السلوك، والمسئولية، وظهور النظام الخلقي
كان غرضنا من ذكر ما جاء في الفصول السالفة أن نضع أساسًا نبني فوقه تلخيصًا معقولًا لأبحاثنا عن تطور الحياة الخلقية عند قدماء المصريين، تلك الحياة التي بدأت في التطور من عهد الاتحاد الثاني؛ أي في الفترة التي وصلت فيها مدنية الدولة القديمة إلى أوج عظمتها بعد سنة ٣٠٠٠ق.م. وقد لاحظنا فيما تقدم أنه منذ عهد الاتحاد الأول [أي قبل منتصف الألف الرابع ق.م] كان موضوع الخلق الإنساني تحت محك البحث، فكان يعبر عن هذا الخلق أو ذاك في المجتمع بأنه محبوب أو مكروه (أي ممدوح أو مذموم)، ولعلنا نذكر أن تلك الحقيقة قد كشفتها لنا وثيقة يرجع تاريخها إلى بداية الاتحاد الثاني؛ وهي المسرحية المنفية، فقد رأينا فيها ترديدًا لأصداء من العصر السابق لذلك وهو ما قبل نهاية الاتحاد الأول.
والواقع أن نتف المصادر الضئيلة المدونة التي وصلتنا من القرون الأربعة الأولى من عصر الاتحاد الأول لم تزد معلوماتنا إلا الشيء القليل عن المعتقدات المصرية القديمة، ولكننا نجد بعد عام ٣٠٠٠ق.م (أي عندما بدأ عصر الأهرام) أن المقابر الضخمة الواقعة في جبانتي الجيزة ومنف (سقارة)، وهي معروفة لكل من ساح في مصر في عصرنا هذا، قد بدأت تبدو من نقوشها صور عن المجتمع المصري المستحدث في عهد الدولة القديمة، وصرنا نرى منها بعض لمحات عن معتقداتهم الخاصة بالخلق الإنساني وبواعثه.
وأهم ما تكشفه لنا هذه اللمحات التطورات الظاهرية؛ وذلك لأن الحياة المصرية القديمة كانت تشغلها في ذاك الوقت تلك الانتصارات المادية التي لم يسبق لها مثيل؛ إذ لم يوجد شعب آخر في بقاع العالم القديم نال من السيطرة على عالم المادة بحالة واضحة للعيان تنطق بها آثاره الباقية للآن مثل ما ناله المصريون الأقدمون في وادي النيل، فقد بنى المصريون القدماء بنشاطهم الجم صرحًا من المدنية المادية يظهر أن الزمن يعجز عن محوه محوًا تامًّا. وأما الأخلاق فهي اتجاه جوهر الحياة المنوع، الذي لا يدرك باللمس واللون، من العادات والتقاليد والصفات الشخصية المشكلة بتأثير القوى الاجتماعية والاقتصادية والحكومية التي تعمل باستمرار في مناهج الحياة اليومية.
وفي ذلك العصر المبكر لأقدم جماعة بشرية وصلت إلينا أخبارها، ساد الاعتقاد بأن حق كل فرد في التحلي بالأخلاق الفاضلة يمكن أن يقوم على أساس النهج والسلوك اللذين يعامل بهما أفراد أسرته، وهم والده ووالدته وإخوته وأخواته. وهذه الحقيقة تعتبر ذات قيمة بالغة ومكانة عظيمة في ذلك البحث الجليل، وقد أكدها لنا أحد أشراف رجال الوجه القبلي الذي كان يعيش في القرن السابع والعشرين ق.م؛ إذ قال في نقوش قبره بعد أن عدَّد لنا كثيرًا من أعماله الطيبة: «إني لا أقول كذبًا؛ لأني كنت إنسانًا محبوبًا من والده، ممدوحًا من والدته، حسن السلوك مع أخيه، ودودًا لأخته.» كما نجد بعد فترة من تاريخ هذا النقش أن أحد المقربين من الملك من أهل الصعيد الأقصى يؤكد أيضًا: «إن الملك مدحني، وترك والدي وصية لمصلحتي؛ لأني كنت طيبًا … وإنسانًا محبوبًا من والده ممدوحًا من والدته ويحبه كل إخوته.» وكثيرًا ما نرى الأشراف في عهد الأهرام يجمعون صفاتهم الحسنة في العبارة الآتية: «كنت إنسانًا محبوبًا من والده وممدوحًا من أمه، محبوبًا من إخوته وأخواته.»
والآن قد عملت على أن أدفن في نفس القبر مع «زاو» هذا (يعني والده) لكي أكون معه في مكان واحد، على أني لم أفعل ذلك لأني لست في مكانة تؤهلني لبناء قبر ثانٍ، بل فعلته حتى أتمكن من رؤية «زاو» هذا كل يوم، ولكي أكون معه في المكان عينه.
ولدينا حالة أخرى أعظم من هذا في بر الابن بأبيه أيضًا، وهي قصة «سِبْني» (حارس الباب الجنوبي)؛ أي المحافظ على الحدود المصرية من جهة السودان عند شلال النيل الأول، فقد حدث أن «مخو» والد «سبني» قد قام برحلة خطيرة في قلب السودان طلبًا للاتجار، وهناك انقض عليه بعض القوم من الهمج وذبحوه، فلما سمع ابنه «سبني» بذبح والده قام على الفور برحلة تحفها المخاطر في قلب ذلك الإقليم المعادي، واستخلص منه جثمان والده بعد أن تعرضت حياته خلال ذلك للموت، وأحضر جثمان والده ليُحفظ في مصر. ولا يزال قبر «سبني» باقيًا في أسوان حتى الآن، ويحتوي ذلك القبر على النقوش الدالة على ما قام به الابن «سبني» نحو أبيه «مخو» من ضروب الشجاعة لاستخلاص جثمان والده المذكور من أيدي أولئك الأعداء الهمج في زمن عصر الأهرام العتيق.
على أن الأدلة المنقوشة على تلك الآثار التي تركتها لنا أقدم طائفة أرستقراطية عرفت في التاريخ القديم يؤيد صحتها وجود تلك الرسوم الجميلة الزاهية الألوان التي كانت تلك الأسر الشريفة قد اعتادت أن تزين بها جدران مزارات القبو، وبخاصة تلك التي بقيت إلى يومنا هذا بجبانات منف المترامية الأطراف. وتُعرف تلك الجبانات الآن بجبانة «سقارة»، وإن تلك المناظر الفخمة التي نجدها أحيانًا حافظة لألوانها الأصلية الزاهية للآن ليست في الواقع إلا بيانًا خلابًا عن الحياة اليومية لأشراف عصر الأهرام.
وتلك المناظر المذكورة تؤلف في وقتنا هذا صورة جذابة يتمتع بمشاهدتها للآن غالب رواد وادي النيل، والسائحون الذين يفدون زرافات ووحدانًا في كل شتاء إلى مصر لمشاهدة آثارها القديمة. غير أني أشك كثيرًا في أن واحدًا من أولئك السائحين الذين يمتطون ظهور الحمير فتسير بهم وسط خمائل النخيل التي تغطي الآن طرقات مدينة «منف» القديمة وبيوتها يفقه أن ما يراه ويشاهده الآن في أطلال جبانة مدينة «منف» يعد أقدم مظهر عُرف لنا في التاريخ عن حياة الأسرة، وعندما يجتاز ذلك الزائر الحديث خمائل النخيل المذكورة يقع بصره على منحدرات من كثبان الرمال المنتهية إلى قمة هضبة صحراوية تغطيها الرمال. تلك هي جبانة «منف» القديمة، ومن ثم يمكنه أن يطل على ما بقي من آثار تلك المدينة الشاسعة الأطراف التي تغطيها الآن الحقول الزاخرة بالزرع والنخيل الدانية القطوف.
ففي هذه البقعة كان يسكن أهل أولئك الأجيال الأقدمون البائدون في مدينة عظيمة أقاموها منذ آلاف مضت من السنين، وعند نهاية أجلهم كانوا يحملون إلى تلك الهضبة التي يصعد إليها الآن ذلك الزائر الحديث، حيث كانوا يدفنون فيها في مقابر فسيحة مبنية بالحجر الجيري الضخم، وتلك المقابر القديمة التي يبلغ عمرها الآن حوالي خمسة آلاف من السنين تُرى الآن صامتة خربة تغطيها الرمال القاحلة، غير أنه ما زال في مكنتنا أن ندخل مزارات تلك المقابر ونتجول في حجراتها.
بهذا قد صورت على تلك الجدران جميع مظاهر حياتهم الواسعة النطاق من زراعة وتربية ماشية وصناعة مما درجت على أساسه تلك المدنية القديمة وترعرعت. وترى فيها الشريف المصري القديم يصحب معه زوجته في كل تلك الجولات الفسيحة في أرجاء ضيعته الشاسعة، فكانت تُرى تتهادى بجانبه حينما كان يدخل من الباب العظيم المؤدي إلى حديقته الغناء التي أقيمت في وسطها كرمته البهيجة، فكانت زوجته في الواقع تشاطره كل حياته وكل أعماله كما كانت ترافقه في الوقت نفسه في كل لحظة، وكانت أطفالهما في صحبتهما دائمًا. ومن أمتع المناظر التي نشاهدها بين تلك الصور المنقوشة على جدران تلك القبور منظر يصور لنا طفلًا صغيرًا يجري بجانب والده ويقبض بإحدى يديه على هدهد صغير، كما نشاهد رب البيت يصطاد في المستنقعات المخصصة لذلك الغرض وبجانبه زوجته وطفله، وكلهم في قارب من القصب يسبح بهم بين أزهار البردي الطويلة. ويلاحظ في هذه الصورة أن الطفل كان منحنيًا نحو الماء ليقطف زهور السوسن المائية. أو نشاهد كذلك الشريف مرسومًا جالسًا بحديقته، وأطفاله أمامه يلعبون الكرة أو يعبثون في ماء بركة الحديقة وهم يصطادون السمك.
