مصادر إرثنا الخلقي
لقد فحصنا بشيء من الإيجاز — في الفصول السابقة — أهم المصادر الأصلية التي تكشف لنا عن ظهور المبادئ الخلقية وتطورها في أفريقيا الشمالية الشرقية منذ منتصف الألف الرابع قبل الميلاد إلى أن انطوت مصر في غمار عاهليات البحر الأبيض المتوسط الآسيوية في القرن السادس ق.م. وعلى ذلك قد استغرق التطور الخلقي الذي كشفت لنا عنه هذه الوثائق الأصلية مدة تقرب من ثلاثة آلاف سنة، وكان غربي آسيا في خلال تلك المدة الطويلة كذلك يتمخض بدوره هو الآخر عن طائفة من المدنيات العظيمة، كانت لها أهمية أساسية في مستقبل تقدم الجنس البشري. وأقدم تلك المدنيات هي المدنية البابلية، التي يمكننا الآن أن نتتبع نشأتها خلال بضعة القرون الأولى من الألف السنة الرابعة ق.م. ولقد أحرزت الحضارة البابلية بعض التقدم السامي في عالم الفن في خلال ألف السنة الثالثة ق.م؛ فإن استعمالها المبدع للصور الحيوانية المتباينة الأشكال في تراكيب متزنة تكاد تنطق بما تمثله من مناظر القوة والحركة، قد أثر في الفن الزخرفي في جميع أدوار العالم التاريخية التالية لذلك.
وقد كان هذا الفن متأثرًا تأثرًا عميقًا بالأساطير العتيقة التي نشأت في غربي آسيا، ولا سيما البابلية منها، مما عبَّر عنه الأدب المبكر أبلغ تعبير وظهرت له حيوية مدهشة، حتى صارت هذه الأساطير شائعة الانتشار إلى ما وراء تخوم «بابل» بمسافة بعيدة، وكانت ذخرًا كبيرًا لموضوعات الفن الزخرفي المبكر في غربي آسيا. على هذا النحو شقت أسطورة الطوفان البابلي طريقها متجهة غربًا شطر البحر الأبيض المتوسط حتى انتشرت في سوريا وفلسطين، إلى أن فتحت في النهاية طريقًا لها إلى الأدب العبراني، ومن ثم وصلت إلينا عن طريق «العهد القديم»، وتوجد في جميع الأدب العبراني إشارات لتلك الأساطير، وبخاصة في الأناشيد الدينية التي نسميها «المزامير».
على أننا إذا استثنينا اهتمام الحضارة البابلية الأولى بالفن، نجد أن تلك الحضارة بقيت مادية محضة لدرجة مدهشة، وأنه إنما كان بعد ظهور المملكة الكلدانية (بابل الجديدة) في القرن السادس ق.م وما تبع ظهورها من سيادة الفرس بعد عهد «كورش»، أن كشف لنا البابليون عن نشاط ذهني بارز، حيث وضع فلكيُّوهم العظماء الأسس التي شاد عليها علماء اليونان فيما بعد علم الفلك.
وعلى ذلك نجد أن الفلسطينيين لم يأخذوا عن البابليين شيئًا يُذكر من معتقداتهم وآرائهم الدينية سوى ما يتعلق بالأوضاع الظاهرية والشعائر المرعية، أما العقائد الجوهرية المكوِّنة لأركان الدين فلم يكن الأخذ عنها بمثل هذه السهولة. وقد تصور البابليون الأوائل آلهتهم ممثلة في القوى الطبيعية، وهم في ذلك مثل المصريين القدماء، فكانت أقدم معبوداتهم من آلهة الطبيعة؛ ولذلك نجد في أنشودة عظيمة — كانت لا بد مستعملة في عبادة «سِن» إله القمر في معبده بمدينة «أور» — أن مؤلفها الكاهن كشف فيها عن أصل عالم الطبيعة حيث رأى عفوًا إله القمر يقوم بعمله، ثم يذكر أن عمل ذلك الإله ينتقل في الوقت نفسه إلى دائرة الشئون البشرية. وهو في ذلك لم يسند إليه خلق كل الأشياء المادية فحسب، بل عزا إليه أيضًا تأسيس كل النظم البشرية — كتأسيس الدولة — بما في ذلك من الحكومة والديانة الرسمية، وبخاصة حياة الشعب الخلقية، حيث يقول:
وهذه الأنشودة الرائعة، بما تحويه من صورة سامية تنطق بسؤدد إله القمر، بما في ذلك من إنشائه الحياة الطاهرة وصيانتها، تدل على أنه كانت توجد هناك عقول مفكرة بين الكهنة الذين كانوا يقومون بالواجبات الدينية الرسمية في «بابل» القديمة. على أنه من المؤكد أن الكاهن الذي ألف هذه الأنشودة لم يخصص منها غير جزء يسير جدًّا لسلطان القمر من الناحية الخلقية؛ فقد كان أكثر اهتمامه موجهًا لما لذلك الإله من السلطان الذي لا حد له على موارد البلاد المادية، ولذلك كان معظم الأنشودة منصرفًا إلى تلك الناحية من الصورة التي صورها لنا. فمن بين الثمانية والأربعين سطرًا التي تشملها تلك الأنشودة لا يوجد إلا نحو سطرين — بل سطر واحد على وجه التأكيد — خصصه ذلك المؤلف الكاهن «للصدق والعدالة». والأنشودة هي كما يأتي بعد حذف بعض سطورها:
فنجد في هذه الأنشودة طموحًا دينيًّا في مستوى عالٍ، لا بد أنه كان قد أحدث تأثيرًا واسع النطاق في آسيا الغربية. والواقع أن هذه الأنشودة تذكرنا بالمزامير العبرانية، مع أنها ترجع إلى ما قبل ظهور الدين العبراني بزمن بعيد. وعلى أية حال فإن مهمتنا الخاصة هنا لا شأن لها بالدين على وجه عام، بل تتعلق خاصة بالآراء والمبادئ الخلقية. وإذن ما الذي كانت تشتمل عليه الحياة البابلية من المبادئ الخلقية؟ وما الأفكار الخلقية التي تركها لنا البابليون؟
والواقع أن فن النحت عندهم لا يمدنا بأي برهان محسوس على براعتهم في رسم الصور الإنسانية، وهو دليل على قلة اهتمامهم بالتعبير عن أخلاق الإنسان عن طريق الرسم أو بتصوير الملامح البشرية، ذلك بأنهم لم يهتموا بالتفكير في الفروق بين مختلف أنواع الأخلاق كما تبرز لنا عندما نقابل بين حياة الطيبين وحياة الأشرار، والدليل الذي يلفت النظر لتلك الحالة العقلية هو عدم معرفتهم شيئًا عن المحاكمة في عالم الآخرة فيما بعد الموت، فكل الناس عندهم، الطيب والخبيث، كان مرجعهم إلى «شول» الذي هو نفس المثوى السفلي المظلم للجميع.
وبالرغم من ذلك فإن شعب بابل قد تقدم في معتقداته فصار يؤمن بأن «شماش» إله الشمس، الذي يمثل عندهم إله العدل — كما كانت الشمس تمثل إله العدل عند المصريين القدماء — كان يبغض السلوك الذي لا ينطوي على المودة. وهذا المذهب قد عبر عنه في أنشودة «لشماش» جاء فيها:
فنجد في هذه الأنشودة مبدأ الجزاء الحسن للرجل الفاضل والعقاب للمذنب، مع الاعتراف بالصفة الاجتماعية للأخطاء. غير أن مثل هذا الاعتراف لم يَسُد تيار الحياة العريض في «بابل»، ولم تميز به الآراء المنبثة في أنحاء الأدب البابلي عن كنه الشر، ومع أن المزامير البابلية الخاصة بالتوبة يستشهد بها عادة على أنها تعبِّر عن شعور البابليين المرهف من جهة الخطيئة، فإنه يتضح منها في الحقيقة، أنها لا تحتوي على أي بيان يدل على أن الخطيئة هي ضد المجتمع الإنساني.
وقد رأينا فيما سبق أن الحكماء المصريين الأقدمين ووجهاء القوم كانوا دائمًا يكررون ذكر عدم اكتراثهم للفوارق الاجتماعية بين طبقات الناس؛ فقد جاء في قول أحدهم: «إني لم أرفع من شأن العظيم على الوضيع.» وهو تعبير يدل على الرجل صاحب المكانة العظيمة ومقارنته بمواطنه «المعتاد»، وبالنص الحرفي «الرجل الصغير». والواقع أن المنزلة الاجتماعية أو المرتبة العالية لم تعطِ المصري القديم أية ميزة في نظر القانون. ونذكر بهذه المناسبة ما أوردناه فيما سبق من أن الفرعون قد نبَّه وزيره الأكبر إلى أن واجبه يقضي عليه: «بألا يُظهر احترامه للأفراد بصفة كونهم أمراء أو مستشارين.» أي إن هذا المبدأ كان من صلب دستور الدولة المصرية قديمًا، أما عند البابليين فكانت العدالة الاجتماعية التي هي بعينها الأساس الذي يقوم عليه الرقي الخلقي، ناقصة جدًّا، بل معدومة بالمرة، وعلى ذلك لم تساهم مدنيتهم مساهمة جوهرية في تاريخ آسيا الغربية الخلقي.
وهناك مصدر آخر يمكن اعتباره من أمثال تلك المؤثرات في تاريخ آسيا الغربية المبكر — ويجب علينا أن نعيره التفاتًا حتى في مثل هذه النظرة العاجلة — وهو يُستمد من الشعور الخلقي السامي عند الحيثيين، وبين أيدينا الآن قطع من قوانينهم. وإن أبرز مَثَل نذكره في هذا الشأن ما نراه من تقديرهم للمسئولية الخلقية في الالتزامات الدولية التي أقرها أحد الملوك الحيثيين في القرن الثالث عشر، حيث يعترف هذا الملك بهجوم — لا مبرر له — قام به ضد الدولة المصرية في عهد «رعمسيس الثاني». ولما كان هذا الملك يشعر بالخطأ الخلقي الذي ارتكبه، فقد نسب الوباء الذي كان شعبه يعانيه إذ ذاك إلى غضب إلهه عليهم بأن أرسل عليهم هذا الوباء بمثابة عقاب على تلك الخطيئة التي ارتكبها. كما يلاحظ أيضًا نمو شعورهم بالحق والاعتدال في الصورة المنقحة من القانون الحيثي التي أحدثها الملك «خاتشيل» وجعلها أكثر رأفة من قبل، حيث قد قابل الملك ذلك التنقيح بالصرامة التي كان عليها القانون القديم المعمول به قبل حكمه. وقد بقي لنا من هذا القانون نحو ٢٠٠ فقرة، وهي تكوِّن جزءًا كبيرًا منه، مدوَّنة على لوحات من الطين.
