سقوط «إخناتون»
قامت حركة «إخناتون» بين شعب عظيم ما لبث أن وقف مجرى حياته فجأة، وحول إلى اتجاه غريب عنه بالرغم من قوة اندفاعه التي كانت لا تكاد تقاوم، فأصبحت أماكنه المطهرة وقد عبث بها، ومزاراته المقدسة المحاطة بذكريات آلاف السنين وقد أوصدت وطردت كهنتها، كما صودرت الأموال المربوطة على القرابين والمعابد، ومحي ذلك النظام العتيق جملة واحدة، ففي كل مكان كانت طوائف بأجمعها تسير مدفوعة بالغرائز التي تجري في أجسامهم منذ قرون لا يحصيها العد وفق عادات وأخلاق موروثة، فإذا ذهبوا إلى أماكنهم المقدسة وجدوها كأن لم تغنَ بالأمس، وهناك يقفون ذاهلي العقول أمام تلك المعابد القديمة الموصدة الأبواب، وتلك القاعات المبجلة عند القوم منذ الطفولة الأولى، والتي كانت فيما مضى تزخر بأفراح الجماهير أيام الأعياد المقدسة في «أسيوط»، قد صارت الآن صامتة خاوية.
وفي كل يوم، عندما كانت المواكب الجنازية تعرج على حافة الصحراء وفوق هضبة الجبانة، كانت تفاجأ بأن «أوزير» ذلك المعزي والصاحب العظيم والمحامي عن الأموات أمام كل خطر، قد نُفي من البلاد ولم يعد في إمكان أي إنسان أن يذكر اسمه، وحتى في الأيمان التي كان يعقدها القوم، وهي التي اختلطت بدمائهم مع ألبان أمهاتهم في الرضاعة، فإنه كان محظورًا عليهم أن تخرج من شفاههم تلك الأسماء التي تكاد تنطق بها ألسنتهم عفوًا، فكان لا بد ألا يشتمل اليمين القديم أمام القاضي في المحكمة إلا على اسم الإله «آتون» فقط، فكان كل ذلك في نظر القوم كما لو طُلب الآن إلى رجل من عصرنا أن يعبد «س» ويحلف باسم «ص».
ولا بد أن كثيرًا من الكهنة المتذمرين الذين كانوا يكظمون غيظهم الشديد في صدورهم، قد مزجوا سخطهم ذلك بسخط طوائف بأسرها من الباعة وأصحاب الحرف الحانقين، كالخبازين الذين لم يعودوا يكسبون عيشهم من بيع «فطائر الشعائر» — كما كان قديمًا — خلال أيام الأعياد التي كانت تقام في المعابد، وكالصناع الذين لم يعد في مقدورهم الآن بيع تعاويذ الآلهة القدامى عند أبواب المعابد، وكالحفارين المرتزقة الذين أصبح ما صنعوه من تماثيل الإله «أوزير» مكدسًا تحت الأتربة المتراكمة في عدة من المعامل التي صار عاليها سافلها، أو كحجَّاري الجبانة الذين وجدوا أن ما صنعوه من شواهد القبور المزخرفة بالنقوش الزاهية المنقولة من كتاب الموتى قد استُبعد من مدينة الأموات، وكالكتَّاب الذين كانت لفائفهم البردية المخطوطة المنقولة من كتاب الموتى أيضًا — تعد إذ ذاك — لعنة لمن يستعملها إذا كانت مملوءة بأسماء الآلهة القدامى، أو إذا كانت تحمل كلمة الإله بصيغة الجمع، وكرجال الكهانة المسرحيين والممثلين الذين صاروا يطردون من تلك الأماكن المقدسة في الأيام التي اعتادوا فيها أن يمثلوا للشعب تمثيلية «المأساة الأوزيرية»، وكطوائف الحجَّاج المتذمرين في «العرابة المدفونة» ممن كانوا يعتزمون الاشتراك في تلك التمثيلية التي تعبِّر عن حياة «أوزير» وموته ثم بعثه بعد الموت، وكالمشعوذين الذين حرموا كل أسهم تجارتهم الخاصة بالاحتفالات السحرية التي كانت تستعمل بنجاح منذ أيام أقدم الملوك منذ ألفي سنة، وكالرعاة الذين صاروا لا يجسرون بعدُ أن يضعوا رغيفًا وإناء من الماء تحت شجرة راجين بذلك الفرار من غضب الإلهة التي تسكن تحت الشجرة، والتي كان في مقدورها أن تنزل المرض بأهل المنزل عند غضبها، وكالفلاحين الذين صاروا يخافون أن ينصبوا تمثالًا ساذجًا «لأوزير» في الحقل ليطردوا به الشياطين المؤذية المسببة للجدب والقحط، وكالأمهات اللائي يخشين وهن يدللن أطفالهن عند الشفق أن ينطقن بتلك الأسماء المقدسة القديمة وبالصلوات التي تعلمنها في طفولتهن ليبعدن عن صغارهن شياطين الظلام الراصدة لاختطافهم.
وفي وسط هذه البلاد جميعها، وقد عمتها ظلمة سحب التذمر الخانق، ضرب ذلك الملك الشاب المدهش هو ومن حوله من تلك الطائفة المؤيدة له، سرادقَ دينه في رائعة النهار، وفي هدوء لا شعور معه بذلك الظلام الدامس، الذي شمل كل ما يحيط به، والذي يزداد في كل يوم ظلمة منذرة بعظيم الخطر.
فإذا رسمنا حركة «إخناتون»، ومن خلفها ذلك التذمر الشعبي الذي سبق وصفه، ثم أضفنا إلى تلك الصورة ما هو أقرب من ذلك خطرًا؛ وهو معارضة الكهانة القديمة السرية، ومعارضة حزب «آمون» الذي لم يكن بعد قد غُلب على أمره تمامًا، وطائفة الجنود الأشداء الذين كانوا ساخطين على سياسة الملك السلمية في آسيا وعدم اهتمامه بإدارة أملاكه الدولية والمحافظة عليها، أدركنا شيئًا عن تلك الشخصية القوية لذلك القائد الأول في عالم الفكر في التاريخ.
ولكن «إخناتون» لم يكن لديه سابقة ما مثل الثورة الفرنسية للرجوع إليها والاعتبار منها، بل كان هو نفسه أول ثائر عالمي، وقد كان مقتنعًا كل الاقتناع بأن في مقدوره أن يضع في قالب جديد عالم الديانة والفكر والفن والحياة بعزم ثابت لا يقهر، وأن يجعل آراءه في الحال ذات تأثير عملي فعال.
