الفصل الأول
يعلم أهل مدينة القاهرة، والذين قدموا إليها متفرجين من الأجانب وغيرهم من عهد قريب أنَّ في قسم الأزبكية فندقًا شهيرًا بالفندق الشرقي مكتوب عنوانه بالفرنسية (أوتيل أورينتال)، فوق واجهته هدى للقاصدين.
كان في إحدى غرف الفندق قريبًا من بابه الجنوبي رجلٌ يُناهز عُمْره الستين، جميل الهيئة، عريض المنكبين، مرتفع القامة، ممتلئ البدن، قوي الجسم، طلق الوجه، لين العريكة، مولع بالمزاح والمجون، واسمه «همام». كان جالسًا على مقعد من القطيفة الحمراء، لابسًا أوسمة الجهادية، فإنه سبق فقضى السنين الطويلة في هذه الخدمة الافتخارية، ونال المراتب السامية والدرجات الرفيعة فيها.
وكان في وسط الحُجْرة مائدةٌ مُعَدَّة لجلوس أربعة أشخاص، وعلى بابها غلام قائم في الخدمة، وللحُجْرة شباك جنوبي فوق باب الفندق مُطِل على حديقة الأزبكية وموقف العربات، وعليه واقف فتى لم يتجاوز السابعة والعشرين، جميل الصورة، صبوح الطلعة، نظيف الثياب، لبق، جلس مُتَّكِئًا على مسند الشباك، ينظر إلى الخارج بتمعنٍ واهتمامٍ … واسم الفتى «فؤاد».
فبعد أن فرغ همام من كلامه مع الخادم نادى فؤادًا، فلم يسمع نداءه؛ لاشتغاله بأمرٍ ذي بالٍ، فكرر همام النداء، ثم تقدم إليه يُنبِّهه، وأمسك بطرف ثوبه قائلًا: ما بالك لا تُجاوبني؟ أُناديك فلا تسمعني حتى كأني أصرخ في جمادٍ، فقد بحَّ صوتي من النداء … أخبرني ماذا تنظر؟ وأي شيء يشغل فكرك؟
قال: أنظر إلى امرأة أرى منها أمورًا غريبةً لو يهُمُّك ذلك.
قال همام: وأي شيء لا يهمني من حديث النساء؟ ألعلك رأيتني في زمرة المتقاعدين، فظننت أني أعرضت عن زهرات الدنيا، أو زعمت أني عاجز عن القيام بخدمة أهل الجمال. أين غادتك الهيفاء؟ أرنيها.
قال ذلك وتقدم إلى النافذة، فأشار فؤاد بيده إلى امرأةٍ جالسة على رصيف عند موقف العربات بثياب رثَّة، تلوح على هيئتها أمارات الحزن والضعف والكبر، فلما رآها همام رجع إلى الوراء مستعينًا بالله من سحنتها، وقال لصاحبه: أنت تسخر بي، أهذه المرأة الدميمة شغفتك؟! فكأنها من بقايا ثمود وعاد، أو أنت تخفي الحقيقة عني؟!
قال فؤاد: وحق معزتك عندي إني ما نظرت إلا إلى المرأة التي رأيتها، ولم يشغفني هواها، إنما نبَّهني إليها اضطرابها وعلامات الغمِّ الظاهر على وجهها، فتيقنتُ أن لها شأنًا من الشئون غريبًا.
قال همام: ظننتك تتصابى شغفًا في غادة هيفاء، مشرقة الوجه، لينة المعاطف، فأوليتك عذرًا، ولم ألمك مع علمي بأنك راغب في الزواج، فلا يغفر لك عملك … فشفيعك عند لائمك وعذولك تجرُّد خطيبتك من الجمال، فإنها ليست فريدة في عصرها حسنًا وظُرفًا، ولا وحيدة في دهرها أدبًا ولطفًا، فلا عجب إن صبوت إلى حسناء، والله ما أراك باشتغالك في المرأة التي أمامك إلا باردًا صقيعًا.
