الفصل العاشر
بعد مُضِي خمسة شهور من وفاة كريمة، كان في صباح يوم من شهر نوفمبر همام جالسًا في فسحة الفندق الكبير المعروف بنيو أوتيل يُدخن سيجارته إذ أبصر سعيدًا مارًّا في عربة من أمام الفندق، فأشار إليه فنزل من العربة وحيَّاه مُسلِّمًا، فلما جلس قال له همام: كيف حالك؟ إني مسرور بمشاهدتك، أمن زمان أنت في القاهرة؟
قال سعيد: من يومين، وكنت عزمت على مقابلتك في هذا اليوم، فجمعني بك الاتفاق، والحمد لله على رؤيتك بخير.
قال همام: هذه المقابلة لا تُعفيك من الزيارة المرسومة.
قال سعيد: واجب عليَّ أن أزورك في محلك.
قال همام بعد أن بادله كلام الوداد والصفاء على عادة الناس: هل حضرت بإذن والدك؟ فقد بلغني أنه متغير عليك، وأنه هددك بقطع ميراثك إن جئت إلى القاهرة.
قال سعيد: أخبرتك عن الكتاب الذي أرسله إليَّ منذ شهرين يدعوني به إليه إن كنت تذكر ذلك.
قال: أتذكَّره جيدًا، وكان الكتاب ردًّا على خطاب منك، وجهته إليه في طلب نقود فعوضًا عن إرسالها أرسل إليك بعض نفثات غضبه.
قال سعيد: نعم، وفوق ذلك يُهدِّدني بقطع ميراثي إن لم أعد إليه في الحال.
قال همام: عهدي بالآباء يغضبون ويتهددون فما يفعلون، ويُبرقون فلا يُمطرون.
قال سعيد: ليس الآباء سواء، فوالدي قاسي القلب جافي الأخلاق، إن قال شيئًا فعل، ولعلمي بطباعه انقدت لأمره مطيعًا، وتركت القاهرة قهرًا عني، وكنت إذا طلبت منه النقود التمستها من إيراد مالي الخاص الموروث عن أمي، وهي في إدارته وتصرفه فأبى أن يرسل إليَّ القرش الواحد، وكان متكدرًا كثيرًا لما بلغه أني صرفت خمسة عشر ألف فرنك في مدة ثلاثة شهور، فخفضت لإرادته الجناح، ولم أستعمل معه العناد لئلا يجفوني ويحرمني من الميراث، وهو — كما لا يخفى عليك — كثير الأموال تبلغ ثروته زيادة على مائتي ألف جنيه، فضلًا عن تجارته الواسعة، ومن كان مثله في هذا الغنى فهو جدير بالرعاية والإكرام، ولذلك قد لبيت أمره بالإطاعة مرغمًا، وفي ودي أني أقيم في مصر مديدًا لدواعٍ كثيرة.
قال همام: أظن أن من تلك الدواعي كلفك بالفتاة الشقراء التي رأيتها في مخزن الخياطة.
فابتسم سعيد وقال: سبحان الله! تحب الهزار في كل آن، فدعني الآن أخبرك عما جرى بيني وبين والدي، وكيف سمح لي بالعودة إلى القاهرة ثانية.
قال همام: أخبرني الآن عن أمرك مع أبيك، ثم تُخبرني عن صاحبتك.
قال سعيد: بعد وصولي إلى بيت أبي بثلاثة أيام كابدت العناء من خشونة المعيشة عنده، والفرق بينها وبين المعيشة في القاهرة بعيد المدى، ففي مصر تكثر أسباب الحظ والانشراح والملاهي المتنوعة، وفيها الشوارع الجميلة والأنوار اللامعة البهية والجنائن الباسقة الزهية، وهي تزيد في الحُسْن يومًا عن يوم، فلو استمرت على هذا الترقي أصبحت ولا شك أجمل مدينة في الشرق، ومن اعتاد على المعيشة فيها لم ترق في عينيه المعيشة في الأرياف بين الفلاحين، ومن أجل ذلك عقد عزيمتي على العودة إليها، وجعلت أختلق الأسباب للتعكير على والدي، فاشتريت خيلًا كنت أركبها، وأعبث في المزارع أتلفها، واقتنيت كثيرًا من كلاب الصيد كنت أذهب بها فأتلف النبات، وأنا دائمًا ثائر غضبان أخاصم من أراه حتى زهقت روح والدي، فصرَّح لي بالعودة إلى القاهرة وفي قلبه النقمة، وقد ودعني وهو يقول لي: الخير أن تبدد مالك من أن تبدد مالي، فاذهب إلى حيث شئت، فإني لا أستطيع رؤيتك ومشاهدة ما تصنع من الأمور السمجة وما تبذر من الأموال سفهًا، حتى أصبحت أخشى على أيامي أن تنفد همًّا وغمًّا عليك وكدرًا منك، فعندما سمعت هذا الكلام منه أظهرت الأسف وأبطنت السرور، فلما أصبح الصباح جهزت أدوات السفر، وجمعت شيئًا من النقود أنفقته على نفسي في سفرتي، وكان حضوري إلى مصر أمس، وها أنا الآن بين يديك.