وعلى ذلك قامت مدينة سهل «تل العمارنة» الجميلة، فكانت جزيرة خيالية للنعيم في وسط بحر من التذمر، بل كانت حلمًا مملوءًا بالآمال الخيالية في عقل غاب عنه تمامًا أن الماضي لا يمكن محوه. والعجب أن ظهور مثل ذلك الرجل لأول مرة لم يكن إلا في الشرق، وفي مصر بالذات، حيث لم يكن يوجد رجل آخر يستطيع نسيان الماضي غير «إخناتون». على أن عالم أمم البحر الأبيض المتوسط العظيم، الذي كانت مصر تسوده حينذاك، لم يكونوا أحسن استعدادًا لقبول ديانة دولية أكثر من سادتهم المصريين. ويذكرنا خيال «إخناتون» الدولي بآمال «الإسكندر الأكبر» الذي جاء بعده بألف عام، ولكنه كان سابقًا لعصر الإسكندر بعدة قرون.
وأغلقت معابد الآلهة من «إلفنتين» (يعني الشلال الأول) إلى مستنقعات الدلتا …
وهجرت أماكنهم المقدسة ونبت فوق دمنها المرعى.
وصارت معابدهم كأن لم تغنَ بالأمس، وبيوتهم صارت طرقًا معبدة والبلاد كانت في مأزق سيئ.
وأما الآلهة فقد هجرت هذه الأرض.
وإذا أرسل قوم إلى سوريا لمد حدود مصر لم يكن الفوز حليفهم قط.
وإذا دعا الناس إلهًا لإنقاذهم لم يُجِب دعوته، وكذلك إذا استعطف الناس إلهة لم تُجِب قط، فكانت قلوبهم في أجسامهم عليها أقفالها.
وكان أتباع «إخناتون» في مثل هذه الأحوال يدعون أن يستمر حكمه حتى «تصير البجعة سوداء ويصير الغراب أبيض، وإلى أن تتحرك الجبال وتسير ويجري الماء من أسفل إلى أعلى.»
أما سقوط ذلك الثوري العظيم فيحوطه الغموض التام، وكانت النتيجة المباشرة لسقوطه هي إعادة عبادة «آمون» والآلهة القدامى، فرضها كهنة «آمون» على «توت عنخ آمون»، ذلك الشاب الضعيف زوج ابنة «إخناتون»، ثم أعادوا النظام القديم إلى ما كان عليه. ونجد في بيان «توت عنخ آمون» عن إعادة عبادة الآلهة إيضاحًا شائقًا للحالة العقلية والدينية لقادة رجال الحكم بعدما اختفى «إخناتون»، وقد أشار الملك الجديد إلى نفسه في هذا البيان بقوله:
ويتضح من ذلك أن سقوط «إخناتون» اعتُبر في نظر أعدائه المنتصرين إعادة للنظام الخلقي القديم «العدالة» (يعني ماعت) وإقصاء للظلم. وبعد ذلك أخذ «توت عنخ آمون» يصف الحالة التي ورثها، في فقرة ذكرناها فيما تقدم.
وهكذا لُعنت ذكرى ذلك الرجل العظيم صاحب المثل الأعلى، ولم يظهر اسم إخناتون قط في القوائم الملكية العظمى المسجلة فوق الآثار بين أسماء كل ملوك مصر الماضين، وعندما كانت الإشارة إلى اسمه ضرورية في الوثائق الحكومية في عهد الفراعنة الذين أتوا فيما بعد كان يُسمى «مجرم أخيتاتون».
وقد كان فرح كهنة «آمون» باسترداد سلطانهم فرحًا عظيمًا، ولدينا أنشودة لآمون من ذلك العصر تصف لنا فوز أتباعه وتنطق بشماتتهم عندما كانوا ينشدونها، حيث جاء فيها:
ففي هذه الأنشودة يظهر جليًّا حقد أعداء «إخناتون» المشبع بالتشفي والسخرية المملوءة بالشماتة عندما تقول:
وهكذا كانت حالة معبد الشمس «بتل العمارنة» الذي كان فنانو «إخناتون» يصورونه دائمًا مغمورًا ببحر من ضوء الشمس، بينما كان «آتون» المشع يشرق من فوقه وقد ضمه في أحضان أشعته الفياضة.
ولم يبقَ الآن شيء من معبد ذلك النور الأبدي، الذي كان يومًا ما ساطعًا، إلا بقايا ضئيلة من أساسه، فهل بقي أي شيء آخر؟ وهل تجري أقدم ثورة للعقل البشري مجراها ولا تترك خلفها نتيجة باقية؟
إن ثورة «إخناتون» كانت عنيفة في طرقها أكثر مما يجوز، فلم يخلد شيء مما أحدثته من الانقلاب؛ فالفن المدهش الذي أحدثته كان مهذبًا أكثر مما كان يلزم في التصور وقوة التعبير فلم يَعِش طويلًا، وقد كشفت لنا معامل الملك التي كانت في «تل العمارنة» عن منزلة حب ذلك الفن المدهش عند أولئك الفنانين الملكيين، وقد ترك عملهم هذا أثره في فن العصر الذي جاء بعده، غير أن فنَّي النحت والتلوين لم يستردا قط تلك الحرية التامة التي نعما بها في عهد «إخناتون»، كما أنهما لم يلقيا ثانية جو تلك الحقيقة الدقيقة التي كانت تسود فن معامل «تل العمارنة».
وأما في الأخلاق فلم يعد تعظيم الصدق بتلك الدرجة السامية التي بلغها في تصور «إخناتون»، ومما لا شك فيه أن تقديره العاطفي للجمال والفيض اللذين شاهدهما في صنع الإله قد ترك أثرًا لم يُنسَ قط بأكمله، وليس من شك مطلقًا في أن تلك الأنشودة المصرية قد بقيت في شكل ما بعد موت «إخناتون»، حتى عرفها العبرانيون بعد قرون مضت واستعملها مؤلف المزمار الرابع بعد المائة، وبذلك لم تختفِ جملة روح مذهب «آتون»، وسنجد فيما بعد برهانًا آخر على تأثيرها، وعلى أن عنف هجوم إخناتون التعصبي على التقاليد قد جعل من الطبيعي أن ينزل عليه وعلى حركته الانتقام الجزائي الذي كانت خاتمته الدمار التام.
