة مما ورد في سفر نبي الله «أيوب» — عليه السلام. وقد كُتب المقال طبعًا قبل أن تظهر التجربة المماثلة الحاوية لمثل هذا الشعور في شعر مماثل بين العبرانيين بنحو ألف وخمسمائة سنة.
ومن المؤسف أن المقدمة التي تقص علينا الأحوال التي دعت إلى ذلك الاضطراب الروحاني قد فقدت، ومع أنه بذلك تنقصنا مقدمة الكتاب فإن بعض الحقائق التي كانت تحتويها تلك المقدمة حتمًا، وتضع أمامنا الأسباب التي أدت إلى تلك المحاورات التي يقدمها ذلك الكتاب، يمكن استنباطها من تلك المحاورات ذاتها. والبائس الذي نحن بصدده (لأننا لم نعرف له اسمًا) كان رجلًا لطيف الروح، ولكنه بالرغم من ذلك قد دهمه الحظ العاثر من كل ناحية، فما كاد يصيبه المرض حتى ابتعد عنه أصدقاؤه حتى إخوته الذين كان من الواجب عليهم القيام بمواساته في مرضه، وبالجملة لم يجد خلًّا وفيًّا، وفي وسط تلك المصائب سرق جيرانه متاعه أيضًا، وما عمله من صالح بالأمس قد نُسي. وبالرغم من أنه كان صاحب حكمة فإنه كان يصد كلما أراد أن يدافع عن حقه، وقد حُكم عليه ظلمًا، واسمه الذي كان يجب أن يكون محل احترام صار نتنًا في أنوف الناس.
والجزء من الوثيقة الباقي الذي وصل إلينا يبدأ بذلك الوقت العصيب عندما كان يضرب في ظلمات اليأس وصمَّم على الانتحار، فتراه وهو واقف على حافة القبر وروحه فزعة من الظلمة تأبى عليه اتباعه في فعلته، ويلي ذلك محاورة طويلة نرى منها أن ذلك التعس كان يناقش نفسه؛ أي يتحدث مع شخص جرَّده من روحه كأنه يتحدث مع ذات أخرى. وقد كان أول الأسباب في عصيان روحه له وامتناعها عن متابعته إلى الحياة الآخرة خوفها ألا تجد قبرًا تقر فيه بعد الموت.
وقد يظهر ذلك غريبًا جدًّا لأول وهلة من رجل اتضح أنه يشك كثيرًا في فائدة مثل تلك المعدات المادية التي كانت تعد للمتوفى عند ترحيله إلى آخرته، ولكننا لا نلبث أن نكشف عن سر ذلك على الفور، فنرى أن هذه كانت حيلة أدبية (كغيرها مما سيأتي ذكره فيما بعد) أراد الكاتب أن يتخذ منها فرصة للتنديد بتلك المعدات الجنازية.
والظاهر أن روحه نفسها قد اقترحت عليه في أول الأمر الانتحار حرقًا، ولكنها فرت بنفسها من تلك النهاية الفظيعة.
ولما لم يكن — من بين الأحياء — صديق أو قريب حميم لتلك النفس يقف بجانب التابوت ويحتفل بجنازته، أخذ يستحلف روحه أن تقوم له بكل ذلك، ولكن الروح أبت عليه الموت في أي شكل كان، ثم أخذت تصف له فظائع القبر: ثم «فتحتْ روحي فمها وأجابت عما قلته: «إذا تذكرت الدفن فإنه حزن وذكراه تثير الدمع وتفعم القلب حزنًا، فهو ينتزع الرجل من بيته ويلقي به على الجبل (أي الجبانة)، ولن تصعد قط ثانية لترى الشمس. على أن هؤلاء الذين بنوا بالجرانيت الأحمر المبنى الجميل وشيدوا قبورهم في الأهرام وصاروا مثل الآلهة ترى هناك موائد قربانهم خاوية كموائد أولئك المتعبين الذين يموتون فوق الجسر من غير خلف لهم فيبتلع الفيضان ناحية من أجسامهم، وتلفحهم حرارة الشمس أيضًا، ويلتهمهم سمك شاطئ النهر ويعبث بهم، أصغِ إليَّ! وإنه لجدير بالناس أن يصغوا، تمتع بيوم السرور وانسَ الهموم».»