قال همام: تسمح لي أقول الحق، فقد كثرت في القاهرة أسباب الفساد وأنواع الرذائل، واشتدَّ بطر الشبان الأغنياء وغوايتهم، فأنفقوا ما ورَّث لهم الآباء من مال وعقار، فهم الآن من سوء تدبيرهم ومعصيتهم في فقر مدقع، والخمارات أصبحت في طول الشوارع، وكذلك القهاوي ومحلات القمار وبيوت العاهرات المنتشرة في جميع الأقسام، وكل ذلك أسباب لتخريب البيوت العامرة، فما يكاد يسلم فتى من شرها، واتصلت الرعونة بالبعض من الشبان حتى جعلوا يتباهون في الفساد وفي العناد، وهم عن عاقبة أمرهم لاهون، يجدون ملازمة هذه الأماكن المعدة للفسق واللهو نعيمًا لهم، وهي على الحقيقة جهنم، تأكل بنيرانها أبدانهم وأموالهم، وقد تفرَّس والدك بحزمه جميع الشرور فمنعك عن المقام في هذه المدينة مخافة عليك أن تغوى مع الغاوين، وقد أصاب لعمري بما فعل، وفي ظني أنه سيجيء بنفسه هنا إذ لا بدَّ أنه يكون مشتغل البال من جهتك.
قال: حزرت، فهو سيحضر عما قليل من الأيام لا لأجلي بل لأجل دعوى كبيرة له في المحاكم تهمه كثيرًا، وله خصوم شديدون قادرون بعلاقاتهم مع بعض القضاة، فيخشى على دعوته من الضياع والخسران.
قال همام: لا أظن ذلك ممكنًا، فالأحكام قد انتظمت عن الأول والعدل موجود، فإن كان والدك مُحِقًّا في دعواه كسبها لا محالة، على أني أسألك عن أختك سعدى هل تحضر معه أو لا؟
أجاب سعيد: تحضر، فهو لا يمكن تركها وحدها في الريف.
قال همام: أتعجب كيف أنها لم تتزوج إلى الآن؟
قال سعيد: خطبها كثيرون من الشبان، فحصلت أحداث أجلَّت قبول طلبهم في الوقت الحاضر، وأخصها مسألة الحزن الذي نحن فيه الآن.
قال همام: إن كان الحزن على كريمة عمتك فقد انقضى بمرور خمسة شهور.
قال سعيد: ليس الحداد عليها، بل على خالة لنا في بر الشام، تُوفيت من عهد قريب، وكانت تكره الرجال كره العمى، حتى لقد حرمتني من إرثها، وأوصت بجميع أموالها لشقيقتي سعدى، فأصبح الآن إيرادها السنوي زائدًا عن الأول نحو خمسة عشر ألف فرنك، فإجمالي دخلها السنوي يبلغ خمسة وأربعين ألف فرنك، ولكن لسوء الحظ من الزمان لم تتم لشقيقتي السعادة، فإنها بعد استيلائها على هذا الميراث ابتلاها الله بداء الجدري، وكان متفشيًا في الجهات، فاستمرت تُقاسي عذابه مدة طويلة، والآن شُفيت والحمد لله وزال عنها الخطر، غير أنه قد تخلف في وجهها أثر الداء فشنَّع منها الوجه، ولا عبرة بذلك فإن الغنى الواسع يستر العيوب، ولا شك أن فؤادًا ابن شقيقتك سيدة نادم كل الندم على رفضه الزواج بأختي واغتنام غنيمتها.
