متون الأهرام وصعود فرعون إلى السماء
تمدنا متون الأهرام والمسرحية المنفية بأقدم مصدر وصل إلينا عن التفكير البشري عند الأقدمين، فلدينا في هذين المصدرين أقدم مدى يمكن لنا الآن إدراكه عن تاريخ الإنسان العقلي، وكان الظن السائد أن كل الأهرام كانت عارية من النقوش إلى أن اقتحم العمال المصريون الذين كانوا يعملون في الحفائر تحت إشراف «مريت» في سنة ١٨٨٠ ميلادية — وهي السنة السابقة لوفاته — هرم «بيبي الأول» ثم دخلوا فيما بعد هرم الملك «مرنرع»، فوجدوا جدران أروقة هذين الهرمين وممراتهما وحجراتهما مغطاة بآلاف الأسطر من النقوش الهيروغليفية، وهذه النقوش هي التي يطلق عليها الآن اسم «متون الأهرام».
غير أنه يظهر لنا أن محتويات هذه المتون تشتمل على مادة أقدم من عصر النسخ التي وصلت إلينا، وتشير النسخ الخمس التي بأيدينا إلى مادة كانت موجودة فيما مضى، ثم اختفت بعد، فإنك تقرأ فيها عن «فصل أولئك الذين يصعدون» و«الفصل الخاص بأولئك الذين يرفعون أنفسهم». وذلك يدل على أن هذين الفصلين كانا مستعملين قديمًا في مناسبات لحوادث مختلفة في أساطير ذلك العهد القومية، وبذلك يعتبر هذان الفصلان أقدم عهدًا من متون الأهرام التي بأيدينا.
وكذلك توجد في هذه المتون إشارات إلى الخصومات التي كانت قائمة بين ملوك الشمال [الوجه البحري] وملوك الجنوب [الوجه القبلي] مما يدل على أنها كُتبت قبل عهد الاتحاد الثاني؛ أي قبل القرن الرابع والثلاثين ق.م. هذا إلى فقرات أخرى يرجع تاريخ عهدها إلى باكورة عهد الاتحاد الثاني؛ أي في الوقت الذي كانت فيه تلك الخصومات ما زالت مستمرة، وكان فيه ملوك الجنوب بالرغم من تلك الخصومات قابضين على زمام الحكم في الشمال ومحافظين على وحدة الدولة، وقد كُتبت كل هذه الفقرات بوجهة نظر أهل الجنوب.
على أننا نرى من ناحية أخرى أن بعض متون الأهرام قد ألفت في زمان متأخر معاصر لنفس الدولة القديمة، مثل الصيغ التي وضعت لحماية الهرم، والتي لم تكن بطبيعة الحال أقدم من ظهور الشكل الهرمي في القرن الثلاثين ق.م. وظهر كذلك في خلال مدة القرن ونصف القرن المذكورة التي كُتبت في أزمنتها نسخ متون الأهرام الخمسة اختلاف بين بعض النسخ وبعضها الآخر؛ فإن لدينا حججًا قاطعة تدل على إدخال تنقيح ظاهر على النسخ المتأخرة العهد منها ليس له نظير في النسخ القديمة، وذلك يدل أيضًا على أن مراحل التفكير ونمو العادة والاعتقادات التي أخرجت هذه المتون إلى حيز الوجود كانت لا تزال مستمرة في تطورها حتى ظهرت النسخة الأخيرة منها في باكورة القرن الخامس والعشرين ق.م. لذلك تمثل لنا هذه المتون حال عصر لا يقل عن ألف سنة، ولا يعزب عن الذهن أن ألف السنة هذه كانت قد انتهت بالنسبة إلينا من نحو أربعة آلاف وخمسمائة سنة. والواقع أن مثل هذا القدر العظيم من الوثائق الباقية لنا عن العالم القديم ليس له مثيل في أي مكان آخر من العالم، وهذه المتون تؤلف خزانة من التجاريب التي كانت تدور في حياة الإنسان القديم، ومعظمها مما لا يزال ينتظر دوره تحت محك الدرس والبحث.
