الفصل الثاني عشر
نهض همام في اليوم التالي وعلى وجهه علامات الغمِّ والكدر، يتذكر ما جرى بينه وبين فؤاد في الأمس، فيحتدم غيظًا، ويناجي نفسه بالانتقام. ففي الساعة العاشرة صباحًا لبس ثيابه قاصدًا حديقة الأزبكية يتنزه ويأكل طعامه في فندقها، لعله يزيل الأكدار عن باله، فجعل يدور حول البحيرة مديدًا، ثم جلس على مقعد وأشعل سيجارة يدخنها متنشقًا النسيم الرطب مارًّا على وجه الماء، ثم نهض عند الظهر ليأكل، فتناول من الطعام ما اشتهت نفسه بقابلية. ولم يتم غداه حتى حضر سعيد بن غانم، فجلس على مائدة إلى جانبه غير متنبه إليه، ففي جلوسه قال للغلام القائم في الخدمة: هذا الكرسي لصاحب لي يأكل معي، ثم إنه التفت فرأى همامًا فحيَّاه وسأله عن فؤاد، فقال له: هو بخير، وقد قابلته أمس فلم أخض في محادثته، ولم يتيسر لي إجراء الحديث بحضرة الناس فيما اتفقنا عليه، على أني أقابله في هذا اليوم، وغدًا أخبرك عما يكون قد تمَّ. وقد كان كلام همام تزويقًا، فأظهر على نفسه الرضا وهو غضبان ساخط؛ لئلا ينعكس عليه المراد.
قال سعيد: لا بأس تُكلِّمه اليوم أو غدًا على أنني أسالك عنه: هل يقيم في بيته بعد الظهر؟
قال همام: المظنون عندي أنه يخرج للنزهة بعد الظهر، ثم إني أسألك في نوبتي عن الصاحب الذي تنتظره من هو؟
قال سعيد: لعلك تعرفه، فهو خليل زوج المرحومة عمتي، فقد التزم الحزن ولبس السواد، في قلبه الكدر الشديد والمرارة الزائدة.
قال همام: أمر عجيب، كان عهدي بهذا الرجل مبغضًا زوجته يُعذِّبها أشد العذاب ويمقتها كثيرًا، فكيف انقلب بغضه محبة، وكان والدك يقول عليه الأقوال المبينة؟!
قال سعيد: لا تُصدِّق كل ما يُقال، فأكثر القول باطل، ولا تعول على ذم والدي له فهو يكرهه، وإلا فهل تعقل أن إنسانًا يكره امرأته في حال حياتها، ثم يحزن عليها كل هذا الحزن بعد وفاتها ويبكيها الأشهر الطويلة؟! هكذا فوالله إني حينما أراه يذكرها أظنه قد فقد الشعور، وأخاله قد جُنَّ من شدة الحزن والغمَّ.
وبينما كان همام وسعيد يتخاطبان دخل خليل، فجلس على المائدة تجاه سعيد وعليه ملابس الحزن السوداء، وعلى وجهه علامات الأسف فتأمله همام، وتوجع له ورثى لحاله، وحضر الطعام فأكل خليل شيئًا كثيرًا مما قُدِّم له، والتزم السكوت فلم يفه بكلمة، فجعل سعيد يومي إلى همام ليذكِّره بحديثه عن حزن خليل على امرأته المتوفاة، ثم كلمه بقوله: انظر إنه من شدة حزنه عليها بنى لها ضريحًا جميلًا من الرخام منقوشًا عليه الرسوم الحسنة الدقيقة.
قال همام: رأيته منذ ثمانية أيام فوجدته متقنًا للغاية، يدل على حذق وبراعة صانعه.
قال سعيد: لعلك تتردد على المقابر كما يفعل بعض الناس الذين يقصدونها للفرجة أو النزهة أو التسلية بقراءة التواريخ المنقوشة.
قال همام: ما أكره — واللهِ — شيئًا كرهي مشاهدة القرافات، وإني لأستخف عقول الذين يقصدونها للنزهة، فيصرفون اليوم أو اليومين أو الثلاثة قيامًا بين القبور، تزكم أنوفهم الروائح الخبيثة المنبعثة من الرمم البالية، والعقلاء يجتنبون ما أمكن زيارة هذه الأماكن، فلا يأتونها إلا بحكم الضرورة كما حصل لي من ثمانية أيام، إذ تُوفي أحد الأصحاب الأعزاء فالتزمت مرافقة جنازته إلى القرافة، وهناك وقع نظري على قبر المرحومة عمَّتك، فاندهشت من إتقان بنائه ورقة حفره ونقشه، وتعجبت من أكاليل الزهور والنضرة التي فوقه، فكأنما هناك قوم مخصصون لخدمته.