وقد اتصل العبرانيون خلال أسرهم في الشرق — وهم في مرحلة متأخرة من مراحل تقدمهم الديني — اتصالًا وثيقًا بالمدنية الفارسية ووقفوا على الكثير من ديانة «زُروستر». ومذهب «زروستر» هذا مذهب مزدوج يدعو كل إنسان أن يقف إلى جانب قوة من اثنتين؛ فإما أن يملأ روحه بالخير والنور، وإما أن يخلد إلى الشر والظلمة. وقد مثلت هذه القوى جميعها في كائنات حية، وأية طريقة منها يسلكها الإنسان لا بد أن ينتظر بعد موته حسابًا عنها في عالم الآخرة، وإن ظهور فكرة الحساب في الآخرة — وهو شيء لم يُعرف في آسيا الغربية قبل «زروستر» — قد أوجد نظرية قوية أن «زروستر» قد أخذ الكثير من ديانته عن الديانة المصرية القديمة.
ويجب علينا أن ننتظر نشر النص الكامل لهذه الرسالة الجديدة المدهشة التي جاءتنا من الملك «دارا الأكبر»، غير أنه من المدهش أن المقتطفات التي أرسل بها إليَّ الأستاذ «هرزفلد» يشبه رنينها في الأذن صدى التعاليم الاجتماعية التي نطق بها الحكماء المصريون القدماء، هذا ولدينا الآن الأدلة الوافرة على أن التطور الديني الذي أحرزه العبرانيون بعد عودتهم من المنفى (في بابل) كان متأثرًا بتعاليم «زروستر»، وأنه يجب لذلك أن نضيف إلى المؤثرات الدولية التي تعرضت لها الخلقيات العبرانية، التعاليم التي جاء بها هذا النبي «الميدي الفارسي» العظيم «زروستر».
وكان قد نما قبل ظهور الملكية العبرانية في أواخر القرن الحادي عشر، مجموعة كبيرة من الأمم المتحضرة على طول الطرف الشرقي للبحر الأبيض، تقع بين بلاد الحيثيين شمالًا وتخوم مصر جنوبًا. والأرجح أن أهم هذه الشعوب من وجهة تاريخ المدنية هم الفينيقيون، وقد كانت بعض العناصر الهامة في المدنيتين البابلية والمصرية القديمة عاملًا جوهريًّا في تكييف الحياة والثقافة في مدن الساحل الفينيقي الزاهرة التي كانت تتألف منها المراكز التجارية الفينيقية، ومن ثم كان من السهل أن تدخل هذه الخيوط الأجنبية في نسيج ثوب الحياة العبرانية. وعلى أية حال فنحن لا نعلم شيئًا تقريبًا عن نوع التطور الخلقي عند الفينيقيين.
وأما في بلاد فلسطين التي احتلها العبرانيون فيما بعد، فإن الكنعانيين، الذين كانوا يسكنون هذه البلاد قبل العبرانيين، كانوا قد اجتازوا مرحلة من النمو المتحضر تبلغ أكثر من ألف سنة حينما غزا العبرانيون البلاد.
وقد عرفنا من النقوش التاريخية البابلية والمصرية القديمة، وكذلك من الحفائر الأثرية، شيئًا كثيرًا عن هذه المدنية الفلسطينية الراقية النامية السابقة لعهد العبرانيين، كما أنه كان للثقافة البابلية — كما ذكرنا — من قبل أثر هام خالد في فلسطين الكنعانية، وعن طريق الكنعانيين — بوجه خاص — وصل أثر البابليين في الفن والأدب والدين إلى العبرانيين. يضاف إلى ذلك أن هذا الإقليم كان منذ زمن بعيد واقعًا تحت نفوذ الحضارة المصرية القديمة؛ فقد بدأ المصريون يبسطون سيطرتهم على الساحل الفينيقي قبل أن يطأ العبرانيون فلسطين بأكثر من ألفي سنة؛ إذ اقتحمت الجيوش المصرية فلسطين قبل سنة ٢٥٠٠ق.م، ولما فتح الفراعنة المصريون آسيا الغربية ووصلوا في فتحهم إلى نهر الفرات في خلال القرن السادس عشر ق.م، بقيت فلسطين مستعمرة في أيديهم أكثر من أربعة قرون. والواقع أنهم حكموا فلسطين مدة قرنين بعد دخول العبرانيين فيها، وبذلك بلغت المدنية الكنعانية مرتبة سامية في القرون التي احتلتها فيها مصر، فلما غزاها العبرانيون كانت قد صبغت مرارًا وتكرارًا بالعناصر المصرية.
وكان من نتائج ذلك أن العبرانيين حيثما دخلوا فلسطين صاروا على اتصال مباشر بتلك الحضارة الكنعانية المركبة، التي أنشئ معظمها من العناصر البابلية والمصرية القديمة معًا، هذا فضلًا عن أن تلك المدنية الكنعانية، بمرورها في تجاريب اجتماعية طويلة، كسبت كذلك عناصر ثقافية كثيرة من صنع الكنعانيين أنفسهم. والواقع الذي لا شك فيه أن اللغة التي وجدها العبرانيون الفاتحون، وهي اللغة الكنعانية لغة البلاد وقتئذ، قد اتخذها العبرانيون أنفسهم لغة لهم، وهي التي انحدرت إلينا فيما بعد في ثوب اللغة العبرانية التي كُتبت بها التوراة. ومما يؤسف له أننا لا نعرف شيئًا يذكر عن التاريخ الخلقي لذلك الشعب قبل الغزو الإسرائيلي.
وبتلخيصنا لموقف فلسطين من نواحيه المختلفة، نرى أن تلك البلاد من الوجهة الجغرافية تقع على جسر طبيعي ضيق بين البحر الأبيض المتوسط من جهة والصحراء العربية من جهة أخرى، وهو جسر يقع بين قارتين طالما اتُّخذ طريقًا عامًّا لربط أفريقيا بآسيا منذ عهد ما قبل التاريخ.
أما من الوجهة السياسية فإن فلسطين كانت قديمًا كما هي الآن: كرة قدم دولية.
وأما من الناحية الثقافية فإنها — كما أوضحنا الآن — كانت داخلة ضمن الإقليم التجاري الذي طالما كانت المعاملات البابلية تسيطر عليه، كما كانت في الوقت نفسه تقع مباشرة في ظل صرح المدنية المصرية العظيمة، فالقوم الذين استقروا في أرض فلسطين لم يجدوا أنفسهم في وسط حضارة قديمة تكونت بالإقليم نفسه ومصبوغة إلى حد كبير بالصبغة المصرية القديمة فحسب، بل كانوا يطلون أيضًا على مدنيات أعرق منها بكثير على كلا الجانبين في آسيا وأفريقيا، فمن هذه البيئة الدولية البعيدة الأثر بالشرق الأدنى الذي كان يضم فلسطين بين جوانحه نشأت تلك الأفكار الخلقية التي غذت العالم الغربي في النهاية بالآراء الخلقية السائدة فيه الآن؛ إذ وصلت إلينا عن طريق بقايا الأدب العبراني، وهو الذي كانت محتوياته الخلقية كما أسلفنا بعيدة كل البعد عن أن تكون من أصل عبراني محض.
ومن الحقائق المدهشة أن يكون ذلك الإرث الخلقي العظيم قد وصل إلى المدنية الغربية من شعب خامل الذكر سياسيًّا منزوٍ في الركن الجنوبي الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط، فإن هذا الشعب لم يقم له نظام قومي خاص به إلا منذ العشر أو العشرين سنة السابقة لعام ١٠٠٠ق.م، ولم يبقَ أمة موحدة إلا نحو قرن واحد على أكبر تقدير، وعلى إثر انحلال تلك الدولة الصغيرة نجد أن الجزأين اللذين قاما على تراثها ظلا يكافحان البقاء، فاستمر أحدهما مدة قرنين تقريبًا، وأما الجزء الآخر فإنه بعد أن مكث مدة قرن وربع قرن من سقوط الجزء الأول قضاها في حياة قلقة شبه مستقلة، تداولته فيها أيدي ممالك الشرق العظيمة قديمًا، قد حاق به كذلك الفناء التام بعد سنة ٦٠٠ق.م بزمن قليل. بذلك تكون حياة العبرانيين القدامى القومية المستقلة — أو حياة جزء منهم — التي بدأت لأقل من ثلاثين سنة قبل عام ١٠٠٠ق.م، قد مكثت حوالي أربعة قرون وربع قرن، وختمت في باكورة القرن السادس ق.م؛ أي إن هذا العهد من الحياة العبرانية القومية قد وقع بأكمله تقريبًا في النصف الأول من ألف السنة الأخيرة قبل الميلاد المسيحي. وفي تلك الفترة كان تقدم الثقافة في مصر وفي بابل قد نضب معينه، وصار يعد خبرًا من أخبار التاريخ القديم.
وإنه لمن المستحيل علينا طبعًا أن نضمِّن هذا الكتاب المحدود الحجم التاريخ الديني والخلقي للعبرانيين القدامى حتى ولو بطريق التلخيص، على أن مهمتنا في هذا الكتاب تضطرنا إلى الكشف عن العوامل الأجنبية الهامة التي عملت في التطور الخلقي عندهم. ولكي نتمكن من القيام بذلك يجب أن نعيد إلى ذاكرتنا بعض الحقائق البارزة في التاريخ العبراني، إذا كنا نريد حقًّا معرفة العناصر الأجنبية في التطور الخلقي العبراني.
كان ظهور العبرانيين لأول مرة في ميدان التاريخ في خطابات «تل العمارنة» التي يرجع تاريخ أقدمها إلى ما بعد سنة ١٤٠٠ق.م بقليل؛ أي في عهد يسبق بكثير أي أدب عبراني وصل إلينا.
وهذه الخطابات المسمارية تكشف لنا عن وجود جماعات من العبرانيين الرحَّل كانوا ينزحون إلى فلسطين، التي كانت وقتئذ تحت سيطرة مصر، حيث كانوا يدخلون هناك في سلك الجنود المرتزقة، ولا نعرف من شأنهم بعد ذلك شيئًا مدة قرنين من الزمان، إلى أن كان وقت ذلك الأثر المصري الذي أقامه في «طيبة» (الأقصر) «مرنبتاح» بن «رعمسيس الثاني» قبل سنة ١٢٠٠ق.م بنحو عشر سنين أو عشرين سنة، فقد حفظت لنا فيه أنشودة نصر نجد فيها ذلك الملك يفتخر بقوله: «وإسرائيل قد دمرت وبذرتها محيت.»
ومثل هذا الجنِّي المحلي كان يطلق عليه في الصحراء الواقعة جنوبي «يهودة» اسم «إيل»، وهذا اللفظ ليس اسم علم، وإنما هو الكلمة السامية القديمة التي كانت تطلق على أي إله محلي. وقد انحدر إلينا في اسم «إسرائيل»، وهو الاسم الذي أطلقه على «يعقوب» الكائن الذي صارعه، وقد بقي لنا كذلك في طائفة من الأسماء مثل «ميخائيل»، ومعناه «الذي يشبه الإله». وفي الأنحاء الشمالية من «كنعان» كانت الآلهة المحلية عند الكنعانيين تسمى «بعولًا» أو «أربابًا».