وهذه النقوش التي نشاهدها على مقابر «منف» تمثل حياة نحو ٥٠٠ سنة؛ أي من ٣٠٠٠ق.م إلى ٢٥٠٠ق.م أو بعد ذلك، وهي تؤلف أول مظهر معبر عن حياة الأسرة بقي لنا من العالم القديم. وكان الاعتبار الأول في اهتمامنا بتلك الرسوم حتى الآن أنها آثار فنية، ومصادر نستقي منها معلوماتنا عن حياة المصريين الأقدمين في الزراعة والرعاية والصناعة، ثم إلى حد ما عن الحياة الاجتماعية عندهم. على أن العلاقات الأسرية المرحة المنطوية على الود، التي تنطق بها تلك النقوش تعد كشفًا جديدًا ذا أهمية أساسية في تاريخ الأخلاق؛ وذلك لأن هذه الصورة، مضافًا إليها النقوش المدونة فوق جدران القبور، مع حكم «بتاح حتب» التي سنرود مجاهلها بعد، تقدم لنا برهانًا تاريخيًّا قاطعًا على أن الإدراك الخلقي نبتت جذوره من حياة الأسرة.
فمنذ العصور المتوغلة في القدم كانت مثل تلك المشاعر موجودة بلا أقل شك، وذلك وقت أن كان نضوب المياه في هضبة شمال أفريقيا يضطر الصيادين المتوحشين إلى النزول إلى وادي النيل، وكانت تلك المشاعر تنمو في ظلال فترة ذلك التطور التاريخي الذي انتهى بالاتحاد الأول للبلاد الذي لم يتجاوز عمره سنة ٤٠٠٠ق.م. وبعد ذلك التاريخ بخمسمائة سنة؛ أي في القرن الخامس والثلاثين ق.م ظهرت أمامنا أقدم الحقائق المدونة؛ ونعني بذلك المسرحية المنفية، وبعد سنة ٣٠٠٠ق.م كشفت لنا جبانة «منف» وحكمة «بتاح حتب» عن مرحلة أكثر تقدمًا من سابقتها في حياة الإنسان الخلقية التي كان يتسع مجالها باطراد.
فنحن إذن نرقب في هذا العصر العتيق النواحي الراقية لمنهاج في التطور لا يمكن أن نلاحظ مثله في أي عهد آخر قديم من تاريخ حياة الإنسان بأية جهة أخرى، ونتأمل ظهور شعور بالمسئولية الخلقية في الوقت الذي كانت فيه تلك المسئولية قد بدأت تأخذ تدريجًا شكل قوة وازعة متزايدة تسيطر على سلوك الإنسان، وهو تطول يسير متجهًا نحو توطيد مكانة «الضمير» حتى يصير قوة اجتماعية ذات نفوذ في حياة البشر أجمعين.
يدل على ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه مدى السلوك الحسن محصورًا على الأرجح في أول الأمر في دائرة الأسرة، فإن نطاقه قد أخذ يتسع حتى صار يشمل الجيرة أو الطائفة قبل عصر الأهرام بزمن طويل. فمن ذلك أننا نجد أن أحد الموتى يقص علينا في نقوش قاعدة تمثال جنازي له منصوب في قبره، وقد صوره المثَّال بصورة ناطقة له كأنها هو: «لقد طلبت إلى المثَّال أن ينحت لي هذه التماثيل، وقد كان مرتاحًا للأجر الذي دفعته إليه.» كما يقول مدير ضيعة يدعى «مِني» في نقوش مأخوذة من مقبرته التي من عهد الأسرة الرابعة (٢٩٠٠–٢٧٥٠ق.م) وموجودة الآن في متحف «جلبتوتيك» بمدينة مونيخ ما يأتي: «أما فيما يخص كل رجل عمل هذا لي (أي ساهم في إقامة هذا القبر) فإنه لم يكن قط غير مرتاح، سواء أكان صانعًا أم حجَّارًا، فإني قد أرضيته.» فمن الواضح جدًّا أن كلًّا من ذينك الرجلين أراد أن يعلن أنه حصل على معداته الجنازية من طريق شريف، وأن كلَّ من عمل في إعدادها قد تسلم أجره كاملًا غير منقوص.
وكذلك ترك لنا أحد حكام المقاطعات ممن عاشوا في القرن السابع والعشرين ق.م البيان التالي عن حياته الصالحة حيث يقول: «لقد أعطيت خبزًا لكل الجائعين في «جبل الثعبان» (ضيعته) وكسوت كلَّ من كان عريانًا فيها، وملأت الشواطئ بالماشية الكبيرة وأراضيها المنخفضة بالماشية الصغيرة، وأشبعت كل ذئاب الجبل وطيور السماء بلحوم الحيوان الصغير … ولم أظلم أحدًا قط في ممتلكاته حتى يدعوه ذلك إلى أن يشكوني لإله مدينتي، ولكني قلت وتحدثت بما هو خير. ولم يوجد إنسان كان يخاف غيره ممن هم أقوى منه حتى جعله ذلك يشكو للإله. ولقد كنت محسنًا لأهل ضيعتي بما في حظائر ماشيتي وفي مساكن صيادي الطيور، وإني لم أنطق كذبًا؛ لأني كنت امرأ محبوبًا من والده ممدوحًا من والدته رفيع الأخلاق مع أخيه، وودودًا [لأخته].»
ونجد مرارًا وتكرارًا أن أولئك الناس القدماء الذين مضى على انقضاء زمنهم نحو ٤٠٠٠ أو ٥٠٠٠ سنة يؤكدون لنا براءتهم من عمل السوء؛ فيقص علينا رئيس أطباء الملك «سحورع» في منتصف القرن الثامن والعشرين ق.م ما يأتي: «إني لم آتِ أي سوء قط ضد أي إنسان.»
أنتم أيها الأحياء الذين على وجه الأرض المارون بهذا القبر، جودوا بقربان جنازي مما عندكم فيؤتى به إليَّ؛ لأني كنت إنسانًا محبوبًا من الناس، فلم أُجلد قط في حفرة أي موظف منذ ولادتي، ولم أستولِ على متاع أي شخص قسرًا، وكنت أفعل ما يرضي جميع الناس.
لقد فعلت ما كان يحبه الناس ويرضي الآلهة حتى يجعلوا بيت أبديتي (أي قبره) يبقى، واسمي موضع الحمد على ألسنة الناس.
ويتضح من مثل تلك الخطابات التي كانت توجه إلى الأحياء أن أهم غرض كان يرجوه المتوفى من الإدلاء بتلك التأكيدات الدالة على حسن سيرته في المجتمع؛ هو استدرار عطف الأحياء من جيرانه عليه حتى يقدموا له القرابين الجنازية من الطعام والشراب عند قبره.
وقد كان المتوفى في اعتقاد القوم عرضة لأن يُطلب للمحاسبة فيما بعد الموت عن أي خطأ يكون قد ارتكبه أو ظلم اقترفه أثناء حياته الدنيوية، فيقف هناك أمام إله الشمس الذي كان يجلس بصفته القاضي الأعلى لمحكمة العدل أسوة بمحاكم عالم الدنيا، ولذلك وضع «مِني» مدير الضيعة — الذي سبق أن لاحظنا عنه فيما تقدم اهتمامه بدفع أجور العمال ممن قاموا ببناء قبره — التحذيرَ الآتي على واجهة باب قبره: «إن التماسيح ستكون ضده في الماء! والثعابين ضده على اليابس، جزاء لكل من يقترف أي سوء ضده (أي ضد قبره)، فإن الإله العظيم هو الذي سيحاكمه من أجل ذلك.» وعلى ذلك يتضح أن القيم الأخلاقية كان لها تقديرها في نظر الآلهة مما يجوز أن يؤثر ماديًّا على سعادة المتوفى في الحياة الآخرة.
وكلا الباعثين قد وجدا مجتمعين في خطاب واحد موجه للأحياء على باب مقبرة «حَرخوف» الألفنتيني الموطن، الذي توغل في السودان في القرن السادس والعشرين ق.م، والذي يعتبر أكبر الرواد القدامى الذين جابوا مجاهل أفريقيا، وقد نحت قبره في الصخور الغربية المطلة على بلدة «أسوان» الحالية، حيث يمكن لأي سائح قوي الساقين أن يتسلقها لزيارة ذلك القبر. ومن بين ما نقشه على واجهة ذلك القبر قصة حياته المليئة بالمخاطرات، ومنها قوله: «كنت … محبوبًا من والده، ممدوحًا من والدته، يحبه كل إخوته، ولقد أعطيت خبزًا للفقير وملابس للعريان وعديت من لا قارب له. وأنتم أيها الأحياء الذين على وجه الأرض والمارون بهذا القبر، سواء أكنتم نازلين مع النهر أم صاعدين فيه، قولوا: ألف رغيف وألف إناء جعة (تقدم) لصاحب هذه المقبرة؛ وإني في مقابل ذلك سأشفع لكم في العالم السفلي؛ لأني إنسان مجهز «بالسحر»، وكاهن مرتل فمه على علم. وأما من يدخل هذا القبر مدعيًا ملكيته الجنازية فإني سأقبض عليه كما يقبض على طائر بري، وسيحاكم على ذلك أمام الإله العظيم. وإني كنت إنسانًا يقول الحسن ويردد المحبوب، ولم أنطق قط بأي شيء قبيح لرجل صاحب سلطان ضد أي إنسان، وقد كانت غايتي أن تكون حالتي حسنة أمام الإله العظيم، على أني لم أفصل بين أخوين بما يحرم ابنًا متاع والده.»
