الفصل الثالث عشر
بعد أن سار سعيد وخليل، ركب همام عربة وأشار إلى السائق بأن يتوجه إلى منزل شقيقته، وكان منزعجًا مما شاهد، فلما وصل دخل البيت فوجده مرتبًا نظيفًا والسلالم مفروشة بالأبسطة، فظل داخلًا إلى الحجرة التي اعتاد أن يجلس فيها، فرأى شقيقته جالسة على كرسي مزينة بأبهى الملبوس وأفخره، فلما رأته هرعت لاستقباله مبتسمة، وبادرته بالتحية والإكرام، وقالت: إني في انتظارك كما ترى، قد استعددت لكل شيء، وقضيت هذا اليوم في التجهيز منذ الصباح، ولم أفرغ من العمل إلا من نصف ساعة، فلبست ثيابي على عجل تشوقًا لحضورك، جعل الله يومنا مباركًا والخاتمة خيرًا.
قال همام: ولمن هذا الاهتمام واحتمال العناء؟
قالت: لاستقبال صاحبك غانم، فإنك أخبرتني بعزيمته على زيارتنا في هذا اليوم.
قال: عوَّضك الله عن أتعابك خيرًا، فقد بطل التدبير.
قالت وقد اضطربت: كيف هذا؟ وماذا وقع من الأمور؟
قال: ألا تذكرين قولي الذي فُهْتُ به من نحو خمسة أشهر؟
قالت: لا، وماذا قلت؟
قال: ألم ألمك على التربية التي نشأ فؤاد عليها وذممتها لخروجها عند حد الصواب والاعتدال؟ فقد بالغتِ في التضييق عليه، وبدلًا من منحه قليلًا من الحرية كما يجب لكل فتى في سنه، زجرته وتحكمت فيه، ومنعته الاستقلال في ميله وعواطفه، وضغطت عليه شديدًا فصيرته في حالة سيئة العاقبة، ألا تتذكرين إذ شبهته بآلة بخارية يشتد عليها الضغط فتنفجر فيها؟ قد رأيت الآن مصداق قولي، ووقع ما كنت أخشى وقوعه وانفجرت الآلة.
قالت: تكلمني بالأمثال والأحاجي، فبالله عليك صرِّح عن مرادك، فقد أقلقت بالي.
قال: جلية الأمر أن فؤادًا اتخذ له رفيقة.
فانذعرت سيدة عند سماع هذا الكلام، واصفرَّ لونها واضطرب منها الجسم، فأمالت رأسها على مسند الكرسي وقالت: ويلاه، ماذا أسمع؟ اتَّخذ فؤاد له رفيقة؟
قال همام: نعم، وأتى عليه في مرافقتها خمسة شهور.
قالت: أشعر كأن النار اضطرمت في قلبي، فانظر يا أخي كم يحول من المصاعب بين فؤاد وبين الزواج بسعدى.
قال: لا شك أنه يكدرك — وأنت امرأة متعبدة — سماع مثل هذه الأخبار عن ابنك، وبالنسبة لي فإني لا أراه مخطئًا بما يفعل.
قالت: لم أسألك عن رأيك، وإنما أرغب أن تُعلمني كيف دريت أنه مرافق؟ ومن أدراك ذلك؟
قال: علمت ذلك من بعض الإخوان تلميحًا، فلم أصدقهم حتى شاهدت الأمر عيانًا، فقد رأيت فؤادًا يذهب في كل يوم إلى رفيقته، فيقضي عندها الساعات الطويلة متمتعًا في قربها وأنسها في منزل اتخذه لها في مصر العتيقة، ولا بدَّ أن أعرفه.
قالت: هو مرافق من خمسة شهور، وأنا لا أعلم، فيا رب ما هذا؟ وكيف يستطيع قلب والدة حمل همٍّ كهذا؟!
قال: هذا الأمر عظيم عند من كان ورعًا تقيًّا نظيركِ، على أن ما يزيد الأمر ارتباكًا وبلبالًا هو أن الصاحبة صغيرة السن، بهية المحيا، مشرقة الوجه سيجد المرء من فراقها، أما لو كانت كبيرة السن فإنها تدرك أن رفيقها سيتركها يومًا من الأيام، ويتزوج بفتاة تناسبه سنًّا وتهذيبًا ومقامًا وثروة، فلا تمنعه إن رام الانفصال عنها، بل تحرص على صحبته، وتحفظ له الوداد، ولا سيما حين يبلغها أنه اتخذ سعدى زوجة له، وهي ذات غنى كثير، ولكن جرت الريح بما لا يلائم، فانظري وتفكري فلعلك تعرفين الرفيقة.
قالت: مَن لي بعلم الغيب؟ وأنى لي أن أتفكر أو أملك رشدي؟
قال: الفتاة عفيفة بنت كريمة شقيقة غانم التي شاع خبر موتها من نحو خمسة شهور.
قالت وقد ازداد اضطرابها واصفرار وجهها: هل عفيفة حية حقًّا؟
قال: نعم، وإليك تمام القصة التي وقفت عليها … وجعل يُخبرها بجميع ما جرى في ذلك اليوم من حين دخوله إلى حديقة الأزبكية إلى ساعة رجوعه من مصر العتيقة، ولما فرغ من روايته قال: وأرى النتيجة من هذه القصة أن فؤادًا مرافق عفيفة من خمسة أشهر، وأنه كَلِف بحبها وهي تحبه، وقد أبصرتها على جمال مفرط وبهاء، فلا يدخل في تصوري أنه يهجرها ابتغاء الزواج بغيرها لو عرضت له الدنيا بحذافيرها.
فنهضت سيدة على القدمين وقد انزعجت، وأخذت تتمشى في الحجرة شمالًا ويمينًا وتناجي نفسها بقولها: لا بدَّ لي من تذليل المصاعب وبالرغم أن زواجه بسعدى فهو نصيب لن يفوته البتة، ولا بدَّ لي من إبعاد صاحبته عفيفة، ولي القدرة على ذلك. ثم التفتت إلى أخيها همام، وقالت له: أشكرك كثيرًا على ما أخبرتني وكشفت من الأمور، وفي الوقت سعة لإنقاذ فؤاد من هوى عفيفة، فإن واجباتي الوالدية تُجبرني على القيام بهذا الأمر، والفائدة عائدة إلي فؤاد لا إليَّ، فأرجوك أن تحفظ كلامي في سرك، فلا تتدخل بعد الآن في هذه المسألة، ودعني أنا أُدبِّر وحدي.
قال: بالحق نطقتِ، فقد — واللهِ — أتعبتني هذه المسألة جدًّا وأقلقت راحتي، فلن أهتم بها الآن، على أني لا أرى فائدة من حضور غانم إليك بعد هذا الذي جرى.
قالت: لا مانع من حضوره، ثق بي، فإني أحسن التدبير، أقطع بيدٍ وأصل بأخرى.
قال: لا شك عندي في قدرتك وإقدامك على عظيم الأمور، أنجح الله مسعاك وجعل الختام خيرًا.
ثم إن همامًا لبث عند أخته برهة من الزمان ثم خرج إلى حال سبيله.