الأنبياء الاجتماعيون الأوائل وفجر المسيحية (التبشير)
إن ما أبرزه لنا كلٌّ من ذلك الرجل التعس وكاهن عين شمس المسمى «خِع خِبرو رع سُنِب» من سوء الظن المطلق بالحياة الدنيا، لم يكن أمرًا عامًّا؛ إذ كان يوجد رجال مفكرون لا يزالون يمنون أنفسهم بدنو الأيام ذات الأحلام السعيدة في المستقبل القريب، وذلك بالرغم مما يعرفونه عن فساد المجتمع، وما ترتب على سوء الحكم في البلاد من النتائج الوخيمة (يعني خسوف ماعت).
ولما كان تدهور البلاد الإداري نفسه له دخل عظيم في وقوع تلك النكبة الاجتماعية بالبلاد، فقد جعل ذلك بعض المتفائلين يعتقدون بأن قيام حكومة أحسن حالًا مما هم فيه خليق بأن يعيد النظام المندثر ويعلن قدوم يوم أكثر إشراقًا، بل انبثاق فجر «عهد ذهبي»، وإذا كانت الحال كذلك فهلموا إلى حكومة حسنة وليخسأ الفساد!
إن الجواب عن ذلك كان واضحًا جليًّا عند المفكر الاجتماعي القديم، فقد كان بعض أولئك المفكرين مقتنعًا بإمكان الدخول في عصر جديد على أساس جيل من الموظفين الأمناء العدول، ورأى آخرون أن تحقيق ذلك يتأتى على يد ملك عادل مخلص مجدد ينقذ المجتمع مما فيه.
فعندما فحص رجال الطائفة الأولى الحياة رأوا وجوب التمسك بالمبادئ العملية السليمة للحياة الحقة التي يمكن أن تطبق على الحياة اليومية لطائفة الموظفين، وهؤلاء المفكرون كانوا لا يزالون يؤمنون بوجوب سيادة الحق الخالد؛ الذي هو «ماعت» القديمة، وقد استمروا على تمسكهم بأهداب ذلك الأمل ووجوب إعادتها للسيطرة على الحياة المصرية. وهذه الآراء قد عُبر عنها في مقال يمكننا أن نسميه «الفلاح الفصيح»، ومن حسن الحظ أن ذلك المقال لم يصل إلينا عن طريق نسخة متأخرة محرَّفة مثل الكثير غيرها من وثائق ذلك العصر التي وقعت بأيدينا، بل بقيت محفوظة حتى وصلت إلينا في لفافة من البردي الفخم الذي كُتب في ذلك العصر الإقطاعي، وتلك اللفافة محفوظة الآن بمتحف «برلين».
على أننا لم نهتدِ إلى معرفة اسم مؤلفها، وهو أمر جرت به العادة في مخلفات ذلك العصر المجهول. وقد وضع المؤلف بين أيدينا في ذلك المقال مناقشاته في هيئة قصة شرقية ممتعة مؤلفة، ضمَّنها وهي في شكلها المسرحي سلسلةً من الأبحاث عن خلق الموظف المستقيم وما انطوت عليه روحه، وما ينجم عن ذلك من إقامة العدالة الاجتماعية والإدارية نحو الفقير.
ولعلنا بهذه المناسبة نذكر الكلمات الدالة على اليأس التي فاه بها «خع-خبرو-رع-سنب» حيث قال: «وصار الرجل الفقير لا قوة له تحميه ممن هو أقوى منه.» ولعلنا كذلك نذكر أن «مريكارع» قد حدثه والده فيما نصحه به قائلًا له: «إن الموظف الذي يقول: «ليت لي» ليس عادلًا، بل يظهر التحيز إلى جانب الفرد الذي بيده الهدية (يعني الرشوة).» وقد كان العلاج الذي نُصح به الأمير «مريكارع» من والده في «أهناسية» لإصلاح تلك الحال هو أن يجعل لكل موظف مرتبًا وفيرًا.
وسنرى الآن أن ذلك العلاج وحده كان غير ناجع؛ لأننا سنجد فيما يأتي بعد، أنه وقع على مشهد من القصر الملكي بجوار «أهناسية» اضطهاد غاشم أقدم على ارتكابه موظف فاسد الأخلاق في ضيعة «المدير العظيم لبيت الملك» في ذلك الزمن، وهو يدل دلالة قاطعة على أن الوظيفة ذات المرتب الضخم لا تغرس في نفس صاحبها العدالة، ولن تغني الفقير شيئًا من اضطهاد رجال الحكومة له.
ومن الأمور الشائقة أن نرى ذلك المفكر القديم الذي كتب «قصة الفلاح الفصيح» منذ ٤٠٠٠ سنة وهو يجاهد ليظفر بالتغلب على تلك العقبة الكأداء، عقبة فساد الحكم التي بقيت منذ ذلك العصر من أعقد المسائل المستعصية على المشرفين على الإدارة في الشرق، وهي في الواقع مسألة لم يهتدِ إلى حلها حلًّا كاملًا للآن في مصر الحديثة حتى بعد وجودها تحت الإدارة الإنجليزية الحاذقة المجرِّبة.
ومجمل هذه القصة أن فلاحًا من أهالي إقليم «الفيوم» في منطقة وادي النطرون الواقعة في الصحراء الغربية كان يقطن قرية تسمى «حقل الملح»، وجد أن مخزن غلال أسرته أشرف على النفاد، فحمل قطيعًا صغيرًا من الحمير بحاصلات قريته وسار به نحو مدينة «أهناسية» الواقعة بالقرب من مدخل «الفيوم»، يريد أن يستبدل بحاصلاته غلالًا، وكانت الحالة تحتم عليه المرور من طريق به منزل رجل يدعى «تحوتي ناخت»، وهو موظف صغير من موظفي «رِنزي» الذي كان إذ ذاك من الأشراف، وكان يحمل لقب «المدير العظيم لبيت الفرعون». وكانت بلدة «أهناسية» مقرًّا للملك، فعندما رأى «تحوتي ناخت» حمير الفلاح تقترب منه دبَّر حيلة لاغتصابها بما عليها، فأرسل على الفور أحد الخدم إلى منزله فجاء بصندوق مملوء من نسيج الكتان، فأخرج النسيج ونشره على الطريق العامة حتى غطاها كلها، من حافة حقله المزروع قمحًا الواقع على الجانب الأعلى من الطريق إلى ماء الترعة الذي يقع في الجانب المنخفض منها.