فلا غرابة إذن في أن تلك العاصفة حينما هبت اكتسحت على وجه التقريب كل أثر لأقدم باحث عن المثل الأعلى. وليس لدينا ما ينبئنا عنه إلا القليل فوق ما عثر عليه من بقايا مدينته، التي كانت بمثابة مركز منعزل للمثل العالية، التي لم يدركها غيره أو يعرفها، إلا بعد مضي قرون عدة، حينما تألف أولئك البدو الذين كانوا إذ ذاك ينزحون إلى أقاليم «إخناتون» الفلسطينية وكونوا أمة، كان لها من المطامح الاجتماعية والخلقية والدينية ما كان من نتائجه ظهور أولئك الرسل العبرانيين وأصحاب المزامير، ليواصلوا السير بالروح والرؤيا اللتين سبقهم فيهما أصحاب الأحلام الاجتماعيون من المصريين الأقدمين.
وكان من جراء انهماك «إخناتون» في معنويات ثورته العظيمة أن عكفته على التأمل والتيه في الأحلام بقصر الشمس في «تل العمارنة»، في حين أن الحيثيين، وهم الأعادي الجدد أصحاب البأس الشديد في غربي آسيا، كانوا قد قاموا بفتح سريع لدولة مصر الآسيوية، وفي حين أن الكهنة والجنود بين شعبه نفسه قد قوضوا سلطان الأسرة الثامنة عشرة تقويضًا تامًّا، وهي أسرة ذلك الفرعون ذات الصولة التي سادت الشرق القديم نحو مائتين وثلاثين سنة. وبهدم سلطان «إخناتون» بدأت مصر عصرًا جديدًا يختلف عما قبله. حقًّا إن بهاء عظمتها الظاهري وذلك المظهر الرائع لثباتها الطويل المدى كان ذكرهما لا يزال يتردد في تعابير الافتخار اللفظية التقليدية، ولكن الحالة الواقعية أخذت تضمحل بعض الشيء عندما اقترب القرن الرابع عشر ق.م من نهايته.
وكان أصداء المذهب الإخناتوني لم ينقطع ترددها بعد، كما كانت علاقته بالتعليم الشمسي الهليوبوليسي القديم لا يزال معترفًا بها، بل إن نفس الأنشودة المعبرة عن الفوز (المفعم بالشماتة) الذي أحرزه كهنة «آمون» ضد مذهب «إخناتون»، تنم عن اتصالها بالمذهب الشمسي القديم، وعن تعبيرها عن أبوة «رع» عندما تنتقل إلى مديح «آمون» وتصنفه بأنه «الراعي الطيب» و«النوتي»، وهي أفكار نبتت في أثناء الحركة الاجتماعية للعهد الإقطاعي المصري كما تقدم ذكره فيما سبق.
وهذه الأنشودة التي اقتبسنا منها هذه الأسطر لا تتردد في تسمية ذلك الإله الممدوح باسم «رع» أو «آتوم»، دالة بذلك على أن حركة «آتون» قد تركت السيادة التقليدية لإله الشمس «رع» الهليوبوليسي دون مساس بها، وكذلك نجد فيها قطعة أخرى تحتوي على ترديد لأصداء مذهب «آتون»، حيث جاء بها ما يأتي:
وكذلك بقيت الجمل الدالة على التوحيد منبثة بين سطور هذه الأنشودة بلا تردد، وإن كانت الأنشودة دائمًا تشير إلى الآلهة، فتقول:
على أنه توجد أنشودة لأوزير من نفس ذلك العصر، يخاطب فيها بما يأتي:
وفي كل ذلك نجد روح التضرع الإنساني، التي سبق أن ظهرت كما ذكرنا آنفًا، إبان التعليم الاجتماعي في العهد الإقطاعي المصري، فإن تفضيل المستضعف على المستكبر المتجبر، والأمر السائد والمعرفة، وهي صفات مقصورة على الملكية والإلهية، قد عثرنا عليها كلها من قبل في تلك المقالات الاجتماعية لأمثال «إبور»، بل أيضًا في الوثائق الحكومية مثل الوثيقة الخاصة بنصيب الوزير الأكبر في الأسرة الثانية عشرة من ملوك المصريين القدماء، وكذلك القول بأن الإله هو الأب والأم لمخلوقاته يرجع بالطبع إلى ما كان عليه الاعتقاد في مذهب «آتون».
ومع أن أمثال تلك الأناشيد لا تزال كذلك تحتفظ في ثناياها بالعقيدة العالمية، والتغاضي عن فكرة القومية، وبالنظر الواسع البعيد المرمى، مما كان شأنه بارزًا في تعاليم «إخناتون»، فإنها بالرغم من ذلك تكشف لنا عن ثقة فردية بطيبة الإله، فهي بذلك برهان هام على ظهور الوجدان الشخصي، وتكشف لنا عن بداية عصر جديد ساد فيه التدين الانفرادي الذاتي.
وعندما نمضي في إنعام النظر في المعتقدات البسيطة الخالية من تعقيدات رجال الدين في خلال القرنين الثالث عشر والثاني عشر؛ أي في القرنين اللذين أعقبا عصر «إخناتون»، نجد أن ثقة المتعبد في عناية إله الشمس بكل المخلوقات حتى بأقل مخلوقاته قد تطورت إلى روح تعبدية وشعور فياض بالاتصال الذاتي بالإله، مما ظهرت بوادره من قبل في قول «إخناتون» لإلهه: «وإلى الآن فإنك ما زلت في قلبي.»
وعلى ذلك نجد أن التأثير الباقي لمذهب «آتون» وعقائد العدالة الاجتماعية للعهد الإقطاعي، قد بلغ أوجه في أعمق تعبير، عن الروح الدينية الخالصة، وصل إليه رجال مصر. ويضاف إلى ذلك أن هذه المعتقدات، ذات العلاقة الوثيقة الشخصية بين المتعبد وإلهه، بالرغم من تأصلها أولًا في تعاليم فئة قليلة محصورة، قد صارت آنئذ بمرور القرون، ومع التطور التدرُّجي البطيء، منتشرة انتشارًا واسعًا بين طبقات الشعب، وكانت النتيجة انبثاق فجر عصر التقوى الانفرادية والإلهام الباطني الذي يناجي به المرء ربه.
والواقع أنه تطور هام، وأنه كالكثير من الانقلابات التي تعقبناها في هذا الكتاب، يعد أقدم تطور رأيناه من نوعه في تاريخ الشرق القديم، وبالنسبة لهذا الموضوع بالذات، في تاريخ البشرية جميعًا.