ومن الواضح أن بعض العبرانيين الرحَّل كانوا قد استُعبدوا بعد لجوئهم إلى مصر في زمن قحط حدث عندهم، وقد قام من بينهم عبراني امتاز بحسن سياسته وقوة قيادته البارعة، ونصب نفسه عليهم وخلَّصهم من العبودية، وبذلك صار يعد أول قائد عبراني عظيم وصل إلينا اسمه.
ومن المهم أن نلاحظ أن «موسى» — وهو اسم ذلك القائد — كان اسمًا مصريًّا، بل هو نفس الكلمة المصرية القديمة «مُس» ومعناها «طفل»، وهي مختصرة من اسم مركب كامل كالأسماء «أمن مس» ومعناه «آمون الطفل» أو «بتاح مس» ومعناه «بتاح طفل». وهذه الأسماء المركبة نفسها هي الأخرى مختصرات للتركيب الكامل «آمون (أعطى) طفلًا» أو «بتاح (أعطى) طفلًا». وقد لقي اختصار الاسم إلى كلمة «طفل» قبولًا منذ زمن مبكر؛ إذ كان سريع التداول والتناول بدلًا من الاسم الكامل الثقيل.
على أن الاسم «مس» (طفل) نجده كثير الانتشار على الآثار المصرية القديمة، ولا شك في أن والد «موسى» كان قد وضع قبل اسم ابنه اسم إله مصري مثل «آمون» أو «بتاح»، ثم زال ذلك الاسم الإلهي تدريجًا بكثرة التداول حتى صار الولد يسمى «موسى».
على أن ما أظهره «موسى» من الحذق في القيادة مع الشجاعة والمهارة في تخليص شعبه من العبودية الأجنبية، وكذلك حادثة التخليص نفسها التي صاحبتها بعض الكوارث الطبيعية التي قضت على الجيش المصري المقتفي لآثار «موسى» ومن تبعه، كل ذلك لقي مكانة لا تمحى في المعتقدات العبرانية وجعل للعبرانيين إرثًا أصليًّا من الفخار كان هو أقدم الأسباب التي ألَّفت بينهم وجعلت منهم أمة واحدة.
وهذا الإقليم الممتد من «سيناء» شمالًا، وبخاصة على طول الأخدود العظيم الذي نتج فيه «البحر الميت» ووادي نهر الأردن، تتوافر فيه البينات الجيولوجية الدالة على وقوع ثوران بركاني حديث نوعًا. ولا شك في أن الرواية العبرانية التي ذُكرت في سفر التكوين (١٩: ٢٣–٢٨) عن تخريب «سدوم» و«عمورة»، وهما مدينتان كانتا في تلك البقعة، «بالنار والكبريت» من السماء ليست إلا إشارة مبهمة عن حدوث انفجار بركاني لم تنسَ ذكراه القبائل المحلية في العهد العبراني المبكر.
على أنه لا بد من باعث آخر دعا إلى ذلك الانقلاب العظيم أقوى من تأثير «موسى» قائدهم الكبير، فمن الواضح أن التخلص من النير المصري كان مصحوبًا ببعض الظواهر الرهيبة التي عزيت إلى بطش «يهوه» الشديد، وإن الرأي القائل بحدوث انفجار بركاني في «سينا» حينما ضاق الخناق على العبرانيين في خروجهم يجد من الأسباب ما يبرره؛ إذ يمكن أن نفرض أن الزلزال الذي صحب ذلك الانفجار، وموجة المد التي نتجت عن ذلك، هما اللذان أفضيا إلى ابتلاع الجنود المصريين الذين كانوا يتعقبون أثر القوم الفارين.
ومهما يكن من أمر فإن الاعتقاد بأن العبرانيين عندما دخلوا منطقة «يهوه» الواقعة بالقرب من جبل سينا نجاهم هو ببعض المظاهر العظيمة لقوته وعطفه، قد احتل مكانة ثابتة في المعتقدات العبرانية المأثورة، وحينما أقيم محراب ذلك الإله بعد مضي زمان طويل على ذلك في «بيت المقدس» صوَّره عبَّاده من الإسرائيليين بأنه آتٍ من «سينا» في قوة وأبهة ليتخذ مثواه فوق جبل «صهيون».
أما آلهة العبرانيين القدامى «إيل» التي لم يكن لها لون ولا أسماء أعلام يستدل بها على كلٍّ منها، وليس لها شخصية ولا أصل تاريخي، فإنهم استمروا طويلًا منافسين ضعفاء لإلههم «يهوه» بعد أن استوطن الإسرائيليون فلسطين، وأما الآلهة التي كانت أشد بأسًا في مناهضة «يهوه» فهم «البعول» الكنعانيون، وبالرغم من أن العبرانيين كانوا قد اتخذوا «يهوه» إلههم القومي فإنه كان يوجد الكثير من بينهم مَن تمسَّك باعتقاده في الآلهة الأخرى مثل البعول، وكثيرًا ما كانوا يتخذونها معبودات لهم من دون إلههم. على أن وجود نفس اسم «يهوه» كأنه عَلَم مثل «أبولو» أو «المريخ» لدليل على وجود آلهة أخرى لها أسماء أعلام مثله، ونجد في التعليم الأول الذي وضعه «يهوه» نفسه لبني إسرائيل أنه كان يعلم بوجود الآلهة الأخرى، ولذلك قال: «لن تكون لكم آلهة أخرى قبلي.»
وقد كان سير الإسرائيليين في الانتقال من عبادة آلهة عدة إلى عبادة إله واحد لجميع العالم بطيئًا وتدريجيًّا حتى لقد استغرق عدة قرون، كما نجد كذلك أن تصور العبرانيين فيما يختص بأخلاق إلههم قد مر في عدة أطوار، منذ الوقت الذي كانوا فيه مبتهجين بقوة إلههم الطبيعي التي كانت تحطم الكنعانيين وتذبحهم، إلى أن وصلوا إلى تصور الإله أبًا رحيمًا عادلًا. وإن الذي يجعل في استطاعتنا للآن أن نتعرف بعض الخطوات في ذلك التطور، الذي به تخطى الإسرائيليون في تفكيرهم إله الطبيعة، هو كتابات الأنبياء العبرانيين بوجه خاص، حيث يتبين لنا أن ذلك الإله، مع استمراره في حمل اسم إله البركان القديم «يهوه»، فإن الشعب العبراني أخذ ينظر إليه تدريجًا بمثابة قوة فعالة في المجتمع البشري.
على أننا نجد أن «موسى» كان يتمسك ببعض الذكريات عن التماثيل الدينية المصرية، فقد كان هو نفسه يحمل عصا سحرية عظيمة، لا شك في أنها كانت في صورة ثعبان، تسكن فيها قوة «يهوه»، كما كان ينصب ثعبانًا من النحاس البراق ليشفي به الناس، وكان هذا الثعبان بطبيعة الحال أحد تلك الثعابين المقدسة العديدة في مصر، وقد بقيت صورة ذلك الإله المصري القديم عند العبرانيين إلى ما بعد استيطانهم فلسطين بزمن طويل، واستمروا في إطلاق البخور له مدة خمسة قرون بعد عهد «موسى»، ولم يبعد من البيت المقدس إلا في حكم «حزقيائيل» في أواخر القرن الثامن ق.م (سفر الملوك الثاني ١٨: ٤).
على أنه قد احتفظ العبرانيون إلى العهد المسيحي بقول مأثور عندهم يقرر أن «موسى» كان متفقهًا «في كل حكمة المصريين» (الإصحاح السابع الآية ٢٢)، وهو قول لا يكاد يوجد ما يدعو إلى الشك في صحته. على أنه لم يكن في مقدورنا إلا في السنين الأخيرة أن نفهم المصادر التي وصلت إلينا عن حياة المصريين القدماء فهمًا كافيًا ندرك به أن «حكمة المصريين» كانت قبل كل شيء عبارة عن التأملات والتدبرات الاجتماعية. ولا شك أن «موسى» كان ملمًّا بأقوال أولئك الأنبياء الاجتماعيين الذين كانت أقدم كتاباتهم — كما ذكرنا فيما سبق — متداولة بين المصريين منذ ١٥٠٠ سنة عندما ابتدأ موسى في تعليم قومه. ومن البديهي أن رجلًا مثله نشأ محاطًا بمثل ذلك النوع من الأدب كان لزامًا عليه أن يشعر بالحاجة إلى دين يشتمل على تعاليم خلقية يزود به قومه.
محظور عليك أن تصنع لنفسك تمثالًا منحوتًا أو (صورة) أي شكل في السماء أو في الأرض أو في الماء الذي تحت الأرض.
ويلاحظ أن كل وصية من الوصايا العشر موجهة إلى صاحب كل بيت، وأنها في صيغة المفرد المخاطب «أنت».
ومن الواضح أنه حينما كُتبت الوصايا العشر كان العبرانيون قد انتقلوا فعلًا من حياة المرعى في الأرض الصحراوية ذات الكلأ إلى حياة الزراعة المستقرة في المدن، حيث كانت المؤثرات الاجتماعية تعمل في تكوين الاعتقاد الديني وتزيد في موارده، ثم إن الملكية، التي يجهلها البدو، وكذلك الحياة التجارية إلى حد ما في المدن، قد أخذتا في تكوين طبقة صغيرة من الأثرياء في المدن، في حين أن أكثرية الشعب كانت لا تزال على حالتها الأولى من الفقر، ومن ثم بدأ ظهور المناقشات بين طبقات الشعب، وما نجم عنها من الأحقاد التي لا مفر منها، وما نشأ عن ذلك من اكتساب خبرة اجتماعية مفيدة.
وقد انبسط في هذا الموقف الذي نمت فيه الطبقات الاجتماعية وتباينت تباينًا شديدًا، ميدان اجتماعي كالذي شاهدنا ظهوره على ضفاف النيل قبل ذلك بنحو ألفَي سنة، فقد كانت أمثال هذه الأحوال هي التي أيقظت في مصر إحساسًا جديدًا بالقيم الأخلاقية الثابتة، وبمثل ذلك ظهر بين العبرانيين رجال توافرت لهم الروح الإنسانية والنظرة الاجتماعية، فأخذوا يشعرون بإيحاء «الضمير» كقوة اجتماعية، واستجابة لندائهم أخذ عصر الأخلاق في الظهور بين بني إسرائيل كما سبق ظهوره في مصر قبل ذلك بزمن طويل؛ ولذلك نجد أن الشعائر العتيقة والعادات الدينية البالية، بما فيها من الطقوس والضحايا، أخذت تنحط في قيمتها بموازنتها بالأخلاق الفاضلة.
وبهذه المناسبة نذكر تلك الكلمات السامية التي وجَّهها ذلك الملك الأهناسي المجهول الاسم إلى ابنه «مريكارع» قبل عهد «موسى» — عليه السلام — بألف سنة، وهي: «إن فضيلة الرجل المستقيم أكثر قبولًا من ثور الرجل الذي يرتكب الظلم.»