وكان ذلك الفلاح البريء — كما تقول القصة — يتقدم في سيره «على الطريق العامة لكل الناس» وهي التي سدها «تحوتي ناخت» المذكور بنسيجه ذلك — ويلاحظ هنا ما تكشف عنه عبارة كاتب القصة من الغضب — ولما كان الفلاح يخشى السير في الماء الذي في الجهة المنخفضة من الطريق فإنه آثر السير بحميره المحملة في الجهة العليا منها محازيًا حافة حقل القمح، وفي أثناء السير التقم أحد الحمير بضع سيقان من جذور ذلك القمح المغري، فتهيأت بذلك في الحال الفرصة المدبرة التي تمناها «تحوتي ناخت» الماكر الذي كان يترقب ذلك عن كثب. وفي هذا اللحظة تقدَّم الفلاح إلى «تحوتي ناخت» مقدمًا له الاحترام والخضوع بكلامه وهيئته، ولكن بما لا يحط من كرامته، فما كان من «تحوتي ناخت» المذكور إلا أن زمجر وسخط وقبض على الحمير. عند ذلك عاود الفلاح إيضاح ظروفه في أدب واحتشام، ثم أردفه باحتجاج جريء فانبرى يقول: «إن طريقي مستقيمة، وقد سُد أحد جانبيها، وعلى ذلك سرت بحميري على تلك الحافة. أتغتصب حميري لأن واحدًا منها التقم ملء فيه من سيقان قمحك؟ إني أعرف رب هذه الصيغة، فهي ملك «مدير البيت العظيم» «رنزي بن مرو»، وأعرف أنه هو الذي يقضي على كل سارق في أنحاء هذه البلاد، فهل أُسرق في ضيعته؟»
فلما أحفظت «تحوتي ناخت» جسارة هذا الفلاح أمسك بغصن من الأثل الأخضر وأخذ يضرب فريسته بدون رحمة ولا مبالاة بصياح الفلاح واحتجاجاته المتكررة، واستاق كل الحمير إلى منزله، وقضى الفلاح المسكين أربعة أيام يرجوه فيها إرجاع الحمير بدون جدوى، وطوال هذه المدة كان يتألم لبعده عن أسرته التي أشرفت على الموت من الجوع، فصمم على رفع شكواه إلى «مدير البيت العظيم» نفسه الذي حدث في ضيعته ذلك الاعتداء الصارخ، وزاد الفلاح شجاعة في رفع شكايته إليه ما اشتهر به «مدير البيت العظيم» من حبه للعدالة حتى صار مضربًا للأمثال في عدالته. وبينما يقترب الفلاح من المدينة إذ قابله لحسن حظه «مدير البيت العظيم» المقصود خارجًا من باب ضيعته الواقعة على النهر وهو يسير في طريقه للركوب في قاربه الرسمي في الترعة. وعند ذاك استطاع الفلاح، بما أوتيه من أدب جم وسيطرة على أساليب البيان وتوجيه للأقوال الحسنة التي تليق لمثل ذلك المقام، أن يسترعي أذن ذلك الرجل العظيم، فأصغى إليه بعض لحظات في أثناء مسيره لركوب قاربه، ثم أرسل بأحد خدمه ليسمع قصة ذلك الفلاح، فلما رجع الخادم وأخبر «رنزي» بتلك السرقة التي ارتكبها «تحوتي ناخت» لم يسع «مدير البيت العظيم» إلا أن يبسط ذلك الأمر على حاشيته من الموظفين، فكان جوابهم إزاء ما حصل هو بيت القصيد الذي احتال المؤلف بمهارته حتى جعله فرصته لأن يضع أمام القارئ — بدون تعليق — صورة واضحة للمعاملة الشائعة التي كانت تقابل بها مثل شكاية ذلك الفقير في الدوائر الحكومية؛ إذ انحاز في الحال زملاء مدير البيت إلى جانب مرءوسهم «تحوتي ناخت» السارق؛ ولذلك كان جوابهم على «رنزي» جوابًا ملؤه عدم المبالاة، قائلين له: «إن القضية يحتمل أن تكون قضية فلاح قد دفع ما يستحق عليه من الضرائب إلى رئيس غير رئيسه خطأ، وإن «تحوتي ناخت» قد استولى على ما يستحقه من الضرائب بحق من الفلاح.» ثم تساءلوا بغضب: «هل يعاقب «تحوتي ناخت» بسبب قليل من النطرون والملح؟ أو على أكثر تقدير في موضوع كهذا، يصدر إليه الأمر بإعادتها، وهو بلا شك معيدها له!» ومما يلفت النظر هنا وينطبق على ما اعتادته طبقة أولئك الموظفين أنهم تجاهلوا الحمير كلية، وهي التي كان ضياعها معناه موت ذلك الفلاح وأسرته جوعًا.
وفي ذلك الوقت نفسه كان الفلاح واقفًا على مقربة يسمع بضياع ماله وخرابه المحتم، يتغاضى عنه رجال السلطة ويتجاهلون أمره. وفي تلك الأثناء كان «مدير البيت العظيم» يجلس شبه حالم في صمت. وهذا المشهد يمثل لنا باختصار طابعًا طُبعت به عصور كاملة من التاريخ الاجتماعي في الشرق، فمن ناحية نرى تلك الطائفة المنعمة من أتباع ذلك الرجل العظيم، بما نشئوا عليه من المطاوعة والملق، وهم في ذلك يمثلون الطراز الغالب في طبقة الموظفين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نشاهد صورة ذلك الفلاح المنكود الحظ الذي لا صديق له ينصره وقد اغتُصب متاعه فتتمثل فيه صورة مؤثرة للمطالبة بالعدالة الاجتماعية. وهذا المنظر يعد من أقدم الأمثلة الدالة على المهارة الشرقية في تصوير المبادئ المعنوية في شكل مواقف ملموسة، وهي التي صورت فيما بعد أبدع تصوير في أقوال «عيسى» — عليه السلام.
