آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني: أوزير
لقد تتبعنا إله الشمس منذ بداية ملكه القديم الذي كان يعد فيه مجرد قوة طبيعية عظيمة إلى وقت الانتقال الذي دخل به إلى المجتمع الإنساني بصفته ملكًا أرضيًّا مسيطرًا على الحياة البشرية، وبذلك صار ميدان نشاطه هو ميدان الشئون البشرية. وقد حدث من جراء سيره في ذلك الميدان بفخار لا يدانى وسر ليس في الإمكان اختراق حجبه، أن حياته اليومية لم تترك مجالًا لأن يشاركه الإنسان في أي عمل من أعماله أو حركاته. على أننا نجد بجانب ذلك مملكة طبيعية أخرى بدأ الإنسان يسهم فيها، ويقوم بأعمال الآلهة التي يصعب تحديدها ويوجه قواها الخفية، فتمكن بذلك من القيام بنصيبه في أعمالها الخيرة، وتلك القوة الطبيعية التي أسلمت قيادها للإنسان أكثر من غيرها، والتي مكنته من القيام فيها بنوع من المساهمة؛ هي قوة الحياة النباتية.
فقد ذكرنا فيما مر أن استنبات الإنسان للقمح البري والشعير قد غيَّر مجرى حياة أهل ما قبل التاريخ تغييرًا كليًّا؛ إذ انتقل الإنسان بذلك من حياة الصيد والقنص الداعية للتجوال إلى حياة الزراعة الداعية للاستقرار والإقامة، وقد ترجع بداية ذلك العهد إلى نحو ٨٠٠٠ أو ١٠٠٠٠ سنة مضت، وقد خلق هذا التحول عالمًا جديدًا ترجع أقدميته إلى العصر الحجري الأخير.
ولما انتهى الأمر بأن صارت الزراعة تشغل المساحات الشاسعة في كافة أرجاء الشرق الأدنى، مكونة بذلك أول إقليم زراعي ظهر في حياة التقدم البشري المديد، أدى ذلك إلى ظهور شعور قوي بحاجة الناس في كل بقعة إلى الاعتماد في معايشهم على ثمرات الأرض الخضراء. وهذا الشعور أنشأ في الناس عواطف يمكن مضاهاتها بتلك العواطف التي حدت بآبائنا إلى تعيين يوم من أيام الخريف لتقديم الشكر فيه لله على إنعامه عليهم بخيرات الحقول.
وعندما انتقل الإنسان القديم من معيشة الصيد إلى معيشة الزراعة صار شعوره بالاعتماد على قوة استنبات الأرض هو العنصر الناطق في تعبيره الديني عما يخالجه بشأن التغير البين الذي حدث في حالة معيشته؛ فإن الحياة الدائمة التي يراها في الأرض المثمرة التي تموت ثم تحيا ثانية مرات عديدة لا نهاية لها قد مثلت في شكل إله يموت ثم يحيا وهكذا دائمًا أبدًا.
ومع أن هذا الحادث العظيم — حادث الاهتداء للزراعة — غير مدوَّن بالطبع في وثائق تاريخية، لوقوعه قبل عصر الاهتداء إلى الكتابة بعصور طويلة، فإننا نستطيع بلا ريب أن نتعرف في مذهب «أوزير» صدى ذلك التغير العظيم الذي تمخض عن ظهور أقدم الزراع في الأرض، وذلك لما تتضمنه العقيدة الأوزيرية من سماع أول صوت ديني يتحدث عن نعمة التمتع بالزراعة، وإن ذلك الإلهام الذي أُلهمه عقل الإنسان حينما صار متصلًا اتصالًا وثيقًا بحياة الأرض الخضراء ومتعاونًا فيها تعاونًا فعليًّا يعد الآن من أقدم الأفكار التي خطرت في الفكر الإنساني. وقد كان لذلك أثر عميق في الآراء البشرية عن الحياة فيما بعد الموت؛ فانتقلت تلك الفكرة إلى العقائد الإغريقية حيث صار من أصول تدشين المتدين الجديد أن تقدم له حزمة من سنابل القمح أو سنبلة منه واحدة، كما نجد صدى هذه الفكرة حتى في كتاب العهد الجديد: «الحق الحق أقول لكم، إن حبة الحنطة التي تقع على الأرض إن لم تمت فإنها تبقى وحدها، وإن ماتت أتت بثمر كثير.» [يوحنا ١٢–٢٤].
