إله الشمس وفجر المبادئ الأخلاقية
لم يعثر للآن على أثر ملكي واحد من عهد الاتحاد الأول، وإذا كان لا يزال في الوجود شيء من هذه الآثار فلا بد أن تكون مدفونة على عمق بعيد تحت غرين النيل المشبع بالماء في مصر السفلى؛ ذلك الغرين الذي ظل يتراكم مدة آلاف من السنين على بقايا ودمن بلدة «هليوبوليس» (عين شمس) التي وجدت في عصر ما قبل التاريخ. ومع ذلك فإن الأزمان التي تلت تلك العصور قد حفظت لنا ذكريات عن تلك العهود القديمة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، بل إنها حفظت لنا ذكريات عن تلك الأزمان السحيقة جدًّا التي سبقعت عهد توحيد مصر تحت حكم ملك واحد. والواقع أنه قد وصل إلينا صورة من المتن الحقيقي لوثيقة دوِّنت في بداية عهد الاتحاد الثاني، وهذه الصورة منقوشة على حجر أسود محفوظ الآن بالمتحف البريطاني، وذلك الحجر كان قد استعمله بعض القرويين أخيرًا قاعدة لحجر طاحون لطحن غلالهم، وقد استمروا في إدارة حجر الطاحون الأعلى عليه مدة أعوام دون أن يفقهوا شيئًا مما كانوا يمحونه بذلك من النقوش.
على أن ما بقي مقروءًا على ذلك الحجر الهام من الفقرات المشوهة، له أهمية لا تقدر بثمن. على أننا نفهم في الحال شيئًا عن أصل ذلك الحجر من سطر في أعلاه، نقوشه الهيروغليفية غاية في الوضوح، فنجد فيه اسم «شبكا» ذلك الفرعون الإثيوبي الذي حكم مصر خلال القرن الثامن قبل الميلاد، ويلي اسم ذلك الفرعون نقوش تقول: «إن جلالته [يعني نفسه] نقل هذه الكتابات من جديد في بيت والده «بتاح جنوبي جداره» وقد وجدها جلالته بمثابة عمل خلَّفه الأجداد قد أكله الدود حتى أصبح لا يمكن قراءته من البداية للنهاية، وإذ ذاك قام جلالته بكتابته من جديد حتى أصبح أكثر جمالًا مما كان عليه من قبل.» ومن ذلك نرى أن ملك مصر الإثيوبي الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد اهتم بالمحافظة على الكتابة القديمة التي خلَّفها «الأجداد»، ولا بد أنها كانت مدونة على ورق البردي، وإلا لما استطاع الدود أن يأكلها.
وقد نقل «شبكا» لحسن حظنا نسخته الجديدة على الحجر لتبقى محفوظة على الدوام، ومع ذلك لو بقي هذا الحجر يُطحن عليه بضع سنين أخرى لقضي على أقدم مسرحية في العالم، وعلى أول بحث فلسفي وصل إلينا من العالم القديم.
وقد انقضى الآن جيل على الفترة التي كنتُ أقضي فيها أيام الصيف الخانقة جالسًا على كرسي منخفض تحت نافذة في المتحف البريطاني أحاول أن أعكس بعض الضوء من النافذة التي كانت فوقي بمرآة يد على الحجر الذي كان موضوعًا تحت عتبة تلك النافذة بشكل لم يترك مجالًا لسقوط نور تلك النافذة عليه، وقد كان ذلك قبل ظهور كشافات اليد الكهربية القوية؛ ولذلك كان نقل مثل هذه النقوش يسير ببطء وبصعوبة لتآكلها، حتى إنها كانت أحيانًا لا يمكن الاهتداء لقراءتها كلية، ولا سيما أنها نقشت على حجر أسود حالك. وكانت نقوش ذلك الحجر موزعة في أعمدة أو أسطر عمودية، ويجوز في الكتابة المصرية القديمة أن يكون ترتيب الأعمدة عند قراءة مثل تلك النقوش من اليمين إلى الشمال أو من الشمال إلى اليمين؛ وذلك حسب اتجاه وجوه الحروف الهيروغليفية التي تواجه عادة بداية النقش. وكانت كل الإشارات في ذلك النقش تواجه اليمين دالة على أن بدايته كانت من جهة اليمين. وعلى ذلك بدأتُ بنقل المتن من العمود الأول على اليد اليمنى، وكنت أتدرج في النقل من عمود إلى عمود متجهًا نحو الشمال، ولكن لاحظت مع ذلك بغتة عند أسفل عمود من الأعمدة، أن معنى إحدى الجمل كان مستمرًّا في العمود التالي من اليمين لا في العمود التالي من اليسار كما كان متوقعًا.
