إقبال عامة الشعب على اعتناق مثُل الآخرة الملكية وانتشار السحر
إن عقيدة التشكك إزاء الاستعداد للحياة الآخرة، بما فيه من بناء قبر ضخم مجهز بالأساس الجنازي الوفير، ثم التسليم بعدم فائدة العتاد المادي للمتوفى، لم يخرج أمرهما عن كونه موجة عكسية صغيرة وسط تيار محيط الحياة المصرية، وذلك بالرغم مما رأيناه من المبالغة في شأنهما في العصر الإقطاعي. والواقع أن مثل تلك الاتجاهات كانت، من جهة، من مستلزمات عقيدة التشاؤم واليأس المطلقَيْن، كما كانت من جهة أخرى من مستلزمات الاعتقاد (الآخذ في النمو) بضرورة التزود بالقيم الخلقية للحياة الآخرة، ولم تخرج تلك الآراء عن كونها ثورية لم تحمل في تيارها الجم الغفير من الشعب المصري؛ ولذلك لما صارت سعادة الآخرة حقًّا مشاعًا لجميع المتوفين سارع عامة الشعب إلى التعلق بهذا الامتياز الجديد الذي يجعل لهم حق التمتع بذلك المصير السماوي الفخم الذي كان من زمن بعيد موقوفًا على الفرعون فقط، فأقبلوا على تلك الشعائر الجنازية وواصلوا القيام بالمحافظة على طقوسها.
وقد استمرت العناية بإقامة تلك الشعائر تزداد وتنتشر دون أي التفات إلى ذلك الصمت البليغ والخراب البادي اللذين كانا يخيمان فوق هضبة الأهرام وفوق جبانات أولئك الأجداد. وباستعراض الماضي نجد أن والد «مريكارع»، بالرغم من أنه كان يشعر شعورًا قويًّا بتلك الأهمية الخطيرة للحياة الفاضلة، لم يرَ أن يزين لابنه الاستغناء عن القبر؛ إذ يقول له: «زيِّن مثواك (يعني قبرك) الذي في الغرب، وجمِّل مقعدك في الجبانة.» ولكنه لم يفُتْه في الوقت نفسه أن يضيف إلى ذلك قوله: «كإنسان مستقيم أقام العدالة؛ لأن ذلك هو ما يعتمد عليه القلب.»
ويتضح من ذلك أن هذا الملك المسن لم يكن يعتبر القبر المتين وحده كافيًا لضمان السعادة في الحياة الآخرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نرى أن «إبور» قد قال للملك: «وفضلًا عن ذلك فإنه من الخير أن تقيم أيدي الناس الأهرام وتحفر البحيرات وتغرس خمائل جميز الآلهة.»
ومع أن مقابر أشراف الإقطاعات لم تعد تُبنى بعدُ حول هرم الملك كما كان يفعل الأشراف ورجال الإدارة في زمن عصر الأهرام، وصارت الآن منبثة في إقطاعاتهم في طول البلاد وعرضها، فإنهم استمروا يتمتعون إلى حدٍّ ما بالهبات الجنازية التي كانت تُصرف من الخزانة الملكية، تشهد بذلك الصيغة الدينية المألوفة: «هي قربان يهديه الملك.» وهي الصيغة التي كانت شائعة في المقابر التي حول الأهرام، فصارت الآن تنقش بكثرة بمقابر الأشراف.
على أن هذه الحال لم تعد مقصورة على مقابر الأشراف؛ إذ إنه بعد التطور الأخير في معتقدات الطبقات الراقية عن الآخرة وانتشارها بين الشعب، صار من العادات المعروفة المرعية أن يتضرع كل إنسان إلى الملك حتى يعطيه نصيبًا من تلك الهبات الجنازية الملكية؛ ولذلك نجد كل طبقات المجتمع — حتى أحقر العمال — المدفونين في العرابة المدفونة كانوا يتضرعون لنيل «قربان يهبه إليهم الملك» بالرغم من أنه كان من المستحيل طبعًا أن تتمتع غمارة الشعب بامتياز كهذا.
على أننا لا نحصل على فكرة وافية عن تلك العادات الطلية الخاصة بتموين المتوفى في الحياة الآخرة إلا في ذلك العهد الإقطاعي، ولا غرو، فقد صارت تلك العادات الآن متأصلة في حياة الشعب، وقد حفظت لنا المقابر التي لا تزال باقية إلى الآن في مقاطعات الوجه القبلي بعض بقايا تلك الشعائر اليومية والعادية، وكذلك ما كان خاصًّا منها بالاحتفالات والأعياد، مما كان الشعب يظن أنه بوساطتها يدخل السرور على الذين قد رحلوا إلى الدار الآخرة حتى تصير حياتهم أكثر مرحًا، وذلك على النمط الذي لاحظناه في الاحتياطات التي كان يتخذها الأشراف في عصر الأهرام.
فإن الشريف الثري «حِبزافي» الأسيوطي (حاكم مقاطعة أسيوط) الذي كان يعيش في القرن العشرين ق.م، أقام لنفسه قبل وفاته تمثالًا في كلٍّ من معبدَي المدينة الرئيسيين: أحدهما في معبد الإله «وبوات»، وهو إله محلي قديم لذلك المكان في صورة ذئب، ومن ذلك الاسم اشتقت المدينة اسمها «ليكوبوليس» (يعني بلدة الذئب) على يد اليونان. وأما التمثال الآخر فقد أقامه في معبد «أنوبيس»، وهو إله معروف في صورة الكلب أو صورة ابن آوى، وقد كان ذلك الإله يومًا ما أحد الآلهة المناهضين «لأوزير». وكان معبد الإله «وبوات» يقع في وسط المدينة، في حين أن معبد الإله «أنوبيس» كان يقع بعيدًا عنه على ظاهر حدود الجبانة في سفح الجبل الذي نحت في واجهته على مسافة من ارتفاعه، قبر «حبزافي» الفخم. وقد نَصب في ذلك القبر تمثالًا ثالثًا لنفسه أيضًا يقوم برعايته كاهنه الجنازي، ولم يكن له إلا كاهن واحد يُعنى بقبره، ويقوم بالاحتفالات التي كان يرغب فيها، ولكن «حبزافي» دبَّر ما يلزم للكاهن من المساعدة عند الاقتضاء، بأن عهد بهذه المساعدة إلى كهنة المعبدين وبعض موظفي تلك الجبانة، وقد تعاقد على ذلك مع كل أولئك كما تعاقد مع الكاهن الجنازي، معيِّنًا بالضبط ما يجب عليهم عمله وما يجب أن يتسلموه من غلات ذلك الشريف في مقابل قيامهم بتلك الخدمات، أو مقابل القربان الذي كان يقدَّم بانتظام كل يوم وفي المواسم الخاصة فيما بعد موت هذا الشريف.