على أن ما أظهره ذلك الفرعون المسن من قوة البصيرة في تعمقه الخلقي لم يكن أثره بالبداهة قاصرًا على مصر، ولا بد أن لفافة البردي التي كانت تشتمل على نصائحه الحكيمة الموجهة إلى ابنه قد وجدت سبيلًا لها إلى فلسطين؛ لأن نفس هذه المعاني، مكتوبة بكلمات مشابهة جدًّا للكلمات السابقة، قد ظهرت في أوائل التطور الخلقي العبراني بالنص الآتي:
وهذا الحث على حسن الإصغاء يتردد صداه في الآذان كأنه صدى نصائح «بتاح حتب» الذي نصح بها ابنه منذ أكثر من ١٥٠٠ سنة قبل عهد صموئيل وبيَّن له فيها قيمة الإصغاء.
فعل العدل والحق أفضل عند الرب (يهوه) من الذبيحة.
والرب (يهوه) وازن القلوب.
إذ لم يكن في الشرق القديم إلا عقيدة دينية واحدة تقول بأن الإله يزن القلب الإنساني، وهي الديانة المصرية القديمة بما تشتمل عليه من المحاكمة الأوزورية، وقد رأينا فيما تقدم أن ذلك التمييز بين قيمة الخلق ومجرد الشعائر الدينية الظاهرية كان من غير شك نتيجة للخبرة الاجتماعية في مصر، فهذه الخبرة الاجتماعية نفسها كانت سائرة في تكونها بين الإسرائيليين بخطى سريعة، ويرجع ذلك إلى الإرث الأدبي والخلقي الذي ورثه العبرانيون؛ إذ قد وجدوا تلك الحقائق الأساسية في كتابات وتجاريب جارتهم الأفريقية العظيمة، وأخذوا يعملون بسرعة أيضًا على تهيئة هذه الخبرة لتكون ملكًا لهم؛ إذ من الواجب أن يكون إدراك الشعب نفسه للقيم الخلقية الإنسانية الثابتة هو حجر الزاوية لبناء أي تقدم خلقي ثابت مضمون، ومن المعلوم بطبيعة الحال أن دائرة القيم الخلقية السامية فقط هي التي توجد البواعث وتهيئ الأحوال لظهور أدب ذي قوة حقيقية، ولذلك لم يكن من باب الصدفة أن نرى القرون الثلاثة الأولى من حياة الشعب العبراني بعد تأسيس الملكية قد أنتجت أرقى فن أدبي عرفه العالم القديم إلى ذلك الوقت.
وأعظم مثل مقنع يدل على مهارة العبرانيين الجدد في القصص المسرحي الخلاب الذي تنجذب إليه النفس البشرية هو قصة يوسف — عليه السلام. ويبلغ مغزى هذه القصة الجميلة قمته في الثبات الخلقي الذي كانت تنطوي عليه نفسية ذلك الشاب المبعد عن وطنه، فنراه وهو غريب في بلدة أجنبية يجازف بحياته بلا تردد محافظة وإبقاء على سلامة أخلاقه وطهارتها، مع أنه لم يأتِ بذلك العمل تمسكًا بالمثل الأعلى في إنكار الذات والعفة والتنسك، بل قيامًا بواجب الاحترام لشرف سيد وضع كل ثقته فيه. ومن الحقائق المدهشة أن هذه الحادثة التي توجت القصة كلها بتاج الفخر مستقاة من قصة مصرية قديمة شعبية كانت — لا بد — قد انتشرت في فلسطين الكنعانية حيث سمع بها ذلك الكاتب الموهوب الذي ألَّف قصة يوسف.
وهذه القصة المصرية تعرف الآن عادة «بقصة الأخوين»، والإلهان اللذان يظهران فيها بشكل الأخوين، اللذين يعتبران أهم شخصيات القصة، قد مثلهما الخيال القصصي الساذج في صورة اثنين من الفلاحين وسماهما بالتوالي «أنوبيس» و«باتا»، وهما اسمان يكشفان عن أن بطلي القصة يمثلان إلهين كانت لهما مكانة في الديانة المصرية القديمة منذ زمان متوغل في القدم.
فكان «أنوبيس» أكبر الأخوين متزوجًا، وكان «باتا» أصغرهما يعيش مع الزوجين كأنه ابنهما، إلى أن قدِّر لتلك الحياة الريفية الخلابة التي احتسوا كئوسها أن يُقضَى عليها بإقدام الزوجة على أمر شائن؛ وذلك أنها كانت ذات يوم تنظر إلى الشاب الصغير وهو يحمل فوق منكبه القوي خمس حقائب مملوءة قمحًا دفعة واحدة، فاستولى حبه على قلبها، ولما أخذت تراوده عن نفسه انقلب الشاب ثائرًا غاضبًا كأنه فهد من فهود الوجه القبلي، هاج من جراء تلك الكلمات الأثيمة التي وجهتها إليه، وخافت الزوجة عند ذلك خوفًا شديدًا من افتضاح أمرها، ثم خاطبها قائلًا: «انظري، إنك عندي بمنزلة الأم وزوجك بمنزلة الوالد؛ لأنه أكبر مني سنًّا وقد رباني، فما معنى هذا الأمر المخزي الذي تذكرينه لي؟ لا تعيديه عليَّ مرة ثانية، وأنا بدوري لن أفوه به لأحد، ولن أجعل شفتي تفتران عنه لأي إنسان.» ثم حمل حمولته وخرج إلى الحقل، غير أن زوجة «أنوبيس» الكاذبة خدعت زوجها فجعلته يصدق رواية معكوسة لفقتها هي للحادث، وكانت العاقبة أن «أنوبيس» تربَّص لقتل أخيه الصغير، فكمن له خلف باب حظيرة البيت وسلاحه بيده، وحينما اقترب الشاب الصغير من البيت وهو يسوق أمامه قطيع أنعامه حذرته البقرتان اللتان كانتا في مقدمة ماشيته وفاء له بالجميل؛ لأن ذلك الراعي الصغير كثيرًا ما ساقهما إلى أحسن المراعي وأنضرها، فقفل الشاب موليًا هاربًا.
ويعتبر ذلك الامتحان الخلقي الذي اجتازه ذلك الشاب في «قصة الأخوين» أروع مثال لنزاهة النفس ومتانتها، لا في الأدب المصري وحده، بل في كل الأدب الشرقي القديم حتى ذلك الوقت. ومن الأمور الهامة جدًّا أن تكون هذه الحادثة بالذات من بين كل الأدب المصري هي التي جذبت نظر المؤلف العبري حتى ساقه ذلك إلى اتخاذها برهانًا ساميًا على طهارة أخلاق بطل قصته.
وفي هذا العصر الذي سادت فيه التأملات الخلقية أخذ إله الطبيعة القديم الذي ينتمي إلى صحراء «مدين»، والذي قاد الإسرائيليين إلى فلسطين ووجد لذة وحشية في تقتيل الكنعانيين يتحول تدريجًا في نظر العبرانيين إلى أن صار إله عدالة، يتطلب بدوره أن يتصف عباده أيضًا بالعدالة في أخلاقهم. ومع أن هذا التحول الذي نبت في الأذهان نتيجة لتجارب العبرانيين الاجتماعية الشخصية يرجع بدرجة عظيمة إلى العبرانيين أنفسهم، فإن التفكير الديني عند هؤلاء القوم الذين سكنوا فلسطين اعتمد جوهره في هذه الحالة — كما اعتمد في تجاريب كثيرة مشابهة لها — على الاستقاء من تراث الماضي كما وجدوه باقيًا في الجماعات الكنعانية التي اندمجوا فيها تدريجًا.
وكان هذا التراث مفعمًا بالأفكار المصرية القديمة التي تتناول صفات إله الشمس وتعده حاكمًا عادلًا بين الناس، ولذلك نجد أن نبيًّا من العبرانيين يقول لقومه:
رأينا فيما سبق أن «العدالة» كانت ممثلة في شخص الإلهة «ماعت» التي كان يعتقد المصريون أنها بنت إله الشمس، وبما أن «شمس العدالة» العبرانية وصفت بأن لها أجنحة فلا يمكن أن يكون المراد بذلك شيء سوى الإشارة إلى إله الشمس ذات الأجنحة؛ لأنه لم يكن يوجد بين جميع التصورات العبرانية القديمة للإله «يهوه» أية صورة تمثله بأجنحة.
هذا؛ وقد دلت الحفائر الحديثة في «سامرا» على أن هذه التصورات المصرية لإله الشمس العادل كانت شائعة الانتشار في الحياة الفلسطينية، فقد كشف الحفارون في خرائب قصر ملوك بني إسرائيل في «سامرا» بعض ألواح من العاج منقوشة نقشًا بارزًا كانت تستعمل يومًا ما في التطعيم الزخرفي الذي كان يحلى به أثاث الملوك العبرانيين، ومن بين تلك القطع قطعة نقشت عليها صورة إلهة العدالة «ماعت» يحملها إلى أعلى ملاك شمس هليوبوليس في وضع نفهم منه أنه كان على ما يظهر يقدم تلك الصورة لإله الشمس. وتصميم الرسم مصري في كل نواحيه، إلا أن صناعته تدل بوضوح على أن نقشه من صنع أيادٍ فلسطينية. ومن ذلك يتضح أن الصناع العبرانيين كانوا على علم ومعرفة بمثل تلك الرسوم المصرية القديمة، وأن وجهاء العبرانيين كانوا ينظرون كل يوم إلى هذه الرموز التصويرية الدالة على عدالة إله الشمس المصري وهي تزين نفس الكراسي التي يجلسون عليها. ولم يكن إله الشمس ذات الأجنحة المتأصلة في وادي النيل معروفًا عند العبرانيين بأنه إله عدالة فقط، بل كان كذلك معروفًا بأنه الإله الحامي لعباده الرءوف بهم، وقد أشارت المزامير العبرانية أربع مرات إلى الحماية الموجودة «تحت (أو في) ظل أجنحتك».
وعلى ذلك نرى أن تصور إله الشمس المصري القديم كأنه ملك عادل يعد من بين العوامل التي ساهمت في تحويل «يهوه» هذا إلى حاكم عادل بين الناس.
وقد كان ظهور الملكية العبرانية عاملًا قويًّا في ذلك التطور؛ لأن العبرانيين كونوا في أذهانهم بالتدريج صورة لما يجب أن يكون عليه الملك الأمثل، فكان لذلك التصور أكبر تأثير في تخيل «يهوه» في شكل ملك عادل.
ومن الجلي أن هذه الكلمات تكشف لنا عن الاعتراف بأن مصر كانت منبعًا لمدنية سامية في ذلك العهد.
إن العدالة ستعود إلى مكانتها، والظلم سينبذ.
وعند هذه النقطة نجد أن النبي العبراني يرتفع في تصريحاته إلى تصورات سامية تصور لنا أن رسالة قومه الخلقية موجهة لجميع العالم، فهي بذلك تسمو تمامًا على صورة المستقبل الذهبي الذي رسمه الحكماء المصريون المبشرون القدماء. ومع ذلك يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن فكرة التبشير بعصر جديد قد نشأت بحذافيرها من التفكير الاجتماعي الذي قام به رجال الفكر المصري في وقت لم تكن قد أشرقت فيه بعدُ على روح الإنسان مثل تلك الصور للمثل العليا الإنسانية في أية بقعة من بقاع الأرض، ففي عالم كانت فيه القوة دائمًا هي الحق، وكانت الكلمة العليا للقوة، قد نظر المفكر المصري الاجتماعي إلى ما وراء الأمور الواقعة، وتجاسر على الاعتقاد بحلول عصر عدالة مثلى. وحينما علق بذهن النبي العبراني بهاء تلك الرؤيا وارتفع إلى أفق أعلى منها فإنه كان في الواقع يقف فوق كتفَي المصري القديم. وحري بالعالم الحديث أن يدرك أن تلك الرؤيا التبشيرية كان لها تاريخ يرجع إلى ما قبل وجود الأمة العبرانية بأكثر من ألف سنة.