ومن ذلك ظهر لي فجأة أن هذا النقش كان من النقوش القليلة المعروفة التي كُتبت بإشارات معكوسة [أي إن الإشارات لم تتجه الاتجاه العادي]. وعلى ذلك كان العلماء يقرءونها إلى الآن بوضع مقلوب نتجت منه سلسلة فقرات متقطعة يتبع بعضها بعضًا بدون أي ارتباط بينها من النهاية إلى البداية. فلما قرأتُ هذه الأعمدة بترتيبها الصحيح بدأتْ تقص عليَّ قصة من أروع القصص، غير أنها قصة مؤلفة من نتف، وبعض أجزائها لم تمكن قراءته مطلقًا، حتى إنه كان من العسير جدًّا فهمها. ويرجع السبب في ذلك إلى أن حجر الطاحون العلوي كان يلف على وسط قاعدة حجر الطاحون المكتوبة، فضلًا عن أن الطحان كان قد حفر حفرة في وسط هذه القاعدة تتفرع منها قنوات تشبه الأشعة التي تخرج من قطب العجلة، وقد محا ذلك الطحان الغشوم تمامًا ثلث النقش القديم من جهة الوسط تاركًا ثلثًا ضئيلًا منه على اليسار عند البداية وثلثًا آخر عند الطرف الأيمن؛ ولذلك أصبح من المستحيل أن ندرك أي اتصال في المعنى بين الأعمدة التي على اليسار والأعمدة التي على اليمين.
ومن يوم أن نشرت متن النقش مع محاولة مبدئية لترجمته قضى العلماء في البحث جيلًا بأكمله حتى أمكن الوصول إلى فهم صحيح لنوع المتن ومحتوياته، بل لتحديد تاريخه. ونخص بالذكر من بين هؤلاء العلماء الذين درسوا هذا النقش: «إرمان» ثم «زيته». وقد سمى «شبكا» الإثيوبي هذا المتن في القرن الثامن قبل الميلاد «تأليف الأجداد»، وهو تعبير مبهم يوحي لنا أن كتَّاب هذا الملك المتفقهين لم يكن لديهم فكرة عن أن الكتابة التي كانوا ينسخونها كان عمرها إذ ذاك يزيد عن ٢٥٠٠ سنة. ولكن لغة هذه الكتابة القديمة ومحتوياتها لم تدع مجالًا لأي شك عن شدة قدم أصلها؛ لأن لغة الوثيقة تحتوي على اصطلاحات تدل على أنها قديمة جدًّا، كما أن المتن يكشف لنا عن موقف تاريخي يدل بداهة على أن وقوعه لا يمكن إلا من بداية الاتحاد الثاني [أي في عهد تأسيس الأسرة الأولى على يد مينا حوالي سنة ٣٤٠٠ق.م]. وعلى ذلك يكون ذلك المتن من إنتاج الحضارة المصرية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وبذلك يكون قد أعطى لنا صورة من أفكار أقدم بني البشر لم يصل إلينا مثلها مدونة إلى الآن.
وقد تركت لنا الفجوة المؤلمة التي في وسط الحجر — كما أسلفت — جزءًا من المتن على اليسار هو البداية، وجزءًا على اليمين هو الخاتمة، ويقسم المتن الذي في البداية فواصل متكررة تجعله على صورة فصول صغيرة معظمها في شكل عبارات يخاطب بها الآلهة المختلفون بعضهم بعضًا، ونجد غالبًا عند بداية كل عبارة من تلك العبارات علامتين هيروغليفيتين تدلان على اسمي إلهين، والعلامتان مرتبتان في وضع يجعل كلًّا منهما تواجه الأخرى كأن كلا الإلهين يحادث أحدهما الآخر، وهذا يطابق محتويات المتن؛ فإنها تثبت أنهما كانا يتحادثان فعلًا.