وتلك العقود البالغ عددها عشرة قد دوَّنها ذلك الشريف في نقوش ظاهرة إلى الآن فوق الجدار الداخلي لمزار قبره، وهي تقدم لنا صورة قريبة جدًّا من تقويم الأعياد التي كان يُحتفل بها في تلك المدينة الإقليمية التي كان يحكمها «حبزافي»، وهي أعياد كان الاحتفال بها يعم الأحياء والأموات على السواء.
فإذا اتخذنا محتويات تلك العقود أساسًا فإن الصورة الخيالية التالية التي نستنبطها من ذلك كفيلة — على ما نأمل — بالتعبير عن الحياة التي توحي بها تلك العقود.
إن أهم تلك الاحتفالات تلك التي كانت تقام بمناسبة مقدم السنة الجديدة، فكانت تقام قبل حلولها، وعند بدايتها وبعد بدايتها؛ فتبدأ الاحتفالات قبل نهاية السنة القديمة بخمسة أيام في أول يوم من أيام النسيء الخمسة التي تنتهي بها السنة، فكان يُرى في ذلك اليوم كهنة الإله «وبوات» سائرين في موكب، مخترقين شوارع أسيوط وأسواقها، وكانوا في نهاية المطاف يخرجون من المدينة حاملين إلههم «وبوات» إلى معبد «أنوبيس» الذي كان يقع في سفح جبل الجبانة، وهنالك يُذبح ثور للإله الزائر (يعني للإله «وبوات»)، وكان كل كاهن إذ ذاك يحمل بيده رغيفًا كبيرًا أبيض مخروطي الشكل، وعند دخولهم ساحة معبد «أنوبيس» هذا يضع كلٌّ منهم رغيفه عند قاعدة تمثال «حبزافي».
وبعد مُضي خمسة أيام من ذلك التاريخ كان ينحدر مدير الجبانة وبصحبته تسعة من موظفيه من فوق تلك الجبال عند حلول المساء، مارِّين بأبواب القبور المفتوحة، التي كانت حراستها موكلة إلى هؤلاء الموظفين، ثم يدخلون في ظلال المدينة التي في سفح تلك الجبال. وكانت المدينة في تلك الآونة يخيم عليها الظلام؛ إذ كانت تقع في ظلال تلك الجبال المشرفة عليها، وكان هذا في ليلة رأس السنة الجديدة، وكانت الأنوار المبعثرة التي أُشعلت ابتهاجًا بالعيد قد بدأت تنبعث عند الشفق من داخل البيوت ومن الشرفات.
وحينما تكون تلك الفئة ماضية في سيرها بالشوارع الضيقة الواقعة في أطراف المدينة تعترضهم فجأة الأسوار العالية لمعبد الإله «أنوبيس»، وعندما يدخلون من بابه العالي العظيم يسألون عن «الكاهن العظيم»، فيقدم لهم هذا على الفور حزمة من المشاعل، فيأخذونها ويعودون أدراجهم مصعدين في الجبل بتؤدة ومشرفين على المدينة كلما تسلقوا الجبل في عودتهم. وحينما يشرفون من فوق الجبل على أسقف المدينة الملتفة في الظلام الدامس كانوا يكشفون في وسطها مجموعتين منعزلتين من الأنوار، إحداهما تقع بالضبط تحت أقدامهم في حضيض الجبل، والأخرى تقع على مسافة بعيدة في قلب المدينة، فكانتا تشبهان جزيرتين متلألئتين بالنور في بحر من الظلمة يمتد إلى مسافة من تحت أرجلهم. وهاتان المجموعتان من النور هما ساحتا المعبدين اللذين كانت الأنوار تسطع في أرجائهما.
وكانت تطل من فوق رءوسهم بالضبط واجهة تلك المقبرة التي كانت قد أعدت لتضم جثمان سيدهم الراحل «حبزافي»، وقد كان المتقدمون في السن من بين أولئك الحراس يذكرونه جيدًا، ويذكرون الكرم الذي طالما لاقوه على يديه. وأما المحدثون منهم فكان في نظرهم اسم «حبزافي» مجرد اسم لا يحمل معنى ما، فكانوا لا يجيبون إلا متباطئين ومتثاقلين عندما كان شيوخهم يحثونهم على إضاءة أنوار القبر، وحينما كان يتعجلهم صوت كاهن «حبزافي» من أعلى الجبل قائلًا: «لا تتأخروا أكثر من ذلك في إضاءة الأنوار»، وعندئذ يخرج الشرر من قدح الزناد، وعلى إثره تضاء أول شعلة ومنها تضاء المشاعل الأخرى بسرعة. وكان الموكب الذي يشمل أولئك الحراس يسير حول مرتفع من الجبل فسيح الأرجاء ثم يعود الموكب ثانية إلى باب القبر العالي، حيث يكون في انتظارهم كاهن «حبزافي» فيدخلون من غير توانٍ إلى مزار القبر العظيم.
وكان يشاهد انعكاس أنوار تلك المشاعل المتألقة في غير نظام فوق جدار ذلك المزار، فترى عليه صورة ضخمة للسيد الراحل ترتفع عالية حتى تختفي رأسه وسط الظلمة التي لم تصل إليها أنوار تلك المشاعل المتضائلة. ويبدو على صورته كأنها تحثهم على تأدية واجباتهم نحوه بالدقة والعناية عملًا بما هو مدوَّن بالعقود العشرة المنقوشة فوق جدار المزار نفسه. وكان «حبزافي» يبدو في الصورة مرتديًا لباسًا بهيجًا ومتوكئًا في رقة على عصاه التي بيده، وطالما كان المسنُّون من تلك الطائفة يرونه قائمًا على هذا الوضع وهو يفصل في القضايا التي كانت تُعرض عليه حينما كان يساق المذنبون إلى داخل باب ديوانه بين صفين من ضباطه المتزلفين، أو كما كان يشاهد في حالة أخرى وهو يراقب سير تقدم العمل في إحدى ترع الري الهامة حتى يفتتح بها حقل زراعة جديد. فكان هؤلاء الحراس يسجدون خضوعًا أمام صورته تلك المهيبة، يسوقهم إلى ذلك الدافع الطبيعي الذي ليس لهم فيه اختيار، كما كان يسجد أمامه الكتَّاب وأصحاب الحرف والفلاحون الذين نشاهد صورهم تملأ الجدران التي أمامه، وقد لوِّنت بالألوان الجميلة البارزة فوق الجدران، وتلك الصور تمثل الصناعات وأسباب الترفيه التي كانت تضمها تلك الضياع العظيمة التي كان يملكها «حبزافي» وقتذاك، وهي تؤلف دنيا مصغرة يرى فيها ذلك الشريف الراحل، عندما يدخل إلى مزار قبره، أنه لا يزال يغدو ويروح بين مناظر حياة الريف ومسراتها التي كان هو السيد المرموق فيها، فقد كان يخيل إليه أن جدران مقبرته قد رجعت واتسعت حتى صارت تشمل حقول الزراعة والأسواق، ومصانع السفن وأحواضها، ومستنقعات صيد الطيور، وردهات الحفلات، وقد عمر النحات والرسام الجدران بتلك المناظر، حتى صارت في الواقع كأن الحياة تدب فيها.