ويلاحظ في ذلك الخطاب أن التهديد بالمحاكمة لم يستعمل فقط لمنع الإنسان الخارج على القانون من الاستيلاء على قبر المتوفى، بل إن له، فضلًا عن ذلك، مغزى آخر هو فكرة المحاكمة التي تعبر عن المسئولية الخلقية فيما بعد الموت، وإنها بالتأكيد هي الباعث الذي حدا بذلك الرائد العظيم أن يعيش عيشة فاضلة؛ أي إن غرض المتوفى أن يتوقف مصيره على حياته اليومية في عالم الدنيا؛ مثال ذلك قوله: «لقد رغبت في أن يحسن حالي في حضرة الإله العظيم.» ومن ذلك نعرف أنه كان ينتظر طوال حياته احتمال وقوفه أمام الحضرة الرهيبة فيما بعد الموت ليحاسب على كل سيئة يكون قد ارتكبها في أثناء حياته الدنيوية.
ولا شك أن تدوين مثل تلك الأقوال في جبانات عصر الأهرام (أي منذ خمسة آلاف سنة) لم يكن أمرًا قليل الأهمية والجدوى؛ لأنه أقدم برهان على الشعور بالمسئولية الخلقية عند قدماء المصريين في عالم الحياة الآخرة؛ إذ نجد في بلاد أخرى — بعد مرور ما يربو على ألفي سنة من ذلك التاريخ — أن الخير والشر كانا يحالان معًا إلى عالم واحد من عالم الأموات من غير أن يكون بينهما أي تمييز، فكأن ما ذكرناه عن ذلك فيما تقدم كان مشهدًا خلقيًّا فريدًا لا نظير له ننظر من خلاله ذلك التسامي رغم ما يحيط به من حالك الظلام الكثيف، فكان مثله مثل شعاع الشمس ينفذ في حوالك الظلمات.
على أن الوازع الخلقي لم يبقَ منحصرًا نفوذه في العوامل الشخصية، مقتصرًا على علاقة الإنسان بأسرته وجيرانه أو المجتمع الذي يعيش فيه فحسب، بل كان قد بدأ تأثيره يظهر في ذلك الزمان في الأوساط العليا من المجتمع البشري، حتى صار تأثيره يظهر في واجبات الحكومة نحو عامة جميع الشعب ولو أدى تنفيذ تلك الواجبات إلى عدم رعاية حقوق الأسرة أصلًا. فقد وجدنا في عصر مبكر مثل عصر الأهرام أن الوزير العادل «خيتي» قد صار مضرب الأمثال بسبب الحكم الذي أصدره ضد أقاربه عندما كان يرأس جلسة للتقاضي كانوا فيها أحد الطرفين المتخاصمين؛ إذ أصدر حكمه ضد قريبه دون أن يفحص وقائع الحال، وكان ذلك منه تورعًا عن أن يُتهم بمحاباة أسرته أو ممالأتها ضد خصومها. وقد جاء في أحد النقوش القديمة التي تعرضت لإعادة ذكر الحادث: «وحينما أراد واحد منهم أن يستأنف الحكم … فإنه (أي الوزير) صمم على رأيه الأول.» وبعد مضي ألف وخمسمائة سنة على ذلك الحادث كان اسم «خيتي» المذكور يقتبس في الحياة الحكومية مثلًا للإجحاف بالغير يجب ألا يحتذى حذوه. وقد أخبر الفرعون وزراء القرن الخامس عشر ق.م «أن الحكم المشهور الذي أصدره «خيتي» السالف الذكر كان أكثر من العدالة»؛ لما فيه من الشطط في التحرز عن محاباة الأقارب.
وتحتوي متون الأهرام أيضًا على أدلة قاطعة لا تقبل الشك على أن طلبات «العدالة» و«الحق» كانت قوتهما أقوى من سلطان الملك نفسه، فلم يكن الملك معفًى من القيام بما تحتاجه قبور الأشراف، التي تنطق نقوشها بأنهم كانوا مهتمين بإقامتها كل اهتمام، وكان الإله الذي يعمل الملك على إرضائه هو «رع»، وهو نفس الإله الذي كانت تعمل الرعية على إرضائه. وإليك ما جاء في أحد النقوش: «لا توجد سيئة اقترفها الملك «بيبي»، وهذه الكلمة ذات وزن في نظرك يا «رع».» ونجد في صيغة شمسية الطراز أن نوتي «ع» يخاطب هكذا: «أنت يا من تعبر بالبريء الذي لا سفينة له، يا نوتي حقل القصب، إن الملك «مريرع» (بيبي الأول) عادل أمام السماء والأرض.» ومن ذلك أيضًا: «إن هذا الملك «بيبي» بريء، إن هذا الملك «بيبي» ممدوح.» وكذلك كان «نجم الصباح» (وهو إله شمس) يقدر المركز الخلقي لفرعون المتوفى، فترى في النقش ما يأتي: «أنت يا «نجم الصباح» اجعل «بيبي» هذا يجلس لأنه بريء، واجعله يرتفع لأنه مبجل.» وكان لا بد بالطبع من تحديد قيمة المتوفى الخلقية بصفة قانونية وإجراء قانوني طبقًا لما وهبه المصري القديم من الإدراك القانوني الحاد؛ فقد رأينا أن الأشراف يشيرون إلى المحاكمة في نقوش قبورهم، وأن الملك نفسه عرضة لهذه المحاكمة، بل إن الآلهة لا يفلتون منها؛ إذ قد ذكر أن كل إله يساعد الفرعون في رفعه إلى السماء يبرأ أمام «جب» (إله الأرض).
على أن الفرعون الذي أعلنت براءته ورفع إلى السماء بتلك الكيفية كان يستمر في إظهار نفس الصفات الحسنة في القيام بأعمال ملكه السماوي الذي يسند إليه: «إنه يقضي بالعدل أمام «رع» في يوم العيد (المسمى) رأس السنة، فالسماء في سرور، والأرض في حبور حينما سمعا أن الملك «نفر كارع» (بيبي الثاني) قد أقام العدل [مكان الباطل]، والذين يجلسون مع الملك «نفر كارع» في قاعة العدل مرتاحون للقول الحق الذي خرج من فمه.» ومما يلفت النظر أن الملك كان يقضي بتلك العدالة في حضرة «رع» إله الشمس، وكذلك نجد تصريحًا شمسيًّا يؤكد بأن الملك «وناس» قد «أقام العدل فيها (أي في الجزيرة التي استقر فيها) مكان الباطل.»
ونجد في القرن الثامن والعشرين ق.م أن أحد ألقاب الملك «وسركاف» الرسمية لقب «مقيم العدالة» (ماعت)، وعلى ذلك نرى أن اعتبار الملك الراحل إلى السماء حاكمًا بها (أي بالعدالة «ماعت») في الحياة الآخرة إن هو إلا استقرار للنظام الخلقي الذي كان يرعاه فوق الأرض، ولذلك تقص علينا متون الأهرام: «أن الملك «وناس» يخرج للعدالة (يعني ماعت) ليأخذها معه (أي ماعت).»
وكذلك تقص علينا متون الأهرام: «أن الملك «وناس» يخرج في يومه هذا ليتمكن من إحضار العدالة (ماعت) معه.»
ولمناسبة التأمل في لقب الملك «وسركاف» الملكي السالف الذكر يتجه نظرنا إلى ذكرى أخرى ممتعة؛ وهي أنه في خلال حكم تلك الأسرة ختم أحد وزرائها العظام مجموعة من حِكمه الطريفة بالكلمات الآتية: «لقد بلغت من العمر العاشرة بعد المائة، منحني الملك في خلالها هبات تفوق هبات الأجداد؛ لأني أقمت العدل للملك حتى القبر.» فهذا الوزير الأول الذي فاه بذلك البيان هو «بتاح حتب» الذي اعتزل منصب الوزير الأول للملك «إسيسي» أحد ملوك الأسرة الخامسة في القرن السابع والعشرين ق.م. وليس من شك في أن «بتاح حتب» هذا بلغ سن الرجولة الناضجة في عهد الفرعون «وسركاف»، وبذلك يمكننا أن نرى بعض الصلة بين قول ذلك الوزير الحكيم: «إني أقمت العدل» وبين لقب «وسركاف» الرسمي وهو «مقيم العدالة».
وإن حِكم «بتاح حتب» تمدنا بأقدم نصوص موجودة في أدب العالم كله للتعبير عن السلوك المستقيم، وفي حين أنه لم يصلنا من العهود السابقة لها سوى نتف مبعثرة للتعبير عن السلوك الخلقي، وعن التقدم المدهش في مجاري الإدراك الخلقي الذي وصل إليه الإنسان في عهد الاتحاد الثاني، فإننا نجد أن حِكم «بتاح حتب» الغزيرة المادة تلخص لنا مقدارًا كبيرًا من أدب ذلك العصر. وحينما شعر ذلك الوزير المسن بضعفه الناشئ من تقدمه في السن، كما ذكره هو في مقدمة حِكمه، طلب إلى الملك أن يسمح له بتعليم ابنه (أي ابن الوزير) ليعدَّه للقيام بأعباء الواجبات الحكومية حتى يكون مساعدًا لوالده وخلفًا له، وقد وافقه الملك على ذلك، وحينئذ قام الوزير الكبير بالنصح لابنه بألا يسيء استعمال الحكمة التي سيلقنه إياها، بل ينتهج سبيل التواضع، فيقول: «لا تكونن متكبرًا بسبب معرفتك، فشاور الجاهل والعاقل؛ لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها، وليس هناك عالم بلغ في فنه حد الكمال، وإن الكلام الحسن أكثر اختفاء من الحجر الأخضر الكريم، ومع ذلك فإنه يوجد مع الإماء اللائي يعملن في إدارة حجر الطاحون.» ثم يعقب ذلك ثلاث وأربعون فقرة تحتوي على نصائح مختلفة المواضيع، لم يُبذل أي جهد لترتيبها أو تنظيمها، بل كُتبت كل فقرة منها عفو الخاطر بحسب ما كان يخطر في ذهن رجل مسن حنَّكته تجاريب الحياة ومسئولياتها التي أراد أن يطرحها عن كاهله إلى كاهل غيره.