ولقد كانت الغاية المطلوبة من متون الأهرام على وجه عام هي ضمان السعادة للملك في الحياة الآخرة، لكنها مع ذلك تصور لنا دائمًا جَزْر الحياة المحيطة بها ومدها، شأنها في ذلك شأن كل أدب قومي، فإنها تنطق بعبارات تدل على خبرة القوم الذين أخرجوها، وهذه العبارات تتناول الحياة القومية في القصور والطرق والأسواق، وبعضها عبارات أنشأتها العزلة والعكوف في المعابد المقدسة. وإن صاحب الخيال السريع ليجد في هذه العبارات صورًا كثيرة عن ذلك العالم الذي تقادمت عليه الدهور وبقيت هي مرآته.
ومع أن هذه الصور تهتم بوجه خاص بذكر أحوال «الملك» فإنها لم توصد في وجوهنا باب العالم المحيط بها؛ فمثلًا عندما تعبر عن سعادة الملك في الحياة الآخرة تقول: «هذا الذي سمعته في البيوت وتعلمته في الطرقات في هذا اليوم الذي طلب فيه الملك بيبي للحياة.» ومنها نلتقط لمحات عاجلة عن تلك الحياة في البيوت وفي الطرقات التي مضى عليها خمسة آلاف سنة: «فالخطاطيف تشقشق على الجدار، والراعي يعبر الترعة خائضًا في الماء حتى الحزام حاملًا عبر الماء رضيع قطيعه الضعيف، والأم تدلل رضيعها عند الغسق، ويشاهد الصقر عند الغروب مخترقًا السماء، وتشاهد البطة البرية مخلِّصة قدميها فارة من يد الصياد الذي فشل في اقتناصها في المستنقع، وعابر الماء واقف عند زورق العبور ولا مال معه يقدمه للنوتي مقابل مقعد في الزورق المزدحم بالمسافرين، ولكن يسمح له أخيرًا بالنزول إلى الزورق على أن يعمل مقابل نقله في نزح الماء من الزورق المثقوب، ويشاهد الشريف جالسًا عند حافة بركته في حديقته تحت ظلال الخميلة المصنوعة من سيقان الغاب.»
يشاهد الملك في قاعة قصره وهو جالس على عرشه العجيب وصولجانه المدهش في قبضته، ثم يرفع يده نحو أولاده ليقفوا أمام هذا الملك، ثم ينزل يده مشيرًا نحوهم فيجلسون ثانية.
والحقيقة أن هذه المشاهد قد صورت على أنها حوادث تنتظره في الحياة الأخروية، غير أن عناصر الحوادث والألوان التي صورت بها تلك الحياة مأخوذة من الحياة الدنيا والتجاريب الدنيوية، فمن ذلك أن أولئك الذي مرَّ وصفهم بأنهم كانوا يلقون نعالهم وملابسهم ليرقصوا أمامه فرحًا عند وصول الملك حينما يعبر النيل السماوي هم الآلهة، ولكنهم مثلوا طبعًا كأنهم يفعلون في السماء ما اعتاد رعاياه فعله فوق وادي النيل الأرضي، وكذلك هم الآلهة الذين نراهم يجففون أعضاء فرعون عندما يستحم مع إله الشمس في «بحيرة البردي»، فهم هنا أيضًا يفعلون لفرعون ما كان حجَّابه يفعلون له على الأرض.
ولكن بالرغم من أن هذه المتون العتيقة غاصة بمناظر الحياة الدنيوية التي نقلت عنها، فإنها في مجموعها تصور أرضًا غير معروفة لنا تقريبًا، فإنه عندما يحاول الإنسان ارتياد مجاهل هذه الأرض يحس كأنه يرود غابة فطرية شاسعة الأرجاء كأنها غياض مسحورة مفعمة بأشكال غريبة وأشباح مخيفة تتراءى كأنها تقطن في تيه لا منفذ فيه، فإننا نجد فيها كتابة عتيقة التهجية تضم في ثناياها كلمات ذات معنى غامض، قد يجوز أن يكون القارئ قد عرفها وهي مرتدية لباسها المعتاد الذي لبسته فيما بعد، وكذلك كانت تستعمل تلك الكلمات في مواقف ومعانٍ غريبة عن القارئ الحديث غرابة تهجيتها.