عند ذلك توضع المشاعل الموقدة حول القرابين التي تملأ سطح مائدة القربان العظيمة المصنوعة من الحجر في المزار، وخلف تلك المائدة تمثال «حبزافي» جالس في كوة منحوتة في أصل الجدار، وبعد ذلك تنسحب جماعة الحراس الصغيرة على مهل، ملقين عدة نظرات سريعة على الباب الوهمي المقام في جدار المزار الخلفي، وكانوا يعتقدون أن «حبزافي» يمكنه في أي وقت شاء أن يبرز منه تاركًا عالم الظلام المستتر خلف ذلك الباب الوهمي ليدخل إلى عالم الأحياء، ويحتفل مع الأحياء من أصدقائه بعيد رأس السنة المذكور.
وأما اليوم التالي، وهو اليوم الأول من السنة الجديدة، فيعد أعظم أيام الأعياد في التقويم السنوي، وكان القوم يتبادلون فيه الهدايا فرحين، كما يتوافد أهل الضياع أيضًا يحملون الهدايا إلى سيد ضيعتهم، وقد انهمكت سلالة «حبزافي» في ملذاتها وجرت فيها إلى آخر شوطها، ولكن شروطه التي أُبرمت بانتباه وحذر، وهي التي كانت ولا تزال مدونة في سجلات المدينة، تضمن له الاهتمام بأمره وعدم إهماله. وفي الوقت الذي كان فيه الفلاحون ومستأجرو الإقطاعية يشاهَدون مزدحمين عند الباب العظيم لبيت ذلك الشريف، حاملين هداياهم لسيدهم الحي، غير مفكرين في سيدهم الراحل، كان حراس الجبانة العشرة بقيادة رئيسهم يجتازون أطراف المدينة مرة أخرى سائرين نحو إحدى خزائن الضيعة لتسلُّم ما كان من حقهم أن يتزودوا به منها، ثم لا يلبثون أن يعودوا أدراجهم حاملين ٥٥٠ فطيرة مستديرة و٥٥ رغيفًا من الخبز الأبيض و١١ إناء مملوءة بالجعة، ثم يرجعون من حيث جاءوا مقتحمين طريقهم في تمهل وسط مرح الزحام حتى يبلغوا مدخل الجبانة عند سفح الجبل، فيجدون هناك زحامًا عظيمًا أيضًا، وكل واحد من أولئك المزدحمين محمَّل بمثل ما حُمِّلوا به؛ إذ كان الطيبون من أهل «أسيوط» يحملون عطاياهم من الأطعمة والشراب، بين جلبة عظيمة من الأفراح القائمة وسط تلك المناظر الخلابة التي لا عداد لها من صور تلك الحياة الشرقية، كما يشاهد مثل ذلك إلى اليوم بالجبانات الإسلامية في مصر في أيام عيد الفطر (وباقي الأعياد الإسلامية)، ويقصدون إلى الجبل حيث يدخلون بما يحملون إلى أبواب المزارات العديدة التي كانت منتشرة في وجه الجبل على مثال عيون أقراص النحل في خليتها، حتى تتمكن موتاهم من مشاطرتهم تلك الأعياد المرحة.
أما موكب الحراس الصغير المؤلف من عشرة أشخاص فكان يخترق شوارع المدينة المتألقة بالأنوار، والحراس يقتحمون طريقهم بمشقة عظيمة وسط زحام الشعب، وفي النهاية يبلغون الباب العظيم لمعبد «أنوبيس» حيث تكون الأنوار قد بلغت غايتها من البهجة والرواء، ولا ينسى في ذلك تمثال «حبزافي». وحينما يظهر الموكب خارج المدينة ثانية نراهم لا يزالون يشقون طريقهم بصعوبة بسبب دهماء الناس الذين يسيرون في نفس طريقهم، وكانت واجهة الجبل المظلمة التي تشرف عليهم يتخللها هنا وهناك معالم من النور تسير وئيدة مصعدة فوق الجبل، وكانت تلك الأنوار صادرة من مشاعل أهل المدينة الذين صعدوا مبكرين ووصلوا إلى الجبانة لوضع تلك الأنوار بها أمام تماثيل أمواتهم وقبورهم. وأما الحراس فإنهم يصعدون إلى مقبرة «حبزافي» كما فعلوا في الليلة المنصرمة، ويسلمون المشاعل والخبز الأبيض لكاهن «حبزافي» الذي ينتظرهم. وهكذا يشترك ذلك الشريف المتوفى مع أولاده ورعاياه الأحياء في الاحتفال بأعياد رأس السنة.
وفوق تلك الأعياد وغيرها من الأعياد الكبرى التي كان يتمتع بها المتوفى على الوجه المذكور، فإنه لم يُنسَ في أي عيد من الأعياد الموسمية الصغيرة التي كان يُحتفل بها في أول كل شهر وفي منتصف الشهر أو في أي يوم من «الأيام المحتفل بها».
على أن بقاء إمداد الأشراف المتوفين بمثل ذلك العتاد المادي إلى الأبد، كان بالطبع من المستحيل؛ ولذلك قال «خنوم حتب» أحد الأمراء الإقطاعيين ذوي البأس في «بني حسن» فيما يختص بأوقافه الجنازية: «وأما فيما يتعلق بالكاهن الجنازي أو أي شخص آخر يعبث بها فإنه لن يستمر بعد وابنه لن يستمر بعده في هذا المكان» (يعني مشرفًا على حراسة مدفنه). فيظهر من هذا خوف الشريف المذكور من عدم دوام تقديم العتاد المادي له بعد الموت، ومثل هذه المخاوف كثيرة، تردِّد ذكرها الوثائق التي من هذا القبيل.