ولما قال همام هذا، أعرض عن فؤاد، وإذا بعربة وقفتْ أمام باب الفندق تحت شباك الحجرة، فقال فؤاد: إن لم يُخطئ ظني فهذا غانم مع ابنه سعيد.
فضحك همام وقال لصاحبه: إنك تجهل ولا شك أمر غانم وبخله الموصوف. فوالله إنه ليطوفنَّ مصر جريًا على قدميه، فلا يركب عربةً أو حمارًا، أما لو رأيته راكبًا يومًا فاعلم أنه مدعو وأن الذين معه هم الذين يدفعون الأجرة عنه.
ثم إنه تقدم وفؤاد لينظرا جلية الأمر، فأبصرا المرأة المَحكِيَّ عنها قادمة حتى وقفت أمام باب الفندق متفرسةً جيدًا وجوه الذين في العربة، فخرج منها أربعة أشخاص كانوا من نُزلاء الفندق، فلما لم تجد بينهم مطلوبها ارتدَّتْ على عقبها، واشتدَّت علامات الغمِّ والحزن على وجهها كمن هو في درجة اليأس الرائع.
فقال فؤاد: إن أمر هذه المرأة لغريبٌ، فهذه هي المرة الخامسة أُراقبها، فأراها كلما أَقْبَلَتْ عربة دَنَتْ من باب الفندق ثم ترجع، فما أعلم أي شيء يُحركني لمعرفة سرِّها والاهتمام بأمرها.
قال همام: لأعظم من استغرابك أمرها، استغرابي تعبك واشتغالك بالسفاسف، فكأن شباب هذا العصر اتَّفقوا على حُبِّ العجائز، أو زعموا أن ذلك من علامات التَّمَدُّن، فوالله إني غير هذا المشرب لا أميل إلا إلى الغيد الحسان وكل كاعب زهراء.
قال فؤاد: لم يشغفني منظر المرأة، وإنما أدركت أن لها نبأً غريبًا فأحببتُ أن أستقصيه، وقد يتفق أن تكون المرأة تعيسة ومسكينة شابةً وعجوزةً؛ إذ ليس لنزول البؤس وقتٌ محدودٌ، ولم أنظر إلى هذه المرأة نظرةَ شهوةٍ وهي نصف شوهاء. وجدت في حالها ما يُوجب الأسف عليها والرأفة بها؛ فراقبتها لأعلم النهاية.
قال همام: إنما يشغف الناس ويهتمون للجمال أن تصيب أهله مصيبة، ولا يهتمون بمن مضى زمنه، وذوى غصنه، وأفل نجم سعوده.
قال فؤاد: إن كان لا يُعجبك إلا الظواهر، وليس في قلبك محلٌّ للرقة والحنان، فلا عجب أن تنفر من رؤية هذه المسكينة، وتعدَّ كبر سنها ذنبًا كبيرًا لا يُغتفر.
قال همام: أما ترى أن مَنْ طَعَنَ في السن هو أولى بعناية الله لا البشر؟
ثم إنَّ همام انصرف بوجهه عن صاحبه لحظة، وأخرج من جيبه ساعة، ونظر فيها ثم قال: مضى الوقت المُعيَّن لأكل الطعام، وصاحبنا غانم غاب مع ابنه لم يحضرا، فوالله إني ما أكره شيئًا كرهي الانتظار، وما أرى الرجل أقل أدبًا مثل أن يخلف ميعاد أكله مع صحبه وخلانه.
قال فؤاد: إن حضرا فأهلًا وسهلًا، وإن غابا فتوفير ولا أسف.
قال همام: ما أراك إلا مبغضًا لغانم وأهله، رغمًا عن إرشادات والدتك ومواعظها ونصيحتها لك بمجاملة أهل هذا الرجل وتبجيله واحترامه كما يجب، فمن اللازم أن أُكلِّمك قليلًا في هذا الصدد، فاقفل هذه النافذة، واجلس على كرسي في جانبي، فقد صعقتني ضجة الطريق، ومشاهدة سحنة صاحبتك العجوز قتلتني، وإنَّ رؤيتها لتقطع الرزق وما في ذلك شك.