والواقع أن هذه الرؤيا السامية للمثل العليا الاجتماعية هي تراث ورثناه عن ماضي بني الإنسان بأجمعه، ولم يكن ميراثًا عن شعب واحد بذاته.
وكذلك الحال في عالم السلوك، حيث نجد أن العبرانيين قد استقوا كثيرًا من مؤلفات أو «أدب» الأمثال والأساطير التي كانت منتشرة إذ ذاك انتشارًا عالميًّا قبل سنة ١٠٠٠ قبل الميلاد.
هل تفتخر الفأس على القاطع بها، أو يتكبر المنشار على مردده؟ كأن القضيب يحرك رافعه، كأن العصا ترفع من ليس هو عودًا.
وكان يظن أولًا أن مصدر ذلك النوع من القصص أو الأمثلة الخرافية هو بلاد الهند، ولكن الأستاذ «مسبرو» وجد منذ زمن طويل أقدم خرافة معروفة من تلك الخرافات على لوح كتابة مصري بمتحف «تورينو».
أمينموبي (الحكيم المصري القديم) | النبي أرميا (من أسفار الكتاب المقدس) |
---|---|
والرجل الأحمق الذي يخدم في المعبد مثله كمثل شجرة نامية في غابة، ففي لحظة يفقد فروعه ويجد نهايته في [مرفأ الخشب] وينقل بعيدًا عن مكانه. | ملعون ذلك الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه. |
والنار مأواه. | وعن الرب «يهوه» يحيد قلبه ويكون مثل العرعر في البادية، ولا يرى إذا جاء الخير. |
والرجل الحازم حقًّا ينتقي لنفسه مكانًا. | بل يسكن الحرة في البرية أرضًا سبخة وغير مسكونة. |
فإنه مثل شجرة نامية في حديقة يزدهر ويتضاعف ثمره ويجلس في حضرة سيده. | ومبارك ذلك الرجل الذي يتكل على الرب «يهوه»، وكان الرب متكله. |
وثمرته حلوة وظله وارف، ويجد آخرته في الحديقة. | فإنه يكون كشجرة مغروسة على مياه وعلى نهر تمد أصولها ولا تخشى إذا جاء الحر. ويكون ورقها أخضر، وفي سنة القحط لا تخاف ولا تكف عن الإثمار. |
(أمينموبي ٦: ١–١٢) | (أرميا ١٧: ٥–٨) |
المزامير
- (١)
طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس.
- (٢)
لكن في ناموس الرب «يهوه» مسرته، وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلًا.
- (٣)
فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينجح.
- (٤)
ليس كذلك الأشرار لكنهم كالعصافة التي تذروها الريح.
- (٥)
لذلك لا تقوم الأشرار في الحساب ولا الخطاة في جماعة الأبرار.
ونلاحظ أن الحساب المذكور هنا لم يرد ذكره في «سفر المزامير» كله إلا هذه المرة، وهذه ملاحظة لها خطرها؛ لأن فكرة الحساب في عالم الآخرة — كما رأينا فيما تقدم — هي من ثمرات التمدين المصري القديم.
وكذلك نلاحظ أن توكيد ذكر مجاري المياه في الصور العبرانية أمر هام أيضًا؛ وذلك لأن النصف الجنوبي من فلسطين شبه صحراوي، وكانت قلة الماء فيه من أسباب المتاعب الشديدة كما هي الحال هناك إلى يومنا هذا.
ونلاحظ من جهة أخرى أن العلامة «الهيروغليفية» الدالة على كلمة «حديقة» كانت ترسم بصورة «بركة حديقة»، ولذلك كان مجرد ذكر كلمة «حديقة» دلالة على الماء لاعتبار ذلك عندهم من الأشياء البدهية، ومن ثم لم تذكر كلمة «ماء» بعينها في الوصف الذي وضعه «أمينموبي».
ولذلك نرى أن مشابهة الصور المصرية للصور العبرانية أدق مما يبدو في الظاهر.
ومما يلفت النظر ذلك التعديل الذي أدخله كاتب المزامير بتركه كلمة «شجرة» واستعماله بدلًا منها كلمة «العصافة» للتعبير عن الرجل الشرير، كما أن «أرميا» فضَّل ذكر كلمة «العرعر» البري الجاف الذي يكثر وجوده في وطنه «يوده». وقد صار كلٌّ من الزمان والمكان اللذين عاش فيهما رجال الإصلاح الاجتماعيين الدينيين — وهم الذين نسميهم الأنبياء العبرانيين — مما يدخل في تاريخ تطور حياتهم الخلقية والدينية أمرًا مفهومًا ذائعًا الآن، بفضل ما قام به العلماء المحدثون. ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن نقول مثل هذا القول عن الأغاني العبرانية الدينية؛ إذ قد قامت بشأنها اختلافات عريضة بين العلماء العبرانيين ومؤرخيهم من حيث تحديد تاريخ «المزامير»، فقد كان هناك رأي فيه غلو ينسبها إلى أصل متأخر جدًّا، حتى لقد اعتبر تاريخ وضعها كلها بعد عهد نفي العبرانين في بابل، ولكننا نعرف أن الأناشيد الدينية كانت منتشرة في عهد مبكر جدًّا في كلٍّ من «بابل» و«مصر»، ولم يكن هناك من الأسباب على ما يظهر ما يدعو أهل فلسطين — سواء أكانوا من الكنعانيين أم من العبرانيين — إلى عدم استعمال ذلك النوع من الأدب قبل عهد «النفي العبراني» بزمان طويل، أسوة بما رأيناه من اقتباس أنبياء العبرانيين للآراء الاجتماعية المصرية. ولا يمكننا أن نشك في أن النبي «أرميا» كان على علم بالصورة التي صورها الحكيم المصري «أمينموبي» للشجرتين، ولا بد من أن تلك الصورة كانت كذلك معروفة عند مؤلف «المزمور» الأول.
وقد لاحظنا فيما سبق أن مؤلفي «المزامير» العبرانيين قد رسموا صورة تدل على الحماية الإلهية المستمدة من تحت جناحَي إله الشمس المصري الظليلين، ولا بد أنهم كانوا كذلك على علم بأنشودة «إخناتون» العظيمة التي وضعها لإله الشمس. وهنا أيضًا يحتمل أن يكون الأصل المصري القديم لتلك الأنشودة قد انتشر في فلسطين أو فينيقية قبل ظهور المزامير العبرانية بزمن طويل؛ فقد انتهى «إخناتون» من إخراج أنشودته هذه قبل منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ومن البدهي أن أعداءه الحانقين عليه ما كانوا يتركونها تنتشر في مصر مدة ستة أو سبعة قرون (أي إلى ما بعد سنة ١٠٠٠ قبل الميلاد بكثير)، وهو الوقت الذي ابتدأ فيه العبرانيون يبدون اهتمامهم بها، وعلى ذلك يجب التسليم بأن تلك الأنشودة انتقلت إلى آسيا في عهد «إخناتون» نفسه، وأنها بذلك أفلتت هناك من الدمار المحقق على يد أعدائه.
وقد حدث فيها تغيير عظيم بعد أن تُرجمت إلى بعض اللهجات السامية من لهجات آسيا الغربية، كاللغات الفينيقية أو الآرامية أو العبرية على الأرجح. على أنه بفحص محتويات الفقرات المشابهة لها (من المزمور ١٠٤) التي أوردناها فيما تقدم مع ترجمة الأنشودة، يظهر لنا مدى الشبه المدهش بين الصورتين، لا من حيث مضمون «أنشودة إخناتون» فحسب، بل إننا كذلك نجده في تتابع الأفكار وترتيبها الظاهري، فإن ذلك بقي في الرواية الآسيوية كما كان في أنشودة إخناتون، ولا يمكن بحال أن تكون تلك المشابهات من قبيل الصدفة، بل إنها بالعكس دليل على وجود جزء عظيم من الأنشودة المصرية الدينية القديمة منشورًا بشكل معدل في المزامير العبرانية.
إن أقدم موضوع أسطوري تناولته «الأناشيد العبرانية» هو خلق العالم، وهو وأسطورة الخلق نفسها يحتمل أنهما نشآ في بابل، وأما موضوع العناية الربانية بالعالم فإنها فكرة جاءت فيما بعد، وقد شقت طريقها إلى المزامير الفلسطينية بتأثير مصر القديمة.
وبذلك تكشف لنا أنشودة إخناتون عن المنهل الذي استقى منه مؤلف المزمور العبراني إدراكه لرحمة الله في عَوْن مخلوقاته حتى أصغرها؛ أي إن موقف العبرانيين من جهة الطبيعة بصفتها عالم الكون، وتصورهم لعناية الخالق الرءوف بخلقه، يرجع أصله إلى أنشودة إخناتون وما يشبهها من الأناشيد الدينية بمصر القديمة، ومن المحتمل كذلك أن الشعور بهذه الطيبة والشفقة الإلهية المعبر عنه في الأنشودة الإخناتونية — والذي ظهر فيما بعد على الأخص في عصر التنسك الشخصي في مصر — كان له أيضًا تأثير هام في ظهور التدين الشخصي بين العبرانيين.
ومن المهم كذلك أن نعرف ما إذا كانت أنشودة إخناتون بين العوامل التي أدت تدريجًا إلى اعتراف العبرانيين بالوحدانية، ولا شك أنه من المحتمل جدًّا أن يكون لها بعض المكانة بين مثل هذه العوامل؛ ذلك بأنه لما كان إخناتون ملكًا على أمة ذات سيطرة عالمية فقد أكسبه ذلك تلك النظرة الأولية الواسعة التي رأينا صورتها من قبل منعكسة في أنشودته العظيمة. والواقع أن أنشودة لها نظرة شاملة كهذه تتردد في أنفاسها الوحدانية الإلهية المطلقة وتنتشر في آسيا الغربية قبل ظهور الأدب العبراني الذي جاء به الأنبياء العبرانيون بعدة قرون، لا يستغرب أن يكون لها بعض التأثير في تكوين النظرة العالمية التي فرضت فيما بعد على الأنبياء العبرانيين بسبب حرج الموقف الذي وجد فيه شعبهم حيث قد صاروا ألعوبة في يد الممالك العظيمة وقتئذ، وقد بقيت حالهم تزداد حرجًا إلى أن غيروا نظرتهم إلى «يهوه» الذي كان يومًا ما معبودهم المحلي البدوي، فصار في نظرهم إلهًا مسيطرًا على كل الأمم، يدير حركات جميع ملوك الأرض، ويستطيع السيطرة على كل مقاصدهم العدائية وتحويلها لخير بني إسرائيل ثم لخير جميع العالم في النهاية.