ويوجد في هذه المتون مجموعة أخرى كبيرة من الكلمات البالغة حد الغرابة المخالفة لتلك الكلمات المعروفة المتنكرة، وأعني بذلك طائفة من الكلمات العتيقة المهجورة التي عاشت حياة طويلة دائرة في الاستعمال في دنيا قد محيت تمامًا وصارت نسيًا منسيًّا، فهي بعد أن وخطها المشيب كانت كالعدَّاء المنهوك القوى تترنح على مرأى منا مدة قصيرة في أقدم أفق معروف لدينا، فقد ظهرت فقط في هذه المتون العتيقة ثم اختفت اختفاء أبديًّا بعد عصر تلك المتون، ومن ثم لا نصادفها مرة ثانية في متون مصرية أخرى، فهي تكشف لنا في شيء من الإبهام عن دنيا من التفكير والكلام بادت من الوجود، ويعتبر عهدها آخر العصور العديدة التي لا تحصى، والتي مرت بها حياة الإنسان فيما قبل التاريخ حتى صار قاب قوسين أو أدنى من الدخول في العصر التاريخي. ولكن هذه الكلمات الغريبة التي وخطها الشيب، وهي البقية الباقية لنا من عصر منسي مهجور، استمرت مستعملة مدة جيل أو جيلين في متون الأهرام، وتستمر غرابتها بالنسبة إلينا عادة حتى يزول استعمالها نهائيًّا. وليس لدينا من الوسائل ما نعرف به معناها أو إرغامها على أن تبوح لنا بأسرارها أو عن الرسالة التي كانت تحملها في غضونها، وليس لدينا من فنون معرفة اللغات القديمة ما نحاول به إرغامها على كشف ما تكنه من الأسرار. ويوجد بجانب تلك الكلمات أيضًا طائفة أخرى من التراكيب العويصة التي زاد في صعوبتها طبيعة ما تشير إليه من المعاني المبهمة الغامضة، فهي مفعمة بتلميحات عن حوادث أساطير ضاعت معالمها عنا، وعادات ومعاملات قد فات زمانها منذ عهد بعيد، وقوامها عناصر حياة وفكر وتجارب ضاعت معالمها كلها في بيداء المجهول التام.
ذكرنا فيما سلف أن الغاية المهمة من متون الأهرام هي في الأصل ضمان سعادة الملك في الحياة الأخروية؛ لذلك نجد أبرز شيء في هذه المتون الاحتجاج الملح، بل الاحتجاج الحماسي ضد الموت، ويمكن اعتبارها صورة لأقدم ثورة عظيمة قام بها الإنسان ضد الظلمة والسكون العظيمين اللذين لم يعد منهما أحد. وكلمة الموت لم تذكر قط في متون الأهرام إلا في صيغة النفي أو مستعملة للعدو، فترى التأكيد القاطع مرة بعد الأخرى أن المتوفى حيٌّ يرزق: «الملك تيتي لم يمت موتًا، بل جاء معظمًا في الأفق»، «هيا أيها الملك «وناس»، إنك لم تسافر ميتًا بل سافرت حيًّا، لقد سافرت لكي يمكنك أن تعيش، وإنك لم تسافر لكي تموت»، «إنك لن تموت، هذا الملك بيبي لن يموت»، «الملك بيبي لا يموت بسبب أي ملك … ولا بسبب أي ميت. هل قلت إنه مات؟ إنه لن يموت، هذا الملك «بيبي» يعيش أبدًا، عش! إنك لن تموت»، «وإذا رسوت [استعارة للموت] فإنك تحيا [ثانية]»، «هذا الملك «بيبي» قد فر من موته.»