وفي مقدورنا أن نتعقبه في «طيبة» وحدها، ولا يخفى ما في ذلك من الإمتاع الشائق، ما دام في مقدورنا أن نتعرف ما كان يجول في نفوس عامة الشعب الذين كانوا يملئون الطرقات والأسواق، والذين حرثوا الحقول وزرعوها ونهضوا بالصناعات، والذين أمسكوا بدفاتر الحسابات وقاموا بأعمال السجلات الرسمية، والذين قطعوا الأخشاب ورفعوا المياه، وغيرهم من الرجال والنساء الذين وقع على كواهلهم عبء الحياة المادية العظيم في تلك الحاضرة الشاسعة للدولة المصرية القديمة في خلال القرنين الثالث عشر والثاني عشر ق.م.
فنجد — مثلًا — أن كاتبًا في أحد مخازن الخزانة في جبانة «طيبة» يدعو «آمون» فيقول:
فالإله الذي يوجه عنايته إلى كل شيء حتى المحافظة على العصافير، مثل إله «عيسى»، رأى فيه أهل «طيبة» موئلًا يشكون إليه مصائبهم وهمومهم في حياتهم اليومية، واثقين في شفقته وحنانه وفيضه. كذلك نصب أحد الرسامين الذين يقومون برسم المناظر الجنازية في جبانة «طيبة» لوحة تذكارية في أحد مزارات الجبانة، تبين كيفية نجاة نجله من مرض ألمَّ به بفضل «آمون» وشفقته العظيمة، فكان «آمون» في نظره الإله الجليل الذي يسمع شكاية الشاكين، ويجيب الفقير المعذب إذا استغاث به، ويمنح النفس من قوس الدهر قناته، ويقص علينا قصة رحمة الإله «آمون» فيما يأتي:
إن «نب رع» رسام «آمون» في مدينة الأموات، وهو ابن «باي» رسام «آمون» في مدينة الأموات، قد أقام هذه اللوحة التذكارية باسم ربه «آمون» رب «طيبة» الذي يأتي لإجابة الفقير المستغيث به، مقدمًا له التسبيحات باسمه لعظم قوته ومقدمًا التحميدات أمامه وأمام كل الأرض لأجل الرسام «نخت آمون»، وذلك عندما رقد مريضًا مشرفًا على الموت، وكان في قبضة «آمون» بسبب خطيئته.
«لقد وجدت أن رب الآلهة أتى كريح الشمال وأمامه الهواء العطر حتى ينجي الرسام «نخت آمون» ابن رسام «آمون» في الجبانة «نب رع» وابن سيدة البيت «بشد».»
ويقول: «بالرغم من أن العبد اعتاد ارتكاب الخطيئة فإن الرب من شأنه الرحمة؛ لأن رب «طيبة» لا يصرف كل اليوم غاضبًا، فإذا غضب لحظة فإن ذلك الغضب لا يدوم طويلًا … بل يلتفت إلينا في شفقة. إن «آمون» يلتفت إلينا بنفسه.»
ثم يقول: «سأضع هذه اللوحة باسمك وسأسجل هذه الأنشودة بكتابتها فوقها، إذا شفيت لي الرسام «نخت آمون». هكذا خاطبتك وقد أجبتني، والآن انظر إليَّ وقد أنجزت وعدي، إنك رب من يدعوك، أنت الذي ترضى عن الحق والعدالة، أنت رب «طيبة».»
صنعها الرسام «نب رع» وابنه «خاي».»
وهكذا صار إله الشمس أو «آمون» الذي قام مقامه، ملاذًا للمحزونين، فهو الذي يسمع الشكوى ويجيب دعاء من يستغيث به، والذي يحضر عند ذكر اسمه، وهو الإله المحب الذي يسمع الصلوات، والذي يمد يده إلى الفقير وينجي اليائس، وبمثل ذلك الأم المصابة التي أهملها ابنها «ترفع ذراعيها للإله فيسمع استغاثتها.»
وصارت آنئذ العدالة الاجتماعية التي نشأت في عهد الدولة الوسطى المصرية حقًّا يطالب به كل فقير أمام الإله، الذي صار هو نفسه قاضيًا عادلًا لا يقبل الرشوة، رافعًا للحقير، حاميًا للفقير، غير باسط يده للغني.
فالغني والفقير يحيق بهما غضب الإله على السواء إذا وقعت منهما الخطيئة، واليمين الذي يصدر استخفافًا أو كذبًا يجلب غضب الإله فيصيب الحانث المرض أو العمى، وذلك ما لا يمكن النجاة منه — كما ذكرنا — إلا إذا أتبع المذنب ذلك بالتوبة والندم والتجأ إلى التذلل والخضوع راجيًا عطف إلهه.
وهذه أول مرة نجد فيها أن «الضمير» قد تحرر تمامًا، فيعتذر المذنب ويندم على جهله وارتكابه الإثم، فنراه يقول:
تعال إليَّ يا رع حور أختي حتى ترشدني.
وكما أننا نجد العبري التقي يحب «بيت المقدس» موطن ربه منذ القدم، كذلك كان ذلك المصري القديم يولي وجهه في تعبده شطر مدينة الشمس العظيمة التي نشأ فيها مذهب آبائه منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة، حيث يقول:
فالأناشيد القديمة كانت تتألف من أوصاف الحوادث الخرافية، وكلها أمور خارجية بالنسبة لحياة المتعبد، حتى إنه كان في مقدور كل إنسان أن يبتهل إلى الإله بنفس الصيغة التي يبتهل بها غيره، فصارت الابتهالات آنئذ مظهرًا لإحساسات باطنية؛ أي إنها تعبير يراد به الاتصال الذاتي بالإله، وهو اتصال يرى فيه المتعبد أن إلهه يغذي الروح كما يغذي الراعي قطيعه، ونجد ذلك في القول الآتي:
حقًّا إنه كانت توجد وسائل ظاهرية ومادية تزيد في هذا الاتصال الروحي بالإله، وقد رأينا الرجل العاقل يحث غيره بحكمة على «الاحتفال بعيد إلهه، وأن يعيد الاحتفال في مواسمه؛ لأن الإله يغضب على من يتعدى حدوده.»