وكذلك قد شاهدنا أيضًا أن «حبزافي» ذاك كان يبدي مخاوفه من انقطاع ذراريه عن تقديم العتاد المادي لحياته الآخرة. وليس ذلك بغريب، فنحن أبناء هذا العصر الحديث لا يكاد يدفعنا البر نحو الاهتمام بقبر جدٍّ من أجدادنا الذين رحلوا عنا إلى الحياة الآخرة. وفي بلاد جديدة مثل بلادنا (يقصد الولايات المتحدة بأمريكا) لا يوجد إلا النزر اليسير من بيننا الذين يعرفون أين دُفن آباء أجدادهم.
فالمفهوم أن كهنة «أنوبيس» و«وبوات» وحراس الجبانة بأسيوط كانوا يواصلون أداء واجباتهم ما دام كاهن «حبزافي» الجنازي يتسلم مرتباته، وما دام مخلصًا في القيام بالتزاماته بأن يذكرهم بالقيام بما عليهم من الواجبات ويلاحظ تنفيذها.
على أن القيام بمثل ذلك البِر للأجداد الراحلين كان نادرًا جدًّا، وفي الحالات التي تم فيها شيء من ذلك لم تكن له فائدة أكثر من تأخير وقوع ذلك اليوم المشئوم الذي تزول فيه تلك الآثار جملة. والمدهش في ذلك أنهم، مع وجود مقابر أجدادهم مخربة أمامهم، كانوا لا يزالون يقيمون لأنفسهم تلك الأضرحة التي كان محتومًا عليها أن تلقى مثل ذلك المصير.
ولكن المصري لم يكن عاجزًا العجز كله عن علاج هذه الشدة البالغة، وحاول مقاومتها بنقش صلوات فوق واجهة قبره كان يعتقد أنها ذات تأثير قوي في إمدادها للمتوفى بكل ما يحتاجه في الآخرة، وضمَّن هذه الصلوات نصًّا يستحلف به كل مارٍّ — في رجاء حار — أن يتلو فوق قبره تلك الأدعية المنقوشة.
وهذه الأدعية تمثل لنا اعتقاد القوم في تأثير تلك الكلمات النافذ حينما كانت تُقرأ من أجل المتوفين. وقد نما هذا الاعتقاد نموًّا عظيمًا منذ عصر الأهرام، وهو نمو سار جنبًا لجنب مع تعميم تلك العادات الجنازية التي كانت من قبل خاصة بالطبقة العليا من الشعب. وكان مثل تلك الصيغ الدينية في عهد الأهرام ينحصر استعماله — كما سبق ذكره — في عهود الأهرام المتأخرة، كما أنها كانت مقصورة على مصير الفرعون في عالم الآخرة، فصارت الآن تستعملها الطبقة الوسطى مع طائفة الموظفين بكثرة.
وفي الوقت نفسه برز إلى عالم الوجود طائفة أخرى من «الأدب الجنازي»، وهو ما نسميه نحن الآن «متون التوابيت»، وهذه المتون هي صيغ مشابهة لسابقتها وتتحد معها في الغرض الذي ترمي إليه، غير أنها كانت أكثر ملاءمة لحاجات غمارة الناس؛ ولذلك شاع استعمالها بين دهماء الشعب في العهد الإقطاعي، وإن كان بعض أجزائها يرجع عهده إلى زمن أقدم بكثير من ذلك الوقت، كما أن «كتاب الموتى» الذي ظهر فيما بعد لا يخرج عن كونه مؤلفًا من منتخبات من «متون التوابيت».
وفيما يختص بالناحية التي اتحدت فيها متون التوابيت مع متون الأهرام، فإنا قد ألفنا وظيفتها ومحتوياتها على وجه عام، فإن عالم الآخرة الذي كان يتطلع إليه الأهلون في ذلك العهد الإقطاعي كان لا يزال إلى درجة عظيمة عالمًا سماويًّا وشمسيًّا كما كان الحال في عصر الأهرام، فإن «متون التوابيت» تسودها بدرجة مدهشة فكرة الآخرة السماوية؛ إذ نجد نفس توحيد المتوفى مع إله الشمس كما وجدناه في متون الأهرام، بل إنه يوجد فصل عنوانه «صيرورة المتوفى «رع آتوم»»، ثم عدة فصول أخرى عنوانها: «صيرورة المتوفى صقرا» (وهو الطائر المقدس الممثل لإله الشمس).
على أنه كما تدخَّل «اللاهوت الأوزيري» في متون الأهرام قد تدخَّل أيضًا في متون التوابيت، بل في الواقع استولى عليها، وأحسن مثال لذلك هو المتن الذي صار فيما بعد جزءًا من «كتاب الموتى» باسم الفصل السابع عشر المشهور، والذي اعتبر في العصر الإقطاعي الذي نحن بصدده من الفصول المحبوبة؛ إذ نجده يتقدم على كل المتون الأخرى المكتوبة على عدة من التوابيت، وهو في جملته يعبر عن توحيد المتوفى مع إله الشمس، وإن كان يذكر معه بعض الآلهة الآخرين أيضًا، فيقول فيه الرجل المتوفى:
وقد عُثر على شرح لهذا المتن الشمسي القديم، يرجع تاريخه إلى العهد الإقطاعي، وعند التعليق في هذا الشرح على السطر الذي جاء به «البارحة ملكي، وإني أعرف الغد» أضيفت جملة «ذلك هو أوزير» مع أنه من الواضح تمامًا أن ذلك النص كان خاصًّا بإله الشمس فقط. وقد كان من جراء صبغ تلك المتون بالصبغة الأوزيرية أن أُدخل العالم السفلي الأوزيري حتى في المتون الشمسية والسماوية، وبذلك لم يقتصر الأمر في متون التوابيت على امتزاج مجموعة المعتقدات الشمسية والأوزيرية بعضها ببعض بحالة أتم وأكثر مما كانت عليه من قبل، بل كانت النتيجة أن «رع» قد حُشر الآن في عالم الآخرة السفلي. ويمكن التعبير عن مجرى هذه الحوادث (بشيء من المبالغة) بقولنا: إن «أوزير» في متون الأهرام قد رُفع إلى السماء، في حين أنه في متون التوابيت وكتاب الموتى قد نزل «رع» إلى الأرض.