وهكذا نجد تجنب ذكر الموت باستمرار في هذه المتون، وكثيرًا ما تحتم صيغة نفي الموت بالتأكيد الآتي: «إنك تعيش، إنك تعيش، ارفع نفسك، إنك لن تموت فقم، ارفع نفسك» أو «ارفع نفسك أيها الملك بيبي السامي بين النجوم التي لا تفنى [وهي النجوم الثوابت]، إنك لن تفنى أبدًا.» وإذا لم يكن بدٌّ من الإشارة إلى حقيقة الموت المرة فإنه يسمى «النزول من البحر» أو ربط حبال السفينة في المرساة كما سبق ذكر ذلك، أو كان يفضل في مثل هذه الحالة ذكر كلمة الحياة منفية، ولذلك كان يستحب قول: «ليس حيًّا» بدلًا من النطق بالكلمة المشئومة. أو كانت هذه المتون القديمة تعيد إلى الذاكرة ذكريات حزينة لسعادة مفقودة قد تمتع بها الناس ذات مرة «قبل أن يأتي الموت».
ومع أن أسمى موضوع في متون الأهرام كان الحياة؛ أي حياة الملك الأبدية، فإن هذه المتون كانت تتألف من مصادر متنوعة جدًّا، ولما كانت كل طريقة وكل نفوذ يستعمل للوصول للغرض المقصود (الحياة بعد الموت)، فإن الكهنة الذين وضعوا تلك المجموعة من الأدب القديم، والتي هي أقدم ما وصل إلينا للآن، ضمَّنوها كل أنواع التعاويذ القديمة التي كانت تعد في نظرهم مرعية مستجابة، أو التي وجدوا أنها تفيد لذلك الغرض.
ويمكن القول بأن متون الأهرام تحتوي بوجه خاص على ستة موضوعات: شعائر جنازية – وشعائر خاصة بالقرب المأتمية عند القبور – وتعاويذ سحرية – وشعائر قديمة خاصة بالعبادة – وأناشيد دينية قديمة – وأجزاء من أساطير قديمة – وصلوات وتضرعات لفائدة الملك المتوفى. وتقع هذه المتون في طبعتها الحديثة الآن في مجلدين من القطع الكبير يشتملان على القراءات والتوجيهات المختلفة لنصوصها، وهذان المجلدان يحتويان من المتون أكثر من ألف صفحة، وقد قسمها الناشر الأول إلى أربع عشرة وسبعمائة صيغة.
وإذا أمكننا الإشارة إلى متون الأهرام بصفة عامة — كما فعلنا — فلا يمكننا معرفة معانيها معرفة تامة، فإن ذلك يعد من أصعب الأمور، ولكن لحسن الحظ يمكن فهم شكل الأدب الذي تحويه هذه المتون واستساغته، فمن بين أقدم القطع الأدبية في هذه المتون الأناشيد الدينية، وهي عبارة عن تركيب شعري قديم بهيئة أبيات من الشعر الموزون المقفى ظاهر فيه التوازن بين كلماته ومعانيه. وقد نقل العبرانيون هذا التركيب الشعري إلى أدبهم بعد ذلك بألفي سنة، وهو التركيب المعروف لنا في «المزامير» باسم «توازن الأعضاء». ويرجع استعمال ذلك التركيب في متون الأهرام إلى الألف الرابعة ق.م، وعلى ذلك يعد وجوده في هذه المتون أقدم من وجوده في أية بقعة أخرى من العالم بمراحل بعيدة. والواقع أنه أقدم صورة أدبية بين جميع أنواع الأدب المعروف لدينا.
وهذا النوع من الأدب لا ينحصر استعماله في الأناشيد المذكورة فقط، بل يوجد كذلك في نبذ أخرى من متون الأهرام، ولكنها لم تصل هنالك إلى درجة الكمال الذي نلمسه في هذه الأناشيد.