وقد شعر «مدير البيت العظيم» بسرور عظيم من لباقة الفلاح، الخارقة للعادة، البادية في حسن منطقه وفصاحة لسانه، حتى إنه تركه دون أن يقطع في قضيته برأي، وذهب على الفور إلى البلاط حيث قال للملك: «يا مولاي، لقد عثرت على أحد أولئك الفلاحين يحسن القول بحق.» فسُرَّ الملك سرورًا عظيمًا، وكلَّف «مدير البيت العظيم» أن يصحب الفلاح معه دون أن يقطع في قضيته برأي؛ رغبة في أن يرتجل له الفلاح خطبًا أخرى أيضًا. وكذلك أمر الملك بتدوين أقواله بدقة، وأن يقدم له الطعام وكل ما يلزمه، وأن يُرسل خادم إلى قريته ليتحقق أن أسرته ليست في حاجة إلى شيء ما خلال تلك الفترة التي يقضيها عند الملك. وقد نتج عن تلك الإجراءات أن أخذ الفلاح يلقي على أسماع «رنزي» ما لا يقل عن ثماني شكايات.
وعند هذه النقطة تنتهي هذه المقدمة التمثيلية، وهي التي كان الغرض منها أن تسبغ على ذلك المقال الاجتماعي ثوبًا يجعله في صورة قصة، وبعد ذلك تبتدئ الخطب الثمانية التي يتألف منها جميعًا ذلك المقال الاجتماعي.
وتلك الخطب الموجهة إلى «مدير البيت العظيم» «رنزي» تصوِّر لنا في أول الأمر خيبة الأمل المحزنة التي صادفها الفلاح في اعتقاده بما اشتهر به ذلك الرجل العظيم من أنه لا يحيد عن العدل.
وعلى ذلك يبتدئ خطابه الثاني بالتقريع، فيقاطعه «رنزي» في ذلك بالتهديد، فلا يثني ذلك من عزم الفلاح ويواصل تقريعه.
أما خطابه الثالث فيعود فيه إلى مدائح كالتي كان ذكرها في أول شكاياته «إلى رنزي»، فتراه يقول: «يا أيها المدير العظيم للبيت الملكي، مولاي، إنك «رع» رب السماء مع حاشيتك، إن أقوات بني الإنسان منك؛ لأنك كالفيضان، وأنت إله النيل الذي يخلق المراعي الخضراء ويمد الأراضي القاحلة، ضيِّق الخناق على السرَّاق، واحمِ التعس، ولا تكونن كالسيل ضد الشاكي. احذر، فإن الأبدية تقترب، وفضِّل أن تعمل حسب المثل القائل: «إن نَفَس الأنف إقامة العدل أو الحق (ماعت)»، ونفِّذ العقاب في من يستحق العقاب، وليس هناك شيء يعادل استقامتك. هل يخطئ الميزان؟ وهل تميل عارضة الميزان إلى أحد الجانبين؟ … لا تنطقن كذبًا؛ لأنك عظيم (وأنت بذلك مسئول)، لا تكن خفيفًا؛ لأنك ذو وزن، ولا تتكلمن بهتانًا؛ لأنك الموازين، ولا تحيدنَّ؛ لأنك الاستقامة. افهم أنك والموازين سيان، فإذا مالت فإنك تميل (كذبًا)، ولسانك هو المؤشر العمودي للميزان، وقلبك هو المثقال، وشفتاك هما ذراعاه.»
وقد وجدت الموازين في ذلك المقال لأول مرة في تاريخ الأخلاق، وقد بقيت صورتها وهي منصوبة في يد إلهة العدالة العمياء رمزًا لذلك إلى يومنا هذا.
والحقيقة أن ذلك الرمز ترجع نشأته إلى ظهوره بين رجال الفكر في العهد الإقطاعي بمصر منذ أربعة آلاف سنة، ولم يكن الأمر قاصرًا على تصوير الميزان بأكمله بمثابة رمز للاستقامة في ذلك العهد الإقطاعي، بل كانت أجزاؤه كذلك تستعمل على الدوام لذلك الغرض أيضًا؛ فنجد «العامود» الذي يرتكز عليه الميزان، كما نجد «عارضة» الميزان التي تتدلى منها كفتاه، وكذلك نجد بوجه خاص «خيط الميزان»، ونجد «الثقل» المربوط فيه، وهو الذي يتدلى من قطعة خشبية بارزة عند قمة العامود الذي يرتكز عليه الميزان، ونجد كذلك «لسان» الميزان (المؤشر) الذي يمتد عموديًّا إلى أسفل من وسط العارضة التي تحمل كِفَّتي الميزان ويتحرك معها كلما تحركت. وعند الوزن يمكن موازنة اللسان دائمًا بخيط الوزن المعلق من خلفه، حتى إذا ما كان طرف اللسان على استقامة واحدة مع خيط الثقل؛ فإن عارضة الميزان تكون أفقية تمامًا وتكون الكفتان متوازنتين ومستويتين، وعلى هذا يكون خيط الميزان الذي لا يحيد هو الضابط الصحيح الذي يحفظ الميزان عن الخطأ.
ولا يفوتنا أن نلاحظ هنا أن الفلاح كان يذكِّر «مدير البيت العظيم» بظهوره أمام محاسبة الموازين التي لا تتحيز إلى جهة دون الأخرى؛ إذ يقول له: «احذر لأن يوم الآخرة يقترب.» وهذا المثل من الأمثلة القليلة التي يلتجأ إليها في الشكايات بتحذير الظالم مما يتعرض له من المسئولية في الحياة الآخرة، ويوجد كذلك مثال آخر من ذلك النوع في تلك الوثيقة بالخطبة الثانية من خطب الفلاح.