هذا إذن هو جواب الروح عندما تمثل أمامها منظر الموت المعتاد، وقد أكد ذلك البائس أن: «من كان في هرمه، ومن وقف أحد الأحياء بجوار سرير موته، يكون سعيدًا.» وقد سعى أن تقوم روحه «بدفنه وبتقديم القرابين له، وتقف عند القبر يوم الدفن لتجهز السرير في الجبانة.»
ولكن كان مثله مثل ضارب العود في الأنشودة السالفة الذكر؛ إذ تذكرت روحه قبور العظماء التي خربت، وموائد قربانهم التي صارت خاوية مثل موائد العبيد التعساء الذين ماتوا كالذباب في وسط الأعمال العامة على جسور الري، وقد صارت أجسامهم عرضة للحر اللافح والسمك الملتهم، في انتظار الدفن، فلم يكن هنالك إلا حل واحد للتخلص من كل ذلك وهو: «أن يعيش الإنسان ناسيًا حزنه منغمسًا إلى آذانه في السرور.»
ويلاحظ أنه إلى هنا لم تختلف هذه المحاورة التي تنحصر كل فلسفتها في أن «يأكل الإنسان ويشرب، ويكون مرحًا؛ لأنه سيموت في غده» عما جاء في أغنية الضارب على العود، ولكننا بعد ذلك نجدها تأخذ في الخروج والافتراق عن زميلتها بنتيجة خطيرة تجاوزت بها حد تلك الأنشودة بكثير؛ إذ أخذت تبين أن الحياة فوق أنها ليست فرصة للسرور والإسراف في اللذات، فهي عبء أثقل حملًا من الموت. وقد وضح ذلك في أربع مقطوعات شعرية خاطب بها ذلك التعسُ روحَهُ، وتلك المقطوعات تؤلف الجزء الثاني من تلك الوثيقة، ولحسن الحظ نجدها أوضح كثيرًا من الجزء الأول، والمقطوعة الأولى تصف لنا مقت العالم بغير حق لاسم ذلك التعس، ويكوِّن كل ثلاثة أبيات منها مقطوعة تبتدئ بالمقطع التالي: «إن اسمي ممقوت.» ثم يرى الكاتب بعد ذلك أن يقوِّي ذلك المقطع بذكر شيء ممقوت مما يوجد في حياة الشعب المصري اليومية، وبخاصة رائحة السمك والطير النتنة السارحة في حياة سكان وادي النيل، وهاك ذكر ذلك:
مقت اسمه ظلمًا
ثم يتلو ذلك ست مقطوعات بنفس الأسلوب. ومع أن ذلك الشعر مركز على وتيرة واحدة لحقيقة أن اسم ذلك الرجل التعس قد صار نتنًا في أنوف أصدقائه، فإننا نجده في الشعر الثاني يترك ذكر نفسه ليصور لنا أولئك الذين كانوا سببًا في بؤسه؛ فنراه يلقي نظرة على مجتمع أهل عصره فلا يجد فيه إلا الفساد والخيانة والظلم وعدم الإخلاص، حتى بين أهل أسرته.
وهذا الشعر أيضًا اتهام رهيب، وكان يستهل كل مقطوعة دائمًا بجملة استفهامية يتردد فيها قوله: «لمن أتكلم اليوم؟»
وربما كان يقصد بذلك: أي صنف من الناس هؤلاء الذين أخاطبهم؟ وقد كان الجواب الذي يعقب كل استفهام برهانًا جديدًا لمقاصده، وهاك ما قاله في ذلك:
فساد الناس
لقد تنحَّت روح ذلك المتألم عن الموت، ثم أخذت تقترح عليه أن يعيش عيشة اللهو والملاذ كطريق للخلاص مثل الذي جاء في أنشودة الضارب على العود، ولما أحس ذلك التعس من أعماق قلبه بفظاعة الموت وأخذ يفهم عدم فائدة العتاد المادي المحض لدفع غائلة الموت، نكص على عقبيه مدة قصيرة ثم عاد يتأمل الحياة. والقصيدتان اللتان دوَّنهما هنا تصوران لنا ماذا رأى عندما رجع لبحث الحياة، أما ما يلي فهو وثبة منطقية، بعد العلم بأنه ليس هناك أي بصيص من الأمل في الحياة، إلى الاقتناع التام بأن الموت هو الخلاص الوحيد من ذلك البؤس الذي انغمر فيه.