ونجد في كلٍّ من الجزء المسرحي والبحث الفلسفي أن «بتاح» إله منف يقوم بدور إله الشمس الذي يعتبر إله مصر الأسمى، وذلك يفسر لنا العادة التي أشرنا إليها من قبل في الفصل الثاني [آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني]، والتي كان يسعى بها الإله المحلي للحصول على عظمة إله الشمس وبهائه، بأن يتقلد مركزه ويلعب الدور الذي لعبه في تاريخ مصر الخرافي ومنشئه. وإن سيادة «بتاح» في تلك المسرحية تدل بوضوح على تزعُّم مدينة «منف» تزعمًا سياسيًّا، وتلك الزعامة ترجع في هذه الحالة إلى انتصارات «مينا» مؤسس الأسرة الأولى. وذلك الملك — وإن كان مولده في تنيس بمصر العليا — هو الذي أسس «منف» لتكون عاصمة له ومقرًّا لملكه. وبالرغم من ظهور أصل تلك المسرحية في منف فإن المنبع الأصلي لمحتوياتها العجيبة كان بلا شك بلدة «هليوبوليس»؛ فإننا نجد فيها تلك الفلسفة اللاهوتية التي اشتهر بها كهنة «عين شمس»، والتي وصلوا بها في عهد الاتحاد الأول إلى المرحلة التي أخذ عنها كهنة «منف» في تمجيد إلههم «بتاح».
فهذه المسرحية تبرز لنا إذن إله الطبيعة القديم وهو إله الشمس «رع» متحولًا تمامًا إلى قاضٍ يحكم في شئون البشر؛ تلك الشئون التي أصبحت ينظر إليها من الناحية الخلقية، فهو يحكم عالمًا يرى من واجبه توجيه حياة البشر فيه طبقًا لقواعد تفصل بين الحق والباطل. وإنه من المدهش جدًّا أن نجد أن أمثال هذه الأفكار كانت قد ظهرت فعلًا في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد.
ويمكن تلخيص محتويات هذه المسرحية بأنها محاولة لتفسير أصل جميع الأشياء، ويدخل في ذلك نظام العالم الخلقي، وأن هذه الأصول جميعًا ترجع إلى «بتاح» إله «منف»، أما كل العوامل الأخرى التي ساعدت على خلق العالم أو المخلوقات التي كان لها نصيب في ذلك فلم تكن إلا مجرد صور أو مظاهر لبتاح إله «منف» المحلي المسيطر على أصحاب الحرف والصناعات، والذي يعتبر إله كل الحرف.
- (١) الفكر والتعبير عنه بصفتهما الأصل والقوة المساعدة لكل من نظام الأرض ونظام السماء:
حدث أن القلب واللسان تغلبا على كل عضو في الجسم، وعلما الإنسان أن «بتاح» كان في كل صدر على هيئة القلب، وعلى هيئة اللسان في كل فم، سواء في ذلك جميع الآلهة وجميع الناس وجميع الماشية وجميع الزواحف وسائر الأحياء، وفي الوقت نفسه يفكر «بتاح» فيما يشاء، ويأمر بكل ما يريد.
وبعد أن تقص علينا الوثيقة كيف أن مجموعة آلهة «منف» لا تزال في فم «بتاح»، «الذي نطق بأسماء كل الأشياء»،٣ فعلمنا أن هؤلاء الآلهة الذين كانوا يُعرفون من قبل بأنهم صور لبتاح قد أوجدوا بصر الأعين وسمع الآذان وتنفس الأنف لتصل جميعًا إلى القلب، وأن القلب هو الذي يصدر كل قرار، وأن اللسان هو الذي يعلن فكر القلب. وبمثل ذلك فطرت كل الآلهة؛ أي «آتوم» وتاسوعه الإلهي [مجموعة تسعة آلهة] على حين أن كل كلمة مقدسة خرجت إلى الوجود عن طريق ما فكَّره القلب وأمر به اللسان، وكذلك المراكز [الوظائف الرسمية] فإنها أُنشئت، والمناصب [الحكومية] وزِّعت (وهي التي قدمت جميع الغذاء وجميع الطعام) بواسطة هذا النطق المتقدم [أي طبقًا للنظرية السالفة الذكر]. - (٢) النظام الدنيوي:
[أما من جهة] الذي يفعل ما هو محبوب والذي يفعل ما هو مكروه فإن الحياة تُعطى للمسالم، والموت يحيق بالمجرم.