قال همام: كنت أنت السبب في رفضه بما قصصت عليه من الحديث بعد شرب الكونياك.
قال سعيد: أتأسف جدًّا على ما فرط مني وبدر من الكلام، فقد احتال عليَّ ابن أختك فاقتنص أسراري.
قال همام: كنت أظنك صديقًا له راغبًا في مصاهرته ومناسبته.
قال: كنت ولم أزل صديقه، ويعلم الله أني أتمنى له الزواج بأختي.
قال همام: ليت الأمر ممكن، وبعد فليس في الكون شيء مستحيل، فكلامك على أختك لا يعلمه أحد غيري وغيرك وغيره، وأما شقيقتك فلا تدري منه شيئًا، ولم تقطع المخابرة بعد، وغاية ما هنالك فتور حصل في العلاقات، وهو أمر يمكن تلافيه وإصلاحه في كل حال، وقد كانت وفاة عمتك كريمة وخالتك الشامية ومرض شقيقتك من الأسباب الموجبة لتأخير الزفاف، أما الآن وقد صفا الوقت، وهدأ البال، فلا مانع يمنع من استئناف الأمر، وأنت فهيم حاذق، وأنا خبير مجرب، فنتفق معًا على تدبير الأسباب لإتمام هذا الزواج وإقناع الطرفين.
قال سعيد: وقد سره وصف همام له بالنباهة والحذق: نِعْمَ الرأي رأيك، ونحن قادرون على التدبير، فمُرني بما تشاء، فإني مستعد للقيام به.
قال همام: يلزمك أن لا تُغيِّر شيئًا من معاملتك لفؤاد، وأن تبقى معه على التجمل والوداد، واحذر أن تجالسه في خمارة أو تتناول من يده كأس مُدام، أو تخوض في محادثته، فتُعطِّل علينا التدبير، وكذلك يجب أن لا تُخبره بشيء ممَّا عزمنا عليه، وأنا سأقابله في هذا اليوم إن شاء الله، وفي غد أخبرك عمَّا يكون قد تمَّ.
قال سعيد: إني وإن كنت راغبًا شديدًا في هذا الزواج إلا أني أخشى امتناع فؤاد عن قبوله، فإن شقيقتي فضلًا عمَّا قام فيها من العيوب قد زادت تشويهًا بتخلف آثار داء الجُدري في وجهها.
قال همام: لم تكن شقيقتك جميلة في البدء حتى يُقال إنها أصبحت الآن دميمة، فالقُبْح مستوفٍ عندها على كل حال، أما الآن فأستأذن منك بالانصراف لأهتم في الأمر حالًا، فقد حضرت عربتي، فالمولى يُوفِّق أعمالنا.
قال سعيد: اتكل عليَّ، فإني أعاونك في تدبيرك.
وهنا ودَّع همام سعيدًا، ونهض إلى عربته، فنزل السائق يُكلِّمه قائلًا: يا سيدي إني بينما كنت ماشيًا في الأمس قريبًا من القصر العالي في الطريق المؤدية إلى مصر العتيقة أبصرت فؤادًا راكبًا جواده الأشقر، فسرت في أثره لأدركه وأسلم عليه، فحانت منه التفاتة فرآني، وجعل يُسرع في عدوه فاقتفيته، وظللت سائرًا في أثره، فلوَّى نحوي مغاضبًا يُزجرني بقوله: أكنت جاسوسًا عليَّ تقتفي أثري؟! فوالله لئن رأيتك بعد هذا لأوسعتك ضربًا أليمًا مبرحًا، ثم قال: سر في سبيلك، وأخرج من جيبه ريالًا رماه إليَّ، ثم قال: لا تُرني وجهك المنحوس بعد هذا، فاضطربت من كلامه، وحرت كيف أصنع، هل أحفظ الريال الذي ألقاه إليَّ أو أرده إليه، فما أمهلني أن وخز جواده فانطلق به كوميض البرق إلى مصر العتيقة، فغاب عن بصري سريعًا.
