أقدم جهاد في سبيل العدالة الاجتماعية وتعميم المسئولية الخلقية
لم يشاطر كل رجال الفكر الاجتماعيين الذين كانوا في البلاط الملكي في العهد الإقطاعي الفرعون تشاؤمه المطلق الذي كان يشعر به، وقد رأينا بعض أولئك المفكرين قد أدركوا أن الملك العادل الذي يُتوقع مجيئه لإنقاذ البلاد قد يكون عاجزًا عن أداء رسالته بدون مساعدة طائفة من الموظفين العدول. كما بيَّنا أن الغرض المقصود من المقال المصري القديم الذي سميناه «الفلاح الفصيح» هو المساعدة على إنشاء طائفة من الموظفين المتصفين بالكفاية والأمانة يقوم على أكتافهم بناء العصر الجديد الذي تسوده العدالة الاجتماعية.
والآن نتساءل عما إذا كانت تلك المقالات الاجتماعية التي ظهرت في العهد الإقطاعي قد صارت حقًّا قوى اجتماعية؟
والآن فهل المصادر الباقية حتى الآن — مما يكشف لنا عن حالة قدماء المصريين الاجتماعية والحكومية في العهد الإقطاعي — تدل على أن ذلك الجهاد في سبيل العدالة الاجتماعية قد أدى إلى نتيجة ما؟ أو أن الآمال في ظهور المخلص وقيام المثل العليا للحياة الاجتماعية — وهي التي تكلم عنها المتنبئون الاجتماعيون في ذلك العصر صراحة — قد بقيت مجرد أحلام؟!
وهل استمرت تلك الصور القاتمة المحزنة التي وجدناها في مقالات رجال الفكر المتشائمين أمثال «الرجل التعس» و«خع خبرو رع سنب» والملك «أمنمحات الأول» تدل على الحقيقة الواقعة؟!
وهل أن إدراك عصر الإقطاع لما بدا أنه طبيعة المجتمع الإنساني الحقيقية وما أسفر عنه ذلك من انقشاع الوهم، قد بقي بغير نتائج إنشائية مثمرة؟
وقد شاهدنا أن آمال الذين ينتظرون ظهور المخلص كانت مؤسسة على ظهور ملك عادل، في حين أن غيرهم من المصلحين الاجتماعيين — ممن امتازوا بالآراء العملية — كانوا يرون قلب نظام المجتمع عن طريق إيجاد جيل جديد من الموظفين العدول. ورغم تشاؤم «أمنمحات الأول» فقد ظهرت لنا أدلة قاطعة على أنه هو نفسه قد قام بمجهودات ومشروعات دبرت بعناية حتى تضمن له عهد حكم عادل، وقد كان رئيس الوزارة أو الوزير الأعظم لسان حال الفرعون، ويعتبر أهم عضو في الحكومة بعده.
وقد حفظت لنا نسخ من خطاب وجَّهه الملك مشافهة إلى وزيره الأعظم يرجع تاريخها جميعًا إلى عهد الدولة الحديثة؛ أي بعد العهد الإقطاعي ببضعة قرون. وقد كان الملك يلقي ذلك الخطاب كلما أسندت مسئولية الحكم إلى وزير أعظم جديد.
النظام الذي ألقي على كاهل الوزير الأعظم «س»١
اجتمع أعضاء المجلس في قاعة مجلس الفرعون (له الحياة! والفلاح! والعافية!) وقد أمر الواحد (يعني الملك) بإحضار الوزير الأعظم «س» الذي نصب حديثًا (إلى قاعة المجلس)، وقال له جلالته: تبصَّر في وظيفة الوزير الأعظم، وكن يقظًا لمهامها كلها، انظر إنها الركن الركين لكل البلاد.