ولما جلس فؤاد قال له خاله: قد بلغت يا فؤاد السابعة والعشرين من العمر، لك إيراد بالغ خمسة آلاف فرنك في السنة تقريبًا، وهو مبلغ طفيف قليل، لا يُمكِّنك من المعيشة بين أقرانك بالراحة والانبساط، وكثيرًا ما خاطبتك والدتك بشأن زواجك بالسيدة سعدى بنت صاحبنا غانم التاجر الغني المشهور فامتنعت وعاندت. ففي أي زمنٍ تتزوج إن تخلفت عن التأهل في زمن الشباب؟ وماذا يجول في رأسك من الخواطر حتى امتنعت؟ أخبرني عن السبب ولا تُغالط.
قال فؤاد: تسألني عن سبب امتناعي فأُجاوبك أولًا أن السيدة سعدى في غاية الدمامة والقُبْحِ، وليست على شيءٍ من الحُسْنِ.
قال همام: قد ضللت، ولك عليَّ البرهان بأن الدمامة في المرأة من السجايا الحميدة.
قال فؤاد مُستتبعًا، كأنه لم يسمع خطاب خاله: ثانيًا أنَّها غير نبيهة.
قال همام: وهذه صفة ثانية مطلوبة في النساء.
قال فؤاد: وبالتفرس فيها نراها متصنِّعةً، قليلةَ الذوقِ، عديمةَ الإحساسِ.
قال همام: كل هذه أوصاف سنية في النساء، تفوق الذهب والفضة قدرًا وقيمةً.
قال فؤاد: وكأنما هي صنم من أصنام الجاهلية، لا يُؤثِّر عليها كلام، ولا يظهر في وجهها كدر ولا شيء من الترح والفرح، خلقها الله لحمًا على عظم، مجردة من مميزات نوعنا الإنساني عن غيره.
فأجاب همام مسترسلًا في ردِّه قائلًا: واللهِ يا فؤاد إنك لجاهلٌ بالنساء، فلا تعي من أحوالهن شيئًا، ولا لوم عليك إذ لم يتثقف بعدُ ذهنك ولُبُّك لتُميِّز بين السخيف والحسن، ولم يفدك شيئًا ذكاء والدتك وما قام فيها من صفات الحزم وسمو المدارك وإصابة الحدس، فخذ الخبر الصحيح مني عن أمور النساء، فإني عارفٌ بأطوارهنَّ، عالمٌ بأسرارهنَّ وسرائرهنَّ، وسأبسط لك القول بالكفاية لتنجلي لك الحقائق، فتُميِّز بين الغثِّ والسمين، وتعلم ما يُحمد وما يُذم من خصالهنَّ، وما هو جوهري لازم نافع، وما كان بعكس ذلك عرضًا لا عبرة به تغني الحال عنه، وهذه نصيحتي إليك: إن رغبت في خليلة تلهو بها لأَجَلٍ مسمًّى من الزمان فاطلب الجميلة ذات الظُّرف والدلال والذوق اللطيف والمحاسن والعقل، وإن رغبت فيها خليلة شرعية تتزوجها على سُنَّة الله ورسوله، فأنت في غنى عن كل ذلك بامرأة غنية، وإلا فرأيك ضليل وعن الصواب بعيدٌ بُعد السموات العُلى عن أرضنا السفلى وما دونها في الهابطين.