وكان خليل في أثناء هذه المحادثة يتناول طعامه باشتهاء غير مكترث بما يسمع من القول حتى كأنه لا يعرف الفقيدة، فلو تأمله المتأمل في تلك الحالة لعلم يقينًا أن حزنه ولبسه السواد إنما هو على شخص آخر غير شخص امرأته، ولكنه إذ سمع همامًا يتكلم على ما فوق الضريح من الزهور هاج واضطرب، وصاح بصوت عالٍ أوجب انصراف الأنظار إليه قائلًا: أعلى الضريح زهور؟ إذن هي لم تمت، هي حية تعتني بالقبر، وتأتيه بالزهور.
قال سعيد وقد ظنه مختل الشعور: مَن تعني بقولك لم تمت … أكريمة امرأتك أم غيرها؟
فصرخ خليل قائلًا: ليس المراد امرأتي فقد تُوفيت يقينًا، إنما عنيت ابنتها عفيفة، فعليها لبست السواد ولازمت الأحزان ومزيد الأسف، وقد أدركت أنها الآن حيَّة، فزال اليأس من قلبي، وحل الأمل محله، وإلا فلا يحتمل أن أحدًا خلافها يأتي بالزهور إلى قبر والدتها. وعندما قال هذا ذهب مسرعًا قبل أن يفرغ من طعامه، وكان اليوم يوم السبت، وخرج على عجلة فركب أول عربة وجدها، وقال للسائق: اذهب بي إلى مقبرة الإفرنج في مصر العتيقة.
وكان من عادة عفيفة أنها تحضر مع فؤاد كل يوم سبت لزيارة قبر والدتها، فتحضر معها أكاليل من الزهور تصنعها بيديها فتجعلها على الضريح، وكانت كلما حضرت تتأسف لبناء الضريح على نفقة خليل، وتتعجب من إقدامه على ذلك مع أنه كان يكره زوجته شديدًا، وكان من عادتها أيضًا أن تلبس السواد كلما حضرت، وحين وصولها تركع على الركبتين مصلية مبتهلة إلى الله في الدعاء، ويقف فؤاد إلى جانبها، ويداه مضمومتان بغاية الخشوع والورع.
سارت عربة خليل فوصل إلى القرافة قبل قدوم عفيفة، وبعد برهة من الزمن أبصرها مقبلة مع فؤاد، فخفق فؤاده، فتوارى وراء بعض الأضرحة، فجعل يحدق بهما حينًا ويختفي حينًا لتسكين روعه، واستمرت عفيفة في صلاتها مديدًا فوق عادتها لزيادة التأثير عليها في ذلك اليوم وشدة الحزن عندها، وكانت تذرف الدموع الغزيرة، وما زالت كذلك حتى مال رأسها من الألم، فاستندت على حائط القبر، فخشى فؤاد أن يُغمى عليها، فتقدم ليمسكها فيمنعها عن السقوط، وإذا بكف قوية قبضت على يده ودفعته إلى الخلف، وقائل يقول: ويك إن لمستها فأنت مقتول. فرفع فؤاد بصره فرأى خليلًا يزأر كالوحش الضاري الكاسر، فانذعر ولبث مبهوتًا لا يعلم كيف يصنع. وكانت عفيفة قد وقعت مغمى عليها فاقدة الحس والحركة، فثار خاطر فؤاد عند رؤيتها، ولم يستطع ضبط نفسه، فتقدم لينهضها، فبادره خليل بالشتم، وأخرج من زناره خنجرًا ماضيًا يلمع كالبرق، وهجم عليه، فتأخر فؤاد، ولحقه خليل شاهرًا الخنجر، وإذا بضربة شديدة وقعت على قبضة يده فرمت الخنجر، وسمع صوت قائل يقول: إن تحركت من مكانك هلكت لا محالة، وكان الفاعل همام، فإنه بعد أن فعل ما تقدم ذكره، وقف منتصبًا بين الخصمين وقال يوبخهما: تتضاربان في هذا المكان ولا تخجلان، فأي فرق بينكما وبين الوحوش الكواسر، ثم إنه التفت يمينًا فأبصر عفيفة ملقاة على الأرض مغمى عليها فأدرك سر المسألة، وقال: علمت الآن السبب، فعلينا أولًا أن نتدارك أمر هذه الفتاة قبل أن تهلك إغماء، وإذ قال ذلك تلفت إلى سعيد، وكان قد جاء برفقته، فوقف بعيدًا وراء شجرة. إذ رأى فؤادًا وخليلًا يتقاتلان، فقال له همام: ويك من جبان تجشمني الحضور ثم تتخلف عني، حقًّا إنك لا تصلح إلا لمعاقرة الخمور وملازمة مجلس الغيد الأوانس، فأسرع فلعلك تجد قليلًا من الماء ترشه على وجه هذه الفتاة قبل أن يطول عليها الإغماء فتهلك، فذهب سعيد لجلب الماء، وتناول همام الخنجر من الأرض فجعله في حرزه، وكان سعيد أتي بالماء فجعل همام يرش على وجه عفيفة حتى أفاقت، فلما فتحت عينها ورأت خليلًا كاد يُغمى عليها ثانية، لولا أن همامًا بادر إلى ملاطفتها وتسكين روعها فاستأنست به، وناولها الماء فشربت، وعاد إليها حسها وشعورها، فوقفت ونظرت شزرًا إلى خليل تخاطبه بقولها: ما عساك أتيت تفعل في هذا المكان المقدس أيها القاتل الظلوم؟
قال: جئت للصلاة على زوجتي المرحومة.