واعلم أن الوزارة ليست حلوة المذاق، بل إنها مرة … فالوزير الأعظم هو النحاس الذي يحيط بذهب بيت [سيده] … واعلم أنها (يعني الوزارة) لا تعني إظهار احترام أشخاص الأمراء والمستشارين، وليس الغرض منها أن يتخذ بها الوزير لنفسه عبيدًا من الشعب …
واعلم أنه عندما يأتي إليك شاكٍ من الوجه القبلي أو من الوجه البحري أو من أي بقعة في البلاد، فعليك أن تطمئن إلى أن كل شيء يجري وفق القانون، وأن كل شيء قد تم حسب العرف الجاري، فتعطي كل ذي حق حقه، واعلم أن الأمير يحتل مكانه بارزة، وأن الماء والهواء يخبران بكل ما يفعله، واعلم أن كل ما يفعله لا يبقى مجهولًا أبدًا …
وبعد ذلك يضع الفرعون لوزيره الأعظم التفاصيل التي يجب أن يسير على نهجها في القضايا التي تقدم إليه، ثم يستشهد له في ذلك بقضية حَكم فيها خطأً وزيرٌ يسمى «خيتي»، وهو وزير قديم ذائع الصيت من عهد الأهرام؛ إذ يقول له: «انظر، لقد كان ما ألقيه عليك مثلًا مدونًا في مرسوم تعيين الوزير الأعظم في «منف»، وكان ينطق به الملك ليحث به الوزير على الاعتدال …
احذر ما قد قيل عن الوزير «خيتي»، فإنه يُحكى أنه جار في حكمه على بعض عشيرته الأقربين منحازًا للغرباء خوفًا من أن يُتهم بمحاباة أقاربه خيانة منه، وأنه عندما استأنف أحدهم ذلك الحكم الذي أصدره ضدهم أصر على إجحافه. واعلم أن ذلك يعد تخطيًا للعدالة (يعني ماعت).
فلا تنسَ أن تحكم بالعدل؛ لأن التحيز يعد طغيانًا على الإله، وهذا هو التعليم (الذي أعلمك إياه) فاعمل وفقًا له.
وعامِل من تعرفه معاملة من لا تعرفه، والمقرب من الملك كالبعيد عنه. واعلم أن الأمير الذي يعمل بذلك سيستمر هنا في هذا المكان … ولا تَغضبنَّ على رجل لم تتحرَّ الصواب في أمره، بل اغضب على من يجب الغضب عليه. اجعل نفسك مهيبًا ودع الناس يهابونك. والأمير لا يكون أميرًا إلا إذا هابه الناس … واعلم أن الخوف من الأمير يأتي من إقامته العدل.
واعلم أن الإنسان إذا جعل الناس يخافونه أكثر مما ينبغي دلَّ ذلك على ناحية نقص فيه في نظر القوم، فلن يقولوا عنه (إنه رجل بمعنى الكلمة). واعلم أن رهبة الأمير تبعث الرعب في نفس الكاذب عندما يعامله (الأمير) بما يفزعه منه.
واعلم أنك ستصل إلى تحقيق الغرض من منصبك إذا جعلت العدل رائدك في عملك. انظر! إن الناس ينتظرون العدل في كل تصرفات الوزير، وهي سُنة العدل المعروفة منذ أيام حكم الإله في الأرض. والناس يقولون عن كاتب الوزير «إنه كاتب عادل»، أما الذي يقيم العدل بين جميع الناس فهو الوزير.
انظر! دع الرجل الذي يؤدي وظيفته يعمل حسبما يؤمر به، واعلم أن نجاح الرجل هو أن يعمل حسبما يقال له، ولا تتوانَ قط في إقامة العدل، وهو القانون الذي تعرفه، واعلم أنه جدير بالملك ألا يميل إلى المستكبر أكثر من المستضعف.
انظر في القانون الملقى على عاتقك (تنفيذه).»