قال فؤاد معترضًا: كيف يمكن لزوج الدميمة محبتها إن أمكن اجتماع أليفين على غير المحبة؟
فأجاب همام بقوله: حسبُك يا فؤاد دليلًا على غرورك وجهلك العَنَاءُ الذي تجلبه لك الزوجة الجميلة الوجه، الرقيقة الشعور، الدقيقة الفكر، فلن تجد معها راحة البتة … فإن جمالها الفتان يستأسر القلوب، ويسلب عقول العُشَّاق؛ فيرنون بألحاظ الغرام إليها فتُصيبهم وتُبادلهم الهيام والشوق، فصوِّر لعقلك ذلك، وتأمل جيِّدًا حالة الزوج المغبون تجدها بئس الحالة، فما أظن أن رجلًا عاقلًا شريفًا على صون عرضه وحفظ كرامته يقبل بها. أمَّا لو كانت الزوجة بعكس ذلك قليلة الحسن إلا أنها صحيحة الجسم حسنة التهذيب كالسيدة سعدى، وجدت الهناء في معاشرتها، وطابت أوقاتك بقُربها، ولم يزاحمك عليها مُزاحم، فحفظت عِرْضك. والعرض ليس بالشيء اليسير عند اللبيب الحازم العزيز النفس. ثم قال: ولو تدبَّرت قولي وتأمَّلت أن ابنة غانم موسرة، يبلغ إيرادها السنوي أضعاف إيرادك ودخلك، لرأيت أنها غنيمة باردة تُصيبها بغير عناء، فكيف تُعْرِض عنها؟ وبعدُ فإني أخاف عليك من الغيرة تأخذك إن تزوجت بامرأة مليحة حسناء، فينغص عيشك؛ لعلمي بغيرتك الشديدة، وما هو قائم من أخلاقك من الأنفة وعزة النفس، فلا أضمن لك السعادة وراحة البال وصفو الخاطر ورغد العيش إلا أن تتزوج بامرأة قليلة الحُسْنِ والأوصاف الجميلة.
قال فؤاد: أجل، قد قلت حقًّا، ولكنني أعترف بضعف طبيعتي البشرية، فإني أُفضِّل الزواج بحسناء مليحة الأوصاف، غير مُكترثٍ بالعناء الذي يُصيبني بسببها، فذلك أهون عليَّ من زواجي بامرأة دميمة الشكل، لا يميل إليها قلبي.
قال همام: ليس حديثنا في المحبة.
قال فؤاد: إن صدقتك، فإنني لم أشعر بَعْدُ بنار الحُبِّ في فؤادي، وإنما أخاف أن يثور سعيرها دفعةً واحدةً، وأكون قد تزوجت، فأحار كيف أصنع؟ فإمَّا أن أقتلَ نفسي، وإما أن أخرق عهد زوجتي فتخونني، وتقوم القيامة بيني وبينها. ولا يخفى عليك أن قِوام العائلة محمولٌ على تبادل المحبة بين الرجل وقرينته؛ فأي قوام وأي نظام ترجوه إن تزوجت بامرأة لا أحبها إلا أن تكون يا خالي قد رضيت لي التعب والنَّصَب والبلاء المقيم؟!
فلما سمع همام حجة الفتى، حاول المغالطة بالضحك وقال: أخطأت يا عزيزي الصواب، وأنزلت الزَّواج غير منزلته، فقد يصح قولك على القوم الذين يأخذون على الظواهر، ولو بحثت ودققت لرأيت أنك لم تقل شيئًا معقولًا، ولئن سألتني عن رأيي أجبتك أني ما أرى بأسًا أن يتزوج الرجل كل يومٍ بامرأة، فما يُكلَف بمحبتها والإخلاص إليها، وإلا فالزواج هلاك يُحشر فيه الزوج حيًّا.
ومضى همام مُطنبًا في شرح حالة الرجل المُتزوِّج بامرأة قبيحة الشكل دميمة المنظر، وأنه يكون خلوًا من الشواغل والمتاعب. وبينما هو يتكلم دخل خادم الفندق يُخبر بقدوم امرأة تطلب الدخول، فسأله عن صفتها وسنِّها، وهل هي قبيحة أو جميلة؟ فأجابه الخادم أنها قبيحة مُتقدِّمة بالسن، فأَنِفَ همام عند سماع ذلك من دخولها، وقال للخادم: أغنانا الله عن رؤيتها، ثم سأله: هل أخبرته بشيء؟
فقال: إنها طلبت مقابلة الخواجه غانم، وزعمت أنه في هذه الحجرة.
قال همام: أدقَّقتَ النظر فيها؟
قال الخادم: نعم، دقَّقتُ فيها النظر وسوف تبصرها.