وزيادة على ما ذكر من التركيب الشعري الذي يرتفع بهذه النبذ إلى مرتبة الأدب بالمعنى المعروف لدينا الآن؛ فإننا كثيرًا ما نجد بعض كتابات مبعثرة تحمل في مظهرها صفات الأدب من الوجهة الفكرية واللغوية، فمثلًا نجد أثرًا دقيقًا من مجال الخيال في أحد الأوصاف الكثيرة التي وردت عن بعث «أوزير»؛ إذ جاء فيه: «فك لفائفك إنها ليست لفائف، بل هي خصلات شعر «نفتيس».» و«نفتيس» هي الإلهة المنتحبة المنثنية على جسم أخيها المتوفى. فالكاهن القديم الذي كتب ذلك السطر قد رأى في اللفائف التي تلف الصورة الجامدة خصلات الشعر الغزيرة التي تتدلى من شعر الإلهة وتختلط باللفائف، ونجد كذلك قوة عنصرية في ذلك الخيال الوثاب الذي يلمح العواطف الودية لكل العالم فيجعل العناصر الطبيعية تشعر بالنازلة الرهيبة التي تتمثل في موت الملك، وفي حلوله بين آلهة السماء؛ إذ يقول المحزونون على الملك: «السماء تبكي من أجلك، والأرض تزلزل من أجلك.» ويقول الناس عندما يرونه في الخيال صاعدًا إلى القبة السماوية: «السحب تظلم السماء – والنجوم تمطر الأرض – والأقواس [مجموعة النجوم] تترنح – وعظام كلاب جهنم ترتعد – والبوابون واجمون عندما يرون الملك «وناس» يشرق في شكل روح.»
وليس لدينا شك في أن الغرض من تلك المتون الجنازية كلها هو لمصلحة الملك، بل هي بوجه عام تحتوي على معتقدات لا تنطبق إلا عليه وحده، وبخاصة عندما نذكر أنها لم تكتب إلا في المقابر الملكية فقط. فمن الحقائق الهامة التي يجب التنبيه عليها أن رجال أشراف ذلك العصر لم يستعملوا أبدًا متون الأهرام في نقوش مقابرهم.
ولما لم يكن في مقدور متون الأهرام زعزعة العقيدة السائدة في وجود الحياة في القبور، فإنها لم تُعِر هذا الرأي اهتمامًا كبيرًا، بل وجهت جميع همها تقريبًا إلى حياة في نعيم تقع في مملكة بعيدة. ومما يستحق الذكر والاهتمام أن تلك المملكة البعيدة لا يراد بها إلا «السماء»، وأن متون الأهرام لا تعرف شيئًا تقريبًا عن الحياة الأخروية المظلمة التي توجد في العالم السفلي؛ ولذلك فإن عالم الأموات عندهم لا يراد به إلا «العالم السماوي»، ونحن في التعبير عنه بهذه الصيغة لا نعبر عن أي معنى من معاني كلمة السماء اللاهوتية المتكررة في اللغة الإنجليزية. على أنه لا يكاد يوجد عندنا شك في أن فكرة تصور جنة سماية — وهي تلك الفكرة التي شاعت فيما بعد في العهد المسيحي — يرجع أصلها إلى نفس هذا الاعتقاد المصري القديم المتوغل في القدم.