ويلاحظ هنا أن أهم تشديد في كل هذه الوثيقة الحكومية ينصبُّ على العدالة الاجتماعية، فلم يكن الغرض من الوزارة إظهار تفضيل الأمراء والمستشارين على غيرهم أو استعباد أحد من أفراد الشعب، بل إن كل عدالة تجري يجب أن تكون حسب القانون في كل قضية، على ألا ينسى الوزير أن وظيفته بارزة جدًّا؛ ولذلك كانت كل تصرفاته معروفة ظاهرة بين الناس، حتى إن المياه والرياح كانت تذيع أخباره بين كل الناس. ولا تعني العدالة أن يقع أي ظلم على من لهم مكانة سامية كما حدث في القضية الشهيرة التي ينسب أمرها إلى الوزير القديم «خيتي» المنفي الأصل، وهو الذي حكم فيها ضد أقاربه مع أن الحق كان في جانبهم، وليس هذا من العدل في شيء.
وتعني العدالة من جهة أخرى الحياد المطلق والتسوية بين الناس دون تمييز فرد على فرد، فيكون سواء لديك من تعرفه ومن لا تعرفه، ومن قرب من الملك ومن لا علاقة له بأحد من بيت الملك. إن إدارة الأمور بتلك الكيفية تضمن للوزير الاستمرار الطويل في منصبه، ومع أن الواجب المحتم على الوزير أن يُظهر منتهى الحكمة عند الغضب، فيجب عليه أن يجعل من موقفه ما يكسبه احترام الشعب له، بل رهبتهم منه، ولكن هذه الرهبة يجب أن يكون عمادها الوحيد إقامة العدل من غير تمييز؛ لأن «الرهبة الحقيقية من الأمير هي إقامته للعدل.» ومن ثم لا يكون في حاجة إلى تكرار إرهاب الناس بالشدة والغطرسة؛ إذ إن ذلك يولد تأثيرًا كاذبًا عنه بينهم؛ فإقامة العدل كافية وحدها لأن تكون لهم رادعًا. والناس يتطلعون إلى العدالة في ديوان الوزير؛ لأن العدالة كانت قانونه المعتاد منذ أن قام بالحكم إله الشمس فوق الأرض. بذلك كان قدماء المصريين في العهد الإقطاعي ينظرون إلى الوراء خلال ألف السنة التي مكثها الاتحاد الثاني وما قبله إلى عهد الاتحاد الأول الذي كان قائمًا في «هليوبوليس» مدينة الشمس. ومنذ ذلك العهد كان الوزير هو الشخص الذي يُذكر في أمثالهم بأنه «الذي سيقيم العدل بين الناس كلهم.» ونجاح الرجل كان يتوقف على مقدرته في تنفيذ التعليمات واتباعها، وعلى ذلك لا يتوانى في تصريف العدالة، ولا ينسى أن الملك يحب الضعيف ومن لا ناصر له أكثر من المستكبر.
هل هي رؤية الملك الأمثل الذي ذكره «إبور» أمام البلاط؟ أو صورة الفساد القائمة التي صورها «الرجل التعس»؟ أو رؤية ذلك المنظر المؤثر الذي دل على الاضطهاد الرسمي وكشفته لنا قصة «الفلاح الفصيح»؟ أي هذه العوامل هي التي أحاطت أخيرًا العرش الملكي بجو من العدالة الاجتماعية حتى إن تنصيب رئيس الوزراء وقاضي القضاة في الدولة — (لأن الوزير الأعظم كان يلقب أيضًا بذلك اللقب الأخير) — جعل الملك يلقي خطاب عرش ليكون بمثابة تصريح رسمي من رئيس البلاد الأعلى إلى أكبر موظف في الهيئة التنفيذية يضمِّنه المبادئ الأساسية التي تقوم عليها العدالة الاجتماعية؟!