ومع ذلك فقد كانت أعظم الوسائل تأثيرًا لكسب عطف الإله ورضاه هو التدبر والتفكر في أناة وصمت مع الاتصال الباطني، وهو ما كان يراه حتى الحكماء الذين يميلون إلى عدم الخروج جملة على العادات التقليدية، كما نرى فيما يأتي:
بمثل هذه الروح كان يتجه المتعبد إلى ربه كأنه عين ماء روحانية منعشة. ومن ذلك أيضًا:
على أن هذه الروح — روح الاتصال الصامت — التي يرجى بها طيبة الإله الرحيمة، لم تكن وقفًا على فئة قليلة مختارة، ولا على جماعات الكهنة المتعلمين، فإننا نجد فوق أحقر الآثار لعامة الشعب أن «آمون» كان يدعى بالذي «يأتي للصامت» أو «رب الصامت» كما لاحظنا ذلك فيما تقدم.
وقد كان من جراء ذلك التطور النهائي للشعور الديني الذي توجت به ثورة «إخناتون» الدينية والعقلية، كما توجت به كذلك عقائد العدالة الاجتماعية التي ظهرت في العهد الإقطاعي، أن وصلت الديانة المصرية القديمة إلى أسمى تطوراتها.
وأما في الأخلاق وفي موقف الإنسان تجاه الحياة فإن الحكماء استمروا في المحافظة على روح الاحترام لأسمى المثل العليا العملية، وهو موقف ندرك فيه تقدمًا محسوسًا على التعاليم العتيقة للآباء، فصاروا يحفلون بحسن الذكر وطيب الأحدوثة ويتشددون في المحافظة على السمعة، فيقول الحكيم (آني): «دع كل مكان تحبه نفسك معروفًا عند الناس.»
وكانت أحوال السُّكْر وعيشة الخلاعة تعرض بكل نتائجها الوخيمة أمام الشباب، كما كانت أخطار الفحش والفجور تعرض للشباب بدون تحفظ وبصراحة عارية من كل ستر أو حجاب، حيث يقول:
أما أطايب الحياة ومتاعها فيجب على الإنسان أن ينظر إليها بتحفظ فلسفي، ومن الحماقة أن يعتمد الإنسان على الثروة الموروثة ويظنها مجلبة للسعادة: «لا تقل إن جدي من أمي له بيت في ضيعة كذا وكذا، فإنه حين تأتي للقسمة حسب الوصية مع أخيك لا يكون نصيبك إلا حظيرة فقط.»
فإن مثل هذه الأشياء في الواقع لا دوام لها ولا ثبات:
ولما انتقل الشعب المصري القديم إلى ألف السنة الأخيرة ق.م كان نمو الضمير الذي تتبعنا مجراه في نحو ألفي عام، قد وصل إلى نهايته بتحقيق هذا الانتقال العميق الهام، الذي كان يمهد لمجيئه من عدة قرون، فإن الوازع الباطني الذي نما في الأصل من المؤثرات الاجتماعية ثم زاد تطوره خلال قرون مضت في التفكير العميق، قد صار المتعبدون يعترفون الآن من غير تحفظ بأنه أمر الإله نفسه.
وقد رأينا أن هذه الفكرة كانت قد ظهرت قبل ذلك بنحو ٥٠٠ سنة؛ أي في بداية عهد الإمبراطورية المصرية، ولكن في هذا العصر الذي هو عصر الورع الشخصي، صار الضمير هو صوت الإله بدون أدنى شك، وذلك ما لم يحدث من قبل مطلقًا.
وإزاء ذلك لم يكن هناك بالطبع مجال لإخفاء الخطيئة أو إنكارها بعد وقوعها من المخطئ، وإذ كان المؤمن يشعر بأن كل أمره معلوم عند ربه فقد أصبح يضع نفسه — بدون أدنى تحفظ — في يد الله المرشد والمهيمن على كل حياته وحظوظه. ومع أن رضاء المجتمع كان لا يزال أمرًا هامًّا، وضغط المؤثرات الاجتماعية محسوسًا، فإن ذلك صار في المرتبة الثانية إزاء الإله العليم بكل شيء.
وكما كان يحدث كثيرًا في مثل تلك النصائح التي كانت تصدر من رجال الحكمة المصريين القدماء، قد اعتبرت حِكم «أمينموبي» أيضًا ملقاة من هذا الحكيم على ابنه. وهي في نظمها ووضعها تعد أكثر ترتيبًا من أية وثيقة أخرى من نوعها مما فحصناه من تلك الوثائق للآن، فقد قسمت بنظام إلى ثلاثين فصلًا، وكل فصل منها خاص بموضوع معين، وتبدو مقسمة إلى مقطوعات كل منها يشتمل على أربعة أسطر أو ستة أو ثمانية، كما يوجد بعض مقطوعاتها مؤلفًا من سطرين فقط. ويلاحظ أنه لم يبذل في تأليف تلك الحِكم أي جهد لتنسيق فصولها أو ترتيبها ترتيبًا منطقيًّا.
ولذلك كان «أمينموبي» يتمسك أمام ابنه دائمًا بهذه النظرة إلى الحياة الدنيا في المعاملات الشخصية والرسمية، مع الشعور التام بتلك المسئولية أمام الإله في كل حين. ومما يزيد في أهميته تلك النصائح ووصولها إلى هذه القمة من تقدير الضمير والإحساس برقابة الله، وذلك في تعاليم مفكر مصري في القرن العاشر ق.م، وقبل أن يكتب أي شيء من التوارة، أننا نعرف الآن أن حِكم «أمينموبي» هذه قد ترجمت إلى العبرية وقرأها العبرانيون، وأن قسما هامًّا منها قد وجد سبيله إلى كتاب العهد القديم.
وإننا نجد حكيمنا هذا عند تناوله موضوع تهيئة ابنه للانخراط في سلك الوظائف الحكومية المصرية، يبين له تلك المغريات التي قد تدفعه إلى استغلال الفرص الرسمية ابتغاء المكسب من ورائها، فنراه يعددها الواحدة تلو الأخرى، ويحذر ابنه الشاب من الاستسلام لمثل تلك المغريات، فإذا كان في وظائف مسح الأرض فنصيحته له هي:
ومن المهم أن نلاحظ أن أمينموبي كان لا يزال يحترم الرأي العام في مثل تلك المواقف؛ لأنه عندما ينصح ابنه بمراعاة الأمانة في السجلات المالية يقول له:
ولما كان موظفو بيت المال عند المصريين القدماء لهم علاقة كبيرة بالموازين والمكاييل، فقد اهتم بها «أمينموبي» كثيرًا، حيث يقول لابنه:
لا تطمعن في متاع رجل حقير.
لا تطمعن في متاع رجل عظيم.