على أن وجهة نظر كهذه تؤدي — طبعًا — إلى الاعتراف بنظام خلقي عالمي، ولعلنا نذكر أن كلمة «إخناتون» العليا حينما حاول نشر عقيدة التوحيد الشمسية خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانت هي «العدالة»، فكانت الحركة التي قام بها هي التطور المنطقي للعقيدة الشمسية القديمة التي اعترفت بسيادة «ماعت»؛ أي «العدالة» بصفة كونها نظامًا خلقيًّا قوميًّا، فكان مرمى الأنشودة الإخناتونية التوسع في تلك السيادة القومية للعدالة وجعلها نظامًا خلقيًّا عالميًّا تحت سيطرة إله واحد. على أنه ليس من السهل أن يستدل الباحث على انتقال الأفكار من جهة إلى آخرى، غير أن البحوث الحديثة قد وضعتنا في موقف يمكننا من إثبات الحقيقة الجوهرية في هذا الشأن؛ وهي أن العبرانيين اطَّلعوا على الأدب الخلقي والديني عند الأمم الأخرى ونقلوا ما عثروا عليه من أفكارهم، بل إنهم كانوا ينقلون هذه الآراء أحيانًا بنفس التعابير التي صيغت فيها تلك الأصول الأجنبية.
وقد أدت العبارة الشائعة «أمثال سليمان» إلى اعتقاد القارئ المعتاد أن أمثال ذلك الكتاب هي من عمل «الملك سليمان الحكيم»، وفي الحق أنه يبتدئ بنسبة الكتاب إلى «سليمان» في مطلع الفصل الأول، ثم تكررت تلك التسمية في بداية الفصل العاشر في شكل عنوان لمجموعة أخرى من «أمثال سليمان»، كما أنه توجد به مجموعة ثالثة تحمل اسم «سليمان» وتبتدئ بالفصل الخامس والعشرين، في حين أن الفصلين النهائيين من الكتاب ينسبان إلى مؤلفين آخرين مجهولي الاسم وأحدهما منسوب إلى امرأة، فيتضح من ذلك ومما يشهد به «كتاب العهد القديم» نفسه أن كتاب الأمثال هو مجرد مؤلَّفة جُمعت من مجموعات متفرقة، ويوجد بالكتاب فضلًا عن هذه المجاميع الخمس التي كانت يومًا ما متفرقة، مجموعة سادسة؛ لأننا نجد في صلب الفصل الرابع والعشرين (حتى في الترجمة الإنجليزية) ما يكشف لنا عن عنوان جديد بهذا النص «هذه أيضًا «كلمات» الحكماء»، ويلي ذلك مباشرة جزء قصير يجوز أنه ملحق وضعه مؤلف مجهول، كما نجد مدفونًا في قلب الفصل الثاني والعشرين، دون أي إشارة تعليقية من جانب المترجمين حتى في النسخة المنقحة، ما هو بالتأكيد بداية جزء آخر إن لم يكن عنوانًا له (٢٢–١٧) يسمى «كلمات الحكماء» مثل ما وجدناه في الفصل الرابع والعشرين سواء بسواء. فمن هم يا ترى (هؤلاء الحكماء) المعلمون الاجتماعيون — لأن كلمة «حكاميم» العبرية يدل معناها على صيغة الجمع — الذين قاموا بكتابة هذا الجزء الذي يبلغ نحو فصل ونصف فصل؟
الواقع أن هذا السؤال قد عجز عن الإجابة عنه كل الباحثين إلى وقت قريب جدًّا، غير أنه قد طُبعت ورقة بردية كانت قد مكثت مدة طويلة في المتحف البريطاني، فكشفت لنا عن أن مؤلف ذلك الجزء لم يكن سوى صديقنا المصري القديم أمينموبي! وجميع العلماء بكتاب العهد القديم الذين يعتد بآرائهم وأبحاثهم فيه يجزمون الآن بأن محتويات ذلك الجزء الذي يؤلِّف نحو فصل ونصف فصل «كتاب الأمثال» قد أُخذ معظمه بالنص عن حِكم الحكيم المصري القديم أمينموبي؛ أي إن النسخة العبرانية هي تقريبًا ترجمة حرفية عن الأصل الهيروغليفي العتيق. وكذلك صار من الواضح أيضًا أن حِكم «أمينموبي» شائعة في مواضع عدة من كتاب العهد القديم، حيث نراها مصدرًا لتلك الأفكار والتشبيهات والمقاييس الخلقية؛ وبخاصة لروح الشفقة الإنسانية الحارة، لا في كتاب الأمثال فحسب بل في القوانين العبرانية وفي سفر «أيوب»، وكما ذكرنا سابقًا في سفر شاءول و«إرميا» أيضًا. وقد أشرنا آنفًا إلى وجود عناصر أجنبية في كتاب الأمثال لم يتردد المصنف القديم في الإشارة إليها في العناوين؛ لأن الحكيم «أجور» الذي تؤلِّف حِكمه الفصل الثلاثين والملك «لمويل» الذي يدين لأمه بحِكمه التي تؤلف الفصل الحادي والثلاثين لم يكونا بداهة من أصل عبراني.
وفاقت حكمة سليمان جميع بني المشرق (البدو) وكل حكمة مصر.
وكان أحكم من جميع الناس من إيثان الأزراحي وهيمان وكلكول ودردع بني «ماحول»، وكان صيته في جميع الأمم حواليه.
فأسماء هؤلاء الأشخاص التي لا تنتمي إلى أصل عبراني تدل على أن كل أولئك الحكماء كانوا أجانب بالنسبة إلى العبرانيين.
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
أَمِلْ أذنيك لتسمع أقوالي | (١٧) أَمِلْ أذنك واسمع كلام الحكماء |
واعكف قلبك على فهمها | ووجِّه قلبك إلى معرفتي. |
لأنه شيء مفيد إذا وضعتها في قلبك. | (١٨) لأنه حسن إن حفظتها في جوفك. |
ولكن الويل لمن يتعداها. | إن ثبتت جميعًا على شفتيك. |
سفر الأمثال (٢٢: ١٧-١٨) |
والمقصود من مثل تلك النصائح قد عرَّفته «الأمثال»، وهو ما أشار إليه «أمينموبي» من أن المهارة العملية أصل جوهري في المعاملات الرسمية، كما نرى في نص كلٍّ منهما:
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
لأجل أن ترد على تقرير لمن قد أرسله. | (٢١) لأعلمك قسط كلام الحق لترد جواب الحق للذين أرسلوك. |
(سفر الأمثال ٢٢: ٢١) |
غير أن العبارة «كلام الحق» الواردة في «سفر الأمثال» هي بالطبع تحريف لما يقابل كلمة «تقرير» الواردة في الأصل المصري القديم.
وعلى أية حال فإننا نجد في كل من «سفر الأمثال» وحكم «أمينموبي» أن الغرض الخلقي من تلك النصائح ظاهر في كافة ثناياهما، ولذلك نرى أن إيراد بعض أمثلة هنا مفيد جدًّا، فمن ذلك:
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
لا تزحزحن علامات حدود الحقول | (١٠) لا تنقل التخم القديم |
… … … … … | ولا تدخل حقول الأيتام. |
ولا تكونن شرهًا من أجل ذراع، | |
أرض ولا تتعدين على حدود أرملة. | |
(أمينموبي ٧: ١٢–١٥) | (سفر الأمثال ٢٣: ١٠) |
ومن المهم أن نلاحظ أنه قبل انكشاف النقاب عن حِكم «أمينموبي» هذه أبدى نقاد «العهد القديم» أن كلمة «قديم» التي تشبه في اللغة العبرانية كلمة «أرملة» هي بلا شك غلطة في النسخة الخطية صحتها «أرملة»، وعلى ذلك اتفقوا على جعل تلك الفقرة كالآتي:
وقد جاء انكشاف الأصل المصري القديم مؤيدًا لذلك التصحيح ومثبتًا له، وقد يكون من أهم المشابهات العديدة البارزة التي يمكننا إيرادها هنا تلك التحذيرات الخاصة بالثراء، وهي:
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
لا تتعبن نفسك في طلب المزيد حينما تكون قد حصلت بالفعل على حاجتك. | (٤) لا تتعب لكي تصير غنيًّا. |
… … … … | |
وإذا جلب إليك المال بالسرقة فإنه لا يمكث معك سواد الليل، وعندما يأتي الصباح لا يكون بعد في منزلك. | (٥) هل تطير عينيك نحوه وليس هو؟ |
بل يكون قد صنع لنفسه أجنحة كالإوز وطار إلى السماء. | لأنه إنما يصنع لنفسه أجنحة كالنسر يطير نحوه السماء. |
(أمينموبي ٩: ١٤–١٠: ٥) | (سفر الأمثال ٢٣: ٤-٥) |
والسطر الذي حذفناه هنا من نص «الأمثال» مشوه في الأصل العبراني، ومن المحتمل أنه يمكن إصلاحه بفحص الأصل المصري القديم، غير أن تناول مثل هذه المسائل التحليلية لا يمكن في مثل هذا الكتاب.
وفيما قبل سنة ٢٠٠٠ق.م كان حكماء الاجتماع المصريون قد وازنوا بين الغنى والأخلاق، وفضلوا، بصراحة، الأخلاق على الغنى، واعترفوا تمام الاعتراف بتفاهة الثراء المادي، وأنه لا يجدي شيئًا وبخاصة في عالم الآخرة. وقد وفى المفكرون الاجتماعيون البحث في حماقة الاتكال على الغنى في نواحٍ كثيرة مختلفة، ونجد في المواضع الكثيرة التي تناولت فيها الأمثال العبرانية هذا الموضوع ما يدل على أنها كانت واقعة بالبداهة تحت تأثير أقوال الحكماء المصريين القدماء. وقد تكون الموازنة الآتية إيضاحًا آخر لذلك:
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
الفقر في يد الله خير من الغنى في الهُرْي (المخزن). | (١٦) القليل مع مخافة الرب (يهوه) خير من كنز عظيم مع هم. |
وأرغفة (تحصل عليها) بقلب فرح خير من ثروة (تحصل عليها) في تعاسة. | (١٧) أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة. |
(أمينموبي ٩: ٥–٨) | (سفر الأمثال ١٥: ١٦-١٧) |
والمثال الآتي في نفس الموضوع أيضًا:
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
والثناء على الإنسان كشخص محبوب عند الناس، خير من الغنى في الهُرْي (المخزن). | (١) لقمة يابسة ومعها سلامة خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام. |
(أمينموبي ١٦: ١١-١٢) | (سفر الأمثال ١٧: ١) |
على أن تاريخ العبرانيين فيما يلي هذا العصر لا يترك مجالًا للشك في أنهم كانوا لا يكترثون بالقوة المالية، أو النجاح في الأعمال، فضلًا عن أن المصنف لسفر الأمثال في «العهد القديم» لم يتجاهل الحكمة المصرية القديمة التي من هذا القبيل كما سيأتي ذكره، وربما لاحظ الباحث أن تلك التحذيرات التي جاءت في سفر الأمثال بشأن الغنى والترف ليست مستقاة من «كلام الحكماء» في التوراة («الأمثال» ٢٢: ١٧، ٢٤: ٢٢).