إننا الآن بالطبع نستطيع القول بأن تلك الوثيقة الرسمية المفعمة بروح العدالة الاجتماعية كانت هي النتيجة المباشرة لتلك المقالات المصرية الاجتماعية التي طالعناها فيما تقدم، وتوجد بعض الأدلة على صحة ذلك الاستنتاج؛ إذ إن نفس الرعاية التي أظهرها الملك في هذه التعليمات بتفضيله الضعيف على المستكبر أو العنيف القلب، يوجد مثلها في تحذيرات «إبور». وعلى وجه عام فإن خطاب تنصيب الوزير يتفق تمام الاتفاق مع تعاليم تلك المقالات المصرية الاجتماعية.
وسواء أكان المقصود من سياسة الملك الاجتماعية المذكورة في مقاله ذلك هو استجابة ظاهرة لتلك المقالات أم لا، فليس لذلك أهمية ذات شأن؛ إذ إنه من الظاهر جدًّا أن موضوع «الضمير» في ذلك العصر الإقطاعي قد صار يعد شيئًا أكثر من كونه مجرد تأثير خاص بسلوك الفرد، فقد صار «الضمير» في الواقع قوة اجتماعية ذات تأثير عظيم في الحياة الاجتماعية لأول مرة في التاريخ البشري.
ومن الواضح أن الملك قد صار منقادًا لنفوذ المفكرين الأخلاقيين في ذلك العصر، وأن سياسة العدالة الاجتماعية صارت تكون جزءًا من هيكل النظام الحكومي. وقد انتهى عهد تلك الأيام الخالية التي كان يُعتبر فيها سلوك الإنسان الخلقي مرضيًا إذا رضي عنه الأب والأم والإخوة والأخوات، وجاء العهد الذي يصح أن نسميه عصر «الضمير» الاجتماعي، وهو الذي بحلوله بزغ عصر الأخلاق.
لا توجد بنت مواطن قد عبثت بها، ولا أرملة عذبتها، ولا فلاح طردته، ولا راعٍ أقصيته، ولا رئيس خمسة سلبته رجاله مقابل ضرائب (يعني لم تسدد)، ولا يوجد بائس بين عشيرتي، ولا جائع في زمني. وعندما كانت تحل بالبلاد سنون مجدبة كنت أحرث كل حقول مقاطعة «الغزال» (يعني مقاطعته) إلى حدودها الجنوبية وإلى حدودها الشمالية، محافظًا بذلك على حياة أهلها ومقدمًا لهم الطعام، حتى إنه لم يوجد بها جائع قط. وقد أعطيت الأرملة مثل ذات البعل، وإني لم أرفع الرجل العظيم فوق الرجل الحقير في أي شيء أعطيته. ثم أقبل بعد ذلك الفيضان العظيم بالغلال الغنية والخيرات الكثيرة، ولكني مع ذلك لم أجمع المتأخر على الحقول (يعني من الضرائب).
وإنه لمن السهل علينا أن نعتقد أن أميرًا كذلك الأمير كان حاضرًا بالبلاط الملكي وسمع الفرعون وهو يلقي تلك الأوامر على رئيس وزرائه عند تنصيبه. وإذا كانت إدارة «أميني» لمقاطعته قد وصلت إلى أي حد مما يدعيه فيما كتبه فإنه يجب علينا أن نستخلص من ذلك أن تلك التعاليم الاجتماعية التي فاه بها الحكماء أمام البلاط الملكي كانت معروفة لدى العظماء في طول البلاد وعرضها، وإذا وصل بنا الاستنتاج إلى أن ما كتبه «أميني» مغالى فيه حتى جعل حكمه يبلغ درجة عظيمة من المثالية، فإنه لا يزال أمامنا المغزى الذي نستخلصه من رغبته في إحداث مثل ذلك التأثير مما نقرؤه في ترجمة حياته.
وهذه الحالة تنطبق على سجلات بعض حكام المقاطعات الأخرى في نفس ذلك العصر، كالتي نجدها منقوشة فوق محاجر المرمر في «حَتنوب»، وهي تحتوي على عدة تأكيدات من ذلك الصنف، تقص علينا أن الشريف كان رجلًا «أنقذ الأرملة وواسى المتألم، ودفن المسن، وأطعم الطفل، وعالَ كل مدينته في زمن الجدب، وهو الذي أطعمها في وقت القحط، وهو الذي زوَّدها بسخاء بلا تمييز، فكان عظماؤها في ذلك مثل أصاغرها.»
