آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني
مما هو جدير بالاهتمام أن نلاحظ ما صار إليه الجنس البشري في مصر التي كانت تعتبر «جزيرة المنعمين» في مدة خمسة آلاف سنة، وأن نقتفي — كما هو في صدورنا الآن — آثاره وهو متطور خلال بضعة أجيال كان يستعمل فيها الآلات والأسلحة الحجرية العتيقة إلى استعمال الأزميل النحاسي، وبلوغه تلك الدقة البنائية العجيبة التي تتجلى لنا في بناء الأهرام مع ضخامتها المدهشة، وارتقائه من سكنى الكوخ المصنوع من غصون الشجر إلى إقامة القصور الفاخرة الزاهية المجملة بالقيشاني والمؤثثة بالرياش الفاخر والذهب المرصع، ثم بعد ذلك نأخذ في تفصيل تلك الخيوط الذهبية التي حيكت منها حياته المتعددة النواحي التي صارت في النهاية تؤلف نسيجًا متينًا فخمًا من المدنية. وإننا نحاول هنا اقتفاء أثر خيط واحد فقط من تلك الخيوط التي حيك منها هذا النسيج؛ وذلك لأنه يتعرج هنا وهناك بالتواءاته الدقيقة المعقدة في كل جهاته.
والواقع أنه لا توجد قوة أثرت في حياة الإنسان القديم مثل قوة «الدين»؛ لأن تأثيرها يشاهد واضحًا في كل نواحي نشاطه، ولم يكن أثر هذه القوة في أقدم مراحلها الأولى إلا محاولة بسيطة ساذجة يتعرف بها الإنسان ما حوله في العالم، ويخضعه بما فيه الآلهة لسيطرته، فصار وازع الدين هو المسيطر الأول عليه في كل حين، فما يولده الدين من مخاوف هي شغله الشاغل، وما يوحي به من آمال هي ناصحه الدائم، وما أوجده من أعياد هي تقويمه السنوي، وشعائره — برمتها — هي المربية له والدافعة له على تنميته الفنون والآداب والعلوم.
على أن الدين لم يمس حياته في جميع نواحيها فحسب، بل الواقع أن الحياة والفكر والدين امتزجت عنده بعضها ببعض امتزاجًا لا انفصام له يتكون منها كتلة واحدة تتداخل بعضها في بعض مؤلفة من المؤثرات الخارجية والقوى الإنسانية الباطنة. ولذلك كان طبعيًّا ألا يقف الدين جامدًا من غير أن يتمشى مع هذه العوامل الدائمة التطور من مرحلة إلى مرحلة. هكذا كان الحال منذ أقدم العصور التي وصل إليها علمنا، وكل الأسباب تحملنا على الاعتقاد بأن الحال ستستمر كذلك: تطور وارتقاء. وسنرى الآن شيئًا من هذا التطور الذي ظل فيه الكفاح قائمًا بين العالم الظاهري المحيط بالإنسان، والعالم الباطني الكامن في نفسه، حتى تكوَّن الدين وتحدد وأفضى بالتدريج في نهاية الأمر إلى ظهور المبادئ الأخلاقية عند أقدم مجتمع بشري عظيم في خلال مدة تربو على ثلاثة آلاف سنة.