إنك تطوف حول الأقطار مع «رع» فيجعلك ترى الأماكن الممتعة، وتجد الأودية مفعمة بالمياه لغسلك وإنعاشك، ثم تقطف أزهار البطاح ونور «هني» (؟) وأزهار السوسن والزنبق، وتأتي إليك طيور البرك بالآلاف جاثمة في طريقك، وعندما ترمي خطافك لصيدها يسقط منها ألف برنين صوته، وهي إوز «رو» (؟) والعصفور الأخضر والسمان وطيور «كونوست» (؟) وقد أمرت بأن يؤتى إليك بالغزلان الصغيرة والعجول البيض، وأمرت بأن يؤتى إليك بالجداء والكباش المسمنة بالحبوب، وقد ربطت لك سلم السماء، والإلهة «نوت» تفتح لك ذراعيها، ثم تبحر بسفينتك في بحيرة الزنبق.
ففي تلك الصورة نشاهد المتوفى يصطاد في البطاح — وهي التسلية المحببة إلى الفرعون وأشرافه — ولكنه ينتقل فجأة إلى بحيرة علوية في السماء.
فيتضح من ذلك أن المصير الذي كنا نراه خاصًّا بالملوك في كل الصيغ التي جاءت بها «متون الأهرام» قد صار من نصيب كل إنسان، بل إن الحياة التي كانت أبسط من تلك التي وصفناها؛ أي التي كان المواطن المتواضع يصبو إلى دوام استمرارها في عالم الآخرة، صار لها أيضًا مكان مرموق في «متون التوابيت»، فكان في وسع المتوفى وهو راقد في التابوت أن يقرأ التعويذة الخاصة «ببناء بيت لرجل في العالم السفلي، وحفر بركة حديقة وغرس أشجار فاكهة.» وعندما يصير المتوفى صاحب بيت تحيط به الحديقة وبه البركة وحولها الأشجار الوارفة، فإنه يجب أن يضمن له استيطانه فيه، ومن ثم أعد له «فصل يتناول وجود الرجل في بيته». غير أن سكناه لذلك البيت منفردًا من غير مرافقة أسرته وأصحابه، كانت أمرًا لا يمكن للنفس احتماله، ومن ثم أعد فصل آخر لذلك عنوانه «ختم مرسوم خاص بالأسرة لإعطاء الرجل أهل بيته في العالم السفلي». ونجد في هذا المتن أن تفاصيل المرسوم قد ذكرت خمس مرات في صيغ مختلفة؛ فنجد فيه أن: «جِب» إله الأرض «قد قرر أن يعطي إليَّ أهل بيتي وهم أولادي وإخوتي ووالدي ووالدتي وعبيدي وكل مؤسستي.» وخشية أن يصادرها أي تأثير خبيث نجد الفقرة الثانية من ذلك الفصل تؤكد أن: «جِب» قد قال: «إنه سيُطلق لي في الحال سراح أهل بيتي؛ أي أطفالي وإخوتي وإخواني ووالدي ووالدتي وكل عبيدي وكل مؤسستي ناجين من كل إله، ومن كل إلهة ومن كل موت (أو أي إنسان ميت غيره).» ولضمان تنفيذ ما جاء بذلك المرسوم أُعِد فصل آخر عنوانه «ضم أهل بيت الرجل إليه في العالم السفلي»، ونُصَّ في هذا الفصل على «اجتماع شمل أهل البيت من الأب والأم والأطفال والأصدقاء والأقارب والأزواج والحظيات والعبيد والخدم، بل وكل ما يملكه الرجل ليكون معه في العالم السفلي.»
ولأن فكرة إعادة بيت الرجل وأهله إليه في عالم الآخرة تتضمن الاعتقاد القديم القائل بضرورة تقديم الطعام باستمرار إلى المتوفى، فقد وُجد فصل آخر لذلك عنوانه: «فصل في أكل الخبز في العالم السفلي» أو «أكل الخبز على مائدة «رع» والبذل بسخاء في هليوبوليس». ويصف لنا الفصل الذي يلي هذا الفصل مباشرة كيف «يقعد القاعد ليأكل الخبز عندما يقعد «رع» ليأكل الخبز أيضًا … أعطني خبزًا عندما أكون جائعًا، وأعطني جعة عندما أكون عطشان.»
وقد ظهر لنا في «متون التوابيت» هاته اتجاهٌ ظاهر جدًّا بلغ غايته في «كتاب الموتى»، وهذا الاتجاه ينحصر في أن عالم الآخرة هو مكان تحف به الأخطار والمحن التي لا عداد لها، وأن معظم تلك الأخطار مادية، ولو أنها كانت في بعض الأحيان تمس عتاد المتوفى العقلي. وكان السلاح الذي يستعمل للنجاة من تلك الأخطار وأضمن الوسائل التي يمكن الحصول عليها لحماية المتوفى، هو تمكين المتوفى من بعض القوى السحرية بتزويده في العادة برقية خاصة تتلى عند اللحظة الحرجة، وقد عظم شأن هذا الاتجاه بعد ذلك، فجعل من «متون التوابيت»، ومن بعدها «كتاب الموتى» الذي نبت منها، مجموعة من التعاويذ كانت تزداد على ممر الأيام، وكانت تعتبر في نظر القوم ذات أثر فعال لا شك فيه في حماية المتوفى أو تزويده في الحياة الآخرة بما يلزمه من نعيم.
فمن ذلك أنه كانت توجد تعويذة «يصير بها المتوفى ساحرًا»، وهي موجهة إلى الأشخاص المعظمين الذين في حضرة «آتوم» إله الشمس، وهذه التعويذة في ذاتها لا تخرج بالطبع عن كونها رُقية، وتختتم بالكلمات الآتية: «إني ساحر.» وخوفًا من فقدان المتوفى قوته السحرية كان من تقاليد القوم «وضع رقية سحرية مع المتوفى حتى لا تنزع منه قواه السحرية حينما يكون في العالم السفلي.» ولا شك أن أبسط تلك الأخطار التي عملت من أجلها تلك الرقى كان مَنشؤه تلك التخيلات الصبيانية الساذجة التي كان دهماء الشعب يتخيلونها، وكانت في الغالب سخيفة إلى أقصى حد؛ إذ نجد تعويذة عن «منع أخذ رأس الرجل منه»، ومن قبل نجد في «متون الأهرام» تلك الرُّقية القديمة التي تمنع إجبار المتوفى على أكله برازه. ولما كان لا بد لجسم الإنسان من التحلل فقد وُجد لمنع ذلك التحلل رُقيتان لضمان «أن الرجل لا يتحلل جسمه في العالم السفلي.»
وقد كان من جراء ثقة الناس العمياء بمثل تلك التعاويذ أن صار في يد الكهنة فرصة لا حد لها للكسب، وقد ازداد خصب خيالهم في إنتاج التعاويذ الجديدة باستمرار، وقد كانت تباع بطبيعة الحال للمشترين السذج الذين كان عددهم في ازدياد. وقد ساعدت تلك الوسيلة كثيرًا بلا شك على زيادة مخاوف الشعب من أخطار الحياة الآخرة، كما ساعدت على نشر الاعتقاد في كفاية مثل هذه الوسائل لدرئها.