ثم نجد كذلك أن «أمينموبي» كان يهتم كثيرًا بمحافظة ابنه على الاستقامة التي لا تراخي فيها ولا هوادة في المعاملات الشرعية وفي التقاضي أمام المحكمة، حيث يقول:
وإن الكلام الرزين والأخلاق السلسة تعتبران من الأمور الهامة في نظر حكيمنا، كما أن التهديدات الصاخبة الجوفاء لا يقوم لها وزن أمام تدابير الله ضد أعدائنا:
ثم يستمر «أمينموبي» في نصائحه حاضًّا ابنه على التباعد عن الصراحة الخارجة عن الحد، بل إنه يعود كثيرًا فيحذره من هذه العادة الخطرة في كل مقاله، فمن ذلك قوله:
وبنفس هذه الفكرة التي تجول في ذهن الحكيم نراه ينصح ابنه بألا يسترق السمع في البيوت العظيمة، وأخذ يحثه بهذه المناسبة على مراعاة التواضع في مسلكه إذا كان على مائدة رجل عظيم. وقد قدمت مثل هذه النصيحة وببعض تعبيراتها قبل مقال «أمينموبي» بنحو ثمانية عشر قرنًا، وهي تلك الحكم التي ألقاها «بتاح حتب» على ابنه في عهد الأسرة الخامسة، ولأنها حكمة بالغة في السلوك الواجب نحو الرؤساء، ظل المصريون القدماء يحترمونها مدة تنوف على ألفي سنة، فقد وجدت سبيلها إلى الحياة العبرانية، وهي تعد من غير شك أقدم قطعة جاءت في التوراة.
ونجده كذلك يحذر ابنه الشاب من المراءاة والمعاملة ذات الوجهين في كل علاقاته مع العظماء، حيث يقول:
وإذا كانت مصاحبة العظيم تغري بالنفاق، فإن مصاحبة المتسرع والأحمق خطرة أيضًا؛ لأنها تؤدي بالإنسان إلى فحش القول وهجره:
والمقال على هذه الوتيرة مفعم بالتحذير من الرجل المشاغب والرجل المستهتر. وأما الأخلاق الفاضلة فهي أخلاق الرجل المتحلي بالرقة والتواضع وضبط النفس، على عكس تلك الأخلاق الذميمة التي تُعرف عن الرجل الأحمق. وقد وضع «أمينموبي» في بداية نصائحه مقابلة بين الأخلاق وأضدادها الذميمة بهيئة شجرتين، إحداهما شجرة برية نشأت في الغابة ولا يتعهدها أحد، والأخرى تزدان بها الحديقة، وفي ذلك يقول:
وينهى «أمينموبي» عن الاشتباك مع السفيه، فيقول: «لا تشتبكن في نزاع مع سفيه اللسان.»
ويحض الشاب على عدم الدخول في علاقة ما مع أمثال أولئك الرجال، والكلمة التي عبَّر بها ذلك الحكيم عن الرجل الطائش والمشاغب والأحمق هي النعت «حار»، وفيها ما يوضح المعنى وزيادة. وهذه الكلمة المصرية القديمة معادِلة للكلمة العبرية التي ترجمت بها في كتاب الأمثال من الكتاب المقدس وهي «المستخف»، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى نجد أن التسمية التي استعملها ذلك الحكيم أيضًا للدلالة على «المتواضع» و«الضابط لنفسه» هي «الصامت حقًّا» الذي يعامل الجميع بلطف وتواضع. وهذا المعنى يتصل اتصالًا وثيقًا بالعابد المتبتل الصامت الذي تقدَّم ذكره فيما مضى، وهو يماثل على ما يظهر «الرجل الحازم» الذي نجده في الأمثال العبرية. ومثل ذلك الرجل يعامل الأرملة التي يجدها تتلقط فضلات الحقل برفق وأناة، كما ذكَّر «أمينموبي» ابنه بأن:
وهذه الروح الرقيقة العطوفة هي التي تنصح بأن الفقير والمحزون لا يعاملان بالقسوة، كما يقول الحكيم:
وإن عدم ثبات أحوال الإنسان، وتوقفها على مشيئة الله تعالى، قد حدا «بأمينموبي» إلى تحذير ابنه من الاعتزاز بالثروة الزائلة: حيث قال له:
والواقع أن هذه النتيجة الحكيمة التي يقول فيها «أمينموبي» إن «الثروة (المغصوبة) تصنع لنفسها أجنحة» وتطير بعيدًا، وصورها لنا في تلك الصورة البارزة عن الثروة الأرضية التي لا تدوم وتكون عرضة للزوال والفناء، نعرف لها مثيلًا في صورة أخرى انحدرت إلينا عن طريق محرر «كتاب الأمثال» العبري وانتشرت في حياة العالم الغربي بعد ظهورها بين سكان مصر بثلاثة آلاف سنة.
ويرى حكيمنا أن الاعتماد على مثل تلك الموارد الدنيوية الزائلة لا يجدي نفعًا، وأن الضمان الوحيد لذلك هو الله، فيجب أن نعبده، وبذلك «تنجو من الخوف»، وعلى هذا فإن راحة البال والتخلص من الخوف يمكن الحصول عليهما بالاعتماد على الله وحده فقط.
وعلى ذلك نجد هذا الحكيم المصري القديم يقول في أنبل فقرة من نصائحه لابنه:
فهل كان هناك عندما نصح السيد المسيح — عليه السلام — تلاميذه بقوله: «لا تفكروا في الغد»؟ أي صدى لتلك الحكمة المصرية القديمة في تلك الكلمات؟ إنه من المحتمل ألا يكون في مقدورنا قط الإجابة على هذا السؤال، غير أن حكم «أمينموبي» قد قدمت لنا مساعدة جوهرية في الكشف عن مدى انتشار التعاليم الخلقية المصرية القديمة فيما وراء شواطئ النيل وبخاصة في فلسطين. على أن أعظم الأجزاء انتشارًا من حِكم «أمينموبي» قد تجاوزت فلسطين إلى مدى شاسع ولا تزال مستعملة بين ظهرانينا.