قال همام: كان الواجب عليك أن لا تقتفي أثره، ففعلك بالحقيقة تجسس أوجب كدره، فاجتنب أمثال هذه الأفعال بعد الآن، وسر بنا إلى منزل شقيقتي فهو غير بعيد، واذهب بعد ذلك إلى البيت، وأعلم السائس بأن يُحضر لي حصان الركوب، وأن ينتظرني أمام بيت شقيقتي، فسارت العربة، وصعد همام إلى منزل شقيقته فوجدها وقوفًا أمام مائدة كبيرة في حجرة السفرة ترتب المأكولات والحلويات المجلوبة في علب خشبية من دمشق الشام، وكان قصدها أن تُقدِّم من تلك الحلويات هدية إلى رئيسة مدرسة البنات، فتناول همام شيئًا من ذلك، فوجده لذيذًا جدًّا، فقال لشقيقته: إن أهل الشام قد تناهوا في إتقان أصناف الحلوى مربيات، وهذا دليل على حسن ذوقهم في المطعوم والمشروب، فإن بلادهم كثيرة الأثمار شهية ومصنوعاتهم لطيفة ودقيقة للغاية، على أني لا أعلم الباعث على تقديم هدية لرئيسة المدرسة على انعدام العلاقات معها.
قالت: معنى ذلك أني أكلف الرئيسة باختيار عروسة لفؤاد من البنات الشابات، وهي مهتمة في ذلك كثيرًا، وقد قطعت الأمل من زواج فؤاد بسعدى.
قال: لم أكن أعلم قبل اليوم أن رئيسات المدارس ينظرن في أمثال هذه الأمور، فقد جمعن إذن بين تربية الشابات وتعليمهنَّ وبين النظر في زواجهنَّ، على أني لا أظن أننا نكون في حاجة إلى تَدخُّل هذه الرئيسة في عقد النكاح، فهيا بنا إلى القاعة الكبيرة لأخبرك عن بعض أمور جديدة تجهلينها، فنهضت سيدة معه إلى القاعة، فلما جلست قال لها همام: قابلت اليوم سعيد بن غانم أخا سعدى، وجري بيني وبينه الحديث على أمور لا تخلو من الفائدة.
قالت: وأي فائدة ترجوها من إنسان كسعيد كان السبب في تعطيل ما دبَّرناه من زواج شقيقته بفؤاد؟
قال: أظن لم يتعطل شيء بعد، وفي الوقت فسحة، وفي استئناف المخابرة محل للأمل بالفوز والنجاح، فإن سعيدًا أخبرني بأن والده وشقيقته سيقدمان إلى مصر القاهرة بعد يومين أو ثلاثة، وأنَّ سعدى لم تتزوج بعد، وأن خاطبيها من الشبان كثيرون، ولكنه وقعت بعض أمور أوجبت التأخير لحسن الحظ وموافقة الطالع لنا.
قالت: وما تكون تلك الأمور؟
قال: أولًا: موت كريمة، ثانيًا: فقد عفيفة ابنتها، فإنه لم يقف لها أحد على أثر، واختلف الناس في شأنها، فقال البعض: إنها ألقت نفسها في النيل فاختنقت بأسفكسيا الغرق.
قالت: هذا رجم ظنون بعيد عن الثبوت، ولا يدخل في وهمي أن تكون الفتاة قد هلكت غرقًا، وإنما هي مختفية والله أعلم.
قال: ظهر بعد البحث والتحري أنها قتلت نفسها يقينًا؛ بدليل أنها كانت كثيرة التفكير والوجوم، وكانت تحب والدتها شديد المحبة، وآلت على نفسها ألا تبقى حية بعدها، فمن المحتمل أنها تكون قد ضاع رشدها بعد وفاتها، والذي يثبت ذلك أن سعيدًا وغانمًا بحثا مديدًا عنها، فعلما أن في الليلة السابقة لوفاة والدتها حضرت فتاة في زيها وقدها ووصفها تطلب زرنيخًا من الصيدليات ابتغاء قتل نفسها تسميمًا، فلما لم يمكنها الحصول على مطلوبها فألقت نفسها في النيل تغريقًا.
قالت: كلامك معقول، وقد يكون صحيحًا، فأعلمني الآن عن الأسباب الأخرى التي أوجبت تأخير زواج سعدى.
قال: من تلك الأسباب وفاة خالة لها في دمشق الشام، تُوفيت عن أموال كثيرة أوصت بها جميعًا لها، فزاد دخلها السنوي خمسة عشر ألف فرنك.