ولا شك أننا نجد في ذلك انقلابًا عظيمًا؛ فالتشاؤم الذي كان ينظر به رجال العصر الإقطاعي الأول إلى الحياة الآخرة، أو يتأملون به مصير الجبانات المخربة التي يرجع تاريخها إلى عصر الأهرام، أو اليأس الذي كان ينظر به بعضهم إلى الحياة الدنيوية، كل ذلك قد قوبل بتيار مضاد في إنجيل من الحق والعدالة الاجتماعية أخرج للناس في نصائح ملؤها الأمل على لسان أولئك المفكرين الاجتماعيين الأكثر تفاؤلًا، وهم رجال رأوا الأمل في القيام بجهود إيجابية توصل إلى الأحوال المرضية.
ويجب علينا أن نعتبر تحذيرات «إبور» وتنبؤات «نفرروهو» وقصة «الفلاح الفصيح» أمثلة رائعة للقيام بمثل تلك الجهود، وأن كتاباتهم هي الأسلحة التي استعملتها أقدم طائفة قامت بالجهاد في سبيل الإصلاح الخلقي والاجتماعي.
والواقع أن منتهى ما كان يرغب في الوصول إليه رجل مثل «إبور» يتمثل في خطاب العرش الذي ألقاه الملك عند تنصيب رئيس وزرائه، فإن الملك الذي في قدرته أن يلقي خطابًا كهذا يقرب في سموه من ذلك الملك الأمثل الذي كان يحلم بظهوره «إبور»، ومن الملك الذي اعتقد «نفرروهو» أنه قد عثر عليه، ولدينا ما يحملنا من جهة أخرى على الاعتقاد أن «أميني» الذي كان أميرًا لمقاطعة «بني حسن» يمثل تمثيلًا صادقًا جيل الموظفين الجدد العدول الذين كان يأمل مؤلف قصة «الفلاح الفصيح» أن يراهم قائمين بأعباء الحكومة في مصر.
وقد لاحظنا فيما سبق أن مجرد استحسان الأسرة لسلوك الفرد لم يعد بعدُ كافيًا في ذاته؛ فقد أتى عصر التفكير بمثل عليا للسلوك الشخصي يرتبط أمرها بطبقات بأسرها من المجتمع، فصار السلوك عرضة لحكم المجتمع عليه، وهذا الحكم الاجتماعي قد وضع الآن في فم إله الشمس، فقد قال الفلاح الفصيح لمدير البيت العظيم: «أقم العدل لرب العدل.» وكذلك أشار في كلامه إلى «هذه الكلمة الطيبة التي خرجت من فم «رع» نفسه وهي تكلم الصدق وافعل الصدق.» وفيها — كما نذكر — أن «الصدق» معناه كذلك الحق والعدالة «ماعت».
كذلك رأينا في أوامر الملك للوزير الأعظم أن ذلك المنهاج الخاص بالشفقة الاجتماعية والعدالة الاجتماعية، وهو الذي يفضل فيه الملك الرجل الضعيف ومن لا ناصر له على الرجل القوي المستكبر، كان يرمي بوضوح إلى غرض ديني ينسب إلى الإله، فيقول الملك في ذلك: «إنها لعنة من الإله أن يُظهر الإنسان تحيزًا.» فنرى من ذلك أن آراء العدالة الاجتماعية عندما وجدت منفذًا عمليًّا لظهورها أولًا في الملكية المثلى، ثم بعد ذلك في أخلاق الفرد المكلف بإقامتها، انعكست صورتها على أخلاق إله الشمس ونشاطه، وهو الملك الأمثل؛ أي إن وجوب المحافظة على العدالة الاجتماعية التي أخذ الناس يشعرون به في قرارة أنفسهم قد صار أمرًا إلهيًّا، واعتقدوا في الحال أن مقت أنفسهم للظلم هو نفس مقت الإله للظلم، وبذلك صارت مثلهم العليا في الأخلاق هي كذلك مثل الإله، فاكتسبت بهذا المظهر الجديد قوة مسيطرة جديدة.