وقد أوضح الأستاذ «زيته» أن السطرين الغامضين في ظاهرهما، وهما الخاصان باختلاف اتجاه كلمات الناس وأعمال الله، لا يمكن أن يكون المقصود منهما سوى الفرق الشاسع بين كلمات الناس (أي مقاصدهم) وما يتلوها من أفعال الله — سبحانه وتعالى. وعلى ذلك تكون الترجمة ببعض التصرف هكذا: «الكلمات التي يتكلمها الناس تختلف في اتجاهها وأعمال الله تختلف في اتجاهها.» وتكون المقابلة هنا على البديهة هي بين «كلمات الناس» و«أعمال الإله». وعندما يذكر أنهما «يختلفان» فإن المعنى المقصود يكون بداهة «أنهما يختلفان عن بعضهما». وعلى ذلك يكون لدينا هنا المثل العالمي في أقدم صورة له: «الإنسان يريد والله يفعل ما يريد.»
وإن مثل ذلك الانتشار الواسع للرأي المصري القديم عن علاقة الله بالإنسان يفتح لنا ذلك الموضوع الواسع، وهو تأثير التطور الخلقي المصري القديم لا في تاريخ الإنسان القديم فحسب، بل في تاريخ المدنية الغربية أيضًا. ولما كان بحث ذلك الموضوع يجب أن تتألف منه خاتمة هذا الكتاب، فيجب قبل أن نتناوله بالبحث أن نلقي نظرة قصيرة على المراحل الأخيرة من ذلك التفكير الخلقي المصري القديم قبل أن يحشر سكان وادي النيل إلى معمعة عاهليات البحر الأبيض المتوسط الآسيوية.
ذلك بأنه بعد سقوط العاهلية المصرية في القرن الثاني عشر قبل المسيح كانت قوى حياة البلاد الداخلية والخارجية قد اضمحلت وفقدت كل تأثير لها في إزكاء نار التفكير الخلقي مرة أخرى حتى يقوم بأي نشاط حيوي يسمو به إلى أكثر مما وصل إليه، بل قد حل مكان ذلك ركود وجمود قاتلان لا يأبهان لشيء من عوامل النمو والنشاط، وكأنما اعترى حياة تلك الأمة التي كانت ممتلئة نشاطًا وحيوية ذهول خامد؛ ولذلك نجد أن التطور الذي أعقب ذلك الأوان كان مجرد ظواهر رسمية آلية لا تتناول أي تقدم في التفكير والإنتاج العقلي، وكانت قوة الكهانة بصفتها ذات نفوذ سياسي قد جعلت الملك «تحتمس الثالث» في القرن الخامس عشر ق.م ينصب رئيس كهنة «آمون» رئيسًا لجميع كهنة مصر في ذلك الزمان؛ أي إنه صار الرئيس الديني للدولة.
ومع أن هذه «البابوية الآمونية» قد قاست عنفًا شديدًا على يد «إخناتون» فإنها قد استردت فيما بعد كل ما فقدته، بل زادت عليه كثيرًا حتى إن «رعمسيس الثاني» سمح لوحي «آمون» أن يرشده في تعيين الكاهن الأعظم للإله؛ ولذلك كان من السهل في تلك الأحوال على الكاهن الأعظم لآمون أن يجعل منصبه هذا وراثيًّا.
ولما لم يكن في مقدور البلاد أن تقاوم تلك القوة السياسية الكهنية، التي كانت بمثابة دولة داخل الدولة، وكانت البلاد دائمًا فريسة لتعديها الاقتصادي، فإن مصر هوت بذلك إلى الانحطاط بسرعة، إلى أن صارت حكومة كهانة فقط، حتى إنه حوالي سنة ١١٠٠ق.م سلم الفرعون صولجانه إلى رئيس القوة الحاكمة التي صارت وقتئذ هي حكومة المعبد.
وفي خلال التطور الطويل، الذي كان من جرائه استيلاء طائفة الكهنة على إدارة شئون العرش، لبست المظاهر الخارجية والرسمية للتدين من حلل الفخامة والأبهة ما لم تصل إليه من قبل أي قوة دينية في تاريخ التدين القديم؛ ولذلك فإن معابد ذلك العصر ستبقى دائمًا من أروع الآثار الباقية من العالم القديم.
والواقع أن تلك القصور «الإلهية» الضخمة قد رفعت من قيمة الشعائر الدينية الظاهرية إلى مستوى لم تتمتع به من قبل، لا في فخامة مبانيها فحسب، بل في معداتها العظيمة الرائعة أيضًا.
وقد صار آنئذ «آمون طيبة» وهو متوج بتاج من العظمة لم يسمع بمثله في بذخ الشرق قط، في أيدي كهنته الماكرين، مجرد مصدر للقرارات السياسية والإدارية، بل إن الأحكام القضائية المعتادة كان يصدر الفصل فيها بإيحاء من الإله، كما كان غير ذلك من أمور الوصايا والهبات خاضعًا كذلك لما يوحي به الإله، فكأن الدعاء القديم الذي كان يبتهل به المظلوم إلى الإله «آمون» أن يستحيل بنفسه إلى وزير للرجل الفقير قد نفِّذ تنفيذًا حرفيًّا بحتًا، وأفضى إلى نتائج لم تكن في حسبان الذين قاموا بتأليف هذا الدعاء.
أما الدين بصفته قوة شخصية خلقية فقد بقي في قلوب الفقراء وحثالة الشعب من المتدينين فقط، من أمثال أولئك الذين عثرنا على أدعيتهم الناطقة بورع أصحابها وإيمانهم الشخصي على أحقر اللوحات المقدمة للنذر في جبانة «طيبة»، وهذه الألواح المنذورة، مجتمعة مع نصيحة «آني» وحِكم «أمينموبي»، قد كشفت لنا عن روح عصر ساد فيه الورع الشخصي، وكان خاتمة تطور الآراء الخلقية عند قدماء المصريين، وكان ذلك بعد مرور بضعة أجيال من ألف السنة الأخيرة ق.م، وفي نفس الوقت الذي انهارت فيه المملكة العبرانية المتحدة، التي لم يقم بالحكم فيها غير ثلاثة ملوك ثم انقسمت إلى مملكتين. ومن المهم جدًّا أن نلاحظ أن التطور الخلقي عند قدماء المصريين — كسائر عناصر ثقافتهم — قد وقف وانتهى أمره تقريبًا قبل بداية الحياة القومية العبرانية، بعد أن سار في تدرجه نحو خمسة وعشرين قرنًا.
وعندما انتقل ذلك الانحطاط المصري القديم الذي دام نحوًا من خمسمائة سنة إلى دور إصلاح ونهضة بعد سنة ٧٠٠ق.م، كان عصر الابتكار والتجديد في النمو الباطني للتدين والأخلاق قد مضى وقُضي عليه قضاء أبديًّا.