فابتسمت سيدة عند سماع هذا القول، وعطف همام بقوله: والسبب الأخير في التأخير هو أن سعدى ابتليت بداء الجدري، فلازمت الفراش أيامًا كثيرة، والحمد لله أنها شُفيت، ولكن تخلَّفت في وجهها بسبب الداء آثار سوداء زادتها قُبْحًا على قبح.
قالت وقد انقبض وجهها لسماع هذا الخبر: إن الفتاة شنيعة دميمة بدون الجدري، فكيف بها الآن؟! ولا شك أن يكون السبب في هذه البلية بخل والدها عليها بالتطعيم في زمن الصغر، قاتل الله أهل البخل إنهم يكفرون بِنِعَمِ ربهم، فوالله إني يا أخي لأخشى حبوط التدبير فلا يتم زواج ابني بسعدى.
قال: الزواج في الدنيا نصيب، وكل شيء مقدر.
قالت: هل تظن أن غانمًا يقبل في استئناف المخابرة.
قال: لا ريب في ذلك، فقد علمت أن له في المجالس دعوى منظور فيها، وسيصحب معه ابنته، ومن الضرورة أنه يُفتش على خاطب لها، وإلا فلو كانت الدعوة هي السبب الوحيد في حضوره لم يكن موجب لحضور ابنته معه، ولا أراه إلا راغبًا في أن يزوجها برجل شريف الأصل كريم الحسب كفؤاد، وأنتِ راغبة في زواج فؤاد بفتاة كثيرة الغنى كسعدى، وهذه الفتاة تُحبه محبة شديدة، وكذلك أخوها سعيد جعل نفسه وفقًا لخدمتنا ابتغاء تيسير المشروع.
قالت: كيف نستأنف المخابرة معه، وفي الأمر حطة وتنازل ووضع من قدرنا.
قال: كِلى إليَّ التدبير، فأجتمع به بطريقة يظنها من قِبَل الصدقة، فإنه لمحبته الفخار يرغب في مرافقتي، فأعزم عليه بالركوب معي في العربة، وأجيء به إليك، ونسوق الحديث في الأمر الذي نبتغيه.
قالت: فهمت إشارتك، والأمر في رأيك هين، فهل يكون مثل ذلك هينًا من جهة فؤاد؟
قال: صدِّقيني، هنا الصعوبة الكلية ولعلنا نبلغ المراد، وفي قصدي أن أقابله اليوم وأعود غدًا فأخبرك بما يكون قد تمَّ.
ثم إن همامًا نهض ليذهب فشيَّعته سيدة إلى قُرب الباب، وعادت وهي تقول: ليت فؤادًا يقتنع، كانت سعدى شنيعة في الأصل، فكيف بها الآن وقد عرتها آفة الجدري؟ فلا شك أنها أصبحت في صورة إبليس اللعين تعاف العين رؤياها.
وكان خادم همام ينتظر قابضًا بيده على رسن حصان الركوب، فامتطاه همام قاصدًا مصر العتيقة، وفي عزيمته أن ينتظر فؤادًا إن لم يقابله، وبينما هو سائر في طريقه رأى راكبًا مارًّا بقربه، فتأمله فإذا هو فؤاد بعينه، فهمز الجواد جريًا في أثره حتى أدركه، فجعل يده على كتفه وكلَّمه مباسطًا بقوله: ما تصلح أن تكون من فرسان العرب، فقد جريت على عادة معيبة في الركوب، بأنك تنحرف إلى الأمام، فقد يحصل بذلك خطر عليك، كأن يُخطئ الحصان الحركة وقربوس السرج حاد فيولج في صدرك.
فانذعر فؤاد من سماع صوت خاله، فأجاب مبتسمًا وقد عراه الاحمرار في وجهه: ما كنت متوقعًا مقابلتك في هذا المكان، فلعلك تقصد النزهة.
قال همام: ليس إلا النزهة، فتعالَ نتروَّح معًا.
قال فؤاد: لا يُمكنني لسوء الحظ أن أُرافقك مديدًا، مضطر لزيارة بعض أصحابي قريبًا من المكان الذي نحن فيه.
قال همام: نتوجه معًا إليه إن لم تجد عارًا في مرافقتي.