وهذه حقيقة جديرة بالاهتمام، فإذا ما درست تلك الأمثال درسًا أوفى فإن ذلك بلا شك يكشف لنا عن أن أفكار المصنف العبراني في كافة موضوعات سفر الأمثال كانت تعتمد على حكم «أمينموبي»، ولدينا فيما يلي مثال آخر، لا يدخل في حدود «كلمات الحكماء» يحذر من الحقد والانتقام (الأمثال ٢٠: ٢٢).
ويهتم «أمينموبي» كثيرًا بتحذير الشباب من الحماقة أو مخالطة رجال ذلك الطراز، كما ترى المصنف العبراني أيضًا يحذر من ذلك، حيث قالا:
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
لا تصاحبن رجلًا حاد الطبع ولا تُلحَّنَّ في محادثته. | (٢٤) لا تستصحب غضوبًا، ومع رجل ساخط لا تجيء. |
(أمينموبي ١١: ١٣-١٤) | (سفر الأمثال ٢٢: ٢٤) |
ونجد أن الكلمة العادية التي تعبر عن الرجل الطائش صاحب الطبع الحار في حِكم «أمينموبي» هي بكل بساطة «الشخص الحاد». ومن المهم أن نلاحظ هنا أن الأصل العبراني لتلك الفقرة إذا ترجم حرفيًّا يكون معناه «الرجل ذو الحرارة»؛ وهي عبارة لا توجد قط في أية جهة أخرى من كتاب «العهد القديم»، وهي بالبداهة محاولة من المصنف لنقل التعبير المصري القديم إلى العبرانية. وعلى كل حال نجد أن الغضب الطائش والانتقام مذمومان في كلٍّ من «سفر الأمثال العبراني» وفي حكم «أمينموبي المصري»، وإليك ما قالاه في شأن ذلك:
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
لا تقولن قد وجدت حاميًا. | لا تقل أني أجازي شرًّا. |
والآن يمكنني أن أهاجم الرجل الممقوت. | انتظر الرب (يهوه) فيخلصك. |
ضع نفسك في ذراعَي الإله يهزمهم صمتك (يعني الأعداء). | (لا تقل أجزي على الشر بل انتظر الرب فيخلصك.) |
(أمينموبي ٢٢: ١–٨) | (سفر الأمثال ٢٠: ٢٢) |
وقد كان «أمينموبي» ينصح ابنه بنفس هذه الطريقة الشديدة ناهيًا إياه عن مشاحنة الشخص الحاد الفم «لأن الإله يعرف كيف يجيبه على عمله (٥: ١٠–١٧).» وذلك يشبه أيضًا ما جاء في سفر الأمثال وهو: «انتظر الرب (يهوه) فيخلصك.»
وتتفق نصائح «أمينموبي» فيما يختص بالسلوك في حضرة أصحاب المقامات العالية مع الحياة المصرية القديمة أكثر بكثير مما تتفق مع الحياة العبرانية؛ ذلك لأن مراعاة السلوك اللائق في مصر من جانب الموظف المصري الشاب كان لا مناص منه لمن كان يريد مستقبلًا ناجحًا، فكما أن آداب اللياقة الرشيقة المرعية في البلاط الباريسي في عهد اللوايسة المتأخرين من ملوك فرنسا قد انتشرت في كل العواصم الأوروبية التي كانت أقل ثقافة من باريس، كذلك كانت تلك الآداب العالية ورسميات القصور في المعاملات الرسمية المستحدثة في أخلاق شعب في أصوله خشونة الصحراء البدوية، في عهد الملكية العبرانية الفتية، متأثرة أيما تأثر بآداب اللياقة التليدة المرعية في بلاط الفرعون الذي قبض موظفوه على زمام الحكم في فلسطين مدة قرون عديدة. ومن أجل ذلك لم يتردد مصنف «سفر الأمثال» العبراني في توصية الإسرائيليين المعاصرين له باتباع آداب اللياقة المصرية الرسمية. وإليك ما ذكر في ذلك في كلٍّ من النص المصري والنص العبراني:
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
لا تأكل الخبز في حضرة رجل عظيم. | (١) إذا جلست تأكل مع متسلط فتأمل ما هو أمامك تأملًا. |
ولا تَعْرض فمك في حضرته. | (٢) وضع سكينًا لحنجرتك إن كنت شرهًا. |
وإذا أشبعت نفسك من طعام محرم. | (٣) لا تشتهِ أطايبه؛ لأنها خبز أكاذيب. |
فإن ذلك ليس إلا لذة ريقك. | |
وانظر فقط (وأنت على المائدة) إلى الوعاء الذي أمامك وكن مكتفيًا بما فيه. | |
(أمينموبي ٢٣: ١٣–١٨) | (سفر الأمثال ٢٣: ١–٣) |
وكان المترجمون للرواية المنقحة من «كتاب العهد القديم» غير متأكدين مما إذا كانوا يترجمون النص العبري بقولهم: «ما هو أمامك» أو يترجمونها «بالشخص الذي أمامك»، وقد حل تلك المسألة ما جاء عن الحكيم المصري «أمينموبي» حيث قال ما ترجمته: «الوعاء الذي أمامك.» وقد غيَّر المصنف العبراني ترتيب الأفكار فنقل العبارة «خبز أكاذيب» التي توازي في الأصل المصري القديم: «طعام محرم»، (وحرفيًّا: طعام خطأ) إلى السطر الأخير.
على أن نصيحة «أمينموبي» المصري هذه قديمة جدًّا؛ لأنها مستقاة من حِكم «بتاح حتب»، فكان عمرها في زمن «أمينموبي» قد بلغ حوالي ألفي سنة، ولذلك نجد نص النصيحة بالكلمات الأصلية التي فاه بها الحكيم «بتاح حتب» أكثر وضوحًا، قال:
فنجد هنا إذن حكيمًا عبرانيًّا يفرض على الشباب الإسرائيلي نصائح في آداب اللياقة كانت هي بنفسها المرشد الهادي للموظفين المصريين القدماء في البلاط الفرعوني في العهد الذي ظهرت فيه الأهرام؛ أي قبل ذلك العهد العبراني بألفي سنة، وعلى ذلك يحتمل أن تكون تلك الفقرة أقدم مادة في كتاب العهد القديم. ونجد في ذلك مثالًا رائعًا على أن الحياة العبرانية في فلسطين كانت تتطور تحت تأثير خبرة آلاف السنين من التجاريب الاجتماعية التي قد صارت تعد تاريخًا قديمًا حينما ظهرت الأمة الإسرائيلية في عالم الوجود.
وقد لا يوجد في كتاب «العهد القديم» مَثَل من الأمثال كثر اقتباسه في عصرنا الحالي الذي ساد فيه الاهتمام بالمعاملات أكثر من ذلك المثل الذي يطري من يحسن عمله، وهو:
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
الكاتب الماهر في وظيفته سيجد نفسه كفوًا لأن يكون من رجال البلاط. | (٢٩) أرأيت رجلًا مجتهدًا في عمله، أمام الملوك يقف؟ |
(أمينموبي المصري ٢٧: ١٦-١٧) | (سفر الأمثال العبراني ٢٢: ٢٩) |
ولا حصر لما نستطيع إيراده من أمثال تلك المماثلات المتشابهة، ولكن ما أوردناه من الأمثلة التي ذُكرت يكفي بلا شك للدلالة على أن «سفر الأمثال» العبراني يحمل في ثناياه جزءًا جوهريًّا من كتاب حِكم لمصري قديم سابق له.
وقد وضعت لجنة التنقيح ملاحظة في الهامش خاصة بعبارة «أمورًا شريفة» لفتوا بها النظر إلى أن «تلك العبارة مشكوك فيها». والواقع أن المصنفين العبرانيين الأقدمين كانوا أنفسهم يشكون فيها بعض الشك أيضًا؛ وذلك لأنهم وضعوا هجاء آخر لتلك الكلمة على هامش النسخة العبرانية فصارت الكلمة بحسب هجاء المصنفين العبرانيين القدامى تعني «ثلاثين»، فإذا ارتضينا هذه الكلمة يصير السؤال هكذا: «ألم أكتب لك أمورًا ثلاثين من جهة مؤامرة ومعرفة؟» ويبدو لنا لأول وهلة أن صيرورة السؤال بهذه الصيغة يحدثنا بشيء لا معنى له، ولكننا عندما نلاحظ كما لاحظ الأستاذ «إرمان» أن «أمينموبي» قد قسم كتابه المذكور إلى ثلاثين فصلًا ورقَّمها، فإن كل شيء بعد ذلك يصير واضحًا.
ولا بد أن لفافة البردي المصرية الحاوية لهذا الكتاب كانت تسمى في فلسطين باسم «ثلاثون فصلًا في الحكمة» أو ما يشبه ذلك، ثم اختصر الاسم بعد ذلك على ما يظهر إلى عنوان بسيط أطلق عليها وهو «الثلاثون».
وعلى ذلك تعطينا تلك الترجمة الحقيقية التي وصلنا إليها عن طريق اقتراح العالِم «جِرِم» وبدون أي تغيير في أصل المتن العبراني الموازنة التالية:
أمينموبي المصري | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
تبصر لنفسك في هذه الفصول الثلاثين | (٢٠) ألم أكتب لك ثلاثين فصلًا |
حتى تكون مسرة (لك) وتعليمًا. | من جهة مؤامرة ومعرفة؟ |
(أمينموبي ٢٧: ٧-٨) | سفر الأمثال (٢٢: ٢٠) |
وإن ذكر أحد مؤلفي «العهد القديم» — على غير المألوف — لكتاب أجنبي عن العبرانية، كان ينقل عنه من غير تحفظ، يؤكد لنا أنه كان تحت يده ترجمة عبرانية كاملة للكتاب الذي وضعه «أمينموبي» المصري، بمعنى أن تلك الترجمة كانت تحتوي على جميع الثلاثين فصلًا التي حواها الأصل المصري الهيروغليفي، وإلا كانت كلمة «ثلاثين» بعد وضعها في كتاب الأمثال لا تدل على أي معنى. ولكي يحافظ الناقل العبراني على هذا المعنى نراه، مع عدم نقله للثلاثين فصلًا التي يحويها الأصل المصري القديم برمتها، قد استعمل بالضبط «ثلاثين» مثلًا في نسخته العبرية المختصرة (الأمثال ٢٢: ١٧، ٢٤: ٢٢).
ولا شك أن القارئ قد كوَّن لنفسه ملاحظة ذات أهمية بارزة بعد أن تأمل تلك الفقرات من كتاب الحكمة العبرية القديم، ووضعها جنبًا لجنب مع الأصل المصري القديم الذي اقتبست منه. على أنه يتضح لنا، خلافًا للأجزاء التي ترجمت ترجمة حقيقية، أن مصنف «كتاب الأمثال» لم يكن مستسلمًا ولا آلة جامدة في نقل تلك الحِكم المصرية القديمة عن الترجمة الفلسطينية.