وقد امتزجت تلك الفكرة عند قدماء المصريين في النهاية بطائفة من المعتقدات الخاصة بالثواب والعقاب في الحياة الآخرة، ومن ثم تغيرت الآراء الخلقية المصرية القديمة من أساسها بسبب تلك الفكرة.
على أنه لا بد لنا قبل الانتقال إلى بحث الخلق الأوزيري أن نسبر غور أهمية موضوع «أوزير» بصفته إله طبيعة ولو إلى حد ما، وبينما لا نجد شكًّا في كنه الظاهرة الطبيعية التي كان يقوم بتمثيلها كلٌّ من «رع» و«آتوم» و«حور» وآلهة الشمس الأخرى؛ فإننا من جهة أخرى نلقى شكًّا عظيمًا وجدالًا شديدًا في الظاهرة التي كان «أوزير» يقوم بتمثيلها.
إن أوضح بيان عن أصل «أوزير» هو حادثة العثور على ذلك الإله المتوفى بوساطة ابنه «حور» كما جاءت في متون الأهرام: «إن «حور» يأتي ويتعرف والده فيك، شابًّا باسمك «الماء العذب».» وبمثل ذلك الوضوح نجد الفكرة نفسها بادية في كلمات «رعمسيس الرابع» إذ يقول للإله: «إنك النيل حقًّا، عظيم في الحقول في باكورة الفصول، فالآلهة والناس يعيشون بالندى الذي فيك.» ففي هذين المصدرين القديمين قد وُحِّد «أوزير» والماء؛ وبخاصة ماء النيل.
ومع أن «أوزير» صار مع الماء، بل مع ينابيع الماء العظيمة نفسًا واحدة فإنه من الواضح أن وظيفة خاصة للماء هي التي امتزج بها، فالماء بوصفه مصدرًا للخصب وبوصفه مانحًا للحياة هو الذي وُحد به أوزير، وهو الذي يسبغ الحياة على التربة، ومن ثم فإن «أوزير» كان يتصل بالتربة أيضًا اتصالًا وثيقًا. وقد أيد هذا الرأي وأكثر منه ما جاء في أنشودة من عهد القرن الثاني عشر ق.م؛ إذ إنها لم تقتصر على تأحيد «أوزير» بالتربة، بل أحدته هو والأرض كلها، فتقول عنه تلك الأنشودة: «أما أنت فإن النيل ينبع من عرق يديك وأنك تنفث الهواء الذي في حلقومك إلى أنوف الناس فوهبت القداسة لما تعيش عليه الناس. وكذلك توجد في أنفك الشجرة وخضرتها والأعشاب والنباتات والشعير والقمح وشجرة الحياة. وعندما تُحفر الترع … وتُبنى البيوت والمعابد، وعندما تنقل الآثار وتزرع الحقول، وعندما تنحت المقابر ومزاراتها فإنها ترتكز عليك كلها، وأنت الذي تصنعها فهي على ظهرك رغم أنها أكثر من أن تدون، وظهرك لا يوجد عليه مكان خلو؛ لأنها جميعها موضوعة فوقه …» فكاتب هذه الأنشودة يعتبر أن «أوزير» هو الأرض نفسها؛ وبخاصة الأرض المنتجة للخضرة.