فالقصيدة الثالثة إذن أنشودة قصيرة في مدح الموت، غير أنها ليست بحثًا ساميًا في مزايا الموت مثل الذي نطق به «أفلاطون» بعد ١٥٠٠ سنة في قصة موت «سقراط»، كما أنه لا يمكن مقارنتها بالتشاؤم الفلسفي السامي الذي نراه في سفر ابتلاء «أيوب» النبي صلوات الله عليه. ولكنها تعد أقدم صيغة وصلت إلينا عبَّر بها الفرد عما أصابه من العذاب ظلمًا، وأول صرخة من متألم بريء وصل إلينا صداها من عصور ذلك العالم القديم، وهي تعد بحق ذات فائدة فريدة، ولا تخلو من جمال بما احتوته من حرارة نفسية خلابة.
ومما يلفت النظر أنها لا تحتوي على أية فكرة عن الإله، بل تتناول فقط موضوع التخلص السار من آلام الماضي التي لا تحتمل، دون أن تتطلع للمستقبل. وقد كان من خصائص العصر والجو الذي نظمت فيه تلك القصيدة أن يصور ذلك الخلاص السار في شكل صور محسوسة مأخوذة من الحياة اليومية لسكان وادي النيل الأقدمين، وهاك ما قاله في ذلك:
الموت خلاص سار
وموضوع المنظومة الرابعة هو النظرة العاجلة إلى المستقبل النهائي، الذي لم تتعرض لذكره الأنشودة السابقة قط، فإننا نجد في كلٍّ من مقاطعها الثلاثة أنه يبتدئ بقوله: «إن الذي هنالك»، وهو تعبير عادي، وبخاصة إذا ورد بصيغة الجمع. «إن الذي هنالك» يقصد به الأموات، وقد سبق أن رأيناه في النصيحة الموجهة إلى «مريكارع». فمن ذلك «أن الذي هنالك» سيكون نفسه إلهًا «ويوقع عقاب الشر على مرتكبه» لا على البريء كما هو الحال في حياة ذلك التعس الذي نحن الآن بصدده. ومن ذلك أيضًا «أن الذي هنالك ينزل في السفينة السماوية مع إله الشمس، وسيرى أن أحسن القرابين تقدم لمعابد الآلهة ولا تصرف (عبثًا) في الرشوة أو يسلبها السراق من الموظفين.» ومنه أيضًا: «إن الذي هنالك» هو حكيم محترم لا يطرد عندما يشكو إلى الموظفين الفاسدين، بل يوجه شكايته إلى إله الشمس «رع» ويهيئ له تلك الفرصة وجودُهُ يوميًّا مع الإله.
وقد سبق أن أعلن ذلك التعس في بداية شجاره مع روحه أنه مقتنع بتبرئته في عالم الآخرة، ثم هو يعود مرة ثانية إلى ذكر ذلك الاقتناع في المنظومة الرابعة التي هي خاتمة تلك الوثيقة المهمة، وبذلك تكون قد اختتمت بحل كالحلول التي تصورها نبي الله «أيوب» — عليه السلام؛ أي الالتجاء إلى العدالة في الحياة الآخرة (ولو أن «أيوب» — عليه السلام — لم يتخذ من ذلك مبررًا لطلب الموت). وبذلك يكون الموت طريقًا إلى الدخول في قاعة المحاكمة الإلهية؛ ولذلك وجب السعي إلى بلوغ تلك النهاية سعيًا سريعًا، فيقول:
الميزات السامية للقاطنين هنالك (يعني في الآخرة)
ولما كان هذا التعس يتوق للخلاص السار الذي يهيئه له الموت، وكان يظهر عليه أنه قد استعاد بعض الثقة بما سينعم به من الميزات السامية في عالم الآخرة، فإننا نرى روحه تستسلم في النهاية، فيدخل في ظلال الموت ويسير في طريقه ليكون مع «أولئك الذين هنالك».