وبذلك يسير كل عمل وكل حرفة؛ فنشاط الذِّراعَيْن وسير الساقَيْن وحركة كل عضو تكون حسب هذا الأمر الذي يديره القلب، والذي يخرج من اللسان، وهو الذي يجعل لكل شيء قيمة.
- (٣) النظام السماوي:
وحدث أنه قيل عن «بتاح» أنه خلق «آتوم» (إله الشمس القديم في هليوبوليس) وأوجد الآلهة، وهو «تاتن» [اسم قديم لبتاح] مصور الآلهة، ومنه خرج كل شيء سواء أكان طعامًا أم غذاءً أم مئونة للآلهة أم أي شيء طيب في الوجود، وبذلك أصبح من الظاهر المفهوم أن قوة «بتاح» هي أعظم من قوة كل الآلهة، وبذلك اطمأن بتاح بعد أن خلق كل شيء وكل كلمة مقدسة. وهو الذي صور الآلهة وأقام المدن وأسس المقاطعات، فأقام الآلهة في أماكنهم المقدسة وثبت دخلهم المقدس وأعد محاريبهم ونحت تماثيل لأجسامهم كما تحب قلوبهم، وبذلك حلت الآلهة في أجسامها المصنوعة من كل نوع من الخشب، ومن كل صنف من المعادن، ومن كل نوع من الطين، ومن كل ما ينمو عليه (أي على بتاح بصفته إله الأرض) من الأشياء التي صنعت منها هذه التماثيل.
وبذلك أصبحت في قبضة «بتاح» (المحب للسلام والصلح) الآلهة ووظائفها بصفته رب الأرضين (مصر). وكانت مخازن الغلال المقدسة «هي العرش العظيم» «منف» التي تدخل السرور على قلب الآلهة الذين في بيت بتاح، وهي سيدة كل الحياة، ومنها تستمد الأرضان (مصر) حياتها.
من البدهي أن هذه الفكرة الهائلة التي ظهرت في عصر مبكر كهذا في تاريخ البشر — أو بتعبير أحسن في عصر ما قبل التاريخ — هي في حد ذاتها برهان على تقدم ناضج بدرجة مدهشة للعقل الإنساني في مثل هذا التاريخ البعيد؛ إذ ننتقل فجأة وبدون وجود مراحل انتقال تدريجية من عالم آلهة الطبيعة إلى عهد حضارة ناضجة نامية ينتج فيها منظمو الديانة والحكومة تفكيرًا معنويًّا ناضجًا. وقد رأوا أن العالم الذي يحيط بهم يعمل بعقل، فاستخلصوا من ذلك أنه مخلوق ومحمي الآن بعقل عظيم محيط بكل شيء، وأنه قد صبغ بالعقيدة القائلة بحلول الإله في كل شيء؛ ولذلك كانوا يعتقدون أن هذا الإله لا يزال يعمل عمله في كل صدر وفي كل فم في جميع الكائنات الحية. وقد استمرت هذه الفكرة موجودة مدة طويلة، ولذلك نجد أن المصري الذي عاش بعد ذلك العهد بألفي سنة كان يعتقد في «وحي الإله الذي في كل الناس»، أو يشير مخاطبًا غيره إلى «الإله الذي فيك».
ومن الظاهر جدًّا أن الجماعة المنسقة والحكومة المنظمة كان لهما أثر عظيم على عقول هؤلاء المفكرين القدامى؛ إذ كان الاعتقاد بأن المركز السامي والمراتب الرسمية والوظائف الحكومية التي يسير بمقتضاها المجتمع الإنساني هي من وضع عقل سامٍ، وإنها برزت إلى الوجود بكلمة هذا العقل السامي، ولذلك كانت الشئون العملية في الحياة العامة والحرف الصناعية تسير حسب «الأمر الذي يفكره القلب ويخرج من اللسان».