فبدلًا من أن نجد نشاطًا فياضًا يبدو من تلقاء نفسه في شكل آراء ومظاهر جديدة، كما كان الحال في بداية كل تلك العصور العظيمة التي مرت بها البلاد، فإننا نجد أن مصر قد رجعت إلى الماضي للأخذ بما كان لها فيه من مجد تالد، وحاولت عن رغبة أن تصلح الحكومة وتعيدها إلى ما كانت عليه حال المملكة المنقرضة في تلك الأيام الخالية قبل أن تُحدث عصور الإمبراطورية المصرية تلك التغييرات والتجديدات؛ إذ كانت مصر القديمة في نظر هؤلاء القوم — كما بدت لهم من خلال ضباب ألفي سنة مضت — صورة أسبغت عليها نعمة الكمال المثالي الذي سادها من قبل في عهد حكم الآلهة. ولا شك أن جماعة الرجوع إلى القديم، عند محاولتهم بعث الديانة والمجتمع والحكومة من جديد على الأسس القديمة، كان لا بد أن يعترضهم على الدوام ذلك التقلب الذي لا مناص من حدوثه — سواء أشعروا به أم لم يشعروا — بسبب أحوال الشعب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فإنه لم يكن في الإمكان محو ألفي السنة التي انقضت منذ عصر الأهرام، ولذلك كانت الأحوال الواقعية الجديدة تبدو صارخة من خلال ذلك الستر القديم الزائف الذي أحيطت به الشئون الحاضرة. ولما عُثر على حل تلك المعضلة، كان العلاج مماثلًا لما حاوله العبرانيون فيما بعد عندما وقعوا في مثل هذا المأزق، فنسب القوم للعناصر الجديدة كذلك ماضيًا مجيدًا سحيقًا، كما نسبت كل مجموعة التشريعات العبرية إلى سيدنا «موسى» — عليه السلام؛ وبذلك أنقذوا هذا الإحياء النظري.
فكتابات الأهرام الجنازية القديمة — وهي ما نسميه «متون الأهرام» — بُعثت من جديد، وبالرغم من أنها لم تكن في الغالب مفهومة كانت تُنقش فوق التوابيت الحجرية الضخمة، وكذا «كتاب الموتى» الذي كان لا يزال يحدث في تأليفه بعض التغيير، قد ظهرت فيه آثار واضحة تنم على هذه الحركة. وفي مزارات المقابر أيضًا ذات الصور الجديدة نجد المناظر السارة المأخوذة من حياة الشعب في المستنقعات والمراعي وفي المعامل ومرافئ بناء السفن، وكلها صورة نقلت بدقة مدهشة عن المناظر المنقوشة في مقابر عصر الأهرام التي بنيت على هيئة المصاطب. وقد وصلت الدقة في نقلها لدرجة أن الباحث لأول وهلة كثيرًا ما يشك في تاريخ الأثر الذي نقشت فوقه. والواقع أن شخصًا من رجال «طيبة» يدعى «آبا» أرسل فنانيه الرسامين إلى أحد القبور التي من عهد الدولة القديمة بالقرب من «أسيوط» لينقلوا عنه النقوش التي يريدها في القبر الذي كان يعده لنفسه في «طيبة»، وكان كل السبب في ذلك أن صاحب القبر القديم كان يسمَّى هو الآخر «آبا» أيضًا.
كذلك رأينا فيما تقدم في الفصل الثالث من هذا الكتاب أن «المسرحية المنفية» قد وصلت إلينا؛ لأن الفرعون الإثيوبي الذي وُجد في القرن الثامن ق.م أخذته روح التقوى فأمر بإعادة تدوين كتاب قديم، كان مكتوبًا على بردية من عهد الأسر القديمة، باعتبار «أنه من صنع الأجداد وأنه قد أكله الدود»، فنُقش على حجر من البازلت الأسود يوجد الآن بالمتحف البريطاني.
وهكذا جرى البحث وقتئذ بشغف عن الكتابات واللفائف القديمة المقدسة التي بقيت من عهد تلك الأيام الخالية، حيث كانت تجمع وفوقها تراب تلك العصور الماضية ثم تفرز وترتب. لقد صار الماضي القديم صاحب السيادة العليا، ولا شك أن الكاهن الذي كان يحبذ ذلك الماضي العتيق كان في الحقيقة يعيش في عالم من الخيالات، حيث لم يكن لكل ذلك أي معنى حيوي لأهل العصر الذي يعيش فيه. وبمثل ذلك كانت نفس الروح الرجعية في «بابل» هي السائدة، وقت أن كانت إمبراطورية «نبو خاد نزر» (بختنصر) هي الأخرى تقوم بحركة بعث جديد. كما سادت نفس تلك الفكرة أيضًا فيما بعدُ بين العبرانيين العائدين من المنفى، فكأن العالم قد أخذ يطعن في السن، وكان القوم يتحدثون بولوع وشغف عن أيام شبابه الغابر. على أن هذا المنهاج الذي كان يجري مجراه للاحتفاظ بالقديم هوى بذلك التدين العتيد عند المصريين القدماء من حضيض إلى حضيض أبعد منه غورًا نحو الانحلال والجمود، حتى آل أمره إلى ما وجده عليه المؤرخ الإغريقي «هِرِدوت» من مجرد شعائر ظاهرية جامدة وتقاليد كهنوتية لا حصر لها، كانت تؤدَّى بحذق ودقة، اشتهر المصريون بسببهما بأنهم أكثر شعوب العالم تمسكًا بالدين. غير أن تلك الشعائر لم تعد بعدُ تعبر عن حياة باطنية نامية متطورة، كما كانت عليه الحال في تلك الأيام الخالية، وقبل أن تخمد الحيوية المبتكرة عند الجنس المصري.
وقد وصلنا الآن إلى مركز يمكننا من الإجابة عن كنه تلك الوراثة للأفكار الخلقية والدينية. أهي من صنع وإنتاج المدنية العبرانية فقط؟ أم أن التاريخ يكشف لنا أن إرثنا الخلقي قد تكوَّن إلى درجة عظيمة في عصر أقدم بكثير من العهد العبراني، وأنه قد انحدر إلينا على شكل إنتاج تألف من طائفة من المدنيات العظيمة، وعلى ذلك يعد أعلى وأسمى تعبير أنتجته الحياة الإنسانية القديمة برمتها؛ أي إنه يعد أسمى رسالة قام بتقديمها إلينا والدنا «الإنسان القديم»؟