وسيكون في قدرتنا تتبع سير هذا المنهاج بأظهر بيان إذا ابتدأنا باستعراض ملخص تاريخي بسيط يكون بمثابة نظرة عجلى على مراحل تطور الرقي الأخلاقي عند المصريين الأقدمين. وجدير بنا؛ إذ وصلنا إلى هذا المكان، ألا ننسى الحقيقة المتفق عليها الآن وهي: أن الدين في طوره الأول لم تكن له علاقة بالأخلاق كما نفهمها الآن، كما أن المبادئ الأخلاقية الأولى لم تكن سوى عادات شعبية قد لا تكون لها علاقة بالشعور بالآلهة أو الدين. وقد كانت مظاهر الطبيعة أول ما أشعر المصري بوجود الآلهة، مثله في ذلك مثل الشعوب الأخرى القدامى؛ فكانت الأشجار والينابيع والأحجار، وقمم التلال، والطيور والحيوانات في نظره مخلوقات مثله أو مخلوقات حلت فيها قوى طبيعية غريبة لا سلطان له عليها، ومن ثم كانت الطبيعة أول مؤثر مبكر في عقل الإنسان، فوصف له العالم الظاهري أولًا بعبارات دينية رهيبة، وصارت مظاهر الإلهية الأولى في نظره هي القوى المسيطرة على العالم المادي، فلم يكن في تصورات الإنسان القديم بادئ أمره معنًى لمملكة اجتماعية أو سياسية، بل ولا معنًى لمملكة روحية تكون السيادة العليا فيها للآلهة، وكان أبعد ما يتوهمه عبَّاد إله من هذه الآلهة أن إلههم يحمل في نفسه فكرة الحق أو الباطل، أو أنه يرغب في وضع هذه المطالب على كاهل عباده الذين كانوا يرون من جانبهم أن غاية ما يطلبه إلههم منهم هو تقديمهم القرابين زلفى له كما كانوا يفعلون لرئيسهم المحلي سواء بسواء. على أن أمثال هذه الآلهة كانت في جملتها آلهة محلية كل منها معروف لدى منطقة معينة فقط، ولكن كثيرًا ما كان يمتد الاعتقاد في إله ما إلى جهات بعيدة في العالم القديم بسبب الهجرة أو انتشار السكان.
وفي العهد الذي جاء بعد سنة ٤٠٠٠ق.م بدأت الحكومة؛ أي النظام السياسي الذي كانت البلاد تحكم به في عهد الاتحادين المتعاقبين، تحوز مكانة في أذهان القوم بجانب ما حازته دنيا المظاهر الطبيعية. وهذان الاتحادان اللذان يعدان أقدم ما عرف من الأنظمة القومية العظيمة في تاريخ الإنسان قد وضعا أمام أعين الناس صورًا خلابة لمظاهر الحكومة، فكان لذلك على ممر الزمن أعمق أثر في الدين، ومن ثم بدأت المظاهر الحكومية تنتقل إلى عالم الإلهية حتى صار الإله العظيم يُسمى في بعض الأحيان «ملكًا».
وفي الوقت نفسه كانت علاقات الحياة الاجتماعية تؤثر تأثيرها في الدين من زمن بعيد أيضًا، فوصلت دائرة حياة الأسرة إلى درجة سامية من الرقي تزينها العواطف الرقيقة التي أوشكت على التعبير عن مظاهر الرضى أو السخط، وأفضت إلى تصورات عن السلوك الحميد والسلوك المعيب. وبذلك بدأت المشاعر الباطنية «للضمير» تسمع صوتها للإنسان، ولأول مرة صار الإنسان يدرك القيم الأخلاقية كما نعرفها نحن الآن. وعلى ذلك أصبحت قوة الإنسان الظاهرة المنظمة، وقوة الوازع الخلقي الباطنة فيه، تؤلفان قوتين مبكرتين في تشكيل الديانة المصرية. وتدل المصادر التي وصلت إلينا على أن الوازع الخلقي قد شعر به المصريون الأقدمون قبل أن يوجد الشعور به في أي صقع آخر، فإن أقدم بحث عُرف عن «الحق والباطل» في تاريخ الإنسان عثر عليه في ثنايا مسرحية «منفية» تشيد بعظمة مدينة «منف» وسيادتها، ويرجع تاريخها إلى منتصف الألف الرابع ق.م.
ويدل شكل هذه المسرحية بداهة على أنها بحث في أصول العالم ما بين ديني وفلسفي، وهي من تأليف طائفة مفكرة من الكهنة في المعابد المصرية، غير أن موضوعها لم يتناول ما كانت عليه حياة الشعب المصري بأسره في ذلك الحين، وسنرى كذلك كيف أن عامة الشعب أخذت بدورها فيما بعد تشعر بالوازع الخلقي الذي يصرِّفها في حياتها. وعلى ذلك يكون الشعور الخلقي قد انحدر تدريجًا من طبقة أشراف رجال البلاط الملكي وطائفة كهنة المعابد إلى أشراف رجال الأقاليم أولًا ثم إلى عامة أفراد الشعب ثانيًا.