على أننا نحن بدورنا نرقب بشيء من التأثر هذا الرجل المجهول (الذي يعد أقدم روح بشرية معروفة لنا) يذهب إلى تلك الحجرات الداخلية التي سمحت لنا الأحوال بأن نلقي عليها نظرة سريعة، بعد أن مر عليها أربعة آلاف من السنين.
وكان رجال ذلك العهد الإقطاعي يجدون لذة عظيمة في مثل تلك المؤلفات الأدبية، وقد قام بنقل هذه الورقة التي نحن بصددها، المحفوظة في برلين، كاتب لا تزال ملاحظته الختامية ظاهرة تُقرأ بوضوح في نهاية تلك الوثيقة، وهي: «لقد انتهيت من نسخها من البداية إلى النهاية طبق الأصل المكتوب.» فيكون قد نقلها إذن من أصل قديم، ولا شك أنه كانت توجد عدة صور منقولة مثلها على رفوف مكتبات رجال الفكر في ذلك العصر.
وإن قصة ذلك التعس ترجع في أصلها إلى التجاريب الشخصية التي كان يعانيها فعلًا رجال ذلك الزمان، ولذلك كانوا يجدون فائدة من مطالعتها؛ لأنها في الواقع علامة واضحة في نمو الشعور الذاتي الطويل المدى، وهو التطور البطيء الذي انتهى بظهور الفرد باعتباره قوة خلقية، فصار الفرد يشعر بأن له ضميرًا مسيطرًا يستطيع بإيحائه أن يواجه المجتمع وينتقده.
فبالرغم من أن قصة ذلك التعس هي قصة تجربة شخصية لفرد واحد؛ فإنها مع ذلك تحمل في ثناياها ما يصح أن يكون تحليلًا لأحوال ذلك المجتمع، الذي ترجع إلى نقائصه بوجه عام تلك التجربة الفردية التي مرت بها حياة ذلك التعس.
وفي نصائح «بتاح حتب»، وفي خلال عصر الدولة القديمة كله، وحتى إلى عصر النصيحة الموجهة إلى «مريكارع»، كان المفكرون المصريون الاجتماعيون يجدون سرورًا عظيمًا في البحث في المُثُل العليا للخلق العظيم برزانة وتدبر، وقد أدى بهم ذلك إلى تصورات سامية ونبيلة حقًّا، غير أنهم لم يوجهوا فكرهم إلى موازنة تلك التصورات السامية بالمستوى الخلقي المنحط الذي كان يعيش به المجتمع البشري بالفعل.
وفي النصيحة الموجهة إلى «مريكارع» نجد ذم «ثور الذي يقترف الظلم»، كما نجد بعض الشعور بأن خطايا الإنسان تكدست بجانبه يوم الحساب مثل الجبال، ولكننا بجانب ذلك لا نجد شعورًا بانحطاط المجتمع الخلقي. وها نحن الآن نقترب من الدخول في عصر صار فيه الحكماء المصريون على علم بالفرق الشاسع بين المثل العليا الموروثة للأخلاق العظيمة وبين الانحطاط الخلقي المخيف الظاهر في المجتمع الذي يحيط بهم. وليس هناك من جديد في تجاربنا المشابهة لذلك في العصر الحاضر، ولكن في تجربة التعس المنكود دار البحث أو كاد يقصر على شخص الكاتب، ومن ناحية أخرى نجد اهتمامًا عظيمًا بأمر الانحطاط الخلقي قد أخذ يبدو، مضافًا إليه قدرة الباحث على تأمل وإدراك ما كان عليه الناس من حقارة ومهانة، يتضح ذلك من موضوع تناول الأفكار المحزنة المشبعة بروح التشاؤم عن ذلك العصر العظيم، عصر الوعي النفسي النامي، وأول عصر كشفت فيه الأوهام من المجتمع.