وقد اختلط في تلك الآخرة السماوية المذكورة في متون الأهرام مذهبان قديمان: أولهما يتصور المتوفى في صورة نجم، والثاني يتصور المتوفى حالًّا في إله الشمس، أو هو إله الشمس نفسه. وبدهي أن هذين المذهبين اللذين يمكن تسميتهما: بالآخرة النجمية والآخرة الشمسية على التوالي كانا في وقت ما مستقلَّيْن، ثم دخل كل منهما في شكل «آخرة سماوية» هي التي نجدها في متون الأهرام. ولقد كان من التصورات الطبيعية عند ساكن وادي النيل ذي السماء الصافية أن يرى في سماء مصر ليلًا جموع أولئك الذين سبقوه إلى الحياة الأخروية ماثلين أمامه، فقد طاروا إلى السماء كالطيور مرتفعين فوق كل أعداء الهواء، فكانوا عند حلول الظلام في كل ليلة يجتازون أقطار السماء بصفتهم نجومًا أبدية. وخص المصري، في تخيله جمهور الموتى، تلك النجوم التي تسمى «غير الفانية»، وكان يعتقد أن تلك النجوم تقع في الجهة الشمالية من السماء، ولذلك لا يكاد يوجد شك في أن النجوم المقصودة بالذكر هي النجوم المحيطة بالقطب التي لا تغرب ولا تغيب. وقد قام جدال كبير بين علماء التاريخ القديم عن سر اتجاه ممر مدخل الهرم المنحدر شطر النجمة القطبية، ثم بيَّنت نقوش متون الأهرام السر في هذا الاتجاه الذي لم يهتدِ إليه أحد قبل ذلك؛ وهو أن روح الملك عندما تخرج من ذلك الممر يحملها هذا الاتجاه فورًا نحو النجوم القطبية.
ومع أن المذهبين المذكورين؛ النجمي والشمسي، يوجدان معًا جنبًا لجنب في متون الأهرام، فإننا نجد أن المذهب الشمسي هو السائد فيها بدرجة عظيمة حتى يصح لنا بوجه عام أن نصف متون الأهرام بأنها شمسية الأصل. ومن المحتمل أن الاعتقاد بالمصير الشمسي قد نشأ في عقيدة قدماء المصريين عن طريق شروق الشمس ثانية كل يوم بعد غروبها، فكأن الموت إنما يحدث على الأرض، أما الحياة فتكتسب في السماء فقط، وهو المكان الأعلى الذي يرفع إليه الملك فوق المكان المحتوم الذي يصير إليه عامة البشر، «الناس يفنون وأسماؤهم تمحى، فأمسك أنت بذراع الملك «تيتي» وخذ أنت الملك تيتي إلى السماء حتى لا يموت على الأرض بين الناس.»
وتلك الفكرة القائلة بأن الحياة توجد في السماء هي الرأي السائد، وهي أقدم بكثير من المذهب الأوزيري في متون الأهرام. وقد بلغ هذا الرأي درجة من القوة جعلت نفس «أوزير» يُمنح بضرورة الحال آخرة سماوية شمسية، وكان ذلك في المرحلة الثانية التي دخلت فيها أسطورته في متون الأهرام. والموضوع الهام في متون الأهرام هو تطلع المتوفى لحياة أخروية فاخرة في حضرة إله الشمس، حتى إن نفس القبر الملكي قد اتخذ من أقدس شكل يرمز به إلى إله الشمس، كما أوضحنا ذلك فيما سبق.
وقد عمد لاهوت الحكومة الذي جعل الملك الابن المجسم للإله «رع» وممثله على الأرض، إلى تصوير الملك يسبح في السماء عند الموت ليسكن مع والده إلى الأبد، أو ليحل محله ويكون خلفه في السماء كما كان خليفته في الأرض. وعلى ذلك نجد أن الآخرة الشمسية هي في الواقع المصير الملكي، ولا يحظى به إلا فرعون وحده، ثم صار ذلك المصير فيما بعد بالتدريج حقًّا لسائر البشر يشاركونه فيه. غير أنه لم يكن في الإمكان — كما سنرى — إعطاء ذلك الحق لهم إلا بعد أن يتصف كل مطالب بذلك المصير بالصفة الملكية أيضًا.