ولذلك فإن الإشارات إلى أوزير المعروفة لنا تقرنه بحياة النبات أو توحده معها، ولعلنا نذكر أن المسرحية المنفية (التي يرجع عهدها إلى بداية «الاتحاد الثاني» حينما كانت قيادة الأمة في عاصمتها «منف») أطلقت على تلك البلدة اسم «مخزن غلال الإله»، ومن أجل ذلك أدخل رجال الفكر في «منف» إلى «أوزير» في مسرحيتهم المقدسة توضيحًا للسبب الذي من أجله صارت «منف» «مخزن غلال الإله». ولما كان القوم لا يزالون متجهين بتفكيرهم إلى صفات «أوزير» الطبيعية فإنهم يقولون إن إطلاق هذا الاسم على «منف» نشأ من أن «أوزير» «أغرق في مياهه عند منف»، وبذلك صارت «مخزن غلال الإله».
ثم إن الآراء الواردة في متون الأهرام المبكرة التي تعتبر أقدم من تلك المسرحية تمثل «أوزير» مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالحياة النباتية.
ويجب أن نقرن بهذه الأقوال المبكرة تلك الصور المتكررة التي تمثل القمح نابتًا من جسد «أوزير» الراقد فوق الأرض، كما تمثل شجرة نابتة من قبره أو تابوته، أو تجعل تماثيل الإله المصورة على هيئة مومية في قالب مكون من الدشيشة والتراب مدفونة مع المتوفى أو موضوعة في حقل القمح ليضمن به الزارع محصولًا موفورًا من أرضه.
وعلى ذلك فقد صار واضحًا في أقدم المصادر التاريخية التي عرفت للآن أن «أوزير» والمياه (وبخاصة في الفيضان) والتربة والنبات كانت جميعًا نفسًا واحدة، وتبدو لنا تلك نتيجة للاتجاه المصري إلى التفكير بالصور الواقعية.
فهذا الإله في التفكير المصري القديم كان من غير شك عنصر الحياة الذي لا يفنى أبدًا أينما كان، وكثيرًا ما نرى له صورًا تظهره حتى في حالة الموت محتفظًا بالقوة التناسلية؛ فحياة الأرض التي تموت ثم تحيا، والتي تتصل أحيانًا بالمياه التي تمنحها الحياة وأحيانًا أخرى بالتربة الخصبة، والتي تظهر في النبات نفسه، كل أولئك وأوزير شيء واحد.
بتلك الكيفية بدأ «أوزير» حكمه الصالح بصفته ملكًا على مصر، «وكانت البلاد راضية بذلك عندما أشرق على عرش والده، مثل «رع» حينما يطلع في الأفق.» ولكن بعد أن مر زمن طويل على «أوزير» وهو ملك على مصر انحصر ملكه على وجه خاص في الإشراف على استنبات الأرض (كما تؤكد ذلك الأدلة السالفة)، ثم دخل بعد ذلك بالتدريج إلى الميدان السياسي أيضًا، فتقول عنه نفس الأنشودة السالفة الذكر: «إنه هزم أعداءه وذبح مناهضيه بساعد قوي، وجعل خوفه يدب بين خصومه ومد تخوم بلاده.»
ويبرز لنا بوجه خاص «أوزير» مصبوغًا بصبغة إنسانية في العلاقات الأسرية التي نجدها مذكورة في الأسطورة التي نسجت حوله، فنجد «إزيس» أخته وزوجه في آنٍ واحد قد وقفت إلى جانبه في ولاء لتصد عنه أعداءه، وحافظت عليه «بأن طردت أعداءه وصدت عنه [الخطر].» ومع ذلك فإن أعداءه استدرجوه إلى الموت بالحيلة إن لم يكن جهارًا حتى تغلبوا في النهاية عليه كما قص ذلك المؤرخ «بلوتارخ»، ولو أنه لا توجد لدينا أية وثيقة في المصادر المصرية القديمة عن قصة الصندوق التي رواها «بلوتارخ» وذكر فيها أن خصوم «أوزير» المتآمرين عليه قد أغروه حتى دخل في الصندوق ثم أغلقوه عليه حتى مات بداخله، وكان رأس أعداء «أوزير» الطيب، أخاه «ست» الذي كان مع ذلك يخاف الملك الطيب.