ويؤكد في حِكمه التأكيد القوي وجوب مراعاة حسن الذوق واستعمال الذهن الذي أطلق عليه كالمعتاد كلمة «القلب»، وأحسن الصفات القيمة التي يجب على الشاب أن يتحلى بها أن يكون قادرًا على الإصغاء أو الطاعة [يقابلها حرفيًّا: يستمع] فنجده يقول: «إن المستمع هو الذي يحبه الإله، أما الذي لا يستمع فإنه هو الذي يبغضه الإله. والعقل (القلب حسب النص الأصلي) هو الذي يجعل صاحبه مستمعًا أو غير مستمع، إن ثروة المرء العظيمة هي عقله … فما أفضل الابن عندما يصغي لأبيه، والابن إذا وعى لما يلقيه عليه والده فإنه لن يخيب في مشروع من مشروعاته. وعليك أن تعلِّم من يستمع إليك كأنه ابنك، ومن سيكون ناجحًا في نظر الأمراء، ومن يوجه فهمه حسبما يقال له … ما أكثر المصائب التي تنزل بمن لا يستمع. والرجل العاقل يبكر في الصباح ليصلح من شأن نفسه، أما الجاهل فإنه يصبح في حالة ارتباك، كما أن الأحمق الذي لا يستمع، فإنه لم يسئ إليه أحد، بل هو يعتبر الحكمة جهلًا، وما يفيد كما لا نفع يرجى منه. والابن المطيع (الذي يستمع) … يصل إلى الشيخوخة وينال الاحترام، وهو يتكلم بدوره لأولاده معيدًا لهم نصائح والده … فهو إذن يتحدث لأولاده وهم بعد ذلك يتحدثون لأولادهم.»
من ذلك يتضح أنه منذ القرن السابع والعشرين ق.م كان السلوك قد أصبح أمرًا تقليديًّا وحكمة ذات معيار يرثها الابن عن أبيه.
وكان للنجاح الدنيوي المكانة السامية؛ إذ ذاك، وكانت السبل للتحقق من الوصول إليه عظيمة الأهمية؛ ولذلك شغلت هذه الأمور نحو ثلث نصائح ذلك الوزير المسن (أي ١٤ فقرة من ٤٣ فقرة). وبعض هذه النصائح يوصي بالتخلق بالحذر في حضرة العظماء، حتى إن بعض فقراتها تعرفنا آداب المائدة في حضرة الرئيس، فتقول: «خذ ما يقدم لك حينما يوضع أمامك دون أن تنظر إلى ما هو أمامه، ولا تصوِّبن لحظات كثيرة إلى الرئيس؛ أي لا تحملق فيه، وانظر بمحياك إلى أسفل إلى أن يحييك، وتكلم فقط بعد أن يرحب بك، واضحك حينما يضحك، فإن ذلك يدخل السرور على قلبه، وما تفعله يكون مقبولًا؛ لأن الإنسان لا يعلم ما في القلب.» ومن المهم جدًّا ألا يكون الإنسان كثير الكلام في أي موقف، وأن يتجنب على وجه خاص السلوك العدائي والتعجرف على الناس.
وقد خصص جزء أكبر بكثير مما تقدم إلى الحكمة الصائبة في تسيير أعمال الإنسان الرسمية، فمن ذلك قوله: «إذا كان رئيسك فيما مضى من أصل وضيع فعليك أن تتجاهل وضاعته السابقة واحترمه طبقًا لما وصل إليه؛ لأن الثمرة لا تأتي عفوًا، ولا تعيدن قط كلمات حمقاء خرجت من غيرك في ساعة غضب، والزم الصمت فإنه أحسن من أزهار «تِفْتف»، وتكلم فقط إذا كنت تعلم بأنك ستحل المعضلات، وإن الذي يتكلم في المجالس لفنان (يعني في الكلام) وصناعة الكلام أصعب من أية حرفة أخرى، وعليك أن تقدم للأمير النصيحة التي تساعده؛ لأن قُوْتك يتوقف على مزاجه، وبطن الرجل المحبوب تُملأ وظهره يُكسى تبعًا لذلك. كن عميق القلب نزر الكلام … وكن ثابت الجنان طوال كلامك، فعسى أن يقول الأمير الذي يسمع كلامك: ما أصوب الكلام الذي يخرج من فمه!»
ويجب على المرء أن يتحرى أخلاق أصدقائه: «فإذا كنت تبحث عن أخلاق من تريد مصاحبته فلا تسألنَّه عن شيء، ولكن اقترب منه وتعامل معه، على انفراد معه، وامتحن قلبه بالمحادثة، فإذا أفشى شيئًا قد رآه أو أتى أمرًا يجعلك تخجل له، فعندئذ احذر حتى من أن تجاوبه.»
على أن مسئوليات الأسرة كانت في نظره أهم من الأصدقاء؛ فتراه يقول: «إذا كنتَ رجلًا ناجحًا، وطِّد حياتك المنزلية، وأحب زوجتك في البيت كما يجب.»
وبعد أن ذهب هذا الكتاب إلى المطبعة أحضر إليَّ أحد فلاحي «الأقصر» الذين يستخرجون السماد من وسط الخرائب الأثرية بشظية من الحجر الجيري الأبيض عثر عليها في تلك الخرائب، فوجدت عليها كتابات يرجع عهدها إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة كتبت بالحبر، وهي بضعة أسطر اقتبسها كاتبها من نصائح «بتاح حتب» التي كان قد انقضى على وضعها إذ ذاك نحو ١٥٠٠ سنة، وكان المداد الذي كُتبت به لا يزال أسود يُقرأ بوضوح. وتلك الأسطر هي صورة معدلة من نصائح ذلك الوزير المسن عن الزوجة، فخيِّل لي أن ذلك الحكيم القديم قد دخل فجأة إلى حجرتي في الأقصر ليزودني بشيء أكثر مما علمت عن أفكاره؛ لأن إحدى الفقرات المعدلة كانت جذابة في محتوياتها؛ إذ جاء فيها: «إذا كنت رجلًا ناجحًا فأسس لنفسك بيتًا، واتخذ لنفسك زوجة تكون سيدة قلبك.» ولكننا نجد في المتن القديم الذي كان أقل من ذلك شاعرية: «وأحب زوجك كما يجب.» وقد عرف «الحب الذي يجب أن يكون» بأنه حب يحمل في ثناياه الحب العملي الذي يجب على الزوج لزوجته؛ إذ يقول: «أشبع جوفها واستر ظهرها.» ومع أنه لا يوجد حد لمتع الحياة الكمالية تقف عنده مطالب المرأة فإن ما تعزه المرأة الحديثة وتشاركها فيه أختها القديمة فوق ضفاف النيل من العطور ينحصر في الروائح والدهان الغالية، وهي التي لم ينسَ ذلك الحكيم السياسي المسن أن يضمها إلى قائمة حاجات زوج ابنه؛ إذ يقول: «إن علاج أعضائها هو الدهان.»
أما عن الأبوة فقد كان فيها «لبتاح حتب» آراء حاسمة، ففي ذلك يقول: «إذا كنت رجلًا ناجحًا وأسست لك بيتًا وأنجبت ولدًا اكتسب رضا الإله (يقصد الملك)، فإذا عمل صالحًا ومال إلى طبعك وسمع نصائحك وكانت خططه ذات نتائج حسنة في بيتك، ومعتنيًا بمالك كما يجب، فابحث له عن كل شيء حسن، فهو ابنك الذي ولدته لك «كا» (نفسك)، ولا ينفرن قلبك منه، ولكن إذا جنح إلى السوء وأعرض عن خططك (يعني أوامرك)، ولم يعمل حسب نصائحك وصارت خططه لا خير فيها وتحدى كل ما تقوله … فعندئذ أقصِهِ عنك؛ لأنه ليس ابنك ولم يولد لك …»
ومع أن ذلك الوزير المسن كان يقدِّر تمامًا قيمة النجاح الدنيوي وإحراز الثروة؛ فإنه كان يرى من الواجب ألا تطغى على روابط الأسرة، فتراه يقول: «لا تكونن شرهًا في القسمة، وانبذ الطمع حتى في حقك، ولا تطمعنَّ في مال أقاربك؛ فإن الالتماس اللين يجدي أكثر من القوة … وإن القليل الذي يُؤخذ بالخداع يولد العداوة (حتى) عند صاحب الطبع اللين (يعني الحليم).»
ولما كان الطمع من أكبر الصفات الذميمة الداعية لتفكيك روابط الأسرة المتماسكة، تراه يحذر من ذلك فيقول: «إذا أردت أن يكون خلقك محمودًا، وأن تحرر نفسك من كل قبيح؛ فاحذر الشراهة فإنها مرض عضال لا يُرجى شفاؤه والصداقة معها مستحيلة؛ لأنها تجعل الصديق العذب مرًّا، وتقصي ذا الثقة من سيده، وتجعل كلا الأبوين كالغرباء، وكذلك تفعل في أخوة الأمهات، وتفصل الزوج من زوجه، فهي حزمة من أنواع الشر، وعيبة بها كل شيء مرذول، والشَّرِه لا قبر له.»