وبذلك كان من السهل الاعتقاد — زيادة على ما ذُكر — بأن العدالة هي القانون التقليدي لوظيفة الوزير منذ الزمن الذي كان يحكم فيه إله الشمس مصر، وكذلك حكم الفرعون الذي جرى وراثيًّا مدة ألفي سنة منذ تأسيس الاتحاد الأول، وكان المفروض فيه أنه كان استمرارًا لسريان دم «رع» وسلالته، كان كذلك استمرارًا لإقامة نظام العدل القديم الذي أقامه إله الشمس على الأرض. وقد ألقى الملك أمره بكل وضوح على الوزير، غير أنه لم يتردد في الوقت نفسه في الالتجاء إلى المحكمة العليا، فكان على الوزير أن يقيم العدل؛ لأن الإله الأعظم الذي يشرف على الدولة يمقت الظلم، وليس ذلك اتباعًا لأمر الملك فقط.
ثم إنه بعد انقضاء حوالي اثني عشر أو ثلاثة عشر قرنًا من الزمان على ذلك العصر نجد أن أنبياء بني إسرائيل يعلنون بقوة سيادة «يهوه» الخلقية على سيادة الملك عندهم. ولكن كم كان عدد الأجيال التي لا بد أنهم سلخوها في خدمة الدين بغير فائدة ظاهرة قبل أن يتغلب صراع الأنبياء هذا ويحرز النصر حتى عبَّر عن روح الحكومة العبرانية، وإن كان ذلك التعبير فيها أقل بكثير عما عبر به الملوك في العصر الإقطاعي عند قدماء المصريين، مع أننا لم نعتَدْ ربط مثل تلك المبادئ الحكومية بالشرق القديم، بل ولا بالشرق الحديث.
ويرجع تأثير تلك المثل العالية للعدالة الاجتماعية التي وجدت سبيلها إلى الحكومة بدرجة عظيمة، إلى الشكل الذي انتشرت به بين كل طبقات الشعب؛ فإن مثل تلك العقائد لو كانت أعلنت بين القوم في شكل مبادئ مجردة لما لفتت إليها الأفكار ولما أحدثت إلا تأثيرًا قليلًا، بل ربما لم تُحدث أي تأثير مطلقًا، فإن المصري كان يفكر دائمًا في الأشياء المعينة والصور المجسمة؛ فهو مثلًا لا يفكر في السرقة بل يفكر في السارق نفسه، ولا يفكر في الحب بل في المحب، ولا يفكر في الفقر بل في الرجل الفقير وهلم جرًّا؛ ولذلك لم يرَ الفساد الاجتماعي بل شاهد المجتمع الفاسد. ولهذا كان الوزير «بتاح حتب»، وهو رجل يقوم بأعباء الوظيفة بإيمان سليم في قيمة السلوك الحق والإدارة الحقة ليخلق بذلك السعادة، وسلم إرث تلك التجربة إلى ابنه، وكذلك «الرجل التعس» كان رجلًا حلَّ به الظلم الاجتماعي فعبَّر عنه في صورة روح يائسة تعبر عن يأسه وأسبابه، وكذلك أيضًا كان «إبور» رجلًا تسكن في نفسه الرؤية التي أدركت كلًّا من الفساد الفتاك بالمجتمع والحلم الذهبي بظهور الملك الأمثل الذي يصلح كل شيء، وكذلك أيضًا كان «الفلاح الفصيح» رجلًا يتألم من اضطهاد الموظفين له ويصرخ بأعلى صوته مستغيثًا من ذلك، وكذلك أيضًا كانت أوامر «أمنمحات» صيغت في قالب ملك يتألم من الخيانة المخزية التي حدثت له وجعلته يفقد كل ثقةٍ بالناس؛ فألقى تجاريبه تلك إلى ابنه.