ومما لا يدع مجالًا للشك في أن ذلك كله من صنع الكهنة تخيل القوم صورة كاتب سري اسمه «جِبجا» عدو للموتى، وعلى ذلك أُلِّفت رُقية خاصة لمساعدة المتوفى على تكسير الأقلام وتهشيم أدوات الكتابة وتمزيق الملفات الخاصة «بجبجا» الشرير.
ومثله في ذلك، الخطر الداهم الذي كان أيضًا موضعًا للخوف في متون الأهرام، وهو مهاجمة الثعابين السامة للمتوفين، فكان أهل العصر الإقطاعي يحبون أن يدرءوه أيضًا عن أنفسهم؛ ولذلك كان المتوفى يجد في لفافته، التي تكون صحبته، رُقًى لأجل «دفع الثعابين ودفع التماسيح عنه.»
والواقع أن الكهنة قد رسموا للمتوفى مصوَّرًا للرحلة التي تنتظره، ليكون مرشدًا له عند باب النار العظيم في المدخل، وليريه الطريقين اللذين يمكنه أن يسلكهما، وكان أحد ذينك الطريقين بريًّا والآخر مائيًّا، وبينهما بحيرة من نار، وكان ذلك المصوَّر ملونًا بالألوان المختلفة على صفحة قاع التابوت من الداخل حيث يكون جثمان المتوفى فوقها؛ إذ إن ذلك المكان هو الملائم لرسم مصوَّر العالم السفلي.
وكان مع ذلك المصوَّر دليل سحري يسمى «كتاب الطريقين»، وكان أيضًا مسجلًا فوق التابوت. على أنه كان يُخشى بالرغم من كل تلك الإرشادات أن يتجول المتوفى لسوء حظه في مكان إعدام الآلهة، ولكنه كان ينجو من ذلك بتعويذة «عدم الدخول في مكان إعدام الآلهة.»
وخوفًا من أن يُحكم على المتوفى بالمشي منكوسًا على رأسه، فإنه كان يجهَّز «بتعويذة تمنعه المشي على رأسه منكوسًا.» وكان أولئك الموتى التعساء الذين يُجبرون على المشي بذلك الوضع المنكوس أشد أعداء الإنسان في عالم الآخرة، ولذلك كانت الحيطة منهم أمرًا ضروريًّا جدًّا؛ إذ يقال للمتوفى: «إن الحياة تأتي إليك ولكن الموت لا يأتي إليك … وهي (الجوزاء والشعرى ونجم الصباح) تنجيك من حنق الموتى الذين يمشون ورءوسهم إلى أسفل، وأنت لست منهم … استيقظ للحياة فإنك لن تموت، قم للحياة فإنك لن تموت.»
وبتلك الكيفية ظل الاعتقاد في قوة تأثير السحر آخذًا في الانتشار، وكان بمثابة سلاح لا يخطئ في يد المتوفى. وسنرى السحر في النهاية يسود كل المعتقدات الجنازية الأخرى كما سيكشف لنا ذلك «كتاب الموتى» بعد مضي عدة قرون على ذلك العهد الذي نحن بصدده.
وليس من شك في أن المذهب الأوزيري كان له أثر عظيم في انتشار استعمال تلك الوسائل السحرية الجنازية؛ إذ إن أسطورة «أوزير» التي كانت منتشرة في ذلك الزمن انتشارًا عامًّا قد جعلت لكل طبقات الشعب إلمامًا بنفس تلك الوسائل التي اتخذتها «إزيس» لإحياء زوجها «أوزير» من الموت، وهي الطرق التي صار كل مصري قديم يعتقد في تأثيرها العظيم في حالته الأخروية كما أثرت في «أوزير» من قبل.
ومع ما كان لمذهب «أوزير» من القوة في عصر الأهرام فإن انتشاره العام الآن في العهد الإقطاعي قد فاق كل انتشار عُرف عنه من قبل، ونرى في ذلك ظفر ديانة الشعب المناهضة إذ ذاك لعبادة «رع» الحكومية التي كانت تشبه العبادات بأية كنيسة معترف بها الآن. وسيادة «رع» تعتبر ظفرًا سياسيًّا، أما ظفر ديانة «أوزير» التي كان يشد أزرها بلا ريب طائفة من مهرة الكهنة، وربما كانوا يقومون لها بدعاية مستمرة وقتئذٍ، فإنه كان انتصارًا لعقيدة شائعة بين جميع طبقات المجتمع، وهو انتصار لم يكن في طاقة أية طائفة صده، ولا في طاقة الحكومة ولا الأشراف مناهضته؛ ذلك لأن النعم التي كان يقوم بإغداقها المصير الأوزيري في الحياة الآخرة على كل الناس جعلها ذات جاذبية قوية شاملة لا تضاهيها أية جاذبية أخرى منافسة لها. وإذا كانت تلك النعم المذكورة في يوم ما مقصورة على الفرعون وحده، كما كان المصير الشمسي في متون الأهرام مقصورًا عليه، فإننا قد شاهدنا أنه حتى الآخرة الشمسية الملكية قد صارت الآن من حق الجميع.
ومن بين القبور المبجلة التي يجرع تاريخها إلى عهد الأسرة الأولى في «العرابة المدفونة» قبر كان يعتبره القوم في العصر الذي نحن بصدده، قبر «أوزير» (مع أن عمره كان وقتئذ ما بين ١٣، ١٤ قرنًا)، وقد طار صيته بسرعة حتى صار المقام المقدس في مصر، فكانت تحج إليه كل طبقات الشعب، وكانت أعظم البركات التي يطمع فيها الإنسان أن يدفن بجوار ذلك القبر المقدس؛ ولذلك كان أكثر من موظف ممن قاموا بمأمورية أو رسالة رسمية في هذه الجهة ينتهز الفرصة لإقامة قبر له هنالك، وإذا تعذر بناء قبر حقيقي لمن يريد ذلك كان من الخير أن يقيم لنفسه مقبرة وهمية على الأقل، يكتب عليها اسمه وأسماء باقي أسرته وأقاربه، وإذا تعذر ذلك أيضًا أقام لنفسه نصبًا تذكاريًّا أو لوحة ينقش عليها صلوات للإله العظيم توسلًا من الزائر وأسرته، وقد فعل ذلك الكثير من الحجاج والزوار من الموظفين، وفي ذلك يقول موظف من عهد الملك «سنوسرت الأول»: «لقد أقمت هذا القبر عند طريق سلم الإله العظيم لأكون من بين أتباعه، ولكي يقدم الجنود الذين يأتون في ركاب جلالته إلى روحي (يعني الكا) من خبزه ومئونته، وقد فعلت ذلك أسوة بكل رسول ملكي يأتي للتفتيش على حدود جلالته.»