وكانت القبلة التي يتجه إليها الملك في المذهب الشمسي هي الإقليم الواقع شرقي السماء، حيث لم تكن الشمس وحدها هي التي تولد في تلك الجهة، بل كانت كذلك الآلهة الأخرى تولد هناك. وفي تلك الجهة المقدسة توجد أبواب السماء العظيمة التي تقوم أمامها تلك «الجميزة العالية شرقي السماء التي يجلس فوقها الآلهة»، وكذلك نسمع عن الجميزتين اللتين في الجانب الأقصى من السماء، وهما اللتان يمسك بهما الملك عندما «يعبرون به إلى الشاطئ الثاني ويجلسونه في الجانب الشرقي من السماء.» ويجد الملك المتوفى في ذلك المكان المقدس أيضًا إله الشمس، أو يجده إله الشمس، ومن ذلك المكان يرتفع إلى السماء، وكذلك يرسو في هذا المكان القارب الذي يعبر به.
وكان أوضح طريق في نظر سكان ضفاف النيل لعبور «بحيرة السوسن» أن يركب الإنسان قارب العبور، وهذا ما يجده الملك المتوفى بين سيقان غاب شاطئ البحيرة، وملَّاحه واقف عند السكان يدفعه بسرعة، وكان على الملاح أن يلفت وجهه خلفه عند دفع القارب، ولذلك سمي «انظر إلى الخلف» أو «الناظر إلى الخلف»، وهو لا يتكلم إلا نادرًا، وإنما يقف صامتًا في انتظار راكبه. وما كان أكثر التوسلات والتضرعات اللينة التي يحاول بها الملك المنتظر تملق ذلك الملاح صاحب الوجه الملفوت، فنسمعه وهو يؤكد له تأكيدًا قاطعًا يدل على المكر والخداع فيقول له: «إن هذا الملك «بيبي»؛ هو راعي قطيعك والمشرف على حظيرة ماشيتك.» ولذلك كان من الضروري لمصلحة الملاح نفسه أن يعبر به في الحال. وقد يُحضر الملك معه إناء سحريًّا لا يقوى الملاح على مقاومته، أو يقال للملاح بصفة قاطعة إن الملك طاهر من كل ذنب في السماء والأرض والجزيرة التي هم ذاهبون إليها، أو كان الملك يتقمص شكل القزم المهرج الذي كان يأخذ مكانه بين الراقصين أمام الملك في الدنيا ليسرِّي بذلك عن قلبه أمام العرش العظيم. وكان حتمًا على الملاح إذن أن يعبر به سريعًا إلى قصر «رع» وبلاطه ليسر بذلك إله الشمس. والواقع أن ذلك كله كان من المعلومات العامة الشائعة؛ إذ كان الملاح يخاطب بعد ذلك هكذا: «هذا ما سمعته في البيوت وما تعلمته في الطرقات في اليوم الذي طلب فيه هذا الملك بيبي للحياة.»
ونجد كذلك معارضة الملاح للقادم العتيد (المراد به الملك) فيقول له: «من أين أتيت؟» وعند ذلك كان حتمًا مقضيًّا على الملك أن يقيم الحجة على أنه من أصل ملكي، فإذا اتفق أن كان الملاح عنيدًا رغم ما بذل معه من الجهد، وأبى أن يرسو بقاربه إلى الشاطئ؛ فإن الملك عندئذ يخاطب المجداف الذي في يده قائلًا: «هيا أنت يا مَن في قبضة الملاح.» فإذا كانت كلماته قوية مستجابة فإن المجداف يأتي بالقارب إلى الملك.
«إن الملك «وناس» يذهب إلى السماء! إن الملك وناس يذهب إلى السماء على الريح!» «إن سحب السماء قد حملته بعيدًا، وهي تعظم الملك «وناس» عند «رع»»، «لقد صعد الملك على سحب المطر.» أو كان الكاهن يرى أشباحًا غريبة في سحابة دخان البخور التي تتصاعد فوقه فيصيح قائلًا: «إنه يصعد على دخان البخور العظيم.»