ولما أصبحت الأخلاق منبوذة أثر سقوط النظام الخلقي القديم، وتدهورت الفضيلة نفسها «ماعت» حتى صارت لا تدرك إلا بشعور خلقي أكثر حساسية عن ذي قبل، ظهر المجتمع الفاسد الأخلاق المنحل النظام الذي جاء بعد عصر الأهرام بشكل لا أمل في إصلاحه في نظر بعض فلاسفة الاجتماع الذي هالهم ما رأوه من تداعي ذلك النظام الخلقي القديم، ثم ظهر على أثر ذلك لأول مرة في التاريخ عصر التشاؤم وزوال الوهم، فإن رسل الاجتماع في ذلك الوقت رسموا لنا صورة بشعة عما كان موجودًا من الفساد والفوضى في ذلك العهد، فأظهروها بعبارات مملوءة بالتهديد والتوعد، وبالغوا في وصف ذلك أيما مبالغة، حتى إنهم في إحدى الحالات وجهوا تلك التهديدات لشخصية الملك نفسه. غير أنه على الرغم من ذلك كان لا يزال هناك نفر من بين هؤلاء الحكماء المصريين ممن لم يفقدوا الأمل في الإصلاح، فقاموا بأول جهاد مقدس لإنقاذ العدالة الاجتماعية. ومن المدهش حقًّا أن كان المثل الأعلى لحكماء الاجتماع هؤلاء آخذًا شكل رسالة التبشير بقدوم المخلِّص التي جاءت فيما بعد، وهي الاعتقاد بمجيء حاكم عادل يكون فاتحة عصر ذهبي لإقامة العدالة بين جميع بني البشر، وقد ورث عنهم العبرانيون هذا الاعتقاد فيما بعد.
وفي العهد الذي عادت فيه الحكومة المنظمة للبلاد وتقدم المجتمع الإقليمي في العهد الإقطاعي الذي ابتدأ قبل حلول عام ٢٠٠٠ق.م ظهر تأثير هذا الجهاد المقدس في شكل المطالبة بالعدالة الاجتماعية، وتمثل ذلك في تصور نظام ملكي سمحٍ أبوي رحيم يحمي المُثُل العليا للمساواة الاجتماعية. ولما كان عالم الآلهة لا يزال على اتصال وثيق بشئون الأمة السياسية، فإنها لم تلبث أن أحست بهذا التأثير الجديد، فانتقلت صفات العدالة الاجتماعية من وصفها للحكومة الملكية الفاضلة إلى صفات إله الدولة، فازدادت بذلك المزايا الخلقية التي كانت تنسب إلى حد ما للإله طوال مدة تربو على ألف سنة، فقد كان الإله في نظر أتباعه من زمن بعيد يعتبر «ملكًا»، فأصبح الآن زيادة على ذلك «ملكًا فاضلًا» بالمعنى الاجتماعي، يريد من أتباعه أيضًا أن يعيشوا عيشة فاضلة.
وإننا نجد الاعتقاد بوجود إله يهب الحياة للطيب ويقدر الموت للخبيث، واردًا في «المسرحية المنفية» التي كُتبت في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، أما فكرة المحاكمة في «الحياة الآخرة»، وقد أخذت تتحدد بوضوح مطرد امتد إلى ما بعد عام ٣٠٠٠ق.م؛ فلم تكن الفكرة في أقدم أشكالها تفترض حضور جميع الناس أمام المحكمة، إنما افترضت محكمة عدالة كالتي توجد على وجه الأرض يحضر أمامها الأفراد لإصلاح الخطأ، فكان في أول الأمر لزامًا على الشخص المتهم فقط أن يحضر أمام المحكمة في «الحياة الآخرة» ليظهر براءة نفسه. على أن فكرة المحاكمة العامة نشأت في باكورة العهد الإقطاعي قبل عام ألفين قبل الميلاد، ثم أصبحت المحاكمة فيما بعد في أوائل عهد الدولة الحديثة (حوالي ١٦٠٠ق.م) لا تقتصر على حصر تفصيلي لكل المخالفات الخلقية، وإنما صارت امتحانًا خلقيًّا قاسيًا، بل معيارًا شاملًا للقيمة الخلقية لحياة كل إنسان.