وقد نصت متون الأهرام التي تعد من أقدم المصادر القديمة على قتله، فإنها قالت: «وصرعه أخوه «ست» على الأرض في «نديت».» أو تقول: «وطرحه أخوه «ست» على جنبه على الشاطئ الأقصى لأرض جحستي.»
ولكننا من جهة أخرى نجد أن المسرحية المنفية التي تعد أقدم ما وصل إلينا من المصادر القديمة لدرجة أنها أقدم من عصر الأهرام تقول: «إن «أوزير» أغرق في مائه الجديد [أي ماء الفيضان].»
وعندما وصلت الأخبار إلى «إزيس» التعسة عن مقتل أخيها هامت على وجهها في حزن شديد باحثة عن جثة سيدها: «باحثة عنه بلا كلل، فسارت في أنحاء هذه الأرض محزونة غير هادئة البال إلى أن عثرت عليه.»
وزيادة على ما ذكر فإن أقدم ما وصل إلينا من الأدب المصري القديم مفعم بالإشارات عن تلك الزوجة المخلصة التي كانت لا تزال تواصل البحث عن زوجها القتيل: «لقد أتيت باحثة عن أخيك «أوزير» بعد أن هزمه أخوه «ست».»
أما قصة «بلوتارخ» فإنها تجعل «إزيس» تواصل السير في بحثها حتى عرض البحر الأبيض المتوسط إلى أن تصل إلى «جبيل» (ببلوص)، وهو المكان الذي حملت إليه المياه جثة «أوزير» كما مر ذكره. غير أن متون الأهرام تشير إلى أن «أوزير» وجد أخيرًا فوق شاطئ «نديت»، وهو المكان الذي ذبح فيه «أوزير» بيد «ست»، ويجوز أن «نديت» كان في الأصل اسمًا قديمًا لإقليم «ببلوص»، وإن كان موقع «نديت» المذكورة قد حدد فيما بعد في «العرابة المدفونة» بمصر، ولذلك كان أحد فصول رواية «أوزير» يمثل على شاطئ «نديت» القريبة من «العرابة المدفونة» بمصر.
أما الإلهة «نفتيس» فكانت غالبًا ترافق أختها «إزيس» في هذا البحث الطويل عن جثة «أوزير»، وكانت كل منهما ممثلة في شكل طائر: إن «إزيس» تأتي «ونفتيس» تأتي إحداهما على اليمين والأخرى على الشمال … وقد وجدتا «أوزير» كما صرعه أخوه «ست» على الأرض في «نديت»، وعندما رأتاه قالت «نفتيس»: «لقد وجدته صريعًا على جنبه على الشاطئ … يا أخي لقد بحثت عنك … ابكي أخاكِ يا «إزيس»! ابكي أخاكِ يا «نفتيس»! ابكي أخاك.» ومن ثم صار عويل «إزيس» و«نفتيس» على أخيهما «أوزير» أقدس تعبير معروف عن الحزن لدى قلب المصري القديم، وقد تقلب ذلك العويل في صور متنوعة شتى حتى ظهر أخيرًا في الأساطير الأوزيرية الأوروبية فيما بعد ذلك العهد الذي نحن بصدده الآن بنحو ثلاثة آلاف سنة.
وبعد ذلك قامت الأختان بتحنيط جثمان أخيهما حفظًا له من الفناء، وبعد أن وضعتاه في قبره نبتت به شجرة جميز، ثم أحاطت بجسد ذلك الإله المتوفى. والجميزة المذكورة هي مثل شجرة «الأريكا» التي ورد ذكرها في قصة «بلوتارح»، وتلك الشجرة المقدسة تمثل الرمز الظاهر لحياة «أوزير» الخالدة التي لا تفنى، وقد كانت في أقدم المصادر القديمة مقدسة أيضًا، وكانت تخاطب كأنها إلهة.