وكان داخل سور معبد «أوزير» وما جاوره مزدحمًا بتلك التذكارات، وهي كما نجدها اليوم تؤلف جزءًا هامًّا من المصادر التي يصح الاعتماد عليها في تاريخ ذلك العصر.
وأغرب من كل ما تقدم أن بعض حكام المقاطعات الأقوياء كان يأمر بحمل جثمانه إلى «العرابة المدفونة» لتقام له شعائر خاصة هناك، ثم تجلب معه بعض الأشياء المقدسة لتودع معه في قبره المقام له في وطنه، كما يحمل المسلمون الآن معهم الماء من «بئر زمزم» إلى أوطانهم، أو كما كانت تحمل السيدات الرومانيات المياه المقدسة من معبد «إزيس» بفيلة إلى حيث يتبركون بها في بلادهم.
وكان الزوار الذين يأتون إلى «العرابة المدفونة» بهذه الصفة، قبل الوفاة أو بعدها، يحملون معهم الكثير من القرابين التذكارية، لدرجة أن الحفارين المحدثين عثروا على قبر «أوزير» المزعوم مدفونًا على عمق بعيد تحت أكداس عظيمة من الفخار المهشم وغيره من الهدايا التي تركها الحجاج في هذا المكان منذ آلاف السنين.
ولا بد أنه كان يجتمع هناك في الواقع الجم الغفير من أولئك الحجاج الزائرين لذلك المقام المصري المقدس في كل الأوقات، وبخاصة في ذلك الموسم الذي كانت تمثل فيه حوادث أسطورة الإله في شكل مسرحي يمكننا أن نسميه بحق «مسرحية الآلام» (المأساة).
وبالرغم من أن تلك المسرحية قد فُقدت تمامًا، فإن لدينا لوحة «إخرنوفرت» التذكارية المحفوظة الآن بمتحف برلين، تمدنا بالملخص الذي يمكننا أن نستخلص منه ولو على الأقل عناوين أهم فصول المسرحية المذكورة.
كان «أخرنوفرت» موظفًا من رجال حكومة «سنوسرت الثالث»، أرسله الملك ليقوم ببعض الإصلاحات في معبد «أوزير» بالعرابة المدفونة.
ويتبين لنا من العناوين المدونة بتلك اللوحة التذكارية عن المسرحية المذكورة أن تمثيلها كان حتمًا يستمر عدة أيام، وأن الأرجح أن تمثيل كل فصل من فصولها الهامة كان يستغرق على أقل تقدير يومًا كاملًا، وأن الجمهور كان يشترك في كثير مما كان يحدث في تمثيلها. ويتضح لنا من ذلك المختصر المدون على لوحة «أخرنوفرت» أن تلك الرواية كانت ذات فصول ثمانية: فالفصل الأول يكشف لنا عن ذلك الإله الجنازي القديم «وبوات» خارجًا في موكب ليشتت أعداء «أوزير» ويفتح له الطريق.
وفي الفصل الثاني يظهر لنا «أوزير» نفسه في قاربه المقدس، فينزل فيه بعض الحجاج، ومنهم «أخرنوفرت» كما يقص ذلك علينا في نقوش لوحته التذكارية بزهو وافتخار. وكان «أخرنوفرت» هذا يساعد «أوزير» في صيد الأعداء الذين يعترضون مسير القارب. ولا شك أنه كانت تحدث من الجمهور إذ ذاك معركة عامة كالتي شاهدها «هِرِدوت» في «بابريميس»، بعد ذلك بألف وخمسمائة سنة، فكان بعضهم يقوم بحماية الإله في القارب، بينما يمثل الآخرون دور أعدائه المزدحمين في خارج القارب، وقد يعودون برأس أحدهم مهشمًا، في زهو من أجل ذلك الاحتفال. ويلاحظ هنا أن «أخرنوفرت» — مثل «هِرِدوت» — قد مر على موضوع موت الإله مر الكرام دون أن يذكر شيئًا عن ذلك، وقد كان ذلك في نظره موضوعًا مقدسًا لا يصح وصفه، وذكر لنا فقط أنه قام بتنظيم «الموكب العظيم» للإله — وهو احتفال مظفر نوعًا ما — عندما لاقى الإله حتفه، وهذا هو موضوع الفصل الثالث.
وفي الفصل الرابع يخرج «تحوت» رب الحكمة، ولا شك أنه يجد الجثة، وإن كان ذلك لم يرد له ذكر.
ويتألف الفصل الخامس من الاحتفالات المقدسة التي يجهَّز الإله بوساطتها للدفن.
في حين أن الفصل السادس يشاهد الجمهور يسير في زحام عظيم إلى المقام المقدس بالصحراء الواقعة خلف «العرابة المدفونة»، حيث يضعون جثمان ذلك الإله الرحل في قبره.
وأما الفصل السابع فلا بد أنه كان مشهدًا رائعًا، فعلى شاطئ (أو ماء) «نديت» القريبة من العرابة المدفونة يُهزم أعداء «أوزير» — ومن بينهم طبعًا الإله «ست» وأتباعه — في موقعة عظيمة على يد «حور» بن «أوزير»، ولم يذكر لنا «أخرنوفرت» شيئًا عن بعث الإله وقيامه ثانية من بين الأموات.
ولكن في الفصل الثامن، وهو الأخير، نشاهد «أوزير» وقد عاد إلى الحياة يدخل معبد «العرابة المدفونة» في موكب مظفر.
فيتضح إذن من كل ما ذُكر أن المسرحية المذكورة قد مثَّلت أهم الحوادث الواردة في أسطورة «أوزير».
وقد كان لمثل ذلك العيد الشعبي الكبير مكانة عظيمة في قلوب القوم؛ إذ نشاهد مرارًا وتكرارًا في الألواح المنصوبة تضرع الحجاج بالصلاة للإله العظيم لينالوا بعد الموت حظوة الاشتراك في هذا الاحتفال العظيم، وذلك يماثل بالضبط ما رتبه «حبزافي» لنفسه ليشاطر بنصيبه فيما بعد الموت في الاحتفالات بالأعياد الأسيوطية.