وكذلك رأى القوم في أشعة الشمس سلَّمًا إليها، هو تلك الأشعة المائلة المصوبة نحو الأرض من بعض فتحات في السحاب، وهذا السلم المشع أُدلي من السماء لكي يصعد عليه الملك. «إن الملك «بيبي» قد وضع هذا الشعاع بمثابة سلم تحت قدميه، وصعد عليه الملك «بيبي» ليصل به إلى أمه وهي الصلُّ الحي على رأس رع.» وكذلك تظهر أشعة الشمس الشاسعة التي تنحدر تجاه الأرض كأنها مصعد قد تخيله أولئك القوم القدامى، ولذلك يقولون: «إن الملك «وناس» يصعد على السلم الذي صنعه له والده «رع» [إله الشمس].» وكان منظر صعود الملك يدعو إلى إعجاب الآلهة، ولذلك يقولون: «ما أجملها من رؤية! وما ألذها من مشاهدة عندما يصعد هذا الإله (يقصدون الملك) إلى السماء؛ إذ يحمل هيبته على رأسه، وبجانبه الفزع منه، وتعاويذه السحرية موضوعة أمامه!» ثم تدعى الناس والآلهة معًا بواسطة تعاويذ قوية التأثير ليرفعوا الملك: «أيها الرجال، وأيتها الآلهة، ضعوا أذرعتكم تحت الملك «بيبي»! ارفعوه، اصعدوا به إلى السماء كذراعي «شو» (الجو) اللتين وضعتا تحت السماء، وهو (أي «شو») يرفعها، إلى السماء! إلى السماء! إلى الكرسي العظيم بين الآلهة.»
غير أنه كان لا يزال محتملًا أن أبواب المملكة السماوية قد لا تفتح للقادم العتيد، ومن أجل ذلك نجد تأكيدًا مكررًا بأن أبواب السماء المزدوجة مفتوحة أمام فرعون: «إن أبواب الأفق المزدوجة مفتوحة ومزاليجها مزاحة.» ونقابل هذا النداء دائمًا في متون الأهرام، ولا شك أن نفس الوسيلة التي فتحت الباب «لعلي بابا» والأربعين لصًّا — كما وردت في كتاب ألف ليلة وليلة — قد فتحت لغيره أبوابًا كثيرة في الشرق القديم قبل أن تصير معروفة لنا نحن معشر العالم الغربي عن طريق قصة ألف ليلة وليلة بآلاف من السنين.
وكذلك نرى أنه بالرغم من اقتناع أولئك القوم بوجود الحياة الأخروية، بل بوجود حياة عظيمة قد ملئت بذكرها متون الأهرام، فإن هذه المتون نفسها تكشف لنا عن حالة الخوف من تلك الحياة، ذلك الخوف الذي كان يملأ قلوب سكان ذلك الشرق القديم، كلما تأملوا في أخطار عالم تلك الآخرة التي لم يكونوا يعرفونها ولم يسبق لهم أن جربوها، فإنه كان يعترض ذلك القادم الملكي مخاوفُ احتمال عدوان الآلهة عليه أينما ولَّى وجهه وهو ينظر في عرض البحر الشرقي، حيث كانت تزدحم بمخيلته آلاف الأخطار والمعارضات التي يكون من شأنها تكدير صفو تلك الصورة الجميلة التي كان يتخيلها في نعيم الحياة الأخروية، كما نجد في الشجاعة الجريئة التي يظهرها الملك مسحة قصصية، فإن الملك، وقد صار وحيدًا في السماء، ينهض فجأة في شكل مارد هائل مدعيًا السيادة على الآلهة أنفسهم، وبمواجهته المملكة السماوية يخاطب إله الشمس هكذا: «إني أعرف اسمك، إني لست جاهلًا اسمك، فاسمك هو «غير المحدود»، واسم والدك هو «مالك العظمة»، واسم أمك «الرضى» وهي التي تحملك في كل صباح وستمنع ولادة «غير المحدود» في الأفق إذا منعت هذا الملك «بيبي» من المجيء إلى المكان الذي أمنت فيه.» فكان الملك باستعماله قوته السحرية بتلك الكيفية يجعل نفسه ملكًا على العالم ويهدد بوقف شروق «ولادة» الشمس نفسها إذا حُجز هو عند الباب العظيم لمملكة إله الشمس.