وهكذا كانت قصة حياة «أوزير» وموته. على أن حياته التي كانت تمثل لنا دورة من الظواهر الطبيعية لم تكن تقف طبعًا عند ذلك الحد، فإنها استمرت في بعثه من جديد كما استمرت أيضًا في قصة أخرى أضيفت فيما بعد مأخوذة عن اللاهوت الشمسي، وهذه هي قصة «حور» بن «أوزير» المذكور والنزاع الشمسي الذي قام بين «حور» و«ست»، مع أن هذا النزاع لم يكن «أوزيريًّا» في الأصل.
وكذلك نلاحظ أن القوة الحيوية عند «أوزير» لم تنقطع أبدًا حتى في حالة الموت؛ إذ إن «إزيس» المخلصة قد اقتربت من سيدها المتوفى ثم احتضنته «وأسدلت عليه بريشها فيئًا وبجناحيها نسيمًا … وبذلك بعثت الحياة ثانية في أعضاء صاحب القلب الساكن المتعبة فوضع فيها نطفته، وبذلك أنجبت منه وريثًا له، ثم ربت هذا الطفل في مكان منعزل لم يعرف بعد موضعه، وعندما اشتد ساعده قدمته أمام القاعة العظيمة في عين شمس.»
وقد كان خيال عامة الشعب مغرمًا بتأمل صورة الأم التي أخفت نفسها في مستنقعات الدلتا التي قامت فيها بتربية «حور» الشاب، حتى إذا «ما اشتد ساعده» صار قادرًا على الانتقام من قاتل أبيه. وفي خلال تلك المدة التي ولد وتربى فيها «حور» لم يقعد «ست» مكتوف اليدين طبعًا، فقد لقي ذلك الطفل «حور» على يده كثيرًا من المخاطرات والمآزق، وقد حُفظت لنا من هذه الحوادث نتفٌ صغيرة جدًّا لا يمكن تأليف قصة متصلة منها، ولكن حتى بعد بلوغ ذلك الصبي أشده وارتفاع قامته ثمانية أذرع (نحو ١٤ قدمًا) اضطر مع ذلك لصنع صندوق صغير طوله نحو نصف ذراع يكون مخبأ له يتقي بالاختفاء فيه شرور «ست» وعاديته، وعندما بلغ ذلك الإله الشاب سن الرجولة وصار في مكنته مدافعة الأخطار خرج من مكمنه الذي كان فيه بالدلتا، وأتى مطهرًا ليتمكن من الانتقام لأبيه.
وكذلك كان موضوع بر «حور» بوالده محببًا إلى عامة الشعب، يسرح خيالهم ويجول مبتدئًا بحادث تصدي «حور» لمحاربة أعداء أبيه والانتقام له من «ست». وقد اشتد وطيس الموقعة التي نشبت بين «حور» و«ست» (وهي كما ذكرنا فيما مر، مأخوذة عن المذهب الشمسي) حتى إن ذلك الإله الشاب فقد عينه بيد «ست» عدوه وعدو أبيه، ثم غلب «ست» على أمره، واسترد الإله «تحوت» أخيرًا عين «حور» المفقودة بأن تفل ذلك الإله الحكيم على الجرح فصحَّت وشُفيت. وتلك الطريقة التي سلكها الإله «تحوت» لشفاء العين هي بطبيعة الحال نوع من التطبيب الشعبي، تردد ذكره في تلك الأسطورة فنال شهرة وذيوعًا ثم تحول إلى آسيا؛ حتى لقد يلوح لنا أن استعماله ظهر مرة أخرى في كتاب العهد الجديد عند ذكر الحادث الذي يصور لنا المسيح مستعملًا تلك الطريقة نفسها لإبراء الأعمى، وفي ذلك بلا شك إذعان لعادة منتشرة بين العامة في مثل تلك الحالة.