وليس لدينا أمل كبير في العثور يومًا ما على تلك الترجمة، ولعله من الجائز أن يكون المترجم الفلسطيني نفسه قد أخرج الترجمة غير المقيدة التي وجدناها في «سفر الأمثال»، وعلى ذلك كان مصنف الأمثال ينقل عن تلك الترجمة كما هي.
ومهما يكن من الأمر فإن الحقيقة الناصعة هي أن الصورة التي ظهرت بها حكم «أمينموبي» مرارًا في «سفر الأمثال» توضح لنا بجلاء أن المترجم أو المصنف العبراني قد اقتبس في الغالب مجرد الأفكار المصرية القديمة ونشرها بتصرف بما له من نظر ثاقب إلى الحياة، وبما له من المهارة الأدبية السامية والدراسة باللغة التي ينقل إليها، وهي عادة لغته. ويتضح ذلك تمامًا من إيراد بعض الأمثلة الواضحة القاطعة؛ فنجد مثلًا أن «الغنى» يتخذ له أجنحة في كلٍّ من مصر وفلسطين، غير أن الأجنحة المصرية كانت أجنحة «إوز»، وأما الأجنحة في فلسطين، حيث لم تكن هناك مستنقعات زاخرة بالإوز البري، فقد أبدل المترجم بها أجنحة النسر.
وكذلك نجد في مصر أن رجل الأعمال الناجح كان في العادة «كاتبًا»، أما في فلسطين حيث لم تكن الأحوال كذلك، فإن المترجم العبراني قد سماه «رجلًا» فقط، ثم أردف ذلك بوصفه «بالمهارة في عمله» ليتم تحديد صفته.
ونجد في مصر أيضًا أن أهم دَيْن كان يدان به الإنسان لإله الشمس قبل ظهور «سفر الأمثال» بأكثر من ألف سنة هو هبة الماء، وقد اتخذ من شمولها لكل العالم دليلًا على المساواة بين جميع الناس، وأما في فلسطين حيث يندر الماء ويكثر القحط، فإننا نجد أن خَلْق يهوه لجميع العالم هو الذي اتخذ سببًا للمساواة بين جميع الناس بالرغم مما يوجد من الفرق بين الغني والفقر. وهاك ما جاء من التشابه في ذلك بين متون التوابيت المصرية القديمة وبين «سفر الأمثال» العبراني:
متون التوابيت المصرية | سفر الأمثال العبراني |
---|---|
لقد خلقت المياه العظيمة حتى يتمكن الفقير من استعمالها مثل الغني. | الغني والفقير يتلاقيان صانعهما كليهما الرب (يهوه). |
(سفر الأمثال ٢٢: ٢) |
وقد أشرنا من قبل إشارة خفيفة إلى أن وجود روح الاتكال على المشيئة الإلهية في حكم «أمينموبي» قد أثرت تأثيرًا دينيًّا عميقًا لا شك فيه في حكماء فلسطين وأنبيائها، ففي نصيحة «أمينموبي» الجميلة القائلة: «ضع نفسك بين ذراعي الله» لا يكاد يخفى علينا أنها المصدر الذي نجد صداه في الكلمات التي يسميها الناس «بركات موسى» وهي:
وأما الرجل «موسى» فكان حليمًا جدًّا، أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض.
لن يصيح أو يرفع صوته أو يجعله يسمع في الشارع.
وكان مضطهدًا، ومع ذلك فإنه حينما عذب
لم يفتح فاه كالحمل الذي يساق إلى المجزرة
وكالنعجة الصامتة أمام من يجزها، فهكذا
هو لم يفتح فاه.
وكان الحكيم «أمينموبي» يجد دائمًا مثله الأعلى في الرجل الصامت الذي يترك أمره لله.
والآن وقد علمنا أن كتابه كان يُقرأ في «أورشليم»، وأن الحكماء والأنبياء العبرانيين كانوا ينتخبون منه المختارات ويقتبسون الاقتباسات، فإنه يجدر بنا أن نتساءل عما إذا كانت فكرة المتألم الصامت عند بني إسرائيل لا ترجع في أصلها إلى الاجتماعيين المصريين. وعلى أية حال فإنه صار من الواضح الآن أن المثالية الاجتماعية التي قامت على سمو التقدير للأخلاق، والتي هي أقدم ما عرف لنا من مذاهب تفويض الأمور للأقدار، بل كانت في ذلك العصر المذهب الوحيد من نوعه، قد ظهرت في مصر قبل سنة ٢٠٠٠ق.م، وكانت نفس الكتب التي تحتوي عليها يقرؤها في «أورشليم» أولئك الرجال الذين أنتجوا تلك الكتابات التي نسميها الآن «العهد القديم».
وكيف كان يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ فكما أننا نجد الآداب الأوروبية الحديثة قد نمت مشبعة بما ورثناه من قديم أدب الإغريق والرومان، كذلك كان محتمًا أن يتأثر العبرانيون في فلسطين كل التأثر في أفكارهم وكتاباتهم بآداب تلك الأمة العظيمة التي قبضت على زمام فلسطين ووضعتها تحت سيطرتها الثقافية والسياسية مدة تفوق مدة نفوذ «روما» في بلاد الغال (فرنسا القديمة).
وعلى ذلك فإن تراثنا الخلقي الديني العظيم الملهم الذي انحدر إلينا من العبرانيين يمكن التسليم بصفة قاطعة بأنه ميراث مزدوج.
فهو أولًا: قد تكوَّن من خبرة بضعة آلاف من السنين مارسها الشرق الأدنى القديم، وبخاصة مصر، قبل ظهور الأمة العبرانية.
وثانيًا: أن تلك الخبرة قد رسخت قدمها بشكل مدهش وزيد عليها بما اكتسبه العبرانيون أنفسهم من التجارب الاجتماعية المتواصلة، على يد أولئك الأنبياء والحكماء الإسرائيليين.
وقد كان تبادل عوامل الثقافة بين فلسطين وجيرانها من كل الجهات واضحًا منذ زمن بعيد على أساس ما لدينا من الكتابات العبرانية فقط، فهذه الكتابات تكشف لنا عن دوام مرور قوافل التجارة الأجنبية بهذه الأنحاء، فحينما كان العبرانيون في حاجة إلى الحدادين فإنهم كانوا يجلبونهم من المدن الفلسطينية، واقتبس مهندسو «سليمان» تصميم معبده في «أورشليم» من تصميم معبد مصري، وكذلك مهرة الصناع الذين قاموا ببنائه فقد أرسلهم «هرام» ملك «صيدا» إلى صديقه «سليمان»، وتزوج «إهاب» ملك بني إسرائيل من أميرة فينيقية وتولى حمايتها في إحضار آلهة لها أجنبية عن العبرانيين، وغيره من تلك الأمثلة التي لا حصر لها.
هذا إلى أن النتائج الأساسية التي قامت وستقوم عليها دعامة المبادئ الخلقية في الحياة المتحضرة في أيامنا، كانت قد اهتدت إليها الحياة المصرية قبل الوقت الذي ابتدأ فيه العبرانيون تجاريبهم الاجتماعية في فلسطين بزمن طويل، كما كانت تلك المبادئ الخلقية المصرية موجودة فعلًا في فلسطين بصورة مدوَّنة منذ قرون عدة حينما استوطنها العبرانيون.
حقًّا إن التوسع الذي أُدخل على تلك التعاليم كثمرة من ثمرات الفكر والحياة العبرانية، يعد ذا قيمة عظيمة للإنسانية لا تقاس بأي مقياس كان، غير أننا عندما نعترف بهذه الحقيقة يجب ألا يفوتنا أن تلك المشاعر الخلقية التي تسود المجتمع المتمدين الآن ترجع في أصلها إلى عصر أقدم بكثير من «عصر النبوات» المعترف به من زمن بعيد، وأنها قد انحدرت إلينا نحن أهل هذا العصر الحاضر من عهدٍ لم تكن فيه الكتابات العبرانية قد وُجدت بعد. وعلى ذلك تكون مصادر تراثنا من التقاليد الخلقية بعيدة كل البعد عن انحصارها في فلسطين وحدها، وأنه يجب اعتبارها مشتملة كذلك على الحضارة المصرية. على أن السبيل الذي وصل منه هذا التراث المجيد إلى العالم الغربي هو على وجه خاص ما بقي لنا من الأدب العبراني وحفظه لنا «كتاب العهد القديم».
فإن زوال مدنيات الشرق القديم التي بُنيت على أسسها المدنية العبرانية، وما نتج عن ذلك من حرمان العالم الغربي من فهم كل كتابة وكل لغة لتلك المدنيات البائدة حتى ظلت في عالم صمت مدة ألفي سنة، قد ترك الأدب العبراني يضيء لنا وحده كأنه شعلة وحيدة من النور تحيط بها الظلمة الدامسة من جميع جهاتها. وعلى ذلك يكون ما ورد إلينا حديثًا بالوسائل العلمية من بعض المعلومات عن المدنيات الشرقية المفقودة بمثابة قبس يضيء تلك الظلمة ويحيط بني إسرائيل بنور يرجع إلى ما قبل عهدهم ببضعة آلاف من السنين. ولو أن العالم الغربي لم يفقد قط كل علم بأصول المدنية وتطورها لما كان يخطر ببال أي باحث قط أن يجعل للعبرانيين أي منزلة في التاريخ فوق أنهم بلغوا ذروة ذلك التطور الطويل السابق في الأخلاق والدين، وأول ما كان يحصل بالتأكيد هو عدم ظهور ذلك المذهب اللاهوتي القائل بانفراد شعب واحد بالتمتع بالوحي الإلهي، وهو المذهب الذي أعمى أبصارنا عدة قرون عن تعرُّف ذلك التراث الخلقي الجليل الذي ورثناه عن تأملات وإلهامات العالم بأسره، لا عن تاريخ أو تجاريب أي أمة من البشر بعينها.
وعلى ذلك فإن أعظم فائدة إنشائية نجنيها من وراء الاهتداء إلى حقيقة تلك المدنيات الشرقية القديمة المفقودة هي أنها ردت إلينا تراثًا عرضُهُ عَرضُ الأفق، وهو التراث الذي قد خلَّفته لنا حياة بني الإنسان أجمعين؛ ففيه نجد أعظم وحي يخطر لنا، وبه يمكننا الآن أن نستدل على أن انبثاق إدراك الإنسان للمميزات التي تفرق بين السلوك الطيب والخاطئ إنما هو خطوة من خطى التاريخ ونتيجة للخبرة الاجتماعية، وأن قيمة هذا الإدراك فوق كل تقدير؛ لأنه إدراك نامٍ لم تكمل بعدُ تطوراته التاريخية؛ فإن استردادنا لتلك المدنيات المفقودة هو الذي أمكننا به إقامة البراهين على أننا لم نقطع مرحلة تذكر بعد خروجنا من عهد الظلمة الحالكة السابق لظهور القيم الخلقية، وأن «فجر الضمير» لا يزال خلفنا بالضبط لم نكد نبتعد عنه شيئًا، وأننا ما زلنا للآن نقف عند مطلع شمس عصر القيم الخلقية.