فكانت النتيجة اللازمة لذلك أن تلك العقائد التي تعزى إلى أولئك المفكرين الاجتماعيين قد وُضعت في شكل تمثيلي، وأن العقائد نفسها قد عُبِّر عنها في هيئة محاورات نشأت عن تجارب وحوادث مُثِّلت كأنها حقائق واقعية.
ومما هو جدير بالنظر هل أن تلك الأبحاث الأخلاقية والفلسفية، التي تُلقى في صورة محاورات بعد التمهيد لها بمقدمة تجعل الموضوع كله في هيئة قصة، كان لها أثرها في ظهور الشكل الحواري في آسيا وأوروبا؟ على أن انتشار قصة «إحقار» انتشارًا عامًّا في أنحاء العالم يدل على مدى تنقُّل مثل ذلك الإنتاج الأدبي، وقد يكون من الأمور الجديرة بالذكر في موضوعنا أن أقدم صورة لقصة «إحقار» هذه قد نبتت في مصر.
وقد لاحظنا من قبل أن المثل العليا الاجتماعية التي نبتت في العهد الإقطاعي قد أضيفت إليها سلطة مقدسة وعزيت إلى أصل إلهي. ومن المهم أن نفحص الدليل على قيام تلك الحقيقة، وأن نثبت بصفة قاطعة شخصية ذلك الإله المقصود الذي كان يلتجئ إلى سلطانه رجالُ المثل العليا في الاجتماع. إن هذه المثالية الاجتماعية — التي هي أقدم شيء من نوعها — كانت بلا جدال مرتبطة بحكم إله الشمس على الأرض، وقد لاحظنا فيما تقدم أنه كان إلهًا للشئون البشرية في عالم الأحياء، في حين أن «أوزير» كان إلهًا للموتى. ولا نزاع في أن الملك الأمثل هو «رع» إله الشمس الذي كانت تجدد فخامة حكمه الخلقي في الفرعون الذي كان خليفة له على الأرض.
ولقد التجأ الملك في أوامره لرئيس وزرائه إلى التصريح بأنها أتت وفقًا لحكم إله الشمس وجريًا على تقاليده المتبعة؛ فالإله «رع» هو الذي كان صاحب السيادة على أفكار أولئك الفلاسفة الاجتماعيين في العهد الإقطاعي؛ لأننا نجد في «أغنية الضارب على العود» حتى مومية المتوفى قد وُضعت أمام إله الشمس، وإليه كان يتطلع «الرجل التعس» ليبرئه في الآخرة. وقد كان «خع خبرو رع سنب» كاهنًا لإله الشمس بمدينة «هليوبوليس»، كما أن رؤية «إبور» للملك الأمثل الذي سيأتي في المستقبل قد برزت إليه من ذكريات النعيم المقيم لحكم «رع» على الأرض بين الناس، في حين أن ملخص كل شكاوى «الفلاح الفصيح» كانت تنحصر في «تلك الكلمة الطيبة التي خرجت من فم «رع» نفسه: تكلم الصدق وافعل الصدق (أو الحق)؛ لأنه عظيم وأنه قوي وأنه دائم.»
فالواجبات الخلقية التي تظهر في اللاهوت الشمسي ليست إذن إلا صورة لأقدم بعث اجتماعي جديد لم نعرف نظيرًا له في تاريخ العالم. وقد كان من أهم نتائج الملكية المثلى لحكم إله الشمس الأمل في تكرار مثل ذلك الحكم الطافح بالخير، وكان ذلك الأمل هو الذي جلب معه فكرة انتظار مَلك مخلِّص يأتي فيما بعد.