وقد أصبح الشعور بمثل هذه المحاكمة وازعًا خلقيًّا قويًّا كما أراده أولئك الحكماء الذين خلقوه، غير أن سلطان تلك المحاكمة ما لبث أن مُسخ مبكرًا بالعوامل السحرية التي جاءت في كتاب الموتى الذي ألفه كهنة المعابد للكسب منه؛ إذ زعموا فيه أن يكون وسيلة تساعد الميت على التخلص من العقوبة بمخادعة وتضليل ذلك القاضي الرهيب.
وفي القرن السادس عشر ق.م ابتدأ عصر الفتوحات الدولية: السياسية منها والدينية، فاتسع بذلك أفق التفكير الديني حتى وصل بعد عام ١٤٠٠ق.م إلى قمته بظهور أول عقيدة للتوحيد عرفها التاريخ. على أن وجود السيادة لإله واحد عالمي لم تزد شيئًا في الرقي الخلقي عند المصريين الأقدمين؛ لأن ثروة العاهلية قد أفسدت أخلاق الكهنة. وإن آخر تطور خلقي عظيم في الديانة المصرية مما حدث فيما بعد، نشأ على ما يظهر خارج المعابد بعيدًا عن ديانة الحكومة؛ إذ ذاك [١٣٠٠–١٠٠٠ق.م]، وكان ذلك التطور يرمي إلى الشعور بالخطيئة؛ أي إلى اعتراف المؤمن بحقارة نفسه مع امتزاج ذلك بالثقة الشخصية العميقة في رحمة الله وعدله وعنايته الأبوية إلى أن يؤدي ذلك به إلى اتصال روحي بالله. ولقد أحدثت تعاليم الحكماء المصريين في ذلك العصر بوجه خاص تأثيرًا عميقًا في التفكير العبراني الديني، وباستيطان هذه التعاليم في فلسطين قطعت المرحلة الأولى في انتقالها الطويل من مصر لتصل إلينا نحن أهل هذا العالم الحديث. على أنه في مصر نفسها أخذت هذه الحال التي تعتبر أقدم ما عُرف عن الزهد والورع الشخصي في معناه الروحي العميق تنحط بالتدريج بتأثير رجال الكهانة الذين تطرفوا بتغاليهم في دينهم في أيام الحكم الإغريقي الروماني في مصر.
وهكذا يمر أمامنا دور عظيم من الخبرة البشرية كاشفًا لنا في مدى ثلاثة آلاف سنة من حوالي ٤٠٠٠ سنة ق.م، عن ظهور أول مجتمع إنساني عظيم وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة أخرى في أطول تطور أخلاقي يمكن للباحث تعقبه في مدة حياة أي مجتمع بشري. وتظهر لنا خطورة هذا التطور بوجه خاص إذا راعينا أنه على ما نعلم كان أول شيء في بابه، وأنه بذلك أثبت وجود حقيقة لم تكن معلومة من قبل؛ وهي: أن أرقى ذوات الثدي التي برزت على هذا الكوكب لم يكن في مقدورها فحسب أن ترقى إلى ذلك الأفق من التمدن الذي عينَّاه من قبل، بل إن هذا الرقي كان يشتمل كذلك على إدراك قيم جديدة سامية انتقلت بالتطور الإنساني إلى أسمى عالم خلقي لم يسبق له نظير. وبإماطة اللثام عن ذلك العالم الجديد للإنسان دخلت لأول مرة أمثال هذه العناصر الخلقية في ذلك التطور العظيم في حياة البشر الأولى في مصر وخارجها. ولا بد أن تطور حياة مثل هذه الأمة العظيمة وآدابها خلال ثلاثة آلاف من السنين قد أثر تأثيرًا عميقًا مطردًا على أقرب جيرانها في فلسطين خاصة، بل على كل أنحاء الشرق الأدنى، وأن النهضة التي أوجدتها هذه الحركة بين العبرانيين قد أفضت إلى تقليد خلقي وديني انتقل فيما بعد إلى المدنية الغربية، واستمرت بذلك مراحله الأخيرة عاملًا خلقيًّا قويًّا في حياتنا إلى اليوم.