وقد شفع «بتاح حتب» هذا البحث الذي ينطق بما للروابط الخاصة بالأسرة من القيمة العظيمة في بيت الإنسان، بوجوب احترام أهل بيوت غيره ولو كانوا من غير ذوي قرباه، فنجده يحذر الزائر تحذيرًا شديدًا من محاولته الاقتراب من النساء، بل يحتم عليه أن يتباعد عنهن بقدر المستطاع، فيقول في ذلك: «إذا أردتَ أن تحافظ على الصداقة في بيت تدخله سواء أكنت سيدًا أم أخًا أم صاحبًا، فاحذر القرب من النساء، فإن المكان الذي يكنَّ به ليس بالحسن، ومن الحكمة إذن ألا تحشر نفسك معهن، ومن أجل ذلك يذهب ألف رجل إلى الهلاك بسبب متعة برهة قصيرة تضيع كالحلم، ولا يجني الإنسان من معرفتهن غير الموت.»
على أنه توجد من تلك النصيحة صورة أخرى مستحدثة تصف طريق معاملة النساء بطلاوة أكثر مما سلف، هذا نصها: «وعندما يفتتن الإنسان بأعضائهن البراقة [النص الحرفي: أعضاء من الزجاج] فإنها بعد ذلك تصير مثل حجر «هرست»؛ أي شيئًا تافهًا، والأمر لحظة وجيزة مثل الحلم والموت يأتي بعده في النهاية.» وإننا نعلم أن جريمة الزنا [الخيانة الزوجية] كانت عقوبتها الموت في الأزمان التي تلت ذلك العصر الذي عاش فيه «بتاح حتب»، ولا يبعد أن ذلك العقاب كان متبعًا في عهد الدولة القديمة.
ولقد كان رأي ذلك الوزير المسن في الحظيات يمثل عصره طبعًا، فقد خصهن بفقرة قصيرة يحض فيها على معاملة الحظية بالرفق، ويضاف إلى ذلك أيضًا أن ذلك الوزير قد حض ابنه في تلك المناسبة على ألا يحاول قط إفساد الصبية.
وتسود جميع حِكم ذلك الوزير السياسي المسن روح الشفقة الكريمة، وهي تبتدئ في نظره أولًا ببيت الرجل وأسرته التي كانت تعد رابطتها على أعظم جانب من الأهمية والمكانة، ثم تمتد إلى من توجد بينه وبينهم أية معاملة أو علاقة رسمية، يبدو لنا ذلك مما يوصي به هذا الحكيم المسن ابنه بأن يتوخى في مسلكه المرح والابتهاج؛ إذ يقول له: «كن باشَّ الوجه ما دمت حيًّا.» ثم يستمر في كلامه متأثرًا بروح تشعر بأنها هي أصل للمثل المشهور لدينا: «لا فائدة من النحيب على لبن مهراق.»
وذلك المرح البالغ البادي من روح تلك الكلمات يتفق مع إلحاح ذلك الوزير المسن في طلبه للراحة والترفيه.
ومن المحتمل أن «بتاح حتب» لا يشير فيما يأتي من كلامه إلى شيء أكثر من الحث على الاهتمام باقتناص الفرص للتمتع بألوان الطعام اللذيذة وتشنيف الأسماع بالموسيقى ومزاولة الرقص والتلهي بلعب الداما، والتلذذ بمشاهدة الحديقة الغنَّاء والرياضة بالصيد في المستنقعات، أو الذهاب إلى ضيعته مستريضًا محمولًا في محفة فوق أكتاف خدمه، وحوله الذين يتحببون إلى سيدهم في أغانيهم وهم يرددونها على سمعه: «ما أسعد الذين يحملون المحفة! خير لنا أن تكوني مملوءة من أن تكوني خالية.»
على أن «بتاح حتب» يحض ابنه بقوله له: «اتبع لبَّك (أي روحك) ما دمت حيًّا، ولا تفعلنَّ أكثر مما قيل لك، ولا تنقص من الوقت الذي تتبع فيه قلبك، ولا تشغلنَّ نفسك يوميًّا بغير ما يتطلبه بيتك، وعندما يواتيك الثراء متِّع نفسك؛ لأن الثراء لا تتم (فائدته) إذا كان صاحبه معذبًا.»
ولا غرابة في أن تكون الشفقة عند رجل بمثل هذه الروح من الأمور المألوفة؛ ولهذا نرى ذلك الوزير المسن يقول لابنه: «إذا كنت حاكمًا فكن شفيقًا حينما تسمع كلام المتظلم، ولا تسئ إليه قبل أن يغسل بطنه ويفرغ من قول ما قد جاء من أجله … وإنها لفضيلة يزدان بها القلب أن يستمع مشفقًا.»
وليس هناك من شك في أن تكون هذه الشفقة ذات علاقة وطيدة بالمعاملة الحسنة المبنية على الحق، ولا غرابة إذن إذا وجدنا الحق والعدالة قد اتخذا لهما مكانة في «حِكم بتاح حتب» تسامت على كل مكانة، حيث يقول: «إذا كنت حاكمًا تُصدر الأوامر للشعب فابحث لنفسك عن كل سابقة حسنة حتى تستمر أوامرك ثابتة لا غبار عليها. إن الحق جميل وقيمته خالدة، ولم يتزحزح من مكانه منذ خلق؛ لأن العقاب يحل بمن يعبث بقوانينه، وقد تذهب المصائب بالثروة، ولكن الحق لا يذهب بل يمكث ويبقى، والرجل المستقيم يقول عنه: «إنه متاع والدي قد ورثته عنه».»
ومن ثم كان نصح ذلك الشاب بأنه عندما يقوم بأية مهمة يجب أن: «يتعلق بأهداب الصدق (أو الحق) ولا يتخطاه حتى ولو كان التقرير الذي يقدمه لا يسر القلب.» ولذلك كان لزامًا على ذلك الشاب أيضًا أن يبلغ رئيسه الحقائق حتى ولو كانت مرة.
ولا شك في أن هذه السبيل كانت تتطلب قوة خلق عظيمة، وهذا ما كان يرجوه ذلك الحكيم لابنه؛ إذ يقول له: «حصِّل الأخلاق … واعمل على نشر العدالة وبذلك تحيا ذريتك.»
وكذلك يذكر ابنه: «بأن الفضيلة التي يتحلى بها الابن لها قيمتها عند الأب، والخلق الحسن يبقى شيئًا مذكورًا.» ويقول له أيضًا: «فإذا استمعت ووعيت ما ألقيته عليك فإن كل صنيع لك سيكون على غرار عمل الأجداد، أما انطباق هذه الأشياء على العدالة فالفضل فيه يرجع لهم (أي للأجداد)، وذكراها لن تمحى من أفواه الناس؛ لأن نصائحهم جديرة بالتقدير، وكل كلمة ستنقل ولن تمحى من هذه الأرض أبدًا، وسيكون للكلام قيمته حسبما تنطق به الأمراء … وعندما يصيب رئيسك شهرة جديرة بالتقدير فإنها ستبقى حسنة أبد الدهر وستخلد كل مزاياها. وإن الرجل الحكيم تنعم روحه باستمرار بقاء فضله على الأرض، والرجل العاقل يُعرف بعمله، وقلبه ميزان لسانه، وشفتاه تصيبان القول عندما يتكلم، وعيناه تبصران عندما ينظر، وأذناه تسمعان ما يفيد ابنه الذي يقيم العدل ويبرأ من الكذب.» وربما كان ذلك الوزير المسن قد عبر عن روحه الخلقية أحسن تعبير حينما حذر من الطمع فيما سلف، وإننا نجده الآن في صورة المنتصر الظافر؛ إذ يقول من غير كبير مناسبة بما تقدم: «إن الرجل الذي اتخذ العدالة معيارًا له وصار وفقًا لجادتها يكون ثابت المكانة.» ولا نزاع في أننا نجد في هذا الكلام نغمة الحكمة العبرانية كما وصلت إلينا في كتاب «العهد القديم» وإن كانت حكمتنا هنا (يريد حكمة بتاح حتب) أقدم من حكمة العبرانيين بألفي سنة.
وقد ختم ذلك الوزير المسن نصائحه لابنه بعبارة تحبب إلى نفسه العدالة؛ إذ يقول له في منتهاها: «تأمل! إن الولد النجيب الذي يهبه الإله يقوم بأداء أكثر مما يؤمر؛ فهو يقيم الحق وقلبه يسير على صراطه، وبقدر ما تصل إلى ما وصلت أنا إليه سيكون جسمك سليمًا، ويكون الملك مرتاحًا إليك في كل ما يجري، وكذلك تصل إلى السن التي وصلت إليها، وأن السنين التي عشتها على الأرض ليست بالقليلة، فقد بلغت العاشرة بعد المائة، والملك قد حباني بمكافأة تفوق كل مكافآت الأجداد؛ لأني أقمت العدل للملك حتى الممات.» وقد لاحظنا فيما تقدم ذكره أن أحد ألقاب الملك «وسركاف» كان لقب «مقيم العدالة»، وهذا يدل على أن حِكم «بتاح حتب» المذكورة كانت ذات مكانة راجحة لدى الجهات العليا حتى في أيام شبابه.
ويتناول أكثر من نصف حِكم «بتاح حتب» أخلاق الإنسان وسلوكه، وما بقي منها يختص بشئون الإدارة وسلوك الإنسان الرسمي، ويلاحظ بوجه عام أن تلك الحكم تحث على توخي اللطف والاعتدال وتأكيد الذات الذي تصحبه الحكمة واللباقة، وكل ذلك في الواقع ينم عما كان عليه ذلك الوزير من منتهى حسن الذوق وسلامته في تقدير الأمور ووزنها بالميزان الصحيح، مما عنى بتوصية ذلك الشاب باتباعه والسير على نهجه؛ فالحياة فيها الكثير مما يجعلنا نحبها، ويجب أن يحظى فيها الإنسان بقسط وافر من الاستمتاع البريء، وأن يحافظ على ساعات الراحة والدعة حتى لا تطغى عليها أعباء الوظيفة أو غيرها، ذلك إلى أنه يجب على المرء أيضًا أن يكون دائم البشاشة والطلاقة؛ لأنه لا فائدة من النحيب على ما فات. وبالجملة فإن النغمة التي تغلب على فلسفة نصائح ذلك الوزير المسن هي شدة اهتمامه بالأخلاق والوازع الخلقي، وأبرز واجب تنطق به سطورها هو: «ارعَ الحق وعامل الجميع بالعدالة.»