وقد صارت الآن تهديدات الفلاح «لمدير البيت العظيم» أكثر مما يحتمل في شدتها أثناء وقوفه أمام القصر، ومن أجل ذلك أرسل خادمين ليجلدا ذلك الرجل التعس، ولكن بالرغم من ذلك فإن الفلاح انتظر قدوم «رنزي» من غير خوف وهو خارج من معبد العاصمة وواجهه بخطبة رابعة، ثم تلاها بخطبة خامسة. وبالرغم من أن هذه كانت أقصر خطبه كلها فإنها ألذعها في الاتهام؛ إذ يقول: «لقد نُصِّبت لتسمع الشكاوى، وتفصل بين المتخاصمين، وتضرب على يد السارق، ولكنك تتحالف مع السارق، والناس تحبك رغم أنك معتدٍ، ولقد نُصِّبت لتكون سدًّا للرجل الفقير يحميه من الغرق، ولكن انظر فإنك أنت فيضانه الجارف.»
كل هذا و«رنزي» كان لا يزال ملازمًا للصمت، فيبتدئ الفلاح خطابه السادس لاجئًا من جديد إلى عاطفة العدالة التي اتصف بها «مدير البيت العظيم» وما اشتهر به من حب الخير، فيقول له: «يا مدير البيت العظيم، اقضِ على الظلم وأقم العدل وقدِّم كل ما هو خير، وامحُ كل سيئ، حتى تكون كالشبع الذي يقضي على الجوع، أو كاللباس الذي يخفي العري، أو كالسماء الصافية بعد سكون العاصفة الشديدة، أو كالنار التي تطهو الطعام، أو كالماء الذي يطفئ الغُلَّة.»
ولما استمر «رنزي» لا يحير جوابًا أيضًا على ذلك الاستعطاف اهتاج الفلاح الشقي وعاد إلى نغمة القدح من جديد، فأخذ يقول له: «إنك متعلم، إنك مهذب، لقد تعلمت ولكن لا لتكون سارقًا، إنك متعود لأن تفعل ما يفعله كل الناس، وقد وقع مثلك أقاربك في نفس الأحبولة. وأنت يا من تمثل الاستقامة بين كل الناس قد صرت على رأس البغاة في كل البلاد، إن البستاني الذي يزرع الشر، يروي حقله بالعسف ليثمر زرعه البهتان، وبذلك تغمر الضيعة بالشر.»
ولما لم يكن في مقدور ذلك الفلاح أن يكبح جماح غضبه، فإنه أخذ يلقي خطبته الثامنة، واستمر في قدحه فيقول: «إن قلبك جشع، وذلك لا يليق بك، إنك تسرق، وذلك لا ينفعك … إن الموظفين الذين نُصِّبوا لدرء الظلم هم مأوى لمطلقي العنان، وحتى الموظفين الذين أقيموا لمنع الظلم أصبحوا أنفسهم ظالمين.»
ولما لم يَفُه «رنزي» بجواب على هذه الكلمات السامية، رفع الفلاح صوته عاليًا مرة أخرى، وألقى مرافعته النهائية اليائسة وهي خطبته التاسعة، التي يذكِّر فيها «مدير البيت العظيم» بخطر الانضمام إلى جانب الغش؛ لأن من يأتي فعلًا كهذا «لا يرزق أولادًا ولا يجد من يرثه على الأرض، ومن يقلع في سفينته (الغش) فلن يرسو على الأرض ولن تربط مراسي سفينته في الميناء … ومن لا يكترث لا أمن له، ولا صديق لمن يصم أذنه عن الحق، والجشِع لا يحظى بيوم سعيد … انظر فإني أبث شكواي إليك ولكنك لا تنصت، فسأذهب إذن وأبث شكايتي منك إلى «آنوب».»
ولما كان «آنوب» هو إله الموتى فإن الفلاح كان يقصد من ذهابه إليه أنه سينتحر، وعندئذ يرسل «مدير البيت العظيم» خادمه ليجيء بالفلاح ثانية بعد أن همَّ بالرحيل، وإذ ذاك يتبادلان سويًّا بعض العبارات المبهمة المعنى. على أن «رنزي» كان في خلال ذلك الوقت قد دوَّن في بردية جديدة كل شكايات الفلاح بحسب ترتيبها، والمفروض أن ما انحدر إلينا من تلك الوثائق هو نسخة من هذه البردية، ولكن مما يؤسف له أن خاتمتها ممزقة أشد التمزيق، ويمكننا أن ندرك أن لفيفة البردي التي أعدها أمناء أسرار «رنزي» قد حملها «رنزي» هذا إلى الملك، وقد وجدها الملك «سارة لقلبه أكثر من أي شيء في كل البلاد.»
وبعد ذلك يأمر الملك «مدير البيت العظيم» أن يفصل في قضية الفلاح، وإذ ذاك يحضر المختصون بهذا العمل سجل الضرائب الذي يحدد الناحية التابع لها ذلك الفلاح بالصفة الرسمية، كما يبين موقفه القانوني والاجتماعي وعدد أفراد أسرته ومقدار ثروته، ثم يعقب ذلك في الوثيقة بعض كلمات مفتتة، يقل عددها عن اثنتي عشرة كلمة، يمكننا أن نفهم منها على وجه التقريب أن «تحوتي ناخت» قد عوقب، وأن ممتلكات ذلك الموظف الجشع المغتصب قد أعطيت للفلاح.
ومما يسترعي النظر حقًّا أن نجد أشراف رجال البلاط الفرعوني منذ أربعة آلاف سنة مضت يهتمون بإسعاد حال الطبقات الدنيا لدرجة أنهم كانوا يكلفون أنفسهم مشقة تدوين مثل تلك المقالات، التي لم تكن بداهة إلا بمثابة دعاية إلى نظام قوامه العدل والشفقة بالفقراء. وأمثال أولئك الرجال كانوا حملة أقلام لإعلان حرب مقدسة لنصرة العدالة الاجتماعية، وقد جعلوا ذلك المقال بالذات ممتعًا في قراءته لطبقة الأغنياء الموجه إليهم ذلك المقال. وبالرغم من الغموض المستمر في لغته، وأسلوبه الرنان واستعاراته القوية وتشبيهاته الغريبة، مما جعل الكثير من فصاحة ذلك الفلاح مستعصية الفهم على أبناء هذا العالم الحديث، فإن ذلك المقال قد اكتسب في عصره مكانة جعلته أدبًا من الطراز الراقي. ولا شك أنه كُتب بالأسلوب الذي كان مستحسنًا عند أهل ذلك العصر، وأن ذلك التهكم الفكه اللاذع الذي يبدو في بعض نواحيه كان مما يزيد في شهرته الأدبية عند قدماء المصريين الذين كانوا محبين بطبيعتهم للتفكه، ولكنه مع ذلك كان أدبًا يرمي إلى غرض خلقي.