ويمكننا الآن بعد أن استوعبنا المختصر العاجل أن نتعقب بحثًا أوسع عن ذلك التطور الطويل المدى الذي ارتقى به أهل وادي النيل إلى المثل العليا في الأخلاق. على أن المصادر التي لدينا لدرس الرقي الخلقي في العصور الأولى لمثل هذا الشعب القديم ضئيلة جدًّا، ونجدها كذلك إلى أن نصل إلى عصر اختراع الكتابة التي أفضت إلى وجود «المصادر المدونة».
وأقدم هذه «المصادر» لا تبدأ تفيدنا في مصر إلا بعد عام ٣٠٠٠ق.م، مع أنه توجد لدينا «مصادر» متأخرة عن ذلك تلقي ضوءًا هامًّا على ما سبق هذا العهد من مراحل رقي الأجداد وتقدمهم، ولكن «المصادر» المكتوبة وحدها لا يمكن أن ترجع بنا قط إلى بداية التطور.
أما ما نعتمد عليه في معلوماتنا عن أقدم حياة عُرفت للإنسان في وادي النيل فهو الوثائق المادية المحضة، وهي تكاد تنحصر في الأسلحة والآلات الحجرية، وفيما يلي ذلك تكشف لنا «جبانات عصر ما قبل التاريخ» التي تحتوي على الآلاف من القبور العتيقة المنتشرة على حافة الصحراء شيئًا عن المعتقدات الدينية التي كان سكان وادي النيل يدينون بها في الأيام الخالية التي يرجع عهدها إلى العصر الحجري الأخير. والزمن الذي بين أقدم أمثال هذه المصادر التي هي من عصر ما قبل التاريخ إلى أحدثها زمنٌ يقدَّر بمئات آلاف السنين، وذلك على أقل تقدير ممكن.
ولا نكون مخطئين إذا قررنا هنا أن أقدم المصريين عهدًا كانوا يعبدون آلهة ليست لهم صفات خلقية، كما كانت لهم طائفة من العادات لم تكن قد بلغت بعدُ مرحلة الأخلاق؛ فهم في ذلك كالأقوام الذين لا يزالون يعيشون في طور السذاجة الفطرية البحتة، وإذا فحصنا الديانة المصرية كما نجدها في أقدم الوثائق التي وصلت إلينا، وحاولنا أن نستخلص من تحليل أهم الانطباعات التي نجدها مصورة هنالك، تلك الانطباعات التي أخذها المصريون عن عالم الطبيعة، فإن ذلك يلقي بعض الضوء على الآراء التي كانت متداولة في العصر الذي سبق الاهتداء إلى الكتابة.
فمن الواضح أن ظاهرتين عظيمتين طبيعيتين قد أثرتا أعظم تأثير في سكان وادي النيل، فقد تصور القوم في هاتين الظاهرتين إلهين اثنين كان لهما السيطرة على كلٍّ من التطور الديني والعقلي منذ أقدم العهود التي عرفت؛ وهاتان الظاهرتان هما الشمس والنيل [أو الخضرة التي تروى من مائه]، وأما الإلهان فهما إله الشمس «رع» وإله الخضرة «أوزير»، وكانا الإلهين العظيمين في الحياة المصرية القديمة. وقد دخلا في دور تنافس منذ عهد مبكر جدًّا، فكان كل واحد منهما يبغي لنفسه أسمى مكانة في ديانة القوم، ولم ينقطع هذا التنافس قط إلا عندما محيت الديانة المصرية في ختام القرن الخامس المسيحي. ومن يقف على أصول قصة هذا التنافس الطويل يقف على المنهاج الرئيسي في تاريخ الديانة المصرية القديمة، بل لا نكون مغالين إذا قلنا إنه يقف على دور عظيم من أهم الأدوار في تاريخ حياة الإنسان.
وإن أبرز حقيقة هيمنت على وادي النيل هي قوة الشمس في مصر وجلالها الشامل لكل الكون، ولا يزال ذلك ماثلًا إلى أيامنا هذه يشاهده السائح الحديث العهد بالبلاد المصرية عندما ينظر إلى الشمس لأول مرة. ولا شك أن المصري شاهدها في أشكال متنوعة كانت في الأصل أشكالًا محلية.