قال همام: صدقتك، وعرفت أنها ثقيلة بمجيئها في هذا الوقت، وهو أوان الطعام.
ثم إنه التفت إلى ابن أخته يقول: مِن الواجب علينا احترامًا لصاحبنا غانم أن نُقابل من يأتي لزيارته أو يكون له معه اتصال ومعرفة.
فقال فؤاد: لا بأس بذلك. وأَمَرَ الخادم بأن يُدخل المرأة، فلما دخلت إذا هي تلك التي رآها تقف مضطربة أمام باب الفندق عند موقف العربات، فقطب همام جبينه لرؤيتها، وانصرف بوجهه عنها إلى أقصى الحجرة ساخطًا لاعنًا يقول: ألا قبَّحها الله من عجوزٍ تكاد تنال الأرض بوجهها … إن منظرها ليقطع شهية الأكل للجائع، ويتخم طعام المتغذي، قاتلَ الله غانمًا وعشيرته.
وكانت المرأة على الحقيقة شمطاء، مُجعدة الجبين، صفراء اللون، واهية القوى، رثَّة الثياب، وعلى وجهها علامات الغضب، وعيناها جاحظتان، وأخذت تلتفت يمينًا وشمالًا باحثة عن غانم، فلما لم تره أرادت الخروج، فمنعها فؤاد لشفقةٍ أخذته عليها، وقال لها: لم يحضر بعدُ صاحبنا غانم، فإن رأيتِ أن تنتظريه، فهو لن يتأخر في ظني عن الحضور، وهذا أوانه.
قالت: أخشى إزعاجك يا سيدي.
قال: لا بأس، فادخلي واقفلي الباب، واجلسي على هذا المقعد، فتولَّى المرأة الذهول، فلم تدخل، واستمرت واقفة على الباب متكئةً، وزاد اصفرار وجهها، ورجفت قدماها حتى كادت تسقط على الأرض لولا همَّ همام وصاحبه فؤاد فسنداها بكلتا يديهما وأجلساها على المقعد، ثم إنه أصابها الإغماء فأنعشاها بالروائح، وجعلا يعالجانها حتى أفاقت وعادت إلى رُشْدِها.
وكان همام في أثناء ذلك يلوم نفسه، ويلعن الساعة التي رأى فيها وجه تلك المرأة. ونهض فؤاد يُناولها كأس ماء لتشرب، ونادى الخادم فأحضر لها طعامًا فامتنعت، وقالت: مرضي في كبدي لا في معدتي، فما يُفيدني الطعام شيئًا، وكثيرًا ما يُصيبني الإغماء، والله وحده يعلم السبب فيه.
قال همام: أنتِ على خطرٍ دائمٍ من مرضك، فلا يصحُّ خروجك من منزلك؛ لئلا يُصيبك الإغماء في الطريق؛ فلا تجدين من يهتم بشأنك، وينظر في أمرك معتنيًا، وقد تصدمك الخيل الجامحة فتكون العاقبة سُوءًا عليك.
قالت: كل شيء مصيره للفناء، والموت واحدٌ وإن تنوَّعت الأسباب.
قال: تستهينين بالموت، فوالله إني رأيته عيانًا، فلم أسمع به، وخُضت المنايا في ميادين القتال، فما أتهاون به مثلك.
ثم إن همام خشي أن يطول الجدال، ولرغبته في انصراف المرأة قال لها: مضى الوقت على غانم، فما أظنُّه يحضر الآن، فمن العبث مكوثك في انتظاره، وأرى الأنسب أن تختاري وقتًا غير هذا لمقابلته، ولك فسحة لتزوريه، فإنه سيقيم في القاهرة مدة من الزمان.
قالت: إن لي شانًا مهمًّا يحملني على مقابلته في نفس هذا اليوم، فلا أستطيع التأخير.
وما أتمَّت كلامها حتى ابتلَّت بالدموع عيناها، وزاد الوجد في وجهها، فعطف قلب همام عليها، فطيَّب خاطرها بقوله: ما يمنعك أحد من انتظاره، وإن شئت فأقيمي هنا إلى أن يحضر.