وقصة ذلك الفلاح الفصيح تعد تصويرًا حيًّا ناطقًا عن عجز أولئك الموظفين الأمناء إذا لم يكن يشد أزرهم ملك عادل رءوف، وقد كان هناك في ذلك العصر مفكرون اجتماعيون يحسون بالحاجة إلى وجود حاكم عادل، وكان من بين الحكماء الذين يتطلعون إلى وجود مثل هذا الملك العادل، الحكيم «إبور»، وهو أحد الأنبياء الاجتماعيين الذين عاشوا في ذلك العصر العظيم، وقد ألف مقالًا في شكل تمثيلي مؤثر، لم يقتصر فيه على اتهام أهل عصره بحرارة فحسب، بل ضمَّن مقاله أيضًا وصايا إيجابية يرمي من ورائها إلى إيجاد نهضة يتجدد بها المجتمع، بل ذهب به الأمل أيضًا إلى ترقب عصر ذهبي يأتي به ذلك الإصلاح المنشود.
ويمكن تلخيص تلك الوثيقة فيما يأتي: يقوم الحكيم «إبور» بإلقاء اتهام طويل مفعم بالغضب عن حالة عصره أمام ملك (لم يعرف اسمه بالتحقيق الآن)، وبحضور آخرين يحتمل أنهم كانوا حاشية ذلك الملك مجتمعين عنده في ذلك الوقت، وينتهي بالنصيحة والتحذير من الإهمال في الأخذ بالإصلاح، ويلي ذلك رد قصير من جانب الملك، ثم ينتهي المقال بتعقيب قصير للحكيم المذكور على الرد الملكي.
وهذا الخطاب الرئيسي الطويل الذي قام بإلقائه ذلك الحكيم يشغل الجانب الأكبر من المقال، كما أن الاتهام يشغل من الخطاب ما لا يقل عن الثلثين [أي بنسبة نحو عشر صفحات من الأربع عشرة صفحة التي يحتويها الخطاب]، على أنه لم يراعِ في ذلك الاتهام أي ترتيب منطقي في عناصره، بالرغم مما بذل من الجهد الظاهر في تنسيق أقوال ذلك الحكيم بوضعها على هيئة مقاطع مقفاة، وكل مقطوعة منها تبتدئ بنفس العبارة السابقة لها، على النمط الذي رأيناه في شعر الرجل التعس.
ويرجع السبب في سوء النظام هذا إلى حالة الهياج والحروب الدائرة في داخل البلاد: «فالرجل يضرب أخاه من أمه، فما العمل في ذلك؟ … انظر فإن الرجل يُذبح وهو بجانب أخيه، في حين أن أخاه يتركه حتى ينجو هو بنفسه … والرجل ينظر لابنه نظرته إلى عدوه … ويذهب الرجل إلى الحرث والزرع وهو مسلح بدرعه …»
ويضاف إلى سوء النظام وإلى الثورة الداخلية أهوال الغارات الأجنبية على البلاد، فإن أملاك مصر بعد أن صارت فريسة لسوء النظام والفتنة الضاربة أطنابها بالبلاد قد صار رجالها أيضًا غير قادرين على صد غزوات الآسيويين عن حدود شرق الدلتا، وحاق الهلاك بالأملاك المصرية ووقف سيل الحركة الاقتصادية: «انظر، فإن كل أصحاب الحرف لا يقومون بأي عمل قط، وأعداء البلاد يفقرونها في حرفها، [انظر، إن الذي يحصد] المحصول لا يعرف عنه شيئًا، ومن لم يحرث الأرض [يملأ أهراءه] … انظر، إن الماشية قد تُركت ضالة في السبيل، ولا يوجد أحد يجمعها ويلم شتاتها، فكل إنسان يأخذ لنفسه منها ما يسمه (يعني بالكي) … والحروب الداخلية لا تأتي بضريبة … وما فائدة بيت المال الذي لا دخل له؟»
والوقوع في مثل تلك الأحوال كان محتملًا؛ لأن الأمن العام والتجارة قد اختفى أثرهما، «وبالرغم من أن الطرق كانت محروسة فإن الناس كانوا يترصدون في الأدغال حتى يمر السائح الذي دهمه الليل ويسلبوه ما يحمل ويجردوه مما معه بالعصي ويُذبح ذبحًا شنيعًا.» «وفي الحق أن البلاد كانت تدور على عقبها (أي إن نظام الأشياء مقلوب رأسًا على عقب) كما تدور عجلة صانع الفخار، فمن كان لصًّا صار رب ثروة، والغني صار إذ ذاك إنسانًا منهوبًا.» وهكذا انقلبت أوضاع كل الأشياء، طبقًا لما يدل عليه مفهوم تشبيهها بعجلة صانع الفخار، فانهارت الشئون الاجتماعية انهيارًا تامًّا.
وإننا نجد في أطول مجموعة من فقرات تلك الوثيقة — التي أنشئت على وتيرة واحدة — أن ذلك الحكيم يضع أمامنا صور تغير الأحوال بالنسبة لأفراد معينين وطبقات خاصة من المجتمع، فيضاهي في الفقرة الواحدة بين ما كان عليه الماضي وما هو جارٍ في ذلك الوقت؛ إذ نراه يقول: «انظر، إن الذي لم يكن يملك زوجًا من الثيران صار الآن صاحب قطيع منها، وذلك الذي كان لا يجد ثورًا لحرثه صار الآن يملك قطيعًا. انظر، إن الذي لم يكن يملك غلالًا صار الآن صاحب مخازن من القمح، وذلك الذي كان يذهب للبحث عن الغلال لنفسه صار هو الآن يخرجها من مخزنه.»