ومن المحتمل جدًّا أن أقدم صورة تخيلها المصري لإله الشمس يرجع تاريخها إلى العهد الذي كان لا يزال فيه مصريو عصر ما قبل التاريخ يعيشون عيشة الصيد في مناقع الدلتا، وذلك عندما تخيلوا إله الشمس في شكل صياد يدفع أو يجدف في زورق يشبه الرمث مؤلف من حزمتين من الغاب ليعبر به مستنقعات الغاب. ولا تزال لمحات عن هذا التصور العتيق محفوظة لنا في أقدم فقرات «متون الأهرام»؛ إذ كثيرًا ما نجد فيها إله الشمس مصوَّرًا بصورة إنسان يجدف عبر المستنقعات السماوية في زورق الغاب المزدوج. وهذا هو «رع»؛ أي الشمس المجسَّمة التي تصوَّرها أقدم سكان وادي النيل من قبلُ في شكل إنسان جعلوا مقره «هليوبوليس» (عين شمس) حيث حل محل إله شمس قديم يدعى «آتوم» وأصبح أعظم إله في مصر.
وفي «إدفو» بالوجه القبلي تقمص إله الشمس صقرًا؛ لأن تحليق هذا الطائر المرتفع كان يخيل للقوم أنه يكاد يكون رفيق الشمس في علوها، وهذا ما ساق خيال فلاحي وادي النيل المبكرين الأول إلى أن الشمس لا بد أن تكون صقرًا مثله، يقوم بطيرانه اليومي عبر السماوات، ومن أجل ذلك أصبح قرص الشمس ذو الجناحين المنشورين أعم رمز في الديانة المصرية القديمة. وقد انحدرت إلينا هذه الفكرة عن طريق الأدب العبراني في تشابيهه التي منها «جناح الصباح» و«شمس العدالة» … التي تحمل الشفاء في جناحيها. وكان إله الشمس بصفته صقرًا يسمى «حور» [حوريس أو حوروس أو «حور أختي»]؛ أي حور الأفق، ولا تزال توجد آثار بعض المميزات بين آلهة الشمس المحلية العتيقة في متون الأهرام، وقد ابتدأت عملية مزج في عهد مبكر بين هذه الآلهة فضمتها كلها بعضها إلى بعض ووحَّدتها، حتى إن إله الشمس كان يسمى «رع حور أختي» أو «رع آتوم»، وقد أسرع كبراء رجال المعابد المحلية إلى التعجيل بهذه العملية؛ إذ كان كلٌّ من تلك المعابد يجري وراء نيل الشرف بادعائه أن مكانه هو الذي ولد فيه إله الشمس.
وقد بقي إله الشمس إلهًا يمثل الطبيعة عصورًا طويلة فيما قبل التاريخ، فكان بذلك إله الشمس في أقدم العصور الغابرة مقصورًا على الوظائف المادية؛ ولذلك كان يظهر في أقدم معابد الشمس بأبي صير بأنه منبع الحياة والخير، وقالت عنه الناس: «لقد أبعدتَ العاصفة وأزجيتَ المطر وحطمتَ السحاب.» وكانت هذه الظواهر في نظرهم أعداء له، وكانت بطبيعة الحال مجسَّمة كذلك في أساطير العامة؛ إذ ورد في إحدى الأساطير أن إله الشمس فقد عينه بيد عدوه.
ولما كان وادي النيل الذي ظهر فيه إله الشمس منذ زمن بعيد بمظهر قوة من قوى الطبيعة قد أخذ ينتقل بالتدريج إلى مكانة أمة عظيمة، فإن ميدان عمل إله الشمس أصبح بالضرورة ميدان الحياة البشرية والشئون القومية.
أما الخطوات التي نتج عنها الاتحاد الأول للبلاد فلا نعلم عنها شيئًا، غير أنه من المؤكد أن أميرًا من مدينة «إيوان» — وهي التي أطلق عليها الإغريق فيما بعد اسم «هليوبوليس» — قام بإخضاع الإمارات المصرية الأخرى في عهد ما قبل التاريخ، ووحد المملكة لأول مرة تحت حكم ملك واحد. ومن المحتمل أن هذا العمل حدث قبل سنة ٤٠٠٠ق.م. ومع أنه لم يصلنا عن اسم هذا الملك صدى واحد في خلال الفترة التي انقضت منذ ذلك العهد، وتقدَّر بنحو ٦٠٠٠ سنة، فإن عمله قد ترك أثرًا خالدًا في حياة مصر ومدنيتها؛ لأنه أسس وأدار أول نظام قومي عظيم خضعت له حياة عدة ملايين من الأنفس.