والواقع أنه في هذه المرحلة السحيقة من التقدم البشري أخذ الإنسان يدرك أن بعض السلوك ممدوح وبعضه مذموم، وأن كل إنسان يعامل بحسب ذلك، فالحياة تُمنح للمسالم (الذي يحمل السلام) ويحيق الموت بالمجرم (الذي يحمل الجريمة). على أنه مما يلفت النظر جدًّا أن هؤلاء المفكرين القدامى لم يستعملوا في هذا المقام الكلمتين «طيب» و«خبيث»؛ فالمسالم في نظرهم هو الذي يفعل ما هو محبوب، و«المجرم» هو الذي يفعل ما هو مكروه. وهاتان العبارتان هما حكمان اجتماعيان يحددان ما هو ممدوح (محبوب) وما هو مذموم (مكروه)، وفي هذين التعبيرين («ما هو محبوب» و«ما هو مذموم») نجد أقدم برهان عُرف على مقدرة الإنسان على التمييز بين الخلق الحسن والخلق السيئ؛ لأنهما ذكرا هنا لأول مرة في تاريخ البشر، ولهما تاريخ طويل فيما يلي ذلك الزمن، وظل استعمالهما مستمرًّا قرونًا عديدة، ولم يحل محلهما كلمتا «الحق» و«الباطل» إلا بعد ذلك بزمن طويل. وهناك بعض الغموض بشأن أصل الجمل الافتتاحية للفقرة القصيرة الخاصة بالنظام الخلقي مما جعل إنشاءها من جديد معلقًا، فقد رتبت الكلمات على الحجر نفسه هكذا:
ويظهر أن هذا التركيب مفصول عما يتلوه من المتن بأداه فصل، والآن نتساءل عما إذا كانت تلك الترجمة السالفة (أو الإنشاء الجديد) قد أدت كل المعنى المطلوب أم لا؟ فنجد أولًا أن الكلمة التي ترجمت بلفظ «يفعل» تعني أيضًا «يصنع»، ولما كانت هذه الكلمة هنا في صيغة اسم الفاعل «الذي يفعل» فإنه يمكن أن تعني أيضًا الذي يصنع؛ أي الصانع، وبذلك تنسب إلى الإله أنه صانع ما يحب وما يكره. وإذا كان الأمر كذلك فيكون لدينا هنا نص بتسمية الإله «خالق كلٍّ من الطيب والخبيث».
غير أن الأستاذ «إرمان» رأى أن هذا التفسير غير مقبول، وترجم التعبيرين المتقابلين «بالنِّعم» و«النِّقم».
ومن جهة أخرى لاحظ الأستاذ «زيته» أن هذه الترجمة غير سائغة مع التعبيرين المتضادين «مسالم ومجرم»، وهما بجلاء تعبيران خلقيان، يضاف إلى ذلك أن لهذين التعبيرين تاريخًا لاحقًا — كما ذكرنا — يظهران فيه مستعمَلَيْن بمعنى خلقي لا يقبل الجدل.
وأراد الأستاذ «زيته» أن يربط هذين التعبيرين أحدهما بالآخر بعض الربط، فقرر أنه سقطت بعض الألفاظ من الكاتب القديم عند قيامه بالنسخ، ولذلك يقترح أن الكلمات المحذوفة يمكن إعادتها بالاستعانة بفقرة وردت عن مثل ذلك في كتاب الموتى، فيكون الترتيب هكذا:
والاعتراض المهم على هذا التصحيح هو إدخال التعبيرين «حق» و«باطل» المأخوذين عن «مصدر» متأخر عن ذلك بكثير «ككتاب الموتى»، على أن خلو مسرحيتنا من هذين التعبيرين الأخيرين يشعر بحقيقة هامة جدًّا؛ وهي أن وجودهما جاء متأخرًا، وفيما عدا ذلك نجد تصحيح الأستاذ «زيته» مغريًا رغم أنه يدل على منتهى الجرأة، كما أنه في نفس الوقت يمدنا بموازنة تامة للتعبيرين المذكورين في ذلك التركيب المصحح.
ومن بين الصفات أو المميزات — التي يمكننا إدراكها بوضوح عن إله الشمس بعد سنة ٣٠٠٠ق.م — ميزتان اثنتان تسميان «الأمر» و«الفهم»، ويمثَّل كلٌّ منهما في صورة إله كما مثَّل العبرانيون «الحكمة» في شكل إله، ولذلك كان رجال البلاط يحيون الفرعون بصفته خليفة إله الشمس هكذا: «الأمر في فمك، والفهم في قلبك.»
- (١)
الصفتان الأصليتان لإله الشمس: الفهم – الأمر.
- (٢)
الصفتان اللتان حلتا محليهما للإله بتاح: «القلب» – «اللسان».