فلا عجب إذن من وجود ذلك اليأس الشامل: «وفي الحق أن السرور قد مات ولم نعد نتذوقه بعد، ولا يوجد في الأرض إلا الأنين الممزوج بالحسرات.» «وفي الحق أن كلًّا من العظيم والحقير صار يقول: ليتني كنت ميتًا. ويقول الأطفال الصغار: ليتنا لم يعلنَّا أحد ومتنا قبل هذا …! وفي الحق أن قلوب كل القطعان صارت تبكي، والماشية تئن بسبب حالة البلاد.»
على أنه لم يكن في مقدور ذلك الحكيم أن يشاهد كل ذلك دون أن تثور عواطفه، فكان بدوره متأثرًا تأثرًا عميقًا لتلك الكارثة العامة، ويطلب من الله أن يقضي على كل شيء؛ إذ يقول: «ليت الناس يفنون، فلا يحدث حمل ولا ولادة، وليت البلاد تخلو من الغوغاء حتى يُقضى على الشجار.» وكان ذلك الحكيم يقرع نفسه؛ لأنه لم يَسْعَ من جهته لإنقاذ ذلك الموقف من قبل؛ إذ يقول أيضًا: «ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت، حتى كنت أنقذ نفسي من الألم الذي أنا فيه الآن، فالويل لي؛ لأن البؤس عمَّ في هذا الزمان.»
تلك هي الصورة القاتمة التي صورها لنا ذلك الحكيم المصري القديم، ويجب أن نعتبر تلك الشكاية، التي سبق أن قلنا إنها تشغل ثلثي الوثيقة كما حفظت لنا، أنها وصفت الحالة عند قدماء المصريين في عهد معين، على أن العلاقة الوثيقة التي بين ذلك المقال والمقالات الأخرى التي من ذلك العهد الإقطاعي، من حيث اللغة والفكر ووجهة النظر، لا تدع للشك مجالًا في تحديد تاريخ عهدها بالضبط، ولا شك أن حالة مصر السيئة التي صورها لنا ذلك الحكيم هي ظواهر الحالة التي أعقبت انهيار نظام الحكومة والاعتداء على البلاد الذي جاء إثر سقوط الدولة القديمة؛ أي في نهاية عصر الأهرام، وانحلال الاتحاد الثاني.
ولأن «إبور» كان في شدة التأثر لتلك الحال الموئسة التي صورها، لم يشأ أن يتخلى عن أهل الجيل الذي عاش فيه، بل عمد في النهاية — كما كان منتظرًا — إلى تبين السبب الذي يدعو إلى الأمل. ومع أنه تصادفنا عند الوصول إلى هذه النقطة فجوةٌ كبيرة في تلك البردية، فإننا نجد في النهاية أهم فقرة في جميع مقال ذلك الحكيم، وهي تعتبر من أروع ما دوِّن في كل الأدب المصري القديم.
ففي هذه الفقرة العظيمة يتطلع ذلك الحكيم إلى المستقبل، متوقعًا إعادة البلاد إلى سيرتها الأولى، وذلك في نظره بلا نزاع نتيجة طبيعية للنصائح الإصلاحية التي كان قد فرغ من غرسها في قلوب مواطنيه، فهو يرى الحاكم الأمثل الذي يتوق إلى قدومه، وهذا الملك المثالي الذي قد حكم مصر في يوم من الأيام باسم إله الشمس «رع».
فنجد في ذلك صورة الملك الأمثل، وهو الحاكم العادل الذي لا يحمل في قلبه شرًّا، وهو الذي يجول بين رعيته كالراعي يجمع شتات قطيعه المتناقص الظمآن. إن مثل ذلك الحكم العادل الذي نجد له نظيرًا في حكم نبي الله «داود» — عليه السلام — عند العبرانيين قد حدث، ويمكن أن يحدث ثانية، على أن عنصر الأمل في ظهور الملك الصالح المنتظر كان في نظره أقرب من حبل الوريد، بل كان محققًا عنده، كما تدل الكلمات الختامية التي وردت بالفقرة السابقة عند قوله: «أين هو اليوم؟ هل هو بطريق المصادفة نائم؟ انظر، إن بأسه لا يرى.» ولا يسعني (لإبراز المعنى المقصود) إلا أن أضيف إلى الجملة الأخيرة لفظي «حتى الآن».
على أن الأهمية الخاصة التي نستنتجها من تلك الصورة تنحصر في أن المثل العليا الاجتماعية أو الحلم الذهبي لمفكري ذلك العصر البعيد على أقل تقدير — إن لم نقل منهجهم الاجتماعي — كانت تشمل الحاكم الأمثل الطاهر النقي الخيِّر المقاصد الذي يعز عشيرته ويحميها ويسحق الأشرار. وسواء أكان التنبؤ بقدوم هذا الحاكم محددًا أم لا، فإن صورة أخلاقه وأعماله قد كشف النقاب لنا عنها ذلك الحكيم القديم، وقد كشف النقاب عنها في حضرة الملك الموجود إذ ذاك، وفي حضرة أولئك الذين اجتمعوا حوله حتى يقتبسوا شيئًا من بهائه، وذلك بطبيعة الحال هو عين التبشير بالمسيحية قبل أن تظهر بين العبرانيين بما يقرب من ١٥٠٠ سنة.
وعندما انتهى ذلك الحكيم من خطابه الطويل، أجابه الملك بنفسه على أقواله، غير أنه ليس في وسعنا أن نصل إلى ما قاله الملك في إجابته على الحكيم مما بقي لنا من تلك النتف المفتتة من الصفحة الممزقة التي دونت عليها الإجابة.
وقد وصلت تقريعات ذلك الرجل الحكيم إلى قمتها في قوة التعبير حين أشار إلى أخلاق الفرعون التقليدية، وهي التي كانت تشمل الأمر الملكي والمعرفة والعدالة (يعني ماعت)؛ أي النظام الإداري والخلقي القديم الذي حافظ عليه ملوك الاتحاد الثاني مدة ألف سنة، وهو الذي قد حلت الآن محله الفوضى.