ولا يفوتنا أن نعيد إلى ذاكرتنا هنا أن هذا الاتحاد الأول ظل ثابتًا في البلاد بضعة قرون، وبعد انهياره عمت البلاد ثانية فترة انحلال أعقبها حوالي ٣٤٠٠ق.م فتحٌ آخر للإقطاعات السياسة، فانضم بعضها إلى بعض، وتألف منها جميعًا ما نسميه «بالاتحاد الثاني». وقد أعطت زعامة «هليوبوليس» في عهد الاتحاد الأول نفوذًا وشهرة لهذه المدينة لم تفقدهما قط فيما بعد؛ فقد أثرت على المدنية المصرية تأثيرًا عميقًا كانت فيه المكانة السامية لإله الشمس، وإلى تأثير عهد الاتحاد الأول يرجع السبب في انتقال الأوضاع والمميزات الحكومية الدنيوية التي كانت تسير عليها الحكومة المصرية إلى أنظمة إله الشمس في «هليوبوليس» بصفته الإله القومي، فأصبح ملك كل الآلهة، وخاطبه الناس بقولهم: «إنك أنت الذي تشرف على كل الآلهة ولا يشرف عليك إله ما.» وكذلك أصبح هو في الوقت نفسه الحاكم الأعلى المتصرف في مصير كل الناس. بذلك انتقل إله الشمس من عالم الطبيعة إلى عالم الناس، فأصبح فيه ملكًا قديمًا كان قد حكم مصر يومًا ما، كما حكمها الفراعنة من بعده، وقد تغيرت مظاهره الخارجية تبعًا لهذا التحول، فتحول زورق الغاب المزدوج الذي كان يسبح فيه إله الشمس فيما قبل التاريخ إلى سفينة ملكية فاخرة مثل سفينة فرعون الأرضية، وكان الاعتقاد أن إله الشمس يعبر بأبهته في هذه السفينة الشمسية الساطعة المحيط السماوي كما كان فرعون يعبر النيل، وكانت له سفينتان: واحدة للصباح وأخرى للمساء. وقد ظهرت أساطير عدة تتحدث عن حكم إله الشمس على الأرض، غير أنه لم يبقَ منها إلا قطع صغيرة، فمنها الأسطورة التي تقص علينا ما أظهره نحوه بنو البشر بصفتهم رعاياه من نكران الجميل نحوه، حتى إنه اضطر إلى معاقبتهم، وكان يفنيهم قبل أن يترك الأرض ويعتزل في السماء.
ومع أن المصريين ظلوا يشيرون بغبطة وسرور إلى حوادث هذه الأساطير الساذجة، وامتلأ أدبهم الديني بالتلميحات إلى تلك الخرافات حتى آخر عهده، فإنهم عندما ظهروا في شكل أمة موحدة كانوا قد أدركوا أن إله الشمس يقوم بوظائف رفعته فوق مثل هذه التخيلات الصبيانية، وجعلته المتصرف والحاكم العظيم على الأمة المصرية.
وهذا الانتقال الأساسي الذي يعد أول ما عرف في التاريخ من نوعه قد نقل بذلك نشاط إله الشمس الذي كان منحصرًا في دنيا المادة وحدها إلى مملكة الشئون البشرية. ولدينا أنشودة للشمس في متون الأهرام يحتمل أنها نشأت في ذلك العهد للاتحاد الأول؛ ونجد في هذه الأنشودة التي تعد أقدم ما وصل إلينا من نوعه، أن موضع الإشادة بإله الشمس هو سيادته على «شئون مصر»؛ إذ تبسط لنا الأنشودة المعاونة الصالحة التي يقوم بتقديمها الإله لأرض مصر والإشراف عليها، بل إنها تنشر أمامنا في أسطر متعاقبة عقود المدح لما يقوم به هذا الإله العظيم لحماية مصر من أعدائها.