وخليق بهذا الحكيم القديم أن يؤكد لنا مرارًا أن أعظم فضيلة دائمة يتحلى بها الإنسان في الحياة هي العدالة والخلق العظيم، فإنهما يبقيان بعد موته؛ ولذلك تبقى ذكراه خالدة.
على أنه ليس من باب الصدفة أن تذكر مثل هذه الحقائق المقنعة في ملف بردي قديم يكشف لنا في الوقت نفسه عن جو مشبع بالرحمة والمحبة يسود حياة الأسرة، ويوحي باحترام الوالدين وبرهما، والتحذير بوجه خاص من وخامة عاقبة الشره الذي تقضي على وئام الأسرة بالتفكك، فإن كل تلك العواطف وليدة عالم اجتماعي واحد ونمت وترعرعت في بيئة واحدة؛ فالأسرة هي العامل الأول في تلك العواطف، وما بقي فهو الثمرة الطبيعية لتلك الروابط الأسرية؛ لذلك نجد في حكم «بتاح حتب» تأكيدًا قاطعًا لما نستنبطه من نقوش المقابر، ومن الصور التي رسمت على جدرانها، من أن حياة الأسرة هي التي هيأت للإنسان في بادئ الأمر الشعور بالمسئوليات الخلقية.
وفي نفس ذلك العصر صارت أمثال تلك المسئوليات موضوعًا للتفكير والبحث، وفيه أيضًا بدأ التأمل الفكري في الطبيعة البشرية يعمل عمله، فكانت المقارنة بين الرجل العاقل والرجل الأحمق، وحصلت الموازنة بين صفتي الخير والشر، فكان ذلك فجر عالم جديد قوامه هذه القيم الجديدة، كما نشأ في ذلك العصر الشعور بالشخصية المسئولة، وصار العالم الإنساني ميدانًا جديدًا لتطاحن المشاعر الخلقية المختلفة الغاية، فكانت تتصادم فيه قوى جديدة بأسلحة جديدة. وفي ذلك العصر الذي يعتبر أقدم العصور إدراكًا لقيمة الفرد الإنساني الأخلاقية برزت الشخصيات الممتازة فسمت على دهماء القوم من النكرات التي غمرها جوف الماضي القديم، فاستطاع الرجل القوي أن يحدث تأثيرًا في المجتمع بما كان يتحلى به من المزايا العقلية والصفات الخلقية البارزة.
وهنالك وزير آخر من الحكماء يُدعى «كاجمني» عاش في القرن الثلاثين ق.م (أي إنه كان موجودًا بعد زمن «أمحوتب» بمدة قصيرة)، ويعرف أن له وصايا حكمية أيضًا كان قد ألقاها على ابنه، غير أنها أيضًا لم تصل إلينا، وكذلك كان يعيش بعد «أمحوتب» بقرن واحد الحكيم «حَردادِف» ابن الفرعون «خوفو» باني الهرم الأكبر بالجيزة، وقد بقيت أمثاله الحكيمة على أفواه الناس بجانب أمثال «أمحوتب» أكثر من ١٥٠٠ سنة في الأزمان الغابرة.
غير أنه لم يبقَ لنا من أقوال أولئك الحكماء الذين عاشوا في عصر الأهرامات إلى يومنا هذا إلا نصائح «بتاح حتب» التي لم تكن إلا جزءًا ضئيلًا مما خلفه ذلك العصر الأول العظيم عن العقل البشري.
ويجب أن نضع مع أصحاب تلك الشخصيات أول عالم مجهول في العلوم الطبيعية، وهو مؤلف أقدم رسالة علمية تبحث في الجراحة، وربما يرجع عهده إلى عهد «أمحوتب» نفسه. ومؤلف تلك الرسالة الذي هو أقدم عالم طبعي عُرف لنا للآن، يعد أول إنسان ميز بين القوى الطبيعية والقوى الإلهية؛ إذ ذكر في بيانه عندما كان يفحص إصابة في رأس إنسان أن أصلها يرجع إلى سبب خارجي، وعبَّر عنها بألفاظه التي كتبها فقال: «إنها شيء طرأ من الخارج.» أي إن الحادث جاء من الخارج. ولكن بالرغم من الاعتراف بأن الإصابة قد نتجت من سبب طبيعي خارجي فإنها اعتبرت في الوقت نفسه إصابة تحتمل في ثناياها «سر حسن الحظ» أو «سوء الحظ». وقد عبَّر الجراح العتيق عن ذلك بقوله: «يعني نفس إله خارجي أو الموت، لا من حدوث شيء قد تولد من لحم المريض.» وقد ميز هنا بين مجال الأسباب الطبيعية في نظام جسم الإنسان الداخلي، وبين دائرة «حسن الحظ» أو «سوء الحظ» الأمر الذي كانت تسيطر عليه الآلهة.
على أن هذه الظاهرة لذلك النوع من النحت قد بالغ في تأكيدها النقاد الأحداث، يدل على ذلك أن أعظم ما أخرجه نحاتو عصر الدولة القديمة يظهر لنا أنهم كانوا قد بدءوا يبرزون قوة الشخصية الممتازة واستقلالها حينما أخذت تبرز لنا لأول مرة في شخص الفرعون المهيب، يظهر لنا ذلك بوضوح مؤثر في صور ذلك العصر المعبرة التي في مقدمتها تمثال «خفرع» باني الهرم الثاني بالجيزة، مما كان له بلا شك تأثير عميق في التصورات الخاصة بالإلهية، ويضاف إلى ذلك مجموعة كبيرة من الصور تنقل إلى مخيلتنا تأثيرات هامة عن شخصيات تلك الطائفة من عظماء الرجال الذين كانوا يحيطون بالفرعون في عصر الأهرامات، من رجال السياسة والحكماء والفنانين ورجال العمارة والمهندسين، وهم الذين جعلوا من مصر منذ خمسة آلاف سنة مضت بلدًا يضم عجائب المباني التي لا تزال إلى يومنا هذا تعد من عجائب الدنيا، في حين أن مباني غرب آسيا أقيم معظمها من الطوب طوال العصر الذي سبق بناء القصور الإمبراطورية في فارس، وقد محيت الآن عن آخرها، وهذه الموازنة لا تخلو من الأهمية وتؤيد الاعتقاد بأن مصر كانت البلد الذي ولد فيه أول عصور الشخصيات العظيمة.
على أن ظهور أولئك الرجال ذوي الشخصيات العظيمة لم يكن وليد الساعة، بل كان ثمرة التجاريب والحياة النظامية مدى ألف سنة من تاريخ البشر، فكانوا أول رجال أمكنهم الرجوع بالبصر ليجيلوا أنظارهم في ذلك الماضي حيث يشرفون على مشهد عميق من حياة الإنسان الأولى. ولا بد أنهم كانوا أثناء قيامهم بذلك يتلمسون في الظلام أحسن تعبير يعبرون به عن آرائهم نحو نظام بني البشر، على أن يكون ذلك التعبير متضمنًا سر تلك الأعمال العظيمة التي ورثوها عن أسلافهم السابقين.
وقد انتهى بهم الأمر فعثروا على بغيتهم التي نشدوها في التعبير عن ذلك بكلمة واحدة جامعة حوت في ثناياها كل معاني السمو والرفعة في الحياة البشرية، تلك الكلمة هي «ماعت»، التي تعد من أقدم التعابير المعنوية ذات المعاني المتعددة التي وصلت إلينا من كلام بني الإنسان منذ الأزمان الغابرة، وهي التي سبق لنا التعبير عنها هنا بالكلمات الآتية: «الحق» و«العدل» و«الصدق»؛ وذلك لأن تلك المعاني كلها قد انتهى الأمر بأن مُثِّلت في لغة المصريين الأقدمين بهذه الكلمة الواحدة «ماعت»، وتلك الكلمة كانت تستعمل عند أجدادهم في أول الأمر لأداء معنى واحد فقط هو «الحق» بمعنى «الصواب»، كما نستعمل نحن كلمة «صواب» هذه في العلوم الرياضية والأخلاقية معًا.
ثم إنه في بداية عصر الدولة القديمة أخذ معنى كلمة «ماعت» هذه يتسع تدريجًا حتى صار يشمل معنى واسعًا عظيمًا، فلم تكن تعني نقيض الباطل فقط، بل تعني نقيض الأخطاء الخلقية على وجه عام أيضًا، على أننا لا نعلم متى بدأ هذا التطور في معنى تلك الكلمة، غير أن الذي يجدر بنا ملاحظته هنا أن كلمة «ماعت» هذه لم ترد في الجزء الذي عثرنا عليه من المسرحية المنفية، وإن كان من الجائز أن عدم ذكرها في هذا الجزء راجع إلى مجرد المصادفة المحضة.
وبعد سنة ٣٠٠٠ق.م بدأ عظماء رجال الدولة القديمة يجدون في معاني كلمة «ماعت» ما يعبر عن الأمور التي جاءت وليدة التجارب القومية، والتي كان لها أثرها في الحياة العامة للأمة، فمع أن تلك الكلمة العظيمة لم تفقد شيئًا من دلالتها على صفات الإنسان الخلقية الشخصية، فإنها صارت تعبر أيضًا في نظر عقول رجال الفكر في الدولة القديمة عن معنى النظام القومي؛ أي النظام الخلقي للأمة والكينونة القومية التي تسير تحت سلطان إله الشمس.