فيتضح الآن تمامًا من ذلك أن حالة سوء النظام الشاملة التي وصفها في أقواله «إبور» قد ظهرت في فترة من العهد الذي جاء بعد سقوط الدولة القديمة. ويستحيل علينا الآن أن ندرك موقف ملوك «أهناسية» الذين أنتجوا مثل تلك المقالات المثالية المدهشة، أو نحدد علاقتهم بانهيار نظام الحكم. فهل كان احتذاؤهم المثل الأعلى الاجتماعي في مثل ذلك العصر سببًا من أسباب ضعفهم السياسي؟ لقد لاحظنا أنه في وسط ذلك الخراب القومي الذي صور لنا بتلك الكيفية من غير تحفظ، أن الحكيم «إبور» كان لا يزال يحمل في نفسه بعض الأمل في إنقاذ البلاد من ذلك الخراب. فهل كان في ذهنه بعض الرجال المعروفين بقوة الشكيمة ممن أبقى عليهم الدهر من أسر الأمراء القدامى؟ على أنه من الجائز أن آماله كانت موجهة إلى قائد كان «بأسه لا يرى»؛ يؤيد ذلك ما فاه به حكيم آخر كان يعيش في نفس ذلك العصر (وسنصغي لكلامه وشيكًا) كما يؤيده ما تساءل به حكيمنا المذكور بتدبر وإنعام؛ إذ يقول: «أين هو اليوم؟ هل هو بطريق المصادفة نائم؟»
والواقع أن حكيمًا آخر من نفس ذلك العصر كان يجول في ذهنه شخصية الملك المنتظر الذي سيكون فاتحة للعصر الجديد المنتظر؛ لأنه لم يتردد في ذكر اسمه، كما سيأتي الآن قريبًا.
والواقع أن ذلك مجرد وضع تمثيلي ليسبغ على كلمات «نفرروهو» الهامة قوة التأثير. ومن حسن الحظ أن كاتبًا من عهد الدولة الحديثة ممن عاشوا في القرن الخامس عشر ق.م قد ظهرت له أهمية ذلك المقال، حتى إنه لما لم يجد لديه برديًّا جديدًا ينقله فيه أخذ جزءًا من بعض أوراق مستعملة في تدوين حسابه هو ونقل تلك النبوءات على ظهرها، وبذلك بقيت نبوءات «نفرروهو» في تلك الصورة التي وصلتنا عفوًا بما تحويه من غموض بسبب أغلاطها الكثيرة التي حدثت عند نقله لها بطريق المصادفة كما ذكرنا.
يبدأ «نفرروهو» بالمقدمة التاريخية المزعومة، ثم يصف الخراب والفوضى اللذين كانا يحيطان به، ومثله في ذلك مثل «خع خبرو رع سنب»؛ إذ يتكلم مع قلبه، فتراه يقول: «أنصت يا قلبي وانعَ تلك الأرض التي فيها نشأت … لقد أصبحت هذه البلاد خرابًا، فلا من يهتم بها، ولا من يتكلم عنها، ولا من يذرف الدمع. فأية حال عليها تلك البلاد؟ لقد حجبت الشمس فلا تضيء حتى يبصر الناس.» وقد كان من جراء تعطيل أعمال الري العظيمة العامة أن «أصبح نيل مصر جافًّا فيمكن للإنسان أن يخوضه بالقدم، وصار الإنسان عندما يريد أن يبحث عن ماء (يعني النهر) لتجري عليه السفن يجد طريقه قد صار شاطئًا والشاطئ صار ماء، وكل طيب قد اختفى، وصارت البلاد طريحة الشقاء بسبب طعام البدو الذين يغزون البلاد. وظهر الأعداء في مصر، فانحدر الآسيويون إلى مصر … وسأريك البلاد وهي مغزوة تتألم، وقد حدث في البلاد ما لم يحدث قط من قبل … فالرجل يجلس في عقر داره موليًا ظهره عندما يكون الآخر يذبح بجواره …
سأريك الابن صار مثل العدو، والأخ صار خَصمًا، والرجل يذبح والده، وكل فم ملؤه (حبني) [صياح المتسول؟] وكل الأشياء الطيبة قد ولَّت، والبلاد تحتضر … وأملاك الرجل تغتصب منه وتعطى الأجنبي …
وسأريك أن المالك صار في حاجة والأجنبي في غنى … وأن الأرض قد نقصت وفي الوقت نفسه تضاعف حكامها، وصارت الحبوب شحيحة في حين أن المكيال صار كبيرًا، وتكال الحبوب [أي بجابي الضرائب] حتى يطفح الكيل …
سأريك البلاد وقد صارت مغزوة تتألم، وأن منطقة عين شمس لن تصير بعدُ مكان ولادة كل إله.»
وبعد ذلك يتحول «نفرروهو» من غير تردد أو تشكك عن تلك الصورة التي يصف فيها القحط الذي وقعت فيه البلاد، وينادي بالكلمات التالية الهامة معلنًا قدوم الملك الذي سيخلص مصر مما حاق بها؛ إذ يقول: «سيأتي ملك من الجنوب اسمه «أميني»، وهو ابن امرأة نوبية الأصل وقد ولد في الوجه القبلي، وسيتسلم التاج الأبيض، ويلبس التاج الأحمر، فيوجد بذلك التاج المزدوج، سينشر السلام في الأرضين (يعني مصر) على الوجه الذي يحبه أهلها …
وسيقيمون «سور الحاكم» حتى لا يتمكن الآسيويون من غزو مصر، وسيستجدون الماء حسب طريقتهم التقليدية لكي تردها أنعامهم. والعدالة (ماعت) ستعود إلى مكانها، والظلم يُنفى من الأرض، فهنيئًا لمن سيرى ذلك ومن سيكون من نصيبه خدمة ذلك الملك.»
وإنه لمن المستحيل أن يعطى الإنسان جوابًا شافيًا عن تلك الأسئلة، ولكن الأرجح على ما يظهر أن «نفرروهو» كان حقيقة محاطًا في زمنه بالخراب الذي صوَّره لنا في تلك الصورة القوية، وأن تاريخ حياة «أمنمحات» المقرونة بالنجاح في مصر العليا قد جعل نجاحه في إعادة وحدة البلاد إلى ما كانت عليه وإرجاع مجدها القديم متوقعًا. وقد يبدو من المدهش حقًّا أن يذكر «نفرروهو» صراحة أن الفرعون الجديد ليس من سلالة البيت المالك القديم، على أنه لا شك كان في البلاد إذ ذاك مطالبون بالعرش أو مدَّعون له كثيرون، لدرجة أن ظهور مُطالِب آخر مثل «أمنمحات» قد أصبح لا يثير تأثيرًا يذكر.