ثم إننا بعد ذلك نجد «حور» قد أخذ يبحث عن والده القتيل عابرًا البحر في سبيل البحث عنه حتى يرفعه من بين الموتى، ويقدم له عينه المصابة التي ضحى بها من أجله. وهذا العمل الذي يدل على البر بالوالد — كما جاء مذكورًا في متون الأهرام — ضاعف تقديس «عين حور» التي كانت مقدسة من قبل في التقاليد وفي الشعائر المصرية القديمة حتى صارت رمزًا لكل تضحية؛ ولذلك صارت كل هبة أو قربة يصح أن تُسمى «عين حور»، وخاصة إذا قدمت باسم القربان لمتوفى. وإذا استثنينا «الجعل المقدس» فإن «العين المقدسة» كانت تعتبر أعظم رمز منتشر نال احترامًا عظيمًا في الديانة المصرية القديمة، ولذلك نرى عشرات الآلاف من الأعين المصنوعة من الفخار المطلي ذات اللون الأزرق أو الأخضر وغيرها مما صنع من الأحجار النفيسة الغالية، ولقد ملئت بتلك الأعين متاحفنا، هذا فضلًا عما كان يُحضره آلاف السياح معهم إلى بلادنا، وما كانت تلك الأعين في الواقع إلا تذكارات ورموزًا لتلك القصة القديمة التي تحدثنا عن «حور» وبره بوالده.
غير أن حقد «ست» على «أوزير» لم ينتهِ بعد هزيمته النكراء على يد «حور»، وحتى بعد إحياء «أوزير»؛ بل إنه دخل إلى محكمة الآلهة في «عين شمس»، وأودع لدى هؤلاء الآلهة اتهامات باطلة ضد «أوزير»، وليس لدينا بيان واضح عن تلك الخصومة أو عن نوع تلك الاتهامات التي اختلقت ضده، إلا أن «ست» قد اتخذ منها وسيلة للاستيلاء على عرش مصر. ولا بد أنه كانت توجد ولو رواية واحدة تدل على أن المحاكمة كان موضوعها جريمة قتل «ست» لأخيه «أوزير»، ولكن «أوزير» فاز في النهاية بالحكم لصالحه وأعيد عرشه إليه؛ ذلك العرش الذي كان ادعاه «ست» بالباطل.
وكان الحكم الذي صدر لصالح «أوزير» في قالب يعبر عنه في الحقيقة بكلمة «صادق» أو «حق» أو «عدل» أو «صوت الحق» … ولا بد أن ذلك التعبير كان اصطلاحًا رسميًّا مستعملًا بمعنى يضاهي في الغالب كلمة «منتصر» أو «نصر»، وذلك المعنى يحمل في ثناياه المعنى الأصيل لكلمة «فائز» أو «فوز» عند استعمالهما في معنييهما الخلقي والمادي. وتدل الخصومة بين «أوزير» و«ست» بعد تطورها على أنها قد اكتسبت معنى خلقيًّا في تلك المناسبة إن لم يكن لها ذلك في بادئ الأمر. على أنه ستأتي هنا الفرصة الكافية فيما بعد لاستقراء وملاحظة سير ذلك التطور الخلقي الذي حمله في ثناياه انتشار تلك الواقعة وذيوعها في أسطورة «أوزير».
ومع أن «أوزير» تسلم في النهاية زمام مملكته بعد بعثه من الموت وانتصاره على أعدائه بعد المحاكمة، فإنه بالرغم من كل ما ذكر لم يكن في الواقع من أهل مملكة الأحياء، بل كان ملكه هو العالم السفلي المظلم الواقع تحت الأرض، وكان لا بد له من النزول إليه فورًا.
The Library of A. Chester Beatty; Description of a Hieratic Papyrus with a Mythological Story etc. by Alan H. Gardiner, London, The Oxford university Press, 1931.