قال فؤاد: أستغفر الله يا خالي، يحصل لي الفخر، وأزيد شرفًا بمرافقتك، على أن صديقي مريض، وقد لا تسُرُّك عيادته، وأخشى أنك تتضايق من ذلك.
قال همام: كفاك شطارة يا فؤاد، فمن أين تعلمت الكذب، وكيف اهتديت إلى الحيل؟ أراك تحاول الهرب مني وتنتحل الأسباب، فما تبرع في حيلتك، فلا شك أنك حديث عهد بهذه الطريقة، فوالله إني أراهن على أنك ناهض في زيارة صديقة لا صديق لك، وبرهاني على ذلك سكناك في مصر العتيقة وترديدك الوفادة إليها يوميًّا، فلو كان من تزوره أو تعوده صديقًا لما كلفت نفسك عناء الركوب في كل يوم إليه، ولو بلغت درجة صداقته ما تبلغ من التمكن، فالمزور امرأة رفيقة لك، وهي في حالة الصحة واعتدال المزاج بدليل أنها مقيمة في مصر العتيقة بعيدًا عن وسائل المعالجة، فلا يغمنك اكتشافي أسرارك وخفاياك ومعرفة حقيقة أمرك، ولا تلمني، فأنت تعهدني حر الضمير في نقيض أمك، ولا تزعمن أني ألومك باتخاذ صاحبة لك، فذلك عندي خير من ملابسة العواهر.
قال فؤاد وقد احمرَّ وجهه: لم تصب يا خالي الصواب في قولك، فإني لم أرافق امرأة، وبون بين ما تدَّعِي وبين الحقيقة، وما يحمل بك سوء الظن بي.
قال همام: جرت العادة عند الشبان الإنكار، فينفون عن أنفسهم تهمة مرافقة النساء، فاجتهادهم في تأكيد النفي برهان على ثبوت ما يُنسب إليهم، ولا يدخل في ظني أن معشوقتك بكر عذراء.
فلما سمع فؤاد كلام خاله أيقن أنه يجهل حقيقته، فانشرح صدره، وأراد أن يزيده ضلالًا على ضلاله، ويُخفي عنه أمر عفيفة فقال له: لله درك، ما أشد حذقك وأثقب فراستك! فلا يفوتك شيء، إلا أن لهذه المرأة المعشوقة زوجًا سيئ الطباع كثير الغضب شريرًا.
قال همام: لئن كان شريرًا غضوبًا فلن يمنعك شره وغضبه من نوال الإرب وقضاء الوطر، بل قد يكون خبثه داعيًا لتمكين المودة بينك وبينها، فبالله عليك أن تخبرني بعض الخبر عن وصيفتك المعشوقة.
قال فؤاد: يكون من سوء الأدب أني أبوح بشيء من ذلك.
قال همام: ما طلبت التعريف عن اسمها وعن أهلها، إنما أسألك مثلًا عن عمرها.
قال فؤاد: وما الفائدة من معرفة عمرها؟
قال همام: ستعلمه بعد.
قال فؤاد: نفرض أنه ٣٥ عامًا.
قال همام: نفرض ذلك ولا بأس، فهذا هو السن الذي جال في خاطري.
قال فؤاد: أدهشتني يا خالي، إن أمرك لغريب، فأخبرني أي قاعدة حسابية أو هندسية أدت إليك معرفة السن.
قال همام: هدتني إليه الفراسة والخبرة لا الحساب والهندسة، وتذكرت سابق أوقاتي وميول صباي، فقستها على أطوار سنك، فاعلم أني كَلِفتُ في زمن الصبا بامرأة تزيد في العمر ستًّا من السنوات كما تزيدك وصيفتك المعشوقة، ولما تقدمت في السن تغيَّر ذوقي، أصبحت كلفًا بحب النواهد الكواعب، أُفضلهن على الكبيرات المجاوزات العشرين، ومتى صرت في سني اختلف ذوقك وسرت في مذهبي، فلا ألومك الآن على هواك، فهذا ما كنت أبغيه لك من قديم الزمان.
قال فؤاد: ما أدركت والله معنى حديثك، ولا أعلم كيف أفضل النَّصَفَ الكبيرة السن على الفتيات الكواعب!
قال همام: سأشرح لك عن ذلك بتفصيل، وإنما أكرر لك القول بأني حر الأفكار أختلف عن والدتك نزعة، فلا أتفق معها إلا على رأي واحد، وهو أن أراك متأهلًا في أقرب وقت، ولا بدَّ لك أن تنقاد إلى رأينا.