ولنعد بذاكرتنا الآن قليلًا إلى ذلك الماضي الذي أمكن حكماء الدولة القديمة أن يُرجعوا البصر للتأمل فيه، ذلك الماضي المتسع الذي كان في أنظارهم سببًا لاتساع معنى كلمة «ماعت» أيضًا حتى ألبسها كل تلك المعاني الآنفة، فقد كان لدى أولئك الحكماء قوائم بأعمال الملوك الأوائل الذين حكموا البلاد المصرية قديمًا قبل العهد الذي تأسس فيه الاتحاد الأول، فكانوا على علم بأن ذلك الاتحاد قد مهد له حكم الدويلات المحلية الصغيرة، وأنه بما تم فيه من توطيد أركان النظام في مصر قد أفضى مرة ثانية إلى قيام الاتحاد الثاني الذي دام عهده ألف سنة؛ أي من حوالي القرن الخامس والثلاثين إلى حوالي القرن الخامس والعشرين ق.م.
ومن المهم جدًّا أن نلاحظ أن هذه هي أول مرة في تاريخ البشر نجد فيها ألفًا كاملًا من السنين المتصلة الحلقات دون أن يمس فيها اتصال الخبرة القومية، أو بعبارة أخرى اتصال التطور البشري في هيئة قومية موحدة، فقد كان تطورًا ثابتًا قامت فيه أمة يبلغ تعدادها بضعة ملايين من النسمات البشرية لأول مرة فوق الكرة الأرضية بتأسيس بناء ضخم من الحياة البشرية المنظمة دام مدة ألف سنة متوالية لا انفصام لها.
وقد كان التأثير البالغ الذي استولى على نفوس أولئك الحكماء من تأملهم في حالة تلك الحكومة الراسخة الأركان ونظامها الدقيق الذي كان يسير بدون انقطاع طوال مدة ذلك العصر هي التي جعلت كلمة «ماعت» المصرية القديمة تتسع وتزيد زيادة محسوسة فتحمل من المعاني أكثر مما كانت تحمل من قبل، حتى صارت في نهاية الأمر لا تدل فقط على معنى «العدل» أو «الصدق» أو «الحق»، مما كان يتصور رجال عصر الأهرام أنه شيء يترسمه ويسير بمقتضاه الفرد الإنساني، بل صارت أيضًا تدل على معنى الحقيقة الواقعة التي تسود الناحية الاجتماعية والحكومية، بل أصبحت تلك الكلمة تعبر عن النظام الخلقي للعالم، وصار هذا النظام وحكومة الفرعون يدلان على معنى واحد. وقد كان كبير القضاة في المحاكم المصرية القديمة يحلي صدره بصورة من اللازورد رمزًا للإلهة «ماعت»، وكان من عادة القاضي أن يشير إلى المُحق من المتخاصمين الواقفين أمامه بتوجيه ذلك الرمز إليه.
وكان الحكيم «بتاح حتب» يفخر بسيادة «ماعت» وخلودها فيقول: «إن ماعت عظيمة، وتصرفها باقٍ، فلم تخذل منذ زمن بارئها.»
وكثيرًا ما نجد على الآثار القديمة أن ماعت هي الشيء الذي يعتبره الفرعون شخصًا يشد أزره أمام الفوضى والظلم والخداع الذي كان يقع ضده من مناهضيه للاستيلاء على العرش، ممن كانوا يبتلون الشعب بما يحدثونه من سوء النظام. ولقد كانت ألف السنة التي قضتها الحكومة المنظمة بتلك الكيفية هي التي وضعت أمام أعين حكماء الدولة القديمة تلك الصورة الجليلة التي تمثل الأثر الفعال والإحسان البالغ اللذين أسدتهما «ماعت»، مما أسبغ عليها معنى تاريخيًّا لم يكن من الممكن اكتسابه بطريقة أخرى.
ومن الواضح أن المجتمع والحكومة معًا، وكذلك التأثيرات الاجتماعية والحكومية معًا، قد أدت جميعها إلى ذلك النظام الذي قام بتلخيصه الحكماء المصريون القدماء في كلمة جامعة واحدة هي «ماعت».
فإن «ماعت» قد نشأت في أول أمرها بمثابة أمر شخصي خاص بالفرد للدلالة على الخلق العظيم في الأسرة أو في البيئة التي تحيط بالإنسان مباشرة، ثم انتقلت بالتدريج في سيرها إلى ميدان أوسع فصارت تمثل الروح والنظام للإرشاد القومي والإشراف على شئون البشر بحيث تكون الإدارة المنظمة مفعمة بالاقتناع الخلقي.
وبذلك يتضح لنا على الفور عندما ننظر إلى الأمام متجهين نحو آسيا، لماذا أتت حضارة غربي آسيا متأخرى في مثل هذا التطور.
فالتصور المصري للنظام الإداري والخلقي العظيم، الذي أطلق عليه اسم «ماعت»، والذي صار أسمى مظهر للحضارة الشرقية القديمة، كان — كما رأينا — نتيجة للتطور الاجتماعي الحكومي مدة ألف سنة من حياة أمة عظيمة موحدة ثابتة منظمة كانت تخطو دائمًا في خلالها نحو الارتقاء والتقدم، في حين أن فكرة ذلك النظام الإداري والخلقي، بالرغم من تمثيله إلى حد ما في الصورة الجميلة التي ظهر بها الملك العادل بعد ذلك العهد بألفي سنة على يد الأنبياء العبرانيين، فإنه لم يظهر بشكل واضح في غربي آسيا إلى أن جاء «زروستر» يحمل نظامه الخلقي العظيم، وذلك بعد أن علت كلمة بلاد فارس في عهد «قورش» وخلفائه. وفي تاريخ غربي آسيا ما ينبئنا بوضوح عن سر استحالة ظهور هذا التطور فيه قبل ذلك العهد؛ إذ نجد في مصر التي كانت تعرج في مراقي التقدم في عهد الاتحاد الثاني وعصر الدولة القديمة، حضارة كانت ثمرة عهد لا يقل عن ألف سنة من التجارب الاجتماعية، يقودها نظام قومي ذو أسس ثابتة نشطة، فيها من القوة الحيوية ما مكنها من الدوام أكثر من ألف السنة التي مكثتها، في حين أن بابل التي كانت تعتبر أشهر ممالك غربي آسيا وقتئذ قد استمرت خلال ألف السنة هذه ترزح تحت عبء الفوضى من جراء الحروب الصغيرة التي كانت في معظم ذلك الوقت تشتعل نيرانها بين دويلات المدن التي كانت تتألف منها وقتئذ.
أما في مصر، فإنها كانت حتى قبل بداية هذه الألف من السنين قد انتهت من الشحناء التي كانت قائمة بين دويلات مقاطعاتها بزمن طويل. حقًّا إن الحضارة المادية كانت متساوية في أعمارها في كلٍّ من غربي آسيا ومصر، ولكن الحضارة في أوسع نواحيها ليست إلا نتيجة لتطور اجتماعي طويل، ومن ثم نجد أن البراهين التي يتمسك بها الأثريون للاستدلال على أن المدنية البابلية (التي لم يكن لديها الفرصة الكافية للنمو والتطور الاجتماعي المطرد) كانت أقدم من المدنية المصرية، بحجة ما عُثر عليه من البُرت النحاسية وصناعة صياغة الذهب، ليست إلا براهين سطحية لا تستحق النقد والتفنيد. ولا جدال في أن التقدم السياسي والاجتماعي وتطور الحضارة البشرية على وجه عام، كان ظهورها كلها في وادي النيل متقدمًا بعدة قرون على أمثاله في غربي آسيا. والحقيقة أن الحضارة في «بابل» أتت متأخرة في تطورها الديني والاجتماعي والسياسي عن حضارة مصر بما لا يقل عن ألف سنة.
وتلك الحقيقة لها أهميتها؛ إذ تعدنا لفهم الأهمية الفريدة لمدة ألف السنة العظيمة التي تطورت فيها الحضارة في مصر ذلك التطور الخطير؛ فعلى ضفاف النيل بالذات نرى طليعة التقدم البشري؛ أي بوادر شعور الإنسان لأول مرة بكنه الفتح الذي بدأه، وبعد أن جنى ثمرة التجارب القومية التي استمرت ألف سنة أخذ يعد نفسه لخوض معركة الشئون الاجتماعية التي كانت تتهيأ لمهاجمته من الداخل، فقد ظفر هو فيها في تلك المدة بأعظم الانتصارات الباهرة على أعدائه الخارجين، في عالم القوى المادية، ولكنه الآن أمام الوازع الداخلي الذي صار هو الآخر بدوره يطلب منازلته لدخول ميدان جديد أسمى من ميدان المادة، بعد أن كان ذلك الميدان السامي لا يعرف عنه المصري القديم شيئًا إلا القليل.