ومن ذلك يتضح أن فكرة وجود شخصية عليا قد أخذ فجرها ينبثق في هذا العهد على العقل البشري لأول مرة في التاريخ.
وكان هؤلاء المفكرون الأوائل يكافحون في تصور تلك الفكرة الخطيرة الشاملة محاولين أن يتعرفوا ويحللوا الخصائص الأصلية التي تميز مثل هذه الشخصية، وقد كان لهذه الفكرة أثر عميق في الحياة الإنسانية، ومن الواضح أنها نبتت من الملكية، أو بعبارة أصح: من نفس حكم الملك الفعلي وإدارته للبلاد، حيث كانت الفكرة مجسمة فيه بحذافيرها؛ فرأى الناس في فرعون لأول مرة في تاريخ البشر صورة فاخرة لشخصية بارزة وسلطان مجسم، وبذلك أخذت الفكرة تتحول إلى قوة، وقد ظهر تأثير رد فعلها أولًا في النواة الصغيرة التي يتألف منها رجال الفكر، وأخيرًا في المجتمع الإنساني.
وتكشف لنا المسرحية المنفية عن أقدم تقدير للسلوك بصفته مَرضيًّا أو غير مَرضي، وهاتان الصفتان المتقابلتان كانتا — كما أسلفنا — صفتين اجتماعيتين، وكان ظهورهما نتيجة للتطور الاجتماعي. غير أن الذي يعوقنا عن إدراك كنه هذا التطور ومنشئه افتقارنا التام «لمصادر معاصرة». وسنجد في الأدوار المتأخرة من الرقي عدة براهين لا تزال باقية تكشف لنا عن أصل تلك العوامل التي حدت بالناس القدامى إلى أن يدركوا أن بعض السلوك «محبوب» وبعضه «مذموم»، وهذه مرحلة من الأخلاق كانت في بادئ الأمر عادة من العادات، وكان التقدم حتى في تلك المرحلة المبكرة قد خطا خطوات بعيدة لدرجة أن السلوك صار موضوع تفكير في أذهان أقدم المفكرين المعروفين لدينا من عهد القرون السحيقة التي ترجع إلى عصر الاتحاد الأول. وبعبارة أخرى: نجد في تلك المسرحية المنفية إشارة وجيزة عن أقدم مبادئ جاءت عن طريق التفكير والتأمل، فالرجل الفاضل يسمى «محبًّا للسلام»، وبالنص الحرفي «حامل السلام»، وهو تعبير أخلاقي بلا شك يُعرف الرجل الفاضل بعلاقاته بمن حوله. وعلى النقيض منه «حامل الجريمة» أو «المجرم»؛ فهو الذي يخطئ في حق من حوله. والواقع أنه كان لا بد أنه قد وُجد في ذلك الوقت قانون مسنون يعترف بهذين النوعين من السلوك، ويقرر إحاقة الموت بالمسيء، ومنح الحياة لغير المسيء.
ولا شك في أن كل ما سبق من الأبحاث دليل على ظهور رقي اجتماعي وخلقي يقع في أفق سابق بكثير لأقدم أفق تاريخي عرف لدينا إلى الآن.
ومن المهم أن نحدد بالضبط آخر مدى وصل إليه ذلك الرقي عندما ظهر لأول مرة في فجر التاريخ، فإن الأحوال التي أتت فيما بعد توضح لنا تمامًا أن فرعون كان مصدر القانون ومنبع الحياة، وأن تأثير السلوك كان مجرد أمر ظاهري خاص بهذه الحياة الأرضية، وأن فرعون وحده كان في مقدوره أن يتطلع إلى آخرة فاخرة فيقلع فيها في المحيط السماوي مع إله الشمس والده. أما فيما يختص بأي إنسان آخر فإن سلوكه سواء أكان مقبولًا أم مذمومًا ليست له سوى عواقت أرضية محضة، وليس لها أي تأثير على أية حياة في الآخرة؛ ولذلك كان الحق والباطل أمرين يقررهما فرعون، فكان يقوم بفحصهما كما يُرى من المسرحية المنفية رجالُ الفكر من طائفة الكهنوت، ولذلك كان لا بد من الانتظار طويلًا إلى أن تصبغ هذه الأفكار بصبغة إنسانية اجتماعية، وتصير قوة اجتماعية عظيمة مهدت لفاتحة «عصر الضمير» والأخلاق بعد ذلك بعدة قرون.