قال فؤاد: أضعت والله رشدي، فإنك بينما تقول برغبتك في زواجي أسمعك تقول: إنك مسرور من اتخاذي رفيقة ألهو بها، فلا أعلم بأي القولين آخذ! فلعل قولك من قبيل الألغاز يغمض عليَّ فهمه.
قال همام: الأفضل لك أن تتعلق بهوى امرأة متزوجة، على شرط أن تختارها عاقلةً نبيهةً لتعاوننا على زواجك بمن نبغي.
قال فؤاد: زدتني جهلًا على جهل، فأنا على غير هُدى مما تقول.
قال همام: في عبارتي إيهام، فاعلم أنك لو أحببت فتاة صغيرة السن فأبلغتها أنك عازم على الزواج لشقَّ عليها الأمر كثيرًا، وجعلت في سبيلك الموانع فتهددك بالقطيعة، وتعكر عليك مواردك، وتحقد أيمَّا حقد عليك، وربما ينالك من كيدها ما لا تستطيع معه صبرًا، وقد اختبرت الأمر بنفسي، فكلامي عن ثقة ويقين، وقد علمت أن حلاوة البداية في هوى الغيد الكواعب شيء يسير في جانب المرارة التي تعقبها النهاية. أما لو كانت المرأة الرفيقة على درجة مستوفاة في السن، فإنها تكون بالضرورة خبيرة تُميِّز الأشياء فلا تسومك المستحيل، وتعلم حق العلم أن هواك ينقضي سريعًا ووشيكًا، وأنك لا بدَّ أن تتزوج يومًا، فمن أجل ذلك تكف عن ملامتك وتعذيبك.
قال فؤاد: أتظن أن المرأة التي أحبها تقابل زواجي بالارتياح، فلا تنصب إليَّ الموانع؟
قال همام: ليس هو الظن، بل اليقين، ولا ريب أيضًا أنها تسهل الأمر لمرغوبك، لعلمها أن الحب أشبه شيء بالجبل يصعده الساري، فمتى انتهى إلى قمته نزل إلى الوهاد، وإن كانت المرأة المعشوقة عاقلة، وكنت أنت قليل الثروة، أشارت عليك بامرأة غنية تتزوجها، ثم اعلم أن خير الأمور ما جاء معجلًا، وتدبر أن فيك الآن الصفات اللازمة للزواج، فأنت شريف النسب، وهذا الأمر لا يعتد به كثيرًا في يومنا الحاضر، وأنت جميل الصورة في ريعان الشباب، ولا بدَّ للجمال أن يزول بزواله، فيتجعد منك الجبين وينحني الظهر، وتزول نضارة وجهك، فتفقد الصفات التي تُؤهلك للزواج بامرأة تناسبك، فيلزمك إذن التعجيل، وكما قدمت لك القول فإن كانت رفيقتك مخلصةً إليك الوداد، فلا بدَّ أنها تُدرك قولي، وتشور عليك بمثل شوري، وتؤكد بتعجيل زواجك ابتغاء تحصيل الثروة الواسعة التي لا سعادة بدونها في الكون، ولا تنظر بعد ذلك إلى الجمال، فقد أغناك المال عنه.
قال فؤاد: سبحان الله! ما أراك يا خالي تختار لي إلا النساء القباح.
قال همام: قد اخترت لك ابنة غانم خطيبتك القديمة، فلم أختر لك غيرها، إنها أصبحت الآن في غنى أوسع من الأول، إذ ورثت من عهد قريب عن خالة لها تُوفيت في دمشق الشام مبلغًا يزيد إيراده السنوي على خمسة عشر ألف فرنك.
فعند سماع فؤاد هذا الكلام همز حصانه وهو يقول لخاله: لا تؤاخذني، فقد مضى الوقت، ولا بدَّ لي من القيام بزيارتي التي أخبرتك عنها.
فتبعه همام فلم يدركه، وغاب فؤاد عن بصره، فرجع همام ساخطًا، يلعن الساعة التي وهب فيها ابن أخته ذلك الجواد السريع الذي يمتطيه، ثم قال: والله لأنتقمن منه، أو يكون زواجي بأشنع امرأة في الأرض جزاء.