ومن الواضح هنا — كما في متون الأهرام — أن علاقة «أوزير» بالمثل العليا للحق والعدالة في ذلك الوقت كانت أمرًا ثانويًّا؛ لأن «أوزير» كان قد حوكم ثم اتضحت براءته في قاعة «هليوبوليس» العظمى؛ أي إنه حوكم أمام محكمة الشمس التي كان معترفًا بها أنها المحكمة التي لا بد أن يفوز الإنسان ببراءته أمامها، وقد حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه أسطورة «أوزير» لا تزال في دور التكوين والتأليف.
أما رفع «أوزير» إلى منصب قاضٍ فيما بعد، فليس إلا صبغًا لوظائفه بالصبغة الشمسية على أساس القضاء الشمسي السائد في متون الأهرام؛ إذ نجد في تلك المتون أن «أوزير» قد صعد بالفعل فوق عرش «رع» السماوي، ثم نراه الآن يستولي على كرسي القضاء الخاص «برع»، وبتلك الكيفية صار إله الشمس المتصرف الخلقي العظيم الذي يحاكم أمامه الجميع بمقتضى العدالة، ولم يستثنِ من بينهم أحدًا حتى ولا «أوزير» هذا. ولا داعي لأن ننكر هنا وجود بعض المبادئ الخلقية في العقيدة الأوزيرية المبكرة، وهي المبادئ التي نجد بعض الدلائل على وجودها في المذاهب المحلية لعدة آلهة مصرية من عصر الأهرام، ولكن يجب علينا لهذه المناسبة ألا ننسى أن متون الأهرام قد حفظت لنا بعض المتون التي اعتُبر فيها «أوزير» بعيدًا جدًّا عن أن يكون ملكًا أمثل وصديقًا للإنسان؛ لأنها تميط اللثام عن عداوته للموتى وخصومته لجميع الناس. ولم يظهر «أوزير» بمظهر الحامي للعدالة بشكل صريح إلا في العهد الإقطاعي، وسنرى الآن أن «أوزير» و«رع» قد وُضعا جنبًا إلى جنب في التفكير الخلقي في ذلك العصر.
وقد تأثر الكهنة الذين كانوا مشتغلين باللاهوت في ذلك العصر تأثرًا عظيمًا بذلك الميل إلى نشر الديمقراطية (أي تعميم المساواة بين الناس). ويكشف لنا عن مبلغ ذلك التأثير خطابٌ أساسي هام لإله الشمس عُثر عليه في متون التوابيت الخشبية التي يرجع تاريخها إلى ذلك العصر الإقطاعي؛ إذ يقول: «لقد خلقت الرياح الأربعة ليتنفس بها الإنسان مثل أخيه الإنسان مدة حياته، ولقد خلقت المياه العظيمة ليستعملها الفقير مثل السيد.
لقد خلقت كل رجل مثل أخيه، وحرمت عليهم إتيان السوء، ولكن قلوبهم هي التي نكثت ما قلته.
وإنه لأمر هام جدًّا أن نجد في ذلك المتن المساواة التامة بين بني الإنسان في قوله: «لقد خلقت كل إنسان مثل أخيه.»
ومن ثم نرى أن الحقوق الخاصة التي كان يدَّعيها العظماء والأقوياء لأنفسهم من الإجلال والسعادة في عالم الآخرة، أخذت تختفي وتزول، ومن هنا أيضًا بدأت عقيدة المساواة بين البشر في التمتع بنعيم الآخرة تأخذ مجراها، بمعنى أن عالم الحياة الآخرة قد صار ديمقراطيًّا لكل البشر على السواء.
والآن يجب علينا أن نحاول إدراك تأثير الآراء الخاصة بالعدالة الاجتماعية التي ظهرت في العهد الإقطاعي إزاء تطور الاعتقادات المصرية القديمة فيما يتعلق بمصير الأرواح البشرية في عالم الحياة الآخرة.