ليتني كنت أعرف صيغًا للكلام لا يعلمها أحد وأمثالًا غير معروفة أو حتى أحاديث جديدة لم تذكر (يعني من قبل) خالية من التكرار، لا ذلك الكلام الذي جرت به الألسن من زمن بعيد مضى، وهو ما تكلم به الأجداد …
إني أقول ذلك بحسب ما قد رأيت، مبتدئًا بأقدم الناس حتى وصلت إلى أولئك الذين سيأتون بعد …
إن العدالة قد نُبذت وأخذ الظلم مكانه في وسط قاعة المجلس، وخُطط الآلهة قد انتهكت حريتها وأهملت نظمها، والبلاد صارت في هم، والحزن عم كل مكان، وصارت المدن والأقاليم في عويل، وكل الناس صاروا على السواء يرزحون تحت عبء الظلم. أما الاحترام فإن أجله قد انتهى …
وعندما أريد أن أتحدث عن كل ذلك تنوء أعضاء جسمي بحمله، وإني في بؤس من أجل قلبي المحزون، وإنه لألم أن أهدئ روعي من جهته. ولو كان قلب آخر لانثنى، (ولكن) القلب الشجاع في الملمات يكون رفيقًا لسيده. ليت لي قلبًا يتحمل الألم، فعندئذ كنت أركن إليه … فتعالَ إذن يا قلبي لأتكلم إليك، ولتجيبني عن كلامي ولتفسر لي ما هو كائن في الأرض … إني أفكر فيما قد حدث. إن المصائب تقع اليوم، ومصائب الغد لم تأتِ بعد، وكل الناس لاهون عن ذلك، مع أن كل البلاد في اضطراب عظيم، وليس إنسان خاليًا من الشر، فإن جميع الناس على السواء يأتونه، والقلوب بالحزن مفعمة، فالآمر والمأمور صارا سواسية، وقلب كل منهما راضٍ بما حصل، والناس عليه (يعني الشر) يستيقظون في صباح كل يوم، ولكن القلوب لا تنبذه، ولا تزال اليوم على ما فعلته في ذلك بالأمس؛ فلا يوجد إنسان عاقل يدرك، ولا إنسان يدفعه الغضب إلى الكلام، والناس تستيقظ في الصباح كل يوم لتتألم. إن مرضي ثقيل وطويل، والرجل الفقير ليس له حول ولا قوة لينجو ممن هو أشد منه بأسًا. وإنه لمؤلم أن يستمر الإنسان ساكتًا على الأشياء التي يسمعها، ولكنه مؤلم أن يجيب الإنسان الرجل الجاهل.
ففي ذلك المقال نجد إنسانًا قد تحركت نفسه من أعماقها بما شاهده من فساد بني قومه، فهو يتأمل هذا المجتمع بصفة كونه وحدة كاملة، ومع أنه كان دائمًا يشير إلى بؤسه فيما ذهب إليه، فإن شقاءه لم يكن هو العبء الرئيسي الذي يقصده بكلامه، بل كان كل همه منصرفًا إلى المجتمع الذي كان مكبلًا بالخمود غير قادر على إدراك شقائه، وحتى لو كان شاعرًا به بأية حال فإنه لم يكن لديه الكفاية التي تمكنه من إصلاح ذاته. وإن كثيرًا من تأملاته خليقةٌ بأن نجد لها المقام اللائق بها بين أقوال الناقدين الاجتماعيين في عصرنا هذا ممن امتازوا بحساسيتهم الخلقية. فمن الواضح إذن أن الإنسان قد وصل وقتئذ إلى عصر استيقظ فيه القوم لأول مرة في تاريخ البشر، وشعروا بإحساس عميق بما أصاب المجتمع البشري من الانحطاط الخلقي.
وقد كان هذا الاتجاه الجديد في تفكير أولئك المفكرين الاجتماعيين راجعًا إلى حد ما إلى ظهور إدراك خلقي حساس متزايد، ولكن أسبابًا أخرى ساعدت على انقشاع الوهم؛ فهؤلاء المفكرون كانوا قد تأثروا تأثرًا عميقًا بتأملهم للحياة البشرية الاجتماعية فوق الأرض والمصير الإنساني للحياة الآخرة فيما بعد الموت. وقد لاحظنا فيما سبق بعض ما شعروا به من خيبة الأمل عندما انكشفت لهم عدم فائدة العوامل المادية المحضة لضمان سعادة الروح في الدار الآخرة. فهذه الأمور المادية التي كانت تقليدًا للأجداد يرجع تاريخه إلى أزمان غابرة قد انهدمت، وبانهيارها ذهب معها كل ما كان يُعتبر ضمانًا لحياة الإنسان في عالم الآخرة.