وتوجد عندنا الأدلة القاطعة على أن أقدم المبادئ الخلقية عند قدماء المصريين أخذت دورها في النمو وهي مقرونة بإله الشمس لا بالإله «أوزير»؛ لأن نصائح «بتاح حتب» تقول بجلاء إن إله الشمس هو خالقها (أي خالق العدالة). نجد ذلك واضحًا في فقرة من وثيقة يرجع عهدها إلى الدولة الوسطى حيث حشر أتباع «أوزير» فيها اسمه حشرًا، وهذا دليل هام على اشتعال نار الحرب الدينية التي كان يزكيها أتباع «أوزير» في ذلك العصر. ومما يؤسف له في هذا الصدد أن أول إله تخيله المصريون قاضيًا خلقيًّا في عالم الحياة الآخرة لم يُذكر اسمه بالنص، وإنما وصف بأنه «الإله العظيم» فقط من غير أن يُذكر له اسم. وقد وردت هذه الصفة بتوسع في فقرة واحدة بالعبارة التالية: «الإله العظيم رب السماء.» ولذلك لا يكاد يوجد مجال لأن يكون المقصود من هذه العبارة أي إله آخر غير إله الشمس. وهذا الاستنتاج يؤيده جميع ما وجدناه من الكتابات في متون الأهرام، حيث يعبَّر مرارًا وتكرارًا عن إله الشمس بأنه «رب المحاسبة في الآخرة»، ولا نزاع في أن هذا الإله هو الذي يقصده «إنِّي» أحد أشراف «دشاشة» في قوله: «أما من جهة كل الناس الذين سيعملون السوء ضد هذا (يريد القبر)، والذين يعملون أي شيء يسبب خراب هذا القبر، والذين يتلفون الكتابة التي فيه؛ فإنهم سيحاسبون على ذلك أمام الإله العظيم رب الحساب في المكان الذي تحاكم فيه الناس.»
أما التطور السريع الذي ظهر فيما بعد في النصائح الخلقية في مذهب «أوزير» وكذلك استيلاء «أوزير» على مكانة القاضي في المحاكمة الأخروية، فلم يكن قد ظهر بعد في متون الأهرام؛ لأن التطور الذي جعل تلك العناصر تظهر بوضوح في عهد الدولة الوسطى كان قد بدأ في ذلك العصر المظلم الذي جاء إثر انتهاء عصر الأهرام. وعلى ذلك يكون إله الشمس — خلافًا للرأي السائد — هو أقدم الحامين للخلق الفاضل، وأول من سُمِّي بالقاضي العظيم في عالم الحياة الآخرة.
وأما «أوزير» فإنه ظهر بعد ذلك العهد بألف سنة قاضيًا خلقيًّا عظيمًا في الحياة الآخرة، على إثر اعتباره المدعي المنتصر في محاكمة عين شمس وحامي الأموات الذي تغلب على كل أعدائه. على أن اغتصاب «أوزير» لهذه المكانة يعد دليلًا آخر على التطور الذي لم يكن في الإمكان مقاومته في صبغ الديانة المصرية القديمة بالصبغة الأوزيرية، وإلى هذه الأحداث التي جاءت متأخرة، والتي استقى منها العلماء الأحداث آراءهم، يرجع السبب في النتيجة الشائعة القائلة بسيادة «أوزير» الخلقية من عهد بعيد، وعلى أية حال فإن أقدمية المذهب الشمسي واضحة تمامًا في هذا الموضوع كما هي واضحة في تفاصيل أخرى.
على أن هذه المطامح الخلقية المبكرة كانت لها حدودها؛ إذ لا ننسى أننا نتناول البحث في عصر مضى عليه الآن ما بين ٥٥، ٤٥ قرنًا من الزمان. وقد رأينا أن أهم الانتصارات التي قام بها الإنسان في ذلك العصر القديم كانت في منازلة القوى المادية، وقد خرج منها خروج الظافر الغالب، في حين أن الإنسان القديم وهو في وسط طائفة من الارتباكات ذات المؤثرات المضللة قد أخذ يرى قبسًا صغيرًا من القيم الجديدة التي تسمو فوق الأعمال المادية المجردة.
فيجب ألا نتخيل إذن أن الواجبات التي كان يفرضها ذلك التصور الخلقي كانت شاملة عامة، أو أنه كان في مقدوره أن يشمل كل ما ندركه نحن في معناه من الصفات؛ فمثلًا نجد أن مستلزمات القاضي العظيم في عالم الآخرة كانت لا تتناقض مع أفظع الملاذ الشهوانية؛ إذ لم تكن تلك اللذات الشهوانية المباحة في عالم الآخرة مقصورة على ما صوَّرته لنا متون الأهرام، بل نص على الطرق الفعلية التي يحصل بها إشباع تلك الشهوات؛ ولذلك كان يؤكد للملك المتوفى حيازته على اللذة البهيمية في أشنع معانيها؛ من ذلك ما جاء في بعض النقوش من: «أنه هو الرجل الذي يغتصب النساء من أزواجهن من أين شاء وحينما يشتهي قلبه.»
ومهما يكن من أمر فإن نشأة الاعتقاد بأن النعيم في جميع صوره يتوقف على ما للإنسان من الصفات الخلقية في الحياة الدنيا، تعد من الخطوات الخطيرة، ولا بد أن يكون الشعور القوي بالوازع الخلقي هو الذي جعل الفرعون نفسه، المقدس المعتبر فوق كل قانون أرضي، معرضًا للحضور أمام ذلك القاضي السماوي، ومكلفًا بأن يتزود لذلك بالزاد الخلقي. وهذه الخطوة لا يمكن الوصول إليها طفرة واحدة، ومن الممكن أن نرى حتى في مدة القرن ونصف القرن التي شغلتها عصر متون الأهرام بعض أثر التقدم في الشعور الخلقي، وهو يشمل بأحكامه الشديدة حتى الملك نفسه؛ فنجد مثلًا في فقرة من متون الأهرام البيان التالي عن الملك: «إن هذا الملك «بيبي» بريء.» وقد حدث أن تلك الفقرة التي وردت بها هذه العبارة قد وُجدت بصورة مختلفة في نقوش هرمَي «وناس» و«تيتي»، وكانا ملكين حكما قبل «بيبي». ففي كلٍّ من النصين المعدلين لا نجد ذكرًا لعبارة البراءة، وينتج من ذلك أنه بعد مضي مدة تترواح بين الستين والثمانين سنة رأى كاتبو تلك المتون أن إضافتها من الصواب فأضافوها.
على أنه ليس من السهل أن يقرأ الإنسان تقدُّم شعب ما ورقيِّه الروحي والعقلي في آثار هي قبل كل شيء مادية، كما لو كان يقرؤها في الوثائق الأدبية؛ إذ من السهل أن يضل الإنسان ويخطئ في ترجمة تلك الإشارات الضئيلة التي تمدنا بها تلك الآثار المادية المحضة. والواقع أن هذه الآثار تخفي وراءها طائفة من القوى الإنسانية والتفكير البشري لا يمكننا الاهتداء إلى معظمها، ومع ذلك فإنه يكاد يكون مستحيلًا على الإنسان أن يتأمل مقابر ملوك الأسرة الرابعة الهائلة المعروفة بأهرام الجيزة، ثم يوازنها بالمقابر الملكية الصغيرة التي أقامها ملوك الأسرتين التاليتين بعدها دون أن يرى وراء هذا التغيير المفاجئ والمدهش معًا أسبابًا فوق الأسباب السياسية المحضة، فأهرام الجيزة العظيمة — كما قلنا من قبل — تمثل حرب القوى المادية الهائلة بغية الوصول بالعوامل المادية المحضة إلى تخليد جثمان الملك المادي بإحاطته بغطاء هائل من المباني ليس في الإمكان اختراقه حتى يُحفظ فيه إلى الأبد مع كل ما كان يربط روح الملك بالحياة المادية قبل الموت. ومع أن أهرامات الجيزة العظيمة تدل بعظمتها على أنها أكبر شاهد باقٍ ينطق بظهور أقدم إنسان منظم، وبانتصار الجهود المتضافرة، فإنها في الوقت نفسه برهان صامت يعبر تعبيرًا فصيحًا عن محاولة الإنسان الحصول على نعيم مقيم خالد بالقوة المادية المحضة.
ولم يكن من الممكن لمثل ذلك النضال الهائل ضد قوى التحلل والفناء أن يستمر في طريقه إلى غير نهاية، وذلك لأسباب طبيعية محضة انضمت إليها اتجاهات سياسية أيضًا، ولكن مع كل هذه الأسباب مجتمعة فإن مجرد إدخال متون الأهرام في المقابر الملكية خلال القرن ونصف القرن الأخير من عصر الأهرام كان على وجه التقريب في حد ذاته تخليًا عن ذلك الصراع الهائل المعتمد على القوى المادية والتجاءً ظاهرًا إلى عوامل أخرى أقل ظهورًا من ذلك. كما أن الاعتراف بالحساب في الآخرة وبحاجة الإنسان إلى قيم خلقية يتصف بها في الحياة الآخرة يعد في الواقع أعظم من ذلك أهمية في نفس هذا الاتجاه، فهذه الخطوة تعلم لنا التحول من الارتكان على العوامل الظاهرية الخارجة عن شخصية المتوفى إلى الاعتماد على القيم النفسية الباطنة، وبذلك بزغ فجر عقيدة خلود الروح لأول مرة على عقول البشر، باعتبار الأبدية أمرًا يحصل عليه الإنسان بالروح لا بالجثمان.
وقد كان ذلك فاتحة عهد انتقال من المزايا المادية الظاهرة إلى الصفات الروحية الباطنة؛ ولذلك كان أيضًا خطوة من الخطوات الهامة التي كنا نترقبها في ذلك المنهج الطويل، وهي ابتداء ظهور الشخصية المستقلة بعد أن كان كل شيء ينسب إلى جملة الشعب؛ أي إن فجر ظهور كفاية الشخصيات الفردية وتفوقها قد طلع على عقول أولئك الناس الذين عاشوا في ذلك العالم القديم، وصارت مثلهم العليا تنتمي إلى أخلاق أكبر الآلهة عندهم، كما اعتبر مُلك ذلك الإله عالمًا خلقيًّا عظيمًا يتولى الملك في الأرض إدارته وتدبير أموره نائبًا عن الإله لفائدة الأمة المصرية.
بذلك الفوز السامي القويم تم هذا التطور الذي أحرزه عصر ألف السنة التي بدأت مع بداية الاتحاد الثاني وانتهت بعد حلول سنة ٢٥٠٠ق.م بقليل.