- أولًا: القضاء على المغيرين وأخذ العدة لدفع الغارات المقبلة.
- ثانيًا: إصلاح النظام الداخلي.
أما «سور الحاكم» فكان قلعة قديمة لحماية الدلتا الشرقية واقعة على التخوم الآسيوية، وقد بُني لحراسة الطريق من آسيا إلى مصر في عهد بناة الأهرام، وقد أعلن «نفرروهو» أن الملك الجديد سيعيده كما كان من قبل.
والصورة التي رسمها لنا ذلك المتنبئ عن مآل الآسيويين تذكرنا بما ورد في الرواية العبرانية الخاصة برحلة دخول أجدادهم إلى مصر.
وأما إعلان الإصلاح الذي سيحدث في النظام الداخلي فإنه يسترعي الأنظار لقصره وبساطته؛ إذ يقول: «إن العدالة ستعود إلى مكانها والظلم يُنفى من الأرض.» إذن هي «ماعت» القديمة التي سيعيدها الملك الجديد في شكل نظام ثابت ليكون مرة أخرى رقيبًا ومهيمنًا على حياة الشعب المصري الاجتماعية؛ أي إن «ماعت» وهي ذلك النظام القديم الذي مكث ألف سنة مرشدًا ومهيمنًا على الحاكم وحكومته، ستعود مرة أخرى وتبسط سلطانها من جديد. ومن المفهوم أن الابتهاج الذي يبشر به ذلك المتنبئ العتيق يشير إلى عودة المثل العليا القديمة للأخلاق الفاضلة والسعادة القديمة.
غير أن ذلك كان — مع الأسف — بعيدًا عما وقع فعلًا؛ فإن «أمنمحات» كان حقًّا من كبار الإداريين في العالم القديم، وقد استطاع بما وهبه الله من فطنة عظيمة أن يعيد بلا نزاع ذلك النظام القديم بقدر ما سمحت له الأحوال، ولكنه مع ذلك قد حتمت عليه الظروف أن يتخذ عمَّاله وموظفيه في إدارة شئون الأمة من بين أولئك الرجال الذين ترعرعوا وشبوا في عهد ذلك الانحطاط الذي جاء عقب عصر الأهرام، وأُشربت قلوبهم بطبيعة الحال الارتياح إلى الفوضى والفساد اللذين هوى إلى حضيضهما الشعب المصري خلال عدة أجيال، بل قرون، حتى أنقذهم «أمنمحات» منهما في ذلك الوقت.
وقد كشفت لنا النظرات الخلقية التي جال بها أمثال «الرجل التعس» و«خع خبرو رع سنب» و«كاهن عين شمس» — ولا يقل عنهم جميعًا «إبور» — عن حالة مزعجة من الانحطاط الاجتماعي، أما ما كان يشعر به «بتاح حتب» القديم من اقتناع واطمئنان نراهما في قوله: «إن كل شيء على ما يرام.» فقد اختفى إلى الأبد.
وقد كان الملك «أمنمحات» نفسه يشعر بهذه الحقيقة؛ إذ إنه وجد بعد حكم طويل ناجح امتد أكثر من جيل من الزمان، أن عدم الثقة بالناس، التي كان يحس بها الملك المسن طوال حياته، حقيقة لا مراء فيها، لمسها لمسًا عندما حاول بعض القوم اغتياله. وحينما بدأ يشعر بوطأة كبر السن وجَّه إلى ابنه «سنو سرت» — وهو أول من سمي بهذا الاسم من ملوك مصر — كلمة في صورة نصيحة مختصرة، جريًا على الطريقة التي اتبعها والد الأمير «مريكارع» ولكن بروح تختلف عن تلك، فيقول لابنه معرفًا العدالة: «أنصت لما أقوله لك، حتى تصير ملكًا على البلاد وحتى تصبح حاكم الشاطئين، وحتى يكون في مقدورك أن تزيد في خيرات البلاد. قوِّ نفسك أمام جميع كل أتباعك؛ لأن الناس يصغون لمن يرهبهم، ولا تقتربنَّ منهم على انفراد، ولا تملأنَّ قلبك بأخ، ولا تعرفنَّ صديقًا، ولا تتخذنَّ لنفسك خلَّانًا (تضع فيهم ثقة) لا نهاية لها. وحينما تنام حافظ بنفسك على قلبك؛ لأن الإنسان لا أناسي له يوم الكريهة، لقد أعطيتُ السائل وأطعمتُ اليتيم، وقبلتُ الحقير والعظيم (في حضرتي)، غير أن الذي أكل زادي قد عصاني، ومن مددت له يدي قد بعث فيها الخوف.»
وهذه الصورة التي تدل على سوء الظن بالناس المفعم بالتشاؤم قد أعقبها الملك بقصة محاولة اغتيال حياته، وهي حادثة تفسر إلى حد ما شدة سخط ذلك الملك المسن الحانق على العالم، وعدم اغتراره بالمظاهر.
وتلك الآراء عن المجتمع البشري، بما فيها من دلالة قاطعة على منتهى الريبة وسوء الظن بالناس، كان شعور النفوس بها عميقًا إلى حد أنها عكست آثارها على أعظم أنواع الفنون في ذلك العصر، وأعني بذلك فن نحت التماثيل البشرية في العهد الإقطاعي؛ إذ نجد في هيئات التماثيل السامية التي تمثل فراعنة الدولة الوسطى نفس الوجوه الحزينة التي كانوا يواجهون بها الحياة في عصرهم.
وعندما تُنعم النظر في تلك الوجوه التي تتمثل فيها الجرأة والبطولة، والتي ظللتها ظلال اليأس والقنوط، نرى أن نفس هذه الوجوه تعد كشفًا جديدًا في ميدان الفن، يميط لنا اللثام من غير شك عن روح ذلك العصر الذي يعتبر أقدم عصر معروف تخلص من الأوهام ولم ينخدع بالمظاهر.