وقد كان لصياغة حوادث أسطورة «أوزير» في شكل مسرحي على الوجه المتقدم أثرٌ قوي في أنفس عامة الشعب، واستولت مسرحية آلام «أوزير» هذه في أي شكل من أشكالها على خيال عدة مجتمعات مصرية، وكما أن «هِرِدوت» قد وجدها فيما بعد في «بابريميس»، كذلك ظلت تنتشر من بلدة إلى أخرى حتى حازت المكانة الأولى في تقويم الأعياد السنوية، وبذلك نال «أوزير» مكانة سامية في حياة عامة الشعب وآمالهم لم ينلها أي إله آخر. وقد كان مصير «أوزير» الملكي وانتصاره على الموت كما صوِّر بتلك الصورة المسرحية الناطقة، سببًا في انتشار الاعتقاد بين الشعب بأن ذلك المصير، الذي كان في وقت ما وقفًا على الملك فقط، قد صار من نصيب كل إنسان، ولم يكن يلزم لأي شخص يرجو مثل ذلك المصير إلا أن يحصل — كما ذكرنا من قبل — على نفس العوامل السحرية التي استعملتها «إزيس» لإرجاع الحياة إلى زوجها الميت الذي هو «أوزير» المقتول ذبحًا، وتلك العوامل تجلب لكل إنسان ذلك المصير المبارك الذي ناله ذلك الإله الراحل.
وقد كان حدوث مثل ذلك التطور في العقيدة المأتمية الشعبية على الوجه الذي شاهدناه مدعاة لازدياد ثقة الناس باطراد في كفاية السحر وقوة تأثيره ونفعه في الحياة الآخرة.
ومن الصعب أن يفهم العقل الحديث كيف أن مرافق الحياة جميعها قد تسرب إليها الاعتقاد في السحر بحالة صيَّرته صاحب السيطرة على العادات الشعبية، وظاهرًا على الدوام حتى في أبسط الأعمال اليومية المنزلية العادية، فصار من الأشياء التي يزاولها الإنسان بطبيعة حياته كالنوم أو تجهيز الطعام، بل لقد صار السحر يتألف منه نفس الجو الذي كان يعيش فيه عالم الشرق القديم.
فكانت الحياة المنزلية في الشرق قديمًا غير ممكنة في نظر القوم إلا بالالتجاء دائمًا إلى نفوذ تلك العوامل السحرية، ولولا نفوذها لأبادت القوى المهلكة الخفية الحرث والنسل.
ولاعتقادهم أن مثل تلك الوسائل لا غنى عنها وبخاصة ضد الأمراض، فإن الأمور العادية الخاصة بالحياة المنزلية والاقتصادية كانت توضع دائمًا تحت حماية السحر؛ فكانت الأم لا يمكنها أن تهدئ من روع طفلها المتألم المريض وتجعله يضطجع طلبًا للراحة إلا بعد الاستنجاد بالقوى الخفية لتقوم بتخليص الطفل من المرض ومن الحسد ومن سلطان أشباح الشر السوداء، التي كانت تكمن في جميع الأركان المظلمة من البيت، أو التي كانت تتسلل من الأبواب المفتحة عندما يسدل الظلام خيامه فوق البيت، وتدخل جسم ذلك الطفل الصغير فتنشر فيه الحمى.
هرول إلى الخارج أنت يا من تأتي في الظلمة، يا من يدخل إلينا خلسة وأنفه إلى خلفه، ووجهه فوق ظهره، ويا من تفقد ما قد جئت من أجله.
هرولي إلى الخارج يا من تأتين في الظلمة، ويا من تدخلين إلينا خلسة وأنفها إلى خلفها ووجهها فوق ظهرها، ويا من تفقدين ما قد جئتِ من أجله.
لقد أعددت له ما يحميه منك: من نبات «إفت» إنه يسبب الآلام، ومن البصل الذي يلحق بك الضرر، ومن الشهد الحلو المذاق (للأحياء) من الرجال ومر المذاق لمن هم هنالك (يعني للموتى)، ومن الأجزاء المؤذية من سمك «إبدو»، ومن فك «مِررت»، ومن العمود الفقري للسمكة.
ولم تقتصر الأم الوجلة على ابنها على استعمال التعويذة الآنفة الذكر بمثابة رُقية، بل كانت تشفعها بمزيج شهي تعطيه الطفل المريض فيبتلعه، وهو مزيج مصنوع من الأعشاب والشهد والسمك، وكان خاصًّا بطرد الشياطين الشريرة (ذكورًا وإناثًا) ممن كانت تصيب الطفل بالمرض أو تهدد باختطافه. وإننا نجد في وصف الشهد بأنه «حلو المذاق (للناس الأحياء) ومر المذاق لمن هنالك (يعني للأموات)» ما يُشعر بنوع هذه الشياطين؛ إذ إنه من الواضح أن بعضًا من الشياطين التي تشير الأغنية إلى الفزع منها هم نفس الأموات الذين تجردوا من أجسامهم، وعلى ذلك كانت حياة أهل الدنيا في تصادم مع الأموات طول مدة حياتهم من هذه الناحية، فكان من اللازم حينئذ العمل على كبح جماح أولئك الأموات الأشرار ووقفهم عند حدودهم، ومن هنا كانت التعاويذ والحيل السحرية التي دلت على تأثير فعلها ضدهم في الحياة الدنيا، ولا بد أن لها قيمتها في الحياة الآخرة أيضًا.
ومن ذلك أن تلك الرُّقية السالفة الذكر التي منعت خطف الطفل من أمه كان يمكن استعمالها كذلك ضد من يسعى لسلب قلب أي رجل في العالم السفلي، ولكي يتمكن الرجل المتوفى من الدفاع عن نفسه ما عليه إلا أن يقول:
وعلى ذلك فإن الشيطان الذي كان يريد أخذ قلبه ليفرَّ به يضطر حتمًا إلى التسلل بعيدًا عنه.
وبتلك الطريقة أخذ السحر الذي يُستعمل في الحياة الدنيا اليومية يستعمل بحالة مطردة للنفع في الحياة الآخرة، ويوضع تحت طلب الموتى وتصرفهم.
- أولًا: استمرار اعتقاد عامة الشعب في كفاية العوامل المادية، مثل إقامة القبور وإعداد معداتها، لضمان سعادة المتوفى في الحياة الآخرة.
- ثانيًا: ازدياد الاعتماد على نفع قوة السحر في عالم الآخرة، وهو اعتقاد نال تشجيع الكهنة فتطرفوا فيه واشتطوا، إلى حد أنهم حاولوا إنتاج تعاويذ سحرية تضمن للمتوفى قبوله خلقيًّا عند محاكمته في عالم الآخرة.