ثم جعل ينظر في ساعته متأفِّفًا، ويقول لغلبة الدُّعابة في طباعه: ليس من حُسْنِ المعاشرة أن يُبطئ الصاحب على الصاحب وقت الطعام، فها نحن في انتظار غانم نحمل في أيدينا البطون والمعدة خاوية، وما كان لي قبلُ عادة بتأخير ميعاد أكلي.
وما إن أتمَّ كلامه حتى سمع حركة قادم، وانفتح الباب لغانم مُسلِّمًا على همام وفؤاد، معتذرًا عن إبطائه.
وقد كان هذا الرجل غنيًّا واسعَ الثروة، حصلَّها بالتجارة في السودان، وأحرز فيها صيتًا عظيمًا وشهرةً فائقةً، واستمر هناك حتى انقطعت الأسباب فآب إلى مصر، وأقام في إحدى مدنها التجارية.
وكان بخيلًا شديد الحرص على متاع الدنيا مُقترًا على نفسه، وفي قلبه قسوة، وفي طباعه جفوة، فلا تأخذه رحمة على فقير، ولا يُجير المستجير، وسِنُّه تبلغ الستين، وكان في قامته طولٌ، وفي جسمه هزالٌ، غير أنَّ بنيته كانت شديدة.
تقدَّم هذا الرجل في دخوله نحو همام وجعل — كما تقدم القول — يعتذر عن تأخره لبعض الأمور العارضة، وأنه تكدَّر من ذلك، وحُمل على التأخير قسرًا عنه لا برضاه واختياره.
ثم إنه التفت يسأل عن ابنه، فلما لم يجده جعل يستقبح سيره، ويُعنِّف على غيبته، قائلًا: لي عذر يشفع بي إن أبطأت، فما العذر الذي يُقدِّمه سعيد عن تأخره عن الوقت الموقوت؟!
وبينما هو يمشي وقع نظره على المرأة التي سبقت الإشارة إليها؛ فانقبض وجهه، وانقلبت سحنته، وبدت علامات الكدر في عينه، فلم تُمهله المرأة أن تقدمت إليه ودموعها تنسكب، وقالت: حبيبي أنعم الله أوقاتي برؤياك … لو تعلم مقدار شوقي إليك بعد غيبة سبع سنوات خلتها دهورًا، أطال الزمان عليَّ فنسيتني، وغيَّرت صروف الدهر أحوالي وصورتي فما عرفتني؟
ثم إنها قبضت على كفه، وجعلت تضغطها، وهو في أثناء ذلك يتأخر عنها كمن يبغي الفرار، وحار في أمره كيف يصنع، وانحبس لسانه فلم ينطق بكلمة، وكان فؤاد ينظر مندهشًا تارة إليه وأخرى إلى شقيقته، وخاله يراقب حركات الجميع مبهوتًا معربدًا يخشى أن يطول الوقوف فيتأخرون عن تناول طعامهم على تضوره جوعًا، ولبث هكذا واجمًا حتى انطلق لسان غانم، فقال مجاوبًا شقيقته: لا جرم أني نسيتك بعد طول الفراق وخصوصًا أني لم أكن منتظرًا مشاهدتك، ولا خطر في بالي قدومك هنا.
ثم إنه التفت إلى صاحبه يعتذر عن هذا التثقيل الذي جاء في غير أوانه، والتمس إمهاله ربع ساعة من الزمن ليصرف المرأة عنه وأن يُحادثها على انفراد.
فقال همام واجمًا: اقتضى رأيك ذلك، فلا بأس أن نأكل طعام المساء سحورًا، فانظر في أمر قريبتك، بينما أنا مع فؤاد نروح حتى تكون قد فرغت من شغلك.
فلما خلا المكان لغانم نظر إلى شقيقته شزرًا، واسمها كريمة، وكانت علامة الغيظ بادية على جبينه المقطب، كمن قد جُرِّد من الإنسانية، فلم تعطفه على أخته أواصر القربى، وكأن لم يكن بينهما تعارف البتة، ودار بينهما ما سيأتي من الحديث بعد هذا.