قالت: أتجسر أيها العاتي الشرير أن تلفظ اسم والدتي بفمك المرجوس، ولا تخشى الأرض تنفتح فتبلعك، وتنقضُّ الصواعق من فوقك فتطحن منك العظام؟!
فنظر إليها خليل نظر اليائس المستغيث، ووقع على قدميها ضارعًا مستغفرًا وقال لها: عفوًا ومرحمةً فإن كنت قد حملت إثمًا أو جنيت ذنبًا فإني طالب الغفران، وكان الاصفرار قد صبغ وجهه والاضطراب قد أوهن قوته شأن المحبين المتيمين حين يقابلون محبوبًا.
فقالت له عفيفة: تطلب مني غفرانًا، وأنت جدير لطلبه من والدتي بما جنيت عليها، فمنها وحدها يجب الاستسماح، أيها الشقي الفاجر إن والدتي راقدة في القبر قد أنقذها الله من جورك وعدوانك، وجعل مقرها النعيم حيث لا كدر ولا انتقام على أني أجاوبك بما تستحق، فلتكن ملعونًا إلى آخر فسحة من حياتك جزاء عما اعتديت وافتريت. ثم إن عفيفة أقبلت نحو فؤاد، وأخذته من يده وقالت: هلم بنا من هذا المكان فإني لا أستطيع المكوث فيه ولا رؤية هذا الغدار القاتل، فإنها تجدد أوجاعي وأحزاني وتثير همومي وأكداري، فما انتصب خليل وتقدَّم نحوها ابتغاء منعها عن الذهاب وقال لها: كلا لا أدعك تخرجين مع هذا الرجل.
فاعترضه همام وقال: حسبك أيها الرجل كفرًا وعنادًا، إن السيدة في زمام ابن أختي برضاها وخاطرها، فليس لك أو لغيرك منعها عن فعل ما تشاء، فلها الرأي وحدها.
فقالت عفيفة: الرأي لوالدتي، فإنها في ساعة النزاع سلمتني إلى هذا الشاب الكريم العزيز النفس، وهو عضدي الوحيد، وهو صديقي وأخي، لا يفرِّقني عنه أحد.
فقال همام لخليل: قد سمعت قولها، فليس من سبيل لك عليها. ثم إنه التفت إلى فؤاد يأمره بالانصراف، وعاد خليل يُحذِّره التعرض له بقوله: إن تحركت من مكانك أخمدت أنفاسك بهذه الحربة. وكانت الحربة مهيأة بعصا تُفتح ثم تُقفل، فانطلق مع عفيفة، وخليل ينظر إليهما بوجل وعقله يكاد أن يطير من رأسه من شدة الغيظ والغضب، وحاول أن يلحق بهما فلم يستطع ذلك، فإن همامًا كان يمنعه عن الانصراف حتى غاب ابن أخته والفتاة عن الأبصار، فناوله حينئذ خنجره وقال له: لا مانع من ذهابك الآن، وسأنظر في أمر هذه الفتاة فإن كانت لك حقوق عليها أوجبتها لك، وإلا فقد أخذت نصيبك، فصرخ خليل صرخة الحاقد المريد ورفع الخنجر شاهرًا بيده وهو يقول: لا بدَّ لي من أخذ الثأر.