ومن المحتمل أن ثقتهم التقليدية المتينة في حكمة أجدادهم كانت قد انهارت من أساسها انهيارًا عنيفًا؛ لأنه إذا كان ذلك موقفهم من التقاليد الموروثة الخاصة بالحياة في عالم الآخرة، فإنهم صاروا أقل اقتناعًا بما يتعلق بالحياة الراهنة؛ فقد قام لمدة ألف سنة نظام قومي ثابت الأركان كان يمثله ويحافظ عليه الفرعون، وكان اسم ذلك النظام «ماعت» (أي الصدق – الحق – العدالة)، ولكن هذا النظام كذلك قد أخذ هو الآخر ينهار إذ ذاك؛ فقد رأينا بالفعل في النصيحة الموجهة إلى «مريكارع» أن الأمة قد انقسمت قسمين، شمالي وجنوبي، وأن الملك كان همه منصرفًا إلى تحصين مملكة الشمال من خطر الغزاة الأجانب. وقد انحلت تدريجًا قوة الأمة النظامية التي دامت مدة طويلة، حتى كشف الغزاة الأجانب عن مواطن الضعف في البلاد التي كانت في يوم ما أمة عظيمة، وتدفق الغزاة الأجانب إلى الدلتا من جهة آسيا شرقًا، ومن جهة لوبيا غربًا، وهكذا سادت الفوضى في البلاد تمامًا. ولا بد أن تلك النكبة هي التي وصفها لنا كاهن عين شمس المتقدم ذِكره في الرثاء الذي أوردناه.
وقد أظلم تفاؤل حكماء الدولة القديمة الهادئ، الذي عبَّرت عنه حِكم «بتاح حتب»، على أثر وقوع نكبة مزدوجة، كانت أولًا ضياع الأمل جملة في الحياة الأخرى؛ ذلك الأمل القائم على إعداد العتاد المادي الوفير للحياة الأبدية؛ وثانيًا الانهيار المحزن لذلك النظام الإداري الخلقي الذي كان يبدو خالدًا، والذي كان الدعامة التي قامت عليها حياة المجتمع البشري للأمة المصرية القديمة. وقد هوى في ظلام شامل أمل الرجال المفكرين — مثل كاهن عين شمس — في هذه الحياة والحياة المقبلة، ولم يكن في مقدور أحد حتى إله الشمس نفسه كشف هذه الغمة؛ إذ في خلال حياة قومية دامت نحو ألفي سنة قد أقامت الإنسانية المنظمة بعض القيم الخلقية التي كان يُنتظر لها الدوام والاستمرار، ولكن ما كان يعتز به القوم من تلك القيم الخلقية قد محي كليَّة.
وقد كان ذلك أول عصر معروف في التاريخ كُشف فيه عن الأوهام الاجتماعية، على أن مثل ذلك الانهيار التام الظاهري قد حاق بالآمال البشرية مرارًا عدة منذ ذلك العهد، وكان آخر تلك الانهيارات ما حدث بنا بعد الحرب العالمية مما لا يزال يخيم علينا للآن بويلاته. فهل كان العويل على تلك الحال هو الجواب الوحيد الذي أجاب به المصريون الأقدمون حينما كانت تلك الأشباح التي تقشعر منها الأبدان تخيم حولهم؟!
وإننا نرى من ناحيتنا نحن الذين لا نزال نحارب الفساد ونعالج سوء الإدارة الموجودين للآن في الحكومة البشرية في جميع العالم، أنه من الأمور الهامة في نظرنا أن نتتبع ما أجاب به أولئك القوم، الذين مضى على زمنهم ٤٠٠٠ سنة، من جواب جريء وأفكار صائبة عندما وجدوا أنفسهم قد أصبحوا مغمورين في مثل تلك النكبة التاريخية الأولى التي حفظتها لنا الوثائق الإنسانية القديمة المدونة.
وإني أظن أن المؤلف يقصد من عبارته كالماء الذي يحل محله الماء إلخ، أن الإله الذي شبه بالماء إذا حل في أي جسم كان سواء أكان من النحاس أو أية مادة أخرى فإنه لا بد أن يجد لنفسه منفذًا ليخرج منه ويظهر قوة، فإذن يصير تصوير الإله في أي شكل مادي ليس بالأمر المهم (المعرب).